وكان المعتمد بن عباد، وداود بن عائشة قد جمعا شمل فرسانهما بعد أن كف ألفنس عن المطاردة، فارتدا بهم في أثر المسيحيين، وارتد بعدهما المنهزمون من أمراء الأندلس وقد اشتدت عزائمهم حين تنسموا ريح النصر، فأخذ الإسبانيون من الجانبين، فتناهبتهم شفار السيوف تحصدهم من الأمام والوراء، وهم لا يفترون عن المكافحة غير مصدقين أنهم خسروا المعركة، يكرون على معسكرهم يستعيدونه من المرابطين، ثم ينتزعه المرابطون من أيديهم، ثم يرجع إليهم، وهم في الوقت نفسه يقاومون الأندلسيين في مؤخرتهم، حتى دنت ساعة الغروب، فكره يوسف بن تاشفين أن يأتي الظلام ويفصل بينه وبينهم على غير نتيجة، فأمر رجاله السودان، فترجلوا عن مطاياهم وعدتهم أربعة آلاف، بأيديهم السيوف والدرق ومزاريق الزان، فاقتحموا خيول الإسبانيين، وأعملوا الطعن في بطونها وصدورها، فازورت بفرسانها وخامت عن المعترك من ألم الجراح.
وحملت جيوش المسلمين حملة صادقة؛ فانهزم الإسبانيون متخلين عن معسكرهم لا يأملون العودة إليه، فاستحر القتل فيهم، فلم يفلت منهم غير طويل العمر، وأبى الملك ألفنس أن يهرب، فلبث يجمع صفوفه ويقاتل مستبسلا مخاطرا بحياته، فلحقه أحد السودان، فلصق به وطعنه بخنجر فأثبته في فخذه، وهتك حلق درعه ، فبادر إليه خمسمائة من فرسانه الدارعين فأنقذوه، ولكنه رفض أن يترك ساحة القتال، وآثر الموت على أن يرضى بالهزيمة، فساروا به على كره منه إلى تل مما يلي المعسكر، ثم انحدروا إلى قورية يسترهم الظلام.
وخسر الإسبانيون أكثر جيشهم في هذه الموقعة، وكذلك كانت خسارة المسلمين جسيمة؛ لأن الضائقة لزمتهم معظم النهار، بيد أنهم وجدوا تعزية في النصر البهيج، فأقاموا مهرجان الفرح مساء يومهم، وبعث المعتمد بن عباد حمامة إلى عاصمته تحمل رسالة البشرى لولده الرشيد، فقرئت على الناس في المسجد الجامع، واحتفلت إشبيلية بالنصر في اليوم نفسه على ما بينها وبين بطليوس من البعد، وبات الجيش ليلته في ميدان القتال، حتى تنفس الصبح، فجمعت ألوف من رءوس الإسبانيين على شكل مئذنة، وقام فوقها المؤذن ينادي: حي على الفلاح!
وانتهت معركة الزلاقة بيوم واحد، الجمعة 23 كانون الأول 1086م، فدونت حدثا عظيما في تاريخ الإسلام، فهي وإن تكن فتحت أبواب الأندلس لمرابطي إفريقية، فلقد أثبتت فيها أقدام المسلمين مدى أربعة قرون.
رذريق والمرابطون
عاد أمير المسلمين من معركة الزلاقة يجرر ذيل المجد، ومن حوله ملوك الطوائف يسعون إليه بتحايا الشكر وعرفان الجميل، وهم بين سكرة النفس الغائبة، وصحوة الفكر الحاضر، تهزهم أهازيج العساكر المنتصرة، فيستسلمون للغبطة والتيمن، ثم يلوح لهم وجه يوسف بن تاشفين، في عبوسه واستعلاء نظراته، ويسمعون أصوات المرابطين ترتفع على أصوات الجنود الأندلسية، فترتعد الغبطة في قلوبهم، ويستحيل اليمن طيرة وشؤما.
يشوقهم أن يترشفوا غرة الجو مشرقا صافيا، بعد أن تلاشت عاصفة الإسبان، وتمزقت سحائبهم في الشمال، فتروعهم غمامة مطلة من الجنوب، كثيفة سوداء.
ينظرون إلى زعيم الملثمين يسير في المقدمة عظيما بقوته وبطشه، عظيما بورعه وتقشفه، فلا يملكون النفس عن الإعجاب بأمير مسلم، أنقذ الأندلس المسلمة، وأبعد عنها خطر المسيحية، فيودون لو ينطق بكلمة تبدد أوهامهم وتبعث الطمأنينة في الصدور، لينقلب هذا الإعجاب حبا ومودة، ولكنه صامت لا يحدثهم بشيء عن إماراتهم ومصايرها، فإذا هم - بكره منهم - يخافونه على بلادهم، أكثر مما يخافون ألفنس والقشتاليين.
ولم يكن خوفهم في غير محله، فإن سلطان مراكش قد عقد نيته على البقاء في الجزيرة ليشرف من كثب على الدويلات العربية، ويتابع جهاد الإسبانيين ورد غاراتهم، ولعله ابتدأ منذ اليوم يعتبر الأندلس ولاية من أعمال إفريقية؛ لما رأى من عجز أمرائها وضعفهم وتخاذلهم.
غير أنه فكر في شيء وفكرت الأقدار في شيء آخر، ففيما هو يتأهب للقيام بغارة جديدة، جاءه نعي ولده أبي بكر سير، وكان قد أقامه نائبا عنه في مراكش يدير أمورها، فاضطر إلى الإسراع في العودة لتنظيم حكومته، إلا أنه ترك الجيش الصحراوي في الأندلس برئاسة قائده سير بن أبي بكر، فاستأنس ملوك الطوائف بعض الشيء، وسرهم أن يبتعد الظافر عن أرضهم، منصرفا إلى العناية بشئون مملكته الإفريقية، فاستأنف بعضهم الغارات على الإمارات الإسبانية والبرتغالية يعاونهم جيش المرابطين، فكانوا ينجحون في مكان ويخفقون في مكان آخر.
Unknown page