ماذا كان يريد أبو الهدى؟
ذهب كثير من الناس إلى أن أبا الهدى كان يريد أن يجعل نفسه خليفة، وأن يجعل الخلافة في العرب كما كانت. وهذا افتراء محض. أجل كانت نفس الصيادي طامحة لكل ما يعليه كما أسلفت في الفصل المتقدم، ولكن نفسه لم تحدثه بشيء من ذلك؛ فقد عرف خطر هذا الأمر ومسافة بعده عن الإمكان، وإنما هاجمه أعداؤه بمثل هذه الأقاويل طلبا للإيقاع به وإقصائه عن عبد الحميد. وما غاظ أبا الهدى أحد مثل كاتب هذا الكتاب. وقد قلت فيه ما لم يقل غيري وزعمت أنه كان يسعى في قلب الخلافة والاستئثار بها. ولكنه زعم ليس بصحيح، وإنما أردت أن يبعد عن عبد الحميد ويخف ضرره عن الدولة.
وكان أحب الأشياء إلى أبي الهدى أن يصير شيخ الإسلام؛ لأن صاحب هذا المقام له التصرف المطلق في نصب القضاة وعزلهم، وفيه من الوسائل لاستجلاب الدراهم ما لا يتحصل في مقام غيره، ولأبي الهدى دراويش ومادحون يحب أن يقلدهم مناصب رفيعة في الولايات ليكسبوا فيها ويكسبوه معهم، ولكن عبد الحميد لم يسمح له هذا السماح ووقف وسواسه بينه وبين أماني شيخه المحبوب. على أن أبا الهدى عاش ما عاش غير يائس من الفوز بمأربه.
ثم الخلافة، وهي الملك في عرف أهل البدعة والتعصب، لا يحلم بها أبو الهدى ومن هم على شاكلته من رجال التصوف؛ فهم قوم يميلون إلى إظهار النسك في أنهارهم وادخار اللذات إلى لياليهم، ولأحب إليهم أن يقال فيهم إنهم أهل الله ومقربوه ومن لا يرد لهم دعاء ومن جعل الأكوان وما بها من حي وجامد طوع مشيئاتهم. والولي ينفع الخليفة ويضره ويرفع البلاد ويضعها، وليس الخليفة كذلك. وأهل التصوف يبدون الورع ويسرون الطمع؛ فهم يأكلون ويشربون خفية. فإذا هم جلسوا إلى طالبيهم ادعوا الصوم وتنزهوا عن مشاركة الناس في حالاتهم من ضرورة الأكل والشرب والنوم، وكيف كان يقنع أبو الهدى بأن يكون خليفة على العرب وهو يدعي أنه يفعل ما يريد بالرغم من الخلفاء ودول الأرض كلها. أما طمعه في أن يكون شيخ الإسلام فذلك لكي يقال إنه رجل كلف بخدمة الدين، ذو وجد بنصرة الشرع؛ فيزيد الناس فتنة بظاهر ورعه ويزيد الناس فتنة بجاهه وحبائه.
أكبر برهان على صدق ما أقول أن أبا الهدى لم يخاصم من الصدور ورجال الدولة إلا من أبوا الانقياد إلى رغائبه من استخدام تابعيه أو من بدءوا بعداوته. أما رجال التصوف والمنتحلون العلم؛ فقد شن عليهم الغارات وأنزل بهم البلاء، ولو لم يتعرضوا له بعدوان، وذلك بأن هؤلاء مشاركون له في الصفات التي يحب التفرد بها.
كان الشيخ محمد ظافر المدني - رحمة الله عليه - رجلا جاهلا. وإنه لأشبه الناس برؤساء الصوفيين الذي نراهم في القطر المصري ويسمون أنفسهم مشائخ السجادة، وكان من رؤساء طريقة صوفية اسمها الشاذلية، عرف بالصلاح واجتناب الزخارف وحب التواضع، وقد اتصل بعبد الحميد في ولاية عهده أيام كان عبد العزيز سلطانا على العثمانيين، فلما ولي الملك عبد الحميد زاد حبا للشيخ ظافر وأجزل عطاءه، وشاد له تكية هي باقية إلى اليوم على يسار الطريق الموصل إلى قصر «يلديز». وربما جاء ذكر الشيخ ظافر في أحد الفصول الآتية. هذا الشيخ المسكين كابد من أبي الهدى ما لا يدخل تحت الحصر، ولولا مكانته عند عبد الحميد وانتصار جماعة من أعداء أبي الهدى له لحل به من البلاء العظيم ما حل بغيره. وقد اتخذ مصطفى ظافر ابن الشيخ ظافر وسائر أخوته وعمه المرحوم الشيخ حمزة مع عزت العابد، فأمكن له أن يقاوم أبا الهدى ويقف أمامه طول أيام حياته.
وقد وقع لأبي الهدى مع الشيخ أسعد وكيل الفراشة - رحمه الله - أكثر مما وقع له مع الشيخ ظافر؛ فقد نال أسعد من الحظوة لدى عبد الحميد ما لم ينله أحد قبله، وفاقه فيه أبو الهدى بعده، ولعل من سيقرءون كتابي هذا من المصريين لا يعرفون أسعد الذي أتى ذكره عرضا في هذه السطور، ولولا أن ذكره خارج عما نحن بصدده لأجملته لهم في كلمات، ولكنني أقول لهم إن هذا الرجل يعرفه العرابي وبعض الخاصة من حزبه؛ فقد كان يكاتب العرابي ويعده بجعل الخديوية وقفا عليه ومن يتلوه من ذريته، ويبلغه سلام عبد الحميد ورضاه. وقد أصاب أسعد جنون في عقله لم يعش بعده كثيرا، ومات وأنا بالآستانة.
وكان الشيخ الجربي قصد إلى الآستانة في أحد السنين، ويعرف المصريون ما اتصف به الجربي من حسن المنطق وجودة القريحة وبيان الأسلوب، فلما اتصل ذلك بأبي الهدى همه وأورثه القلق، وخاف أن يطول بالآستانة مقامه فينال حظوة عند عبد الحميد ويتغلب عليه، فبادر من ساعته إلى القصر السلطاني وما خرج منه إلا وصدر الأمر بإقصاء الجربي عن الآستانة.
ولإن اشتغل أبو الهدى في كثير من أوقاته بمهام الملك، فما ذلك إلا ليقول عبد الحميد: إن الله آتى هذا الرجل من علم كل شيء أوفر نصيب، وكان يقول لكثير من الناس: لو شئت لكلمت الطيور وساميتها إذ تحلق في الجو ولخاطبت النمال ودعوت الوحوش فأجابت. كل هذا أراد به ادعاء الولاية والحظوة عند خلاق الكائنات. وكثيرا ما تباهى برجل يسميه سيدي القطب المهدي الرواس، يقول إن هذا القطب كان أستاذه وأنه لقنه كل ما يعلم واتخذه صاحبا لما رأى فيه من مخايل الذكاء، وذكر أن قطبه الرواس تفرس وجهه ذات يوم فقال على البديهة:
إن خافيك الذي غيبته
Unknown page