فقال طه: «أليست فلسطين تحت الانتداب البريطاني؟» - دون أي شك!
فقال طه: «حسنا، سيذهب إذن إلى القدس، إلى جامعة من جامعات بريطانيا العظمى!»
وتوجب علي ذات يوم أن أصحب ابنتي وطفليها إلى الباخرة. كان قلبي مفعما بالحزن؛ إذ إن أمريكا كانت تبدو لي في منتهى البعد، لكني كنت أقول لنفسي مع ذلك إن من الأفضل لأمينة ولزوجها أن يوسعا من أفقيهما، وكان ذلك بالنسبة إلى صهري بداية درب متألق؛ أما بالنسبة لي فقد كان بداية الفراق الذي لم يكف قط عن التكرار. عندما كنت أغادر الباخرة حيث ودعتهم، كنت أحمل في عيني الصورة الرائعة للصغيرة سوسن في ثوبها الوردي الواسع ذي التويج ضمن مهدها الخشبي.
ونتلقى من باريس خبرا مذهلا: فقد أعلنت صحيفة «باري بريس
» وصحيفة أخرى وبعناوين عريضة أن ملك مصر قد طلب إلى جراح فرنسي شهير الحضور إلى القاهرة لإجراء عملية جراحية لإعادة البصر إلى طه! يا للمسكين الصغير الذي لم يعد لعينيه حتى مجرد الوجود! أحدث الخبر ضجيجا، وكان لا بد للملك من أن يستاء جدا من هذا الخبر، غير أن الديوان دبر الأمور بهدوء.
وبعد عدة سنوات، كتب لنا عامل فرنسي، كان قد قرأ مقالا عن طه - لعله مقال موريس دريون - رسالة مثيرة؛ فتحت تأثير دهشته وإعجابه الشديد بما قرأه عن طه، كان يعرض تقديم إحدى عينيه إلى طه بكل بساطة! وشكره طه بأفضل ما استطاع متأثرا من عرضه إلى حد كبير، فعاد وكتب مرة ثانية أيضا. هذا العرض الذي كان في منتهى الكرم، كانت عروض مماثلة له قد قدمت عدة مرات، لكن ذلك كان من قبل مصريين أو عرب عرفوا طه جيدا، وكانوا يملكون الكثير من الأسباب ليحبوه؛ أما أن يأتي هذا العرض من قبل عامل فرنسي في السادسة والثلاثين من عمره إثر مجرد قراءة مقال يتحدث عما كانه هذا الأعمى ... فقد كان ذلك أمرا رائعا ...
طرأت اضطرابات خطيرة، ولما استفحلت كان لا بد من إغلاق الجامعة، ولم تفتح أبوابها إلا في يناير، حيث استطاع مؤنس أخيرا بدء دروسه فيها.
لكن الهدوء لم يستمر؛ فقد بدأت القلاقل مجددا، وكانت محافظة الإسماعيلية هي التي هوجمت بالرصاص هذه المرة.
249
وفي السابع والعشرين من يناير حدث حريق القاهرة، وفي الغداة سقطت حكومة النحاس .
Unknown page