وكان فردينان وإيزابلا يقودان هذه الجيوش بنفسيهما، ويتعهدان سيرها ونزولها، فزحفا بها في آذار 1491م/جمادى الآخرة 896ه إلى مرج غرناطة الجنوبي (La Véga)
ونصبا آلات الحصار على العاصمة، وقذفا حصونها بالمدافع ، ولكنها كانت منيعة، فلم يهن جانبها ولا تثلمت أبراجها.
فعلم الإسبانيون أن الحصار طويل لا ينقضي أمده إلا بعناء شهور، فأمرت إيزابلا ببناء مدينة مقابل غرناطة تناوئها مدة الحرب إلى أن تظفر الواحدة بالأخرى، وهذه الخطة أخذها الإسبانيون عن العرب عندما يطول الحصار، فبنيت المدينة وسميت شنتفي (Santa-Fé)
أي الإيمان المقدس، فنزلتها العساكر الإسبانية مستظلة بحصونها، فكان في ذلك بلاغ للغرناطيين بأن هذه الحملة تختلف عن الغارات السابقة، فما تنتهي بإتلاف الزرع وامتلاك بعض الحصون.
فوطنوا النفس على الصبر والجلاد، ووقف القواد والأشراف بجانب السلطان أبي عبد الله يشددون عزيمته، ويدعونه إلى الثبات؛ فصبرت غرناطة على الحصار وقصف المدافع، رابطة الجأش، عنيدة المراس.
غير أن الميرة عندها لم تكن تكفيها سوى مدة قصيرة، والحصار الخانق يمنع الوارد إليها من الخارج، وليس لها باب مفتوح إلا من ناحية جبل شلير (Séerra Nivada)
إلى البشرات تأتيها منه المئونة رشحا لوعورة المسالك، فكان الضيق يدفع أهلها حينا بعد آخر إلى ترك الأسوار والحصون لمنازلة العدو؛ فتقع معارك دامية يستبسلون فيها مقاتلين قتال الضواري، فيسيل مرج غرناطة دماء، ويكتسي بالجثث والهام.
وكانت إيزابلا تتعهد الجرحى الإسبانيين بنفسها، تؤاسيهم وتضمد كلومهم، وتحث الأجناد على الصبر وحسن البلاء، فتوالت المعارك بين الفريقين رابية الخسائر، والزاد والرجال في غرناطة قليل، والعدو وافر العدد والذخائر، فلا بد أن يفضي الأمر إلى معركة فاصلة تنكسر فيها شوكة الغرناطيين، ويستطيل عليهم الإسبان بقواتهم الجرارة، فيضطرونهم إلى الانقباض وراء الأسوار لا يجرءون بعدها على طلب القتال؛ فيعود الحصار بأثقاله ويشتد الجوع على المسلمين، فيزداد العدو طمعا فيهم، ويفر من المدينة خلق إلى جبال البشرات.
فدعا السلطان أبو عبد الله رجال الدولة وأهل المشورة، يستطلع آراءهم فيما ينبغي عمله، فاتفقوا على إسلام البلد حفاظا على النفوس أن تهلك حيث لا يجدي الهلاك، فاختاروا وفدا من رؤساء الجند للمفاوضة، فخرجوا إلى معسكر الإسبانيين، فاستقبلهم فردينان وإيزابلا بحفاوة، فعرضوا عليهما إسلام العاصمة على شروط فيها الأمان للمسلمين؛ فقبل العاهلان دون تردد أن تفتح المدينة أبوابها صلحا، ووضعت معاهدة الاستسلام وهي تتضمن سبعة وستين شرطا على قول المقري.
ومن النظر إلى هذه الشروط يتبين أن المسلمين فاوضوا أعداءهم مفاوضة الند للند لا مفاوضة المغلوب للغالب، وأن العاهلين الإسبانيين كانا متساهلين إلى حد بعيد، تخلصا من هذه الحرب الطويلة، ووصولا إلى الغاية التي يتوخيانها.
Unknown page