ليقف من شاء من أبناء حواء على منارة من منارات فروق، وليدع طرفه يرود تلك الهضاب في أبرادها السندسية، وليفسح له مجالا في مسارح خلت من أوانسها، وليرم به إلى قرارات كالدراهم. تلمع بكرة وتلتهب أصيلا. مراودها الغزل ومسالكها العفاف. فإذا بدا له «البوسفور» في ازرقاق عبابه، وتجعد أديمه، وازدهار شطيه، واطلاع أقماره، فليرجع البصر إلى منازل كأنها لعب أو علب، كأنها بنيت بعضها فوق بعض. فلينصت هنالك قليلا، وليسأل بعدها عما سمع ورأى. أما والله ليصيحن بملء فيه منشدا قول المعري:
خفف الوطء ما أظن أديم ال
أرض إلا من هذه الأجساد
رب دار كأنها قفص البلبل، في وسط حديقة كأنها طبق زهر، ثم فتاة أفرغ الله نوره فتكونت منه، يدخل عليها داخل وهي غارقة في هواجسها، فتقول له: ما أخر أبي؟ ما أبطأ بأخي؟ لم لم يحضر هو ...؟ وهو معلوم، فيقول لها أبوك نفي وأخوك سجن وهو ... ضاع بين الأزرقين، السماء و«البوسفور». فلا أدري، بل لا أود أن أدري ما يكون من لحظيها إذا أسبلا بكاء، وما يكون من ذلك الوجه إذا رفع في يأسه وحزنه إلى السماء، وقال فمه مرة واحدة: آه!
وليقف بعد ذا من أراد على قمة الهرم الكبير في مصر، وليتأمل بنت إيزيس وأوزريس؛ أما والله لا يلبث أن يرى الوجوه الضاحكة، خلال المغاني الآهلة، فيبدو لتأمله فرق ما بين العاصمتين.
2
بفروق قصر وبمصر قصر؛ القصران مصدران للأحكام، وموردا للآمال، هما كشقي المقص؛ إذا افترقا أحاطا وإذا تجمعا فرقا. هما الصرحان تطل منهما المعالي ويشرف سلطان القوة. يقلبان ولا يتقلبان، على أيهما وقف البصر خشع وأيهما حضر بخيال النفس هالها! يا داري العزة ما الخورنق والسدير! ما إيوان كسرى وما قصر الحمراء! ما ربع مية يطيف بها غيلان وهو معمور! بل ما إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد!
تطاولت الأيدي حتى انتهت إليهما، فما بقي مكان خاليا إلا وطرقه طارق منتاب، أحيطا، فمنعا، فعزا، فأرهبا، ثم اغترا، فأعملا، فأذلا، فأغضبا، ثم زادا، فأفنيا، فأثارا. وما هي إلا صيحة أخذتهما فتساقطت تلك اللبنات الذهبية، وقعقعت هاتيك العروش، وقضي الأمر . وكذلك يستدرج ربك بعباده من حيث لا يعلمون.
مضى زمان العمل وجاء زمان الحساب. وقد قال شاعر العرب:
فشككت بالرمح الأصم ثيابه
Unknown page