فكاد فؤادي يثب سرورا واغتباطا، وما كان سروري ولا اغتباطي إلا بما بلغت من حريتي، فأحببت أن أظل بمكاني من الأمل ولم أشأ إكثار الأسئلة لئلا أسمع شيئا جديدا يذهب بحلاوة ذاك الأمل. وبينا أنا أحادث زائري وإذا رسول من عند الوالي يدعوني إلى داره، فكبر علي الأمر وأخجلني ما كنت مرتديا من الملابس التي التبست طرائقها وغابت ألوانها، فاعتذرت وأظهرت التعب، ولكن أقبل علي مدير البوليس يستنشط نفسي إلى الذهاب وأخذ يثني على الوالي ثناء جميلا، ويبين لي أن عدم الإجابة يحدث بيني وبينه شرا عظيما، فقمت مع الرسول متثاقلا. وما زلت أطوف تلك الأسواق الموحلة والناس يرمونني بأبصارهم حتى جئنا دار الوالي، فدخلناها وأقبل الخدام يريدون أن ينزعوا حذائي ويقدموا لي نعلين لينتين مكانهما، فأجبت كارها، فلما رأوا جوربي ممزقين وقد تبدت منهما أصابع قدمي رثوا لحالي ودعوا على من رماني تلك الرمية، ثم أدخلت مكان الاستقبال وبقيت به حتى أعدت المائدة، فلما تقدمت إليها رأيت صاحبي كاظم بك ينتظرني، فجلس كلانا وجلس معنا جماعة من المستخدمين وأخبرنا أن الوالي في بيته الآخر مع حرمه الصغرى، وأنه يريد أن يواجهنا بعد العشاء، وحين آن أوان الزيارة خرجنا وبين أيدينا الخدم بالأنوار، ندع طريقا ونأخذ في غيرها إلى أن بلغنا البيت، فصعد بنا الخدم إلى مجلس الوالي، فأقمنا في انتظاره، ولم يلبث أن أقبل علينا في ملابسه البيتية على عادة أهل الشرق ، فتقدمت مسلما فعرفني بفراسته، ثم التفت إلى كاظم بك وقال: أظنه ضيفنا فلانا. - نعم، هو ذاك.
ثم أمرنا بالجلوس ومد إلينا علبته بسيكاراته، فتناولت واحدة وأخذت أدخنها ساكتا أنتظر أن يبدأ الكلام، وإذا به مطرق مفكر لا يكلمنا ولا ينظر إلينا، وقد بدت على وجهه آثار الكآبة حتى لمحها كاظم ولمحتها، ثم رفع رأسه بعد استغراقته وأقبل يسألني عن سبب نفيي. ولما كان شرح القصة يحتاج زمانا طويلا ويجدد شجنا كاد يتقادم لم أر بدا من إظهار التجاهل، فهز الرجل رأسه وقال: قاتلهم الله، وهل يقاس مثلك بمن ينفونهم إلى هذه الأقطار؟ ولكن لا ضير، لكل كارثة لطف من الله يدرؤها، فاصبر وامتثل حكم ربك، ما بعد الشدة إلا الرخاء، واعلم - بني - أنك نازل بلدا أهله أهل دعة وسلام، وأيقن أنني لست واليا عليك وإنما أنا أبوك، فشاورني في أمورك وافزع إلى الله ثم إلي عند مخاوفك. ولا تكثر مخالطة السفهاء من هؤلاء المنفيين الذين ستجدهم في هذا البلد، وجانب فلانا؛ إنه خدين الكأس، لا يعرف غيرها؛ وهو سيئ التربية، لا يحبه أحد من الناس. فوعدته طاعة وامتثالا وخرجت من عنده راجعا إلى الخان.
فلما كان الغد بكر إلي رسول الوالي، فتوجهت إلى داره الأولى وإذا أمين الصندوق واقف في انتظاري، فتقدم إلي بورقة في يمناه ودراهم في يسراه وقال: ضع توقيعك على هذا الصك واقبض هذه الدراهم؛ لقد اتصل بدولة الباشا أنك خالي اليد، ولكن كتب إلينا من الآستانة بتوظيفك معاونا للمكتوبجي ولم يسموا لنا مبلغ مرتبك، فرأى الوالي أن يصرف إليك سبعمائة قرش تنفقها في بعض حاجاتك إلى أن يسمى مرتبك في الآستانة، فوقعت للرجل على الصك وقبضت المال، وحين واجهت الوالي أمرني أن أبعث رسالة برقية إلى أهلي ليعلموا مكاني، فكتبت الرسالة وانتهت إليهم في غداة اليوم الثاني، واطمأنت بذا قلوبهم وعرفوا ما آل إليه أمري. وكنت أوصيت الخياط أن يصنع لي ملابس جديدة فصنع ولبستها وأصلحت من هيأتي ما أمكن لي إصلاحه. فلما تهيأ لي بعض ما أردت خرجت أريد دار الحكومة، فذهب بي الشرطة إلى غرفة السرقوميسير، فتلقاني الرجل تلقي الصاحب ونهض معي حتى أدخلني على المكتوبجي وقدمني إليه، وإذا رجل محبوب الطلعة باسم الوجه نحيف الجسم ذو لحية سوداها غالب على صفرتها، فأحسن قبولي وبذل لي المودة وأبدى لي جانب الأنس والود. وبعد الاكتفاء بالحديث والتسليم قادني إلى غرفة الوالي وقدمني إليه على الطريقة الرسمية. وكان إلى جانب الوالي في غرفته رجل أسمر اللون أبيض الشاربين محبوب الوجه، استخبرت عنه فقيل لي إنه أرستيدي باشا معاون الوالي (هو بك إذ ذاك).
فعدنا إلى غرفة المكتوبجي بعد مجلس لم يطل إلا دقائق معدودة ولحق بنا معاون الوالي، فتم التعارف بيننا على أحسن منوال. هذه حالات توالت فيما دون الثلاثة أيام خلت بعد وصولي إلى سيواس، أتت ومضت ولا أدري ما هي. غير أني لا أجحدها فضلها؛ فقد كان لها شأن يذكر في تخفيف لوعاتي، وإنما سرني أن قيض الله لي مثل هؤلاء المتحببين؛ أفرج بهم غماء الهموم. ولو ألقت بي المشيئة بين أناس من غلاظ القلوب وجفاة الطباع لطال شقائي، ولقد يتخلل أيام الشدائد أويقات تكاد تنسي المرء ما يتجرعه من غصصها، وما ذاك إلا إنصاف في الدهر يتغلب عليه أحيانا. ولما هممت بالخروج من عند المكتوبجي سألني أن أعاوده إلى غرفته قبيل المساء إجابة إلى مأدبة أعدها لي في بيته، فأجبت شاكرا وخرجت.
ما أمسيت يومنا ذاك إلا وأنا في بيت المكتوبجي، فأراني ابنه سليما وبنته سوزان وهما كحمامي أيكة تدل نظراتهما على ذكاء موفر وتهذيب مستمر، ثم جاء أرستيدي باشا معاون الوالي، فكنا ثلاثة على مائدة واحدة، وكنت كلما زدت محادثة للرجلين زدت محبة لهما وأنسا بهما. وقد أظهرا من الود مثل ما استشعر به فؤادي.
وبينا نحن في مجلسنا وسمرنا إذا برجل له حدبة بين كتفيه كسنام البعير، تحمل رقبته رأسا كالليمونة اليابسة، ركب فيها وجه كالجذع المنقلب. كله ختل باد وشر كامن. قلت: من هذا؟ فقيل: هذا ترجمان الولاية واسمه المسيو عمانوئيل برويستاكي. ومما زدت به علما من صفات الرجل أنه شديد الساعد مدمن للرياضة الجسمية كثير العجب بها، وأن الرجل كريدي الأصل وأنه من أرذل الجواسيس. قلت أبعد به، ولكن ماذا أخاف من تجسسه وأنا رجل منفي مقصي. فجاء هذا الزائر غير المحبوب حتى جلس إلى جانبي. غير أننا لم نلبث أن عرف كل ما سيكون له عند صاحبه. وقد سهرنا تلك الليلة سهرا طويلا قضيناه في حديث طيب وأنس قريب، ثم تودعنا وخرج كل يريد منزله.
وفاة الحاج حسن حلمي باشا والي سيواس
انتبهت مبكرا غداة دعوة أسعد بك المكتوبجي، فما راعني إلا أغوب خادم الأوتيل داخلا غرفتي على غير عادته. قلت: ما وراءك؟ قال: مات الوالي. فبقيت واجما باهتا؛ لأن الرجل أمسى وليس به ما يشكيه. فزدت الخادم استيضاحا، فأخبرني أنه مات بالسكتة القلبية. قلت: هذا رجل حمدت لقاءه ولم أعلم له سيرة تكسبه الحمد أو الذم سوى ما كان يثني به عليه مقربوه، وليس ذلك دليلا؛ فإن كان رجلا أفاد الأمة خيرا فوا أسفاه على فقده، وإن كان امتحن جانبها بشره فالحمد لله على خلاصها منه، وليعوضها الله رجلا ينهض بجناحها الكسير ويهبها من الإنصاف والرأفة حاجتها.
ثم أسرعت إلى ثيابي فلبستها وخرجت أريد دار الوالي، فرأيت على بابها جماعات من المساكين والمشايخ وغيرهم، كل فئة قائمة في انتظار ما يعنيها، فدخلت الدار وإذا الناس كلهم متوافون متكاملون، وما دنا الظهر إلا وخرجت الجنازة باحتفال لا يستحق الذكر. فشيعنا الفقيد حتى واريناه رمسه، ورجعنا ونحن لا نتحدث إلا بحديث وفاته، فقص علينا الخبر من حضرها، قال: إنه فرغ من عشائه وجلس إلى حرمه الصغرى يحادثها، ولما حان وقت نومه استلقى على مقعد هناك وسألها أن تبادر إلى الخدم بطلب الطبيب. غير أن المنية سبقت ومات الرجل قبل أن يحضر.
ولما كان المساء توجهت إلى المأتم فجلست فيه ما استطعت، ثم خرجت مع المكتوبجي وجماعة من الموظفين، فجعل بعض الحاضرين يذكرون من مساوئ الرجل ما لا يصبر حليم على سماعه. قلت: قد آن للكتاب المطوي أن ينشر.
Unknown page