من أفضل ما قيل عن الكتاب
تمهيد
1 - أسئلة وأجوبة
2 - إشكالية المعنى
3 - خسوف المعنى
4 - هل تكون الحياة كيفما نشكلها؟
قراءات إضافية
من أفضل ما قيل عن الكتاب
تمهيد
1 - أسئلة وأجوبة
2 - إشكالية المعنى
3 - خسوف المعنى
4 - هل تكون الحياة كيفما نشكلها؟
قراءات إضافية
معنى الحياة
معنى الحياة
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
تيري إيجلتون
ترجمة
شيماء طه الريدي
مراجعة
هبة نجيب مغربي
إلى أوليفر، الذي وجد الفكرة برمتها محيرة حيرة بالغة
من أفضل ما قيل عن الكتاب
متعة فكرية مذهلة ... معالجة متأنية للموضوع ... يبدو وكأن إيجلتون قد نجح في فهم جوهر القضية.
ماريو بيساني، «ذا فايننشال تايمز»
رحلة شخصية ساحرة ينطلق فيها المرء إلى أعماقه، ولا يسعني سوى أن أقول: إن الكتاب تركني مغمورا بالدهشة والسعادة أيضا.
سايمون جينكنز
قائمة «تايمز ليتراري سابلمنت»
لأفضل كتب العام
إن مجرد قراءة اسم تيري إيجلتون يشعر القارئ بالطمأنينة بأنه يقدم على قراءة عمل يتميز بالأسلوب الرائع والإبداع والإثارة والفكاهة وسعة الاطلاع، وفي بعض الأحيان يكون العمل مباشرا ولاذعا. بعبارة أخرى، هذا الكتاب يمثل متعة ثقافية في قراءته ... ويتميز بإيجازه الشديد.
جوردون بارسونز، «مورنينج ستار»
هذا الكتاب جوهرة صغيرة.
سوزان هارينجتون، «آيريش إيجزامنر»
هذا الكتاب رحلة سريعة وثرية لا تخلو من الإثارة والتحفيز حول المعالم الرئيسية للفلسفة والأدب الغربيين ... كتاب استثنائي وممتع.
جون جراي، «ذي إندبندنت»
نقطة انطلاق مفعمة بالحيوية لبدء نقاش مطول في أمسية ثقافية.
جون كورنويل، «ذا صنداي تايمز»
كتاب لا تنتهي أعاجيبه. إنه يمثل الفلسفة المبسطة بكل ما بالكلمة من معان ... يحسن المؤلف تقديم قضيته وبلمسة ساحرة ... لقد نجح في إقناعي.
سايمون جينكنز، صحيفة «ذا جارديان»
بشجاعة مذهلة وثقة شديدة ومهارة ورشاقة، ينتقل إيجلتون من التهكم الساخر والتفنيد اللاذع إلى التأكيد الحازم.
مارينا وارنر
كتاب مبهر.
إدوارد سكيدلسكي، «ذا تابلت»
تمهيد
من الأفضل لأي شخص لديه من روح المجازفة ما يكفي لتأليف كتاب بهذا العنوان أن يعد نفسه لاستقبال حقيبة بريد مكتظة بخطابات مكتوبة بخط يدوي غريب تحوي رسوما تخطيطية رمزية معقدة. فمعنى الحياة موضوع يناسب إما من بهم مس من الجنون أو الكوميديين، وأتمنى أن أكون أقرب للمعسكر الأخير من الأول. لقد حاولت جاهدا أن أعالج موضوعا ذا أفكار سامية بأكبر قدر ممكن من المرح والوضوح، مع التعامل معه بجدية في الوقت نفسه. ولكن يوجد شيء مبالغ فيه بشكل سخيف بشأن الموضوع برمته، مقارنة بالنطاق المصغر للمعرفة العلمية الأكاديمية. قبل سنوات حين كنت طالبا بجامعة كمبريدج، لفت انتباهي عنوان رسالة دكتوراه نصه: «بعض جوانب الجهاز المهبلي للبرغوث». قد يخمن المرء أن هذا العمل لم يكن الأنسب لضعاف البصر؛ ولكنه أظهر قدرا جذابا من التواضع الذي عجزت بشكل واضح عن التعلم منه. ولكن بإمكاني على الأقل أن أدعي أنني قد ألفت واحدا من الكتب القليلة للغاية التي تتناول معنى الحياة التي لم تسرد قصة برتراند راسل وسائق التاكسي.
أتوجه ببالغ الشكر والامتنان لجوزيف دن، الذي قرأ الكتاب في نسخته اليدوية وقدم بعض الانتقادات والاقتراحات التي لا تقدر بثمن.
الفصل الأول
أسئلة وأجوبة
يتسم الفلاسفة بعادة مثيرة للحنق، وهي تحليل الأسئلة بدلا من الإجابة عنها، وهذه هي الطريقة التي أود أن أبدأ بها.
1
هل سؤال «ما معنى الحياة؟» سؤال حقيقي، أم أنه يبدو كذلك فقط؟ هل يوجد ما يمكن اعتباره إجابة له، أم أنه حقا نوع من الأسئلة الزائفة، على غرار السؤال الأسطوري الذي يرد في اختبارات أكسفورد الذي يفترض أن يكون نصه ببساطة «هل هذا سؤال جيد؟»
للوهلة الأولى، يبدو سؤال «ما معنى الحياة؟» شبيها بذلك النوع من الأسئلة على غرار «ما عاصمة ألبانيا؟» أو «ما لون العاج؟» ولكن هل هو كذلك حقا؟ هل يمكن أن يكون أقرب إلى سؤال «ما مذاق الهندسة؟»
ثمة سبب قياسي إلى حد ما يفسر لم يعتبر بعض المفكرين السؤال الخاص بمعنى الحياة عديم المعنى في حد ذاته. إنها قضية أن المعنى هو مسألة لغة، وليس مسألة أشياء؛ إنها مسألة الأسلوب الذي نتحدث به عن الأشياء، وليست سمة من سمات للأشياء في حد ذاتها، مثل الملمس أو الوزن أو اللون . فنبات الكرنب أو جهاز رسم القلب ليس لهما معنى في حد ذاتهما؛ ويصبحان هكذا فقط من خلال وجودهما في حديثنا. وبناء على هذه النظرية، يمكننا أن نضفي على حياتنا معنى من خلال حديثنا عنها؛ ولكن لا يمكن أن يكون لها معنى في حد ذاتها، شأنها شأن سحابة في السماء. فلن يكون منطقيا - على سبيل المثال - أن تتحدث عن سحابة باعتبارها إما حقيقية أو مزيفة. فالحقيقة والزيف هما في الواقع وظائف لافتراضاتنا البشرية عن السحب. لكن ثمة مشكلات تكتنف هذه الحجة، كما هو الحال مع معظم الحجج الفلسفية. وسوف ندرس بعضها لاحقا.
لنلق نظرة مختصرة على تساؤل أكثر إلحاحا من سؤال «ما معنى الحياة؟» لعل السؤال الأكثر جوهرية الذي يمكن أن يثار هو «لم يوجد أي شيء على الإطلاق بدلا من لا شيء؟» لماذا يوجد أي شيء يمكننا أن نتساءل «ما الذي يعنيه؟» من الأساس؟ ينقسم الفلاسفة فيما بينهم بشأن ما إذا كان هذا السؤال حقيقيا أم زائفا، وإن كان علماء اللاهوت لا يواجهون أي انقسام في هذا الشأن في معظم الأحيان. فالإجابة عن هذا التساؤل بالنسبة لمعظم علماء اللاهوت هي «الإله». فيقال: إن الإله هو «خالق» الكون، ليس لأنه يعد أقرب لكونه صانعا خارقا، ولكن لكونه السبب في وجود شيء بدلا من العدم. فهو - بحسب قولهم - أساس الوجود. وهذه الحقيقة ستظل سارية بشأنه حتى لو لم يكن للكون بداية. وسيظل السبب في وجود شيء بدلا من لا شيء حتى لو كان هناك شيء منذ الأزل.
إن سؤال «لم يوجد أي شيء بدلا من عدم وجود شيء؟» يمكن ترجمته بشكل تقريبي إلى «كيف نشأ الكون؟» ويمكن اعتبار ذلك سؤالا عن السببية؛ وفي تلك الحالة كان سؤال «كيف نشأ؟» ليعني «من أين نشأ؟» ولكن ذلك بالتأكيد ليس ما يعنيه السؤال. ولو أننا حاولنا الإجابة عن السؤال بالحديث عن كيفية بدء الكون في المقام الأول، فإن تلك الأسباب حتما تمثل جزءا من كل شيء، وبذلك نعود إلى حيث بدأنا. ولا يمكن سوى لسبب واحد فقط لم يكن جزءا من كل شيء - وهو سبب يسمو فوق الكون، كما هو من المفترض مع الإله - أن يتجنب الاستدراج إلى نطاق الجدل بهذه الطريقة. ومن ثم، فإن هذا في الواقع ليس سؤالا عن كيفية نشأة العالم، وكذلك ليس سؤالا عن سبب وجود الكون - على الأقل بالنسبة لعلماء اللاهوت - إذ إن العالم في رأيهم ليس هدفا له على الإطلاق. فالإله ليس مهندسا سماويا خلق العالم وفي ذهنه هدف محسوب استراتيجيا. إنه فنان قام بخلق العالم لمتعته الذاتية الخاصة وحسب، ومن أجل المتعة الذاتية لعملية الخلق في حد ذاتها. وهكذا، يصبح مفهوما لماذا يعتبر الكثيرون أن الإله لديه شيء من حس الدعابة الملتوي.
إن السؤال «لم يوجد أي شيء بدلا من لا شيء؟» هو بالأحرى تعبير عن الدهشة من وجود عالم من الأساس، في حين أنه كان يمكن ألا يكون هناك أي شيء ببساطة. ولعل ذلك جزء مما كان يدور في ذهن لودفيج فيتجنشتاين حين أشار إلى أن «الغموض لا يكمن في كيفية نشأة العالم، ولكن يكمن في وجوده أصلا.»
2
قد يدعي أحدهم أن تلك هي نسخة فيتجنشتاين مما يطلق عليه الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر «الكينونة» أو مسألة الوجود. إن سؤال «كيف نشأ الوجود؟» هو السؤال الذي يريد هايدجر العودة إليه. فهو ليس مهتما بكيفية نشأة كيانات محددة بقدر اهتمامه بالحقيقة المثيرة للعقل المتمثلة في وجود كيانات في المقام الأول. وهذه الأمور مفتوحة الآن لإدراكنا واستيعابنا، مثلما لم تكن مفتوحة بسهولة من قبل.
غير أن سؤال «كيف نشأ الوجود؟» بالنسبة للعديد من الفلاسفة - لا سيما الفلاسفة الأنجلو ساكسونيين - يعد نموذجا بارزا للأسئلة الزائفة. ففي رأيهم، لن يكون من الصعب - إن لم يكن من المستحيل - الإجابة عنه فحسب؛ بل إن هناك ريبة عميقة في وجود شيء للإجابة عنه من الأساس. في الواقع إنه - بالنسبة لهم - مجرد طريقة تيوتونية مملة لقول «يا للروعة!» ربما يصلح هذا السؤال لشاعر أو متصوف، ولكنه لا يصلح للفيلسوف. والحواجز بين المعسكرين في العالم الأنجلو ساكسوني على الأخص محصنة بصرامة.
في عمل مثل «تحقيقات فلسفية»، كان فيتجنشتاين يقظا للفارق بين الأسئلة الحقيقية والأسئلة المزيفة. فيمكن لقطعة لغوية أن تتخذ الشكل النحوي للسؤال، ولكنها في الواقع ليست سؤالا. أو يمكن لقواعدنا النحوية أن تضللنا وتدفعنا نحو الخلط بين نوع من الافتراضات وآخر. فعبارة مثل «ماذا بعد يا بني وطني، ما إن ينتهي العدو ويختفي، ألا يمكننا أن نحقق إنجازات في ساعة الانتصار؟» تبدو في وقعها كسؤال ينتظر إجابة، إلا أنه في الحقيقة سؤال بلاغي قد يكون من غير الحكمة الرد عليه ب «لا شيء». فالكلام يلقى في شكل استفهامي ببساطة من أجل تعزيز قوته الدرامية. والأسئلة على شاكلة «ماذا في هذا؟» و«لم لا تغرب عن وجهي؟» و«فيم تحدق؟» تبدو كأسئلة في وقعها، ولكنها ليست كذلك في الواقع. كذلك قد يبدو السؤال «في أي موضع من الجسم تقع الروح؟» كنوع معقول من الأسئلة لطرحها، ولكن فقط لأننا نفكر فيه على وزن سؤال مثل «في أي موضع من الجسم تقع الكليتان؟» كذلك يتخذ السؤال «أين مركز الحسد لدي؟» شكل سؤال مقبول، ولكن ذلك فقط لأننا نصوغه بلا وعي على وزن «أين إبطي؟»
شكل 1-1: لودفيج فيتجنشتاين، الذي يعتبره الكثيرون أعظم فلاسفة القرن العشرين. (© Hulton Archive/Getty Images)
وقد توصل فيتجنشتاين إلى الاعتقاد بأن الكثير جدا من الألغاز الفلسفية تنشأ من سوء استخدام الناس للغة بهذه الطريقة. ولنأخذ - على سبيل المثال - عبارة «لدي ألم»، والتي تتطابق لغويا مع عبارة «لدي قبعة»، إن هذا التشابه قد يضللنا بالاعتقاد بأن الآلام، أو «الخبرات» بشكل عام، هي أشياء نمتلكها مثلما نمتلك القبعات. ولكن سيكون غريبا أن تقول «فلتأخذ ألمي.» وعلى الرغم من أنه سيكون من المنطقي أن تقول «هل هذه قبعتك أم قبعتي؟» فسوف يبدو غريبا أن تتساءل «هل هذا ألمك أم ألمي؟» ربما يوجد العديد من الأشخاص في إحدى الغرف وهناك ألم ينتشر بين أرجائها؛ وعندما يتلوى كل شخص فيها بدوره من الألم الشديد، نصيح قائلين: «آه، ها هو الآن بحوزته.»
يبدو هذا مجرد أمر سخيف، ولكنه في الواقع له بعض التداعيات الخطيرة نوعا ما. إن فيتجنشتاين لديه القدرة على فصل القواعد اللغوية لعبارة «لدي قبعة» عن القواعد اللغوية لعبارة «لدي ألم»، ليس فقط بطريقة تلقي الضوء على استخدام الضمائر الشخصية مثل «أنا» و«هو»، وإنما أيضا بطرق تقوض الافتراض القديم الراسخ بأن خبراتي هي نوع من الملكية الخاصة. بل إنها في الواقع تبدو كملكية خاصة ربما أكثر من قبعتي؛ إذ إن بإمكاني إهداء قبعتي للغير، ولكن ليس ألمي. ويوضح لنا فيتجنشتاين كيف أن القواعد اللغوية تخدعنا بدفعنا نحو التفكير بهذا الأسلوب، ولحجته تبعات متطرفة، بل تبعات متطرفة سياسيا.
إن مهمة الفيلسوف - في اعتقاد فيتجنشتاين - لم تتمثل في حسم هذه التساؤلات بقدر ما تمثلت في «تبديدها»؛ أي إظهار أنها نابعة من خلط نوع من «الألعاب اللغوية» - مثلما أطلق عليها - بآخر. فنحن مسحورون ببنية لغتنا، وكانت مهمة الفيلسوف هي تنويرنا من خلال الفصل بين مختلف استخدامات الكلمات. فنظرا لوجود درجة حتمية من التجانس والتماثل بشأنها، تميل اللغة إلى جعل أنواع مختلفة من الكلام تبدو متماثلة إلى حد كبير، مما حدا بفيتجنشتاين إلى التفكير في تذييل كتابه «تحقيقات فلسفية» باقتباس من مسرحية «الملك لير»: «سوف أعلمك الاختلافات.»
لم تكن تلك الرؤية مقتصرة على فيتجنشتاين وحده. فقد توقعها أحد أعظم فلاسفة القرن التاسع عشر أجمع، وهو فريدريك نيتشه، عندما تساءل عما إذا كان السبب في فشلنا في التخلص من فكرة الإله يعزى إلى قواعدنا اللغوية. فلما كانت قواعدنا اللغوية تتيح لنا تركيب وإنشاء الأسماء - والتي تمثل كيانات متمايزة - فإنها تجعل من المقبول أيضا أن يكون هناك إمكانية لوجود نوع من اسم الأسماء - أي كيان خارق يعرف باسم الإله - والذي بدونه قد تتداعى جميع الكيانات الصغيرة الأخرى المحيطة بنا. غير أن نيتشه لم يكن يؤمن بالكيانات الخارقة ولا بالكيانات العادية. فقد كان يعتقد أن مجرد فكرة وجود أشياء مختلفة - مثل الإله أو ثمار عنب الثعلب - كانت مجرد تأثير تجسيدي للغة. ولا شك أنه كان يؤمن بذلك فيما يتعلق بالذات الفردية، والتي لم يكن يراها أكثر من مجرد خيال مريح. وكما أشار ضمنا في الملحوظة المذكورة أعلاه، ربما هناك قواعد لغوية بشرية لم تكن هذه العملية التجسيدية متاحة فيها. ربما تكون هذه هي لغة المستقبل التي سيتحدث بها الإنسان الخارق الذي تجاوز كليا حدود الأسماء والكيانات المنفصلة، ومن ثم تجاوز فكرة الإله والأوهام الميتافيزيقية المشابهة. ويتبنى الفيلسوف جاك دريدا - وهو مفكر يدين بالكثير من أفكاره لنيتشه - نظرة أكثر تشاؤمية في هذا الصدد. ففي رأيه - وكذا في رأي فيتجنشتاين - أن مثل هذه الأوهام والخيالات الميتافيزيقية هي جزء أصيل من البنية الأساسية للغتنا ولا يمكن استئصالها. وينبغي على الفيلسوف ببساطة أن يشن ضدها حربا متواصلة كحرب كانوت العظيم؛ وهي معركة يراها فيتجنشتاين كنوع من العلاج اللغوي، فيما يطلق عليها دريدا «التفكيك».
3
ومثلما كان نيتشه يعتقد أن الأسماء لها تأثير تجسيدي، كذلك قد يعتقد أحدهم ذلك بشأن كلمة «حياة» في سؤال «ما معنى الحياة؟» وسوف نتناول هذا بمزيد من التفصيل لاحقا. كذلك قد يعتقد أن السؤال يغير من شكله دون وعي إلى نوع مختلف تماما من الأسئلة، وأن تلك هي النقطة التي اتخذ فيها مسارا خاطئا. يمكننا أن نقول «هذا يساوي دولارا، وذاك أيضا، إذن كم يساوي الاثنان معا؟» ومن ثم يبدو وكأن بإمكاننا أن نقول أيضا «هذا الجزء من الحياة له معنى، وكذا ذلك الجزء، إذن ما مجموع المعنى الخاص بكل الأجزاء المختلفة؟» ولكن حقيقة أن الأجزاء لها معنى لا تستتبع أن يكون للكل معنى يفوقها، مثلما لا يستتبع بالضرورة أن تؤدي الكثير من الأشياء الصغيرة إلى تكوين شيء واحد كبير لمجرد أنها جميعا ذات لون وردي.
ولا شك أن كل هذا لا يقربنا ولو خطوة إلى معنى الحياة. غير أن الأسئلة تستحق البحث، إذ إن طبيعة أي سؤال لها أهمية في تحديد ما قد يعتبر إجابة له. بل يمكن في الواقع الادعاء بأن الأسئلة - وليس الإجابات - هي الشيء الصعب. فمن المعروف جيدا أي نوع من الإجابات يمكن لسؤال تافه أن يثيرها ، فيما يمكن لطرح النوع المناسب من الأسئلة أن يفتح عالما كاملا جديدا من المعرفة، مما يجلب تساؤلات حيوية أخرى تهرول في أعقابها. ويرى بعض الفلاسفة - من المنتمين لما يدعى الحركة الفكرية التفسيرية - أن الواقع أيا كان شكله هو ما يقدم إجابة لأي سؤال. والواقع - الذي يشبه مجرما محنكا لا يتكلم تلقائيا دون أن يتم استجوابه أولا - لن يجيبنا إلا بما يتوافق مع نوعيات التساؤلات التي نطرحها عليه. وقد ذكر كارل ماركس ذات مرة - بشكل غامض نوعا ما - أن البشر لا يثيرون مثل هذه المسائل إلا بالقدر الذي يستطيعون حله؛ بمعنى أنه ربما إذا كان لدينا العتاد المفاهيمي اللازم لطرح السؤال، يكون لدينا مبدئيا الوسيلة لتحديد إجابة له.
ويعزى هذا جزئيا إلى أن الأسئلة لا تطرح بمعزل عن السياق المحيط، صحيح أن إجاباتها لا تكون مربوطة بسهولة في أذنابها، ولكنها تلمح إلى نوعية الاستجابة التي من شأنها على الأقل أن يعتد بها كإجابة لها. إنها توجهنا في نطاق محدود من الاتجاهات، مشيرة لنا للموضع الذي يجب أن نبحث فيه عن حل. لن يكون من الصعب أن تكتب تاريخ المعرفة في إطار نوعية الأسئلة التي رأى الرجال والنساء أنه من الممكن أو من الضروري طرحها. وليس كل سؤال متاح في أي وقت. فلم يستطع رامبرانت أن يتساءل ما إذا كان التصوير الفوتوغرافي قد جعل الرسم الواقعي إسهابا فائضا عن الحاجة.
بالطبع لا نقصد بهذا الإيحاء بأن جميع الأسئلة يمكن الإجابة عنها. فنحن نميل إلى الاعتقاد بأنه حيثما وجدت مشكلة فلا بد أن يكون هناك حل، مثلما نميل بشكل غريب نوعا ما إلى تخيل أن الأشياء المفككة إلى شظايا وأجزاء صغيرة لا بد دائما من جمعها مرة أخرى في كيان واحد. ولكن هناك الكثير من المشكلات التي لن نجد لها حلولا مطلقا على الأرجح، إلى جانب أسئلة ستظل بلا إجابة إلى الأبد. فلا يوجد سجل بعدد الشعرات التي كانت تزين رأس نابليون حين وفاته، ولن يتسنى لنا الآن أن نعرف ذلك مطلقا. ربما لا يكون المخ البشري مؤهلا ببساطة لحسم أسئلة معينة، مثل أصل الذكاء. ولعل هذا يعزى لعدم وجود حاجة تطورية لدينا للقيام بذلك، وإن كان لا يوجد لدينا أيضا حاجة تطورية لفهم كتاب «صحوة فينيجان» أو فهم قوانين الفيزياء. كذلك توجد أسئلة لا نعرف إجابتها لأنه في الحقيقة لا توجد لها إجابات، مثل عدد أبناء السيدة ماكبث، أو ما إذا كان شرلوك هولمز لديه شامة صغيرة في الجزء الداخلي من فخذه. فلا يمكننا أن نجيب عن ذلك السؤال الأخير بالنفي مثلما لا نستطيع الإجابة عنه بالإثبات.
إذن من الممكن أن يكون هناك بالفعل إجابة للسؤال الخاص بمعنى الحياة، ولكننا لن نعرف مطلقا ما هي. وإذا كان الأمر كذلك، فنحن إذن في موقف أشبه بموقف راوي قصة هنري جيمس «الصورة في السجادة»، والذي أخبره مؤلف شهير، يكن له الأول إعجابا، أن هناك مقصدا خفيا في عمله، وهو مقصد ضمني غير ظاهر في كل صورة مجازية وفي كل تعبير. ولكن يموت المؤلف قبل أن يتمكن الراوي الحائر ذو الفضول الجامح من اكتشاف ماهية هذا المقصد. وربما كان المؤلف يخدعه، أو ربما كان يعتقد أن هناك مقصدا خفيا في عمله، إلا أنه لم يكن هناك أي مقصد. أو لعل الراوي يرى هذا المقصد بطريقة ما طوال الوقت دون إدراك حقيقة أنه قد أدركه. أو ربما كان أي مقصد ينجح هو نفسه في إنشائه من شأنه أن يفي بالغرض.
بل إنه من المفهوم أن عدم معرفة معنى الحياة هو جزء من معنى الحياة، مثلما يساعدني عدم حساب عدد الكلمات التي أنطق بها حين ألقي كلمة عقب حفل عشاء على إلقاء تلك الكلمة. فلعل سر استمرار الحياة يكمن في جهلنا بمعناها الأساسي، مثلما هو حال الرأسمالية بالنسبة لكارل ماركس. وقد كان الفيلسوف آرثر شوبنهاور يظن شيئا من هذا القبيل، وكان هذا هو الحال بشكل ما بالنسبة لسيجموند فرويد. كذلك يرى نيتشه في كتابه «مولد المأساة» أن معنى الحياة رهيب بالنسبة لنا بشكل نعجز عن التعايش معه ، وهو ما يفسر حاجتنا لأوهامنا المواسية إذا أردنا أن نواصل المسيرة. فما نسميه «حياة» ما هو إلا وهم ضروري، وبدون مزيج ضخم من الخيال، كان الواقع ليصل إلى نقطة جمود.
توجد أيضا مشكلات أخلاقية ليس من الممكن أن يكون لها حل. فلما كان هناك صنوف مختلفة من الفضائل الأخلاقية - مثل الشجاعة والشفقة والعدل، وما إلى ذلك - ولما كانت هذه القيم غير قابلة للمقارنة مع بعضها البعض أحيانا، فمن الممكن أن تدخل في صراع مأساوي مع بعضها. وكما علق عالم الاجتماع ماكس فيبر بأسلوب ينم عن البؤس: «إن التوجهات الممكنة نحو الحياة غير قابلة للمصالحة، ومن ثم فإن صراعها لا يمكن الوصول به إلى نهاية حاسمة.»
4
ويكتب إيزايا برلين في نبرة مشابهة أن «العالم الذي نواجهه في الواقع هو عالم نواجه فيه اختيارات مطلقة بنفس الدرجة، وإدراك بعضها يعني حتما التضحية بالأخرى.»
5
قد يقول أحدهم إن ذلك يعكس توجها مأساويا بعينه لليبرالية، والذي هو - على العكس من عقيدة يومنا الساذجة المتمثلة في «الاختيارات» أو «الخيارات» - معد لتقدير الخسائر المدمرة لالتزامها بالحرية والتنوع. كما يتعارض مع نوع أكثر تفاؤلا من الليبرالية تمثل له التعددية منفعة أصيلة والصراع بين القيم الأخلاقية مصدرا للتحفيز بشكل دائم. ولكن الحقيقة هي أن هناك مواقف يمكن أن يخرج منها المرء بأيد مدنسة. فمع الضغط الشديد، يبدأ كل قانون أخلاقي في التفكك والانهيار. وقد كان الروائي توماس هاردي مدركا تماما أن بإمكان المرء أن يوقع نفسه في مآزق أخلاقية دون قصد، سوف يضار فيها شخص ما ضررا بالغا، مهما كان الأسلوب الذي تتحرك به. فلا توجد ببساطة إجابة للسؤال الخاص بأي من أبنائك يجب أن تضحي إذا ما أمرك جندي نازي بتسليم أحدهم لكي يقتل.
6
ثمة شيء من هذا القبيل يسري على الحياة السياسية أيضا. فمن الواضح بلا شك أن الحل الوحيد للإرهاب هو إقامة العدالة السياسية. والإرهاب بهذا المعنى - مهما بلغ من الوحشية - ليس أمرا لاعقلانيا: فهناك حالات مثل أيرلندا الشمالية يدرك فيها من يستخدمون الإرهاب للترويج لأهدافهم وغاياتهم السياسية أن مطالبهم بالعدالة والمساواة تلبى ولو بشكل جزئي على الأقل، ويستنتجون أن استخدام الترويع والإرهاب قد أصبح الآن يأتي بنتائج عكسية، ويتفقون على نبذه. أما فيما يتعلق بالشكل القائم للإرهاب الأصولي الإسلامي، فنجد من يدعون أنه حتى لو لبيت مطالب العرب - أي إذا تم تطبيق حل عادل للقضية الفلسطينية الإسرائيلية، وتم إبعاد القواعد العسكرية الأمريكية من المنطقة العربية، وما إلى ذلك - فلسوف تستمر عمليات ذبح وتشويه المدنيين الأبرياء.
ربما ستستمر، ولكن هذا قد لا يعني أكثر من أن المشكلة قد تصاعدت الآن لتتجاوز جميع الحلول الممكنة. وليس بالضرورة أن يكون هذا حكما انهزاميا، بل واقعيا ببساطة. فالقوى الهدامة التي تنبثق من القضايا القابلة للمعالجة يمكن أن تتخذ قوة دافعة مميتة من نفسها لن يكون هناك ما يوقفها في النهاية. ربما يكون قد فات أوان إيقاف انتشار الإرهاب، وهو ما يعني عدم وجود حل لمشكلة الإرهاب؛ وهو افتراض سيكون مستحيلا على معظم السياسيين التعبير عنه علانية، ولن يكون مستساغا لدى معظم الأشخاص الآخرين، لا سيما الأمريكيين المدمنين للتفاؤل. ومع ذلك فقد تكون هذه هي الحقيقة. فلم ينبغي لأحد أن يتخيل أنه حين توجد مشكلة دائما ما يوجد حل؟
ولعل من أقوى الأسئلة المرتبطة بمعنى الحياة التي ليس لها حل متفائل هو ما يعرف بالتراجيديا. فمن بين جميع الأشكال الفنية، تعد التراجيديا هي الشكل الذي يواجه مسألة معنى الحياة بأكبر قدر من الاستقصاء والإصرار، ولديه الاستعداد لتناول أبشع الإجابات الخاصة به بشجاعة واستبسال. إن التراجيديا في أرقى صورها هي انعكاس شجاع للطبيعة الأساسية للوجود الإنساني، وتعود أصولها إلى الثقافة الإغريقية القديمة، التي تتسم فيها الحياة بأنها هشة ومحفوفة بالمخاطر، وحساسة بشكل مثير للاشمئزاز. فالعالم في منظور التراجيديين القدماء قابل للاختراق بشكل متقطع من قبل الضوء الهزيل للعقل، وأفعال الماضي تلقي بظلالها على طموحات الحاضر لخنقها في مهدها، والرجال والنساء يجدون أنفسهم يئنون في قبضة قوى انتقامية بشكل وحشي تهدد بتمزيقهم إربا. ولا يمكنك أن تأمل البقاء سوى من خلال توخي الحذر بينما تبحث عن طريق محفوف بالمخاطر لتسير فيه عبر حقل ألغام الوجود الإنساني، معلنا الولاء والتبعية لآلهة متقلبة بشكل وحشي نادرا جدا ما تستحق الاحترام الإنساني، ناهيك عن الإجلال والتوقير الديني. والقوى البشرية الأساسية التي قد تسمح لك بإيجاد موطئ قدم لك في تلك الأرض المقلقلة دائما ما تهدد بالخروج عن نطاق السيطرة، لتنقلب عليك وتطرحك أرضا. وتلك هي الظروف المخيفة التي أصدر فيها كورس مسرحية «أوديب ملكا» لسوفوكليس حكمه النهائي الكئيب: «لا تصف رجلا بأنه سعيد إلا عندما يموت خاليا من الألم في النهاية.»
قد يكون ذلك إجابة لمشكلة الوجود الإنساني، ولكنه بالكاد يعتبر حلا لها. فغالبا ما لا توجد إجابة - في منظور التراجيديا - تفسر لماذا تتعرض حياة الأفراد للتحطم والتشويه بشكل يفوق الاحتمال، أو لماذا يبدو أن الظلم والاضطهاد يتوليان دفة السيطرة في الشئون الإنسانية، أو لماذا ينخدع البشر بما يدفعهم لأكل لحم أطفالهم المذبوحين مشويا. أو بالأحرى إن الإجابة الوحيدة تكمن في المرونة التي تواجه بها هذه القضايا، والعمق والبراعة اللذين تصاغ بهما. فالتراجيديا في أقوى صورها هي سؤال بلا إجابة، مما يحرمنا بشكل متعمد من إيجاد السلوى الأيديولوجية. وإذا كانت تظهر في كل إيماءة وإشارة أن الوجود الإنساني لا يمكن أن يستمر على هذا النحو، فإنها بذلك تتحدانا لإيجاد حل لعذابه وهذا لا يعدو كونه حلقة أخرى من التفكير التواق، أو الإصلاح التدريجي، أو الإنسانية العاطفية، أو علاجا مثاليا عاما. ومن خلال تصويرها لعالم في حاجة ملحة للخلاص، فإنما تلمح في الوقت ذاته إلى أن فكرة الخلاص قد تكون مجرد وسيلة أخرى لتشتيت أنفسنا عن إرهاب يهدد بتحويلنا إلى حجارة.
7
ويذهب هايدجر في كتابه «الوجود والزمن» إلى أن البشر يتميزون عن المخلوقات الأخرى بقدرتهم على وضع وجودهم رهن التساؤل والتشكيك. فهم المخلوقات التي يمثل لها الوجود في حد ذاته - وليس مجرد سمات معينة به - إشكالية. فهذا الموقف أو ذاك قد يثبت أنه محل إشكالية لخنزير وحشي أفريقي، ولكن - بحسب النظرية - البشر هم تلك الحيوانات غريبة الأطوار التي تواجه موقفها كسؤال، أو مأزق، أو مصدر للقلق، أو باعث للأمل، أو عبء، أو هبة، أو خوف، أو سخف. ويصح ذلك بشكل خاص نظرا لوعيهم بأن وجودهم متناه، ربما على عكس الخنازير الأفريقية. فربما يكون البشر هم الحيوانات الوحيدة التي تعيش في الظل الأبدي للموت.
ومع ذلك، فهناك شيء «عصري» بشكل مميز فيما يتعلق بحجة هايدجر. وهذا الشيء بالطبع ليس أن أرسطو أو أتيلا الهوني لم يكونا على وعي بأنهما بشر فانون، رغم أن الأخير كان على الأرجح أكثر وعيا بفنائية الآخرين من فنائيته. ومن الصحيح أيضا أن البشر - لا سيما بسبب امتلاكهم للغة - لديهم القدرة على إضفاء طابع موضوعي مادي على وجودهم بطريقة لا تستطيع السلاحف اتباعها على الأرجح. بإمكاننا الحديث عن ما يسمى «الحالة البشرية»، في حين أنه من المستبعد أن تحضن السلاحف بيضها في حماية أصدافها بحكم حالتها كسلاحف. والسلاحف في هذا السياق تشبه على نحو لافت أتباع حركة ما بعد الحداثة، الذين يعتبرون فكرة الحالة البشرية فكرة غريبة بالقدر نفسه. بعبارة أخرى، تتيح لنا اللغة ليس فقط فهم أنفسنا، بل أيضا وضع تصور لموقفنا ككل. ونظرا لأننا نعيش بالرموز التي تجلب معها القدرة على التجريد، فإن بمقدورنا أن نفصل أو نبعد أنفسنا عن سياقاتنا المباشرة، ونحرر أنفسنا من سجن حواسنا الجسدية، والتفكير في الموقف الإنساني في حد ذاته. غير أن قوة التجريد - شأنها شأن النار - هبة يكتنفها الغموض؛ فهي تارة إبداعية، وتارة هدامة. وإذا أتاحت لنا التفكير في إطار مجتمعات كاملة، فإنها تتيح لنا أيضا تدميرها بالأسلحة الكيماوية.
ولا يقتضي هذا النوع من الإبعاد الانسلاخ من جلدنا، أو تأمل العالم من نقطة مراقبة أوليمبية. فالتأمل في وجودنا في العالم هو جزء من أسلوب وجودنا في هذا العالم. وحتى لو تبين أن «الموقف الإنساني في حد ذاته» مجرد سراب ميتافيزيقي، كما يصر فكر ما بعد الحداثة، فإنه يظل موضع تأمل ممكن. إذن فلا شك أن هناك معنى في زعم هايدجر. فقد تكون الحيوانات الأخرى قلقة مثلا بشأن الهروب من الوحوش الضارية، أو إطعام صغارها، ولكنها لا تظهر انزعاجها مما أطلق عليه «القلق الوجودي»: أي شعور المرء (المصحوب أحيانا بثمالة شديدة على نحو خاص) بأنه كائن سطحي بلا فائدة؛ «عاطفة بلا جدوى» بحسب تعبير جان بول سارتر.
ومع ذلك، فإن الحديث عن الخوف والقلق والغثيان والسخف وما شابه باعتبارها سمات تميز الحالة البشرية أكثر شيوعا بين فناني وفلاسفة القرن العشرين من نظرائهم في القرن الثاني عشر. فما يميز الفكر الحديث على مدار تاريخه هو الاعتقاد بأن الوجود الإنساني أمر «عرضي»؛ أي ليس له أساس أو هدف أو اتجاه أو ضرورة، وأن نوعنا البشري ربما كان من السهل ألا يكون له وجود على الكوكب مطلقا. وهذه الاحتمالية من شأنها أن تفرغ وجودنا الفعلي، مقحمة خلاله الظل الأبدي للموت والخسارة. فحتى في أكثر لحظاتنا نشوة ومرحا، نكون واعين قليلا بأن الأساس غير مستقر تحت أقدامنا؛ بمعنى أنه لا يوجد أساس موثوق لا غبار عليه لهويتنا وما نفعله، مما قد يجعل أروع لحظاتنا أكثر قيمة، أو قد يعمل على التقليل من قيمتها بشكل بالغ.
وليست هذه من وجهات النظر التي كانت لتلقى الكثير من التأييد والدعم بين فلاسفة القرن الثاني عشر، الذين كان لديهم أساس قوي للوجود الإنساني يعرف بالإله. ولكن حتى بالنسبة لهم، لم يكن ذلك يعني أن وجودنا في العالم كان ضروريا. بل إن الاعتقاد في ذلك كان ليعتبر من باب الهرطقة. فالادعاء بأن الإله يفوق خلقه يعني القول - من بين أشياء أخرى - بأنه لم يكن بحاجة لخلقه. لقد فعل ذلك من منطلق الحب، وليس من منطلق الحاجة؛ وهذا يشمل خلقنا نحن أيضا. فالوجود الإنساني لا مبرر له - أي مسألة فضل وهبة - وليس أمرا حتميا لا مفر منه. فقد كان بمقدور الإله الاستمرار والنجاح من دوننا، وكان ليحظى بحياة أكثر هدوءا وسكينة لو كان قد فعل. ومثل أب لطفل صغير مزعج، ربما وصل لحد الندم على قراره بالإقدام على الأبوة. فقد عصى البشر قوانين الإله في البداية، ومما زاد الطين بلة أنهم فقدوا إيمانهم به تماما بعد ذلك مع استمرارهم في الاستهزاء بأوامره.
إذن قد يكون هناك اتجاه معين يمثل فيه التساؤل عن تفاصيل معنى الحياة شيئا ممكنا دائما للبشر؛ بل جزءا مما يجعلنا ما نحن عليه الآن من المخلوقات. فيثير أيوب في العهد القديم السؤال بنفس إصرار جان بول سارتر تقريبا. غير أن السؤال - بالنسبة لمعظم العبرانيين القدماء - كان على الأرجح سؤالا في غير محله؛ نظرا لوضوح الإجابة. فقد كان يهوه (رب العبرانيين) وقوانينه هم معنى الحياة، وعدم إدراك ذلك كان أمرا لا مجال للتفكير فيه تقريبا. وحتى أيوب - الذي كان يرى أن الوجود الإنساني (أو على الأقل الجزء الخاص به منه) خطيئة مريعة يجب محوها في أسرع وقت ممكن - يعترف بوجود يهوه كلي القدرة.
ربما كان السؤال «ما معنى الحياة؟» سيبدو في نظر العبراني القديم سؤالا غريبا شأنه شأن سؤال «هل تؤمن بالإله؟» فالسؤال الأخير، بالنسبة لمعظم الناس اليوم، بمن فيهم الكثير من المؤمنين الأتقياء، مصاغ بلا وعي على غرار أسئلة مثل «هل تؤمن ببابا نويل؟» أو «هل تؤمن بظاهرة الاختطاف الفضائي؟» وبناء على هذه النظرية، فإن هناك كيانات بعينها، بدءا من الإله وحيوان الييتي، وصولا إلى وحش بحيرة لوخ نيس وطواقم الأجسام الطائرة مجهولة الهوية، قد يكون أو لا يكون لها وجود. والأدلة فيما يتعلق بهذا الأمر ملتبسة والآراء منقسمة، ولكن أي عبراني قديم لم يكن ليتخيل على الأرجح أن سؤال «هل تؤمن بالإله؟» يعني أي شيء من هذا القبيل. فلما كان وجود يهوه معلنا ومصرحا به من السموات والأرض، فإن السؤال يعني فقط: «هل تؤمن به؟» لقد كانت مسألة ممارسة، وليس افتراضا فكريا. لقد كان يسأل عن علاقة، وليس عن رأي.
إذن ربما كانت شعوب ما قبل الحداثة بشكل عام - على الرغم من ادعاءات هايدجر شديدة العمومية - قد ابتليت بدرجة أقل بسؤال معنى الحياة منا نحن الشعوب المعاصرة. ولم يكن ذلك يرجع فقط لأن معتقداتهم الدينية كانت أقل عرضة للتساؤل، ولكن أيضا لأن ممارساتهم الاجتماعية كانت أقل إشكالية. ربما كان أساس معنى الحياة في مثل هذه الظروف يكمن إلى حد ما في القيام بما كان يفعله أجدادك، وما كانت تتوقعه منك الأعراف الاجتماعية العتيقة. فالدين والأساطير متواجدان من أجل توجيهك فيما هو مهم بشكل أساسي. وفكرة أن من الممكن أن يكون هناك معنى فريد لحياتك بالنسبة لك - يختلف إلى حد كبير عن معنى حياة الآخرين - لم تكن لتحصد الكثير من الأصوات المؤيدة. فمعنى حياتك يتألف بشكل عام من وظيفته ضمن كيان كلي أعظم. وخارج هذا السياق أنت مجرد دلالة جوفاء لا معنى لها. فكلمة «فرد» تعني في الأصل «لا يتجزأ» أو «لا ينفصل عن». ويبدو أن شخصية أوديسيوس التي رسمها هوميروس تشعر بهذا تقريبا، فيما يبتعد هاملت شكسبير عن هذا الشعور بشكل شبه مؤكد.
إن الشعور بأن معنى حياتك هو وظيفة ضمن كيان أعظم لا يتعارض إطلاقا مع امتلاك إحساس قوي بالفردية. فمعنى الفردية - وليس حقيقتها - هو ما على المحك هنا. وهذا لا يعني أن الناس في عصر ما قبل الحداثة لم يكونوا يسألون أنفسهم عن هويتهم أو ماذا يفعلون هنا. إن ما نعنيه ببساطة أنهم كانوا فيما يبدو أقل حماسا بشكل عام إزاء هذا السؤال من ألبير كامو أو تي إس إليوت على سبيل المثال، ويرتبط ذلك بشكل كبير بإيمانهم الديني.
ولو أن ثقافات ما قبل الحداثة بشكل عام كانت أقل انشغالا بمعنى الحياة من فرانز كافكا، لكان الشيء نفسه قد انطبق فيما يبدو على ثقافات ما بعد الحداثة. ففي المناخ البراجماتي الذي يتمتع بالقدرة على التعامل مع المواقف الصعبة الذي تتميز به رأسمالية ما قبل الحداثة المتقدمة، بتشكيكها في الصور الكبيرة والسرديات الكبرى، وتحررها الواقعي من كل ما هو ميتافيزيقي، تعتبر «الحياة» واحدة ضمن سلسلة كاملة من الكيانات الكلية غير الموثوق بها. فنحن مطالبون بالتفكير على نطاق محدود بدلا من التفكير على نطاق كبير وطموح؛ في الوقت الذي يفعل فيه بعض ممن يسعون لتدمير الحضارة الغربية العكس تماما، وهو ما يثير السخرية. وفي إطار الصراع الدائر بين الرأسمالية الغربية والإسلام المتطرف، نجد ندرة في الإيمان في مواجهة وفرة بالغة منه. فيجد الغرب نفسه في مواجهة هجوم ميتافيزيقي عنيف بالتزامن مع المرحلة التاريخية التي تجرد فيها من الأسلحة الفلسفية إن جاز التعبير. وفيما يتعلق بمسألة الإيمان، تفضل حركة ما بعد الحداثة التنقل بأقل عدد من الأحمال: فلا شك أن لها معتقدات، ولكن ليس لديها إيمان.
حتى «المعنى» يتحول إلى مصطلح مشكوك فيه لدى مفكري ما بعد الحداثة مثل الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز. فهذا المصطلح يفترض أن شيئا واحدا يمكن أن يمثل أو يرمز لآخر، وهو افتراض يجده البعض باليا. وهكذا تسقط فكرة التأويل فريسة للهجوم. فالأشياء بصراحة شديدة تعبر عن نفسها فقط، وليست رموزا مبهمة لشيء آخر؛ فما تراه هو ما يصل إليك. أما المعنى والتأويل، فيتضمنان رسائل وآليات خفية؛ أعماق متراصة أسفل أسطح، ولكن هذا النموذج الكلي للسطح/العمق - من منظور فكر ما بعد الحداثة - يبدو مشابها لميتافيزيقا عتيقة الطراز. ونفس الشيء مع الذات، التي لم تعد مسألة ثنايا سرية وأعماقا داخلية، ولكنها الآن مفتوحة للفحص والمشاهدة باعتبارها شبكة لا مركزية وليست روحا مراوغة بشكل غامض.
لم يكن هذا ينطبق على طريقة ما قبل الحداثة في تفسير العالم التي نعرفها بالقصص الرمزية. فالأشياء من منظور القصة الرمزية لا تحمل معانيها على وجوهها؛ بل لا بد من فهمها كرموز «لنص» ضمني أو حقيقة متوارية من نوع أخلاقي أو ديني في الغالب. فيرى القديس أوغسطينوس أن الاهتمام بالأشياء في حد ذاتها إنما يعكس أسلوبا شهوانيا منحلا للوجود؛ بل لا بد بدلا من ذلك أن نقرأها في إطار الرموز والدلالات، باعتبارها تشير إلى النص الإلهي الذي هو الكون، متجاوزة حدود نفسها. وتسير دراسة الرموز جنبا إلى جنب مع فكرة الخلاص، وينفصل فكر الحقبة المعاصرة عن هذا النموذج في جانب، فيما يظل ملتزما به في آخر. فلم يعد المعنى جوهرا روحانيا مدفونا أسفل سطح الأشياء. ولكنه يظل بحاجة للتنقيب عنه، إذ إن العالم لا يبوح به من تلقاء نفسه. ومن بين الأسماء التي تطلق على هذه المغامرة التنقيبية العلم، والذي يسعى من منطلق رؤية معينة له للكشف عن القوانين والآليات الخفية التي تعمل الأشياء بموجبها. ويظل هناك أعماق، ولكن ما لديه تأثير فعلي منها الآن هو الطبيعة وليس الألوهية.
بعد ذلك دفعت حركة ما بعد الحداثة تلك الحركة العلمانية خطوة أخرى للأمام. فهي تصر على أنه طالما لا يزال لدينا أعماق وجوهر وأسس، فإننا لا نزال في الحضرة المهيبة للإله، أي إننا لم نتخلص من فكرة الإله تماما حقا، بل ببساطة منحناها مجموعة من الأسماء المهيبة الجديدة، مثل الطبيعة والإنسان والعقل والتاريخ والنفوذ والرغبة، وما إلى ذلك. وبدلا من تفكيك تلك المنظومة الكاملة العتيقة للميتافيزيقا واللاهوت، قمنا ببساطة بمنحها محتوى جديدا. وليس بإمكاننا أن نتحرر إلا بالانفصال عن المفهوم الكلي للمعنى «العميق»، الذي سيغرينا دوما بملاحقة وهم معنى المعاني. وقطعا، لا يعني أن نكون أحرارا أن نكون أنفسنا؛ لأننا قمنا أيضا بتفكيك الجوهر الميتافيزيقي المعروف بالذات. ومن ثم يظل تحديد من سيمنح تلك الحرية من خلال هذا المشروع نوعا من الألغاز إلى حد كبير. وربما تكون حركة ما بعد الحداثة، بما لديها من نفور من الأسس المطلقة، قد قامت أيضا بتسريب مثل هذه القواعد المطلقة إلى المناقشة سرا. وهذه القواعد بالتأكيد ليست الإله أو العقل أو التاريخ، لكنها تتصرف على نفس النحو شبه المطلق. وعلى غرار القواعد المطلقة الأخرى، من المستحيل أن نتوغل تحتها، وهو ما يعرف لدى حركة ما بعد الحداثة بالثقافة. •••
تميل التساؤلات الخاصة بمعنى الحياة - حين تطلق على نطاق كبير - للظهور في الفترات التي تقحم خلالها الأدوار والمعتقدات والأعراف المسلم بها في أزمة. وربما لا يكون من باب المصادفة أن معظم الأعمال التراجيدية المتميزة تميل للظهور في تلك اللحظات أيضا. ولا يعني هذا إنكار أن سؤال معنى الحياة قد يكون سؤالا ساريا دوما. ولكن بالتأكيد لا يوجد انفصال بين ما يطرحه كتاب هايدجر «الوجود والزمن» من قضايا وبين حقيقة أن الكتاب قد تم تأليفه في فترة من فترات اللغط التاريخي تلك، إذ ظهر في أعقاب الحرب العالمية الأولى. كذلك نشر كتاب جان بول سارتر «الوجود والعدم» - والذي يتناول أيضا مثل هذه القضايا الخطيرة - في منتصف فترة الحرب العالمية الثانية؛ فيما ازدهرت الوجودية بشكل عام - بما تشمله من وعي بسخافة الحياة الإنسانية - خلال العقود التي أعقبت هذه الحرب. ربما يكون جميع الرجال والنساء يتفكرون في معنى الحياة؛ ولكن لأسباب تاريخية وجيهة، يساق البعض إلى التفكر فيه بمزيد من الإلحاح مقارنة بالآخرين.
إذا كنت مرغما على التحقيق في معنى الوجود على نطاق موسع، فمن المحتمل أن تسير الأمور في اتجاه الفشل. أما التحقيق في معنى وجود المرء نفسه فأمر مختلف، إذ قد يدعي أحدهم أن مثل هذا التأمل الذاتي جزء لا يتجزأ من مسألة عيش حياة كاملة. ومن ثم سوف يبدو ذلك الشخص الذي لم يسبق له أن سأل نفسه كيف تسير حياته وهل من الممكن أن تتحول إلى الأحسن مفتقدا للوعي الذاتي بشكل غريب. ومن المحتمل في تلك الحالة أن يكون هناك جوانب عدة لا تسير فيها حياته بشكل جيد كما قد ينبغي. فحقيقة أنه لا يسأل نفسه إلى أي مدى تتوافق الأشياء مع حياته إنما تشير إلى أنها لا تتوافق معها بشكل جيد كما ينبغي. أما إذا كانت حياتك تسير بيسر بشكل رائع، فإن من بين أسباب هذا هو أنك - على الأرجح - تفكر مليا من حين لآخر فيما إذا كنت بحاجة إلى إصلاح أو تغيير.
وعلى أية حال، فإن الوعي بحقيقة أنك تسير في حياتك بشكل جيد يعزز على الأرجح من إحساسك بالسعادة؛ ويبدو من غير المعقول ألا تضيف هذه الميزة الإضافية المستحسنة إلى حالتك العامة من السعادة والرضا. بعبارة أخرى، ليس صحيحا أنك تشعر بالسعادة فقط إذا كنت لا تدركها. والتأمل الذاتي دائما ما يكون محبطا بشكل مميت لتلك الرؤية الرومانسية إلى حد السذاجة. وهذا هو ما قد يطلق عليه المرء نظرية الاجتياز الخطر للهاوية في الحياة: فكر في الأمر وسوف يصيبك الفشل في الحال. ولكن معرفة الكيفية التي تتوافق بها الأمور معك هو شرط أساسي لمعرفة ما إذا كان عليك محاولة تغييرها، أم أن تبقي عليها كما هي تقريبا. فالمعرفة بمثابة عامل مساعد للسعادة وليست غريما لها.
غير أن السؤال عن معنى وجود الإنسان في حد ذاته يوحي بأننا ربما قد نكون ضللنا طريقنا بشكل جماعي، مهما كنا نرتحل فرادى. في فترة ما حوالي عام 1870 أو 1880 في بريطانيا، بدأت خيوط بعض الحقائق اليقينية الفيكتورية بشأن هذا السؤال في التكشف؛ لذلك نجد أن توماس هاردي وجوزيف كونراد مثلا يطرحان سؤال معنى الحياة بإلحاح من المستحيل تخيله في حالة ويليام ثاكاري وأنتوني ترولوب. وبالمثل جين أوستن، التي سبقت هؤلاء الكتاب. بالطبع أثار الفنانون السؤال قبل عام 1870، ولكن نادرا ما كانوا يطرحونه كجزء من «ثقافة» كاملة قائمة على التساؤل والتشكيك. وبحلول العقود الأولى من القرن العشرين، اتخذت هذه الثقافة - بمخاوفها الوجودية الملازمة لها - شكل الحداثة، وهي تيار أنتج بعضا من أبرز أعمال الفن الأدبي التي شهدها الغرب على الإطلاق. ومع تحدي كل ما هو تقليدي من قيم واعتقادات ومؤسسات، باتت الظروف مهيأة الآن للفن كي يطرح أكثر الأسئلة الاستقصائية عن مصير الثقافة الغربية في حد ذاتها، ومصير الإنسانية نفسها. ولا شك أن أحد أتباع الماركسية السوقية من ذوي العقليات الكئيبة قد يدرك وجود علاقة بين هذا الحراك الثقافي وبين الكساد الاقتصادي في نهاية العصر الفيكتوري، واندلاع الحرب الإمبريالية العالمية في عام 1916، والثورة البلشفية، وصعود الفاشية، والأزمة الاقتصادية في فترة ما بين الحربين العالميتين، وظهور الستالينية، وانتشار الإبادة الجماعية، وما شابه. نحن أنفسنا نفضل أن نحصر تخميناتنا وأفكارنا بشكل أقل سوقية في الحياة المعرفية والفكرية.
خلف هذا الأسلوب الخصب والمتمرد في التفكير آثارا لاحقة - كما رأينا - في الوجودية؛ ولكن بحلول خمسينيات القرن العشرين تعرض للانحسار بشكل عام ليظهر على السطح مرة أخرى في موجة لاحقة من الازدهار في الثقافات المضادة في ستينيات القرن العشرين؛ ولكن بحلول منتصف السبعينيات تقلصت مثل هذه الطموحات الروحانية ، وبترت في الغرب بفعل انتشار مناخ سياسي حاد وبراجماتي متزايد. وقد رفضت حركة ما بعد البنيوية - ومن بعدها حركة ما بعد الحداثة - جميع المحاولات للتفكير في الحياة الإنسانية ككل باعتبار أنها موصومة بأنها «إنسانية»؛ أو بالأحرى باعتبارها نوعية النظرية «الشمولية» التي قادت بشكل مباشر إلى معسكرات الموت في الدولة الاستبدادية. فلم يعد هناك آنذاك ما يسمى بالإنسانية أو الحياة الإنسانية للتأمل فيها؛ فلم يكن هناك سوى اختلافات، وثقافات محددة، ومواقف موضعية.
ولعل أحد الأسباب وراء إسهاب القرن العشرين في التفكير في معنى الوجود بأسلوب أكثر ابتئاسا مقارنة بمعظم العصور الأخرى أنه قد اعتبر الحياة الإنسانية زهيدة وبلا ثمن بشكل مثير للفزع. فقد كان هذا العصر أكثر العصور دموية على مدار التاريخ، بالنظر لملايين الأرواح التي أزهقت بلا مبرر. فإذا كانت قيمة الحياة قد انحدرت بهذا الشكل العنيف في الواقع، فمن الممكن إذن أن يتوقع المرء أن يقع معناها تحت طائلة الشك من الناحية النظرية. ولكن ثمة قضية أكثر عمومية هنا أيضا. فمن الشائع في العصر الحديث أن ما قد يطلق عليه البعد الرمزي للحياة الإنسانية يتعرض للتهميش بشكل مستمر ومنتظم. وقد كان هذا البعد يضم ثلاثة جوانب طالما كانت حيوية: الدين، والثقافة، والجنس. وقد أصبحت هذه الجوانب الثلاثة جميعا أقل أهمية بالنسبة للحياة العامة مع بزوغ العصر الحديث. أما في مجتمعات ما قبل الحداثة، فقد كانت في أغلب الأحيان جزءا من المحيط العام وكذلك الخاص. فلم يكن الدين مجرد مسألة ضمير شخصي وخلاص فردي، بل كان أيضا مسألة نفوذ دولة، وطقوس عامة، وأيديولوجيات قومية. وباعتباره عنصرا أساسيا للسياسات الدولية، فقد شكل مصير الأمم على طول الطريق من الحروب الأهلية إلى زيجات السلالات الحاكمة. ويوجد نذر شؤم تنذر بأن الفترة التي نعيشها قد تعود إلى ذلك الوضع في نواح معينة.
أما بالنسبة للثقافة، فلم يكن الفنان شخصية منعزلة متقوقعة يتسكع في إحدى المقاهي البوهيمية الماجنة بقدر ما كان موظفا عاما له دور محدد داخل القبيلة أو العشيرة أو البلاط الملكي. وإن لم توظفه الكنيسة، فقد يعين من قبل الدولة أو أحد الرعاة ذوي النفوذ ممن ينتمون للطبقة العليا. وقد كان الفنانون أقل ميلا للتفكر والتأمل في معنى الحياة حينما كانوا يتقاضون عمولة مجزية لتأليف موسيقى قداس الموتى. إلى جانب ذلك، كان الإيمان الديني يحسم المسألة إلى حد كبير بالنسبة لهم. أما عن الجنس، فكان آنذاك مسألة حب شهواني وإشباع شخصي مثلما هو الآن. ولكنه أيضا كان محبوسا داخل أعراف النسب، والإرث، والطبقة الاجتماعية، والملكية، والسلطة، والمكانة بشكل أعمق مما هو عليه الآن بالنسبة لمعظمنا.
وليس المقصود من هذا إضفاء مثالية على الأيام الخوالي. فالدين والفن والجنس ربما كانوا أكثر أهمية للشئون العامة أكثر من اليوم؛ ولكن من الممكن أيضا أن يكونوا بمثابة الخدم المطيعين للسلطة السياسية، ولنفس الأسباب إلى حد كبير. وبمجرد أن استطاعوا الخروج من قبضة هذه السلطة، استطاعوا الاستمتاع بدرجة من الحرية والاستقلال لم يحلموا بها من قبل. غير أن ثمن هذه الحرية كان باهظا. فقد استمرت هذه الأنشطة الرمزية في أداء أدوار عامة ذات أهمية؛ ولكنها عموما كانت تقصى بشكل متزايد إلى المجال الخاص، حيث لم تكن تخص أي شخص سوى صاحبها.
كيف يرتبط ذلك بالسؤال عن معنى الحياة؟ الإجابة هي أن هذه بالضبط هي المجالات التي كان الرجال والنساء يتجهون إليها عادة حين يتساءلون عن معنى وقيمة وجودهم. فكان من الصعب أن تجد أسبابا أكثر حيوية وجوهرية للعيش أكثر من الحب، والإيمان الديني، والقيمة النفيسة لعشيرة الفرد وثقافته. في الواقع، كان هناك عدد ضخم من الناس على مدى القرون على استعداد للموت، أو مستعدين للقتل، باسمها. وقد اتجه الناس إلى هذه القيم بشكل أكثر حماسا ولهفة حين أصبح الميدان العام نفسه مجردا من المعنى بشكل متزايد. فقد بدا أن الحقيقة والقيمة قد انفصلا، تاركين الأولى شأنا عاما، والأخيرة شأنا خاصا.
وكما اتضح، فقد أثقلت الحداثة الرأسمالية كاهلنا بنظام اقتصادي وسيلي بشكل بحت. فقد كان عبارة عن أسلوب حياة مكرس للنفوذ والربح والبقاء المادي، وليس لتنمية قيم المشاركة والتكافل الإنسانيين. وكان المجال السياسي مسألة إدارة ومناورة أكثر من كونه تكوينا مشتركا لحياة مشتركة. حتى المنطق ذاته انحدرت قيمته حتى أصبح مجرد حسبة تحكمها المصلحة الذاتية. أما بالنسبة للأخلاقيات والفضيلة، فقد أصبحت أيضا شأنا خاصا بشكل متزايد، يرتبط بغرف النوم أكثر من ارتباطه بقاعة الاجتماعات. وتنامت أهمية الحياة الثقافية من جانب، لتتطور إلى صناعة كاملة أو فرع من فروع الإنتاج المادي. غير أنها - على جانب آخر - تضاءلت لتصبح مجرد تزيين لواجهة نظام اجتماعي لم يكن لديه سوى وقت محدود للغاية لأي شيء لم يكن بإمكانه تسعيره أو قياسه. فقد انحصرت الثقافة آنذاك إلى حد كبير في كيفية شغل انتباه الناس بدون ضرر حين لم يكونوا يعملون.
غير أنه كانت هناك مفارقة في هذا الشأن. فكلما أجبرت جوانب الثقافة والدين والفن والجنس على العمل كبدائل لقيمة عامة مضمحلة، قلت قدرتها على القيام بذلك. وكلما تركز المعنى في المجال الرمزي، كان ذلك المجال ينحرف عن المسار الصحيح بفعل الضغوط التي كان ذلك يفرضها عليه. ونتيجة لذلك، بدأت الجوانب الثلاثة للحياة الرمزية جميعا في إظهار أعراض مرضية. فتحول الجنس إلى هوس غريب، بل وكان أحد المصادر القليلة للمذهب الحسي التي ما زالت متبقية في عالم منهك القوى. فحلت الصدمة والغضب الجنسيين محل اقتتال سياسي مفقود. وبنفس القدر أصبح الفن متضخما في قيمته؛ إذ أصبح في نظر الحركة الجمالية آنذاك لا يقل عن كونه نموذجا للحياة، فيما كان الفن - في رأي بعض أتباع حركة الحداثة - يمثل المأوى الهش الأخير للقيمة الإنسانية في الحضارة الإنسانية؛ تلك الحضارة التي نبذها الفن نفسه في ازدراء. غير أن هذا كان ينطبق فقط على أثر شكل الفن. ونظرا لأن محتواه كان انعكاسا حتميا للعالم المادي من حوله، فلم يكن باستطاعته تقديم مصدر دائم للخلاص والنجاة.
شكل 1-2: تجمع لحركة «العصر الجديد» في ستونهنج. (© Matt Cardy/Alamy)
في غضون ذلك، كلما لاح الدين كبديل للنزيف المستمر للمعنى العام، كان يدفع في اتجاه أشكال قبيحة متعددة من الأصولية. أو إن لم يكن ذلك، كان يدفع في اتجاه هراء أنصار حركة العصر الجديد. باختصار أصبحت الروحانية إما جامدة أو فاترة بلا روح. ومن ثم أصبحت مسألة معنى الحياة بين أيدي المرشدين الدينيين والموجهين الروحانيين، والمتخصصين في خلق الإحساس بالسعادة، ومعالجي النفس. ومن خلال التقنيات الصحيحة، كان يمكنك أن تضمن نفض غبار انعدام المعنى عنك في غضون فترة بسيطة لا تتجاوز الشهر. واتجه المشاهير الذين فسدت عقولهم بفعل المداهنة إلى الكابالا والساينتولوجي. وكان مصدر إلهامهم في هذا هو ذلك الاعتقاد الخاطئ والتافه بأن الروحانية لا بد بالطبع أن تكون شيئا دخيلا وسريا، وليس شيئا عمليا وماديا. وفي نهاية المطاف، كانت المادة - في شكل الطائرات الخاصة ومجموعات الحرس الخاص - هي ما كانوا يحاولون - على الأقل ذهنيا - الهروب منها.
بالنسبة لتلك النوعيات، كان الجانب الروحاني هو الجانب الآخر للمادة. فقد كان مجالا من الغموض المختلق الذي ربما كان فيه تعويض عن عبث الشهرة الدنيوية. وكلما كان غامضا - وكلما كان أقل شبها بحسابات وكلائك ومحاسبيك المجردة من المشاعر الإنسانية - بدا أكثر معنى. وإذا كانت الحياة العادية قاصرة في المعنى، فسيكون لزاما أن يتم إكمالها صناعيا بالمادة. ومن الممكن تطعيمها من وقت لآخر بقدر ضئيل من علم التنجيم أو استحضار الأرواح، مثلما قد يضيف الإنسان الفيتامينات إلى نظامه الغذائي. وقد أحدثت دراسة أسرار قدماء المصريين تغييرا محببا من تلك المسألة المرهقة الخاصة بالعثور لنفسك على قصر آخر به خمسين غرفة نوم. علاوة على ذلك، فلما كانت الروحانية تكمن في العقل بشكل كامل، فإنها لم تتطلب منك أي نوع مزعج من الأفعال، كتحرير نفسك من عبء إدارة قصورك من خلال التبرع بمبالغ ضخمة من المال للمشردين.
يوجد جانب آخر للقصة. فإذا كان المجال الرمزي مفصولا عن المجال العام، فقد اجتيح من قبله أيضا. لقد غلف الجنس كسلعة مربحة في السوق، فيما كانت الثقافة تعد في أغلب الأحيان من أجل وسائل الإعلام المتعطشة للربح. أما الفن، فكان مسألة مال وسلطة ومكانة ورأس مال ثقافي. لقد كانت الثقافات آنذاك تغلف وتوزع بشكل مثير للدهشة بواسطة صناعة السياحة. حتى الدين حول نفسه إلى صناعة مربحة، عندما احتال المبشرون التليفزيونيون على الفقراء السذج الورعين واستولوا على أموالهم التي كسبوها بشق الأنفس. بعد ذلك ابتلينا بأسوأ ما في كلا العالمين. فالأماكن التي كان فيها المعنى عادة في أقصى مخزون له لم تعد تؤثر كثيرا على العالم العام؛ ولكنها أيضا احتلت بشكل عدواني من قبل قواها التجارية، ومن ثم أصبحت جزءا من تسرب المعنى الذي كانت يوما تسعى لمقاومته. وأجبر هذا النطاق من الحياة الرمزية - الذي أصبح الآن مخصخصا - على تقديم أكثر مما يستطيع. ونتيجة لذلك، كان إيجاد المعنى حتى في المجال الخاص يزداد صعوبة. ولم يعد العبث وإضاعة الوقت بينما الحضارة تحترق، أو الاهتمام بشئونك الخاصة بينما التاريخ ينهار من حولك، تبدو كخيارات عملية كما كانت من قبل.
شكل 1-3: المبشر التليفزيوني الأمريكي جيري فالويل في عرض أصولي حماسي مكتمل. (© Wally McNamee/Corbis)
وتعد الرياضة بلا شك في وقتنا هذا واحدة من أكثر فروع صناعة الثقافة شعبية وتأثيرا. فإذا تساءلت عما يقدم معنى ما في الحياة هذه الأيام لقطاع كبير من الناس - لا سيما الرجال - فلا بأس أن تكون إجابتك هي «كرة القدم». ربما لن يكون الكثير منهم على استعداد للاعتراف بذلك بنفس الدرجة، ولكن الرياضة - وفي كرة القدم البريطانية على وجه الخصوص - تحل محل جميع تلك القضايا النبيلة - من الإيمان الديني، والسيادة القومية، والشرف الشخصي، والهوية العرقية - التي كان الناس على مدار قرون على استعداد للتضحية بأرواحهم في سبيلها. فالرياضة تتضمن ولاءات وعداوات قبلية، وطقوسا رمزية، وأساطير رائعة، وأبطالا رموزا، ومعارك ملحمية، وجمالا حسيا، وإشباعا بدنيا، وإشباعا فكريا، واستعراضات مهيبة، وإحساسا عميقا بالانتماء. كذلك تقدم التضامن الإنساني والتجسيد اللحظي اللذين لا يوفرهما التليفزيون. ولولا هذه القيم، لصارت حياة الكثيرين خاوية بلا شك. فالرياضة - وليس الدين - هي أفيون الشعوب الآن. والحق أن الدين الآن في عالم الأصولية الإسلامية والمسيحية لم يعد أفيون الشعوب بقدر ما هو كوكايين الشعوب.
شكل 1-4: الألم والنشوة: مشجع رياضي. (© Rex Features)
وقد صار المعلمون الدينيون المزيفون والحكماء الكاذبون في عصرنا هذا يحلون محل الكيانات المقدسة الأكثر تقليدية التي أثبتت فشلها وعجزها. فالفلاسفة - على سبيل المثال - تم تحويلهم فيما يبدو إلى خبراء تقنيين في اللغة. صحيح أن فكرة الفيلسوف كمرشد هاد لمعنى الحياة هي اعتقاد خاطئ رائج، ولكنك على الرغم من ذلك قد تتوقع منه أن يقوم بما هو أكثر من محاولة إثناء الأشخاص عن الانتحار قفزا من النوافذ عن طريق الإشارة إلى أن التركيب النحوي لعبارة
nothing matters
يختلف عن التركيب النحوي لعبارة
nothing chatters (زعم الفيلسوف جلبرت رايل بجامعة أكسفورد ذات مرة أنه أقنع أحد الطلاب بالعدول عن الانتحار عن طريق شرح هذا الفارق له). في الوقت نفسه، أصبح علم اللاهوت فاقدا للثقة بفعل تسلل العلمانية إليه، وكذلك بفعل جرائم وحماقات الكنائس. وجاء علم الاجتماع الوضعي وعلم النفس السلوكي - إلى جانب العلوم السياسية الخالية من أي رؤية - ليكملا خيانة النخبة المثقفة. فكلما سخرت العلوم الإنسانية لخدمة احتياجات الاقتصاد، ازداد تخليها عن دراسة وفحص القضايا والمسائل الجوهرية؛ ومن ثم هرع بائعو بطاقات التاروت، والعرافون، وأفاتارات أتلانتس، ومتخصصو تنقية الروح لشغل مكانها. وهكذا أصبح معنى الحياة صناعة مربحة. وهكذا كانت كتب على شاكلة «الميتافيزيقا للتجار المصرفيين» تلتهم سريعا. واتجه الرجال والنساء ممن تحرروا من وهم العالم المهووس بصنع المال والثروة إلى متعهدي الحقيقة الروحانية، الذين كونوا ثروة طائلة من توريدها.
لم يجب أيضا أن يطل سؤال معنى الحياة برأسه في عصر الحداثة؟ قد يظن المرء أن هذا يرجع بشكل جزئي إلى أن مشكلة الحياة العصرية تكمن في وجود الكثير من المعنى والقليل منه في الوقت نفسه. فالحداثة هي الحقبة التي شهدت خلافا بيننا فيما يتعلق بجميع القضايا الأخلاقية والسياسية الجوهرية. ومن ثم وجد في الحقبة الحديثة عدد كبير من المتنافسين والخصوم يتحاربون في حلبة معنى الحياة، دون أن يكون لدى أحدهم القدرة على توجيه ضربة قاضية للآخرين. وهذا يعني أن أي حل وحيد للمشكلة سوف يبدو حتما مثيرا للريبة والشك، نظرا لوجود عدد هائل من البدائل المغرية. وهكذا نجد أنفسنا هنا فيما يشبه الدائرة المفرغة. وما إن تبدأ المعتقدات التقليدية في الانهيار في مواجهة أزمة تاريخية، يبدأ سؤال معنى الحياة في دفع نفسه إلى السطح. ولكن حقيقة أن هذا السؤال قد صار بارزا للغاية يثير مجموعة كبيرة من الإجابات له؛ ومن ثم يعمل هذا التنوع في الحلول على تقليص مصداقية أي منها. وهكذا فإن الشعور بأهمية طرح سؤال معنى الحياة يعد دلالة على أن الإجابة عليه ستكون أمرا عسيرا.
في هذا الموقف يكون من الممكن دائما للبعض أن يجدوا معنى الحياة، أو على الأقل جزءا كبيرا منه، وسط هذا التنوع الشديد في الآراء بشأن الموضوع. والأشخاص الذين يراودهم مثل هذا الشعور يعرفون بشكل عام بالليبراليين، على الرغم من أن البعض منهم هذه الأيام يعرف أيضا بأتباع ما بعد الحداثة. والعثور على إجابة قاطعة لسؤال معنى الحياة لا يهم هؤلاء بقدر اهتمامهم بحقيقة وجود العديد من الطرق المتنوعة بشكل غير مألوف للإجابة عليه. والواقع أن الحرية التي يدل عليها ذلك قد تكون في حد ذاتها المعنى الأكثر قيمة الذي سنعثر عليه على الإطلاق. ومن ثم فإن ما يراه البعض تفتتا محبطا، يعتبره الآخرون تحررا مبهجا.
إن ما يشكل أهمية في المقام الأول بالنسبة لمعظم أولئك المنخرطين في سعي حامي الوطيس وراء معنى الحياة هو الهدف محل المطاردة نفسه. غير أن موطن الاهتمام بالنسبة لليبراليين وأتباع مذهب ما بعد الحداثة هو الجلبة الممتعة التي يثيرها الحوار الدائر حوله في حد ذاته، والتي تحمل في نظرهم على الأرجح قدرا من المعنى يساوي كل ما سنكتشفه على الإطلاق. فمعنى الحياة يكمن في البحث عن معنى الحياة. وثمة عدد كبير من الليبراليين يميلون لتفضيل الأسئلة عن الإجابات، إذ يعتبرون الإجابات مقيدة بشكل مفرط. فالأسئلة تتمتع بالحرية والانسيابية، فيما لا تعد الإجابات كذلك. والفكرة وراء ذلك هي أن يكون لديك عقلا فضوليا، لا أن تغلقه نهائيا بإجابة قاطعة إلى حد كئيب. صحيح أن هذا الأسلوب لا يجدي كثيرا مع أسئلة على غرار «كيف يمكننا أن نجلب لهم الطعام قبل أن يتضوروا جوعا؟» أو «هل ستكون هذه وسيلة فعالة لمنع جرائم القتل العنصرية؟» ولكن ربما يكون لدى الليبراليين أنواع أسمى من الأسئلة في أذهانهم.
غير أن التعددية الليبرالية لها حدودها؛ لأن بعض الإجابات المقترحة لسؤال معنى الحياة لا تتعارض معا فحسب، ولكنها متناقضة فيما بينها. فقد تؤمن بأن معنى الحياة يكمن في الاهتمام بالمستضعفين، فيما قد أصر أنا على أنه يكمن في التنمر على أكبر عدد يمكن أن تطوله يدي من الكائنات المريضة التي لا تقوى على الدفاع عن نفسها. وعلى الرغم من أن كلينا قد يكون مخطئا، فلا يمكن أن يكون كلانا على حق. حتى الليبرالي يجب أن يكون محددا بشكل صارم، بحيث يستبعد أي حل - مثل بناء دولة استبدادية - قد يقوض التزامه نحو الحرية والتعددية. فلا يجب أن يسمح للحرية بتدمير أسسها، على الرغم من أن الراديكاليين سوف يجادلون بأنها تفعل ذلك في كل يوم من أيام الأسبوع في ظل الأجواء الرأسمالية.
وللتعددية حدودها أيضا في هذا الإطار، إذ إنه إذا كان هناك ما يسمى بمعنى الحياة، فإنه لا يمكن أن يكون مختلفا لدى كل منا. يمكنني أن أقول إن «معنى حياتي هو أن أتناول قدرا من الويسكي يكفي لأن يجعلني قادرا على الزحف فقط»، ولكن لا يمكنني أن أقول إن «معنى الحياة بالنسبة لي هو تناول الكثير من الويسكي»، ما لم تكن تلك مجرد طريقة أخرى للتعبير عن الادعاء الأول. فسوف يكون الأمر وكأنني أقول: «لون الثلج بالنسبة لي فيروزي يشوبه لون أرجواني خفيف»، أو أن أقول: «معنى «القناني الخشبية» بالنسبة لي هو «الزنابق المائية».» فلا يمكن أن يكون المعنى هو ما أقرره أنا. فإذا كان للحياة أن تملك معنى، فسوف يكون هذا هو معناها بالنسبة لك ولي ولكل شخص آخر، مهما كان معناها في اعتقادنا، أو المعنى الذي نود أن يكون معناها. وعلى أية حال فقد يكون للحياة عدد من المعاني. لماذا يجب أن نتخيل أن للحياة معنى واحد؟ فمثلما يمكننا أن ننسب لها عدة معان مختلفة، فقد يكون لها مجموعة من المعاني الفطرية، هذا إن كان لها معان فطرية من الأساس. ربما يكون هناك أهداف عديدة مختلفة في ذلك، بعضها متناقض فيما بينها. أو ربما أن الحياة تغير هدفها من آن لآخر مثلما نفعل نحن. لا يجب أن نفترض أن كل ما هو منسوب أو فطري يجب دائما أن يكون ثابتا وفرديا. ماذا لو أن للحياة هدفا بالفعل، ولكنه هدف يتعارض تماما مع مشروعاتنا؟ ربما يكون للحياة معنى، ولكن الغالبية العظمى من الرجال والنساء الذين وجدوا في هذه الحياة قد أخطئوا فهمه. فإذا كان الدين زائفا، فهذا هو الموقف في الواقع.
شكل 1-5: مايكل بالين في دور قس أنجليكاني متملق في فيلم «معنى الحياة» لفريق مونتي بايثون. (©
/Collection Cinéma)
غير أنه من المحتمل أن يشكك الكثيرون من قراء هذا الكتاب في عبارة «معنى الحياة» مثلما يشككون في وجود بابا نويل. فهو يبدو كمفهوم من نوع غريب، يتسم بالبساطة والروعة في الوقت ذاته، ويصلح للخضوع للانتقاد التهكمي لفريق مونتي بايثون.
8
ويعتقد عدد كبير من المثقفين في الغرب اليوم - على الأقل خارج نطاق الولايات المتحدة المتدينة بصورة تثير الدهشة - أن الحياة عبارة عن ظاهرة تطورية عارضة ليس لها معنى متأصل أكثر من تقلب هوائي أو قعقعة في المعدة. غير أن حقيقة أنها ليس لها معنى محدد تمهد الطريق للأفراد من الرجال والنساء لتكوين أي معنى يمكنهم تكوينه لها. وإذا كان لحياتنا معنى، فإنه شيء يمكننا من خلاله استثمار هذه الحياة، وليس شيئا تأتي مجهزة به.
وتأسيسا على هذه النظرية، ما نحن إلا حيوانات تجيد التأليف لنفسها، فلا نحتاج لتلك الفكرة التجريدية التي تعرف باسم الحياة لتكتب لنا قصصنا. فمن منظور نيتشه أو أوسكار وايلد، يمكننا جميعا - فقط لو امتلكنا الجرأة - أن نكون فناني أنفسنا البارعين؛ قطعة صلصال في أيدينا في انتظار تشكيل أنفسنا في شكل فريد إلى حد الإتقان. وأنا أعتبر أن الحكمة التقليدية في هذا الشأن هي أن معنى الحياة لا يشكل مقدما، وإنما يبنى؛ وأن كل واحد منا يمكنه أن يفعل ذلك بطرق مختلفة تماما. لا شك أن هناك قدرا كبيرا من الحقيقة في تلك المسألة؛ ولكن لأنها أيضا مسألة مملة وعديمة الإثارة، فإنني أود أن أجعلها محل تركيز بالغ في هذه الصفحات. ومن ثم فإن جزءا من هذا الكتاب سوف يخصص لفحص هذه الرؤية لمعنى الحياة باعتبارها مشروعا خاصا من نوع ما، لكي نرى إلى أي مدى يمكن لهذه الرؤية أن تصمد.
هوامش
الفصل الثاني
إشكالية المعنى
إن سؤال «ما معنى الحياة؟» هو واحد من تلك الأسئلة النادرة التي تمثل كل كلمة فيها إشكالية في حد ذاتها، وهذا يشمل حتى الكلمة الأولى منه، نظرا لأن معنى الحياة بالنسبة لملايين لا تحصى من ذوي الإيمان الديني لا يتجلى في شيء وإنما في شخص. فربما كان أحد النازيين المخلصين ليتفق مع ذلك بأسلوبه الخاص، من خلال إيجاد معنى الحياة في شخص أدولف هتلر. وقد لا يتجلى لنا معنى الحياة إلا مع نهاية العالم، في شكل مسيح يبدو أنه يأخذ وقته في الوصول. أو قد يتحول الكون إلى ذرة في ظفر إبهام عملاق كوني.
غير أن الكلمة المثيرة للجدل بحق هي كلمة «معنى». فنحن نميل هذه الأيام للاعتقاد بأن معنى أية كلمة يتمثل في استخدامها في شكل معين من أشكال الحياة؛ ولكن كلمة «معنى» في حد ذاتها لها مجموعة كاملة من مثل هذه الاستخدامات، فيما يلي بعض منها:
إن كلمة
تعني «سمك» (وهي تختلف عن الكلمة الإنجليزية
والتي تعني سم).
هل كنت تعتزم خنقه؟
هذه السحب تعني هطول أمطار.
حين أشارت إلى «الحمار العجوز ذي الجلد المرقط»، هل كانت تعني ذلك الحمار في الحقل العشبي الصغير هناك؟
ما معنى تلك العلاقة المشينة؟
لقد كنت أعنيك أنت، وليس هي.
صابون الاستحمام برائحة اللافندر يعني الكثير له.
الأوكرانيون يعنون العمل.
هذه اللوحة مقدر لها ألا تقدر بثمن.
لافينيا تعني خيرا، ولكن يوليوس ليس كذلك على الأرجح.
حين طلب المتوفى من النادل «سما»، هل من المحتمل أنه كان يعني «سمكا»؟
لقد بدا أن لقاءهما كان شبه مخطط.
إن ثورته العارمة لا تعني شيئا.
كان من المعتزم أن تعيد كورديليا المثقاب بحلول وقت الغداء من يوم الأحد.
يمكن القول بأن هذه الاستخدامات للكلمة تقع ضمن ثلاث فئات. إحدى هذه الفئات تتعلق باعتزام شيء أو التخطيط له في العقل؛ والواقع أن كلمة «معنى» ترتبط في أصلها بكلمة «عقل». ثمة فئة أخرى تتعلق بفكرة الدلالة على شيء، فيما تتحرك الثالثة في سياق الفئتين السابقتين معا، من خلال الإشارة إلى فعل الاعتزام، أو نية الإشارة إلى شيء ما.
إن عبارة «هل كنت تعتزم خنقه؟» تعد بشكل واضح تساؤلا عن نواياك، أو ما تعتزمه في عقلك في تلك اللحظة، وكذلك الحال في عبارة «لقد كنت أعنيك أنت، وليس هي.» أما فيما يتعلق بكون اللقاء قد بدا «مخططا» بشكل ما، فهذا يعني أن اللقاء يبدو مقصودا بشكل غامض، ربما من تدبير القدر. أما عبارة «لافينيا تعني خيرا»، فتعني أن لديها نوايا طيبة، وإن كانت على الأرجح لا تترجم دائما إلى فعل عملي. في حين تعني عبارة «كان من المعتزم أن تعيد كورديليا المثقاب» أننا كنا نخطط أو (نتوقع) أنها ستفعل ذلك. أما عبارة «الأوكرانيون يعنون العمل»، فهي عبارة تتحدث عن أهدافهم أو نواياهم الجادة. أما عبارة «هذه اللوحة مقدر لها ألا تقدر بثمن»، فهي مرادفة تقريبا لعبارة «يعتقد أنها لا تقدر بثمن»، بمعنى أن هذا هو «رأي» ذوي الخبرة. وهذا المعنى لا يقع ضمن مفهوم الاعتزام والنية إلى حد كبير، ولكن معظم الأمثلة الأخرى تقع ضمنها.
على النقيض من ذلك، لا تشير عبارتا «هذه السحب تعني هطول الأمطار» و«صابون الاستحمام برائحة اللافندر يعني الكثير له» إلى نوايا أو حالات نفسية. فالسحب لا «تنتوي الإشارة» إلى الأمطار؛ ولكنها فقط تشير إليها. ولما كان صابون الاستحمام برائحة اللافندر لا عقل له، فإن القول بأنه يعني الكثير لشخص ما يعني ببساطة أنه يمثل له الكثير. ونفس القاعدة تنطبق على عبارة «ما معنى هذه العلاقة المشينة؟» والتي تعد تساؤلا عما تدل عليه العلاقة. ولاحظ أن المقصود هنا ليس ما يحاول الأفراد المنخرطون في العلاقة الإشارة إليه، بل دلالة الموقف نفسه. في حين أن عبارة «إن ثورته العارمة لا تعني شيئا» تعني أنها لا تدل على شيء، ولكن ليس بالضرورة ألا يكون الشخص بصدد محاولة الإشارة إلى شيء ما بها. أما الفئة الثالثة - كما رأينا - فلا تشير إلى النية فقط، أو إلى الدلالة فقط، ولكنها تشير إلى اعتزام الدلالة على شيء. وتشمل هذه الفئة أسئلة على غرار «ماذا كانت تعني بالحمار العجوز المرقط؟» أو «هل كان حقا يعني سمكا؟»
من الأهمية بمكان التمييز بين المعنى كمدلول محدد، والمعنى كفعل يعتزم الدلالة على شيء. فكلا المعنيين يمكن إيجادهما في جملة مثل «لقد كنت أعني (أقصد) طلب سمك، ولكن الكلمة التي خرجت مني فعليا تشير إلى السم.» إن سؤال «ماذا تعني؟» يعني «ما الذي كنت تعتزم الإشارة إليه؟» بينما سؤال «ماذا تعني الكلمة؟» يستفسر عن القيمة الدلالية التي تحملها الكلمة في سياق منظومة لغوية معينة. وأحيانا ما يشير دارسو اللغة إلى دلالتي «المعنى» المختلفتين على أنهما تعنيان «الفعل» و«البنية». وفيما يتعلق بالحالة الأخيرة، فإن معنى أية كلمة هي مسألة بنية لغوية؛ ومن ثم فإن كلمة «سمك» تتخذ معناها من موضعها في سياق منظومة لغوية، وعلاقاتها بالكلمات الأخرى داخل هذه المنظومة، وما إلى ذلك. وعلى ذلك، فإذا كان للحياة معنى، فقد يكون معنى نحن أنفسنا ما نضفيه عليها بنشاط، فيما يشبه استثمار مجموعة من العلامات السوداء في صفحة ما بمعنى ما؛ أو قد يكون معنى تملكه بالفعل على أي حال رغم نشاطنا، وهو ما يعد أكثر تطابقا مع فكرة المعنى كبنية أو وظيفة.
غير أنه مع مزيد من التركيز، يتضح أن هاتين الدلالتين لكلمة «معنى» ليستا مختلفتين في النهاية. فالواقع أن بمقدورك أن تتخيل وجود علاقة بينهما أشبه بالعلاقة بين الدجاجة والبيضة. إن كلمة «سمك» تعني مخلوقا بحريا حرشفيا، ولكن ذلك يرجع فقط إلى أن هذه هي الطريقة التي استخدمت بها الكلمة من قبل عدد لا حصر له من مستخدمي اللغة. فيمكن النظر إلى الكلمة في حد ذاتها كمستودع أو ترسب لمجموعة كاملة من العمليات التاريخية. ولكن على النقيض، يمكنني فقط استخدام كلمة «سمك» للإشارة إلى مخلوقات بحرية حرشفية؛ لأن هذا هو ما تدل عليه الكلمة في سياق بنية لغتي.
إن الكلمات ليست مجرد قشور ميتة في انتظار متحدثين أحياء لبث معنى فيها. فما يمكن أن أعنيه (بمعنى أعتزم قوله) مقيد بالمعاني التي أجدها متاحة في اللغة التي أتحدث بها. فلا يمكن أن «أعني» مجموعة من الكلمات ليس لها معنى على الإطلاق، رغم أنه بإمكاني أن أشير بها إلى شيء ما، كما سنرى بعد قليل. ولا يمكنني كذلك أن أعتزم قول شيء خارج تماما عن نطاق لغتي، مثلما لا يستطيع شخص أن يعتزم أن يصبح جراح مخ إذا لم يكن لديه مفهوم جراح المخ من الأساس. فلا يمكنني أن أجعل كلمة تعني ما أريد أن تعنيه. حتى لو استدعيت صورة ذهنية نابضة بالحياة لسمكة رنجة مدخنة بينما أنطق كلمات عبارة «منظمة الصحة العالمية»، فإن ما قلته يظل معناه «منظمة الصحة العالمية».
إذا فكرنا في المعنى باعتباره وظيفة الكلمة داخل منظومة لغوية، فمن الممكن أن نقول عن أي شخص استطاع إتقان هذه المنظومة إنه يفهم معنى أية كلمة. فإذا سألني أي شخص كيف عرفت معنى عبارة «الطريق إلى جهنم»، فقد يكون كافيا أن أجيب بأنني أتحدث اللغة التي قيلت بها الجملة. ولكن هذا لا يعني فهمي لاستخدام معين للعبارة، إذ يمكن أن تستخدم الكلمة في ظروف مختلفة للإشارة إلى أشياء مختلفة؛ ولمعرفة ما «تعنيه» في «هذا» الإطار، أحتاج لأن أضع في اعتباري المعنى المقصود من قبل متحدث معين أو متحدثين بعينهم في سياق معين. باختصار سوف أحتاج لمعرفة كيفية تطبيق العبارة على المستوى المادي، مع العلم بأن مجرد معرفة المعنى المعجمي للكلمات الفردية ليس كافيا هنا. فما تشير إليه كلمة أو تعرفه في سياق معين ليس من السهل تحديده دائما. فقد كانت إحدى كلمات الأستراليين الأصليين للدلالة على كلمة
alcohol
هي كلمة
ducking ؛ لأن السكان الأصليين التقطوا الكلمة لأول مرة في سياق تناول أنخاب الولاء «للملك» من قبل قادتهم الاستعماريين.
من الممكن أن أقول عن شخص ما: «لقد فهمت كلماته، ولكنني لم «أع» كلماته.» فقد كنت على دراية كافية بالمدلولات التي كان يستخدمها، ولكنني لم أستوعب كيفية استخدامه لها؛ أي ما كان يشير إليه، ونوع التوجه الذي كان يلمح إليه، وما أرادني أن أفهمه بكلماته، ولماذا أراد أن أفهم ذلك، وما إلى ذلك. ومن أجل تبين كل ذلك، أحتاج لوضع كلماته مجددا في سياق معين؛ أو سأحتاج لفهمها كجزء من قصة، وهو ما يعد مشابها لما سبق. والتعرف على المعنى المعجمي للكلمات لن يفيد كثيرا في هذا الصدد. ومن ثم فإننا نتحدث في تلك الحالة الأخيرة عن المعنى كفعل؛ كشيء يفعله الناس، أو كممارسة اجتماعية، أو كمجموعة متنوعة من الطرق، التي تتسم أحيانا بالغموض والتناقض، والتي يوظفون بها دلالة بعينها في شكل معين من أشكال الحياة.
إذن ما الضوء الذي تلقيه تلك المعاني المختلفة لكلمة «معنى» على سؤال «ما معنى الحياة؟» أولا: يوجد اختلاف واضح بين «ما معنى الحياة؟» وبين «ما معنى «بوتلاتش»؟» فالسؤال الأول يستفسر عن معنى ظاهرة، فيما يستفسر الثاني عن معنى كلمة. إن كلمة «حياة» ليست هي مصدر الحيرة والإرباك بالنسبة لنا، وإنما الشيء نفسه. من جانب آخر، يمكننا أن نلاحظ أنه عندما يشكو أحدهم قائلا «حياتي بلا معنى»، فإنه لا يقصد أنها بلا معنى مثلما لا يحمل هذا التركيب *&$£
”
أي معنى. فانعدام المعنى هنا أقرب لانعدام المعنى في عبارة مثل «في سبيل تأكيدنا بأقصى قدر من الإخلاص على خالص اهتمامنا المتسم بالاحترام طوال الوقت، سوف نظل خدمك المطيعين الأوفياء ...» إن الأشخاص الذين يرون الحياة بلا معنى لا يشكون من عجزهم على تحديد نوعية المادة التي تتكون منها أجسامهم، أو من عدم معرفتهم ما إذا كانوا في ثقب أسود أم تحت المحيط. فالرجال والنساء ممن تفتقد حياتهم للمعنى في هذا الإطار للكلمة مصابون باضطراب عقلي ، وليس مجرد اكتئاب. في الواقع إنهم يعنون أن حياتهم تفتقد «المدلول»، وافتقاد المدلول يعني افتقاد الغاية والجوهر والهدف والجودة والقيمة والاتجاه. ومثل هؤلاء لا يقصدون أنهم عاجزون عن فهم الحياة، ولكنهم يقصدون أنهم لا يملكون شيئا يعيشون من أجله. فليس المقصود أن وجودهم غامض وأجوف. ولكن إدراك هذا الخواء يتطلب قدرا كبيرا من التفسير، ومن ثم قدرا كبيرا من المعنى. إن عبارة «حياتي بلا معنى» هي عبارة وجودية، وليست عبارة منطقية. والشخص الذي تبدو حياته بلا معنى يكون أقرب للوصول لحبوب الانتحار من الوصول للمعجم.
إن ماكبث في مسرحية شكسبير ليس مضطرا للانتحار، إذ إن غريمه ماكدوف يرسله إلى الخلود بطعنة سيف؛ ولكن الغاصب الاسكتلندي ينتهي به الحال في هذه الحالة الذهنية اليائسة: ... لتنطفئي، لتنطفئي أيتها الشمعة قصيرة الأجل!
فما الحياة سوى ظل عابر، ممثل بائس
يختال ويقلق في ساعته على خشبة المسرح
ثم لا يسمع صوته للأبد؛ إنها حكاية
يرويها أحمق ملؤها الصخب والغضب
ولكنها بلا دلالة.
الفصل 5، المشهد 5
إن الفقرة في مضمونها محيرة أكثر مما تبدو في ظاهرها. فماكبث في الواقع يشكو من جانبين للحياة - وقتيتها وخوائها - وبإمكانك أن ترى الصلة بين الاثنين. فالإنجازات تفرغ من مضمونها من خلال حقيقة أنها تزوي وتضمحل بسرعة بالغة. غير أن وقتية الأشياء ليست بالضرورة أن تكون أمرا مأساويا: فمن الممكن النظر إليها ببساطة كجزء من طبيعتها، ليس له أي تداعيات محزنة حتميا. فإذا كانت مآدب العشاء الفاخرة تزول، فكذلك الحال بالنسبة للطغاة وآلام الأسنان. هل يمكن لحياة إنسان ليس لها حدود وتطول إلى ما لا نهاية، أن يكون لها شكل ذا معنى؟ ألا يعد الموت في هذه الحالة واحدا من الشروط المسبقة لكي يكون للحياة معنى من الأساس؟ أو هل يمكن لحياة كهذه أن تظل ذات معنى بدلالات أخرى للكلمة خلاف «امتلاك شكل ذا معنى»؟ على أية حال، إذا كانت الحياة حقا زائلة إلى هذا الحد، فلماذا ينبغي أن يضطرك مجرد التفكير في هذا لأن تجعلها أكثر زوالا ووقتية (لتنطفئي، لتنطفئي أيتها الشمعة قصيرة الأجل!)
شكل 2-1: جون جيلجود في دور ماكبث مذعورا. (© Hulton Archive/Getty Images)
وعلى غرار عرض درامي - مثلما توحي السطور - لا يستمر الوجود الإنساني طويلا. ولكن الصورة المسرحية تهدد بتقويض الفكرة الكامنة وراءه، إذ إن من طبيعة أية مسرحية ألا تستمر لفترة طويلة، فنحن لا نرغب في الجلوس في قاعة المسرح للأبد. فلماذا إذن لا تكون فكرة قصر الحياة مقبولة بالقدر ذاته؟ أو ربما - في هذا الإطار - مقبولة بقدر أكبر؛ بما أن قصر الحياة أمر طبيعي، بينما الدراما ليست كذلك؟ إلى جانب ذلك، فإن حقيقة خروج الممثل من المسرح لا يلغي كل شيء فعله أو قاله على خشبة المسرح. بل على العكس، فخروجه جزء من هذا المعنى؛ فهو لا يغادر المسرح بشكل عشوائي. وفي هذا الإطار أيضا، تتعارض الصورة المسرحية مع فكرة أن الموت يضعف إنجازاتنا ويوقفها أيضا.
بالتأكيد ليس من باب المصادفة أن شكسبير عندما يضطر لاستدعاء رؤية سلبية في ذهنه، فإنه يقدم لنا شخصية ممثل ناشئ يبالغ في أدائه المسرحي. فالرجال في النهاية هم من دمروا سمعته ورصيده البنكي أغلب الظن. ومثل ممثل بائس (و«بائس» هنا ربما تعني «غير كفء» و«مثير للشفقة» على حد سواء)، تفتقر الحياة للمعنى؛ لأنها مصطنعة ومزيفة ومتخمة عن آخرها ببلاغة محملة بالنذر والتي هي في الحقيقة مجرد هراء. إن أي ممثل لا «يعني» بالفعل ما يقوله، وكذلك الحال بالنسبة للحياة. ولكن أليست هذه المقارنة تزييفية؟ أليست هذه مجرد نظرية المعنى الخاصة ب «نية القول»، والتي - وكما رأينا - تنطبق بشكل غير مؤكد فقط على الحياة في المقام الأول؟
وماذا عن عبارة «إنها حكاية يرويها أحمق»؟ تعد هذه العبارة - من جانب ما - عبارة عزاء ومواساة. فقد تكون الحياة حمقاء وسخيفة، ولكنها على الأقل تشكل قصة تتضمن بنية أولية غير متطورة من نوع ما. قد تكون محرفة ومنقوصة، ولكن هناك راو وراءها، حتى وإن كان راويا أحمق. في إنتاج تلفزيوني لمحطة بي بي سي للمسرحية قبل بضع سنوات، لم يلق الممثل الذي يؤدي دور ماكبث هذه السطور الختامية بتمتمة متقطعة، وإنما ألقاها في دفقة غاضبة من الاستياء، صارخا بها في غضب عارم أمام كاميرا رأسية قصد بها بشكل واضح أن تحل محل الإله. لقد كان الإله هو ذلك الراوي الأحمق. وكما هو الحال بالنسبة لرؤية شوبنهاور للعالم والتي سنتناولها هاهنا، كان هناك بالفعل مؤلف لهذه المسرحية الهزلية الرهيبة، ولكن ذلك لم يكن يعني أنها مفهومة. على العكس، فقد أضفى ذلك لمحة مقززة من السخرية على سخافتها ولا معقوليتها. غير أن ثمة غموضا هنا: هل الحكاية تافهة بطبيعتها، أم أنها تافهة لأن من رواها أحمق؟ أم الاثنين معا؟ قد توحي الصورة ضمنا - ربما دون رغبة كبيرة في القيام بذلك - بأن الحياة هي الشيء الذي «يمكن» أن يكون له معنى منطقي، مثلما يمكن أيضا اعتبار أن كلمة «حكاية» توحي بذلك. فكيف يمكن لشيء لا يدل على شيء بكل ما في الكلمة من معنى ويظل يشكل حكاية؟
وعلى غرار الخطب الرنانة، تبدو الحياة ذات معنى ولكنها في الواقع مملة وسخيفة. وكما هو الحال مع ممثل أخرق، تدعي الحياة أنها ذات معنى، ولكنها تفتقر إليه. فموجة من الدلالات (ملؤها الصخب والغضب) من شأنها إخفاء غياب المدلولات (ولكنها بلا دلالة). ومثل قطعة بلاغية رديئة، فإن الحياة هي مسألة ملء للفراغ الذي هو الحياة ذاتها بشكل مبهرج وصاخب؛ فهي خادعة وعديمة القيمة كذلك. لذا فإن ما على المحك هنا هو التحرر المرير من الأوهام، مثلما تتحول طموحات الملك الزائف السياسية إلى رماد لا قيمة له. غير أن الصور المجازية - مرة أخرى - تعد خادعة جزئيا، فالممثلون في النهاية أشخاص حقيقيون كأي أشخاص آخرين. فهم يبتكرون قصصا على نحو صادق، وخشبة المسرح التي يمارسون عليها ذلك حقيقية بالقدر نفسه. (فالاستعارة - ربما على عكس مقاصدها - توحي ضمنا بأن العالم (أو خشبة المسرح) وكذلك الممثل ليس لهما أساس في الواقع، بينما يمكنك دائما أن تدعي أن الحياة الإنسانية زائفة ولكن بيئاتها المادية المحيطة ليست كذلك). والممثلون الذين «لم يسمع صوتهم للأبد» قابعون في كواليس المسرح، وليس في القبور.
يوجد على الأقل نظريتان لانعدام المعنى تظهران في القطعة، إحداهما وجودية وتتمثل في كون الوجود الإنساني ما هو إلا مسرحية هزلية أو جوفاء. فهناك معان جمة، ولكنها خادعة. أما النظرية الأخرى، فيمكن أن نطلق عليها نظرية دلالية، توحي ضمنا بأن الحياة لا معنى لها كشأن قطعة من الثرثرة المبهمة. تلك هي الحكاية التي يرويها أحمق، دون أن يكون لها أي دلالة. فالحياة مبهمة وتافهة، إلا أنك في الواقع لا تستطيع تفعيل المعنيين معا؛ لأنه لو كان الوجود مبهما بحق، لاستحال تمرير أحكام وآراء أخلاقية بشأنه، مثل الحكم بأنه خال من المدلول، مما يجعل الأمر أشبه برفض كلمة من لغة أجنبية باعتبارها هراء، في حين أننا لم نستطع حتى ترجمتها.
إذا كان السؤال الخاص بمعنى الحياة ليس كمحاولة فهم قطعة من الهراء واللغو، فإنه أيضا ليس كسؤال مثل «ما معنى كلمة
Nacht
في الإنجليزية؟» إنه ليس كما لو كنا نطلب مكافئا في منظومة لغوية لمصطلح في منظومة أخرى، مثلما نفعل حين نطلب ترجمة من هذا النوع. في السلسلة الروائية «دليل المسافر إلى المجرة»، يكتب دوجلاس آدامز عن كمبيوتر يطلق عليه «التفكير العميق» والذي يطلب منه التوصل للإجابة النهائية للغز الكون، ويستغرق 7,5 مليون عام لتنفيذ المطلوب، وفي النهاية يتوصل للإجابة: «42». بعد ذلك تعين تصنيع كمبيوتر أكبر للتوصل للسؤال الفعلي. ويذكرنا هذا بالشاعرة الأمريكية جيرترود شتاين، التي أشيع عنها أنها ظلت تسأل مرارا وهي على فراش الموت «ما الإجابة؟» قبل أن تتمتم في النهاية «ولكن ما هو السؤال؟» ويبدو أن التساؤل عن سؤال مطروح بالفعل بينما يرفرف الإنسان على حافة العدم رمز مناسب للوضع الحديث.
الشيء المضحك بشأن رقم «42» الذي توصل إليه كمبيوتر التفكير العميق لا يكمن فقط في تفاهته، وهو مفهوم سوف نتناوله لاحقا. ولكنه يكمن أيضا في لامعقولية افتراض أن رقم «42» يمكن حتى أن يعتد به كإجابة للسؤال، والذي سيكون أشبه بتخيل أن «عبوتين من البطاطس المقلية وبيضة مسلوقة» يمكن الاعتداد بها كإجابة لسؤال «ما الذي يحتمل أن تعده الشمس ؟» فنحن هنا بصدد التعامل مع ما يطلق عليه الفلاسفة خطأ التصنيف، مثل السؤال عن كم عدد الانفعالات التي يتطلبها إيقاف شاحنة، وهو ما يعد أحد الأسباب وراء كونها مضحكة. ثمة سبب آخر لكونها مضحكة وهو أننا بذلك نحصل على حل ملتبس وغير قاطع لسؤال طالما تاق الكثيرون لإيجاد إجابة له، ولكنه حل لا يمكننا الانتفاع به إطلاقا. فرقم «42» ببساطة لا يتناغم مع أي شيء. إنه ليس إجابة يمكننا أن نجد لها استخداما. قد يبدو كحل جازم لمشكلة، ولكنه حقا أشبه بالاكتفاء بقول كلمة «بروكلي» فقط.
ثمة جانب كوميدي آخر لتلك الإجابة وهو أنه يعامل سؤال «ما معنى الحياة؟» وكأنه من نفس نوعية الأسئلة على غرار «ما معنى كلمة
Nacht ؟» فمثلما تنشأ علاقة تكافؤ بين كلمة
Nacht
الألمانية والكلمة الإنجليزية
night ، كذلك توحي فانتازيا آدامز الهزلية بأن الحياة يمكن ترجمتها إلى منظومة دلالية أخرى (ولكنها منظومة رقمية هذه المرة وليست لفظية)، وهو ما يؤدي إلى التوصل إلى رقم يدل على معنى الحياة. أو قد يكون الأمر وكأن الحياة لغز أو أحجية أو كتابة مشفرة يمكن فك شفرتها مثل لغز كلمات متقاطعة لتقديم هذه الإجابة السريعة المفاجئة. إن الاختباء خلف الدعابة هو فكرة الحياة كمشكلة، بمعنى مسألة رياضية لها حل شأنها شأن المسائل الأخرى. فهو يفعل معنيين مختلفين لكلمة «مسألة» معا لإحداث تأثير كوميدي: لغز رياضي أو كلمات متقاطعة وظاهرة إشكالية مثل الوجود الإنساني. إن الأمر يبدو كما لو كان من الممكن فك شفرة الحياة في لحظة من لحظات التجلي والاكتشافات المفاجئة، مما يسمح لكلمة خطيرة - مثل سلطة، جينيس، حب، جنس، شيكولاتة - بأن تومض فجأة عبر إدراكنا الواعي للحظة آسرة.
هل يمكن لكلمة «معنى» في عبارة «معنى الحياة» أن تحوي شيئا على غرار المعنى الذي تحويه في فئة «ما يقصد شخص ما الإشارة إليه»؟ بالتأكيد لا، ما لم تكن (على سبيل المثال) تؤمن بأن الحياة هي كلمة الإله؛ لافتة أو حديث يحاول من خلاله أن ينقل لنا شيئا مهما بالنسبة لنا. وهذا هو بالضبط ما كان الفيلسوف الأيرلندي الأسقف بيركلي يؤمن به. وفي تلك الحالة، يشير معنى الحياة إلى «فعل» المعنى؛ إلى أية دلالة يقصد الإله (أو قوة الحياة، أو روح العصر) التعبير عنها من خلاله. ولكن ماذا لو كان أحدهم لا يؤمن بأي من هذه الكيانات المهيبة؟ هل يعني هذا أن الحياة لا بد وأنها عديمة المعنى؟
ليس بالضرورة؛ فالماركسيون - على سبيل المثال - عادة ما يكونون ملحدين، ولكنهم يؤمنون بأن الحياة الإنسانية - أو ما يفضلون تسميته ب «التاريخ» - لها معنى من حيث إنها تظهر نمطا ذا دلالة. كذلك يرى من يناصرون ما يطلق عليه «نظرية الويج» عن التاريخ، والتي تقرأ قصة الإنسانية بوصفها التكشف المتواصل للحرية والتنوير، وترى الحياة الإنسانية كذلك بوصفها تشكل نمطا ذا دلالة، وإن كان نمطا لم يمسه أي كيان أسمى. صحيح أن تلك السرديات الكبرى لم تعد رائجة هذه الأيام، ولكنها مع ذلك تبرز فكرة أنه من الممكن أن تؤمن بانعدام معنى الحياة دون ادعاء أن هذا المعنى قد نسب إليها عن طريق فاعل محتمل. ولا شك أن كلمة معنى في إطار النمط ذي الدلالة ليست ككلمة «معنى» في إطار فعل انتواء قول شيء ما، أو في إطار أن الإشارة الحمراء تعني «قف». غير أن من المؤكد أننا أحيانا ما نقصد شيئا واحدا فقط بكلمة «معنى». فلو لم يكن في الحياة الإنسانية أنماط ذات دلالة، حتى لو لم يكن هناك فرد واحد يقصدها، لتوقفت مجالات كاملة من العلوم الإنسانية مثل علم الاجتماع وعلم الإنسان. فقد يشير عالم ديموجرافي إلى أن توزيع السكان في منطقة معينة «له معنى»، على الرغم من أن لا أحد ممن يعيشون في تلك المنطقة قد يكون واعيا بهذا النمط.
إذن من الممكن الاعتقاد بأن هناك قصة ذات دلالة راسخة في الواقع، رغم عدم وجود مصدر إلهي لها. فلم تكن الروائية جورج إليوت - على سبيل المثال - مؤمنة دينيا، ولكن رواية مثل «ميدل مارش» - شأنها شأن الكثير من الأعمال الأدبية الواقعية - تفترض أن هناك مقصدا ذا معنى متأصلا في التاريخ ذاته. إن مهمة الكاتب الواقعي الكلاسيكي لا تكمن في ابتداع قصة خرافية بقدر ما تكمن في تفسير المنطق الخفي لقصة راسخة في الواقع. قارن ذلك بمؤلف معاصر مثل جويس، الذي يرى أن النمط يجب أن يكون مجسدا داخل الكون وليس مستخرجا منه. فرواية «أوليسيس» لجويس مبنية بشكل تام ومعقد على أساس الأسطورة الإغريقية المشار إليها في عنوانها؛ ولكن جزءا من الدعابة يكمن في أن أي أسطورة أخرى ربما كانت لتفيد بنفس القدر في تسريب مظهر من مظاهر النظام إلى عالم فوضوي خارج نطاق التوقعات.
في هذا المعنى الفضفاض لكلمة «ذي معنى» والذي مفاده «إفشاء نية ذات دلالة»، يمكننا أن نتحدث عن معنى شيء ما دون افتراض أن هذا المعنى له من أبدعه؛ وتلك نقطة تستحق الإشارة إليها حين يتعلق الأمر بمعنى الحياة. ربما لا يكون الكون قد صمم عن وعي، وبالتأكيد لا يكافح من أجل قول أي شيء، ولكنه أيضا ليس فوضويا فحسب. بل على العكس، فقوانينه الأساسية تظهر جمالا وتناسقا وتنظيما قادرين على إبكاء العلماء. ومن ثم فإن فكرة أن العالم إما أنه يمنح معنى من قبل الإله، أو أنه عشوائي وتافه تماما، تعد تضادا زائفا. فحتى هؤلاء الذين يؤمنون بأن الإله هو المعنى المطلق للحياة ليس بالضرورة أن يؤمنوا بأنه بدون هذا الأساس الإلهي الوطيد، لما كان هناك معنى متماسك على الإطلاق.
إن الأصولية الدينية هي ذلك القلق العصابي من فكرة أنه دون وجود «معنى المعاني» فليس هناك معنى على الإطلاق، وهي ببساطة الجانب الآخر للعدمية. وأساس هذا الافتراض هو تلك النظرة للحياة باعتبارها بيتا من ورق: أزل الورقة التي بالأسفل، وسوف ينهار ذلك البناء الهش بأكمله. والشخص الذي يفكر بهذا الأسلوب هو مجرد أسير لصورة مجازية. والواقع أن الكثير جدا من الذي يعتنقون إيمانا دينيا يرفضون هذه الرؤية؛ فما من شخص مؤمن دينيا يتسم بالحس المرهف والذكاء يتخيل أن غير المؤمنين غارقون لا محالة في وحل التفاهة واللامعقولية، وليسوا ملزمين أيضا بأن يؤمنوا بأن وجود إله يعني أن يصبح معنى الحياة واضحا بشكل جلي. على العكس؛ فبعض ممن لديهم إيمان ديني يؤمنون بأن وجود إله يجعل العالم أكثر غموضا وليس أقل. فإذا كان لدى الإله هدف بالفعل، فهو هدف غير مفهوم إطلاقا. وفي هذا الإطار لا يكون الإله هو الإجابة لأية مشكلة؛ فهذا يميل إلى تعقيد الأشياء بدلا من جعلها بديهية وواضحة بذاتها.
في معرض دراسته لكل من الكائنات الطبيعية والأعمال الفنية، كتب الفيلسوف إيمانويل كانط عنها في كتابه «نقد ملكة الحكم» باعتبارها تعرض ما أسماه «الغائية دون غاية». فجسم الإنسان ليس له غاية، إلا أن بإمكانك الحديث عن أجزائه المتنوعة باعتبارها ذات «معنى» من حيث موضعها داخل الكل. وتلك ليست مدلولات نقوم باختيارها واتخاذ قرار بشأنها بأنفسنا. فلا أحد قام بتصميم قدم الإنسان، ولا شك أن الحديث عن «الغاية» منها المتمثلة في مساعدتنا على الركل والسير والركض سيكون بمثابة إساءة استخدام للغة. ولكن القدم لها وظيفة داخل النظام الكلي للجسم، ومن ثم سيكون منطقيا بالنسبة لشخص يجهل التشريح الإنساني أن يسأل عن دلالتها. وكما أن من التعريفات التي نعرف بها كلمة «معنى» أنه وظيفة أية كلمة ضمن منظومة ما، كذلك نستطيع أن نقول بتحريف بسيط للغة إن القدم لها معنى داخل الجسم ككل، وإنها ليست مجرد سديلة أو مفصل عشوائي في نهاية الساق.
لنأخذ مثالا آخر: لن يكون مستغربا لدرجة أن تسأل «ما معنى تلك الضوضاء؟» عندما تسمع صوت الرياح وهي تعصف بشكل غريب عبر الأشجار. من المؤكد أن الرياح لا تحاول التعبير عن أي شيء، ولكن صوتها «يدل» على ذلك. ولإرضاء فضول المتحدث أو التخفيف من انزعاجه، نمضي في سرد قصة صغيرة عن ضغط الهواء، وعلم السمع، وما إلى ذلك. مرة أخرى، ليست هذه دلالة نستطيع اتخاذ قرار بشأنها. بل سيكون ممكنا أن نقول عن شكل عشوائي لمجموعة من الحصى إنها تعني شيئا؛ كأن نقول مثلا إنها ترمز بلا قصد لعبارة «كل القوة للسوفييت»، على الرغم من أنه لم يضعها أحد هناك لهذا الهدف.
1
ويمكن لشيء حدث مصادفة - مثلما فعلت الحياة على ما يبدو - أن يوحي بوجود تصميم مقصود. فكلمة «مصادفة» لا تعني «مبهم». فحوادث السيارات ليست مبهمة؛ فهي ليست أحداثا غريبة تفتقر تماما للإيقاع أو المنطق، ولكنها نتيجة لأسباب معينة. كل ما في الأمر أن هذه النتيجة لم تكن مقصودة من قبل أطرافها. ربما تبدو عملية ما صدفة في وقت حدوثها، ولكنها تندرج تحت نمط ذي دلالة بأثر رجعي. وقد كانت تلك هي نظرة هيجل لتاريخ العالم تقريبا. فقد يبدو بلا معنى إلى حد ما بينما نعيشه، ولكنه من منظور هيجل له معنى منطقي تماما عندما تنظر «روح العصر» خلفها - إن جاز التعبير - وتلقي نظرة إعجاب على ما صنعته. ويرى هيجل أنه حتى حماقات التاريخ وطرقاته المسدودة تساهم في النهاية في ذلك المقصد الرائع. أما الرؤية المضادة لتلك الرؤية، فهي تلك الكامنة في الدعابة القديمة «حياتي مليئة بالشخصيات الرائعة، ولكن يبدو أنني عاجز عن فهم الحبكة الدرامية لها.» فقد تبدو ذات معنى من لحظة لأخرى، ولكن لا يبدو أنها تتراكم معا لتكون معنى كاملا.
كيف يمكننا أيضا أن نفكر بشأن المعاني غير المقصودة؟ قد تقوم فنانة برسم كلمة «خنزير» على لوحتها القماشية، ليس للتعبير عن مفهوم «الخنزير»؛ ليس لكي «تعنيه»، ولكن ببساطة لافتتانها بشكل الكلمة. غير أن الشكل سوف يعني «خنزيرا» رغم ذلك. على النقيض من ذلك، نجد الكاتب الذي يقحم قدرا كبيرا من الرطانة المبالغة غير المفهومة في أعماله. فلو كان لذلك هدف فني، لربما نقول: إن الكلمات ذات معنى من حيث إن لها دلالة، حتى لو كانت بلا معنى بمعنى الكلمة. فقد تدل مثلا على هجوم من الحركة الدادائية على الوهم الرتيب بثبات المعنى. قد «يقصد» المؤلف شيئا ما بهذا التصرف، حتى لو كان ما «قصد قوله» لا يمكن نقله والتعبير عنه إلا بكلمات ليس لها أي معنى في إطار منظومته اللغوية.
نحن نتحدث عن شبكة المعاني المعقدة لإحدى مسرحيات شكسبير دون الافتراض دائما أن شكسبير كان يفكر بهذه المعاني في رأسه في نفس لحظة تدوينه للكلمات. فكيف يمكن لأي شاعر لديه مثل هذا الخيال الخصب المذهل أن يضع في ذهنه كل الدلالات الممكنة لمعانيه؟ والقول بأن «هذا معنى محتمل للعمل» أحيانا ما يعني أن هذا هو الشكل الذي يمكن به تفسير معنى العمل بشكل منطقي ومعقول. فما كان المؤلف «يقصده» بالفعل ربما يكون غير قابل للاستعادة، حتى بالنسبة له. والكثير من المؤلفين أظهرت لهم أنماط من المعنى في أعمالهم لم يكونوا يقصدون وضعها بها. وماذا عن المعاني اللاشعورية التي لم تقصد عن عمد كما يتضح من اسمها؟ يعلق فيتجنشتاين في هذا الصدد بقوله: «إنني أفكر بقلمي حقا؛ لأن عقلي غالبا لا يعرف شيئا عما تكتبه يدي.»
2 •••
مثلما يمكن الاعتقاد بأن شيئا ما - حتى «الحياة» ذاتها - قد يكون له مقصد أو اتجاه ذو دلالة لم يقصده أي شخص، يمكنك أن تعتقد أن الوجود الإنساني فوضوي وبلا معنى، ولكن هذا أيضا كان متعمدا في الواقع. ربما يكون ذلك نتاج قدر حاقد أو إرادة خبيثة. وبشكل عام، تعد هذه هي رؤية الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور، ذلك المفكر شديد التشاؤم حتى إن أعماله تمثل أحد الروائع الهزلية العظيمة في الفكر الغربي، وإن كان ذلك بشكل غير متعمد إلى حد كبير (بل إن هناك شيئا مضحكا بشأن اسمه، إذ يجمع بين اسم «شوبنهاور» الفخم الذي يملأ الفم، وبين اسم «آرثر» الأكثر شيوعا). يرى شوبنهاور أن الواقع بأسره (وليس الحياة الإنسانية وحدها) هي النتاج العارض لما يطلق عليه «الإرادة». والإرادة - التي تعد قوة مفترسة عنيدة - لديها نوع من التعمد بشأن ذلك؛ ولكن إذا كانت تولد كل شيء قائم هناك، فإن ذلك لا يرجع لسبب أنبل من الحفاظ على وجودها. فعن طريق إعادة إنتاج الواقع، تعمل الإرادة على إعادة إنتاج نفسها، وإن كان ذلك ليس له أدنى هدف. إذن هناك بالفعل جوهر أو آلية مركزية للحياة؛ ولكن هذه حقيقة مريعة أكثر من كونها سامية، إذ إنها تخلق فوضى ودمارا وتعاسة أبدية. فليست كل السرديات الكبرى مثالية حالمة.
ولما كانت الإرادة حرة تماما في تقرير مصيرها، فإن غايتها تكمن في نفسها بشكل تام، مثل رسم ساخر خبيث للإله. وهذا يعني أنها ببساطة تستخدمنا وبقية الخلق لخدمة أغراضها الغامضة الخاصة. قد نعتقد أن حياتنا لها قيمة ومعنى؛ ولكن الحقيقة هي أننا متواجدون كمجرد أدوات بائسة وضعيفة لإعادة إنتاج الذات الأعمى وعديم الجدوى للإرادة. غير أن تحقيق ذلك يحتم على الإرادة أن تخدعنا باستدراجنا نحو افتراض أن حياتنا لها معنى بالفعل؛ وهي تفعل ذلك عن طريق تطوير آلية خرقاء للخداع الذاتي بداخلنا تعرف بالوعي، والتي تجيز لنا التوهم بامتلاك غايات وقيم خاصة بنا، وتغرر بنا للاعتقاد بأن شهيتنا ملك لنا كذلك. وفي هذا الإطار، يكون كل الوعي في نظر شوبنهاور وعي زائف. ومثلما كان يقال عن اللغة يوما ما إنها موجودة حتى يمكننا إخفاء أفكارنا عن الآخرين، كذلك يتواجد الوعي لكي يخفي عنا العبث المطلق لوجودنا. وإلا لكنا تخلصنا من أنفسنا بالتأكيد ونحن نواجه المشهد الشامل لدمار وجدب ما يعرف بالتاريخ الإنساني. غير أنه حتى الانتحار يمثل انتصارا خبيثا للإرادة، التي يتضح خلودها بشكل درامي عند مقارنتها بفنائية الدمى التي تحركها من البشر.
شكل 2-2: آرثر شوبنهاور، عابسا كرؤيته للحياة. (© Hulton Archive/Getty Images)
ومن ثم فإن شوبنهاور ينتمي لسلالة من المفكرين يعتبرون أن الوعي الزائف، بعيدا عن كونه ضبابا ينقشع بسطوع الضوء المبهر للعقل، جزء لا يتجزأ من وجودنا. وقد كان نيتشه - الذي تأثر في كتاباته الأولى بشوبنهاور - مفكرا آخر من المنتمين لتلك النوعية. وقد كتب في كتابه «إرادة القوة»: «الحقيقة قبيحة؛ ونحن نتمسك بالفن خشية أن نفنى من الحقيقة.»
3
وكان سيجموند فرويد مفكرا آخر من تلك السلالة تأثر تكوينه بشكل عميق ببني وطنه المتشائمين. فما أسماه شوبنهاور بالإرادة، أعاد فرويد تسميته بالرغبة. يرى فرويد أن الخيال والإدراك الخاطئ وقمع ما هو حقيقي هي مقومات أساسية للنفس، وليست عناصر عرضية لها. ولولا هذا النسيان المنقذ، لما استطعنا النجاة من أي مصاعب. إذن، ماذا لو كان للحياة معنى بالفعل، ولكنه معنى يفضل لنا ألا نعرفه؟ إننا نميل للاعتقاد بأن اكتشاف معنى الحياة سيكون شيئا قيما بطبيعة الحال، ولكن ماذا لو كان هذا خطأ؟ ماذا لو كان الواقع شيئا مهولا ورهيبا من شأنه أن يحولنا إلى حجارة؟
بإمكاننا دائما في النهاية أن نتساءل لما ينبغي على أي شخص أن «يرغب» في معرفة معنى الحياة. هل هو على يقين من أنه سيساعده على الحياة بشكل أفضل؟ فقد عاش رجال ونساء حياة تبدو رائعة دون امتلاك هذا السر. أو ربما كانوا يمتلكون سر الحياة طوال الوقت دون إدراك ذلك. ربما يكون معنى الحياة شيئا أفعله ببساطة في الوقت الراهن، شأنه شأن التنفس، دون أدنى وعي به. ماذا لو كان محيرا، ليس لكونه خفيا، ولكن لكونه قريبا للعين بشكل يتعذر معه رؤيته بوضوح. فربما لا يكون معنى الحياة هدفا يصلح للسعي وراءه، أو حقيقة لا يفضل ذكرها، بل شيئا يتجلى في فعل العيش نفسه، أو ربما في أسلوب معين للحياة. فمعنى أي سردية - في النهاية - لا يكمن فقط في غايتها أو نهايتها، ولكن في عملية السرد ذاتها.
ويعبر فيتجنشتاين عن هذه الفكرة بشكل جيد في قوله: «لو كان لأي شخص أن يعتقد أنه قد حل إشكالية الحياة، ويرغب في إخبار نفسه بأن كل شيء قد صار يسيرا الآن، فيمكنه أن يدرك أنه مخطئ فقط بتذكر أنه قد مر به وقت لم يكن هذا «الحل» قد اكتشف بعد؛ ولكن لا بد أن الحياة «آنذاك» كانت ممكنة أيضا، والحل الذي اكتشف الآن يبدو عرضيا بالنسبة لما كانت عليه الأمور آنذاك.»
4
وخلف هذا الرأي تختبئ قناعة فيتجنشتاين بأن معنى الحياة - إذا كان موجودا من الأساس - ليس سرا ولا «حلا»، وهي أفكار سوف نتناولها لاحقا. في الوقت ذاته، يمكننا أن نتساءل مرة أخرى: ماذا لو كان معنى الحياة شيئا يجب «ألا» نكتشفه مهما كلف الأمر؟
ليست تلك نوعية الأفكار التي كانت لتخطر بسهولة على ذهن مفكري عصر التنوير، الذين كانوا يرون أن الخطأ يجب أن يحارب بشجاعة عن طريق الحقيقة. غير أنه مع انتهاء القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، بدأ مفهوم الكذب المنجي أو الخيال الصحي في الظهور تدريجيا. فربما كان الإنسان ليفنى ببساطة بفعل الحقيقة، إذ يذوي تحت وطأة وهجها القاسي الذي لا يرحم. وربما كانت الخيالات والأساطير ليست مجرد أخطاء يجب محوها، وإنما أوهام مفيدة تتيح لنا النجاح والازدهار. وقد لا تكون الحياة أكثر من حادثة بيولوجية، ولا حتى حادثة كانت تنتظر الحدوث؛ ولكنها طورت بداخلنا ظاهرة عشوائية تعرف بالعقل، والذي يمكننا استخدامه لوقاية أنفسنا من المعرفة المخيفة بعرضية وجودنا.
يبدو الأمر وكأن طبيعة تستخدم المعالجة المثلية قد تفضلت بتزويدنا بالترياق إلى جانب السم، وكلاهما يعرف باسم الوعي. فيمكننا أن نوجه عقولنا نحو التخمينات الكئيبة في ظل ما يبدو من عدم اهتمام تلك الطبيعة بالحياة الفردية في خضم اهتمامها بالنوع ككل. أو يمكننا أن نصرف أفكارنا نحو بناء أساطير وخرافات واهبة للحياة - كالدين والإنسانية وما شابه - والتي قد تسبغ علينا مكانة وأهمية في هذا الكون القاسي. إن مثل تلك الأساطير قد لا تكون حقيقية من منظور علمي، ولكننا ربما نكون قد أحدثنا جلبة أكبر من اللازم حول الحقيقة العلمية، مفترضين أنها النوع الوحيد المتاح من الحقيقة. وعلى غرار العلوم الإنسانية بشكل عام، يمكن القول بأن مثل هذه الأساطير والخرافات تحوي نوعيتها الخاصة من الحقيقة؛ تلك الحقيقة التي تكمن في النتائج التي تخلقها أكثر مما تكمن في الافتراضات التي تقدمها. فإذا أتاحت لنا التصرف بحس من القيمة والهدف، فربما إذن تكون حقيقية بما يكفي لكي تستمر.
بوصولنا إلى أعمال منظر القرن العشرين الماركسي لوي ألتوسير، كان هذا الأسلوب في التفكير قد تسرب إلى الماركسية، بمعارضتها الصارمة للوعي الزائف للأيديولوجية. فماذا لو كانت الأيديولوجية ذات ضرورة حيوية؟ ماذا لو كنا بحاجة إليها لإقناع أنفسنا بأننا فاعلين سياسيين قادرين على التصرف باستقلالية؟ ربما تكون النظرية الماركسية على وعي بأن الفرد ليس لديه درجة كبيرة من التماسك أو الاستقلالية، أو حتى الواقعية؛ ولكن الأفراد أنفسهم يجب أن يثقوا أنهم يملكون ذلك إذا كان مقدرا لهم أن يتصرفوا بشكل فعال. ويرى ألتوسير أن مهمة الأيديولوجية الاشتراكية هي تأمين ذلك الوهم المنقذ. وينطبق ذلك بشكل مماثل - من منظور فرويد - على الأنا، التي لا تتجاوز كونها فرعا من اللاشعور، ولكنها شديدة التنظيم بحيث ترى العالم بأكمله يتمحور حولها. فالأنا تعامل نفسها ككيان متماسك مستقل، يعرفه التحليل النفسي بأنه وهم؛ ولكنه وهم صحي، رغم ذلك، لم نكن سنستطيع العمل والتصرف بدونه.
وهكذا يبدو أنه بعيدا عن الحديث عن معنى الحياة، قد نواجه باختيار بين المعنى والحياة. فماذا لو كانت الحقيقة مدمرة للوجود الإنساني؟ ماذا لو كانت قوة ديونيسية مهلكة، كما كان يعتبرها نيتشه في بداياته؛ أو إرادة ضارية كما في تخمينات شوبنهاور الكئيبة؛ أو رغبة مجردة مفترسة عديمة الرحمة كما يرى فرويد؟ يرى الفيلسوف والمحلل النفسي جاك لاكان أن الفاعل الإنساني يمكن إما أن «يعني» شيئا أو «يفعل» شيئا، ولكنه لا يمكن أن يفعل الاثنين معا. وما إن ندخل إلى عالم اللغة، ومن ثم إلى إنسانيتنا، ينقسم ما قد يسميه المرء «حقيقة الفاعل»، أو طبيعة وجوده، إلى سلسلة لا متناهية من المعاني الجزئية. ولا نبلغ المعنى إلا على حساب فقدان الوجود.
كان أول دخول لهذا الشكل من التفكير للكتابات الإنجليزية على نطاق واسع على يد الروائي جوزيف كونراد، الذي استشعر تأثير كل من نيتشه وشوبنهاور. فباعتباره شكوكيا فلسفيا متحمسا، لم يكن كونراد يؤمن بأن مفاهيمنا وقيمنا ومثلنا لها أي أساس في عالم ليس له معنى شأنه شأن الأمواج. غير أن هناك أسبابا أخلاقية وسياسية ملحة تحتم علينا التصرف و«كأنها» راسخة على أساس متين. فإذا لم نفعل، قد تكون الفوضى الاجتماعية واحدة من العواقب غير المرحب بها لذلك. بل إن هناك إطارا تقل فيه أهمية ما نؤمن به عن حقيقة إيماننا في حد ذاتها. وقد انتقل هذا النوع من الشكلية بعد ذلك تدريجيا إلى الوجودية، التي ترى أن حقيقة التزامنا - وليس المحتوى الدقيق لهذا الالتزام - هو السبيل لوجود حقيقي.
ويعد أبطال الكاتب المسرحي آرثر ميلر مثالا على ذلك. فشخصيات مثل ويلي لومان في «وفاة بائع متجول»، أو إيدي كاربون في «مشهد من الجسر»، ملتزمة بنسخة معينة من هوياتها، ومن العالم من حولها، والتي تعتبر من منظور موضوعي نسخة زائفة. على سبيل المثال، يعتقد ويلي أن ما يهم في الحياة هو أن تحظى بالاحترام على المستوى الاجتماعي والنجاح على المستوى الاقتصادي. غير أن ما يشكل أهمية مع هذه الشخصيات التي أعمت نفسها - كما هي الحال مع بعض من أبطال إبسن التراجيديين - هو القوة التي استثمروا بها في هذا الالتزام. فالصلابة البطولية التي ظلوا مخلصين بها لصورهم الذاتية الملتوية هي ما تشكل أهمية في النهاية، على الرغم من أنها تقودهم إلى الضلال والموت. فأن تعيش بإيمان - ربما أي إيمان قديم - يعني أن تبث في حياتك دلالة وأهمية. وبناء على هذه النظرية، يكون معنى الحياة هو مسألة الأسلوب الذي تعيش به هذه الحياة، وليس مسألة محتواها الفعلي.
من الحقائق البديهية لشوبنهاور أن الأحمق فقط هو من يتخيل أن الحياة تستحق أن تعاش. وفي نظره الرمز الأنسب للمشروع الإنساني هو خلد الماء ذو الحوافر:
إن مهمته في الحياة هي الحفر بقوة بقدميه الحافرتين الضخمتين؛ يحيطه الظلام الدامس دائما ... فعلام يحصل من هذا الأسلوب الحياتي المليء بالمتاعب والمجرد من المتعة؟ الغذاء والتناسل، أي فقط الوسائل اللازمة للاستمرار والبدء من جديد في المسار الكئيب نفسه في صورة الفرد الجديد.
5
إن المشروع الإنساني برمته لهو خطأ مريع كان يجب إلغاؤه منذ زمن طويل. ولا يمكن لأحد أن يتخيل عكس ذلك إلا أولئك الحمقى المضللين لأنفسهم، الذين يواجهون بركام التاريخ. لقد كانت القصة الإنسانية واحدة من قصص البؤس المتواصل التي لم يستطع أحد أن يفكر أنها تستحق تحملها سوى من خدعوا بالخبث الوضيع الذي تمارسه الإرادة.
ثمة شيء هزلي في رأي شوبنهاور بشأن تلك السلالة المختالة بنفسها إلى حد الغرور من المخلوقات، الذي أقنع كل واحد منهم نفسه بقيمته الرفيعة السامية، والساعين وراء هدف تنويري سرعان ما سيصبح عديم القيمة. فلا يوجد هدف عظيم لهذا الصخب والغضب الفارغ؛ ليس هناك سوى «إشباع لحظي، ومتعة عابرة مشروطة بالاحتياجات، ومعاناة جمة وطويلة، وكفاح مستمر، وحرب الكل ضد الكل، كل شيء قناص وكل شيء يقتنص، وضغط، وعوز، واحتياج، وقلق، وصراخ وعواء؛ ويتواصل هذا لعصور وعصور أو حتى تتحطم قشرة الكوكب مرة أخرى.»
6
وبحسب ما يستطيع شوبنهاور الجزم به «لا أحد لديه أدنى فكرة عن أسباب وجود الكوميديا التراجيدية، لأن ليس لها جمهور، والممثلين أنفسهم يتحملون قلقا لا حد له، ولا يستمتعون إلا قليلا وتكون متعة سلبية فحسب.»
7
فالعالم ما هو إلا رغبة ملحة عقيمة، دراما سيئة بشكل صاعق، سوق ضخمة أو ساحة قتال داروينية تسعى فيها أشكال الحياة لسحق بعضها البعض.
إن صحبة الآخرين موجودة دائما بالطبع؛ إلا أن شوبنهاور يرى أن مجرد الملل هو الذي يدفعنا للبحث عنها. وفيما يتعلق بالإرادة، لا يوجد اختلاف بارز بين البشر والبوالب المرجانية، إذ إن كليهما أدوات لديناميكيتها اللامبالية بشكل صريح. ففي صميم جوهر البشر تتحرك قوة - هي الإرادة - تمثل أساس جوهرنا الداخلي، ولكنها قوة عديمة الشعور ومجهولة شأنها شأن القوة التي تحرك الأمواج. والذاتية هي أقل مسمى يمكننا أن نطلقه على القوة التي بداخلنا. فنحن نحمل داخلنا حمولة خاملة من انعدام المعنى، وكأن البشرية تحمل في أحشائها دائما الوحوش؛ وهذه الحمولة - التي تعتبر من نشاط أو تأثير الإرادة بداخلنا - تشكل الجوهر الأساسي لذاتيتنا. وكل شيء مشحون بالشهوة؛ فالبشر مجرد تجسيد يمشي على الأرض لغرائز آبائهم الجنسية، وأساس كل هذا الاشتهاء العقيم يكمن في العوز والنقص. وفي ذلك يقول شوبنهاور: «كل «الرغبة» تنبع من العوز، ومن النقص، ومن ثم من المعاناة.»
8
والرغبة شيء أبدي، بينما الإشباع زهيد ومتقطع؛ فقد لا يكون لتلك العدوى القاتلة التي نعرفها بالرغبة نهاية طالما بقيت النفس. وحده الإيثار الذي يتمتع به التأمل الجمالي - إلى جانب نوع من نكران الذات البوذي - هما ما يمكن أن يطهرانا من التشويه البصري الذي تولده الحاجة، ويتيحا لنا رؤية العالم كما هو على حقيقته.
ولسنا بحاجة لأن نقول: إن هناك قصة أخرى يجب أن نرويها. ولكن إذا كان شوبنهاور لا يزال يستحق القراءة، فإن ذلك لا يعزى فحسب إلى مواجهته لاحتمالية أن يكون الوجود الإنساني لا معنى له بأكثر الطرق هزلية وازدراء، بشكل أكثر صراحة وقسوة من أي فيلسوف آخر تقريبا، بل يعزى أيضا إلى أن جزءا كبيرا مما يقوله صحيح بكل تأكيد. فالتاريخ الإنساني - بوجه عام - كان عبارة عن قصة ندرة وبؤس واستغلال أكثر من كونه أسطورة أخلاق وتنوير. ومن يعتقدون أن للحياة معنى لا محالة - بل ومعنى راق - عليهم أن يواجهوا تحدي شوبنهاور الكئيب. فأعماله تجبرهم على الكفاح بكد لكي يجعلوا رؤيتهم تبدو أي شيء أكثر من مجرد مواساة مسكنة.
هوامش
الفصل الثالث
خسوف المعنى
تأمل هذا الحوار المقتضب في مسرحية أنطون تشيكوف «الشقيقات الثلاث»:
ماشا:
ألا يوجد معنى؟
توزنباخ:
معنى ... انظري هناك، إن الثلج يتساقط. ما معنى هذا؟
إن الثلج ليس تعبيرا أو رمزا. وهو ليس مجازا للتعبير عن حقيقة أن السماء حزينة، حسبما نستطيع القول؛ إنه ليس محاولة لقول أي شيء، مثلما تخيل فيليب لاركن عن الربيع:
ها هي أوراق الأشجار تتفتح
وكأن شيئا ما يقال ...
من قصيدة «الأشجار»
غير أن قول: «انظري هناك، إن الثلج يتساقط» يتضمن بعض المعاني بالفعل. فالثلج «ذو معنى» في إطار كونه جزءا من عالم ملموس وواضح، عالم تؤسسه لغتنا وتفتح آفاقه. إنه ليس مجرد نوع من الألغاز العجيبة. ولن يكون غريبا تماما أن يتساءل شخص ما لم يسبق له أن رأى الثلج: «ما معنى هذا؟» وعلى الرغم من أن الثلج ليس رمزا لأي شيء، فقد يمكن اعتباره لفظا دالا؛ فقد يدل على قدوم الشتاء. وبذا فهو ينتمي إلى منظومة جوية تديرها قوانين نستطيع فهمها. وقد نلاحظ أن هذا النوع من المعنى «متأصل» وليس «منسوبا»؛ فالثلج يعني أن الشتاء قادم بغض النظر عن اعتقادنا بشأن ما يعنيه ذلك. كذلك يمكن «استخدام» حقيقة تساقط الثلوج كدال، والواقع أن هذا هو بالضبط ما يفعله توزنباخ، إذ يشير إلى الثلج (بشكل ساخر بما يكفي ) كدلالة على انعدام المعنى. أو قد يتعجب شخص ما قائلا: «انظر إلى الثلج؛ الشتاء قادم! من الأفضل لنا أن نتجه إلى موسكو»، مما يجعل الثلج ذا دلالة ضمن مشروع إنساني، وأساسا لرسالة بين الأفراد. وفي جميع هذه الدلالات، لا يؤخذ تساقط الثلج على أنه مجرد انهمار للثلوج.
لعل توزنباخ يحاول الإيحاء بأن العالم سخيف ولا معقول. ولكن «اللامعقولية» تعد معنى كذلك؛ فالصياح: «ولكن هذا لا معقول»، يستثير احتمالية ما للفهم وإضفاء معنى متماسك. فاللامعقولية تصبح معقولة فقط في حالة مقارنتها بمثل هذه العملية من إضفاء المعنى، مثلما يصبح الشك منطقيا وذا معنى فقط في وجود خلفية من اليقين. وبإمكاننا الرد سريعا على شخص يدعي أن الحياة بلا معنى بقول: «ما هذا الذي بلا معنى؟» ولا بد أن يكون رده مصاغا في إطار المعاني. فعادة ما يتساءل الأشخاص الذين يتحرون عن معنى الحياة عن معنى كل مواقفها المتنوعة؛ ولما كان تحديد موقف في حد ذاته يحمل معنى، فلا يمكنهم أن يتحسروا لعدم وجود معنى على الإطلاق. وكما أن الشك في كل شيء يعد شيئا بلا معنى، من الصعب كذلك أن تدرك كيف يمكن للحياة أن تكون تافهة ولا معقولة على طول الطريق. فقد تكون الحياة بلا جدوى على طول الخط - بمعنى أنها تفتقر إلى غاية أو هدف معين - ولكن لا يمكن أن تكون تافهة بمعنى كونها حمقاء ما لم يكن هناك منطق ما يمكننا به قياس تلك الحقيقة.
غير أن الحياة قد تكون تافهة مقارنة بمعنى اعتادت أن تكتسبه، أو تعتقد أنها طالما اكتسبته. ولعل من الأسباب التي جعلت أتباع الحداثة أمثال تشيكوف ينشغلون إلى هذا الحد بإمكانية انعدام المعنى أن حركة الحداثة قديمة بما يكفي لتذكر فترة ما كان المعنى فيها لا يزال وافرا، أو هكذا كان يشاع على الأقل. لقد كان المعنى متواجدا حتى عهد قريب بما يكفي بالنسبة لكل من تشيكوف، وكونراد، وكافكا، وبيكيت وزملائهم، مما جعلهم يشعرون بالذهول والإحباط من تضاؤله. ولا تزال الأعمال الفنية التي تنتمي إلى حركة الحداثة تطاردها ذكرى كون منهجي منظم، ومن ثم لديها من الحنين ما يكفي للشعور بخسوف المعنى باعتباره كربا، أو فضيحة، أو حرمانا لا يطاق. ولذا نجد مثل هذه الأعمال في أغلب الأحيان تتحول فجأة نحو فكرة من الغياب المحوري، أي فجوة غامضة أو فترة صمت تميز النقطة التي تسرب منها الفهم وإضفاء المعنى. فتجدنا نفكر في موسكو في مسرحية تشيكوف «الشقيقات الثلاث»، وقلب الظلام الأفريقي لدى كونراد، أو منارة فيرجينيا وولف الغامضة، أو كهوف مارابار الخاوية لدى إي إم فورستر، أو نقطة تي إس إليوت الثابتة من العالم المتحول، أو اللامواجهة في صميم مسرحية «أوليسيس» لجويس، أو جودو بطل بيكيت، أو جريمة جوزيف كيه المجهولة لدى كافكا. وفي خضم هذا التوتر بين الحاجة المستمرة للمعنى والإحساس المزعج بمراوغته، يمكن للحداثة أن تكون تراجيدية بحق.
أما حركة ما بعد الحداثة - في المقابل - فهي ليست قديمة بما يكفي لاسترجاع فترة تواجد فيها الحقيقة والمعنى والواقع، وتتعامل مع مثل هذه الأوهام والضلالات بجزع الشباب الفظ. فلا جدوى من الحسرة على أعماق لم يكن لها وجود مطلقا. وحقيقة أنها تبدو أنها تلاشت لا تعني أن الحياة سطحية، إذ إنه لا يمكن أن يكون لديك أسطح إلا إذا كان لديك أعماق لتقارنها بها. إن معنى المعاني ليس أساسا قويا، بل وهما طاغيا ثقيل الوطأة. والحياة دون الحاجة لمثل هذه الضمانات تعني الحرية. ويمكنك أن تجادل بأنه بالفعل كان هناك يوما ما سرديات كبرى (مثل الماركسية) كانت مماثلة لشيء واقعي، ولكننا تخلصنا منها؛ أو يمكنك أن تصر على أن هذه السرديات لم تكن طوال الوقت سوى وهما، ومن ثم لم يكن هناك شيء لنفقده مطلقا. فإما أن العالم لم يعد قائما على قصة، أو أنه لم يكن كذلك من الأساس.
وعلى الرغم من سذاجة جزء كبير من فكر ما بعد الحداثة فيما يتعلق بهذه المسألة، هناك نقطة واحدة يحمل فيها دلالة بكل تأكيد. إن غثيان جان بول سارتر أو التحدي التراجيدي لألبير كامو، حين يواجه عالما من المفترض أنه بلا معنى، هو بحق جزء من المشكلة التي يعد إجابة لها. فليس من المحتمل أن تشعر بأن العالم عديم القيمة إلى حد الغثيان - في مقابل انعدام قيمته بشكل عادي قبل ذلك - إلا إذا كان لديك له توقعات مبالغ فيها من الأساس. إن كامو وسارتر - إن جاز التعبير - متقدمان في السن بما يكفي لتذكر فترة كان العالم يبدو فيها ذا معنى؛ ولكن إذا كانا يعتقدان أن هذا كان وهما حتى في ذلك الوقت، فما الذي فقد تحديدا باختفائه؟ ربما لا يكون للحياة هدف متأصل فيها، ولكن هذا لا يعني أنها عقيمة وبلا جدوى. فالعدمي هو مجرد ميتافيزيقي تحرر من الأوهام. والخوف هو الجانب الآخر للإيمان. والأمر نفسه ينطبق على الرومان الكاثوليك المرتدين، الذين يميلون للتحول إلى ملحدين بشكل محض بدلا من أن يكونوا أنجليكيين متمسكين بالتقاليد والطقوس. وهذا يعزى فقط إلى أنك قد تخيلت خطأ أن العالم يمكن أن يكون بشكل ما ذا معنى في جوهره - وهي فكرة تراها حركة ما بعد الحداثة بلا معنى - وهو ما تسبب في تدميرك حين وجدت أنه ليس كذلك.
من الممكن اعتبار أن أعمال صمويل بيكيت قد انحصرت في مكان ما بين قضايا الحداثة وقضايا ما بعد الحداثة. ففي إدراكه للمراوغة المفرطة للمعنى (إذ أشار ذات مرة إلى أن كلمته المفضلة هي «ربما»)، يعتبر بيكيت حداثيا كلاسيكيا. فكتاباته محبوكة من البداية للنهاية بإدراك لوقتية المعنى، مدركا - وهذا من المفارقات - أنه ربما لم يكن له وجود من الأساس. وهذا هو ما يجعله يبدو موجودا بشكل سطحي «فحسب»؛ فهو يحوم بشكل محفوف بالمخاطر على حافة الصياغة اللفظية، قبل أن يهوي بلا مبالاة بعيدا إلى ظلام يفتقر إلى الكلمات. إنه واه ومتسق مع حقيقة كونه مدركا بالكاد. فالمعنى يتوهج ويضمحل، ويمحو نفسه بمجرد ظهوره تقريبا. فتجد قصة بلا هدف تشق طريقها بصعوبة نحو السطح، فقط لتجهض في منتصفها لصالح قصة أخرى على القدر نفسه من العبث. ولا يوجد حتى ما يكفي من المعنى لإطلاق تسمية على الخطب الذي بنا.
إن كل شيء في عالم ما بعد معسكر الأوشفيتز غامض وغير محدد. فكل مقترح هو فرضية تجريبية، ومن الصعب التأكد ما إذا كان أي شيء يحدث أم لا؛ فماذا في هذا العالم يعتد به كحدث؟ هل انتظار جودو يعد حدثا، أم إرجاء لحدث؟ إن فعل الانتظار ذاته يندرج تحت اللاشيء؛ فهو بمثابة تأجيل أبدي للمعنى، أو ترقب للمستقبل الذي يعتبر أيضا أسلوب حياة في الحاضر، وهو ما يشير إلى أن عيش الحياة يعني أن ترجئ أو تعلق الوصول إلى معنى نهائي؛ وعلى الرغم من أن فعل تأجيل المعنى يجعل من الصعب تحمل الحياة، فقد يكون هذا أيضا هو ما يجعلها تستمر. كيف لك - في عالم تتسم فيه عملية تحديد المعنى بهذا القدر من الوهن والتمزق - أن تدرك مثل هذا المعنى المتألق؟ لعل شخصيتا فلاديمير واستراجون في «في انتظار جودو» قد فشلا في إدراكه بالفعل؛ ربما كان بوزو في حقيقة الأمر هو جودو (لعلهم قد أخطئوا سماع الاسم) ولا يدركان ذلك. أو ربما أن كل هذا التجمد المؤلم والهزلي للزمن هو تعبير عن قدوم جودو، مثلما يشير خواء التاريخ بالنسبة للفيلسوف والتر بنجامين بنوع من الإنكار والرفض إلى الوصول الوشيك للمسيح. ربما سيكون وصول جودو تحررا صحيا من الوهم، بما يوحي بأنه لم يكن هناك حاجة إليه من الأساس؛ أنه لم يكن هناك شيء جلل واحد يصرخ من أجل الخلاص، ولكن هذا الاعتقاد في حد ذاته جزء من وعينا الزائف. وقد يكون ذلك مقاربا لرؤية والتر بنجامين للمسيح الذي سيغير العالم، ولكنه سيفعل ذلك بإحداث تعديلات ثانوية بسيطة.
شكل 3-1: فلاديمير واستراجون في مشهد من مسرحية صمويل بيكيت «في انتظار جودو». (© Robbie Jack/Corbis)
إذا كان العالم مبهما، فإن اليأس غير ممكن. فواقع غامض لا بد بالتأكيد أن يترك مجالا للأمل. ولعل ذلك أحد أسباب عدم إقدام المتشردين (ولكن من قال إنهم متشردون؟) على قتل أنفسهم. فلا وجود للموت في أدب بيكيت، فقط عملية لا تنتهي من الانحدار والتدهور الجسدي؛ من تيبس الأطراف، وتشقق الجلد، وتشوش مقلة العين، وثقل السمع، وهو تدهور يبدو أنه سيستمر للأبد على الأرجح. ويبدو أن غياب جودو قد غمر الحياة في حالة من الغموض المتطرف، ولكن هذا يعني أنه لا يوجد تأكيد على أنه لن يأتي. فإذا كان كل شيء مبهم وغامض، فلا بد أن هذا يسري أيضا على معرفتنا به، وفي هذه الحالة لا يمكننا استبعاد احتمالية وجود حبكة سرية وراء كل ذلك. حتى الكآبة لا يمكن أن تكون مطلقة في عالم بلا ثوابت مطلقة. فيبدو أنه لا يمكن أن يكون هناك خلاص في عالم من هذا النوع، رغم أنه يبدو لنا أنه المكان الذي قد لا تزال فيه فكرة الخلاص فكرة منطقية ذات معنى؛ ولكن في هذه الحالة قد لا توجد حاجة مطلقة إليها أيضا. وعلى أية حال، من ذا الذي يمكن أن يقول إن هذا المشهد من التشوهات والإعاقات وأجزاء الجسم الخالية من الشعر - إذا شوهد من منظور مختلف كلية - ليس تأرجحا على حافة التغيير؟
باختصار، يبدو ذلك مستبعدا إلى حد كبير. غير أن حقيقة أن لا شيء في أدب بيكيت محدد ونهائي، وأن كل دال منقوص ينقلنا إلى ما يليه، لا يمكن اعتبارها رمزا لرغبة فحسب، بل رمزا لمعنى. فالمعنى أيضا عملية منقوصة بشكل لا نهائي؛ انتقال من دلالة إلى أخرى دون خوف من الوصول لنهاية أو أمل في ذلك. يمكننا أن نكون واثقين من شيء واحد على الأقل بشأن أي معنى، وهو أن هناك دائما المزيد من المعاني حيثما ينبثق ذلك المعنى. فلم يكن من الممكن منطقيا أن يكون هناك معنى نهائي يضع نهاية لعملية التفسير والتأويل، نظرا لأن ذلك المعنى سيحتاج إلى تفسير. ولما لم يكن للدلالات معنى إلا في إطار الدلالات الأخرى، فلم يكن من الممكن أن يكون هناك دلالة كبرى واحدة نهائية مثلما لم يكن من الممكن أن يكون هناك عدد واحد أو شخص واحد في العالم.
في عالم بيكيت، تعني حقيقة أن هناك دوما مزيدا من المعاني من حيث يأتي المعنى مزيدا من المعاناة بشكل عام. غير أن تقهقر فكرة المعنى المطلق توفر نوعا من التمكين أيضا، إذ إنها تخلق المساحة التي يمكننا البقاء فيها من لحظة للحظة. صحيح أن البقاء والازدهار يتطلبان ضمانات أكثر من تلك المتاحة في عالم بيكيت المستنزف؛ إلا أن الضمانات الأقوى من اللازم تميل لإعاقة ازدهارنا أيضا. وقد كانت كلمة «ربما» - من بين أشياء أخرى - هي استجابة بيكيت للسيطرة الفاشية التي حارب ضدها بمنتهى الشجاعة، بوصفه أحد أفراد المقاومة الفرنسية. فإذا كان صحيحا أننا بحاجة لدرجة من اليقين للمضي في طريقنا، يصبح صحيحا أيضا أن القدر المبالغ فيه من اليقين يمكن أن يكون مهلكا. في الوقت نفسه، هناك شيء يبدو أنه لا يمكن القضاء عليه يستمر في الحدوث ولكنه يتميز بكل ما تتمتع به عملية الهضم من رتابة وافتقار إلى المرونة وعدم تمييز.
ويعد تبخر فكرة المعنى الثابت أحد الأسباب وراء صعوبة وصف أعمال بيكيت بالتراجيدية، إذ تبدو غير محددة بشكل يتعذر معه وصفها بهذا الوصف. ثمة سبب آخر يتمثل في تفاهتها البالغة، وأسلوبها الأيرلندي الساخر الذي يميل لفضح الزيف وبث الإحباط. إنه نوع من الأدب المضاد، الذي يقوض لغة الإنجاز المسكرة. إنها كتابات تحتفظ بميثاق اتفاق سري مع الفشل؛ مع تلك المسألة المرهقة والمضجرة الخاصة بالبقاء بلا هدف. إن شخصيات بيكيت الإنسانية المفرغة من الداخل والفاقدة للذاكرة لا ترقى حتى لمنزلة الأبطال التراجيديين، والتي كانت لتصبح على الأقل دلالة ثابتة من نوع أو آخر. إنها حتى ليست على قدر كاف من التنظيم لكي تعدم نفسها. فنحن في حضرة مسرحية هزلية متدنية أو كرنفالية سوداء وليست دراما مرتفعة المستوى. وكما هو الحال مع الحرب العالمية الثانية، فإن الغلو هو السمة السائدة. فيبدو أننا لا نستطيع حتى أن ننسب معاناتنا لأنفسنا، إذ إن الفاعل الإنساني قد انهار داخليا مع التاريخ الذي ينتمي إليه. ولكي ننسب ذكرى أو تجربة لهذا الفاعل الإنساني دون غيره، فإن ذلك يتطلب درجة من الثقة والتأكيد لم يعد من السهل الحصول عليها.
والقليل جدا من كتابات بيكيت هو ما يتسم بالثبات أو التناغم الذاتي؛ وحينئذ يكمن اللغز في كيف يمكن للأمور أن تكون متقلبة ومؤلمة بشكل مستمر في الوقت ذاته إلى هذا الحد. غير أن المفارقة في أعماله هي احتفاظها بحنينها إلى الحقيقة والمعنى، على الرغم من وجود موضع عميق في منتصفها لا يشغله سوى المعنى. والوجه الآخر للمراوغة والغموض هو إخلاص بيكيت الرهباني للدقة، وللحركة المدرسية العقلية الأيرلندية. وما يبدو غريبا بشأن كتاباته هو أسلوبها المتفلسف الذي لا يحوي سوى قشور وبقايا من المعنى، ونقشها الدقيق للخواء المحض، ومحاولتها الثاقبة إلى حد الجنون لاستيعاب ما هو عصي على الوصف. ففنه يأخذ مجموعة من المسلمات، وبأسلوب شبه بنيوي يدعها تمر بتعديلاتها الميكانيكية المتنوعة، إلى أن تستنفد العملية بالكامل ويتولى الأمر مجموعة أخرى من التعديلات على نفس القدر من انعدام المعنى. وهناك أعمال درامية كاملة تصنع من إعادة ترتيب نفس البقايا والقصاصات القليلة. ربما يكون عالم بيكيت محيرا وغامضا، ولكن أسلوب معالجته له أسلوب توضيحي محايد. فتتقلص لغته إلى حد التقشف عند النقاط غير الجوهرية، إذ تتضاءل وتتقطع إلى أبعد حد، وتظهر عداء بروتستانتيا لكل ما هو زخرفي وغير ضروري. وربما يكون الزهد في الكلمات هو أقرب ما يمكن للحقيقة. فالقارئ يوجه إلى الفكرة بشكل أكثر رداءة، ولكن بمزيد من الصدق. وما يلفت انتباهنا هو التدقيق البالغ الذي ينسج به الهراء واللغو في أعماله، والمنطق الصارم الذي تتعامل به في التلميحات والسخافات. ربما تكون مواد بيكيت خاما وعشوائية، ولكن معالجته لها تتبع أسلوبا معينا بشكل ساخر، بتأنق أشبه بخطوات الباليه واقتصاد في استخدام الإشارات والرموز. يبدو الأمر كما لو كانت المنظومة الشكلية للحقيقة، والمنطق، والعقل بأكملها تظل كما هي دون مساس، على الرغم من أن محتوياتها قد تسربت.
غير أن الجانب الآخر لأعمال بيكيت أقرب للفلسفة الوضعية لحركة ما بعد الحداثة، التي لا تعتبر الأشياء مراوغة ومحيرة بشكل لا متناه، ولكنها مراوغة بشكل فظ. وكما كتب معاصره الباريسي جان بول سارتر في كتابه «الوجود والعدم»: «إن الوجود في حد ذاته لم يخلق، وما من سبب لوجوده، وما من صلة له بأي كيان آخر، ومن ثم فهو فائض لا ضرورة له للأبد.»
1
ويعكس هذا الجانب من بيكيت الذي يعتبر العالم قائما وله وجود مهما كان الحال، جانب الفنان المنبهر بالمادية الجامدة المحضة للأشياء مثل الحصى أو القبعات، والذي يقاوم محاولة فرض دلالة استثنائية عليها. (لا رمز حيثما لا يوجد أي رموز مقصودة على حد قوله). وعلى رأس تلك الأشياء الجامدة يأتي الجسد - وإن كان لا يتمتع بمكانة مميزة - والذي لا يبدو أن هناك معنى يلتصق به. فالجسد ببساطة هو آلية تتحرك بتثاقل، نجثم بداخلها مثلما يجلس شخص داخل آلة رافعة. فالأشياء في عالم بيكيت إما متوارية بحيث تبدو غامضة إلى حد مفرط، أو محصنة ضد المعنى بشكل صريح وحاد. فالواقع إما سطح جامد لا يقدم أي دعم لإضفاء أي معنى، أو وميض غامض من المدلولات. إنه مبهم وزائل، ولكنه أيضا مكان يحوي حواف حادة وأوزانا ثقيلة، وينطوي على آلام جسدية مبرحة، وعظام متكسرة.
ومن منطلق هذا المنظور «ما بعد الحداثي» الثاني، فإن الحياة ليست ذات معنى، ولكنها أيضا ليست بلا معنى. والادعاء بأن الوجود مجرد من المعنى بهذا الشكل الكئيب العابس يعني البقاء أسيرا لوهم أنها قد تكون ذات معنى. ولكن ماذا لو لم تكن الحياة من تلك النوعية من الأشياء التي يمكن الحديث عنها في أي من هذين الإطارين؟ فإذا كان المعنى شيئا يفعله الناس، كيف لنا أن نتوقع أن يكون العالم ذا معنى أو بلا معنى في حد ذاته؟ ولماذا ينبغي إذن أن نشعر بالأسى على حقيقة أنه لا يقدم لنا نفسه كعالم يفيض بالمعنى؟ إنك لم تكن لتتحسر على حقيقة أنك لم تولد مرتديا قبعة صوفية صغيرة. فالأطفال الذين يولدون متأنقين بقبعات صوفية صغيرة ليس من نوعية الأشياء التي يفترض للإنسان توقعها. ولا جدوى من الشعور بغصة في حلقك بشأن ذلك. فالقدوم إلى الدنيا عاري الرأس ليس سببا لإبداء خوف تراجيدي؛ فهذا ليس نقصا تعيه إلى حد يجلب لك الكآبة بينما تمضي في متابعة شئون حياتك اليومية.
لا شيء مفقود هنا، مثلما لا يوجد شيء مفقود حين أقول: «لأنني وضعتها على الموقد» في معرض إجابتي عن سؤال «لماذا تغلي الغلاية؟» غير أن أحدهم قد يظن أنني لم أفسر له سبب غليان الغلاية ما لم أشرح له العمليات الكيميائية التي تقف وراء هذا، ثم القوانين التي تقف وراء ذلك، وهكذا إلى أن نصل إلى طريق مسدود حيث تنتهي جميع الأسئلة. وما لم يكن هناك أساس مطلق، سيكون هناك حتما شيء مفقود. لا بد أن يترك كل شيء معلقا في الهواء بشكل مقلقل. وهذا هو الحال بالنسبة للمعنى في منظور البعض. فلا شك أنه إذا كان المعنى هو مجرد شيء نتوصل إليه، فإنه لا يستطيع أن يعمل كبنية تحتية أكيدة للواقع. فالأشياء يجب أن تكون ذات معنى بطبيعتها، لا أن يكون لها معنى فقط لمجرد أننا جعلناها كذلك. وكل هذه المعاني لا بد أن تفضي لمعنى عام واحد. فما لم يكن هناك معنى للمعاني، فلا يوجد معنى على الإطلاق. فإذا كانت حقيقة أن الثلوج تتساقط لا تدل على أن الإله يسعى لأن يلف العالم بمعطف ناعم من النسيان، فلا بد أنها مجرد حقيقة تافهة.
ما هو المعنى «المتأصل» على أي حال؟ إن المعاني لا «تكمن» في الأشياء مثلما يتواجد الحبر في الزجاجة. فقد يكون هناك مقصد ذو دلالة في مكان ما من العالم لا نعرفه (مثل ندفة ثلج غير مرئية، أو نمط اجتماعي لم يكتشف بعد)؛ ولكن المعاني بالدلالات الأكثر شيوعا للكلمة ليست كذلك بالطبع. إنها تفسيرات للعالم، ومن ثم فهي تعتمد علينا. إن الحديث عن المعاني «المتأصلة» يتلخص في الحديث عن محاولة وصف ما هو قائم بالفعل في الواقع. ولكن نحن من نقوم بعملية الوصف. بعد ذلك يمكننا أن نقارن هذا بالمعاني «المنسوبة» مثل «الأرض الخضراء». هناك أيضا معان ذاتية بالتأكيد، مثل «بالنسبة لي، يمثل لي خط أفق شيكاغو صورة الإله»، أو «حينما أسمع كلمة «حوض» يتوارد إلى ذهني دائما أبراهام لنكولن.»
سوف نرى لاحقا أن بإمكاننا الحديث عن المعاني باعتبارها مدمجة في الأشياء بشكل ما، أو بوصفها الطبيعة التي تكتسبها. غير أن المعاني «المتأصلة» في معظم الأحيان هي ببساطة أجزاء اللغة التي تهدف لإدراك ما هو قائم هناك. وفي بعض الأحيان يكون هناك مواقف، مثل ما حدث للسفينة «ماري سيليست» - أيا كان ما حدث - والتي لا نعرف فيها ما يحدث هناك، وأين قد تكون الحقيقة، بخلاف جميع تفسيراتنا الحالية. كيف يؤثر ذلك على النقاش بشأن معنى الحياة؟ من الممكن أن يكون للحياة معنى «متأصل» في إطار معنى لا يعرف أي منا شيئا عنه؛ معنى مختلف تماما عن المعاني المتعددة التي نصوغها منها في حياتنا الفردية. فقد كان سيجموند فرويد - على سبيل المثال - يعتقد أن معنى الحياة هو الموت، وأن كل الجهد الذي تبذله «الإيروس» أو غرائز الحياة يهدف للعودة إلى حالة من الركود الأشبه بالموت، حيث لا يعود بالإمكان أن تتعرض الأنا لأي أذى. فإذا كان ذلك صحيحا (وبالطبع قد لا يكون كذلك)، فإن ذلك يستتبع أنه كان صحيحا قبل أن يكتشف فرويد الحقيقة، وصحيح أيضا الآن حتى بالنسبة لمن لا يعرفونها. إن دوافعنا ورغباتنا قد تشكل نمطا لا نعيه، ولكنه نمط يحدد بشكل جوهري معنى وجودنا. وعلى ذلك فقد يكون هناك معنى للحياة نجهله (أو كنا نجهله) كلية، ولكنه معنى لم يصغ من قبل قوة خارقة مثل الإله أو روح العصر. ولصياغة هذه الفكرة بأسلوب أكثر تخصصا قليلا: التأصل ليس بالضرورة أن يدل ضمنا على السمو والتفوق. فالمعنى الذي يصاغ للحياة من قبل الإله، والمعنى الذي نكونه بأنفسنا، قد لا يكونا الاحتمالين الوحيدين.
وفيما يتعلق بالصراع الواضح بين المعاني «المتأصلة» و«المنسوبة»، سنتناول مسألة اللغة. طالما كان هناك نقاش دائر في مجال النقد الأدبي بشأن ما إذا كان معنى أية قصيدة موجود بها بالفعل بشكل ما، في انتظار القارئ لكي يأتي ويلتقطه، أو ما إذا كان شيئا نجلبه نحن القراء للقصيدة. إذا كنا نحن من يضفي معنى على القصيدة، إذن ألسنا ببساطة نأخذ منها ما وضعناه فيها؟ في تلك الحالة، كيف يمكن للقصيدة أن تدهشنا، أو تجعلنا نشعر أنها تقاوم الطريقة التي نحاول قراءتها بها؟ ثمة تشابه هنا مع فكرة أن الحياة تكون كيفما تشكلها. هل يعني هذا أننا نأخذ من الحياة ما نضعه فيها؟ في ذلك كتب نيتشه يقول: «في النهاية لا يجد الإنسان في الأشياء شيئا سوى ما أورده إليها هو نفسه.»
2
إذن فإن وجدت أن حياتك خاوية، فلماذا لا تملأها فحسب، مثلما تملأ الثلاجة عندما ينفد منك مخزون الطعام؟ لماذا نملأ الدنيا نواحا على الحقيقة عندما يكون الحل متاحا بين يدينا بكل وضوح؟ غير أن هذه النظرية الخاصة بالمعنى تبدو نرجسية بشكل مثير للضيق. ألا نخرج مطلقا من نطاق عقولنا؟ ألا يدخل في عداد المعاني الحقيقية ذلك المعنى الذي نشعر بأننا نواجه صعوبة معه، ذلك المعنى الذي يمكن أن يقاومنا أو يصدنا، ذلك المعنى الذي يفرض علينا فهمه بقدر معين من الحتمية؟ فإذا كان مقدرا للحياة أن يكون لها معنى، فمن المؤكد أنه لا يمكن أن يكون أي معنى نضفيه عليها حسب هوانا. فلا شك أن الحياة نفسها لا بد أن يكون لها رأي في تلك المسألة، أليس كذلك؟
سوف نتناول معا كيف يمكن للحياة أن تقاوم المعنى الذي نحاول أن نضفيه عليها حالا. وفي غضون ذلك، يمكننا أن نستعرض عن كثب أكبر فكرة كون المعنى كامنا «داخل» قصيدة. إن القول بأن المعنى في عبارة مثل «هل أشبهك بيوم صيف؟» يكمن «داخل» الكلمات نفسها، يعني القول بأن الكلمات لها معنى متفق عليه في اللغة، وهو اتفاق يتجاوز حدود المعنى الذي قد أرغب في أن تعنيه الكلمات أيا كان بشكل أعمق بكثير، والذي يرتبط بشكل جوهري بمشاركة صورة عملية من صور الحياة. وحقيقة وجود اتفاق هنا لا تعني أننا لا يمكننا أن نتجادل بشأن ما تعنيه تلك الكلمات في هذا السياق بعينه. ربما كانت كلمة «هل؟» هنا تعني «هل تريدينني أن أفعل؟» أو قد تعني «هل صحيح أنني سأقارنك في المستقبل بيوم صيف؟» إن الأمر كله يتلخص في أن ما نتجادل حوله ليست معان ننسبها اعتباطيا للكلمات. ومع ذلك، فإن هذه المعاني موجودة فقط «داخل» الكلمات بسبب الأعراف الاجتماعية التي تقرر حقيقة أن حروف كلمة يوم (ي. و. م) يجب أن ترمز للوقت ما بين شروق الشمس وغروبها، وأن حرف «ك» يرمز لضمير المخاطب، وهكذا. وهذه الأعراف اعتباطية بالتأكيد حين ينظر إليها من الخارج، مثلما قد توضح مقارنة لكلمتي «يوم» وضمير المخاطب «ك» بنظيريهما في اللغة البلغارية. ولكنها ليست اعتباطية حين ينظر إليها من الداخل، شأنها شأن قواعد الشطرنج.
والقول بأن المعنى «متأصل» - بمعنى أنه مدمج في الأشياء أو المواقف بصورة ما، وليس مفروضا عليه - قد يكون أسلوبا مضللا في الحديث؛ ولكن من الممكن، رغم ذلك، أن يكون له معنى ما. فبعض الأشياء - على سبيل المثال - يمكن القول بأنها تعبر عن المعاني أو تجسدها في حضورها المادي الفعلي. والحالة النموذجية لذلك هي الأعمال الفنية؛ فالشيء الغريب بشأن الأعمال الفنية أنها تبدو مادية وذات معنى في الوقت نفسه. كنت قد استعرضت في بداية هذا الكتاب قضية أن الأشياء مثل جهاز تخطيط القلب لا يمكن أن تكون ذات معنى في حد ذاتها؛ لأن المعنى مسألة لغة، وليس مسألة أشياء. ولكن نظرا لأن جهاز تخطيط القلب هو شيء من صنع الإنسان - على عكس الكرنب مثلا - فمن الممكن بالتأكيد القول بأن له معان ومقاصد مدمجة به. فهو في النهاية له وظيفة معينة في عالم الطب، مستقلة تماما عن أية وظائف قد أختار أن أنسبها له. فبإمكاني دوما أن أستخدمه لإبقاء النافذة مفتوحة في يوم حار خانق، أو استخدامه ببراعة شديدة لصد شخص مصاب بجنون القتل؛ ولكن يظل ما أستخدمه في القيام بذلك هو جهاز تخطيط القلب.
يرى أولئك الذين يؤمنون بوجود الإله - أو بأية قوة ذكية أخرى تقف وراء وجود الكون - أن الحياة لها معان وأهداف مقترنة بها، لأنها في حد ذاتها شيئا مصنوعا. لا شك أنها عمل رديء بشكل مفزع من عدة جوانب، صنع فيما يبدو على عجل في لحظة من الإلهام المتدني لأحد الفنانين. ولكن بإمكانك الحديث عن المعنى المتأصل هنا، مثلما يمكنك أن تفعل مع كرسي ذي مسندين. فالقول بأن كرسيا ذا مسندين هو منتج «مقصود» لا يوحي بأنه يأوي رغبات وأمنيات خفية، ولكن يوحي بأنه صنع بغرض تحقيق نتائج معينة؛ تحديدا لجلوس الناس عليه. وهذا يمثل معنى أو وظيفة يكتسبها الكرسي بمعزل عما قد أرغب في أن يعنيه، ولكنه ليس معنى مستقلا عن الإنسانية بشكل تام. فهو مصنوع على هذا النحو؛ لأن أحدهم صممه على هذا النحو.
حين نتساءل عما إذا كان موقفا بعينه يعد مثالا للعنصرية مثلا، إنما نتساءل عن الموقف نفسه، وليس فقط عن مشاعرنا تجاهه، أو اللغة التي نستخدمها لوصفه. فالنظر إلى معان على غرار «متحيز» و«تمييزي» كمعان «متأصلة» في الموقف هو مجرد أسلوب مصطنع لقول إن الموقف عنصري حقا. أما إذا لم نر ذلك - إذا فكرنا على سبيل المثال أن «العنصرية» هي مجرد مجموعة من المعاني الذاتية نضفيها على الحقائق المجردة لما يحدث - فإننا إذن لا نرى الموقف كما هو عليه. فأي وصف له يفتقر إلى مصطلحات مثل «تمييزي» - وهو الوصف الذي يحاول مثلا أن يكون «خاليا من أية قيمة» - لن يرصد ما يدور بشكل كاف. وسوف يخفق كوصف، وليس فقط كتقييم. وهذا لا يعني بالضرورة أن معنى الموقف واضح تمام الوضوح؛ فقد يتضح أن تحديد ما إذا كان الموقف عنصريا أم لا أمر مستحيل. ولا شك أن هذا ما يعنيه الناس حين يدعون أن من الممكن «بناء» الموقف بطرق متضاربة. فكلمات مثل «عنصرية» تجسد تأويلات قابلة للجدل، ولكن ما نتحدث عنه هو حقيقة الموقف، وليس معنى تأويلاتنا.
دعنا نتناول الأمر من الزاوية المعاكسة. دعنا لا نتساءل عما يبدو عليه المعنى «المتأصل»، ولكن ما يعنيه الادعاء بأن المعاني هي ما «نشكل» العالم عليها. هل يوحي ذلك ضمنا بأن بمقدورنا «بناء» المعنى بأية طريقة قديمة نشاؤها؟ بالطبع لا. فلا أحد يعتقد هذا فعليا، لا سيما لأن الجميع يتفقون على أن تأويلاتنا يمكن أحيانا أن تكون خاطئة. كل ما في الأمر أن الأسباب التي يسوقها الناس لتبرير ذلك تميل للاختلاف. غير أن جميعهم يتفقون على أنه لن يكون «مجديا» لنا أن «نصور» النمور على أنها خجولة ورقيقة. ومن بين أسباب ذلك أن بعضنا لن يظل على قيد الحياة على أثر ذلك التصور. وسوف يشير بعض المفكرين إلى أن هذا التصور لا يتناسب ببساطة مع بقية تأويلاتنا، فيما سيذهب آخرون إلى أن هذا التصور للنمور لن يسمح لنا بالقيام بالأشياء الملائمة المعززة للحياة، مثل الهرب منها بأسرع ما يمكن حين تكشر عن أنيابها. وسوف يذهب بعض المنظرين - الذين يعرفون بالواقعيين - إلى أننا لا نستطيع النظر إلى النمور كمخلوقات رقيقة لأن الحقيقة الواقعة هي أن النمور ليست رقيقة. كيف عرفنا ذلك؟ لأن لدينا أدلة قوية على أنها ليست كذلك، وهي أدلة تأتينا من عالم منفصل عن تأويلاتنا له.
أيا كان موقف الشخص هنا، يبدو صحيحا أن الفرق بين «المتأصل» و«المنسوب» مفيد بما يكفي لبعض الأغراض، ولكنه قابل للتفكيك والتجريد من نواح أخرى. فالقليل للغاية مما يسمى المعاني المتأصلة - مثل المفاهيم الوثنية للقضاء والقدر، أو النموذج المسيحي للخلاص، أو فكرة هيجل الشاملة - تتضمن أن يفهم الناس حياتهم. وبناء على هذه الرؤية، لا يكون الرجال والنساء مجرد دمى متحركة في يد حقيقة مهيبة، مثلما هم من منظور شوبنهاور. توجد حقيقة من هذا النوع في هذه النماذج؛ ولكنها لن تتكشف دون مشاركة فعالة من الرجال والنساء فيها. إن جزءا من مصير أوديب المأساوي أنه يساعد بشكل نشط - إن لم يكن أعمى - في حدوث فجيعته. وفي العقيدة المسيحية، لن تحل مملكة الرب ما لم يتعاون البشر في خلقها، على الرغم من أن حقيقة أنهم يفعلون ذلك مفترضة بالفعل في الفكرة الأساسية للمملكة. ويرى هيجل أن العقل يدرك نفسه في التاريخ فقط من خلال الأفعال الحرة الحقيقية للأفراد؛ والواقع أنه يكون في أقصى درجات واقعيته حين يكونون في أقصى درجات حريتهم. كل هذه السرديات الكبرى تفكك الفرق بين الحرية والضرورة؛ بين صياغة معانيك وبين تقبل معنى ما متواجد بالفعل في العالم.
إن كل المعاني عبارة عن أعمال من صنع الإنسان، والمعاني «المتأصلة» ما هي إلا تلك الأعمال التي تنجح في رصد شيء من حقيقة الأمر. فالعالم لا ينقسم نصفين إلى هؤلاء الذين يؤمنون بأن المعاني «متأصلة» في الأشياء كما تتضمن البطن الزائدة الدودية، وهؤلاء الأشخاص غريبو الأطوار الذين يعتبرون فكرة «وجود زائدة دودية» مجرد «تركيب اجتماعي» لجسم الإنسان. (لأسباب طبية صحيحة، ليس كل هؤلاء الأشخاص يظلون على قيد الحياة أيضا). وهذا النوع من «التركيبات» هي نوع من الحوار من طرف واحد مع العالم، نحن من نملي فيه الشكل الذي يسير عليه، مثلما يفعل الأمريكيون في العراق. ولكن المعنى في الواقع هو نتاج تفاعل بيننا وبين الواقع، إذ يكون هناك اعتماد متبادل بين النصوص والقراء.
وبالعودة إلى نموذج السؤال والإجابة الخاص بنا: يمكننا أن نطرح أسئلة على العالم، وهي بالتأكيد أسئلتنا نحن وليست أسئلته. ولكن الإجابات التي قد يأتي بها العالم هي إجابات توجيهية؛ لأن الواقع دائما ما يكون أكثر بكثير مما تتوقعه أسئلتنا. إنه يتجاوز تأويلاتنا له، ولا يتورع عن توجيه تحية لها من آن لآخر بإشارة وقحة، أو تفريغها من محتواها. لا شك أن المعنى هو شيء يفعله الناس؛ ولكنهم يفعلونه من خلال حوار مع عالم واضح ومحدد له قوانين ليست من اختراعه، وإذا كان لمعانيهم أن تكون صحيحة وسارية، فلا بد أن يحترموا مزاج وتركيب هذا العالم. وإدراك ذلك يستوجب غرس حس معين من التواضع، يتعارض مع تلك الحقيقة البديهية «البنائية» التي مفادها أنه حين يتعلق الأمر بالمعنى، نصبح نحن الأهم. وهذا المفهوم المتطرف ظاهريا متواطئ سرا في الواقع مع أيديولوجية غربية لا تهتم سوى بالمعنى الذي نسبغه على العالم وعلى الآخرين لخدمة أهدافنا الخاصة.
وقد كان شكسبير على وعي بهذه القضايا، كما يوضح هذا الحوار في مسرحية «ترويلوس وكريسيدا»، حول قيمة هيلين الطروادية:
ترويلوس:
ألا ينحصر كيان الشيء في قيمته؟
هكتور:
ولكن قيمة شخص بعينه لا تتحدد في إرادة بعينها:
إنها تتوقف على القيمة التي يحظى بها والمكانة التي يتبوأها
وهو عزيز في ذاته كما هو في أعين من يقدره ...
الفصل 2، المشهد 2
إن ترويلوس من نوعية الوجوديين الذين يعتبرون الأشياء في حد ذاتها عديمة القيمة والمعنى؛ ولا تكتسب قيمة ومعنى إلا من خلال الطاقات الإنسانية المستثمرة فيها. إن هيلين في رأيه ذات قيمة غالية؛ لأنها كانت السبب وراء حرب مجيدة، وليس أنها تسببت في حرب نظرا لقيمتها الغالية. في المقابل، يتمسك هكتور الأقل اندفاعا بنظرية أكثر «جوهرية» للقيمة: فالقيمة من منظوره هي مزيج من المنسوب والمتأصل. فالأشياء ليست عالية القيمة وحسب، ولكنها تكون ثمينة أو عديمة القيمة في ذاتها. ولا شك أنه محق إلى حد ما؛ فالصحة والسلام والعدالة والحب والسعادة والدعابة والرحمة، وما إلى ذلك كلها معان مرشحة للدخول ضمن فئة المعاني ذات القيمة المتأصلة. وكذلك الحال بالنسبة لأشياء مثل الطعام والماء والدفء والمأوى، والتي نحتاج إليها من أجل البقاء. ولكن الكثير مما قد يعتقد هكتور نفسه أنه ذو قيمة متأصلة - كالذهب مثلا - هو قيم بالفعل بموجب الاتفاق المشترك فقط. ويعي شكسبير جيدا أوجه التشابه بين القيمة والمعنى. ودائما ما تركز مسرحياته على مسألة ما إذا كانت المعاني متأصلة أم نسبية. فقد عاش في نقطة تحول تاريخية من إيمان بالأولى إلى إيمان بالأخيرة، وتربط مسرحياته هذا التحول بالغ الأهمية إلى تحول اقتصادي من القيم «المتأصلة» إلى «القيم التبادلية» التي أفرزتها قوى السوق.
3
يعود تاريخ النزاع بين أنصار «التأصلية» وأنصار «البنائية» لما بعد العصر الإليزابيثي. وفي دراسة تنويرية، يرجع فرانك فاريل تاريخ هذا النزاع إلى نهاية حقبة العصور الوسطى، والصراع بين اللاهوت الكاثوليكي واللاهوت البروتستانتي.
4
المشكلة هي أنه إذا كان الإله مطلق القوة، فلا يمكن السماح للعالم بأن يكون له معان متأصلة أو أساسية، بالنظر إلى أن هذه المعاني كانت لتقيد حرية التصرف لديه لا محالة. ولا يمكن السماح للخلق بأن يمارس أية مقاومة ضد خالقه، ولا يمكن أن يكون له عقل واستقلالية خاصة به. ومن ثم بدا أن الوسيلة الوحيدة للحفاظ على حرية الإله وقدرته المطلقة هو تصفية العالم من المعنى المتأصل. ووفقا لذلك رأى المفكرون البروتستانت وجوب الحد من قوة الواقع، وتجريده من القوة التي نسبها إليه علماء اللاهوت الكاثوليكيون أمثال توما الأكويني. فقد كان لزاما أن يكون مبهما بشكل جذري، بحيث يصبح حينها مجرد مادة طيعة يستطيع الإله أن يحولها إلى أي شكل يشاء حسب هواه. وبذلك لن يكون عليه بعد ذلك أن يضع اعتبارا لحقيقة أن المرأة امرأة مثلا، إذ يستطيع بسهولة كبيرة أن يجعلها تتصرف كقنفذ إذا استهوته الفكرة. وهكذا يصبح العالم - كما هو الحال بالنسبة لما بعد الحداثة - جراحة تجميل ضخمة.
وعلى ذلك وجب أن تختفي الماهيات؛ أي فكرة أن الأشياء - بما فيها البشر - لها طبائع محددة وواضحة. فلو أنها استمرت، لاعترضت طريق قوة الإله العظمى. وقد كان «الواقعيون» الذين يؤمنون بمثل هذه الطبائع الواضحة في حالة تشاحن بالغة مع «الاسميين» الذين اعتبروها مجرد خيالات لفظية. وعلى ذلك، فإن هذا النوع من البروتستانتية ما هو إلا شكل أولي من النزعة اللاماهوية. وكما هو الحال مع نوع ما من النزعة اللاماهوية السائدة اليوم، فإنها تسير جنبا إلى جنب مع نوع من فلسفة الإرادية، أو عقيدة الإرادة. وما إن تختفي الطبائع الواضحة، سيتمكن الحكم المطلق للإله من النجاح أخيرا. وحينئذ سوف تصبح الأشياء على ما هي عليه لأن الإله أمر بذلك، وليس لذاتها. وفي هذا الصدد تستبدل حركة ما بعد الحداثة البشر بالإله. فالواقع ليس قائما بذاته، وإنما يتخذ الشكل الذي نمنحه إياه.
ويرى أنصار الفلسفة الإرادية أن التعذيب أمر خاطئ أخلاقيا؛ لأن إرادة الإله قد حكمت بأن يكون كذلك، وليس لأنه خطأ في حد ذاته. بل إنه لا يوجد شيء صواب أو خطأ في حد ذاته. فقد كان بإمكان الإله بكل سهولة أن يقرر جعل العجز عن تعذيب أحدنا للآخر جريمة تستحق العقاب. ولا يمكن أن يكون هناك مبرر لقراراته؛ لأن المبررات من شأنها أن تعوق حريته المطلقة في التصرف. وهكذا تسير اللاماهوية جنبا إلى جنب مع اللاعقلانية. وعلى غرار كل الطغاة، فإن الإله لاسلطوي؛ لا تحكمه قوانين أو منطق. فهو مصدر قوانينه ومنطقه، والتي وجدت لخدمة نفوذه وسلطانه. ومن ثم كان من الممكن إجازة التعذيب إذا تناسب مع أهدافه. وليس من الصعب التعرف على ورثة هذه العقائد في عالمنا السياسي.
غير أن تطهير العالم من الماهيات قد لا يخلي الطريق أمام الإرادة المطلقة. فماذا لو وجدت أثناء التخلص من الماهيات أنك قد أطحت بالنفس معها؟ إذا لم يكن للنفس طبيعة واضحة ومحددة أيضا، فإن إرادتها وشعورها بالقوة يدمران بشكل مميت. وعند الوصول لنقطة انتصارها الأعظم، تصاب بالخواء. وحقيقة عدم وجود معنى محدد للحياة حقيقة مبهجة ومزعجة في الوقت نفسه. فالنفس الفردية الآن قد اضطلعت بدور الإله كمشرع أعلى؛ ولكن يبدو أنها تشرع في الفراغ، على غرار الإله. فأوامرها الاستبدادية تبدو اعتباطية وبلا جدوى تماما مثل الأوامر الإلهية. وفي الأمور الأخلاقية، أحيانا ما يتخذ ذلك شكل ما يعرف بالفلسفة «القرارية»: فقتل الأطفال خطأ؛ لأنني - أو لأننا - اتخذنا قرارا أخلاقيا أساسيا ترتب عليها مثل هذه المحظورات. وكما يشير نيتشه: «الفلاسفة الحقيقيون ... هم قادة ومشرعون، فهم يقولون: هكذا يجب أن يكون الأمر!»
5
إن النفس التي كانت ذات يوم مستقلة وغالبة، أصبحت اليوم المصدر الأوحد للمعنى والقيمة في عالم جرد من الدلالة المتأصلة. غير أن انعدام المعنى هذا يبدو أيضا أنه قد اجتاح حرمها الداخلي. فهي تملك الحرية - شأنها شأن الإله - لنقش معانيها الخاصة على صفحة الكون البيضاء؛ غير أنه بالنظر لعدم وجود سبب موضوعي يبرر انتهاجها سلوكا معينا دون الآخر، يتضح أن هذه الحرية فارغة ومبددة لذاتها. حتى الإنسانية نفسها أصبحت نوعا من اللامعقولية.
إن النفس البروتستانتية لم تعد تشعر بالراحة والألفة في العالم؛ فلم يعد هناك أية روابط بين الاثنين. ولما كان الواقع عديم المعنى بطبيعته، لم يعد بمقدور النفس إيجاد انعكاس لها في الواقع، المصنوع من مادة مختلفة تماما عن مادتها. ومن ثم لا يمر وقت طويل قبل أن تقدم على الشك في وجودها - مثل شخص منبوذ - وتحرم من أي شيء خارج نطاقها قد يؤكد هويتها. إن «الإنسان» هو المصدر الأوحد للمعنى في العالم؛ ولكن العالم رفض عملية إضفاء المعنى تلك، محولا إياها إلى عملية اعتباطية وبلا مبرر. ونظرا لعدم وجود معنى أو منطق في الأشياء، فإنها أيضا لا يمكن التنبؤ بها. ولذلك فإن النفس البروتستانتية تتحرك بخوف في عالم مظلم من القوى العشوائية، يطاردها إله خفي، وهي غير واثقة من خلاصها.
لا شك أن كل هذا كان في الوقت نفسه عملية تحرر ضخمة. فلم يعد هناك ببساطة طريقة واحدة صحيحة لقراءة الواقع. ولم يعد الكهنة يحتكرون مفاتيح مملكة المعنى. وصارت حرية التأويل متاحة. كذلك لم يعد الرجال والنساء مضطرين للخضوع للمعاني الجاهزة التي مزجها الإله في العالم. وتدريجيا أفسح النص المقدس للكون - والذي كانت فيه العناصر المادية تشكل رموزا مجازية للحقائق الروحانية - المجال لظهور نص دنيوي. فبعد أن أفرغ الواقع من المعاني الموضوعة مقدما، صار بالإمكان تأويله وفقا لاحتياجات ورغبات الإنسانية. وما كان فيما سبق معاني ثابتة صار بالإمكان تفكيكها وتجميعها بطرق خيالية جديدة. وقد كان القس البروتستانتي فريدريك شلايرماخر هو من ابتكر علم الهرمنيوطيقا، أو التفسير. بل إن هناك جدلا حول وجود جذور إنجيلية راسخة لهذه الرؤية. فقد جاء في (سفر التكوين 2 : 19): «جبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء، فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها، وكل ما دعا به آدم ذات نفس حية فهو اسمها» (النسخة القياسية المنقحة). ولما كان فعل التسمية في الثقافة اليهودية القديمة فعلا إبداعيا أو أدائيا دوما، فإن هذا يشير إلى أن الإنسانية هي مصدر المعنى، بينما يهوه رب العبرانيين هو مصدر الوجود. فالإله يخلق الحيوانات، ويقدمها للإنسان، وتصبح ما يصنعه منها.
هل ينبغي أن يكون تخبط الروح البروتستانتية الوحيدة في الظلام مصحوبة بخوفها سببا للقلق بالنسبة لمن يؤمنون بأننا قادرون على تشكيل الحياة كيفما نشاء؟ نعم ولا: لا؛ لأن جعل حياتك ذات معنى - بدلا من توقع أن يكون معناها موجودا سلفا - يعد فكرة منطقية تماما. ونعم؛ من حيث إنها يجب إلى حد ما أن تعمل بمثابة تحذير واقعي ومتعقل من أن تشكيل المرء لمعنى حياته بنفسه لا يمكن أن يكون مجرد مسألة صياغة أي معنى يستهويك. فهو لا يعفيك من تبرير أيما شيء يجعل لحياتك معنى في إطار الاعتقاد العام. فلا يمكنك أن تكتفي بقول: «أنا عن نفسي، أجد أن معنى الحياة يكمن في حيوان الزغبة الخانقة»، وتأمل في الإفلات بما قلت.
ولا يمكن أيضا أن يكون مسألة خلق من عدم. فالبشر مخلوقات حرة الإرادة؛ ولكن فقط على أساس اعتماد أعمق على الطبيعة والعالم وأحدهم على الآخر. وأيا كان المعنى الذي قد أصوغه لحياتي، فإنه مقيد من الداخل بهذا الاعتماد؛ فلا يمكننا البدء من الصفر. إنها ليست مسألة تخلص من المعاني الممنوحة من قبل الإله من أجل صياغة معانينا الخاصة، مثلما تخيل نيتشه على ما يبدو؛ فنحن غارقون في عمق المعنى، مهما كان الموضع الذي قد نجد أنفسنا فيه. فنحن نتشكل من معاني الآخرين؛ معان لم نخترها قط، ولكنها توفر لنا المصفوفة التي نتوصل داخلها لفهم أنفسنا والعالم. وفي هذا الإطار - إن لم يكن جميع الأطر - فإن فكرة أن بإمكاني تحديد معنى حياتي تعد وهما.
ولكن ما يفهمه الآخرون من حياتهم ليس الشيء الوحيد الذي يقيد ما يمكنني أن أفهم من حياتي. فهي تتشكل أيضا من تلك السمات من وجودي التي تنبع من كوني عضوا في جنس طبيعي، والتي تصل لأقصى درجات الوضوح في الطبيعة المادية لجسمي. فلا يمكن أن يكون جزءا من معنى الحياة أن أقفز بلا أية وسيلة مساعدة من على ارتفاع 30 قدما في الهواء ثلاث مرات يوميا. وأي خطة حياة ذات معنى تفشل في احتواء حقائق القرابة والنشاط الاجتماعي والنشاط الجنسي والموت واللهو والحزن والضحك والمرض والعمل والتواصل وما إلى ذلك لن يقودنا للكثير . صحيح أن هذه الجوانب العامة من الحياة الإنسانية تمارس بشكل مختلف تماما باختلاف الثقافات؛ ولكن يجدر بنا أن نشير إلى أن لها وزنا وأهمية في سياق أي وجود فردي. فالكثير من السمات الأساسية للحياة الشخصية ليست شخصية على الإطلاق. فنظرا لأننا ببساطة حيوانات مادية، فإن قدرا ضخما قد تحدد لنا بالفعل، لا سيما الطرق التي نفكر بها؛ نظرا للارتباط الوثيق بين أسلوبنا في التفكير وطبيعتنا الحيوانية.
6
ولعل ذلك جزء مما كان يدور بذهن فيتجنشتاين حين أشار إلى أنه لو استطاع أسد أن يتكلم، لما استطعنا فهم ما يقول. وما لم يكن معنى الحياة يشمل جسدي المادي وعضويتي في النوع البيولوجي، فلا يمكن القول بأنه يشملني. وسوف نوضح بعضا من تداعيات ذلك في الفصل التالي.
هوامش
الفصل الرابع
هل تكون الحياة كيفما نشكلها؟
حتى الآن تناولنا المعنى أكثر من تناولنا للحياة، غير أن كلمة «حياة» تمثل إشكالية تماما مثل كلمة «المعنى»، وليس من الصعب إدراك السبب وراء ذلك. ألا يمكن أن يكون السبب وراء عدم قدرتنا على الحديث عن معنى الحياة هو عدم وجود ما يسمى الحياة من الأساس؟ ألا نعتبر هنا - مثلما قد يقول فيتجنشتاين - مسحورين بقواعدنا اللغوية التي يمكن أن تصوغ كلمة حياة في صيغة المفرد مثلما يمكن أن تفعل مع كلمة طماطم؟ ربما أن وجود كلمة «حياة» لدينا يرجع فقط إلى كون لغتنا تجسيدية بطبيعتها، وكما يشير فيتجنشتاين:
1 «القواعد اللغوية تعبر عن الماهية.» فكيف يمكن بحق السماء الاعتقاد بأن كل شيء يندرج تحت عنوان الحياة الإنسانية، من الولادة إلى رقصة القبقاب، يدل على معنى واحد؟ أليس هذا بالضبط هو الوهم الذي ينتاب المصابين بجنون الشك، الذين يعتبرون أن كل شيء يفترض أن يكون صدى لكل شيء آخر بشكل يحمل نذرا، ومرتبط معا داخل منظومة كلية واضحة إلى حد مرهق؟ أو وهم الفلسفة - إذا كنت تفضل ذلك التشبيه - الذي يعتبر ما يكون لجنون الشك مثلما علق فرويد عابثا ذات مرة؟ حتى حياة واحدة فردية لا تشكل كلا موحدا. صحيح أن بعض الناس يرون أن حياتهم تشكل قصة رائعة على طول الطريق من المقدمة إلى الخاتمة، ولكن ليس كل شخص يرى نفسه كذلك. إذن كيف يمكن لملايين لا تحصى من الحيوات الفردية أن تفضي إلى منظومة كلية متماسكة ومتكاملة، إن لم يكن بإمكان ولو حياة واحدة أن تفعل ذلك؟ إن الحياة بلا شك لا تملك قالبا كافيا ولا حتى لتكوين لغز.
إن «معنى الحياة» قد يعني «ما تدل عليه الحياة برمتها»، وفي تلك الحالة سينظر فعلا إلى الولادة ورقصة القبقاب كجوانب لوحدة كاملة واحدة ذات دلالة، وهو ما يتخطى حدود توقعاتك حتى من أكثر الأعمال الفنية تميزا وتكاملا. حتى أعظم السرديات التاريخية لا تتخيل أن بإمكانها استخلاص معنى من كل شيء. فالماركسية ليس لديها شيء لتقوله عن غدد الرائحة الشرجية لدى السنور، وهو صمت لا ترى فيه ما يعيبها. ولا يوجد موقف بوذي رسمي بشأن شلالات ويست يوركشاير. فمن المستبعد بشكل كبير أن يشكل كل شيء في الحياة الإنسانية جزءا من نموذج متماسك. إذن هل يكفي القيام بذلك على مدار معظمها؟ أو هل «معنى الحياة» يعني أكثر «الدلالة الأساسية للحياة»؛ أي إنها لا تعني ما تدل عليه ضمنا بقدر ما تعني خلاصتها؟ إن عبارة مثل «معنى الحياة هو المعاناة» لا تشير إلى أن المعاناة هي كل الحياة، أو أنها فكرة وهدف الحياة، ولكنها تشير إلى أنها السمة الأهم أو الأكثر حيوية لها. ومن خلال تتبع هذا الخيط تحديدا، يمكننا فهم المقصد الكلي المحير.
إذن هل توجد ظاهرة تسمى «الحياة الإنسانية» والتي يمكن أن تكون حاملة لمعنى متماسك؟ حسنا، لا شك أن الناس يتحدثون عن الحياة أحيانا بمصطلحات عامة كهذه. فالحياة مضحكة، أو دنيئة، أو ملهى ليلي، أو واد من الدموع، أو مفروشة بالورود. قد تبدو هذه المجموعة من المصطلحات البالية ليست كافية لبناء حجة. غير أن افتراض أن جميع العبارات التي تتضمن شرحا ذاتيا عن الحياة الإنسانية فارغة هو نفسه افتراض فارغ. ليس صحيحا أن الحقائق المادية المحددة هي فقط ما تملك أية قوة. فماذا مثلا عن التعميم بأن معظم الرجال والنساء في التاريخ قد عاشوا حياة من الشقاء والكدح العقيم البائس؟ لا شك أن هذا أكثر إثارة للانزعاج من الافتراض القائل بأن معظم الناس في مقاطعة ديلاوير قد عاشوا تلك الحياة.
ربما من المستحيل أن نستخدم التعميم فيما يتعلق بالحياة الإنسانية بشكل ذكي؛ لأن القيام بذلك يستدعي الخروج من نطاقها، وهو ما سيكون أشبه بمحاولة الانسلاخ من جلودنا. لا شك أن لا أحد يستطيع استطلاعها ككل ويرى ما إذا كان لها معنى سوى شخص من خارج الوجود الإنساني كليا مثل الإله؟
2
إن هذه القضية قريبة لحجة نيتشه في كتابه «أفول الأصنام» من أنه لا يمكن تقييم الحياة على أنها ذات قيمة أو عديمة القيمة في حد ذاتها، إذ إن المعايير التي سنستند إليها من أجل تقرير ذلك ستكون هي ذاتها جزءا من الحياة. ولكن هذا الأمر خاضع للشك قطعا. فأنت لست بحاجة للوقوف خارج إطار الوجود الإنساني لكي تصدر عنه تعليقات ذات معنى، تماما مثلما لا تحتاج لأن تكون في نيوزيلندا من أجل انتقاد المجتمع البريطاني ككل. صحيح أن لا أحد قد سبق له أن رأى المجتمع البريطاني ككل بشكل فعلي، تماما مثلما لا أحد قد وقعت عيناه على حركة الكشافة؛ ولكن بإمكاننا أن نتوصل إلى استدلالات منطقية من الوقائع التي نلم بها عن الوقائع التي لا نلم بها. إنها ليست مسألة رؤية الشيء بأكمله، وإنما مجرد مسألة رؤية ما يكفي لتمييز ما يبدو نمطيا عما لا يبدو كذلك.
إذا كان من الممكن أن تكون التعميمات بشأن الإنسانية صحيحة، فإن ذلك يرجع - من بين أشياء أخرى - إلى أن البشر بانتمائهم لنفس الجنس الطبيعي، لديهم قدر ضخم من الأشياء المشتركة فيما بينهم. وهذا لا يعني إغفال الفروق والاختلافات الرهيبة بينهم على المستوى السياسي. ولكن على مفكري ما بعد الحداثة الذين يطربهم الاختلاف، ويجدونه أينما ذهبوا بتشابه مخيف، ألا يغفلوا سماتنا المشتركة أيضا. إن الاختلافات بين البشر أمر حيوي، ولكنها ليست أساسا متينا بالشكل الكافي بحيث يصلح لبناء أخلاقيات أو سياسات عليه.
إلى جانب ذلك، حتى لو لم يكن باستطاعة المرء الحديث عن «الحالة الإنسانية» في عام 1500، فلا شك أن بإمكانه القيام بذلك في عام 2000. وهؤلاء الذين يجدون تلك الفكرة غير مستساغة يبدو أنهم لم يسمعوا بالعولمة من قبل قط. إنها رأسمالية تتخطى الحدود القومية ساعدت على تحويل الإنسانية إلى كيان واحد. إن ما نشترك فيه الآن على الأقل هو إرادة البقاء في وجه التهديدات المتعددة التي تواجه وجودنا، والتي تلوح في كل جانب. وهناك دلالة في أن من ينكرون حقيقة الحالة الإنسانية ينكرون أيضا ظاهرة الاحترار العالمي. فلا شيء يفترض أن يوحد نوعا من الأنواع بشكل فعال كاحتمالية انقراضه. فنحن نتوحد على الأقل في الموت.
إذا كان معنى الحياة يكمن في «الهدف» المشترك للبشر، فلا يبدو ثمة شك بشأن ماهيته. فالشيء الذي يكافح الجميع من أجل بلوغه هو السعادة. ولا شك أن كلمة «سعادة» من الكلمات الواهنة المرتبطة في الأذهان بمعسكرات الإجازات، وتثير فيها صورة الضحكات الهستيرية وقفزات الفرح في سترة متعددة الألوان. ولكن كما يقر أرسطو في كتابه «الأخلاق النيقوماخية»، فإنها تعمل بمثابة قاعدة من نوع ما في حياة الإنسان، بمعنى أنه لا يمكنك أن تسأل بشكل عقلاني ومنطقي «لماذا» يجب أن نسعى لأن نكون سعداء. إنها ليست وسيلة لبلوغ شيء آخر، مثلما هو الحال بالنسبة للنفوذ أو المال، إنها أقرب للحاجة لنيل الاحترام، والرغبة فيها تبدو كجزء من طبيعتنا. إذن نحن هنا أمام مصطلح تأسيسي من نوع ما. المشكلة هي أنه مصطلح مبهم تماما. ففكرة السعادة تبدو حيوية وفارغة على حد سواء. فما الذي يدخل في عداد السعادة؟ ماذا إذا وجدت السعادة في ترويع النساء العجائز؟ قد يقضي شخص ما يعتزم أن يصبح ممثلا ساعات بلا جدوى في تجارب الأداء بينما يعيش على الفتات، ويقضي معظم وقته قلقا، ومحبطا وجائعا نوعا ما. إنه لا يدخل في عداد من نطلق عليهم سعداء. فحياته تخلو من أي متعة أو هناء ؛ غير أنه - إن جاز التعبير - على استعداد للتضحية بسعادته في سبيل سعادته.
في بعض الأحيان ينظر إلى السعادة كحالة ذهنية، ولكن ليس هذا منظور أرسطو لها. فالسعادة هي ما قد نطلق عليه حالة روحانية، والتي لا تنطوي في رأيه على حالة داخلية من الوجود فحسب، ولكنها تنطوي أيضا على ميل للتصرف بأسلوب معين. وكما أشار لودفيج فيتجنشتاين ذات مرة، فإن الصورة المثلى للروح هي الجسد. فإذا أردت أن تراقب «روح» أحدهم، فلتنظر إلى ما يفعل. وبالنسبة لأرسطو، يمكن بلوغ السعادة عن طريق الفضيلة، والفضيلة في المقام الأول ممارسة اجتماعية أكثر منها توجه عقلي. والسعادة جزء من أسلوب عملي للحياة، وليس حالة من الرضا الداخلي الخاص. وبناء على هذه النظرية، يمكنك مراقبة سلوك أحدهم على مدار فترة من الزمن وتصيح قائلا: «إنه سعيد!» كما لا يمكنك أن تفعل مع نموذج أكثر ازدواجية من البشر، ولن يكون لزاما أيضا أن يكون على وجهه ابتسامة عريضة أو يقفز فرحا.
شكل 4-1: تمثال للفيلسوف اليوناني أرسطو. (© Bettmann/Corbis)
في معرض مناقشة جوليان باجيني للسعادة في كتابه «عم يدور الأمر؟» فشل فشلا ذريعا في التعبير عن هذه الفكرة. فمن أجل توضيح أن السعادة ليست جوهر الحياة أو هدفها المطلق، يذهب إلى أنك إذا كنت على وشك الانطلاق في سعيك نحو السعادة ورأيت شخصا يغرق في الرمال المتحركة، فبالطبع سيكون من الأفضل أن تنقذه عن أن تسعى وراء سعادتك.
3
إن اللغة في عبارة «الانطلاق في سعيك نحو السعادة» موحية بالتأكيد؛ فهي تجعل السعادة تبدو كمسعى خاص من ناحية، وتجعلها تبدو كليلة ممتعة تقضيها في الخارج في المدينة من ناحية أخرى. والواقع أنها تجازف بجعل السعادة تبدو أقرب للمتعة، ومن ثم فإن إنقاذ شخص من الرمال المتحركة لا يمكن أن يكون جزءا منها؛ لأنه بالطبع ليس أمرا ممتعا. بل إن باجيني يعترف في موضع آخر في كتابه - مشتركا في ذلك مع معظم الفلاسفة الأخلاقيين - بأن المتعة شعور عابر، بينما السعادة في أفضل صورها عبارة عن حالة مستمرة من الوجود. يمكنك أن تمر بحالة من المتعة الغامرة دون أن يكون لديك أدنى قدر من السعادة؛ ومثلما يبدو أن بإمكانك أن تكون سعيدا لأسباب مشبوهة (مثل ترويع السيدات العجائز)، يمكنك أيضا أن تشتهي متعا مشينة أخلاقيا، مثل الشماتة في ألم عدو.
على ذلك يتجلى لنا أحد الاعتراضات الواضحة على المثال الذي أورده باجيني. ألا يمكن أن يكون إنقاذ شخص من الرمال المتحركة «جزءا» من سعادة الفرد، وليس انصرافا عنها نابعا من الإحساس بالواجب؟ لا يكون ذلك واضحا فقط إذا كان تفكير الشخص في السعادة يسير في سياق المتعة، وليس السعادة بالمفهوم الأرسطي. فالسعادة من منظور أرسطو مرتبطة بممارسة الفضيلة؛ وعلى الرغم من أنه لم يكن لديه شيء محدد يدلي به بشأن إنقاذ الناس من الرمال المتحركة، فإن هذا كان ليعد قطعا دلالة على السعادة في نظر خليفته المسيحي العظيم توما الأكويني. فقد كان بالنسبة لتوما الأكويني مثالا للحب الذي لا يتعارض في منظوره مع السعادة. وهذا لا يعني القول بأن أرسطو يرى السعادة والمتعة متضادين. على العكس، فالأشخاص الفاضلون في رأيه هم الذين يحصدون المتعة من فعل الخير، أما هؤلاء الذين يفعلون الخير دون الاستمتاع به، فهم في نظره ليسوا ذوي فضيلة بحق. ولكن لا شك أن مجرد متعة شخص أحمق أو متعة يحظى بها حاكم مستبد منحل تتناقض مع السعادة.
تتجلى فكرة باجيني عن السعادة - البعيدة نوعا ما عن النموذج الأرسطي - في سيناريو اقتبسه من الفيلسوف روبرت نوزيك. لنفترض أنك قد تم توصيلك بآلة أشبه بالكمبيوتر الخارق في فيلم «المصفوفة»، أتاحت لك تجربة افتراضية من السعادة الكاملة المتواصلة. ألم يكن معظم الناس ليرفضون هذه السعادة المغرية بداعي عدم واقعيتها؟ أولسنا نرغب في أن نعيش حياتنا بشكل حقيقي، دون خداع، واعين بأنفسنا باعتبارنا مؤلفي قصة حياتنا، وبأن كفاحاتنا - وليس آلة مصنعة - هي المسئولة عن إحساسنا بالإنجاز؟ يعتقد باجيني أن معظم الناس سيرفضون آلة السعادة لهذه الأسباب، وهو محق بالتأكيد. ولكن أكرر مرة أخرى أن فكرة السعادة التي يعرضها لنا هنا ليست أرسطية . إنها حالة مزاجية أو حالة من الوعي أكثر منها أسلوب حياة. بل إنها نفس نوعية المفهوم الحديث للسعادة الذي ربما وجده أرسطو غامضا، أو على الأقل غير مستساغ. ففي رأيه أنك لا تستطيع أن تحظى بالسعادة بالجلوس داخل ماكينة طوال حياتك؛ ليس فقط لأن تجربتك سوف تكون مسألة محاكاة أكثر منها مسألة واقع، ولكن لأن السعادة تنطوي على صورة عملية واجتماعية من صور الحياة. إن السعادة من منظور أرسطو ليست نزعة داخلية قد تظهر فيما بعد في أفعال معينة، ولكنها أسلوب تصرف يخلق نزعات وميولا معينة.
يرى أرسطو أن السبب وراء عدم قدرتك على الشعور بسعادة حقيقية بالجلوس داخل ماكينة طوال حياتك يتشابه إلى حد كبير مع السبب وراء عدم قدرتك على الشعور بسعادة كاملة وأنت حبيس كرسي متحرك أو رئة فولاذية. بالطبع لا يعني ذلك أن المعاقين لا يستطيعون إدراك إحساس غال بالرضا الذاتي كأي شخص آخر؛ بل يعني ببساطة أن الإعاقة هي أن تكون قدرة الشخص على إدراك قوى وقدرات معينة مقيدة. ومثل هذا الإدراك في تعريف أرسطو المتخصص، هو جزء من سعادة الفرد. ثمة معان أخرى «للسعادة» يمكن فيها للأشخاص المعاقين أن يكونوا سعداء تماما. غير أن أسلوب العزوف عن إفشاء الحقائق السائد حاليا وإنكار أن المعاقين هم معاقون حقا - وهو نوع من خداع الذات يبرز بشكل خاص في الولايات المتحدة التي تعتبر العجز مصدر حرج وأن لا شيء يكفي سوى النجاح - يعد شكلا من النفاق الأخلاقي شأنه شأن العادة الفيكتورية في إنكار أن الفقراء أقرب لأن يكونوا تعساء، وترجع جذوره إلى ميل غربي عام لإنكار الحقائق المزعجة، أو رغبة ملحة لإزاحة المعاناة أسفل السجادة.
ربما تكون تضحية الفرد بسعادته من أجل سعادة شخص آخر هي أروع تصرف أخلاقي يمكن للمرء أن يتخيله. ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أنه الصورة النموذجية للحب أو أكثر أنواع الحب قبولا. إنه ليس أكثر أنواع الحب قبولا؛ لأنه للأسف شيئا ضروريا وأساسيا في المقام الأول، وليس الصورة النموذجية لأن الحب في أقصى صورة نموذجية له ينطوي على أقصى قدر ممكن من التبادلية، كما سأوضح بعد قليل. فقد يحب شخص أطفاله الصغار إلى حد الاستعداد للموت في سبيلهم عن طيب خاطر؛ ولكن لما كان الحب في أشمل معانيه هو شيء سوف يتعين على الأطفال أنفسهم تعلمه، فإن الحب بينك وبينهم لا يمكن أن يكون النموذج الأساسي للحب الإنساني، شأنها في ذلك شأن علاقة أقل قيمة، مثل عاطفة شخص تجاه خادم عجوز مخلص. فالعلاقة في كلتا الحالتين ليست متكافئة بالقدر الكافي.
إذن فالسعادة في رأي أرسطو تنطوي على إدراك إبداعي للملكات الإنسانية النمطية للفرد. إنها شيء تمارسه قدر ما هي شيء تكونه. ولا يمكن ممارسته بمعزل عن الآخرين، وهو ما يعد من ضمن الاختلافات بينها وبين السعي وراء المتعة. فالفضائل الأرسطية هي في أغلب الأحيان فضائل اجتماعية. إن فكرة تحقيق الذات يمكن أن يقترن بها إحساس بالقوة والحيوية والتوهج، وكأننا نتحدث عن تمارين رياضية للروح. والواقع أن نموذج أرسطو الأخلاقي للشخص «رائع الروح» أشبه كثيرا بالوصف التالي: سيد أثيني ثري لا يعرف الفشل والخسارة والمأساة؛ وهو أمر مثير بالنسبة لمؤلف واحدة من أعظم الأطروحات العالمية عن الموضوع الأخير. إن الرجل الصالح بالنسبة لأرسطو غالبا ما يبدو أشبه ببيل جيتس، أكثر من القديس فرانسيس الأسيزي. صحيح أنه ليس مهتما بأن يكون ناجحا مثل هذه النوعية من الأشخاص أو تلك - كرجال الأعمال مثلا أو الساسة - ولكنه مهتم بأن ينجح كإنسان. فكونك إنسانا - من وجهة نظر أرسطو - هو شيء يجب أن تجيده، والأشخاص ذوو الفضيلة إنما هم مبدعون في فن الحياة. ومع ذلك، هناك شيء خاطئ في نظرية عن السعادة قد تعتبر أن فكرة المرأة السعيدة تحمل تناقضا وزيفا منطقيا. وكذلك الحال بالنسبة لفكرة الفاشل السعيد.
غير أن تحقيق الذات في رأي كارل ماركس - أحد الفلاسفة الأخلاقيين المنتمين لسلالة أرسطو - يشمل أيضا الاستماع لرباعية وترية، أو التلذذ بمذاق ثمرة خوخ مثلا. ربما كان «لإشباع الذات» رنين أقل قوة من «تحقيق الذات». فالسعادة هي مسألة إشباع للذات ، والتي لا يجب الخلط بينها وبين أيديولوجية الكشافة أو دوق إدنبرة المتعلقة برؤية الحياة كسلسلة من الحواجز يجب تخطيها وإنجازات يجب حصدها. فالإنجازات تكتسب معنى داخل السياق النوعي للحياة بأكملها، وليس (كما في أيديولوجية الحياة لدى متسلقي الجبال) كقمم منعزلة من بلوغ الأهداف.
إن الناس - بشكل عام - إما يشعرون بالرضا أو لا يشعرون به، وهم يعون تلك الحقيقة بصفة عامة. وبالتأكيد لا يمكن لأحد أن ينكر تأثير ما يعرف بالوعي الزائف هنا. فقد يتم خداع العبد ليعتقد أنه سعيد عندما يعكس سلوكه حقيقة أنه ليس كذلك. فنحن نملك موارد رائعة لتبرير تعاستنا وبؤسنا. ولكن على سبيل المثال حين يخبر نسبة 92٪ من الأيرلنديين - وهي نسبة مثيرة للدهشة - منظمي استطلاعات الرأي أنهم سعداء، لا يملك المرء شيئا سوى تصديقهم. صحيح أن الأيرلنديين من عادتهم إظهار الود والترحاب للغرباء، ومن ثم فقد يدعون السعادة لمجرد إشعار منظمي استطلاعات الرأي بالسعادة، ولكن لا يوجد سبب حقيقي يدعو لعدم تصديقهم. غير أنه فيما يتعلق بالسعادة العملية أو الأرسطية، تكون مخاطر خداع الذات أكثر حدة. فكيف لك أن تعرف أنك تعيش حياتك بأسلوب أخلاقي؟ لعل صديقا أو مراقبا خارجيا قد يكون حكما أكثر موثوقية في هذا الصدد من نفسك. وفي الواقع، قد يكون من بين الأسباب التي دفعت أرسطو لتأليف كتبه عن الأخلاق هو تصحيح إدراك الناس بشأن المفهوم الحقيقي للسعادة. ربما كان يفترض وجود قدر كبير من الوعي الزائف في هذا الصدد. وإلا فمن الصعب أن نعرف لما كان ينبغي أن ينصح بوجود هدف يسعى وراءه الرجال والنساء أجمع على أية حال.
وإذا كانت السعادة حالة ذهنية، فإنها إذن قد تعتمد على ظروف الشخص المادية. من الممكن أن تدعي أن بإمكانك أن تنعم بالسعادة على الرغم من تلك الظروف، وهي حالة ليست بعيدة عن حالة الفيلسوف باروخ سبينوزا أو الرواقيين القدماء. غير أنه من المستبعد إلى حد كبير أن يكون بإمكانك الشعور بالسعادة عند العيش في معسكر للاجئين مكتظ وغير صحي، بعد فقدان أطفالك مباشرة إثر كارثة طبيعية. غير أن ذلك يكون أكثر وضوحا بناء على إحدى النظريات الأرسطية للسعادة. فلا يمكنك أن تكون شجاعا وجديرا بالاحترام وسخيا ما لم تكن شخصا حر الإرادة بشكل معقول يعيش في ظروف سياسية تدعم هذه الفضائل. ولذلك يرى أرسطو أن الأخلاق والسياسة بينهما رباط وثيق. فالحياة الصالحة تتطلب حالة سياسية من نوع معين؛ وهي في رأيه حالة مزودة بقدر جيد من العبيد والنساء الخاضعات، للقيام بالأعمال والمهام الشاقة بينما تنطلق أنت سعيا وراء حياة التميز. إن السعادة قضية مؤسسية؛ فهي تتطلب نوعية من الظروف الاجتماعية والسياسية تحظى فيها بالحرية لممارسة قدراتك الإبداعية. ويكون ذلك أقل وضوحا حين ينظر أحدهم للسعادة بشكل أساسي كقضية داخلية أو فردية، مثلما يفعل الليبراليون. فالسعادة حالة ذهنية قد تتطلب بيئة هادئة خالية من الاضطرابات، ولكنها لا تتطلب نوعا بعينه من السياسات.
إذن فقد تشكل السعادة معنى الحياة، ولكنها ليست قضية بسيطة ومباشرة. فقد رأينا - على سبيل المثال - أن أحدهم قد يدعي أنه يستمد السعادة من انتهاج سلوك حقير. بل قد يدعي بأسلوب لا أخلاقي أنه يستمدها من التعاسة، كما في عبارة «إنه يشعر بالسعادة أكثر ما يشعر بها عند الشكوى.» بعبارة أخرى، هناك دائما مشكلة الماسوشية أو التلذذ بتعذيب الذات. فقد تكون حياة المرء - فيما يتعلق بالسلوكيات الحقيرة - ذات معنى شكليا؛ من حيث كونها منظمة ومتماسكة ومخططة بشكل جيد، ومليئة بالأهداف المحددة بشكل جيد، فيما تتسم بالتفاهة أو حتى الانحطاط في محتواها الأخلاقي. بل قد يكون الاثنان متصلين فيما بينهما، كما في متلازمة البيروقراطي ذي القلب الضامر. بالطبع توجد عناصر أخرى مرشحة لتشكيل معنى الحياة: القوة، والحب، والاحترام، والحقيقة، والمتعة، والحرية، والعقل، والاستقلالية، والدولة، والأمة، والإله، والتضحية بالنفس، والتأمل، والحياة وفقا للطبيعة، وتحقيق السعادة القصوى لأكبر عدد من الأشخاص، ونكران الذات، والموت، والرغبة، والنجاح الدنيوي، وتقدير الرفاق، وحصد أكبر عدد ممكن من الخبرات القوية، والاستمتاع، وما إلى ذلك. إن الحياة تصبح ذات معنى بالنسبة لمعظم الناس - على الصعيد العملي إن لم يكن دائما على الصعيد النظري - بعلاقاتهم بأقرب الأشخاص إليهم، مثل شركاء الحياة والأطفال.
ثمة عدد من العناصر المرشحة الأخرى سوف تبدو للعديد من الناس إما بالغة التفاهة، أو وسيلية أكثر من اللازم، لكي يعتد بها كمعنى للحياة. وتندرج كل من القوة والثروة بشكل واضح إلى حد ما إلى فئة العناصر الوسيلية، وأي شيء يستخدم كوسيلة لا يمكن أن يتسم بالسمة الأساسية التي يتطلبها معنى الحياة؛ إذ إنه يتواجد من أجل شيء أكثر جوهرية من نفسه. وليس بالضرورة أن يساوي ذلك بين ما هو وسيلي وبين ما هو أدنى: فالحرية - على الأقل في بعض من تعريفاتها - وسيلية، ولكن معظم الناس يتفقون على قيمتها النفيسة.
ومن ثم فإن إمكانية أن تكون القوة هي معنى الحياة قد يبدو أمرا محل شك؛ غير أنها مورد بشري ثمين، كما يعي من لا يملكونها. وكما هو الحال بالنسبة للثروة، فإن هؤلاء الذين يملكون القوة هم فقط من يملكون ازدراءها. فكل شيء يعتمد على من يستخدمه، والأغراض التي يستخدمه فيها، وفي أي مواقف. ولكنها لا تبدو غاية في حد ذاتها أكثر من الثروة؛ ما لم تتعامل مع «القوة» بالمعنى النيتشوي، الذي يعد أقرب لفكرة تحقيق الذات منه إلى فكرة السيطرة والهيمنة. (هذا لا يعني أن نيتشه كان يحمل أي بغض لجرعة قوية من الأخيرة). إن «إرادة القوة» في فكر نيتشه يعني نزعة كل الأشياء لإدراك وتوسيع وتقوية نفسها؛ ومن المنطقي أن ننظر إلى هذا كغاية في حد ذاتها، مثلما ينظر أرسطو إلى ازدهار ونجاح الإنسان كغاية في حد ذاته. وقد كانت نظرة سبينوزا للقوة مشابهة إلى حد كبير. كل الفرق هو أن هذا التزايد المتواصل للقوى في رؤية نيتشه الداروينية للحياة تشمل القوة أيضا كهيمنة، إذ يسعى كل شكل من أشكال الكائنات الحية إلى إخضاع الأشكال الأخرى. وهؤلاء الذين يستهويهم النظر إلى القوة في إطار الهيمنة كغاية في حد ذاتها لا بد أنهم يستدعون إلى الأذهان الصورة الغريبة والبشعة لمالك الصحيفة البريطانية الراحل روبرت ماكسويل، والذي كان محتالا ومتنمرا والذي كان جسده يمثل صورة قذرة لروحه.
أما بالنسبة للثروة، فإننا نعيش في حضارة تنكر أنها غاية في حد ذاتها بدافع من الورع، وتتعامل معها في الواقع العملي بالطريقة نفسها بالضبط. إن من بين أقوى الاتهامات الموجهة للرأسمالية أنها تدفعنا لاستثمار معظم طاقاتنا الإبداعية في أمور هي في واقع الأمر نفعية بشكل بحت. وبذلك تصبح وسائل المعيشة هي الغاية. إن السمة الأساسية للحياة تتمثل في إرساء البنية التحتية المادية للمعيشة. ومن المدهش أن النظام المادي للحياة في القرن الحادي والعشرين يزداد حجما مثلما كان في العصر الحجري. فرأس المال الذي يمكن أن يخصص لتحرير الرجال والنساء - ولو بدرجة متوسطة - من الحاجة الملحة للعمل يخصص بدلا من ذلك لمهمة تكديس المزيد من رأس المال.
شكل 4-2: قابض الأرواح: لقطة ساكنة من فيلم «معنى الحياة» لمونتي بايثون. (©
/Collection Cinéma)
إذا كان السؤال الخاص بمعنى الحياة يبدو ملحا في هذا الموقف، فإن ذلك يرجع من جانب إلى أن عملية التكديس برمتها في النهاية غير مجدية وبلا هدف، مثل الإرادة لدى شوبنهاور. فعلى غرار الإرادة، يتمتع رأس المال بقوة دافعة خاصة به، ويتواجد بشكل أساسي لأجل نفسه، ويستخدم الأفراد كأدوات لتطوره الأعمى. كما أن به شيء من الدهاء الدنيء الذي تتسم به الإرادة، إذ يقنع الرجال والنساء الذين يستخدمهم وكذلك العديد من الأدوات بأنهم متفردون وذوو قيمة غالية وإرادة حرة. وإذا كان شوبنهاور يطلق على هذا الخداع مسمى «الوعي»، فإن ماركس يطلق عليه الأيديولوجية.
بدأ فرويد رحلته بالاعتقاد بأن معنى الحياة هو الرغبة، أو خدع اللاوعي خلال فترة اليقظة من حياتنا، وتوصل للاعتقاد بأن الموت هو معنى الحياة. ولكن هذا الادعاء يمكن أن يكون له عدة معان مختلفة. فهو يعني لدى فرويد نفسه أننا جميعا في النهاية عبيد لدى «ثاناتوس» أو غريزة الموت. ولكنه يمكن أن يعني أيضا أن الحياة التي لا تحوي شيئا، لدى الفرد الاستعداد للموت في سبيله، من غير المحتمل أن تكون مثمرة. أو يمكن أن يشير إلى أن الحياة في ظل الوعي بفنائيتنا يعني العيش بالواقعية والسخرية والمصداقية وإحساس تأنيبي بمحدوديتنا وضعفنا. وعلى هذا الصعيد على الأقل، فإن التمسك بإيماننا بأكثر ما هو حيواني فينا يعني العيش بمصداقية. فسوف نكون أقل ميلا لخوض مشروعات متغطرسة تجلب الأسى لنا وللآخرين. فالثقة اللاواعية في خلودنا هي مصدر جزء كبير من دمارنا.
ومن خلال التنبه المرير لفنائية الأشياء، سوف نتوخى الحذر من التشبث بها بشكل استحواذي. ومن خلال هذا الانفصال التمكيني، تتحسن قدرتنا على رؤية الأشياء على حقيقتها، وكذا الاستمتاع بها بشكل أكبر. وفي هذا الإطار، نجد أن الموت يدعم الحياة ويعززها، بدلا من تجريدها من القيمة. هذه ليست وصفة للاستمتاع باللحظة، ولكن العكس تماما. فالتلذذ المحموم بالاستمتاع باللحظة، وإمتاع النفس، والاحتفال بتناول نخب إضافي، والعيش وكأن الغد لن يأتي، إنما هو استراتيجية بائسة للتحايل على الموت تسعى بلا جدوى لخداعه وليس فهمه. وفي خضم بحثها المستعر عن اللذة، إنما تضفي جلالا على الموت الذي تحاول إنكاره. وعلى كل ما تتسم به هذه الرؤية من براعة وإتقان، فإنها تشاؤمية، بينما تقبل الموت يعد رؤية تفاؤلية.
إلى جانب ذلك، فإن الوعي بحدودنا - التي يبرزها الموت بشكل قاس لا يرحم - يعني أيضا الوعي بالطريقة التي نعتمد بها على الآخرين وطريقة تقييدهم لنا. فحين يعلق القديس بولس بأننا نموت في كل لحظة، فربما يكون جزء مما كان يدور بخلده هو حقيقة أننا لا يمكننا العيش بشكل جيد إلا بتكريس النفس لتلبية احتياجات الآخرين، فيما يعد نوعا من الموت الأصغر. وفي قيامنا بذلك، إنما نتدرب على ذلك النكران الأخير للذات الذي هو الموت ونتصوره قبل حدوثه. وبهذه الطريقة يكون الموت في إطار الاحتضار المتواصل للنفس هو مصدر الحياة الصالحة. وإذا كان ذلك يبدو نوعا من الخنوع ونكران الذات غير المقبول، فإن ذلك يعزى فقط لأننا ننسى أنه إذا كان الآخرون يفعلون ذلك أيضا، تكون المحصلة نوعا من الخدمات المتبادلة التي توفر السياق لكل نفس لكي تزدهر. والاسم التقليدي لهذا التبادل هو الحب.
غير أننا أيضا نموت في كل دقيقة بمعنى أكثر حرفية نوعا ما. فنحن نعيش بنوع من الإنكار المستديم، إذ نبطل موقفا بإلقاء أنفسنا داخل آخر. وهذا السمو الذاتي الدائم - الذي لا يتاح سوى للبشر - يعرف باسم التاريخ. غير أنه على مستوى التحليل النفسي يسمى الرغبة، وهو ما يعد أحد الأسباب التي تجعل الرغبة مرشحا مقبولا لمعنى الحياة. فالرغبة تطفو على السطح حين يكون هناك شيء مفقود. إنها مسألة عوز ونقص، تفرغ الحاضر من مضمونه من أجل نقلنا إلى مستقبل مفرغ بشكل مماثل. فمن ناحية، يعتبر الموت والرغبة خصمين؛ لأننا إذا توقفنا عن الرغبة، فسوف يتوقف التاريخ. ولكن من ناحية أخرى، فإن الرغبة - التي يعتبرها الفرويديون القوة الدافعة للحياة - تعكس في نقصها الداخلي الموت الذي ستقودنا إليه في النهاية. وفي هذا الإطار تكون الحياة أيضا توقعا مسبقا للموت؛ فالشيء الوحيد الذي يمنحنا القدرة على مواصلة الحياة هو أننا نحمل الموت في داخلنا.
شكل 4-3: الطريق إلى الخلود يبدأ من هنا. (© Mark Power/Magnum
وإذا كان الموت يبدو إجابة كئيبة للغاية للسؤال عن معنى الحياة، والرغبة فكرة شهوانية للغاية، فماذا عن التأمل الفكري؟ من أفلاطون وسبينوزا إلى الزعيم الديني المنتمي للمحافظين الجدد ليو شتراوس، كان لفكرة أن التأمل في حقيقة الوجود هو أنبل أهداف الإنسانية إغراؤها؛ لا سيما بين المفكرين. ومن اللطيف أن تشعر بأنك قد بلغت معنى الكون بمجرد الدخول إلى مكتبك بالجامعة كل صباح. يبدو الأمر كما لو كان يفترض بمصممي الأزياء - حين يسئلون عن معنى الحياة - أن يجيبوا: «بنطلون رائع بحق»، فيما ينبغي أن يقترح المزارعون المحصول الوفير كمعنى للحياة. حتى أرسطو، على كل اهتمامه بصور الحياة العملية، كان يعتقد أن هذا هو أسمى أشكال الإنجاز. غير أن فكرة أن معنى الحياة يكمن في تأمل معنى الحياة تبدو أشبه بالدوران في حلقة مفرغة. فهي تفترض أيضا أن معنى الحياة هو افتراض من نوع ما مثل «الأنا عبارة عن وهم»، أو «كل شيء مصنوع من لباب الخبز.» بعد ذلك قد يكون الحظ حليفا لنخبة صغيرة من الحكماء - الذين كرسوا حياتهم للتفكر في هذه الأمور - ويتوصلوا إلى حقيقة القضية أيا كانت. وتلك ليست القضية بالنسبة لأرسطو، الذي يعتبر مثل هذا التخمين - أو التأمل - هو نفسه نوعا من الممارسة؛ ولكنه خطر يمكن للقضية أن تجلبه.
ولكن إذا كان للحياة معنى، فإنه بالتأكيد ليس من هذا النوع التأملي. فمعنى الحياة ليس افتراضا بقدر ما هو ممارسة. إنه ليس حقيقة خفية، ولكنه «صورة» محددة من صور الحياة. ومن الممكن أن تصبح معلومة فقط خلال الحياة. ربما كان هذا هو ما يدور في ذهن فيتجنشتاين حين أشار في «الرسالة الفلسفية المنطقية» إلى «أننا نشعر أنه حتى لو وجدت جميع الأسئلة العلمية الممكنة إجابات لها، فإن مشكلات الحياة لم تعالج جميعا بعد. بالطبع لا يكون هناك حينها أية أسئلة متبقية، وتلك هي الإجابة بالضبط. فحل مشكلة الحياة يدرك في اختفاء هذه المشكلة» (6,52، 6,251).
ما المعنى الذي يمكننا استخلاصه من تلك المقولات الغامضة؟ إن فيتجنشتاين على الأرجح لا يقصد أن معنى الحياة هو مسألة زائفة، بل يقصد أنه مسألة زائفة فيما يتعلق بالفلسفة. لم يكن فيتجنشتاين يكن الكثير من الاحترام للفلسفة، والتي كان يتمنى أن يضع لها كتابه «الرسالة الفلسفية المنطقية» نهاية. فقد كان يعتقد أن جميع الأسئلة الحيوية تقع خارج إطار حدودها الصارمة. فليس معنى الحياة شيئا يمكن أن يقال في شكل افتراض واقعي؛ وقد كان هذا النوع من الافتراضات هو النوع المنطقي الوحيد بالنسبة لفيتجنشتاين في بداياته. ويمكننا أن نلمح شيئا من معنى الحياة حين ندرك أنه ليس من هذا النوع من الأشياء التي يمكن أن تمثل إجابة لسؤال ذي معنى على المستوى الفلسفي. إنه ليس «حلا» على الإطلاق. وما أن ندرك أنه يتجاوز حدود جميع مثل هذه الأسئلة، ندرك أن «هذه» هي إجابتنا.
إن كلمات فيتجنشتاين التي استشهدت بها فيها في موضع سابق في الكتاب - «الغموض لا يكمن في كيفية نشأة العالم، ولكن يكمن في وجوده أصلا» - ربما تعني أن بإمكاننا الحديث عن هذه الظروف أو تلك في العالم، ولكن ليس عن قيمة أو معنى العالم ككل . وهذا لا يعني أن فيتجنشتاين قد رفض هذا الحديث باعتباره لغوا فارغا، مثلما فعل الوضعيون المنطقيون. على العكس، فقد كان يعتقد أنه أهم بكثير من الحديث عن الظروف الواقعية. كل ما في الأمر أن اللغة لم تستطع تمثيل العالم ككل. ولكن على الرغم من عدم إمكانية التعبير لفظيا عن قيمة ومعنى العالم ككل، فقد كان بالإمكان إظهارهما. وتمثلت إحدى الطرق السلبية لإظهارهما في توضيح ما «لم» يكن بإمكان الفلسفة قوله.
إن معنى الحياة ليس حلا لمشكلة، ولكنه مسألة العيش بأسلوب معين. إنه ليس مسألة ميتافيزيقية، بل مسألة أخلاقية. إنه ليس شيئا منفصلا عن الحياة، ولكنه الشيء الذي يجعلها جديرة بأن تعاش؛ أي أنه يمثل سمة وعمقا ووفرة وقوة معينة للحياة. وفي هذا الإطار يكون معنى الحياة هو الحياة ذاتها ولكن بعد إدراكها بطريقة بعينها. ويشعر المتاجرون بمعنى الحياة بالإحباط بشكل عام نتيجة هذا الزعم، إذ لا يبدو غامضا وفخما كفاية. بل إنه يبدو عاديا ومفهوما أكثر من اللازم، أي إنه أكثر تنويرا بدرجة طفيفة من الإجابة «42». بل أكثر من الشعار المكتوب على القمصان القطنية الذي يقول: «ماذا لو كان الأمر كله يدور حول الهوكي كوكي؟» إنه يأخذ السؤال الخاص بمعنى الحياة من أيدي زمرة من الخبراء الجهابذة أو المتخصصين ويعيده إلى الوجود اليومي. وتلك هي نوعية السخافات التي أسسها متى في إنجيله، حيث يظهر عودة ابن الإنسان في مجده محاطا بالملائكة من أجل يوم الحساب. وعلى الرغم من هذه الصور المجازية الكونية الجاهزة، يتبين أن الخلاص قضية مملة بشكل مثير للحرج؛ إنه مسألة إطعام الجوعى، وتقديم الشراب للظمأى، والترحيب بالغرباء، وزيارة المساجين. إنه لا يحمل أي سحر أو عبير «ديني» مميز أيما كان؛ فبإمكان أي شخص أن يقوم به. فيتضح أن مفتاح الكون لا يكمن في إدراك مزلزل، ولكنه شيء يفعله الكثير من الناس على أية حال دون أدنى تفكير. إن الخلود لا يكمن في حبة رمل، ولكن في كوب من الماء. فالكون يقوم على مواساة المرضى والتسرية عنهم. وحين تسلك هذا النهج، فإنك تشارك في الحب الذي أنشأ النجوم. والعيش بهذه الطريقة لا يعني امتلاك حياة فحسب، بل امتلاكها بوفرة.
ويعرف هذا النوع من النشاط بالحب، ولا علاقة له بالمشاعر الشهوانية أو حتى العاطفية. إن وصية المحبة مجردة من الذاتية بشكل بحت؛ فنموذجها الأساسي هو حب الغرباء، وليس هؤلاء الذين ترغب فيهم أو تعجب بهم. إنه ممارسة أو طريقة حياة، وليس حالة ذهنية. ولا صلة له بالمشاعر الدافئة أو العلاقات الشخصية الحميمة. إذن، فهل الحب هو معنى الحياة؟ لا شك أنه كان المرشح المفضل لعدد من المراقبين الفطنين، لا سيما الفنانين. إن الحب يشبه السعادة في أنه يبدو كمصطلح قاعدي، أي غاية في حد ذاته. وعلى غرار السعادة، يبدو الحب جزءا من طبيعتنا؛ فمن الصعب أن نقول لماذا يجب أن نعبأ بإعطاء الماء للظمأى، لا سيما إذا كنت تعلم أنهم سيفارقون الحياة في غضون دقائق على أية حال.
غير أنه على أصعدة أخرى يوجد تصادمات بين القيمتين. فالشخص الذي يقضي حياته في الاعتناء بطفل معاق إعاقة بالغة إنما يضحي بسعادته في سبيل حبه، حتى لو كانت هذه التضحية تبذل أيضا باسم السعادة (سعادة هذا الطفل). كذلك قد يؤدي بك القتال من أجل العدالة - والذي يعد شكلا من أشكال الحب - إلى الموت. إن الحب قضية مرهقة ومثبطة للهمة، تمتزج بالمعاناة والإحباط، وتختلف تماما عن الرضا الأحمق المشع بالبهجة والإشراق. ولكن يظل من الممكن أن تجادل بأن الحب والسعادة ينتهي بهما الحال كتوصيفات مختلفة لنفس أسلوب الحياة. ولعل أحد أسباب ذلك أن السعادة في واقع الأمر ليست رضا أحمق يشع بالبهجة، ولكنها (على الأقل بالنسبة لأرسطو) الحالة التي تنبع من الازدهار الحر لقدرات وقوى الفرد. ويمكن القول بأن الحب هو نفس الحالة ولكن مع النظر إليها بكلمات قريبة الشبه؛ إنه الحالة التي يتأتى فيها ازدهار الفرد من ازدهار الآخرين.
كيف لنا أن نفهم هذا التعريف للحب، برغم ابتعاده عن كل من كاتولوس وكاثرين كوكسون؟ بادئ ذي بدء، يمكننا العودة إلى مقترحنا السابق بأن احتمالية أن يكون للحياة الإنسانية معنى مدمج فيها لا تعتمد على إيمان بقوة خارقة من نوع ما. فمن المحتمل أن تطور البشر كان عشوائيا وعرضيا، ولكن لا يترتب على ذلك بالضرورة ألا يكون لهم طبيعة ذات نوعية خاصة. والحياة الصالحة بالنسبة لهم قد تكمن في إدراك تلك الطبيعة. فالنحل قد تطور بشكل عشوائي أيضا، ولكن بالتأكيد يمكن القول بأن له طبيعة محددة؛ فالنحل يفعل الأشياء الخاصة بالنحل. ويكون هذا أقل وضوحا بكثير في حالة البشر، إذ إن جزءا من طبيعتنا - على عكس النحل - أننا حيوانات ثقافية، والحيوانات الثقافية مخلوقات شديدة الغموض. ومع ذلك، يبدو واضحا أن الثقافة لا تلغي «كياننا النوعي» أو طبيعتنا المادية. فنحن بحكم طبيعتنا - على سبيل المثال - حيوانات اجتماعية يجب أن تتعاون وإلا تموت؛ ولكننا أيضا كائنات فردية تسعى لتحقيق إشباعها الذاتي. فتحقيق الهوية الفردية هو نشاط لكياننا النوعي، وليس حالة تتعارض معه. فلم نكن لنستطيع تحقيقها - على سبيل المثال - لولا اللغة، التي هي ملك لي فقط لأنها ملك للنوع البشري الذي أنتمي إليه أولا.
إن ما كنا نطلق عليه حبا هو الطريقة التي يمكننا بها التوفيق بين بحثنا عن الإشباع الفردي وبين حقيقة كوننا حيوانات اجتماعية. فالحب يعني خلق المساحة التي يستطيع فيها شخص آخر تحقيق الازدهار، في نفس الوقت الذي يفعل فيه هذا الشخص المثل لك. وبذلك يصبح تحقيق الذات الخاص بكل فرد هو الأساس لتحقيق ذات الآخر. وحين ندرك طبيعتنا بهذا الشكل، نكون في أفضل حالاتنا. ويعزى هذا جزئيا إلى أن تحقيق الذات بطرق تتيح للآخرين تحقيق ذلك أيضا يمحو القتل والاستغلال والتعذيب والأنانية وما شابه. أما تدمير الآخرين فيؤدي بنا على المدى الطويل إلى تدمير تحقيقنا لذاتنا، الذي يعتمد على حرية الآخرين في المساهمة فيه. ولما كان متعذرا أن يكون هناك تبادل حقيقي سوى بين الأنداد، فإن الاضطهاد واللامساواة يعملان على إحباط الذات على المدى الطويل أيضا. ويتعارض كل ذلك مع النموذج الليبرالي للمجتمع، الذي يكفيه أن لو كان ازدهاري الفردي الفريد محصنا من التداخل مع ازدهار شخص آخر. فالآخر ليس ما يمنحني الوجود في المقام الأول، بل يمثل تهديدا محتملا لوجودي. ويسري هذا أيضا بالنسبة لأرسطو، بكل ما عرف عنه من إيمانه بأن البشر حيوانات سياسية. فهو لا يعتبر الفضيلة أو السعادة مرتبطتين بشكل فطري. صحيح أنه يرى من وجهة نظره أن الآخرين يعتبرون عنصرا أساسيا إلى حد ما لازدهار الفرد، وأن الحياة المنعزلة لا تصلح سوى للآلهة والوحوش، غير أن الإنسان الأرسطي - كما علق ألسدير ماكنتاير - غريب على الحب.
4
ولا يزال افتراض أن معنى الحياة هو مسألة فردية في المقام الأول حيا يرزق. فيكتب جوليان باجيني قائلا: «إن البحث عن المعنى مسألة شخصية في الأساس»، يتطلب «القوة وتحمل مسئولية اكتشاف وتحديد المعنى لأنفسنا.»
5
ويتحدث جون كوتنجهام عن الحياة ذات المعنى بوصفها «حياة ينخرط فيها الفرد في أنشطة قيمة بحق تعكس اختياره العقلاني كفرد مستقل.»
6
ليس من بين ذلك ما هو خاطئ، ولكنه يعكس تحيزا فرديا مألوفا بالنسبة للعصر الحديث؛ فهو لا يرى معنى الحياة كمشروع مشترك أو تبادلي، ويعجز عن الإشارة إلى استحالة أن يكون هناك أي معنى - سواء للحياة أو لأي شيء آخر - يقتصر علي وحدي. فإذا كنا نظهر للوجود في أحدنا الآخر وعبر أحدنا الآخر، فلا بد أن يكون لذلك تداعيات قوية بالنسبة لقضية معنى الحياة.
وبناء على النظرية التي اقترحتها للتو، فإنه لا يوجد أي تعارض نهائيا بين اثنين من أقوى المتنافسين في رهانات معنى الحياة؛ ألا وهما الحب والسعادة. فإذا كانت السعادة ترى بعين أرسطية بوصفها الازدهار الحر لملكات المرء، وإذا كان الحب هو نوعية التبادل التي تتيح لذلك أن يحدث على النحو الأمثل له، فلا يوجد صراع حاسم بينهما. ولا يوجد أيضا صراع بين السعادة والفضيلة، بالنظر إلى أن معاملة عادلة ورحيمة للآخرين تعد على النطاق الواسع للأمور واحدة من شروط الازدهار الشخصي للفرد. ومن ثم تقل الحاجة للقلق بشأن نوعية الحياة التي تبدو ذات معنى من حيث كونها إبداعية وديناميكية وناجحة ومكتملة، ولكنها تتألف من تعذيب الآخرين أو سحقهم. وبناء على هذه النظرية أيضا، فإن الفرد ليس مرغما على الاختيار بين عدد من المرشحين المختلفين من أجل تحقيق الحياة الجيدة، مثلما يشير جوليان باجيني إلى حتمية هذا الاختيار. فيقدم باجيني مجموعة من الاحتمالات لمعنى الحياة - السعادة والإيثار والحب والإنجاز وفقدان أو نكران الذات والمتعة والخير الأصلح للنوع - ويشير بأسلوبه المتحرر إلى وجود قدر من الحقيقة فيها جميعا. ومن هذا المنطلق يقترح نموذج للاختيار والمزج. وهكذا على طريقة المصممين، يمكن لكل منا أن يأخذ ما يريد من هذه العناصر المتنوعة ويمزجها مكونا منها حياة ملائمة له بشكل متفرد.
شكل 4-4: فريق بوينا فيستا سوشيال كلوب. (© Road Movie
غير أنه من الممكن أن نرسم خطا فاصلا بين العناصر التي اقترحها باجيني وننظر إلى معظمها بوصفها عناصر قابلة للدمج مع أحدها الآخر. لنأخذ فريقا لموسيقى الجاز كصورة مجازية للحياة الجيدة.
7
إن فريق الجاز الذي يمارس الارتجال يختلف بشكل واضح عن الأوركسترا السيمفوني؛ نظرا لأن كل فرد فيه إلى حد كبير يمتلك حرية التعبير عن نفسه كيفما يشاء. ولكنهم يفعلون ذلك بحساسية متفتحة لعروض الموسيقيين الآخرين المعبرة عنهم. والتناغم المعقد الذي يصوغونه لا يأتي من العزف من نوتة جماعية، ولكن من التعبير الموسيقي الحر لكل عضو بالفريق والذي يعمل بمثابة الأساس للتعبير الحر للآخرين. ومع تطور الطلاقة الموسيقية لكل عازف، يستمد الآخرون الإلهام من ذلك، ويتولد لديهم الحافز لبلوغ مستويات أعلى. ولا يوجد هنا صراع بين الحرية وبين «منفعة الكل»، إلا أن الصورة الذهنية الحاضرة هنا هي عكس الصورة الشمولية. فعلى الرغم من أن كل عازف يساهم في «الخير الأسمى للكل»، فإنه يفعل ذلك ليس بتضحية متبرمة بالذات، وإنما من خلال التعبير عن النفس ببساطة. فهناك تحقيق للذات، ولكن يتم من خلال فقدان الذات في الموسيقى ككل. وهناك إنجاز، ولكنه ليس مجرد مسألة نجاح للتفاخر والتباهي. فالإنجاز - المتمثل في الموسيقى نفسها - يعمل بمثابة وسيلة لبناء العلاقة بين العازفين. وهناك متعة تجنى من هذه البراعة الفنية، وهناك أيضا سعادة تتأتى من الإحساس بالازدهار؛ نظرا لوجود إشباع أو تحقيق حر للقدرات والإمكانيات. ونظرا لأن هذا الازدهار تبادلي، بإمكاننا حتى التحدث من بعيد وبشكل قياسي عن نوع من الحب. ولا بأس بالتأكيد من اقتراح مثل هذا الموقف بوصفه معنى الحياة؛ من حيث إنه هو ما يجعل للحياة معنى، وأيضا - وهو الأمر الأكثر إثارة للجدل - من حيث إننا عندما ننتهج هذا المسلك، فإننا ندرك طبيعتنا في أروع صورها.
إذن، هل موسيقى الجاز هي معنى الحياة؟ ليس بالضبط. فالهدف سيكون إذن بناء مجتمع من هذا النوع على نطاق أوسع، وهو ما يمثل مشكلة سياسة. ولا شك أنه طموح مثالي إلى حد الخيال، ولكن ليس في ذلك ما يسوء. إن الهدف وراء مثل هذه الطموحات هي الإشارة إلى اتجاه ما، بغض النظر عن استحالة بلوغنا هذا الهدف مع الأسف. إن ما نحتاج إليه هو صورة من صور الحياة لا هدف لها إطلاقا، مثلما يخلو عرض الجاز من أي هدف. فبدلا من خدمة هدف نفعي أو غاية ميتافيزيقية جدية، فهو متعة في حد ذاته؛ فهو لا يحتاج إلى تبرير يتجاوز نطاق وجوده. وفي هذا الإطار، يقترب معنى الحياة بشكل مثير من انعدام المعنى. والمتدينون الذين يرون هذه النسخة من معنى الحياة هادئة أكثر من اللازم حتى إنها لا تمثل لهم مصدرا للارتياح يجب أن يذكروا أنفسهم بأن الإله أيضا هو غاية نفسه، وأساسه، وأصله، ومنطقه، ومتعته الذاتية، وأن العيش على هذه الوتيرة هو وحده ما يجعل بالإمكان القول بأن البشر يشاركون في حياته. أحيانا ما يتحدث المتدينون وكأن أحد الفروق الأساسية بينهم وبين غير المتدينين يكمن في أنهم يرون أن معنى وهدف الحياة يكمنان خارجها. ولكن هذا ليس صحيحا تماما حتى بالنسبة للمتدينين. فالإله - من منظور اللاهوت الكلاسيكي - يفوق العالم، ولكنه يبرز بداخله كعمق. وكما يشير فيتجنشتاين في موضع ما: إذا كان هناك ما يسمى بالحياة الأبدية، فلا بد أن تكون هي الحياة الحاضرة الآن. فاللحظة الحالية هي صورة للخلود، وليست تتابعا لانهائيا لمثل هذه اللحظات.
إذن هل غطينا السؤال على نحو حاسم؟ إن من سمات الحداثة أنه نادرا ما تتم تغطية أي سؤال مهم بشكل تام. فالحداثة - كما أشرت من قبل - هي الحقبة التي ندرك فيها أننا عاجزون على الاتفاق حتى على أهم القضايا وأكثرها جوهرية. ولا شك أن مجادلاتنا المستمرة حول معنى الحياة سوف يثبت أنها مثمرة. ولكن في عالم يحيق بنا فيه خطر داهم، فإن إخفاقنا في إيجاد معان مشتركة يعد مصدر تحفيز بقدر ما هو مصدر إزعاج.
هوامش
قراءات إضافية
(1) أرسطو وأخلاق الفضيلة
The text of Aristotle most relevant to this book is the
Nicomachean Ethics , available in Penguin Classics in an edition by Jonathan Barnes (Harmondsworth, 1976). Jonathan Barnes has also published a useful introduction to Aristotle in the Very Short Introduction series (Oxford, 2000), though not much of it deals with his ethical thought. See also D. S. Hutchinson,
The Virtues of Aristotle (London, 1986), and Jonathan Lear,
Aristotle: The Desire to Understand (Cambridge, 1988).
More general studies of ethics relevant to the book’s argument can be found in Alasdair MacIntyre,
A Short History of Ethics (London, 1968) and
After Virtue (London, 1981). A more recent, illuminating study is Rosalind Hursthouse,
On Virtue Ethics (Oxford, 1999). (2) شوبنهاور
Schopenhauer’s major work, and the only one referred to in this study, is
The World as Will and Representation , ed. E. F. J. Payne, 2 vols. (New York, 1969). Useful introductions to Schopenhauer are to be found in Patrick Gardiner,
Schopenhauer (Harmondsworth, 1963), and Brian Magee,
The Philosophy of Schopenhauer (Oxford, 1983). A briefer account is to be found in Terry Eagleton,
The Ideology of the Aesthetic (Oxford, 1990), ch. 7. (3) نيتشه
Works by Nietzsche cited in this study are
The Will to Power (New York, 1975),
Beyond Good and Evil , and
The Birth of Tragedy . The latter two works can be found in Walter Kaufmann (ed.),
Basic Writings of Nietzsche (New York, 1968), a convenient selection of Nietzsche’s texts. Classic introductions to his thought are Walter Kaufmann,
Nietzsche: Philosopher,
(New York, 1950); R. J. Hollingdale,
Nietzsche: The Man and his Philosophy (London, 1964); and Arthur C. Danto,
Nietzsche as
(New York, 1965). See also Keith Ansell Pearson,
Nietzsche (London, 2005), and Michael Tanner,
Nietzsche (Oxford). A more substantial study is Richard Schacht,
Nietzsche (London, 1983). (4) فيتجنشتاين
The
Tractatus Logico-Philosophicus , first published in London in 1961, is available in abridged form in Anthony Kenny (ed.),
The Wittgenstein Reader (Oxford, 1994). See also Wittgenstein’s
, trans. G. E. M. Anscombe (Oxford, 1953), and
Culture and Value , trans. Peter Winch (Chicago, 1980).
For introductions to Wittgenstein’s thought, see D. F. Pears,
Wittgenstein (London, 1971), and Anthony Kenny,
Wittgenstein (Harmondsworth, 1973). Two more recent introductions, both lucid and helpful, are A. C. Grayling,
Wittgenstein (Oxford, 1988), and Ray Monk,
Wittgenstein (London, 2005). Monk is also the author of an excellent biography,
Ludwig Wittgenstein: The Duty of Genius (London, 1990). A more advanced but equally rewarding study is G. P. Baker and P. M. S. Hacker,
Wittgenstein: Understanding and Meaning (Oxford, 1980). (5) الحداثة وما بعد الحداثة
There are various allusions throughout the book to these cultural movements, which the reader might like to have further elucidated. For modernism, Peter Conrad’s monumental
Modern Times, Modern Places (London, 1998) is worth dipping in and out of. An excellent theoretical study is Marshall Berman,
All that is Solid Melts into Air (London, 1982). See also Raymond Williams,
The Politics of Modernism (London, 1989), and T. J. Clark,
Farewell to an Idea (New Haven and London, 1999).
For postmodernism, see Jean-François Lyotard,
The Postmodern Condition (Minneapolis, 1984); Ihab Hassan,
The Postmodern Turn (Ithaca, NY, 1987); David Harvey,
The Condition of Postmodernity (Oxford, 1990); and Perry Anderson,
The Origins of
(London, 1998). Briefer studies of the trend are to be found in Alex Callinicos,
Against
, and Terry Eagleton,
The Illusions of Postmodernism (Oxford, 1996). A more difficult and substantial study is Fredric Jameson,
the Cultural Logic of Late Capitalism (Durham, NC, 1991). (6) ماركس
Marx’s views on 'species being’ and human nature are to be found mainly in his
Economic and Philosophical Manuscripts
of 1844. This is reprinted among other places in L. Colletti (ed.),
Karl Marx: Early Writings (Harmondsworth, 1975). For commentaries on these matters, see Norman Geras,
Marx and Human Nature (London, 1983), and Terry Eagleton,
The Ideology of the Aesthetic (Oxford, 1990), ch. 8. The essay by Louis Althusser most relevant to my argument is 'On Ideology and Ideological State Apparatuses’, in
Lenin and Philosophy (London, 1971). (7) فرويد
Freud’s
Introductory Lectures on
(Harmondsworth, 1973) is one of the best introductions to some of his general concepts. His discussion of the death drive is to be found among other places in
Beyond the Pleasure
, trans. J. Strachey, International Psycho-Analytical Library, ed. E. Jones, 4 (London, 1950). The theme is developed by Norman O. Brown in
Life Against Death (London, 1959). For more general accounts of Freud, see Philip Rieff,
Freud: The Mind of the Moralist (Chicago and London, 1959), and
Freud and Philosophy (New Haven and London, 1970). (8) أعمال أخرى
The following works are also referred to in the book:
Julian Baggini,
What’s It All About? (London, 2004).
Isaiah Berlin,
Four Essays on Liberty (Oxford, 1969).
John Cottingham,
On the Meaning of Life (London, 2003).
Terry Eagleton,
Against the Grain: Selected Essays 1975-1985 (London, 1986);
William Shakespeare (Oxford, 1986); and
Sweet Violence: The Idea of the Tragic (Oxford, 2003).
Frank Farrell,
Subjectivity, Realism and Postmodernism (Cambridge, 1996).
Martin Heidegger,
Being and Time (New York, 1962).
Alasdair MacIntyre,
Dependent Rational Animals (London, 1998).
Jean-Paul Sartre,
Being and Nothingness (London, 1958), and
Nausea (Harmondsworth, 1963).
Roger Scruton,
Modern
(London, 1994).
Max Weber,
Essays in Sociology , ed. H. H. Gerth and C. Wright Mills (London, 1991).
Unknown page