فلا غرو أن يجعل النصارى ظفرهم مستمدا من الله؛ فتنشأ عندهم أسطورة دينية يثبتها بعض المؤرخين، تقول بأنه ظهر في السماء قبيل المعركة صليب ساطع النور! وتحتفل طليلطة كل سنة في 16 حزيران بعيد «انتصار الصليب»؛ مع أن المراجع الوثيقة لا تذكر هذه المعجزة، ولا ذكرها ألفنس الثامن في روايته لأخبار المعركة.
على أن انكسار المسلمين - وإن بدا غريبا في ظاهره - لا يلبث أن يصبح طبيعيا إذا نظرنا إلى العوامل التي أحاطت به، وهما تخاذل الجيش الأندلسي وانكفاؤه في أوائل المعركة؛ حيث تصدعت الميمنة، ثم تأثرتها الميسرة بفشل البرابرة وقلة ثباتهم أمام شانجه السابع وأجناد فرنسا والبرتغال والنافار؛ فاختل بذلك قلب الموحدين، واشتد عليه الضغط من الأمام والجانبين.
ويروي ابن خلدون حادثا آخر له أثر فعال في هزيمة الموحدين، وهو أن صاحب لاون - ويسميه مرة ليهوج، ومرة إلبيوج - قد مكر بالخليفة الناصر، فقدم عليه فداخله، وأظهر النصح، فبذل الخليفة له أموالا، فلما كانت وقعة العقاب غدر الإسباني به، وكر عليه يقاتله برجاله، بدلا من أن يناصره كما وعد.
غير أننا لا ندري من أراد ابن خلدون بصاحب لاون؛ لأن الاسمين اللذين ذكرهما بعيدان في لفظهما عن اسم ألفنس (ملك لاون) واسم أخيه شانجه (Sancho)
الذي كان يحارب في صفوف المسيحيين يوم العقاب، أما الرواية الإسبانية فلم تشر إلى هذا الحادث، وإنما قالت: إن ألفنس التاسع ملك لاون لم يحضر بنفسه الحرب لخلاف بينه وبين ملك قشتالة على بعض الحدود، فاكتفى بأن يبعث أخاه شانجه مكانه.
فإذا صحت رواية ابن خلدون، فإن الناصر لا يعذر في اتكاله على مواعيد الأمير الإسباني دون أن يحتاط لأضرارها، متوقعا الكذب والخداع فيها، وكذلك كان قصير الرأي في استسلامه لنصائح ابن جامع؛ إذ حبس جيوشه ثمانية أشهر على حصار شلبطرة بدلا من أن يقودها إلى طليطلة، فيسحق مملكة قشتالة قبل أن يتمكن ألفنس الثامن من جمع كلمة الأمراء المسيحيين على مساعدته، والاستفادة من نشاط الأحبار ودعوتهم إلى الائتلاف تحت راية الصليب.
إن زوال إمارة قشتالة، وهي أعظم دولة في إسبانية، يفضي - لا جرم - إلى انهيار سائر الإمارات الإسبانية، الواحدة تلو الأخرى، فإن القوات التي حشدها صاحب مراكش لمحاربة الإسبانيين جعل منها أضخم جيش عرفته القرون الوسطى، ولو أحسن الحيلة والتدبير لكان من الممكن ألا يقف في فتوحه عند الولايات الأندلسية التي غنمها المسيحيون وضموها إلى ممالكهم، بل يتخطاها إلى الأراضى الإسبانية فيبسط عليها سلطانه.
ويلام - وهو القائد الأعلى - لغفلته عن حركة العدو وانتقاله خفية من جبل الشارات، حتى استطاع أن ينفذ إلى أبدة، ويحتل في رباها مواقع تفضل مواقع المسلمين، ورأينا الناصر يدعوه إلى الحرب، فيأباها في اليوم الأول والثاني من وصوله طلبا للراحة، ولا يجرؤ الناصر على مهاجمته - مع علمه بتعبه - لمناعة روابيه.
ويؤخذ على الموحدين ما يؤخذ على المرابطين من سياسة الاستئثار بالحكم والنفوذ في الأندلس، فأساءوا إلى أبنائها، وحركوا الضغينة في نفوسهم، فقدموا معهم إلى الحرب وهم مرصدون لمكروههم؛ فكان الجيش الإسلامي دون الجيش المسيحي نشاطا وائتلافا وحماسة للدين، فدارت عليه معركة العقاب بشؤم الطالع، فمحقت قواه الجبارة، وأضعفت سلطان الموحدين فمالت بملكهم إلى الغروب، وكانت للمسلمين نذيرا بزوال كلمتهم عن الأندلس، وللمسيحيين بشيرا بانقشاع خطر الإسلام عن إسبانيا جمعاء.
يوم قرطبة
Unknown page