هذا الكتاب «معك» في هذه الطبعة الجديدة
شكر
مقدمة
معك
متفرقات
تذييل: تأملات حول نص، وحياة، وعالم «معك» في صور
هوامش
هذا الكتاب «معك» في هذه الطبعة الجديدة
شكر
مقدمة
معك
متفرقات
تذييل: تأملات حول نص، وحياة، وعالم «معك» في صور
هوامش
معك
معك
تأليف
سوزان طه حسين
ترجمة
بدر الدين عرودكي
مراجعة
محمود أمين العالم
هذا الكتاب
قبل نيف وثلاثين عاما، قام جاك بيرك، المستعرب وأستاذ التاريخ الاجتماعي والحضاري للعالم العربي في الكوليج دو فرانس، بتخصيص سنتين من درسه الأسبوعي لدراسة طه حسين ودوره في تاريخ الثقافة العربية المعاصرة. كانت سنتان قد مضتا على وفاة طه حسين، وكان - وقد ارتبط بعلاقة صداقة حميمة معه - يرتبط أيضا بالعلاقة نفسها مع زوجة طه حسين «سوزان» ومع ابنه «مؤنس»، الذي كان يعمل في اليونسكو ويعيش في باريس على الدوام. وقد كان يبدي في كل مناسبة إعجابه بهذه العلاقة الفريدة من نوعها التي ربطت طه حسين بزوجته: مسلم ومسيحية، مصري وفرنسية، عربي الثقافة والانتماء الحضاري وأوروبية في ثقافتها وانتمائها ... علاقة استمرت أكثر من خمسين عاما نسجها حب عميق واحترام لا يقل عنه عمقا. وكان أكثر ما يثير إعجابه فيها أن هذا الاحترام طال في حياتهما المشتركة حرية العقيدة؛ فقد كانت مسيحية وبقيت كذلك في رفقة زوج مسلم لا يثنيها عن دينها ولا يحاول. ولم يكن ذلك أمرا شديد الندرة، بل فريدا في وقته وفي مجتمعه. فاقترح عليها في إحدى زياراتها إلى باريس ولقائها به بعد وفاة طه حسين، أن تكتب تجربتها هذه لتقدم طه حسين تحت أضواء لم يسبق أن سلطت عليه من قبل، ولا يسع أحدا أن يقوم بذلك سواها. وأكاد أظن أنه أوحى لها بأنهما ما داما كانا يقومان برحلتهما السنوية التي تقودهما في بداية صيف كل سنة من شواطئ الإسكندرية إلى شواطئ أوروبا الإيطالية أو الفرنسية، فلتقم على صفحات كتاب بمثل هذه الرحلة، تقول خلالها طه الإنسان والأب والزوج وحياته وعلاقتها معه وعلاقته معها، مستعرضة معاركه وهمومه وأحلامه وأهدافه كاتبا ومناضلا سياسيا وصحفيا ومربيا وجامعيا وأكاديميا ووزيرا ... وأخبرها أنها إن كتبت هذا الكتاب فسيقترح عليها أن يقوم بترجمته كاتب سوري لكي يؤكد على البعد العربي لمشروع طه حسين الثقافي، وكنت من اقترح بيرك اختياره لهذه المهمة، وأن يقوم بمراجعة الترجمة كاتب مصري تقدمي لكي يؤكد على البعد المستقبلي لهذا المشروع، وكان اختياره قد وقع على الصديق الأستاذ محمود أمين العالم.
ولقد جاء الكتاب فريدا من نوعه شكلا ومضمونا كما كان يقال في لغة النقد الأدبي الكلاسيكية! فلا هو رواية على امتلاكه كثيرا من عناصرها، ولا هو قصة طويلة على وجود شخصية رئيسية أساسية، ولا هو رسالة حب حميمة على ما ينطوي عليه من فصول ومقاطع يسود فيها ضمير المخاطب: منها إليه، ولا هو تأريخ على ما فيه من سرد لحوادث كبرى عرفتها مصر خلال حياة طه حسين، ولا هو، أخيرا، يوميات على ما تضمنه من ضبط إيقاع الكتاب؛ تارة بناء على تواريخ معينة، وتارة بناء على مواقع محددة ... وأجرؤ على القول إن فيه من كل شكل من هذه الأشكال عناصر صنعت فرادته فعلا وجماله فعلا وخصوصيته فعلا.
كان هم السيدة سوزان طه حسين أن تتم ترجمة الكتاب وأن ينشر بأسرع وقت ممكن؛ لتتمكن من رؤيته يقرأ في مصر وفيما وراء مصر في العالم العربي. ولم تكن تلقي بالا إلى نشره بالفرنسية؛ فقد قررت أن القارئ الفرنسي لن يحفل بمثل هذا الكتاب، وإنما القارئ العربي هو الأولى به. ومن ثم فقد وضعت ذات يوم بين يدي نص المخطوط مضروبا على الآلة الكاتبة ومصححا بخط يدها ...
ذات يوم ...
فقد ضرب لي مؤنس طه حسين موعدا بعد ظهيرة يوم من الأسبوع، لا أذكر تاريخه، للقاء والدته في بيته بباريس. كنت أهاب اللقاء. ها أنا ذا وقد عشت سنين إطلالتي على الحياة غارقا في كتب العقاد ومسرحيات توفيق الحكيم وروايات وكتب طه حسين؛ هذا الثلاثي الكبير الذي ملأ الحياة الأدبية والفكرية في مصر، بل وفي العالم العربي على امتداد عشرات السنين في القرن الماضي ، أقول ها أنا ذا وقد راسلت العقاد وراسلني وحفظت رسالته إلي عن ظهر قلب ولا أزال، دون أن ألتقي به؛ ها أنا وقد التقيت توفيق الحكيم في باريس بفضل مبادرة المفكر والأستاذ والصديق أنور عبد الملك وفي داره الباريسية، وقضيت بصحبته ثلاث ساعات لا تنسى أمطرته خلالها بكل ما تراكم في رأسي من تساؤلات وملاحظات حول ما كتبه من روايات ومسرحيات وما أبداه من آراء؛ ها أنا ذا أجد نفسي في حضرة المرأة التي أحبها طه حسين، والمرأة التي رافقت طه حسين في همومه وهواجسه ومعاركه وأفراحه ورضاه وغضبه، حتى اللحظة الأخيرة ... ها أنا ذا في حضرة هذه السيدة التي لم يكتب لي أن ألتقي زوجها - بل سمعته ذات يوم عن بعد وهو يلقي محاضرة على مدرج جامعة دمشق، الذي كان حافلا عن بكرة أبيه بكل ما كانت دمشق وقتئذ تضمه من رواد في الأدب وفي التاريخ وفي الإسلاميات وفي النقد - تستقبلني بابتسامة مبتهجة. وأعترف ساذجا بتأثري من هذا اللقاء الذي يتاح لي مع أقرب الناس إلى عميد الأدب العربي الذي كان يبدو لي مقيما في سماء عسيرة المنال. لكن مؤنس ما لبث أن أعلمني أن زوجته هي أيضا حفيدة أحمد شوقي، أمير الشعراء، الذي حفظنا - تلامذة وطلبة - أشعاره عن ظهر قلب، نحن السوريين، والدمشقيون منهم خصوصا، عندما انبرى في قصيدته الرائعة يغني دمشق إثر قصف الفرنسيين لها عقابا لأهلها على مطالبتهم بالاستقلال. أعترف أنني كنت كالطفل الصغير، مبهورا أمام هذه الأسرة الصغيرة التي رحل عنها من كان سببها وسبب وجودي في دارها الباريسية، تتزاحم في رأسي الذكريات والكتب والمقالات التي كنت أتابعها منذ أن وعيت على القراءة ووقعت على اسمه بين الأسماء التي أغنت قرننا الماضي ومنحته من المعاني ما نفتقد الكثير منها هذه الأيام.
طمأنت السيدة سوزان القلقة من تقدمها في العمر؛ تخشى أن ترحل عن هذه الدنيا قبل أن ترى هذا الكتاب منشورا بالعربية، التي لم تتقنها على معايشتها عميد أدبها نصف قرن كامل. أصرت أن ينشره آنئذ الناشر الذي نشر كتب زوجها، لا الذي
1
كان يود لو فعل، وأراد بهذه المناسبة أن أتحدث باسمه إليها أسألها الموافقة.
وعدتها أن أنهي ترجمة الكتاب في أشهر معدودات. ولقد فعلت. وقام الأستاذ محمود أمين العالم بمراجعة الترجمة، وأشرف على متابعة النشر عن كثب الدكتور محمد حسن الزيات، زوج ابنتها ووزير الخارجية المصرية في ذلك الوقت، وصدر الكتاب في طبعته الأولى عن دار المعارف في القاهرة، وأرسلت لي السيدة سوزان طه حسين أول نسخة منه سعيدة مبتهجة برؤيتها الكتاب منشورا.
فوجئت إذ وصلني الكتاب أن الغلاف لا يحمل اسم المترجم ولا المراجع، ولا كذلك صفحة العنوان الأولى. لكن الصفحة التالية كانت تحمل في أسفلها وببنط شديد الصغر اسمينا. لم ير الناشر وقتها ضرورة وضعهما، كما جرى العرف، على صفحة الغلاف الخارجي ولا على صفحة الغلاف الداخلي. وحين نشرت الفصول الأولى من الكتاب مقتطفات في العدد الأول من مجلة أكتوبر، تم أيضا تغييب اسمي المترجم والمراجع معا، حتى إن مجلة عربية أسبوعية كانت تصدر في باريس نوهت بذلك تحت عنوان طريف: «الوحدة السورية المصرية تعود من خلال تغييب اسم المترجم والمراجع في كتاب «معك» لسوزان طه حسين» أو شيء من هذا القبيل.
يقال: رب ضارة نافعة! والحق أن محاولة التغييب هذه دفعت القراء للبحث عن الاسمين. وما أكثر الذين كسبت صداقتهم في مصر وودهم بفضل هذه الترجمة، التي لم تجد - كما كان جاك بيرك يتمنى ومعه سوزان طه حسين - طريقها إلى قراء العربية في أقطار الوطن العربي في مشرقه ومغربه.
تلك قصة هذا الكتاب الذي يجده القارئ بين يديه مجددا بفضل رغبة العديد من الأصدقاء، وعلى رأسهم الأستاذ الدكتور جابر عصفور الذي يتابع بجهد وأناة وبصيرة وسعة أفق ما كان طه حسين قد دعا إليه وبدأه: الانفتاح على العالم أجمع من خلال التواصل الثقافي والحضاري عبر الترجمات والتبادلات والحوارات. لا أريد أن أعلق عليه ولا على ما جاء فيه. للقارئ أن يعيد التعايش مع مرحلة من تاريخ مصر عبر حياة واحد من كبار أبنائها عاشها مفجرا كل لحظة من لحظاتها إبداعا ونتاجا ومشاركة حثيثة في هموم مجتمعها وهواجسه وتطلعاته وآماله. وللقارئ الشاب بوجه خاص أن ينعم النظر فيما سيقرأ: قصة وسيرة مثل في فن الحياة، يسعه إن شاء أن يبحث - ولو أعياه البحث - عن مثيل له في أيامنا هذه.
باريس-القاهرة، 18 نوفمبر 2008
د. بدر الدين عرودكي
سوزان طه حسين •••
معك
من فرنسا إلى مصر «قصة حب خارقة»
سوزان وطه حسين (1915-1973) •••
تقديم
أمينة طه حسين (أوكادا) •••
الهوامش والتذييل
زينا ويجان وبرونو رونفار •••
ترجمة
بدر الدين عرودكي
«معك» في هذه الطبعة الجديدة
عندما أعلمتني مؤسسة هنداوي بالقاهرة عزمها على نشر كتاب سوزان طه حسين «معك» الذي سبق أن نشرته عام 1977 دار المعارف، ثم المركز القومي للترجمة عام 2008؛ كانت هناك طبعة فرنسية للكتاب قد صدرت للمرة الأولى بباريس في شهر أكتوبر 2011 (أي بعد سبعة وثلاثين عاما على صدور الطبعة العربية الأولى) سهر على إعدادها وإغنائها بهوامش تعريفية للقارئ الفرنسي، بالإضافة إلى ملحق واف عن مؤلفة الكتاب السيدة زينا ويجان والسيد برونو رونفار، ومقدمة كتبتها حفيدة طه حسين؛ السيدة أمينة طه حسين (أوكادا).
عندما طلب إلي مؤنس طه حسين - بناء على اقتراح من جاك بيرك - ترجمة مخطوط الكتاب إلى العربية، لم تكن سوزان طه حسين تهتم بنشره بالفرنسية. كانت تريد أن تقدم كتابها لقراء طه حسين العرب قبل كل شيء، ولم تكن تتخيل أن القارئ الفرنسي يمكن أن يهتم بما ستقوله عن حياة الرجل الاستثنائي الذي أحبته وسكنت إليه ودفنت في أرض مولده.
وكنت قد اطلعت على هذه الطبعة فور صدورها ورأيت في الهوامش التي أضيفت إليها، والتي تقدم مختلف الشخصيات العلمية والسياسية سواء في مصر أو في البلدان العربية والغربية الذين التقاهم طه حسين طوال حياته، أداة لا غنى عنها، لا للقارئ الفرنسي فحسب - وكان هو المستهدف بها - بل وللقارئ العربي أيضا الذي لا يقل حاجة في نظري عن حاجة القارئ الفرنسي؛ للإحاطة بسير حياة نخبة الشخصيات العلمية والأدبية والسياسية المصرية والأجنبية التي عرفها طه حسين وعرفته وقدرته حق قدره؛ ولهذا اقترحت على مؤسسة هنداوي أن تشمل الطبعة الجديدة للكتاب وهي تستعيد النص العربي الذي قمت بترجمته وقام الصديق المرحوم محمود أمين العالم بمراجعته، ما اشتملت عليه الطبعة الفرنسية من نصوص المقدمة والهوامش والتذييل.
وقد رحب مؤلفا هذه النصوص، السيدة زينا ويجان وبرونو رونفار، بترجمتها إلى العربية مثلما رحب معهما حفيدات وأحفاد طه حسين بأن تكون الطبعة العربية الجديدة صنو الطبعة الفرنسية؛ احتفالا بالنص الأصلي للكتاب الذي استقبله القراء العرب أجمل استقبال منذ صدور طبعته الأولى عام 1977. ولا بد لي هنا من أن أشكر الجميع على تشجيعهم لي ومد يد المساعدة لتحقيق هذه الترجمة. والشكر موصول إلى السيدة شهرت العالم، ابنة الصديق المرحوم محمود أمين العالم، على حماسها وتشجيعها، وإلى الصديق سيد محمود الذي مد لي يد العون في أكثر من مناسبة كي يكتمل إعداد الكتاب في طبعته الجديدة على أحسن وجه.
باريس، 15 أغسطس 2014
د. بدر الدين عرودكي
شكر
نود قبل كل شيء التعبير عن امتناننا للأب رنيه فانسان غرانلوني، العامل في مكتبة معهد الدومينيكان للدراسات الشرقية بالقاهرة، الذي تفضل فأعطانا صورة عن المخطوط المطبوع على الآلة الكاتبة من كتاب «معك» والمصحح بيد سوزان طه حسين.
كان لنا، بعد ذلك، شرف اللقاء عدة مرات مع حفيدات سوزان طه حسين: السيدة أمينة طه حسين (أوكادا)، والسيدة سوسن الزيات، وزوجها؛ الذين استعادوا من أجلنا ذكريات ثمينة، والذين شجعوا على الدوام مشروع عملنا. لا، بل إن السيدة أمينة طه حسين (أوكادا) ساعدتنا، فضلا عن ذلك، في وضع النص الفرنسي اعتمادا على نسختها المضروبة على الآلة الكاتبة الخاصة بجدتها الأصلح للقراءة والمتضمنة عددا من الهوامش المخطوطة التي تنطوي على تنويعات عدة في النص. وعهدت إلينا، فضلا عن ذلك، بالمخطوط المضروب على الآلة الكاتبة للجزأين الأولين من مذكرات أبيها، مؤنس-كلود طه حسين، اللذين كانا في نظرنا مصدرا هاما لا يقدر بثمن. وكان مؤنس-كلود، من ناحية أخرى، خلال لقاءاتنا قبل خمسة عشر عاما، قد تمنى وشجع على نشر كتاب «معك» بالفرنسية. وأخيرا، مها عون، الحفيدة الصغرى لسوزان وطه حسين، التي برهنت على كرم وثقة في تقاسم الوثائق، وهي تشرف اليوم على مشروع جميل من أجل تعريف الأجيال الجديدة على أفضل وجه بفكر ومبدعات طه حسين.
إننا نشكرهم على استقبالهم، وثقتهم، ودعمهم، أحر الشكر.
نشكر كذلك كل الأشخاص الذين تلقوا أو حملوا لنا شهاداتهم الشفهية أو المكتوبة أو أرسلوا لنا الوثائق وشجعونا بطريقة أو بأخرى على تحقيق مشروعنا؛ وخصوصا: السيدة مرغريت بوردي-كييري، السيدة إيرين فانوجليو، السيدة جاك حسون، السيدة عزة هيكل عامودي، السيدة الأستاذة كاترين مايور-جاوين، السيدة الأستاذة سامية ي. سبنسر والراهبة باتريك، ف م م، السيد برتو فارهي، السيد الأستاذ أوليفييه فور، السيد الأستاذ مجدي فرنسيس، السيد جاك كيرييل، السيد الأستاذ دانييل لانسون، السيد الأستاذ والسيدة جان إيف تادييه، السيد ميشيل تورنييه، السيد الأستاذ لوك ويللي- دوشوفيل، والسيد الأستاذ إيف بوليكان من الأكاديمية الفرنسية.
وأخيرا، ما كان لأبحاثنا الخاصة بأسرة وشباب سوزان طه حسين البورجونيين أن تؤتي أكلها لولا المساعدة القيمة للسيد جان كلود سوسنوفسكي، مدير مكتبة سيمور آن أوكسوا البلدية. نشكره بحرارة كما نشكر السيدة هيلين مارتان، موظفة الأرشيف، والسيدة فيفيين ميجيه، مديرة الأرشيف الإقليمي بإقليم هيرو، والسيد مدير ثانوية فينيلون؛ الذين أتاحوا لنا توضيح جزء من السيرة الدراسية لسوزان بريسو، بمدينة مونبلييه ثم بمدينة باريس.
زينا ويجان
برونو رونفار
مقدمة
أمينة طه حسين (أوكادا)
يوم 26 يوليو 1989 توفيت بالقاهرة سوزان طه حسين عن عمر ناهز أربعة وتسعين عاما، بعد حياة طويلة غنية - قضت منها خمسة وسبعين عاما في مصر. يذكر أبي، مؤنس كلود طه حسين، بكلمات مؤثرة في مذكراته، موت أمه:
لم تكن أمي تولي أية أهمية للجسد، «هذه الخرقة»، وكان لا يهمها أن يكون قبرها في هذا المكان أو ذاك من الأرض.
كنت مع ذلك قد قمت بزيارة رهبان كنيسة سان جوزيف، الحرم الكاثوليكي الرئيس بالقاهرة، واتفقنا أن ترقد أمي فيما كان يسمى المقبرة اللاتينية بالقاهرة القديمة. رافقناها إلى هناك ذات صباح حار في شهر يوليو (...) ترأس كاهن لم أكن أعرفه القداس - قداسا شديد البساطة - كانت ستحبه كما أظن. وخلال هذا الفرض الديني الوجيز، سيطر علي التأثر على نحو مفاجئ، كما لو أنه موجة تغمرني. وفي لمح البرق، استعدت ثانية حياة سوزان: كنا ندفن بالقاهرة، تحت وطأة حرارة الصيف المصري المرهقة، فرنسية ولدت قبل خمسة وتسعين عاما بمنطقة الكوت دور، وعاشت كل حياتها تقريبا في بلد أجنبي، عربي ومسلم، وكانت الرفيقة الرائعة خلال أكثر من ستين عاما لمصري أعمى صار أكبر كاتب عربي في القرن العشرين، اشتهر في بلده بسبب كل ما حققه في مجال التعليم والعلوم والثقافة، وأنشأ الجامعات والمعاهد العلمية عبر العالم، وكرم في الشرق مثلما كرم في الغرب. كانت على الدوام إلى جانبه، راعية، مخلصة، محبة. كانت قد واسته وشجعته حين كانت الأمور تسوء (ويعلم الله كم كانت تسوء!) وشاركته بكل تواضع نجاحاته وانتصاراته. كانت قد ساعدته على التغلب على عاهته، على أن يصير ما كانه، على أن يتناول الطعام على موائد الملوك، على أن يتلقى ضروب الثناء والتكريم في أوروبا، وفي الشرق، وفي كل مكان. كانت حاضرة دوما حين كان بحاجة إليها، وقد قال هو نفسه إنه لولا زوجته لما كان شيئا.
1
كانت هذه المرأة التي عرفت مصيرا غير عادي، والتي كرست وجودها كله لزوجها، قد شرعت، بعد زمن قصير من رحيل هذا الأخير عام 1973، في تحرير كتاب من أجل ذكراه. يروي مؤنس طه حسين في «ذكرياتي» مولد هذا الكتاب الذي بدئ به في الوقت الذي كانت مؤلفته قد بلغت من العمر ثمانين عاما:
في العمر الذي أبلغه اليوم إذن؛ أي في التاسعة والسبعين عاما، إنما قررت أمي أن تكتب ذكرياتها؛ استجابة منها إلى إلحاح أصدقائها والمعجبين بأبي. نتج عن ذلك مؤلف كبير يقارب الثلاثمائة صفحة، كتبته بالفرنسية بالطبع وعنونته «معك». حتى ذلك الحين لم يكن ثمة ما هو خارق؛ فقد سبق لكثيرات من أرامل الرجال المشهورين أن فعلن مثلما فعلت سوزان.
لكن ما صار مثيرا للاهتمام هو أن أمي ، التي كما رأيناها لم تكن تمتلك قط ناصية اللغة العربية، أرادت أن ينشر كتابها باللغة العربية وبها وحدها؛ لأنها - كما شرحت - لم تكتبه إلا من أجل قراء وقارئات كتب زوجها في العالم العربي كله. فإليهم وإليهن إنما كانت تريد أن تتوجه وأن تكشف ربما عن جوانب جديدة ومجهولة من حياة هذا الرجل العظيم.
قضت سوزان سنتين كي تنهي هذا العمل، وهو عمل هائل في النهاية حين يكون موضوعه استعادة أكثر من خمسين سنة من حياة مشتركة، وهو عمل صعب بما أنه يعتمد بصورة شبه كلية على الذاكرة لا على الأرشيف والوثائق غير الموجودة أصلا. لقد أعجبني كثيرا أن تتمكن أمي في الثمانين من عمرها من إعادة بناء كل هذا الماضي الغزير في أدق تفاصيله. أحاول أن أفعل مثلها اليوم وأعرف من ثم، من خلال التجربة، كم يمكن لهذا أن يكون أحيانا أمرا عسيرا، مملا، بل ومثبطا. فسوزان التي كان نظرها رديئا بسبب إصابة عينيها بتكثف في العدسة، رغم العملية الجراحية الناجحة، والتي كانت كتابتها صعبة وشبه فوضوية؛ ملأت بصبر وبانتظام خلال أشهر وأشهر مئات الصفحات في وحدة تامة بالرامتان؛
2
حيث كانت تقيم منذ ذلك الوقت وحدها؛ إذ كانت المرأة التي تساعدها على إدارة هذا المنزل الواسع تنصرف نحو الساعة الخامسة بعد الظهر.
وعلى العكس مني، كانت سوزان تكتب باستمرار مع تعديلات، وتغييرات، وحذوفات، وإضافات، وتراجعات. لم يكن المخطوط الذي وضعته بين يدي الضاربتين على الآلة الكاتبة سهلا على التفكيك. ورغم أنها بلغت عمرا متقدما، وكانت قد ولدت بمصر واحتفظت منها بذكريات رائعة، فقد عكفت هذه الإنسانة على العمل بشجاعة وقامت بعمل ممتاز. كنت أرى النص وهو يطبع على الآلة الكاتبة بالتدريج. وكانت أمي عند تواجدها بباريس تراه أيضا، وهو ما لم يكن يتوقف عن أن يثير ضروب الفزع كلها لدي؛ إذ إنها كانت تزعم وهي تعيد قراءته أنها لا تزال تضيف عليه التصحيحات، والتغييرات، والتدقيقات، وما لا أدريه.
وأخيرا، تمت طباعة الصفحات الثلاثمائة على الآلة الكاتبة وصورتها في نسخ عدة .
بقيت المسألة الجوهرية: ترجمتها إلى اللغة العربية. كان علي أن أعثر على مترجم ... ومترجم جيد! توجهت نحو صديقي جاك بيرك، المستعرب الفرنسي الكبير، والأستاذ في الكوليج دو فرانس والمترجم الممتاز للقرآن. كان قد عرف أبي وأحبه كثيرا، بل وخصص له كتابا جميلا، «فيما وراء النيل».
3
كان إنسانا غير عادي على كل المستويات، ولن أجعل من نفسي هزأة إذ أقوم بالثناء عليه (...) عثر لي بسرعة على المترجم الذي كنت أبحث عنه (...)، وبعد عدة أشهر كانت الترجمة قد أنجزت وكانت ... ممتازة.
4
استراحت سوزان؛ فقد كانت تخشى، نظرا لعمرها، ألا ترى الكتاب منشورا. ولقد نشر بالقاهرة من قبل دار المعارف؛ أي الدار ذاتها التي نشرت معظم مؤلفات أبي. لاقى عنوان الكتاب نفسه الإعجاب. كل الذين وكل اللواتي في العالم العربي الواسع يحبون ويحببن الأدب، وبصورة أعم الثقافة، استقبلوا مذكرات أمي استقبالا ممتازا، ورأيت أمي تعبر عن رضاها للمرة الأولى في حياتها؛ إذ إنها في الحقيقة كانت كما رأينا صعبة، ونادرا ما كانت ترضى عن الآخرين، بل وأشد ندرة أن ترضى عن نفسها. كانت ها هنا قد حققت إنجازا حقيقيا. كان الناس جميعا يقولون ذلك لها ويهنئونها عليه. وعلى غرار أبي، لم يكن لديها أي غرور. كانت تتلقى التكريم والتهاني بابتسامة متواضعة، وذات مساء، أمكن لهذه المرأة التي كانت في بعض جوانب شخصيتها شرسة وتثير سخطي على نحو خاص، أن تمس أعماق القلب مني. إذ قالت لي:
أنت تفهم يا صغيري (كان لي من العمر عندئذ خمسة وخمسون عاما! لا بل كانت تناديني أحيانا «يا صبيي الصغير ...»)، أنت تفهم أنني كنت مدينة بهذا إلى أبيك.
غشيت عيناها وأضافت: «أنا مدينة له بأكثر من ذلك بكثير أيضا!»
5
وفي مكان آخر، يعود أبي مرتين إلى هذه القصة المؤثرة التي كتبت عند مغرب حياة:
حين أعطتني أمي بعد عدة سنوات كي أقرأ المذكرات التي عكفت تحت إلحاح عدد من أصدقائها على تحريرها، تأثرت من هذه القراءة التي كانت فيها امرأة في الثمانين من عمرها تصرخ بطريقة شجية الحب الخارق الذي عاشته خلال ما يقارب ستين عاما للزوج الذي أتت على فقدانه.
6
ثم بعد ذلك:
كانت حين تستعيد الماضي، تصير مثيرة للحماس: كانت ذاكرتها مذهلة، وبمجرد أن تتكلم عن أبي، تصير مثيرة للشجون (...) وكتاب ذكرياتها «معك» هو البرهان المؤثر على ذلك.
7
كان أبي وأخته، أمينة طه حسين-الزيات، قد تمنيا كلاهما أن يمكن لهذه الشهادة المؤثرة - التي، وهي تتجاوز كونها مجرد تاريخ عائلي، ترسم أيضا صورة دقيقة وحميمية لمصر فيما بين الحربين وحتى سنوات 1970 - أن تنشر بالفرنسية؛ اللغة التي حررتها سوزان بها. وهذا ما تحقق اليوم بفضل المبادرة الطيبة التي قام بها كل من السيدة زينا ويجان والسيد برونو رونفار اللذين عكفا بتصميم ودقة لا متناهية على قصة سوزان، وكذلك بفضل السيد رنو إسكاند الذي تفضل فنشر الكتاب لدى منشورات لوسير، بعد أن اغتنى بتعقيب مثير للمشاعر وبمجموعة كاملة من الهوامش الضرورية من أجل فهمه فهما صحيحا؛ أود أن يجدا ها هنا التعبير عن الامتنان الصادق والعميق من أحفاد سوزان وأبنائهم. ولكن، فيما وراء هذه الشهادة القيمة على مجتمع وحقبة مزدهرين ينتميان اليوم إلى الماضي، وفيما وراء التكريم المشروع لطه حسين الذي لا يزال مبدعه الواسع الموسوم بالإنسانية والعالمي على نحو شديد الذكاء - والذي لم يترجم للأسف بما فيه الكفاية إلى الفرنسية! - يقدم برهانا هائلا ومثلا على ما يمكن أن يكونه إسلام التنوير، كان أبي يتمنى بحماسة أن يكون التكريم كذلك موجها إلى ذكرى تلك التي تكشفت طوال حياتها امرأة وزوجة استثنائية؛ والتي يرسم بكلمات قليلة عند مغرب حياتها هذه الصورة المؤثرة: «أمي (...) على انحناء ظهرها بفعل العمر، قوية، عنيدة، وقورة، كما لو زادها نبلا أكثر من نصف قرن من الحب والإخلاص التام للرجل الذي عاشت معه حياتها.»
8
أمينة طه حسين (أوكادا)
سوزان طه حسين •••
معك
من فرنسا إلى مصر «قصة حب خارقة»
سوزان وطه حسين (1915-1973) •••
تقديم
أمينة طه حسين (أوكادا) •••
الهوامش والتذييل
زينا ويجان وبرونو رونفار •••
ترجمة
بدر الدين عرودكي
وأسير العمي في طريق لم يعرفوها ...
في مسالك لم يدروها أمشيهم ...
أجعل الظلمة أمامهم نورا.
أشعيا 42: 16
ألق نظارتيك ما أنت أعمى
نزار قباني
9
معك
إننا لا نحيا لنكون سعداء.
عندما قلت لي هذه الكلمات في عام 1934 أصابني الذهول، لكنني أدرك الآن ماذا كنت تعني، وأعرف أنه عندما يكون شأن المرء شأن طه، فإنه لا يعيش ليكون سعيدا وإنما لأداء ما طلب منه. لقد كنا على حافة اليأس، ورحت أفكر: «لا، إننا لا نحيا لنكون سعداء، ولا حتى لنجعل الآخرين سعداء.» لكني كنت على خطأ؛ فلقد منحت الفرح، وبذلت ما في نفسك من الشجاعة والإيمان والأمل. كنت تعرف تماما أنه لا وجود لهذه السعادة على الأرض، وأنك أساسا، بما تمتاز به من زهد النفوس العظيمة، لم تكن تبحث عنها، فهل يحظر علي الأمل بأن تكون هذه السعادة قد منحت لك الآن؟
موينا-ترانتان
1
اليوم، التاسع من يوليو 1975؛ أي بعد مضي ثمانية وخمسين عاما على اليوم الذي وحدنا فيه حياتينا، وبعد مضي ما يقرب من العامين على رحيلك عني، سأحاول أن أتحدث عنك ما دام قد طلب إلي ذلك. أولئك الذين يعرفون حياتك العامة، ويعرفون عن حياتك عالما وكاتبا أكثر مما أعرف عنها أنا نفسي، كتبوا وسيكتبون مؤلفات جميلة وعميقة عنك. أما أنا، فإنني أريد بكل بساطة أن أخلد للذكرى مستعيدة ذلك الحنان الهائل الذي لا يعوض؛ ولا شك أنك تدرك ذلك، أنت الذي كتبت لي ذات يوم: «لسنا معتادين على أن يتألم الواحد منا بمعزل عن الآخر.» لقد قضينا في قلب هذا الوادي، في قلب «الدولوميت
Dolomites »، أسابيع طويلة من الصيف خلال ثمانية أعوام؛ وقبل عامين، كنا نقضي فيه أيضا أسابيع أخرى. لقد أردت العودة إليه، لكنك لم تكن قادرا على المشي، وما كنت لأتركك وحدك قط. كان سكرتيرك يقرأ لك القرآن والتوراة، كتابان كانا دوما ضمن حقائبنا مع كتب أخرى كنا نحملها، نصوص قديمة أو مؤلفات حديثة. وكنت أترجم لك مقالات من صحيفة «كورييه دو لاسيرا
Corriere della Sera »؛ لأن الصحف الفرنسية لم تكن تصل إلى هذه البلدة الصغيرة، ولأنك لم تكن تعرف اللغة الإيطالية. أما في المساء، فقد كنا نتشبث بجهاز الترانزستور لنستمع إلى الأخبار من إذاعة مونت كارلو، أو إلى إذاعة فرنسا المحلية. وكنا نبحث بتلهف عن حفلة موسيقية جميلة؛ وما كان أشد فرحنا حين نستطيع التقاط مهرجان ستراسبورج أو نستمع إلى إحدى المسرحيات. ونادرا ما كنا نوفق إلى برنامج إذاعي من مصر.
وكانت تلك الأيام - الأخيرة تقريبا - شبيهة بأيام رحلاتنا الإيطالية الأخرى في تلك اللحظة من حياتك. لقد قمت بها جميعا مرة أخرى في العام الماضي. ففي يوم 21 يونيو 1974، كنت أصل «جاردون
Gardone »
2
بسيارة أجرة وأكتب:
عندما أستشعرك بالقرب مني فأنت على يساري، لكنك مع ذلك كنت دوما على يميني وكنت أتناول ذراعك اليسرى. ألأنني الآن أجلس مكانك في السيارة؟ ولكن ماذا عن الأمكنة الأخرى؟ أم أن ذلك مجرد وهم؟ إنني أدرك جيدا أني لم أعد أجلس بالقرب منك.
وصلت «جنوة
Gêne » صباح أول أمس وحيدة وحدة مطلقة. كان الجو جميلا. وكنت معك أنظر إلى هذا الجسر الرائع شديد الألفة، والذي سيكون مكان آخر وقفة لك على أرض أوروبا. ورحت تقول لي: «فيم رحيلنا؟! ألا يسعنا البقاء أيضا فترة أطول قليلا؟»
الأحد 23 يونيو
سأحاول بعد نصف ساعة أن أستمع إلى إذاعة مونت كارلو. فقد استطعت التقاطها منذ أول أمس، فألقى بي ذلك إلى قربك تماما! ثم، لا أدري أي جهاز كان يبث موسيقى بالغة الجمال لفرانز ليست، «سمفونية فاوست»، وأخيرا، وبما أن اليوم كان يوم جمعة، وكنت قد طلبت إلي أن ألتقط إذاعة لوزان، فقد بحثت عنها - ووجدتها - وكانت تبث «سمفونية براج».
أردت هذه الرحلة لأمشي معك، ولأعيش معك؛ لأعيش معك مرة أخرى الأسابيع الأخيرة. قالت لي ماري:
3 «ستواجهين محنة كبرى.» ربما. ولكن ما أهمية ذلك؟!
الإثنين 24 يونيو
كان جو السفينة فيكتوريا مختلفا جدا عن الجو الودي الذي كنت أجده في سفننا. وكنت أقول لنفسي وأنا أدخل الغرفة الصغيرة ذات السرير الواحد: ما مضى قد مضى. كان الاستقبال مزعجا. وحين تذكرت آخر مغادرة لنا للإسكندرية، اجتاحتني نوبة رهيبة من الضيق ، ورحت أنتحب بشدة بين ذراعي محمد الزيات؛
4
كان يبدو لي أنهم أخذوا ينتزعونك مني مرة أخرى. كانت وحدتي كلية، غير أن ذلك لم يكن هو ما يؤلمني وإنما هي القطيعة، وإنما هو هذا العالم الجديد الذي لم يعد لي مكان فيه.
ها هو ذا عيد القديس يوحنا، عيد فلورنسا وعيد بول السادس، الذي يسمى يوحنا المعمدان. إنني أذكر بأي اهتمام كنت تتابع فيه انتخابه - فقد كان أمس يوم الاحتفال السنوي الحادي عشر - وأذكر أنك كنت سعيدا لاختيار الكاردينال «مونتيني
Montini » الذي كنت تعرفه، ولقد احتفظت بالمودة لذلك الغلام من «سافواي
Savoy » الذي حمل إلينا ذلك الخبر.
يقلقني عجزي عن إعادتك إلى قربي ويقنطني. أعرف أنك تحيا، ولكن أين؟ وكيف؟ وأعرف أن بوسعي أن أخاطبك، وأن بوسعك أن تجيبني، لكنك تفلت مني، وتفلت من نفسك، آه! ما أبعدك يا صديقي! لا أكاد أستطيع التغلب على هذا الضيق الذي يثقل صدري منذ هذا الصباح. ولو أنني تركت نفسي لهواها لبكيت دون توقف. كنت في الحديقة بصحبة كتاب. ولم يغير ذلك من الأمر شيئا. ولقد ألقيت نظرة مكتئبة على الممشى الصغير الذي كنت قد هيأته لك لتجلس فيه عصر ذات يوم؛ كان ضيقا، وارف الظل مزهرا، وكنت أفكر أننا سنقضي فيه لحظات هادئة لكنك لم ترغب في النزول إليه.
25 يونيو
دوما هذه الرتابة. فالبحيرة المثقلة ساكنة الحركة. وكنت تأسف لأن خرير مياهها لا يصل سمعك في هذا الفندق. وأفكر في هذا الظلم الذي حرمك من فندق «السافواي
Savoy » ومن «كول
Colle »؛
5
لأن المال قوة عاتية!
28 يونيو
ثمانية أشهر مضت على رحيلك. السماء سوداء والمطر يهطل. والحق أن «جاردونيه» تشاركني حزني بصورة خارقة. على أن مديرة الفندق وضعت إلى جانب صورتك وردة رقيقة وشاحبة.
سأعيد القيام برحلاتنا كلها. سأتوقف حيث توقفنا. في غمرة أيام الإجازات أعتزل الناس ولا ألفظ إلا ما هو ضروري من الكلمات. لكم أتمنى أن أكون مجرد عابرة، بالمعنى المطلق لهذه الكلمة! ولو أنني استطعت ذلك لجعلت من نفسي خيالا لا يرى. وفي الصمت، أتجه نحوك بكل قواي. كل ما بقي مني يأتي إليك. وإنما لكي آتي إليك أكتب وأتابع كتابة كل ما يطوف بقلبي. •••
لم يكن يبدو عليه المرض إطلاقا ذلك السبت 27 أكتوبر.
6
ومع ذلك، ففي نحو الساعة الثالثة من بعد الظهر شعر بالضيق. كان يريد أن يتكلم، لكنه كان يتلفظ الكلمات بعسر شديد وهو يلهث. ناديت طبيبه والقلق يسيطر علي. لكني لم أعثر عليه، فركبني الغم. وعندما وصل، كانت النوبة قد زالت، وكان طه قد عاد إلى حالته الطبيعية. وفي تلك اللحظة وصلت برقية الأمم المتحدة التي تعلن فوزه بجائزة حقوق الإنسان، وانتظاره في نيويورك في العاشر من ديسمبر لتسلم الجائزة، وكان الطبيب هو الذي قرأها له، مهنئا إياه بحرارة؛ غير أنه لم يجب إلا بإشارة من يده كنت أعرفها جيدا كأنها تقول: «وأية أهمية لذلك؟!» وكانت تعبر عن احتقاره الدائم، لا للثناء والتكريم، وإنما للأنوطة والأوسمة والنياشين.
وبعد أن حقنه الطبيب «بالكورتيجين
Cortygen » وأوصاه بتناول بعض المسكنات الخفيفة في الليل، غادرنا وهو يطمئنني أن مريضنا سوف يرتاح الآن. ثم غادرنا السكرتير بدوره في الساعة الثامنة والنصف، وكذلك الخدم. وبقيت بمفردي معه. كان يريد مني أن أجعله يستلقي على ظهره، وكان ذلك مستحيلا بسبب ظهره المسلخ. وأصغي - وما أكثر ما يؤلمني ذلك! - إلى صوته يتوسل إلي كصوت طفل صغير قائلا: «ألا تريدين؟ ألا تريدين؟»
وبعد قليل، قال: «إنهم يريدون بي شرا. هناك أناس أشرار.» - من الذي يريد بك شرا يا صغيري؟ من هو الشرير؟ - كل الناس ... - حتى أنا؟! - لا، ليس أنت.
ثم يقول بسخرية مريرة ذكرتني بسخريته في أيام مضت:
أية حماقة؟! هل يمكن أن نجعل من الأعمى قائد سفينة؟!
من المؤكد أنه كان يستعيد في تلك اللحظة العقبات التي كان يواجهها والرفض الذي جوبه به، والهزء بل والشتائم من أولئك الذين كانوا بحاجة لمرور زمن طويل حتى يتمكنوا من الإدراك.
غير أنه لم يستمر، بل قال لي فقط، كعادته في كثير جدا من الأحيان: «أعطيني يدك.» وقبلها.
ثم جاءت الليلة الأخيرة. ناداني عدة مرات، لكنه كان يناديني على هذا النحو بلا مبرر منذ زمن طويل. ولما كنت مرهقة للغاية، فقد نمت، نمت ولم أستيقظ - وهذه الذكرى لن تكف عن تعذيبي.
نحو الساعة السادسة صباحا جعلته يشرب قليلا من الحليب، وتمتم: «بس ...» ونزلت أعد قهوتنا. ثم صعدت ثانية مع صينيتي ودنوت من سريره وناولته ملعقة من العسل بلعها ... وبدا لي بالغ الشحوب عندما استدرت إليه بعد أن وضعت الملعقة على الطاولة وهيأت البسكويت، لا تنفس ولا نبض. ففعلت ما كنت أفعله في لحظات غشيانه العديدة، لكني كنت أدرك أن ذلك كان بلا فائدة، فناديت الدكتور غالي،
7
ووصل بعد نصف ساعة.
وجلست قربه، مرهقة متبلدة الذهن وإن كنت هادئة هدوءا غريبا (ما أكثر ما كنت أتخيل هذه اللحظة المرعبة!) كنا معا، وحيدين، متقاربين بشكل يفوق الوصف. ولم أكن أبكي - فقد جاءت الدموع بعد ذلك - ولم يكن أحد يعرف بعد بالذي حدث. كان الواحد منا قبل الآخر. مجهولا ومتوحدا، كما كنا في بداية طريقنا. وفي هذا التوحد الأخير، وسط هذه الألفة الحميمة القصوى، أخذت أحدثه وأقبل تلك الجبهة التي كثيرا ما أحببتها؛ تلك الجبهة التي كانت من النبل ومن الجمال بحيث لم يجترح فيها السن ولا الألم أي غضون، ولم تنجح أية صعوبة في تكديرها ... جبهة كانت لا تزال تشع نورا، «يا صديقي، يا صديقي الحبيب.» وظللت كل صباح، حتى عندما لم نعد وحدنا، أقول وأكرر القول: «يا صديقي»؛ لأنه قبل كل شيء وبعد كل شيء وفوق كل شيء كان أفضل صديق لي، وكان - بالمعنى الذي أعطيه لهذه الكلمة - صديقي الوحيد.
ما كان من الممكن لهذه البرهة من العذوبة الغامرة أن تستمر. كانت ابنتي في نيويورك وكان ابني في باريس. ولا يمكنني أن أصف المساعدة والعزاء اللذين غمرني بهما أوائل الذين هرعوا إلي من الأقربين. إن ما غمرني به ذلك اليوم الدكتور غالي وجان فرنسيس
8
وسوسن الزيات
9
وزوجها وماري كحيل والأب قنواتي
10
كان فوق كل تصور وفوق كل تعبير. لقد حمل محمد شكري على كاهله أعباء كل الإجراءات. وعندما قلت له: «ذلك أنني وحيدة تماما.» أجابني بتلك الكلمات: «لا تقولي ذلك؛ فكل البلد من ورائك.» وكذلك بكلمات أخرى، عندما أخبروني بأنهم سيأخذون طه إلى المستشفى بعد الظهر؛ كلمات إن بدت في ظاهرها قاسية، فقد كانت في حقيقتها بالغة الجمال: «إنه لم يعد يخصك.»
أما القس الشاب الجديد لحي الزمالك،
11
فقد أرسل لي هذه الآيات من سفر أيوب:
أما أنا فقد علمت أن وليي حي
والآخر على الأرض يقوم
وبعد أن يفنى جلدي هذا
وبدون جسدي أرى الله. (الإصحاح التاسع عشر: 25-26)
لم يسبق له أن رأى طه، وكان قد قرأ في لبنان كتابه «الأيام» وتمنى من كل قلبه أن يتعرف عليه. وفكرت أن بوسعه أن يرى هذا الوجه حتى في سكون الموت؛ ولقد رآه.
كان هذا الوجه جميلا، ولم يكن له - شأنه شأن جبهته - من العمر ثلاثة وثمانون عاما! وكانت ترتسم عليه هذه الابتسامة الرقيقة التي كنا نحبها. وكان الشعر الذي بقي كثيفا، يكاد يكون رماديا. أما الجسد، فقد كان يستسلم للراحة بهدوء. كل شيء كان يعبر عن الصفاء والسلام. ولن تنسى جان انفعالها عندما كانت تنتزع من إصبعه خاتم الزواج لتعطيني إياه؛ فقد انغلقت اليد التي بقيت لينة على كف صديقنا، كأنما لتقول لها: «إلى اللقاء.» ليس من الممكن أن يتصور المرء أنه كان ثمة احتضار. لا، فقد كان اليوم يوم أحد، اليوم الثالث من رمضان، ساعة الفجر - ساعة التجلي الإلهي - وإني لعلى ثقة من أن الله كان يصحبه على هذا النحو دون أن أستشعر ذلك؛ إذ ما شأني فيما يجري بينهما؟!
كان من الصعوبة بمكان على ولدي أن يحضرا. كانت مصر منتصرة، لكن الحرب لم تكن قد انتهت،
12
وكان المطار مغلقا. واستطاعت ابنتي وصهري الذي كان وزيرا للخارجية
13
وكان في الأمم المتحدة آنذاك، الوصول مساء الإثنين. وأعيد فتح المطار يوم الثلاثاء، ووصل ابني من عمله في باريس إلى البيت في ساعة متأخرة من الليل، وعلمت بعد ذلك أنه لم يجد سيارة يستأجرها، وكان الحزن والإجراءات الإدارية قد أنهكته، فقد أغمي عليه في المترو، الأمر الذي فوت عليه الطائرة التي كان يفترض أن يلقى فيها أخته وصهره. «مساء الخير يا أمي.» وألمح ابتسامة الحنان والشجاعة على الوجه المنهك الذي تجلى علي في منتصف الدرج حيث كنت أهرول للقائه.
لن أتحدث شيئا عن المأتم. فقد علقت عليه الصحف والإذاعة والتليفزيون مطولا. لكني سأقوم شيئا ما كان يمكن للصحافيين أن يعرفوه. فأمام المسجد، كنت وابنتي أمينة ننتظر في السيارة انطلاق أولئك الذين كانوا سيذهبون إلى المقبرة. وكان كثير من أهالي الحي في ذلك المكان ينتظرون أيضا في صمت عميق. وكان من بينهم، بالقرب منا، صف من الأطفال والراشدين. وكنت أكرر لنفسي: «إنه من أجلهم ما بذل طه من جهود كثيرة.»
14
وإليهم إنما كنت أود الحديث ذلك الصباح. ومددت يدي نحو أقربهم، فأذهلته حركتي في البداية ثم ما لبث أن نظر إلي بابتسامة جميلة وتناول يدي. وسرعان ما امتدت إلي الأيادي: عشرون، خمسون ... وفي تلك اللحظة انطلقت السيارة، فتراكضوا على مقربة من بابها وهي تنطلق، وكانت يدي لا تزال خارجها، لعلهم لو انتزعوها تلك اللحظة مني ما كنت لأحس أي ألم. •••
أول مرة التقينا فيها كانت في 12 مايو 1915 في مونبلييه
15 (ومنذ زواجنا كنا نحتفظ لهذا اليوم بوضع خاص).
16
لم يكن ثمة شيء في ذلك اليوم ينبئني بأن مصيري كان يتقرر، ولم يكن بوسع أمي التي كانت بصحبتي أن تتصور أمرا مماثلا. وكنت على شيء من الحيرة؛ إذ لم يسبق لي في حياتي أن كلمت أعمى. لقد عدت إليه أزوره بين الحين والآخر في غرفته التي كانت غرفة طالب جامعي. كنا نتحدث وكنت أقرأ له بعض الفصول من كتاب فرنسي. ولعل القدر كان قد أصدر قراره بالفعل؛ فقد كان هناك أعمى آخر، هو الأستاذ الإيطالي الذي كان يدرسه اللغة اللاتينية، قد أدرك ذلك وقال له: «سيدي، هذه الفتاة ستكون زوجتك.»
كنا في غمرة الحرب. وكانت الجامعة المصرية تتصل بمبعوثيها بصعوبة؛ كان نسف البواخر يزداد؛ واستدعي المبعوثون إلى القاهرة. فيعود طه إلى مصر ويوشك أن يقع مريضا لشدة ما كان تعسا لعدم استطاعته متابعة دراسة كانت لا تزال في بدايتها. وأخيرا حصل مع آخرين على إذن بالعودة في عام 1916.
17
كنا، أمي وأختي وأنا، قد أقمنا في باريس.
18
وكنا نلتقي. وكان ثمة غرفة شاغرة في بيتنا، وكان يبدو مهملا، ضائعا برغم حضور أخ له لم يكن للأسف معينا، وإنما كان مصدر هم متواصل بحيث إن أمي اقترحت عليه المجيء للسكن عندنا. وقبل، ولكن بعد كثير من التردد؛ لأنه وهو الذي لا يوقفه شيء عند اتخاذه القرارات الهامة، كان شديد الخجل في الحياة اليومية. لم يقبل إطلاقا أن يتناول وجباته معنا.
19
كان ثمة قارئة تأتيه بانتظام، وكانت هناك سيدة أكبر في العمر تصحبه إلى السوربون. لكني شيئا فشيئا أخذت أتدخل في ذلك وأصحبه أنا الأخرى إلى الجامعة من وقت إلى آخر حتى بت أصحبه غالبا. وكنت أقرأ له عندما يكون وحيدا. كنا نتحدث بكثرة، وكان يحقق تقدما عظيما في اللغة الفرنسية.
وذات يوم، يقول لي: «اغفري لي، لا بد من أن أقول لك ذلك؛ فأنا أحبك.» وصرخت، وقد أذهلتني المفاجأة، بفظاظة: «ولكني لا أحبك!» كنت أعني الحب بين الرجل والمرأة ولا شك. فقال بحزن: «آه، إنني أعرف ذلك جيدا، وأعرف جيدا كذلك أنه مستحيل.»
ويمضي زمن، ثم يأتي يوم آخر أقول فيه لأهلي إنني أريد الزواج من هذا الشاب. وكان ما كنت أنتظره من رد الفعل: «كيف؟! من أجنبي؟! وأعمى؟! وفوق ذلك كله مسلم؟! لا شك أنك جننت تماما!»
ربما كان الأمر جنونا، لكني كنت قد اخترت حياة رائعة. اخترت! من يدري؟ لقد قالت لي صديقة عزيزة ذات يوم: «لقد كان عليك أن تضطلعي بهذه الرسالة.» وصديقة أخرى تقول لي منذ زمن ليس ببعيد: «أتذكرين يا ماري؟ لقد ملئت حياتك إلى أقصى حد.» نعم؛ لقد ملئت حياتي إلى أقصى حد. كان قد قال لي: «لعل ما بيننا يفوق الحب.» فيما يتعلق بي، كان هناك هذا الشيء الرائع: الفخر، واليقين من أنه ليس ثمة ما يدعو للخجل، ومن أنه ليس هناك على الإطلاق أية فكرة مريبة أو بشعة أو منحطة يمكن أن تأتي لتحقر أو لتثلم الكائن الذي أقاسمه حياته. آه! لم يكن دوما هادئ الطبع - على العكس من ذلك - لكن هذا أمر آخر.
وكان لا بد من النضال بالطبع بسبب ذلك القرار. وجاءني أكبر عون من عم لي كنت أكن له إعجابا عظيما؛ وكان هذا العم قسا.
20
فقد حضر ليتعرف بطه، وتنزه معه وحيدا في حقول البيرنيه مدة ساعتين، ثم قال لي عند العودة: «بوسعك أن تنفذي ما عزمت عليه ... لا تخافي. بصحبة هذا الرجل يستطيع المرء أن يحلق بالحوار ما استطاع إلى ذلك سبيلا، إنه سيتجاوزك باستمرار.» هذان الرجلان، اللذان كان كل منهما يقدر الآخر، سوف يتحابان عما قريب. لكن يد المنون اختطفت منا عمنا مبكرا بعد عدة سنوات من ذلك التاريخ، وبقي طه يردد حتى النهاية: «لقد كان عمك القس أحب رجل إلى نفسي.» وكان قد كتب إلى أمي عند وفاته: «كان مثلنا ودليلنا ومحل إعجابنا. كان يجعل كل شيء جميلا، وكان يجعل كل شيء نبيلا؛ لقد كانت الحياة تغدو بصحبته فجأة حياة أرفع وأخصب.»
21
أوليس ذلك هو ما أستطيع أن أقوله بدوري عن طه؟!
كان لا بد من الحصول على موافقة الجامعة؛ فلم يكن بوسع المبعوثين أن يتزوجوا قبل عودتهم،
22
كما كان لا بد من إعلام أهله. وأخيرا أعلنا خطوبتنا.
بدأت العمل معه، وغدا ذلك في منتهى الجدية. كان يعد لنيل إجازة في الأدب الكلاسيكي، وكان ذلك امتحانا عظيما لامرئ لم يدرس من اللاتينية إلا القليل، ولم يدرس ما يكفي من النصوص الفرنسية، كما لم يدرس التاريخ؛ امرئ كان علي أن أعلمه كذلك الجغرافيا وأعد له خرائط بارزة (أنا التي لم تعرف شيئا من الجغرافيا!) - هناك الآن خرائط خاصة بالمكفوفين
23 - وكنا نبدأ العمل بعيد الفطور. وبعد مضي سنوات كان يكتب في غمرة العاطفة والذكرى: «كنا نتبادل تحية الصباح، وكنت أقبل وجهك وخاتمك، ونتحدث في الحب وفي العلم ...»
وسمح لي أن أكتب أوراق امتحانه، وسأظل ممتنة لذكرى العميد «كروازيه
Croiset »
24
الذي منحني ثقته. لقد وضعونا في قاعة خالية، وأظن أنهم لم يضعونا تحت الرقابة في أية لحظة.
25
وكان النص اللاتيني يغمرني آلاما، فقد كان طه يكرر القول بعناد: «لا أستطيع، لا أعرف، سأصرف النظر عن الامتحان.» وخلال نصف الساعة الأخيرة، أملى علي، بعد أن استسلم أخيرا لرجائي، ما كان يسميه كارثة. وحاز على 12 درجة ونجح.
26
ثم عكفنا على الرسالة. وكلما فكرت بها عاودتني الدهشة من أن امرأ يشكو كفاف البصر وقلة الاستعداد في الثقافة الغربية، استطاع في أقل من أربع سنوات أن يحصل إجازة ودبلوما في الدراسات العليا وأن ينجز رسالة دكتوراه. كنا نتساجل حول النصوص، وخاصة منها تلك التي كانت مكتوبة بلغات لا نعرفها. وما زلت أذكر أحد النصوص الإسبانية «التاميرا
Altamira »، لم يسبق لي على الإطلاق أن قرأت جملة إسبانية، كما لم يسبق لطه أن سمع مثل هذه الجملة. لكننا تغلبنا على هذا النص مستعينين بالفرنسية وباللاتينية وبالإيطالية التي استنجدت بها. وكانت لي صديقة أخذت على عاتقها ترجمة نص ألماني، أما بالنسبة إلى النصوص الأخرى فقد كنا نطلب ترجمتها إلى محترفين.
وفي أحد الأيام، أصابت طه آلام مرعبة في الرأس. واكتشفنا أن عينه اليمنى، التي كانت معطلة كالأخرى، تعاني التهابا حادا.
27
وأراد طبيب عيون من «ديجون
Dijon »، كان يجري عمليات في مستشفى «أوتيل ديو
Hôtel-Dieu » وكان صديقا لأسرتي، أن يقوم بعملية استئصالها التي لا بد منها في بيتنا؛ ذلك أن الوقت كان وقت حرب والمستشفيات طافحة بالجرحى. لقد تعلمت في تلك الأيام أن آخذ نصيبي من كل المحن التي اختصت بها الحياة الرجل الذي كنت أحب، الجسدية منها أو المحن الأخرى. كان يتألم بقدر ما كان يصرخ، هو الشجاع القادر على السيطرة على نفسه. إن من المرعب أن يرى المرء إنسانا يتألم، لكن رؤيته يقاوم في الليل بدون عون ضوء النهار المخفف ينتهبه الألم كليا كانت أمرا فظيعا. ولقد خفت؛ فالتهاب السحايا لم يكن بعيدا. لكنه شفي.
وفي الخامس من أبريل كتبت لأمي ، التي كانت غائبة، بفخر: «لقد أصبحت الرسالة في الصفحة الثامنة والثمانين.»
كانت الحياة قد أصبحت أصعب فأصعب، وكان الشتاء قاسيا، وكنا - أختي وأنا - نفنى شأن آخرين كثيرين بحثا عن البطاطس وخاصة عن الحطب والفحم. وكنت أفرح وأدندن كلمات الأغنية: «من يغني أغنية الفحم ...» وكانت أيدينا المشققة تزعجنا كثيرا.
28
لم نكن أغنياء، لكن طه وجد وسيلة يتمكن بها من إهدائي هدية بمناسبة عيد ميلادي؛ فقد اشترى من شارع بونابرت نسخة من لوحة «عذراء لندن
La vierge de Londre » «لبوتيشللي
Botticelli ». هذه اللوحة بقيت دوما في غرفتي. وكانت أجمل لحظاتنا هي الفترات التي نقضيها ونحن نستمع إلى الحفلات الموسيقية التي كانت تقدم كل أحد في السوربون. لم تكن باهظة الكلفة، إلا أننا كنا نضطر أحيانا للاستغناء عنها، وكنا نعزي أنفسنا بقراءة كتاب جميل.
كان طه حسين يقبل كل شيء بأريحية. وقد فوجئنا ذات يوم بزوبعة وإعصار عنيف ممطر، وكتب إلى أمي: «كانت سوزان بالغة العذوبة عندما رأت مقاعد مقهى «مالنييني
Malnienny » تتطاير عبر شارع «سوفلو
Soufflot » والخدم يركضون وراءها بحيث إنني لم أتمالك نفسي من الضحك!»
تزوجنا يوم 9 أغسطس 1917 ببساطة مطلقة، إلا أن الجميع أصروا على أن ألبس ثوب الزفاف الأبيض وأن نركب العربة المقفلة. وكان في الشوارع جنود يقضون إجازاتهم القصيرة بعيدا عن المعارك، ولم يكن منظر الزيجات آنذاك مألوفا؛ فكيف يسعني أن أنسى نظرة المودة التي كان يتطلع بها إلي هؤلاء الجنود، كانوا يحيوننا ويهتفون: «تحيا العروس!» وكنت أقول لهم: «شكرا!» وكانت تلك الكلمة هزيلة للغاية بالنسبة إلى أولئك الذين كانوا يعودون للجحيم وإلى الموت للكثير منهم، أولئك الذين بلغ بهم الكرم إلى حد أنهم كانوا يبتسمون لنا.
29
ذهبنا إلى قرية «بو
» في البيرينيه، فقد قضينا فيها غالبا أيام إجازاتي، كما كانت لي صديقة عزيزة تقطن فيها، كانوا قد أكدوا لي أنني سأحتفظ بجنسيتي؛ لذلك فإن طه وحده هو الذي حصل على جواز مرور لهذه النقطة من الحدود. بيد أنني أعلمت في «أركاشون
Arcachon » - حيث توقفنا قليلا - بأنني لم أعد فرنسية على الإطلاق، وأنه ليس بوسعي المضي بعيدا عن الحدود بدون جواز مرور، وانهمرت دموعي غزيرة أمام رجل الشرطة الذي أخذ من ناحية أخرى يضيف إلى كلماته جانبا من الإغاظة والمعابثة. وبما أنني كنت لا أرى الأمور دائما إلا بمنظار الجد
30
فلم أكن لأطمئن، وآنذاك قال لي صديقي المسكين بذهول، ولكن بأريحيته الدائمة وصوته يختنق: «حسنا؛ لنطلق!» ويخيل إلي أن تلك الكلمة كانت برهانا جميلا على الحب.
يناير 1918
انتهت الرسالة
31
ودافع عنها طه بألمعية، ونال تهنئة اللجنة الفاحصة، كما أعلنت ابنتي عن قدومها. كان ثمة كثير من القصف، وقد سبب قصف مدرسة المناجم التي كانت على مقربة منا العديد من الضحايا،
32
فاصطحبني طه إلى مونبلييه؛ حيث ستولد أمينة في الخامس من يونيو.
كنا ندهش بطبيعة الحال ونحن ننكب على طفلتنا. ففي صباح أحد الأيام لاحظت أنها ابتسمت لي عشر مرات، وأن النهار يروق لها وضوءه يتسرب من خصاص النافذة. ذلك أنها كانت وهي تحييه ب «هو ... هو ...» معجبة وفرحة تمنح أباها وجها مشرقا.
كان الجو بالغ الحرارة في مونبلييه. فقد توعك مزاج الطفلة وكنت لا أكاد أستطيع الوقوف على قدمي. وهكذا عدنا إلى البيرينيه. كانت رحلة مرهقة بالدرجة الثالثة طبعا، لكننا كنا نلتقي بصديقتنا ثانية ونعود إلى مدينة نحبها، كنا ننزه طفلتنا في ظل الأشجار الضخمة - أشجار الزان - في حديقة هنري الرابع، لم نكن بعد قد استطعنا شراء عربة لها؛ ولذلك فقد كان طه يحملها بين ذراعيه حتى مروج «جورانسون
Jurançon » حيث كنا نستمتع بقضاء النهار على العشب.
وفي أحد الأيام شعر بسعادة غامرة؛ لأنه تلقى كتابا عربيا، كان قد غرق في أثناء قصف السفينة ثم انتشل من الماء. إلا أننا عندما علمنا يوم 26 أغسطس بقصف سفينة «الجماح» فقدنا صوابنا؛ فقد كان «ضيف» - وهو زميل طه في باريس
33
ويكبره بكثير - على ظهرها عائدا إلى مصر، وأخذ طه، الذي طار لبه، يبكي ويهمس: «وا أسفاه! فخسائر بلدنا ستبقى بلا تعويض؛ هل سيأتي اليوم الذي تدافع فيه مصر عن نفسها بنفسها؟» ... لقد جاء هذا اليوم بعد خمسة وخمسين عاما ... فتبارك الله الذي أحياه حتى يتلقى خبر انتصار أكتوبر!
34
بعد ذلك علمنا من عثمان باشا غالب
35
أن سفينة إنجليزية قد انتشلت «ضيف» وتم من ثم إنقاذه.
سبتمبر: فرنسا تلهث والنصر يقترب. وكان طه مرحا يحلق وهو يرغي ويزبد ويتندم: «فلنكف عن الاعتراض ... فمن يدري أن العناية الإلهية قد تتسلح بآلة الحلاقة لكي تسبب لي ندبة في وجهي؟!» وظل لسنوات يدمدم وهو يحلق لحن افتتاحية «حلاق إشبيلية» على نحو غير صحيح ويغمر الأطفال من حوله بهجة.
عدنا إلى باريس. كانت باريس في الحادي عشر من نوفمبر تتفجر فرحا. وكان في مواجهة نوافذ بيتنا، من الجانب الآخر من الشارع، ملحق لمستشفى «فال دو جراس
Val-de-Grace » وحديقة صغيرة. فمن هناك تلقينا أول هتاف للجرحى الذين كانوا يقضون فترة نقاهتهم، وهناك رأيت أول علم يرفرف، عانقني طه؛ فما أكثر ما مرت علينا معا لحظات من الخوف والأمل! واختلطنا في المساء بالجماهير التي كانت تصعد نحو «مبنى البلدية
Hôtel-de-Ville »، وكانت ابنتي ترافقنا في عربتها الصغيرة «التي اشتريناها أخيرا»؛ لعدم وجود مربية نتركها عندها، كان جميع الناس يضحكون ويغنون. ومن المحتمل أن يكون طه قد أنشد مع المنشدين لحن «المادلون
Madelon ».
أكتوبر 1919
أبحرنا على ظهر سفينة «اللوتس» بعد أن قضينا ثلاثة أسابيع كريهة من الانتظار في مرسيليا بسبب إضراب عمال الميناء، لم يسبق لي على الإطلاق أن سافرت في البحر، وكانت السفرة مرهقة برفقة طفلة لا تتجاوز من العمر ستة عشر شهرا. وسرعان ما تشجعت لدى وقوف السفينة في الإسكندرية؛ إذ في غمرة ارتباكي وأنا أحمل الطفلة على ذراع وأعطي الذراع الأخرى لزوجي الذي كان يحمل ما لا أدريه من الحقائب، رأيت رجلا كان يتقدم نحونا ويبتسم لنا، حسن عبد الرازق، محافظ الإسكندرية، الذي أخذ طه بين ذراعيه معانقا، ثم عانقني أيضا وهو يقول: «إن طه هو أخي الصغير؛ فستكونين إذن أختي الصغيرة.» واصطحبنا إلى منزله. لم أكن سعيدة دوما في مصر، بل ما أكثر ما تألمت فيها! لكنني بسبب هذا الاستقبال الذي تثيرني ذكراه الآن مثلما كانت تثيرني دوما
36
لم ألفظ كلمة تأفف واحدة. لقد غدت مصر بالنسبة إلي ولأكثر من سبب وطنا ثانيا؛ أحبها كما أحبها طه، ولست أحتمل أن يراد بها شر أو أن يتجاهلها العالم. لقد بدأ ذلك مع حسن عبد الرازق، كنت أعرفه قليلا من خلال الرسائل التي كان يكتبها لطه، ثم عرفته بصورة أفضل وأحببته. وعندما اغتالوه بخسة
37
بكيته كما لو كنت أبكي واحدا من أهلي وكما بكيت من بعد أخاه الشيخ مصطفى عبد الرازق.
38
بعد عدة أيام كنا نصل القاهرة، وكان ينتظرنا في المحطة رجل يفيض حيوية وجذلا وعرامة، وكنت أعرف فيه صديقا آخر لطه، إنه المرصفي؛ إذ ما أوشكت أن أضع قدمي على رصيف المحطة حتى رأيت ابنتي محمولة على ذراعين قويتين ترفعانها عاليا فوق رءوس المسافرين الآخرين، كانت محطة القاهرة في نظري تلك الدمية الفاتنة تضمها أوراق ثوبها الأزرق، والتي كنت ألاحقها بفزع رغم تشجيع طه لي.
وبدأت حياتنا الحقيقية. •••
نحن في عام 1975. الآن وقد أصبحت اليد التي كانت دليل طه فارغة، وقد بات من المستحيل علي أن أستند على ذراعه، وقد انهار الصمت الحاسم ... أحاول بعد كل شيء أن أتحدث ...
عندما عدت من باريس في العام الماضي، فتحت دفترا.
المعادي
39
أبريل 1974
تمزق يتجدد دون توقف: لا يتقاسم المرء حقا شيئا ما، ولا يستمع إلى جواب! صمت فظيع. أقرأ شيئا ما، وأقول لنفسي في ومضة: «سأقرأ له هذا على الفور.» ثم أشعر بقبضة يد تضرب على صدري. لقد انفعلت جدا عند قراءتي في سفر صموئيل:
قالت القانة لحنة التي كانت عاقرا: يا حنة، لماذا تبكين؟ ولماذا لا تأكلين؟ ولماذا يكتئب قلبك؟ أما أنا خير لك من عشرة بنين؟! ... (الإصحاح الأول: 8)
6 مايو
حملت إلى منزل ابنتي بالمعادي رسائلك التي أريد أن أقرأها بهدوء كلما استطعت إلى ذلك سبيلا. وقد انزلقت إحداها هذا الصباح من «الرزمة» ووقعت أرضا، وكانت تحمل تاريخ ديسمبر 1925، وقرأت:
كان لطفي بك
40
يقول يوم الخميس: إن طه لا يستطيع أن يعمل بعيدا عن زوجته
41
ذلك أن قلبه لا يكون آنذاك معه! أي نعم! ولا كذلك عقلي، ولعل سكرتيري قد ضحك في نفسه؛ فهذا الشاب لا يؤمن بالحب، ولم أكن أنا نفسي لأومن به من قبل، إلى أن جاء؛ فلم أعد أنا نفسي ما كنته من قبل.
أما في نظري الآن، فالحب حاضر دوما، وإنما أنا التي لم تعد هي نفسها؛ إذ إنني لم أعد أتعرف على نفسي أو العالم على الإطلاق.
كان كورنيش المعادي، هذا الذي أجوبه الآن كل يوم تقريبا، مكان آخر نزهة لك في مصر. كنا نعود من حلوان حيث كان يحلو لك أن تستعيد ذكرى ذلك الخليفة الذي سحرته حلوان
42
عندما كانت مزهرة ومخضوضرة. وكنت تلقي علي قصائد مستوحاة من هذه الأماكن، ومقاطع بأكملها. لم تكن تترك السيارة، لكنك كنت في منتهى الراحة خلال هذه النزهات التي لم تكن مع ذلك تريد أن تقوم بها.
16 مايو
نعم؛ هو ذا ما لا يمكن تعويضه: فهناك الآن وستبقى إلى الأبد أشياء لم أعد أستطيع أن أقولها لأي مخلوق في العالم.
18 مايو
عندما يكون لنا أطفال يحتاجون إلى الرعاية والتربية، أو مهنة، أو مهمة تتطلب المتابعة وقوى جسدية للقيام بها؛ فإن بوسعنا - ولا شك - بل إننا نعرف كيف نتدبر أمرنا حتى بعد الوصول بهذه المهمات إلى غاياتها، لكن، ها أنا ذا في الثمانين من عمري، والمهمة التي واصلت القيام بها خلال ستة وخمسين عاما قد غدت بلا موضوع.
21 مايو
تلقيت هذا الأسبوع نبأ ثلاث وفيات: علال الفاسي،
43
وتذكرت رحلتنا إلى المغرب وحديثنا في الرباط وفاس معا؛ والكاردينال «دانييلو
Daniélou »،
44
وأرى على الفور من جديد «فالومبروزا
Vallombrosa » والدرب الصاعد نحو الدير، وأشجار الصنوبر، حيث تتألق أشعة أرجوانية لشمس مساء على وشك المغيب؛ وجورج «لابيرا
La Pira »
45
يقترب منا بصحبة رجل قصير في جبة كاهن: الأب دانييلو. وأخيرا «توريز-بوديه
Torres-Bodet »
46
وحرارة استقباله لدى كل لقاء لنا به، وعاطفته الحقيقية نحوك، واسمك في كتابه الذي نشره في عام 1970، ورسالته لك عندما بدأ يصبح كفيفا. لم يستطع أن يحتمل التجربة، وها هو قد قتل نفسه.
لم يبلغ واحد من هؤلاء العمر الذي بلغت، ومع ذلك فهم رفاق طريق، معا. وعلى الرغم من تباعد المكان، كنتم تشقون دروبا متوازية لكنها مختلفة. وحيدة أنا هذا المساء، وكذلك الوحيدة - هنا - التي عرفتهم بالنسبة إلى اثنين منهم على الأقل. أفكر بهم بكآبة، وأفكر بك بكثير من الحب!
24 مايو
الرياح تعوي؛ ما أشد انحراف مزاجي! كنت تقول لي: «أنت تتألمين عندما تكون الرياح شديدة.» نعم.
الأحد 26 مايو
ككل يوم أحد، أعيش من جديد هذا الصباح الذي انتزعت فيه مني. كلي معك.
والرياح التي لا تكف عن العويل منذ ثلاثة أيام تحدث ضجة لا تطاق في النوافذ ومصاريعها. إنني في منتهى التعب، وأذكر نزهات الأيام الخالية. تلك التي كنا نقوم بها في الجيزة عندما سكنا في «رامتان»،
47
ولم تكن هذه النزهات كثيرة العدد، ويتراءى لي ثانية الدرب المعفر على طول القنال، والغابة البرية الحافلة بزهر النسرين الأبيض، والممر الرملي الطويل بالقرب من الأهرام، تحت أشجار الكازورينا. والممرات الأخرى؛ كممر السدود والطريق بين الحقول بعد البساتين. كنا نتحدث، وكنت أحاول أن أمنع عنك الغبار، وأتذكر الجبل أيضا، وها هي إحدى الذكريات العذبة ترد إلى خاطري: فرجة الغابة في «كول إيزاركو
Colle-Isarco » في الغابة فيما فوق «الفليرز
Flers ». كان ذلك بعد العملية التي أجريتها، وقد شدهت لكونك استطعت التسلق حتى هذا المكان عبر ممر على جانب من الوعورة. كنا جالسين على مقعد حجري، وحيدين تماما، وقضمت قطعة من الشوكولا وقطعتين من البسكويت. كان النسيم رقيقا، وأريج الغابة يفوح وسط السكون الجليل لعصر صيفي. كنت تحلم بالأيام السالفة، بنزهاتنا في الغابات المحيطة بباريس، فقد قلت لي: «هل تذكرين «شافي
Chaville »؟» ويخيل إلي أنك كنت سعيدا حقا تلك اللحظة، ولم أنس ذلك قط.
وبعد العشاء وضعت عدة أسطوانات موسيقية كما أفعل أغلب الأحوال في المساء، لحنا هادئا لموزارت وسمفونية المزامير لسترافنسكي. لقد أحببت هذه الموسيقى العظيمة، والرصينة. وليس بوسعي أن أستمع إلى الموسيقى التي كنت تحبها ببرود أعصاب، فها هنا أعثر عليك من جديد بشكل أفضل، وأصغي للموسيقى معك.
3 يونيو
بالأمس كان العنصرة، ومرة أخرى ترد إلى خاطري بصفاء بالغ ذكرى العنصرة في «جاردونيه
Gardonne » كنت قد استمعت إلى القداس في الكنيسة من الأعلى، وكان القس العجوز قد قرأ إنجيل يوحنا. كان الصباح رائعا، وكان كل شيء نديا وجميلا: السماء، والبحيرة، والأشجار، والأزهار. كل شيء يبهر البصر، وكنت أنحدر نحو الفندق وأنا أتلو بيني وبين نفسي: «سلاما أترك لكم، سلامي أعطيكم.» (إنجيل يوحنا، 24: 27)، ثم كررت على مسامعك هذه الكلمات بانفعال.
وإذ أذكر اليوم هذا الصباح، أفكر بهذا التوافق الخفي الذي وحدنا دوما في احترام كل منا لدين الآخر. لقد دهش البعض من ذلك، في حين فهم البعض الآخر؛ إذ رأى أن بوسعي أن أردد صلاتي على حين تستمع إلى القرآن في الغرفة المجاورة، ويصدفني اليوم أن أفتح المذياع لأستمع إلى آيات من القرآن عندما أبدأ في تسبيحي، بل إني لأسمعه على كل حال في أعماق نفسي. كنت غالبا ما تحدثني عن القرآن، وتردد لي البسملة التي كنت تحبها بوجه خاص. وكنت تقرأ التوراة، وكنت أتحدث عن يسوع. كنت تردد في كثير من الأحيان: «إننا لا نكذب على الله.» لقد قالها أيضا القديس بولس. لا شك أننا لا نكذب على الله، وويل للمكذبين.
8 يونيو
أفرغت أخيرا خزائن المكتب، وملأت ظروفا كبيرة: مقالات، وخطبا، ورسائل ... إلخ. لم يكن ذلك إلا أول تصنيف، ولست بالقادرة على تصنيف وتدبير كل هذه النصوص العربية. لقد حطمتني هذه الفترات الصباحية في «رامتان»، وكان ينضاف إلى التعب الحنان المؤلم أحيانا. لكنها غالية علي هذه الفترات الصباحية، فقد كنت خلالها أقرب إليك في هذا المكتب وسط كل هذه الأوراق. وكان إعجابي يزداد أكثر بهذا الجهد والعناء العظيمين. •••
وبدأت حياتنا الحقيقية - ليس ذلك صحيحا كل الصحة - كانت حياتنا قد بدأت بل التحمت. لكن طه، حتى ذلك الحين، لم يكن بعد قد واجه المسئوليات التي سيترتب عليه عبء النهوض بها؛ فقد كنا نعيش في فرنسا على الانتظار ولم تكن الحياة بالنسبة لي صعبة في بلدي. ولكن، ماذا عن حياتي في مصر التي لم أكن أعرفها؟ كان من الممكن أن أكون خائفة، غير أنني لم أكن كذلك. هل كنت لا واعية؟ هل كنت واثقة بنفسي؟ الآن أستشعر خجلي المفرط إزاء هذه السنوات الأربع والخمسين التي تبدأ.
لقد أسرفت. كنت، على نحو أكثر دقة، أرى أن ما حبيت به أمر طبيعي - شأني في ذلك شأن الأغنياء المترفين - فلم أكن أخزن كنوزي. وهناك الكثير من الثروات التي حملتها لي السنون التي عشتها مع طه مما لا أذكر منها شيئا أو أنني أذكرها على نحو رديء. وبعد رحيله، بت أشعر أني منتزعة نهائيا لا من كل ما يخصني وإنما من كل ما يخصنا. أين ذهب ذلك الحبل السري الذي ربطنا إلى بعضنا باستمرار سواء أكنا معا أو كنا مفترقين؟ كثيرا ما كان يخطر لي في ومضة خاطفة: «لا يمكن لطه أن يكون قد قال ذلك، أو لم يكن ليفعل هذا الأمر؛ لم نكن لنتصرف على هذا النحو، أو لم نكن لنفكر في ذلك.»
كان يحدث له بسبب الإرهاق الذي تسببه له أيام حافلة من العمل ألا يحدثني. ومع ذلك فربما قلنا لبعضنا كل شيء، كل ما يمكن للنفس البشرية على كل حال أن تقوله بلغة الأرض، وكل ما لا نستطيع أبدا أن نحصره بكلمات مثلما أننا لا نستطيع التقاط شعاع عابر أو نفس من الهواء.
ليغفر لي حبيبي ضعف الصورة التي تقدمها هذه القصة وشحوبها؛ تلك الصورة التي ستكون بعيدة كل البعد عن الصورة الحقيقية لما كان. •••
عثر أصدقاؤنا لنا على شقة في شارع السكاكيني،
48
وكانت عبارة عن طابق أرضي واسع ومضيء امتاز في نظري بأهمية خاصة؛ وذلك لوجود حديقة صغيرة كنت أجتهد في أن أستنبت فيها الزهور.
49
لكن الحي لم يكن كثير التحضر، وكان الجيران يلقون بكثير من المهملات في حديقتي بحيث ثبطوا من عزيمتي. وفضلا عن ذلك فقد كانت الشقة بعيدة عن مركز المدينة وعن الجامعة. وقد سكنا فيها ما يفوق عن سنة، ثم انتقلنا إلى شارع الحواياتي بالقرب من قصر النيل.
50
لم يكن طه، قبل سفره إلى فرنسا، نكرة في بلده. فقد كان يكتب في صحيفة لطفي السيد (الجريدة) كما كان يكتب قليلا في صحيفة أخرى (العلم)
51
وفي مجلة «السفور».
52
كما أنه كان أول خريج في الجامعة الجديدة يحمل درجة الدكتوراه التي نالها عن رسالته عن «أبي العلاء المعري»؛
53
كان ذلك حدثا، وقد طلب الخديوي أن يرى الفائز، واستقبله بحرارة. وقد انصرف منذ عودته إلى مهنته كأستاذ بحماس، وسرعان ما بعث في التعليم روحا جديدة. ومنذ عام 1920 كان الفرح يغمر قلبه؛ فطلابه «يعضون» على التاريخ الإغريقي، وتلك ثورة في التعليم، كما كان ينظر إليها آنذاك.
وتعرفت على حموي، وكانا يعيشان في كوم أمبو قريبا من أسوان، وقد استقبلاني بحرارة. وبعد تبادل التحيات التقليدية مع الزائرين المجاملين والفضوليين، قال عمي لابنه: «سأخرج مع زوجتك؛ فلا تنشغل بنا.» تناول ذراعي، وقمنا معا بجولة في البلدة. لن يبدو أمرا خارقا لشباب اليوم أن يتنزه شيخ وقور معمم مع امرأة شابة سافرة، أجنبية ومسيحية، تعتمر القبعة! لكنه كان كذلك في تلك الحقبة. ولم أنس هذه اللفتة على الإطلاق. عندما يتحدثون عن التعصب الإسلامي لا أملك نفسي عن الابتسام أو الغضب. هذا الرجل، الذي كان ذا مهنة بسيطة ولا شك، لكنها تتيح للأسرة حياة كريمة، والذي كان يحب القراءة والحوار مع الوجهاء، وكان يتميز بميزة طبيعية أدهشتني؛ فقد كانت عيناه الزرقاوان تتألقان بدهاء محبب، ولم أدهش للاحترام الذي كان يلقاه في القرية. أما حماتي، فقد انصرفت بكليتها لتأمين راحتي وراحة طفلتي الصغيرة. كانت الحوالة المالية التي أرسلها والد طه هي التي سمحت لنا بشراء عربة للطفلة. كان طه يحدثني عن أبويه بحنان، وقد عرفت أن أمه تكسر أربعين بيضة لصنع عجة البيض العائلية، وأن أهله في العيد الكبير - عيد الأضحى
54 - كانوا يشترون عجلا وخروفا: الخروف للبيت، والعجل لتوزيعه على الفقراء. هل كان بوسعي أن أتخيل أن حماتي - وهي المسلمة المتدينة - يمكن أن تسأل طه عن أي نوع من النبيذ يجب شراؤه من أجلي؟ لقد أجبت بأنني لا أشرب الخمر على الإطلاق، ولقد كنت في منتهى التأثر من هذا الاهتمام الودي الذي أحطت به.
وبعد عودتنا للقاهرة بفترة قصيرة، تلقيت آلة خياطة سنجر؛ وكان ذلك في الريف البعيد أجمل هدية يمكن أن تقدم للعروس ... كما تلقيت أيضا سجادتين عجميتين، أخذتا ولا شك من بين سجاد البيت، إحداهما صغيرة، مربعة الشكل تقريبا كانت تروق لي كثيرا، والأخرى أكبر منها بقليل.
ويسعد طه عندما يتلقى من فرنسا كتابا كان قد طلبه، وهو عبارة عن بحث «لجيرار
Girard » حول «توسيديد
Thucydide ». أكتب ذلك والكآبة تغمرني متسائلة عما إذا كان هذا النص والنصوص الأخرى التي ألقيت في الجامعة لا تزال في المكتب العزيز في «رامتان».
وفي اليوم الأخير من السنة كان على الطاولة كومة من الكتب الجديدة؛ الجزء الأول من كتاب طه عن المسرح اليوناني الذي صدر أخيرا بعد مصاعب عديدة. وقد وزعت أكثر من مائة نسخة من الكتاب في الصباح، وكان لا بد من النضال ضد الاستغلال المخجل للناشرين، وإن كان بغير نجاح. لا يهم؛ ذلك أن الكتاب قد استقبل استقبالا ممتازا. أما ترجمة دستور «الأثينيين» فقد كانت تتقدم بسرعة، ولم يكن قد بقي سوى إنجاز الهوامش والتعليقات.
مع قدوم 1921 بدأت بالمشاركة في حياة مصر السياسية التي احتلت حيزا كبيرا في حياة طه. كنت قد تعرفت في باريس، في عام 1919، على اثنين من أعضاء الوفد المصري كانا صديقين لطه يكبرانه بكثير: لطفي السيد وعبد العزيز فهمي.
55
فقد جاءا لزيارتنا، وقدمنا لهما ابنتنا الصغيرة التي لم تكن قد تجاوزت من العمر عدة أشهر، إلا أنها عندما رأت هذين الوجهين الغريبين، أخذت في البكاء بطريقة فظة. وما زلت أذكر وجه عبد العزيز باشا المفعم طيبة وهو يؤنبها مازحا: «اسكتي يا أفريقية!»
عاد سعد زغلول
56
إلى القاهرة ليجدها مدينة هائجة تماما؛ فقد كان التجول ممنوعا في مركز المحطة وفيما حولها؛ فلا ترام ولا قطارات، وكل المتاجر مغلقة. وبما أنني كنت منعزلة في شقتنا البعيدة في حي السكاكيني، فلم أكن لأرى من ذلك شيئا ذا أهمية، لكنني كنت أعرف أن الشوارع كانت تدوي بهتاف جنوني، وأن القاهرة كانت تزدان في المساء بأنوار باهرة.
وفي شهر أبريل، استثار تشرشل سخطا عنيفا عندما قال إن مصر جزء من الإمبراطورية البريطانية، ولكي يزيد الطين بلة أعلن عن زيارته لها! وفي الأشهر التالية، كان ثمة اضطرابات تكاد تكون انتفاضات شعبية. وقد دام إضراب الترام الذي زاد من عزلتنا شهرا كاملا.
كان طه آنئذ يؤمن بحكمة سياسة الأحرار الدستوريين؛ فقد كان له في حزب الأحرار الدستوريين أصدقاء أعزاء من بينهم ثروت باشا،
57
وآل عبد الرازق. وكان ذلك يؤثر فيه ولا شك. كان يكتب في صحيفة الحزب، وكان يعمل بالطبع عن قناعة وبضراوة كانتا تميزانه في كل ما يعمله.
كنا نسكن في شارع الحواياتي على وجه التحديد عند ولادة ابننا الصغير.
58
لقد ذهلت أمينة إزاء هذه المعجزة؛ معجزة الأخ الصغير. أما طه فقد كان متحفظا في البداية - إذ كان يتمناه طفلة ثانية - ثم أخذ يهتم به كما يهتم بأخته في لحظات حريته النادرة.
59
لقد كانت لهذا الصغير - على الرغم من نحوله الفائق، والصعوبات التي كنا نلاقيها من أجل تغذيته - لحظات من المرح المجنون، شأنه شأن أبيه عندما كان يحمله بين ذراعيه. ولا أدري من أين كان يجيء هذا المرح الجميل للأب وللطفل معا. ذات يوم، بينما كنت أتناول الشاي مع آل محمود خليل
60
الذين كانوا يسكنون شارع قصر النيل، قلت لمدام محمود خليل كم كنت أجد بيتهم جميلا - ولقد كان كذلك حقا - فأجابتني بحزن: «كل هذا يمكن أن يشترى.» وعندما عدت إلى زهرتي الصغيرة وطفلي الحبيبين الرائعين، كنت أدرك كم كنت محظوظة.
كان هذان الطفلان كل فرحتنا؛ إذ إن الخصومة التي لاحقت طه زمنا طويلا كانت تتحول إلى عداوة عنيفة. فعلى الرغم من وعود الجامعة والصحيفة فقد بقي وضعنا المادي في منتهى السوء. ورمى طه، بعد أن أعياه ذلك، بتحديه «للجامعة الخسيسة». وبعد مماطلة ومضايقات ومساومات انتهى المجلس إلى الموافقة على زيادة ضئيلة قدرها أربعة جنيهات للأساتذة. وأغاظ هذا القرار جميع الأساتذة، ورفضوا هذه الصدقة، وتابعوا مطالبهم التي كانت تستقبل بلا مبالاة يشوبها قدر من الاستخفاف، وخاصة من قبل أولئك الذين كانوا جهلة ووصوليين في آن واحد. وانتهى الأمر بطه الذي اختير كممثل للأساتذة إلى أن يقول لرئيس الجامعة: «إن مجلسكم يقود الجامعة إلى الخراب؛ إننا سنقوضه، وربما الجامعة أيضا، ونحن معها؛ لكن الجامعة لن تبقى بين أيديكم.»
والحق أنني لم أكن آنذاك في صحة جيدة. وكان الطبيب حاسما عندما قال لي: «لا بد من ذهابك إلى فرنسا.»
كانت الصغيرة مصابة بفقر الدم، في حين أن أخاها كان يزن وهو في الشهر الثامن من عمره ستة كيلوجرامات. وبما أنه لم يكن مريضا بل كان عنيدا كأبيه، فقد كان يحدث أن يتمكن من الوقوف لمدة دقيقتين بين كرسيين، وكان هذا الجهد الهائل يمس شغاف القلب منا ويستثير أعصابنا. ونجري حساباتنا ونعيد إجراءها، وأخيرا اتخذنا قرارنا: سأرحل مع الطفلين، حزينة القلب فاقدة العقل لمجرد فكرة ترك طه لعناية أصدقاء لا شك في إخلاصهم لكنهم لا يعرفون قط كيف يجب القيام بها. وكنت أتخيل جيدا كل المصاعب التي كان سيواجهها في كل لحظة. ومن حسن الحظ أن كان له سكرتير يعرف عاداته تماما، وكان ذكيا مستقيما طيب القلب، ولقد قمت بتنظيم الوجبات التي كان يؤتى بها من البيت الذي كنا نسكن فيه نفسه.
كانت هذه الأشهر الثلاثة من الفراق مؤلمة، وكنت أشكو باستمرار متوقعة تراجع طه عن قرار سفري، وهو الذي كان قد قبل بل طالب بسفري من أجل صحة زوجته وطفليه، تاركا بذلك نفسه لوحدة أكثر شناعة بالنسبة له بمائة مرة منها بالنسبة إلى إنسان آخر غيره. وكنت أشعر أني في الوقت نفسه عظيمة الثراء؛ فكل ما يستطيع القلب البشري أن يمنحه من الحنان المحض كان قد منحنا إياه.
كنا، خلال هذه الأشهر الثلاثة،
61
نتبادل الرسائل كل يوم. كانت رسائله تحكي لوعة الغياب، وتنطق بشجاعته وحبه وهيامه ببلده، وتصور مشاريعه وأحلامه والأحداث التي كان يقص علي تفاصيلها مع شيء من السخرية أو المرح أو العنف.
62
15 يونيو
أود لو أصف لك ضيقي عندما تركت السفينة، عندما رجعت إلى القاهرة، عندما عدت من فوري إلى البيت؛ فقد دخلت غرفتنا وقبلت الزهرة وغطيت بالقبلات الصورة التي لا أراها ... ومع ذلك فقد فعل أصدقائي كل ما بوسعهم لتسليتي. لقد التقيت في المحطة بفريد (الرفاعي) والزناتي.
63
وتناولت العشاء مع مصطفى (عبد الرازق) ... عندما عدت، واجهت هذا الفراغ، والسرير الذي لا يزال على حاله، وسرير الصغيرة المغطى، والمهد الغائب ... كان ذلك أمرا رهيبا. وكنت بحاجة للشجاعة لأقوم بخلع ملابسي ... ولكن أنت، من يسهر عليك؟ من يعنى بك؟
لو أنني قربك، لا لشيء إلا لكي أحمل لك مؤنس، وألبس عنك أمينة، وأعطيك روح النعناع!
هذه اللفتات التي كانت تصدر عن ذلك الذي لا يستطيع أن يقوم بالكثير منها، كنت أنظر إليها باحترام.
يستحيل علي القيام بشيء آخر غير التفكير بك. ولا أستطيع أن أمنع نفسي من البكاء كلما دخلت الغرفة؛ فأنا أجدك في كل مكان دون أن أعثر عليك ... كانت الزهرة قد ذبلت، فوضعتها في العلبة التي تركتها لي لأضع فيها رسائلك؛ سأقبلها كل يوم. لقد استحالت الغرف معابد، وعلي أن أزورها كل يوم. ولو أنك رأيتني أخرج من غرفة لأدخل أخرى، ألمس الأشياء، وأنثر القبلات هنا وهناك ...
لنقل إنني في القاهرة في سبيل حماقة ما.
64
إني في طريقي لتبديد ثلاثة أشهر من عمري ... هل أعمل؟ ولكن كيف أعمل بدون صوتك الذي يشجعني وينصحني، بدون حضورك الذي يقويني؟! ولمن أستطيع أن أبوح بما في نفسي بحرية؟! ستقولين لي: عليك أن تكتب لي، لكنك تعلمين جيدا أن الكتابة غير التحدث، وأن قراءة رسالة ليست هي الاستماع إلى صوت، ثم إنك تعلمين جيدا أنني كثيرا ما لا أقول شيئا وإنما أتناول يدك وأضع رأسي على كتفك ... ثلاثة أشهر ... ثلاثة أشهر ... فترة رهيبة. لقد استيقظت على ظلمة لا تطاق؛ وكان لا بد لي من أن أكتب لك لكي تتبدد هذه الظلمة. أترين، كيف أنك ضيائي حاضرة كنت أم غائبة؟!
ومع ذلك كان في الصباح قد كتب مقالا عنيفا ضد الإنجليز الذين كانوا يطالبون مصر بعدة ملايين من الجنيهات لتعويض موظفيهم.
وفي اليوم التالي، يسعد بلقاء أستاذ جامعي يوناني في منزل الشيخ مصطفى عبد الرازق؛ وإذ سر هذا الصديق الجديد أن يعلم أن طه قد ترجم أرسطو، طلب إليه نسختين من الكتاب: إحداهما لجامعة أثينا، والأخرى للتعليق عليها في الصحافة اليونانية. وأراد أن يهديه طبعة محققة من «توسيديد
Thucydide ».
ويقص علي بكثير من التهكم وقائع إحدى جلسات الجمعية الملكية الجديدة للدراسات التاريخية. إذ لم يكن بالطبع على اتفاق مع اتجاهات الأكثرية:
يجب الاهتمام حصرا بمصر الإسلامية، أما ما تبقى من العالم فلا يهمنا. لا تهمنا مصر الفرعونية أو الهيلينية أو الرومانية ... هل نحن مستقلون؟ نعم أم لا؟
65
وكنت أفور غضبا.
66
كانت بعثات الطلاب تناقش في لجنة كان أحد أعضائها. فلا ينصح بإرسال الطلاب إلى ألمانيا، ويعرض حججه التي تجعله ينصح بإرسالهم إلى فرنسا، ويضيف: «من الواضح أنني أبحث عن مصلحة مصر، فإذا استفادت فرنسا، فلا بأس.»
ولكن ها هو وزير المعارف العمومية يستدعيه:
ألبس بذلتي الزرقاء، وأنتعل حذائي الأسود الجميل، كنت حليقا، فامتطيت عربة وذهبت. ويعلن لي الوزير أن قضيتي قد انتهت. ويبدو أنني عينت مديرا لمكتب الترجمة والنشر العلمي في الوزارة.
عجبا! اللقب جميل وإن كان الراتب متواضعا؛ فالصحف تتحدث عنه وتهنئني عليه بخبث، أما في الوزارة فهم يثرثرون حوله. لكن هذا العمل يروق لي على كل حال ويستهويني بشدة ... وهكذا يا حبي، عندما رجعت إلى البيت، ذهبت مباشرة إلى الصورة، وركعت أمامها وقصصت عليها الأمر؛ بصوت عال يا سوزان وبالتفصيل! وعندما وقفت ثانية، تساءلت عما إذا كان أحمد
67
يقف خلف الباب ... إذ ما عساه يظن؟! ناديته وطلبت إليه أن يكوي البنطلون.
ولم ينقض يوم حتى رغب رئيس الوزراء في مقابلته:
كان كعادته رائعا. فقد هنأني وتمنى لي مستقبلا مشرقا، وتمنى لمصر كثيرا من التقدم الثقافي والأخلاقي بفضل إسهامي، ثم تحدثنا عن أمور أخرى. إن ما يعذبني هو أنني سأبدأ عملي قبل أن تكوني هنا. ولقد تمنيت أن أحكي لك عن بداياتي في الوزارة، وعن انطباعاتي، وأن أستمع إلى نصائحك.
عندما عدت في سبتمبر لم يكن قد نفذ من هذا الأمر شيء بعد، ولم ينفذ شيء أصلا. ما أكثر ما خدعوه على هذا النحو وعللوه بالوعود الخلابة!
قبلي الطفلين وحدثيهما عني كثيرا؛ فذلك يسعدني. وعندما تروق لك البيرينيه أو يروق لك أي مشهد آخر ففكري بي بهدوء وجذل. فكري أنني إلى جانبك وأنني أرى بعينيك وأنني أعاني كل ما تعانينه.
وعلى الرغم من الرعاية اللطيفة التي كان يحاط بها، فقد كان مثقلا بالحزن والوحدة - ويطلبون إليه كتابة أربعة مقالات في الأسبوع، لكنه يكتب لي ...
19 يونيو
ما أغرب الأمر! كنت أظن أنني سأتعزى في غيابك بإنتاج غزير؛ ولكني لا أنتج شيئا. أوحي لي يا ملهمتي، قولي لي إنه يجب أن أكتب الكتاب الشهير، وأن أتم ترجمتي، وأن أعمل في «كتاب السيد رينار» وأن أكتب المقالات. كل ذلك ضروري. لكني بدون تشجيعك لن أحقق منه شيئا ... رحلت فلحق بك ذكائي، كل قلبي، كل نفسي، كل شيء في هذه الرسالة ... ماذا أقول؟! أولم تحملي كل ذلك معك؟!
وبعد عدة أيام يصطدم بخزانة، لكنه كان يميل إلى الدعابة:
ضيعت وقتك وأنت تشرحين لي تنظيم خزانتك. وكنت أصغي إليك بأذن شاردة، وتركت لك يدي دون أن أشعر على وجه اليقين ما كنت تجعلينني أمسه - فقد كانت المناشف والملاحف والمماسح دوما سرا في نظري - وأمس، كنت أريد منشفة، فأرسل الباب شيئا من الأنين بحيث يحسب المرء أن المنشفة كانت تصرخ بي: لا تمسني ... كان ذلك جنونا!
ويقص علي كذلك، بالطريقة الغريبة نفسها، قصة شهادة ميلاده العجيبة؛ فهو مسجل في هذه الوثيقة على أنه طاهر حسين بدلا من طه حسين، وكان لا بد لتصحيح الاسم من الحصول على حكم قضائي يسمح بذلك. وهكذا يذهب إلى المحكمة الشرعية، ويستنفر قاضيا وشاهدين (يزيد راتب كل منهما على عشرة جنيهات كما ينص القانون!) وكاتب المحكمة «وشكليات شرعية، كل ذلك تم بسرعة بفضل أخي الشيخ أحمد الذي كان يتصدر قاعة المحكمة باستعلاء.»
كان الجو شديد الحرارة، وكان طه لا يكاد ينام أو لم يكن ينام على الإطلاق. وكان أحمد - السفرجي - يتمدد لكي يحصل على شيء من البرودة، على النافذة، ملفوفا بالغطاء. وذات ليلة يتدحرج أحمد من النافذة على أرض الغرفة محدثا ضجيجا، وتنطلق ضحكة مطمئنة.
ويطلب منه مجهول أن يراه، وينتهي بأن يستسلم لطلبه. كان رجلا قد فقد ابنه لتوه، ولم يكن لديه من المال ما يستطيع به أن يدفع للطبيب أجرته، كما أنه لا يملك مليما من أجل دفنه. وكان الوقت آخر الشهر، ولم يكن مع طه سوى جنيهين، فأعطاه واحدا منهما. ثم نعلم فيما بعد أنه لم يكن فيما زعمه هذا الرجل ظل من الحقيقة!
رسائلي لا تصل
كنت على ثقة من أنني سأتلقى رسالة منك اليوم، إلا أن صندوق البريد كان فارغا، فاستعدت المفتاح من أحمد بدون أية كلمة، معقود اللسان؛ لا بد لي أن أغرق حزني في قلبي، ولا بد لي من أن أصطنع لنفسي ملامح وجهي ... فالرسائل لا تصل بفضل هذين الأبلهين: الزمان والمكان - إذ لولا وجودهما لما كنا منفصلين - وأتخيل حياة لا زمان فيها ولا مكان. وعندما يستدعيني الواقع أبقى لحظة خائفا من كل شيء، وإذ ذاك ألجأ للسيجارة. لا نعد إلى ذلك أبدا؛ فأنا غير قادر عليه.
وفي السابع والعشرين من الشهر تصل رسائلي أخيرا. فيتألق من الفرح ويأخذ في كتابة أشياء جنونية، لكنه يكتب أيضا:
ها نحن أولاء معا من جديد، وأكبت النحيب، وأترك جفني شبه مغمضين لأمنع سيلان الدموع.
وعندما أقرأ ذلك، متخيلة ذلك الجهد الرهيب الذي كان عليه أن يبذله لإملاء هذه الكلمات التي تحرقه، كان جفناي لا يمنعان سيلان الدموع.
اعذري فرنسيتي (كان يتوهم؛ فقد كان يكتب على نحو رائع). اعذري أفكاري؛ فأنا لا أفكر وإنما أحب. ما أصعب قول ذلك! لن يعرف الإنسان نفسه على الإطلاق، وسيبقى دوما في أنفسنا شيء ما نستشعره دون أن نفهمه مطلقا.
وفي التاسع والعشرين من يونيو، وهو ذكرى خطوبتنا، أتلقى برقية سأجد فيها: «لا مجرد كلمات، وإنما المخلص لك، وإنما صديقك على وجه الخصوص.» وهو يقولها إذن بدوره، تلك الكلمة التي بدأت بها رسالتي الأولى على ظهر السفينة، تلك الكلمة التي ما أكثر ما رددتها ذلك الصباح المصيري، والتي لم أكف عن مناداته بها.
لم يكن بوسعه أن يعرف أنه سيحملني على الابتسام، كما هو الأمر دوما عندما أكون حزينة؛ فالرسالة التي تبعت البرقية كانت تعيد إلى ذاكرتي بمرح أنه في مثل هذا اليوم المهيب ذهبنا معا لشراء «لتر» من الكحول لنوقد مصباحنا!
على أن الحزن ما لبث أن غمره في اليوم التالي برغم جهود الأصدقاء:
فمصطفى يبدو في منتهى اللطف، وكذلك منصور؛ فهما يفعلان كل ما بوسعهما للترويح عني، وعندما يتحدثان إلي، فإنني أجد في صوتهما شيئا يمس شغاف القلب مني.
والمصيبة، كانت في أن «أصدقاء» آخرين - مختلفين كليا - كانوا لا يجدون حرجا في المجيء والإقامة عندنا. فيغضب طه، وسأغضب أكثر من غضبه أيضا، بما أنني كنت أدرك ما كانوا يسببونه له من ضيق:
بلطف زائد - في زعمهم - بلطف زائد، كما ترين، تماما كإنجلترا التي تحاول أن توطد احتلالها لمصر بإعطائه اسم الاستقلال، واستيلاءها على بلاد ما بين النهرين بإعطائه اسم الانتداب.
وها هي إحدى المحاورات العديدة التي كان يقوم بها مع لطفي السيد. فهو يلقاه خارجا من البنك، وفي وسط الشارع يبدآن «السقرطة»
68
على عادتهما. فيعلن لطفي أن من المقبول أن ينفصل الزوجان مؤقتا من وقت إلى آخر؛ لأن هذا الانفصال يؤدي إلى إحداث تغيير في حياتيهما، فيثور طه: «هل تجد أن من المقبول أن تنزل الصاعقة على رأسي؟!»
لطفي :
أو على رأسي أنا ... أنت تعتبر إذن أن انفصال الزوجين يشبه الصاعقة؟
طه :
لا، بل إن الانفصال أشد هولا لأنه يدوم.
لطفي :
حسنا؛ سأكتب بذلك للسيدة.
طه :
أشك في أنك ستفعل؛ فأنت تفضل الحوار في الطرقات كسقراط أو في المكتبة!
لطفي :
معك حق. أوه! اللعنة. كدت تفوت علي موعدي؛ سأنتظرك غدا، لا تتأخر، واحترامي للسيدة.
ومن جديد، لا رسائل من فرنسا.
تغمرني ظلمة بغيضة ... آه! ما أقسى أن يكون المرء وحيدا، بعيدا عن حياته! إني ضائع. نعم؛ إني ضائع.
في اليوم التالي يبدأ، والكآبة لا تفارقه، مقالا ثم ما يلبث أن يتخلى عنه ويتركه آسفا ثم يعود فجأة: «أعطني المفتاح.»
وها هي رسائلك، رسائلك التي تشفي، فقد شفيت، وأرسلت أخيرا مقالي. إنه أفضل مقال كتبته منذ رحيلك حول طبيعة المعارضة. ففيه من الفلسفة ومن علم الاجتماع ومن السياسة ومن الهزل ومن السخرية كل ذلك مجتمعا. ألم أقل لك إنني لا أساوي شيئا بدونك ...
أولئك الذين يتحابون حقا يعرفون أن الحب حاجة إلى حضور مستمر، حتى وإن لم يكن هذا الحضور حضورا ماديا. على أنه سيتقبل بعد ذلك بصورة أقل مأساوية عدة أسابيع أو عدة أيام - نادرة - كان علينا أن نفترق خلالها. لكنه سيتألم منها - مثلما سأتألم منها أيضا - وسيعبر الحنان المطلق عن نفسه ضمن رسالته الأخيرة التي سيكتبها لي.
ويتابع في يوليو 1922
كان أفلاطون يفكر أننا إذ نتحاب، فإننا لا نفعل سوى أن نعيد صنع ما أفسده عارض ما. عندما تنفصل نفسان عن بعضيهما، تبحث كل منهما عن الأخرى، وعندما يوجدان ويتعارفان، فإنهما لا يعودان كائنين وإنما كائنا واحدا. إنني أومن بذلك تماما ... أتعلمين أنني أصبح صوفيا! لو كنت شاعرا لألفت الأناشيد ولغنيتها بنشوة، لا يهم؛ فقلبي يؤلفها ويغنيها ونفسي ترق وقلبي يلين، إنني لم أعد أتعرف على نفسي مطلقا ... فلدي شخصيتان: واحدة للعالم كله، وأخرى لك، لي، لنا، وفكرتك وحدها هي التي تجعلها تعيش ... ولكن أترين يا سوزان؟ أنا لا أتحدث إلا عني، إنني أناني ... وكل الصوفيين أنانيون.
كان الجميع منهمكين في الإعداد لتخليد ذكرى الشيخ محمد عبده،
69
وكان طه يسهم في ذلك، لكنه يقرر ألا يلقي كلمة في هذه المناسبة:
فأفكاري لا ترضي أحدا؛ إنني أرى فيه مجددا عظيم الأهمية، لكنه حمل نصوص الإسلام أكثر مما تحمل لكي يجعلها تتفق والعلم الحديث.
وقبل أيام من الاحتفال، كانوا يعقدون اجتماعا في الجامعة. وكان الشيخ بخيت،
70
عشية ذلك اليوم، قد انتقد الزواج المختلط بشدة، ولم يكن طه حاضرا الاجتماع. لكنه في اجتماع ذلك اليوم كان من الخبث بحيث طرح هذا السؤال: «هل ستشارك النساء في هذا الاحتفال؟»
المشايخ بطبيعتهم حذرون؛ فهم ينتظرون جواب موظف من الوزارة فإذا كانت الوزارة، بالصدفة، تقدمية؛ فلا يجب أن يكون المرء رجعيا، لكن الوزارة لم تكن تقدمية. ويقول لطفي: «لا، لا نساء ولا فوضى، ثم إنني بصراحة يا دكتور طه لا أرى ما يدفعك لطرح مثل هذا السؤال!» فيتجرأ المشايخ ويهاجمون بعنف هؤلاء الشباب الذين يريدون قلب القانون الأخلاقي ... ويسأل أحدهم: «دكتور طه ... هل أنت متزوج؟» - نعم يا سيدي! - هل ستصحب زوجتك؟ - لا يا سيدي؛ لأنها في فرنسا. - في فرنسا؟! وتركتها تذهب وحدها؟! - نعم يا سيدي؛ فهي فرنسية. - ولماذا تزوجت فرنسية؟ لو كنت حرا لاشترعت قانونا ينفي كل مصري يتزوج من أجنبية. - أرجوك يا سيدي، اشترع هذا القانون، فإني أستعجل ألا أستمع إلى مثل هذا الكلام! فينفجر الرجل ضاحكا، ويضحك الجميع، ويأخذون في المزاح، إلا أن الشيخ بخيت استأنف الكلام: «لكني بعد كل شيء يا دكتور طه أود أن أفهم الأسباب الحقيقية التي حملتك على الزواج من أجنبية ... فأنت مصري طيب ووطني طيب عظيم الذكاء ... فكيف أقدمت على مثل هذا العمل؟!» - قابلت فتاة، وأحببتها؛ فتزوجتها. ولو لم أفعل لبقيت عزبا أو لتزوجت - نفاقا؛ بما أنني أحب امرأة أخرى - امرأة مصرية، وكنت سأجعل منها امرأة تعسة! - هذا أمر لا أستطيع تصوره! - هذا أمر لن تستطيع تصوره دوما يا فضيلة الشيخ؛ فنحن لا ننظر إلى الأشياء بالطريقة نفسها أبدا.
وهنا يتدخل لطفي: «تعلمون أن الدكتور طه معذور.» وأراد منصور وقد خرج عن طوره أن يدعمني. لكني، وقد بلغ بي الغضب أشده، صحت بهم: «إنني لم أكلفكم بإعذاري؛ فأنا لم أحاول الاعتذار قط. ولو ترتب علي أن أفعل، فلن أجعل منكم المدافعين عني، فأنتم محامون رديئون جدا ...» وكادت الأمور تأخذ مجرى سيئا لولا أن الشيخ الأول أخذ يصرح بأن كل هؤلاء الحمقى يتدخلون فيما لا يعنيهم وأنه، هو نفسه، لا يصدق كلمة مما قاله، والبرهان على ذلك أنه أنشأ ابنته نشأة حديثة: «أؤكد لك يا طه بك أنني أحبك وأنني أستلطفك ... لقد كنت دوما أعجب بمقالاتك، وبالأمس فقط كنت أتحدث في ذلك لرئيس المجلس، ومن يدري؟! لعل الفضل في ذلك يعود إلى تعاون السيدة معك
71 ... لا يشغلك هؤلاء المشايخ ولا هذه الطرابيش ... أيها الحمقى! ألا تخافون أن يهجوكم غدا؟ ولم يكن يتوهم؛ فقد ظهر المقال في الأهرام.»
أوردت هذا الاستشهاد الطويل لأعطي فكرة عن عقلية بعض المشايخ في تلك الحقبة، وكذلك عن لهجة المناقشات المسلية. لكنه يتابع:
لا أدري كيف تدبرت أمري لأنتقل من السياسة إلى الأخلاق. كان الأمر أنني وقد اتخذت من تحليل طبائعنا السياسية حجة، فقد أعلنت أن قاعدة سلوكنا الراهنة هي النفاق، وقدمت وصفا عنيفا ودقيقا على قدر الإمكان للإنسان المنافق.
كنت أعرف احتدام غضبه وعنف أقواله، وأحاول أن أخفف قليلا من حدتها؛ فيبدو مفعما بالإرادة الطيبة: «سأطيعك، وسأكون نزيها في مقالاتي، ولن أسبب لك العذاب يا ملاكي، اطمئني، وما دمت إلى جانبي، فلن أغدو شريرا، لكني سأكون مجادلا عنيفا في المساجلات.»
وهكذا! لقد كان أساسا على حق. فمصر تقلقه:
يريد الشعب أن يشغل نفسه بشيء ما، وهو لم يعد يستطيع مطلقا أن ينشغل بالسياسة، لحسن الحظ على كل حال. إذن فهو يتسلى، وهو يتسلى بأكثر الطرق انحطاطا ... إن قلبي ينقبض عندما أرى الشباب ينغمر في النوادي الليلية القذرة؛ فكل هاتيك النساء فيما أظن مرضى.
ولقد بقي زمنا طويلا مهموما من رؤيته الشباب بلا دليل ولا قواعد ولا هدف جاد. •••
جاء أخوه توفيق إلى القاهرة، وصحبه إلى السوق لشراء بعض الحاجيات. ويتهم طه نفسه؛ فقد اشترى حذاء من الكتان الأبيض كان قد أعجبه. لكنه يقول: «على الرغم من عدم غلائه، فإنني نادم على كل حال على شرائه؛ إذ لست غنيا كما أني لست بحاجة إلى حذاء.»
لا، لم يكن غنيا، وهو يكتب في الثاني عشر من الشهر (!):
بقي معي ثلاثة جنيهات حتى آخر الشهر، ليس ذلك بالمبلغ الكبير، لكني أذهب للأسف إلى المقهى وأصرف - لا أصرف كثيرا بالطبع وإنما ثمن كأس من عصير الليمون أو فنجان من القهوة - لكني لست وحيدا، ورفاقي - وهذا هو الغريب - يظنونني غنيا، وغالبا ما أقوم أنا بالدفع عنهم. على أنني أخفف من مصاريفي فلا تقلقي، وسأقلل من ذهابي إلى المقهى. نسيت أن أقول لك إنني صرفت جنيهين ونصفا من أجل حفلة الشيخ محمد عبده؛ فقد دفع كل واحد من الباشوات والبكوات والمشايخ
72
خمسة جنيهات، ودفعنا - أنا ومنصور - جنيهين ونصفا، كنت أعتمد عليها للأيام الباقية من الشهر. لكنك ترين أنني لست على وجه العموم شريرا إلى هذا الحد حتى ولو كنت خالي الوفاض.
وليتخيل القارئ كيف أني كنت أقرأ كل ذلك، وأنا أقيم مع الأطفال إقامة مريحة في أحد فنادق البيرينيه.
في تلك السنة، كان الاحتفال بيوم الرابع عشر من يوليو احتفالا خارقا للعادة كما كتبت صحيفة «الحرية»
73
فإضاءة المدينة لم يسبق لها مثيل. وكانت الألعاب النارية تنطلق صانعة برج «إيفل» من الأضواء. وكان الجنرال اللنبي
74
سيأتي خصوصا لهذا الاحتفال من الإسكندرية. وكانوا يريدون جر طه إلى المشاركة في هذه الأعياد فرفض وفضل أن يفكر بأعيادنا نحن. ثم إنه عاود الاتصال بتاريخه الروماني ونصوصه اللاتينية واشتغل طيلة الصباح: «لقد أسعدني ذلك جدا بحيث إنني كنت أنتظر بفارغ الصبر قدوم الساعة الرابعة لأتناول ثانية قاموس الأقدمين والإمبراطورية.»
ويتحدث عن الاحتفال الشهير بذكرى الشيخ محمد عبده بمنتهى الإيجاز:
تحدث مصطفى جيدا، أما منصور فقد ألقى خطابا رومانتيكيا في حين ماحك لطفي قليلا. والصحف لا تتحدث إلا عن ذلك الأمر الذي أراحنا قليلا من السياسة.
على أن السياسة مع ذلك لا تستسلم للنسيان؛ فقد أطلقت النار على ضابط بريطاني، الأمر الذي يمكن أن تترتب عليه نتائج خطيرة: «لم يعرف الأمن العام في تاريخه اضطرابا مماثلا وأخشى جدا أن يسقط النظام الجديد. فالحكومة لم تعد مرهوبة الجانب، وليس هناك أية سلطة أخلاقية ولا أي سلطة دينية ... فهم يعتقلون أي شخص ... لماذا لا يطبق الحكم العرفي على الأجانب أيضا؟!»
ومن الطبيعي أن ما سمي تعيينا يتعفن في دوائر الوزارات واللجان، ويرغمه صديق على الذهاب لمقابلة وكيل الوزارة. كان في المكتب أجنبي، فقدم إليه طه بوصفه عالما مشهورا باللغات العديدة التي افترض فيه معرفتها والتي لا يعرفها، ولا يعرفها كذلك الآخر. تلك هي نتيجة الزيارة الوحيدة، مع لقاء محبب؛ فقد وصل لطفي في اللحظة التي كان فيها الشخص الأجنبي على وشك الذهاب.
قمنا بالسقرطة حول أشياء يجهلها كلانا، وكنا نتحدث عنها بوصفنا علماء! ماذا أقول؟ بل بوصفنا مختصين! عن العلاقات القائمة أو غير القائمة بين اللغة الهيروجليفية واللغات السامية القديمة. وأقسم لك أننا لم نقل سوى حماقات.
كان «الأصدقاء» الذين فرضوا أنفسهم على طه كريهين، مزعجين، ومتطفلين بشكل غير عادي، فقد كانوا يستمعون إليه وهو يملي ما يكتب لي، ويستمعون إلى ما أكتب إليه. كان متعبا وساخطا بحيث انتهى إلى القبول بالذهاب إلى الإسكندرية لبعض الوقت. «شيء واحد يحزنني، وهو أنني سأترك البيت. هناك حيث تقوم كل سعادتي. حيث فيه أنت، لكني كنت فيه منفيا أصلا.»
ويعدني، وهو يفكر بالبيت، وعودا حاسمة، لن يتمكن من تحقيقها، بالحفاظ على حرمة حياتنا الخاصة عند عودتي - سوف نقلل من الزيارات المباغتة، المزعجة، العقيمة في أغلب الأحيان بحيث يستطيع الانصراف إلى العمل - وسيعمل على كل حال بمعجزة، لكننا لم نستطع إطلاقا أن نملك حياتنا الخاصة كما كنا نرغب.
ويطلب إلى الجامعة ثلاثة أشهر، ويقيم في الإسكندرية في الفندق العائلي «متروبول» هواء البحر ينعشه من جديد، وسيذهب مع سكرتيره ألبير للجلوس على رصيف مقهى «التريانون» ويقرأ «الكشكول»
75
وأول عدد من «مصر الجديدة»
76
التي صدرت مؤخرا. وفي المساء يسر بتسلم رسالة من الزناتي؛ فهو رفيق وشيخ يجهل كل شيء عن الغرب، لكنه أبدى لطه، في أثناء غيابي بوجه خاص، وفاء مطلقا. يقول الزناتي في رسالته إنه يعلم جيدا ما الذي أتى بطه إلى الإسكندرية: لقد جاء يتنفس مباشرة الهواء القادم من فرنسا! أولئك هم الناس الذين ساعدوا طه على أن يعيش وحيدا، ولم أنس ذلك، كما أن طه لم ينس ذلك أيضا، وهو الذي كان يكتب لي: «ها هو ذا الزناتي الذي لا يتركني في أي مساء؛ إنه يتحدث غالبا عنك وعن الطفلين بحب، وأبوه يسأل عن أخباركم ويدعو لكم.»
وبعد عدة أيام:
أقضي أمسياتي في سماع الحكاية التي كررها علي عزيزي الزناتي عن مكتبته ثلاثمائة ألف مرة؛ لن أنسى أبدا وفاءه ولا تضحيته من أجلي. إنه أكرم إنسان عرفته.
وهناك صديق آخر كان يأتي إليه غالبا، ويكتب أيضا: ... يتحدث فريد (الرفاعي) غالبا عنك ... إنه يحيا حياة لا تطاق، ويعيش دوما رابطا مصيره ب «الرئيس» دون أي بحث عن مصلحة شخصية ... وأظن أنه لو أحب هذا الشاب امرأة كما يحب ثروت باشا لكانت هذه المرأة أسعد امرأة في العالم؛ أي حماس، وأي حميا، وأي استعداد لكل شيء.
ولما كان قد ارتاح أخيرا لعثوره على حريته، فقد استعاد مزاجه المرح. وها هو ذا يكتب لي رسالة مضحكة كان لا بد لها من أن تسليني، يكتب في بدايتها: «لقد أنجزت عملا بطوليا خارقا؛ فقد تحممت اليوم في البحر!»
إذ بعد أن أرهقه إلحاح ألبير وأصدقائه انتهى للاستسلام لهم. وها هو ذا محاطا بألبير وفكري، في حمام الرجال في سان ستيفانو. إنه ليس عبارة عن بلاج، وإنما ينزل المرء إلى الماء بواسطة درج، ويتدبر أمره حسب إمكاناته. وبدا طه مروعا؛ إذ وجد نفسه شبه عار! (ولم يكن لباس الحمام كما هو اليوم!) لكن فكري يشجعه: ما فائدة دراسة التاريخ اليوناني إن لم نلبس كاليونان؟! وأخيرا ينزلون على الدرج متقاطرين. وصرخ بي واحد لا أعرفه منهم: «ولكن تقدم!» ثم «ابق واقفا! تمسك جيدا بالحبل!» لكن جاري لم يكن هادئا؛ فقد كان رأسي بارزا ولم يكن يحب أن يظل كذلك. ويقول لي: «أغلق فمك، ولا تتنفس، وأغطس رأسك في الماء!» وأطيع! يا للهول! شربة، شربة هائلة تدخل فمي وأذني وشعري ... ويضحك الجميع: «إذن؛ أغلق فمك وأعد الكرة.» وأعيد الكرة، ولكن الأمر نفسه يتكرر! يا للشيطان! من أين أمكن للماء أن يدخل؟! لا أعرف. ولكن ها هو ذا الحبل ينقطع، ويحملني ألبير على السلم. أتظنين أنني سأعيد الكرة؟ كان الأمر ممتعا، لكنه في منتهى التعقيد. إنني أعرف الآن ما معنى الغرق!»
لو قرأ ولداي هذه السطور لضحكا كثيرا، لكني لا أدري إن كانا يستطيعان أن يتصورا ما كانت عليه هذه الحمامات البحرية الغريبة.
ثم ها هي تلك المعجزة: طفل وليد يهتف: «يعيش سعد زغلول! تعيش مصر حرة مستقلة!» ويضطرب الحي بأكمله وسرعان ما تنتظم مظاهرة: «سوف نعلم البوليس أن شيئا خارقا قد حدث.» وا أسفاه! فقد كان الوليد (!) ابن أربعة أعوام! لكنه لم يكن طبيعيا، كما كان ضئيلا بشكل لا يصدق، وكان من النحول بحيث أن أباه كان يضعه في جيب جلابيته
77
ويجعل منه موردا لرزقه.
على أن البهجة لا تدوم، فهو يحاول الصبر لكنه لا يتوصل إلى ذلك أبدا؛ إذ إنه يستشعر بحدة أعرفها منه تماما مرارة الخيبات التي يلقاها غالبا. ولقد ظل طيلة حياته - ومع إدراكه للطبيعة البشرية - ينسج الأوهام حول أولئك الذين يحبهم، ومنهم الآن لطفي الذي إذ لقيه في سان ستيفانو، كازينو الرمل الشهير، حيث كانت الفئات الرسمية والطبقة الأرستقراطية ترتاده عند العصريات وتتبادل فيه أحاديث لا تنتهي، سلم عليه ببرود. كان بصحبة عدلي ومحمد محمود
78
اللذين استقبلا طه بلطفهما المعهود. ولكن طه، بما عرف عنه من نفس أبية، سرعان ما ينسحب ويكتب إلى لطفي رسالة في منتهى القسوة. ولا بد من القول أنه كان متعبا وعصبيا، وأنه كان يبذل جهوده عبثا في سبيل دعم الأحرار:
عجبا! بينما يختبئ هؤلاء السادة الوجهاء، أدافع عنهم وتنصب على رأسي بسببهم ثلاث صحف في الصباح وفي المساء دون توقف ... سنرى!
واعتذر لطفي:
أحتاج إلى رسائلك. تصوري كيف أنني وحدي في كل مصر أرغم على أن أتحمل كل أنواع البؤس وكل الأحداث دون أن أجدك إلى جانبي.
ومن المؤكد أن أحدا لم يكن ليتوقع أن يجد لدى هذا المجادل العنيف مثل هذه الحساسية المرهفة التي تجعله يكتب :
لو قارنت نفسي بشيء ما، لقارنتها بهذه الأرض الرطبة على شواطئ النيل في مصر العليا؛ تلك الأرض التي بمجرد أن يلمسها المرء، ولو مجرد لمسة خفيفة، يتفجر الماء منها.
ويستعيد بحنان ذكريات 1916 و1917: أعمالنا وترجماتنا اللاتينية وقراءاتنا ورسالتنا، متقاسما معي ما يخصه، ويتابع بالطبع العمل بدأب شديد:
إنني أعمل، وأفضل برهان على أنني أعمل هو أن كل الصحافة تقف ضدي وأنني أحتمل وحدي كل الصدمات بلا مبالاة جديرة بالأب «جيروم كوانيار
Jerôme Coignard ».
79
لكنه لم يكن لا مباليا إلى هذا الحد.
وتمضي الأيام، ويحدث فجأة حدث كبير في حياة صديقنا مصطفى: «فقد استيقظ في الساعة الثامنة صباحا عزبا ليجد نفسه في الساعة الرابعة بعد الظهر متزوجا.» بقرار من حسن باشا. لكن طه يتوهم ...
في بداية سبتمبر، كانت الاضطرابات تجتاح مصر بشكل خطير، وسيستمر الأمر على هذا النحو زمنا طويلا حتى يخيم استقرار نسبي في ظل الاستقلال، فالملك ساخط؛ إذ إن الوزارة ليبرالية أكثر مما يجب، وكان الجميع يتوقعون الأزمة. فإن سقطنا فسيكون ذلك أفضل للحزب،
80
وسنعود للمعارضة وسيكون ذلك أسوأ للعرش.
لم يكن الملك شعبيا. وأذكر وقوع حادثة نادرة الوقوع في نظام ملكي. ففي إحدى أمسيات الربيع من تلك السنة كان الملك يعود من سباق الخيل في الجزيرة. وكان الموكب يمر من تحت شرفتنا. ورأيت الفرسان يسيرون حاملين الرايات الحمراء والخضراء، والعربة التي يجرها حصانان والفرسان من ورائها. كان الملك ينحني ويسلم يمنة ويسرة، غير أن أحدا لم يكن يرد له التحية أو يهتف له. ومر الموكب في صمت وبرود. كان ذلك أمرا يثير الحنق!
ذلك الأسبوع، كان القصر - كما كان يقال آنذاك - يركب رأسه؛ فقد كان يريد برلمانا لا سلطة له ولا حقوق، ولم يكن يريد سيادة وطنية ولا مسئولية وزارية. كانت الأزمة بعد كل شيء مدبرة.
ربما بفضل الجنرال اللنبي، أو بوجه خاص بفضل كارثة يمكن أن تضع القصر في وضع حرج ... لكني لست على يقين من أنها لن تعود في وقت قريب للظهور ثانية ... فالملك محاط بحاشية رديئة! ومن الطبيعي أني مع الحكومة. ولست أنطلق في ذلك عن روح حزبية وإنما عن وعي. إنني لن أؤيد الاستبداد على الإطلاق.
كانت الدعوى الشهيرة ضد الوفد
81
تشغل الجميع. وكان المهتمون يرفضون الدفاع عن أنفسهم أمام محكمة إنجليزية تستمر في ادعاء الاختصاص لنفسها النظر في الدعوى.
والمصريون منقسمون على أنفسهم أكثر من أي وقت مضى. وأكثرية الشعب لا مبالية أو أنها متعاطفة أو أنها تنظر للأمر باستحسان، لكنه تعاطف لا يتجاوز الشفاه إطلاقا، فهو غير مفيد. فالسعديون يحقدون على الحكومة وأنصارها ويكيلون لها الشتائم والاتهامات من كل نوع، أما العدليون فهم مبتهجون كثيرا، ولا يخفون رضاهم، لكنهم يخشون إصدار حكم بالبراءة. هذا جبن ودناءة! إنني لست مع الوفد، لكني لا أستطيع أن أرى الناس يعاملون بهذه الطريقة؛ فيقفون أمام محكمة يرأسها الأجانب، لا أستطيع أن أبقى غير مكترث إزاء هذه الإهانة الكبيرة التي توجه إلى كرامتنا.
ويقلق وهو يفكر في السيدة قرينة واصف غالي والسيدة قرينة مرقص حنا
82
وأخريات من النساء «بعضهن لسن غنيات.» ويعود إلى العدليين: «الجبناء! إنني عدلي، بل أكثر عدلية من هؤلاء الناس، ولكن هل المسألة مسألة عدلي أو سعدي؟ أوليست هي قضية مصر؟! يقال إن سعد زغلول المسكين في خطر، وإن زوجته تطلب اللحاق به ... ماذا ينتج عن كل هذا؟ لا شيء ولا شك ... فإذا أدين أعضاء الوفد فالبرلمان سيعفو عنهم، ولن يتأخر البرلمان عن ذلك؛ لذا فهناك من يستعجل لوضع حد لمطامح شريرة بدأت في الظهور.»
ويقرر طه رؤية رئيس الوزراء، ويذهب إليه. كان ثروت مرحا عندما استقبله وسأله عن أخباري؛ وما يكادان يبدآن طرق الموضوعات الخطيرة حتى يقطع حديثهما مجموعة من الزوار. فاستأذن طه بالخروج والذهاب، لكن صهر ثروت لحق به: «وتحدثنا في السياسة، وعرضت له آرائي، فأجابني: «معك حق، ولكن كيف حدث أنك لم تتحدث بذلك للرئيس؟!» فقلت: «كنت على وشك أن أفعل، لكنه لم يكن وحيدا وأنا مسافر غدا.» فصرخ: «انتظر إذن!» وتركني لحظة عاد بعدها ليقول لي إن الرئيس ينتظرني. وعدت إليه وبقيت معه أتحدث فترة من الوقت.»
ثم يجتمع بحسن باشا الذي يقنعه بعدم مغادرة الإسكندرية قبل أربعة أو خمسة أيام. كان حسن يريد استئجار بيت: «وقال لي: ستبقى معي حتى وصول سوزان؛ فرفضت. لكنه قال: إنك لا تستطيع الذهاب؛ فإذا سقطت الوزارة فإن عليك الاجتماع بثروت. وكان على حق، فبقيت.» وفي صباح اليوم التالي تصل الأنباء عن مهاجمة إنجليزي وزوجته، وكان من شأن ذلك أن يزيد الأمور سوءا. ما الذي سيفعله الإنجليز؟ وبانتظار ذلك، فإن سعد سينتقل من جزيرة «سيشيل
Seychelles » إلى جزيرة أكثر رحمة: «فذلك يرضي السعديين وبعض العدليين أيضا.»
أرجئت الأزمة وعادت الأمور ثانية إلى وضعها الطبيعي تقريبا. كان كازينو سان ستيفانو لا يفرغ أبدا؛ فكل الناس يوجدون فيه: «البعض منهم لأنهم أغنياء، والبعض الآخر لأنهم فقراء؛ الفقراء يأتون لتناول فضلات الأغنياء، وبهذه الطريقة فنحن على يقين من أننا سنجد عالما ديمقراطيا في هذه الأماكن الأرستقراطية أساسا!»
وتوشك هذه الإقامة القصيرة في الإسكندرية على نهايتها:
لم أفعل شيئا هنا، ولا بد لي من أن أفعل شيئا ما! علي أن أكتب وأن أترجم وأن أحضر دروسا للجامعة وربما لدار المعلمين التي تطلب مني ثلاثة أو أربعة دروس في الأسبوع.
لكنه سيغرى بالبقاء في الإسكندرية قليلا؛ لأنها «في هذه الآونة المركز السياسي الحقيقي للمرة الأولى فيما أظن منذ سنوات؛ فالعادة جرت على أن السياسة تصنع في القاهرة، وأن يقضي الوزراء إجازاتهم الصيفية في الإسكندرية.»
وفي المساء الأخير يتلقى زيارة من عبد العزيز فهمي باشا الذي كان قد ذهب لرؤيته عشية اليوم السابق (أي تهذيب آنذاك؟!) كان عبد العزيز باشا محاميا شهيرا وشخصية ساحرة مؤثرة: «يدخل ويأخذني بين ذراعيه ويأخذ في معانقتي بعنف تقريبا. ويسأل عن أخبارك لا بلطف وإنما بحنان. أتعلمين أنه يحب زوجته كثيرا ولم يتعز عن فقدانها منذ 1907؟ إنه إنسان رائع، وأظن أنه يحبني، فأنا في نظره عالم مصر. إن مصر مدينة لك وأنت معلمي.»
كان لا بد لطه من أن يضطرب؛ إذ حين لقيه ثانية في المساء في فندقه : «كان هناك جمع كبير من الناس. ومن الطبيعي أنهم احتفظوا له بأفضل مكان. لكنه أعطاني إياه، وكان من المستحيل أن أجعله يغير رأيه، وعندما استأذنت في الذهاب رافقني حتى فندقي.» كان لطفي وعبد العزيز أصدقاء مقربين جدا. فقد كان طه يلتقي بهما غالبا ويتبادل معهما الأحاديث بحرية الأصدقاء وإلفتهم.
وفي القاهرة، كان يثقل صدره ضيق حقيقي:
لم يكن ممكنا لي أن أدخل غرفتك دون أن أضع يدي على صدري بشكل غريزي، كما لو أن قلبي سيفر مني ... فأنا لا أراك، ولا أرى صورتك، ولا أستطيع أن أكتب إليك بنفسي ... آه! ومع ذلك، فإني لا أحب أن أفكر في مثل هذه الأشياء.
كانت هذه إحدى المرات النادرة التي يتحدث فيها عن حالته ويعترف فيها بعذابه. أمن الممكن أن يقارن عذابي بمثل هذا العذاب؟!
وربما كان العشاء الذي دعا إليه الشيخ مصطفى بمناسبة زواجه مؤخرا قد سلاه قليلا. كان مصطفى قد دعا «الشخصيات السياسية من الدرجة الثانية والشخصيات الأدبية من الدرجة الأولى. فالسياسيون هم الطبقة الأرستقراطية التي تصيف في الإسكندرية.»
كان طه يخاف أن تدور الأحاديث في السياسة ويخشى أن لا يتمالك نفسه. لكنهم ضحكوا كثيرا واستبعدوا الخوض في الأمور الشائكة برغم حضور «صحفيين من كل الألوان - عدليين ووفديين ووطنيين بل حتى ملكيين - إذ لدينا الآن حزب جديد هو حزب الملك، وصحيفة الحرية، وهي صحيفة الملك، تبعث من جديد بأمر ملكي، ربما لأن الأهرام ستعود للظهور بعد أن توقفت عن الصدور يومين.» لكنهم تحدثوا مع ذلك عن آفة جديدة: الوشايات التي بلغت نسبتها درجة تثير القلق.
نحن بحاجة إلى حكومة حازمة قاسية ومنظمة. هذه الحكومة ليست حكومة ثروت ولا حكومة الإنجليز. فهل تمنحنا إياها الحياة الدستورية؟ بانتظار ذلك أعلمك أنني انتويت أن أتخلى عن السياسة، وسأكرس نفسي لعملي كعالم وكأستاذ تاركا الميدان للثرثارين والوصوليين، ولكن هل سيتركونني أفعل؟ لقد بلغ اشمئزازي أوجه. ... لكنه بعد يومين فقط يهاجم القصر! لا لكي يدافع عن الحكومة التي لا تطلب أفضل من أن تراه هادئا وإنما لأن القصر يريد الحد من حرية المعتقدات. فهل يسع الإنسان الذي دافع عن كل الحريات، وفي المقام الأول حرية الضمير، أن يبقى لا مباليا؟! وفي الوقت نفسه يحدثني عن صراع، يبقى بالنسبة إلي غامضا؛ بين أعضاء لجنة الثلاثين
83
من جهة، ورجال الدين من جهة أخرى. فالجهة الأولى تريد أن يكون الواجب الوطني قبل الواجب الديني، في حين تطالب الجهة الثانية بالعكس؛ ومن ثم، فإن الأعداء المحتملين لمصر سيكونون بالطبع إما مسلمين أو مسيحيين، إذا لم يرد المسلمون مقاومة الأتراك، وإذا لم يرد المسيحيون مقاومة الإنجليز! ولكن أفكارا بمثل هذه البساطة لا يمكن أن تمس جمهورا جاهلا ومتعصبا و«المناداة بأفكار من هذا القبيل تثير عداوة الناس جميعا.»
أدين أعضاء الوفد واستاء طه استياء شديدا. وذهب لمقابلة رئيس الوزارة وصرح له بجلاء أنها إهانة لبلد يدعي الاستقلال، وأن على الحكومة أن تحتج على الأقل: «إن سلبيتكم تضعنا في موقف يستحيل فيه الدفاع عنكم.» وكان الرئيس المسكين يرى ذلك أيضا، ولكن طه - وهو الذي يعلم أن العمل وحده هو المهم - لا يكتفي بالشكاة وإنما يريد القيام بحملة لكي تتخذ لجنة الثلاثين إجراءات لصالح المعتقلين: «إن اعتقالهم لن يكون طويلا؛ إذ بمجرد أن يجتمع البرلمان، يلغى الحكم العرفي فيفرج عنهم؛ إذ لا بد من أن يتمكنوا من ترشيح أنفسهم في الانتخابات القادمة. سوف أحاول.»
وبعد عدة أيام، تنشر صحيفة الحرية، صحيفة الملك، مقالا لكاسترو:
يجب أن أرد عليه؛ فإذا نشر مقالي، فإن من شأنه أن يكدر الملك، وربما تأثر منصبي من ذلك. لا يهمني، فلست أنا بالذي يشتري منصبا مقابل عبودية البلاد وإني لعلى ثقة من أنك ستحبذين موقفي.
وينشر المقال. غير أن مجلس الوزراء في اجتماعه يوم 3 سبتمبر لم يضع مسألة المنصب على جدول أعماله. ولا يهم إن كان ذلك لهذا السبب أو ذاك. وفي السابع من الشهر يستقبله وزير المعارف العامة بود ويقول له: «تعلمون أن مسألتكم ستبحث في الجلسة المقبلة.»
وهززت كتفي: لست على عجلة من أمري يا صاحب المعالي ، ولم آت إلى هنا من أجل ذلك.
كان الأمر بصدد الدروس التي يطلبون منه إلقاءها في دار المعلمين: «لكني سعيد جدا لذلك، فسوف تدخل إليها روحا جديدة فعالة، مثلا، لا أريد أن تتعبك هذه الدروس وتشغلك كثيرا عن عملك في مكتب الترجمة.» وافترقنا عند هذه الكلمات اللطيفة.
لم يصبح طه على الإطلاق مديرا لمكتب الترجمة! والأجدر أن نتساءل فيما إذا كان قد وجد هذا المكتب نفسه أصلا!
على الرغم من الإرهاق العصبي الذي تسببه له هذه المراجعات الدائمة للوعود وما تخلفه من مرارة فإنه لم يستسلم للقنوط. وها هو ذا يعد أعمالا أخرى: درسين لدار المعلمين حول تاريخ الشرق القديم، ستة دروس في أسبوع واحد! أما دروس الجامعة فستدور حول الهيلينية والعلاقات بين اليونان وروما. وفي الثالث من سبتمبر كان قد بدأ كتابا حول حركة الاستقلال المصرية، وأملى في ساعة واحدة ست صفحات كبيرة: «ذلك لأنني أنتظرك.» فضلا عن المقالات والترجمات.
لقد آن لي أن أعود؛ إذ إنه لم يعد قادرا على الاحتمال. فهو مشغول البال من الناحية المادية، ولم يكن من الممكن الحصول على قرض كان يفكر فيه دون أن يكون معينا بمنصب ما، لكنه لا يتكلم عن ذلك إلا لي أنا. ففي إحدى الأمسيات، كان «ج» يشكو مطولا وضعه المالي، لكنه كان يعيش في بحبوحة، ولما كان طه يعرفه فقد استثير: «لماذا يشكو؟! أعتقد أنني سأعتاد على أن أكسر: «اعذريني» كل الناس الأغنياء الذين يشكون فقرهم أمامي. فذلك يغيظني ويسيء إلي. لست غنيا، ولكني بحمد الله لا أتفاخر بفقري، أولا لأنني لا أستطيع، كما أنه سلوك يخلو من اللياقة.»
أحبك وأنتظرك ولا أحيا إلا على هذا الانتظار ...
تلك كانت آخر رسالة منه خلال هذه الأشهر الثلاثة من الفراق. لقد سببت له هذه الفترة كثيرا من الآلام، لكن ذكراها تظل عزيزة عليه وعلي؛ فقد تجرأ أخيرا على أن يقول: «أنا قليل الإفضاء بمشاعري، بل إنني صموت، وإنني على وعي بذلك تماما، لكن ما أكثر ما حدثتك منذ رحيلك عن أشياء لا تطيقين سماعها! لم أكن أعتقد على الإطلاق بقدرتي على مثل هذا الحب. وستبقى دوما في أعماق نفوسنا زاوية كانت وستبقى دوما وحشية، ولن يمكن تقاسمها إلا بين كائنين، كائنين فقط، أو أنها لن تقتسم على الإطلاق. هذه الزاوية الوحشية المتوحدة هي أفضل ما فينا.»
ليس هناك من بين هذه الرسائل التسعين رسالة واحدة لم تكن اعترافا أو عطاء. أقرؤها وأقرأ تلك التي وصلتني منه بعد ذلك. خمسون عاما مضت ولا أكاد أصدق ذلك إلا بصعوبة. أمن الممكن يا طه أنني كنت محبوبة على هذا النحو وأنني كنت المقصودة بهذا السيل من الحنان والعاطفة؟! لست في المعادي على الإطلاق، وليس عمري ثمانين عاما. وعندما أغلق لفة الرسائل التي ربما تناولتها غدا من جديد، أشعر أنني نشوى، خارج الزمن الحاضر، وخارج العالم.
هذا القدر من الحب الذي كان علي أن أحمله وحدي، وحدي، عبئا رائعا، ما أكثر ما خفت ألا أتمكن من القيام بمتطلباته بجدارة!
من أين جئت أنت إذن؟ أنت الأقرب إلى نفسي، من أين جئت؟ وهل سيسمح لي الله أن ألقاك حيث أنت؟
للمرة الأولى، والوحيدة، لم نكن معا في ذكرى زواجنا. كانت رسالتك يومها مفعمة جلالا: «أبي حاجة إلى القول أني أحبك؟! إني لأقولها لك مع ذلك وإنه لعهد لك مني جديد.»
ولما كنا متحابين، فإننا سوف نسير من جديد، أقوياء بهذا الحب نحو المستقبل الذي ربما سيشبه الماضي، أو لعله سيكون أفضل منه أو ربما سيكون أسوأ منه، ولكن ما همنا؟! سوزان، لنتابع المسير، أعطيني يدك. «أعطيني يدك.» لقد طلبها مني أيضا في الليلة الأخيرة، يدي، ولكني لم أذهب معه. •••
كنت قد أبحرت على سفينة «سفنكس» مع الطفلين. وفي العشرين من سبتمبر
84
كنا نجمع شملنا من جديد. كنت أعيد معي فتاة صغيرة متفتحة متشيطنة وطفلا سليما معافى أثار حماس أبيه منذ أن كان على ظهر المركب وهو يصرخ بكل قوته: «بابا، بابا!» بعد أن لمح أباه على الرصيف (أو عندما أشارت إليه أخته وأشارت له إلى حيث يقف أبوه). وبطبيعة الحال، فإن طه الذي كان قد تخيل أنه سيحملني من المركب إلى العربة لم يفعل ذلك!
كنا قد وصلنا إلى «سالي دو بيرن
Salies de Bearn »
85
مع أمي التي كانت تنتظرنا في مرسيليا. كنت أعود إلى فرنسا تغمرني مشاعر كئيبة. فالهم لا يفارقني، وذراعي كانت تفتقد ذراعا.
الطفلان سعيدان. إنني أتحدث عنهما بإسهاب. وها هي أمينة تكتشف سحر مسرح العرائس، «الجينيول
Guignol »، يفرحها المطر، وتدهش؛ إذ تتساءل: «والخيول يا ماما، هل هي فرنسية؟» وتشاهد الإوز الذي كانت تجهله، فتعلن بعد تفكير أن الوزة هي جدة الدجاجة!
أما صديقتنا التي جاءت لرؤيتنا من «بو
» فإنها تدهش للتشابه بين مؤنس وأبيه. وكان على هذا الصغير أن يحب أباه أساسا قبل أن يعرفه بما أنني لمحته ذات يوم يمرر بهدوء يده الصغيرة على الصورة التي كانت على طاولتي. كانت أمينة تتسلى بجنون، وكان لها عصبة من الرفاق الصغار من حولها. ولما كانت حساسة إزاء المناظر الطبيعية فقد كانت تغني بأعلى صوتها أمام مرج مرصع بالزهور البيضاء، في حين كان أخوها، وهو يسمعها، يهز ذراعيه بعنف طربا. على أنه كانت لهذا الصغير بعض الأوقات الصعبة. وكنت أشعر بالقلق حين أفكر أنا كنا ثلاثة مسافرين، ثلاثة ركاب، وأنني كنت وحدي مسئولة عن وصولهم بسلام.
ولقد أضحكت ابنتي كثيرا دون قصد ذات مساء حين وضعت، على الرغم مني، سهوا، ماء فال المعدني بدلا من الزيت في مصباح البيجون، وقد ظنت أن ذلك سيسلي أباها كثيرا فكتبته له. إنني أنا التي أمسكت بالريشة بالطبع!
عندما غادرنا «سالي
Salies » في الحادي والعشرين من يوليو كان وزن مؤنس قد ازداد 500 جرام. أما وزني فلم يزد جراما واحدا. وعندما كان الطبيب يودعني، وكان قد بذل أقصى ما أمكنه من العناية بنا، قال لي بأسف: «أعتبر نفسي سعيدا جدا يا سيدتي؛ لأن وزنك حتى الآن لم ينقص!»
وصلت ابنتي الصغيرة إلى فرنسا دون قبعة؛ فغضبت أمي. كان من المستحيل علينا العثور عليها في أثناء الهرج الذي ساد لحظات السفر، وربما كانت قد أضاعتها في حديقة الفندق التي كانت واسعة، كما أنه لم يكن بوسعنا أن نفوت القطار. والحق أن ذلك الأمر لم يكن ليعذبني كثيرا إلا أنه كان له فيما يبدو مغزى كبير في تلك الحقبة. وكان لا بد لغضب أمي من أن يسلي طه.
كنا نسكن بالقرب من حديقة «الأوبزرفاتوار
Observatoire »؛ حيث أمضينا سنواتنا الأولى هناك. وأكتب إلى طه: «ربما كانت أفضل سنوات حياتنا قد تتالت في هذا الحي اللاتيني.» إلا أنه كان ثمة أفراح أخرى في منتهى الجمال تنتظرنا مع ذلك.
وبقدر ما كان الأطفال يسمحون لي - وقد ساعدتني أمي كثيرا في ذلك - كنت أتنزه في الشوارع المألوفة. أذهب إلى السوربون، وأصحب الأطفال إلى حديقة اللوكسميورج كل يوم. في أحد الأيام، ركبت الباص الذي يسير على خط «كليشي-أوديون
Clichy-Odéon »، وكان مسار هذا الخط يسرني ويؤدي إلى صائغ في جادة الإيطاليين. فعلت ذلك في اليوم العظيم الذي اشتريت فيه «اللونجين
Longines »، وهي الساعة التي حملها طه دوما معه حتى اليوم الأخير. كانت هذه الساعة باهظة الثمن، وكان شراؤها بالنظر إلى وضعنا المادي يعتبر عملا جنونيا. ولقد كنت مجنونة في الواقع، مجنونة فرحا. وعندما سطا اللصوص على دارنا «رامتان» في الربيع الماضي، كانت الساعة من جملة ما سطوا عليه. ولقد آلمني ذلك أكثر من أي شيء آخر. وكان عذابي من الوضوح بحيث إن ضابط البوليس المكلف بالتحقيق قال لي: «سوف أعيدها لك، أقسم لك أنني سوف أعيدها لك.» ولقد أعادها لي فعلا ... فليباركه الله!
ذهبنا إلى الأوبرا مع أمي. ها هي ذي الذكريات تتدفق على خاطري، فيخفق قلبي. الدهليز، والدرج الكبير ... ما أكثر ما كنا نصعده جيدا! ... وكم توافقت خطواتك مع خطواتي! كانوا يقدمون في ذلك المساء أوبرا «الفالكيري
La Walkyrie »، ولم يكن طه يعرفها، فقصصتها عليه.
وفي مساء آخر، ظننت نفسي أفعل خيرا إذ أصطحب إلى المسرح الفرنسي امرأة طيبة كانت وفية لنا، لكنها لم تكن مثقفة. وبقيت عدة أيام أشرح لها «أندروماك
Andromaque » التي كنا سنراها بلا جدوى؛ إذ لم تكد تتمكن من احتمال متابعة المشهدين الأولين، ثم نامت بعدهما. لكن ذلك لم يمنعني من التحدث مطولا مع طه عن «مادلين روش
Madeleine Roch » و«دوماكس
Demax » و«سوزان دولفير
Suzanne Delvar »، وجميعهم فنانون كان طه يعرفهم ويعجب بهم بدرجات مختلفة.
وأطوف في زقاق «شوازول
Choiseul »، وأسير بتؤدة أمام مكتبة «لومير
Lemerre »، وأمر أمام مقهى الكاردينال حيث كنا ننظر إلى زخرفته، وأتخيل أحاديثنا وإعجابنا وحماسنا. لم أكن لأظن أنه كان بوسعنا التحاب إذا ما وضعنا في ميزان واحد المرارة والكراهية، وما زلت أومن بذلك الآن.
وظهرت مرة أخرى النبوءة القائلة بوشك نهاية العالم. وكنت أرتاب في ذلك، لكنني كتبت إلى طه أنني سأكون يائسة إذا ما توجب علي أن أموت بعيدا عنه وإن موتي معه بدا لي مصيرا مشتهى. وتلمس قلبي عذوبة الأمسيات الصيفية القديمة، وابن خلدون،
86
ومكتبة سان جنفييف، وربيع الحياة الإلهي.
وحضر إلى باريس لرؤيتي بمناسبة ذكرى زواجنا كل من عمي القس وعمي هنري، شقيق أبي. كنت في منتهى السعادة بانتظار عمي القس. وقد انفعلت أمام عمي هنري؛ نظرا لشبهه بأبي.
87
وقد قضيت بصحبتهما ثلاثة أيام جميلة. كنت أحاول ألا أضيع شيئا من حضور الأب. فقد كنا نذهب معا لنجدد رؤيتنا لساحة السوربون، أما أمينة فقد كانت ترافقنا بثيابها الوردية الخلابة إلى متحف اللوكسمبورج. وقد ذهبنا أيضا إلى حديقة النباتات؛ فقد كان عمي عالم نبات، وعلمت ذلك اليوم أنه انتخب لعضوية أكاديمية ديجون، كما تعلمت أيضا الاسم اللاتيني للملفوف «الكرنب».
وفي عيد القديسة سوزان الذي كان يحتفل به في الحادي عشر من أغسطس، تلقيت منه هدية كانت عبارة عن نسخة من الفخار لتمثال «الطفل منتزع الشوكة
Tireur d’épine ».
وبعد عدة أيام كان يذهب إلى آفينيون لرؤية الأب أندريه الذي كان معلما له والذي كان يحمل له في نفسه الكثير من الإجلال. كان الأب أندريه يحتضر، فرجا عمي أن ينقل لنا بركاته، ولم أره على الإطلاق.
قبيل هذه الزيارات، كنت قد صحبت طفلي إلى عالم كبير هو البروفسور «ريبادو-دوماس
Ribadeau-Dumas ». ولقد قالت لي أمي حين كنا نخرج من الشقة التي استقبلنا فيها الطبيب : «لا أدري إن كان ابنك سوف يتحسن، أما أنت فإن صحتك قد تحسنت فعلا!» وكان ذلك صحيحا، فقد عدت إلى بيتنا وقد تخلصت من قلق لم يكن يفارقني.
88
ذلك أن هذا العالم كان حاسما في تشخيصه؛ فالطفل لم يكن مريضا على الإطلاق، أما عدم ازدياد وزنه فيرجع إلى أنه لم يكن يتغذى بما فيه الكفاية (وكنت أعرف ذلك جيدا)؛ فقد كان لا يحتفظ إلا بالقليل مما يقدم له من طعام؛ ذلك أنه على أثر التعب الذي ألم بي عند حملي به، لم يكتمل نمو نسيج معدته، ولتلافي ذلك فقد كان لا بد من تغذيته بمركز عصارة اللحم التي يجب تجميدها بطحين البرغل والذرة والسكر. وقد قال لي الطبيب: «سترين، خلال سنة، سوف يغدو رجلا صغيرا رائعا.» وبعد عدة أشهر أمكنني حقا أن أتحقق من صحة هذا الكلام.
بعد خمسة عشر يوما من هذه الزيارة الطبية، برز لمؤنس أولى أسنانه. ولا أظن أن ذلك كان نتيجة النظام الغذائي الجديد. وقد فرحت ابنتي لذلك جدا؛ فقد أعلنت وكأنها عالمة: «الآن وقد برزت سنه، فإنه سوف يتكلم وسيقول: ماما أحبك.» ما أروعك يا أمينة! لقد عزاني هذا الطفل الصغير الهش وأخته إلى حد كبير عن فراق ما كان يمكن له أن يكون على الخطورة التي كان عليها بالنسبة لنا لو أنه حدث مع نساء أخريات؛ كان خطيرا بالنسبة إلى زوجي الضائع في ليله، وكان خطيرا بالنسبة لي أنا التي كنت أعاني معه أقل آلامه. كنت أتخيل أنواع السعادة التي سيحملانها له عندما يلتقيان به من جديد.
كانت أمينة تتابع اكتشافاتها. ففي اللوكسمبورج تعرفت على الحيوانات الخشبية، وكانت تركب أسدا مزهوا يسمى بروتوس؛ كانت فخورة، وكنت أقل فخرا منها. وعندما لاحظت اضطرابها في المرة الأولى ركبت إلى جانبها، إلا أنني لم أكن في الرابعة من عمري، وهو ما جعلني أحس آلاما سخيفة في قلبي وأتمنى لو تتوقف هذه الدورة الشيطانية التي بدت وكأنها لن تنتهي!
وأهدتها صديقة لي طاحونة بن صغيرة الحجم، دمية، لكنها كانت تطحن فعلا حبتين أو ثلاث حبات. وهتفت في غمرة حماسها بتدوير مقبض الآلة دون توقف: «سوف أكتب عن ذلك لأبي.» وأتناول القلم وأمسك باليد الصغيرة، وأملت علي. لقد أملت علي ذات مرة: «إنني أسليك أيضا!» يا كنز القلوب الطفولية! وفي إحدى الأمسيات كانت تراني حزينة لأن من كان حولي يسخر من اضطرابي المستمر،
89
فسمعت صوتا خجولا يهمس بالقرب مني: «لكن يا أمي، عليك أن تعملي!»
وكنت أصحبها إلى مسرح «الشاتليه»، لكن ذلك كان بلا فائدة؛ إذ لم تكن تهتم بما تراه. ولما كانت أصغر من أن تدرك دلالات الإيهام في الفن فقد كانت تتسلى دون فهم وتبقى غير مبالية تماما. على أن الأمر لن يلبث أن يتغير بعد عدة سنوات؛ فعندما رأت، في الصالة نفسها، أنهم يستعدون لإحراق عيني ميشيل ستروجوف، انفجرت في نحيب لم أتمكن على أثره من تهدئتها.
كان المطر يسحرها دوما. ففي إحدى الأمسيات الممطرة بغزارة، كانت تدندن، وقد ألصقت جبهتها على النافذة: «يقول لي المطر اسمعي ...» ولم تكن تعرف أكثر من ذلك، فأتممت القصيدة؛ أما مؤنس، فقد كان مهتما بذلك إلى حد بعيد وكان يحدق في بثبات جاد، ويطلق آهاته الصغيرة الراضية عند نهاية كل بيت من القصيدة.
كانا متحابين حتى العبادة. وكانت هي التي تستطيع أن تعبر له عن هذا الحب، أما هو فلم يكن يعرف، لكنه كان بمجرد أن يلمح أخته، يتألق وجهه وتغدو فرحته الواضحة أخاذة.
90
قبل أن أعود إلى مصر، ذهبت إلى «بورجوني
Bourgogne » مع ابنتي لرؤية عمتي العجوزين أو بالأحرى عمتي أبي. وقد وجدت العمة «بالمير»
91
قد شاخت كثيرا. لكنها كانت نشوى لرؤية الطفلة التي جنت بدورها فرحا. وكان هناك شيء جديد آخر: إذ كانت تحاول أن تطعم الأرانب ثمار الكشمش التي تقطفها من البستان، وكانت تلتقي في البساتين بثمرات القرانية ذات اللون الأحمر الجميل وسط اخضرار الأوراق، والتي يغدو لونها شديد السواد عند نضوجها.
أما في «سيمور
Semur » فقد استقبلت وكأنها ملكة صغيرة في القصر الريفي القديم حيث كان يربى فيه حوالي عشرين يتيما، والذي كانت العمة ماريا
92
تديره وتشرف عليه بطيبة نبيلة وذكية. في هذا البيت، حيث قضيت أنا الأخرى ردحا من الزمن مدللة و«مدلعة». لم يكن التلاميذ بالطبع هم أنفسهم، لكن الأرضيات الخشبية قد صقلت بحيث غدت جميلة وخطيرة، أما ملابس الأطفال فما تزال متشابهة، كما كانت «الكريما» التي تقدم مدهشة. لكن مكتب العمة لم يتغير، وكذلك الصالون الذي كنت أرى فيه كثيرا من الأسرار. كانت ابنتي تلعب في الحديقة، الحديقة نفسها التي كنت قد ترأست فيها الموكب الضخم لتعميد دميتي سيمون؛ كانت ثمار الحديقة طيبة المذاق، في حين كانت الدمية التي ألبست الثياب من أجل أمينة بالغة الروعة. كنت قد وضعت مشروعا للعودة مع طفلي ومع طه الذي سبق له أن جاء إلى هنا. لكن العمة ماريا توفيت بعد أربعة أعوام،
93
وما زلت أحلم بسيمور التي لن أراها أبدا. •••
ثم كانت العودة، حيث وجدتني قلبا واسعا، يفيض انفعالا وينبض حيوية قديمة وجديدة. وتذكرت ما قاله «ميشليه»: «إن الحب العفوي أرفع تعبير عن الحنان الإنساني.» •••
وجدت البيت على أكمل وجه. كان أحمد قد تفوق على نفسه، وكذلك طه. وكان ثمة مفاجأة بانتظاري: بيانو. لقد كان أعظم من الساعة التي اشتريتها لطه (حتى مع اضطرارنا لدفع ثمنه بالتقسيط). لم يعد هذا البيانو موجودا؛ إذ حل محله بيانو آخر (بلوخنر) لا يزال موجودا في «رامتان» وربما سيتخلى عني هو الآخر أيضا.
واستغرقتني زيارات الترحيب. على أن زيارات أولئك الذين اهتموا بطه خلال غيابي باستمرار أسعدتني على نحو خاص.
بعد مناقشات صاخبة أرهقته، لم يعد طه يريد أن يسمع الحديث عن الصحافة والعمل الصحفي. ومع ذلك فعندما عرضوا عليه أن يعمل محررا في «السياسة» بالإضافة إلى دروسه في الجامعة قبل بعد تردد طويل، وسرعان ما فكر في زملائه؛ فعين أحمد الزيات
94
مترجما، كما عين «ضيف»
95
محررا. لكن ذلك ما كان ليتم بشكل عفوي بالطبع ولن يتم أبدا من تلقاء نفسه. ففي الثالث عشر من أكتوبر لم يكن العقد قد وقع بعد . وطه ، الذي كان متحمسا، سبق له أن رآني في الأوبرا بثياب السهرة، وحلم بالتوصية على طقم «سموكينج» ويطلب إلى الصحيفة استقلاله الكامل. وتدور محادثات ومداخلات مختلفة أراد طه على أثرها أن يتخلى عن كل شيء. وأخيرا، بدا وكأن الأمور قد هدأت قليلا. وتقام في مكاتب الصحيفة حفلة استقبال كبرى على شرف السيدة سيمون
96
التي كانت تمثل في «الأوبرا».
97
وكان طه، الذي أعجب بها كثيرا، قد كتب عنها مقالا أسعدها جدا، فشكرته عليه بحرارة فائقة.
كنا في ذلك الوقت قد سكنا في هليوبوليس
98 «مصر الجديدة»، ويبدو لي اليوم أن قرارنا الذي اتخذناه إثر عودتي بوقت قليل كان أمرا لا يصدق. لكن شقتنا لم تكن ترى الشمس كثيرا، وكان الدكتور «ريبادو-دوماس» قد طلب إلي بشكل واضح أن أعرض «مؤنس» للشمس ما أمكنني ذلك؛ فاستأجرنا طابقا أرضيا واسعا مع حديقة كنت أستطيع أن أترك الأطفال فيها ردحا من النهار، وسرعان ما أخذ مؤنس في تسلق درج المدخل والنزول منه بحبور. وفي صباح أحد الأيام سقط على الأرض بينما كان واقفا أمام إحدى الشجيرات، فتلفظ، وقد أخذته النشوة، كلمة «زهرة» - وكان حتى ذلك الحين لا يعرف أن يلفظ سوى كلمتي بابا وماما - وكنا سعداء أن كانت أول كلماته التي لفظها «زهرة».
كان طه يعمل كثيرا. ففي البيت كان يعد طيلة الصباح دروسه وأعمالا أخرى. أما في الصحيفة، فقد كان يعمل من الثالثة حتى الثامنة أو التاسعة أو أكثر ... ولكن لماذا تراني أقول ذلك؟ أولم يعمل دائما؟
كان من المقرر ألا نبقى طويلا في شارع سعيد؛ فقد كان المالك يرغب استعادة الشقة لنفسه، وكان القانون يجيز ذلك. وعثرنا على دار في شارع رمسيس سماها طه «الزهرة» وأحبها جدا. كانت دارا جميلة تقوم وسط حديقة، وكانت عبارة عن طابق واحد وشرفة مرتفعة، حيث يقوم على اليسار صالون كبير، وبهو في الوسط، وعلى اليمين مكتب صغير. وكانت الغرفة مطلة على الواجهة المقابلة. كان طه في هذا البيت شابا جذلا يتابع بنشاط كأستاذ وكصحفي طريقا عاصفا، إلا أن قناعته وإيمانه كانا يجعلان منه طريقا عظيما. عندما كنا في القاهرة، بعد أن سكنا لمدد قصيرة في شارع المنيا وشارع الساكركير «القلب المقدس» في مصر الجديدة، كان قد شن حروبا أخرى وانتصر في معارك أخرى، لم يكن كئيبا دوما، لكن لحظات فرحه الحقيقية كانت نادرة تماما؛ فالغضون على الجبهة، على الصدغ الأيسر، والتي كانت تقلقني منذ عام 1925، كانت تعود للظهور غالبا. لكنها لم تبق، وظلت هذه الجبهة ملساء حتى الساعة الأخيرة.
في اللحظة التي كنا نغادر فيها «الزهرة» بعد أن أقمنا فيها ستة أعوام، جثا المرصفي فجأة على الشرفة وقبل البلاط، وأجاب على نظراتي المستفسرة قائلا: «إنني أشكر هذا البيت.» كان على حق. فقد كان هذا البيت في نظر الطفلين حلما. كان الياسمين الهندي الكبير موضع سعادتهما؛ فكانا يقضيان فوق رءوسنا ساعات بين أغصانه. ذلك كان سن الفرح الغامر، سن الفرح البريء بصورة مطلقة، سن حنان يبذل بلا حساب. وكان طه الذي يعبدهما يستلهم من فرحهما قوة عظيمة في وقت الضيق. كان يشارك في كل ما يبتكرانه، حتى ليغدو أحيانا طفلا مثلهما. وكان يبتكر بدون توقف قصصا تدهشهما. وإني لأحبهما يقصان مغامرات الفتاة الصغيرة بوان بوان، أو قصة «القطار - المركب - الطائرة» (لم يكن ذلك جنونا إلى هذا الحد) أو «نصف ألبير» وفصول «الزمن الذي كنت فيه ساحرا» واكتشافات «بيربيش»، وهكذا كانا يناديان الهداهد اللطيفة التي كانت تتراقص على المرج. أمن الممكن أن أقول إنهما كانا رائعين، نشيطين، شرارات خاطفة حقا، أحيانا، وعواصف هوجاء أحيانا أخرى؟ أعرف أن طه كان يعرفهما مثلما أعرفهما، ومع ذلك فقد كان قلبي ينقبض كلما تحسست لطفهما ونظراتهما العابدة التي كانا ينظران بها إليه دون أن يراهما. يا صغيرتي العزيزة أمينة! لم يكن لك من العمر ثلاث سنوات عندما هرعت لمد يدك الصغيرة تقودين بها أباك الذي كان يجتاز بهو البيت! لم نكن بحاجة على الإطلاق لأن نقول للطفلين إن أباهما كان ضريرا، كما أنهما لم يطرحا أي سؤال حول هذا الموضوع. على أن الأمر الذي ما كان ممكنا لهما أن يجهلاه لم يحد على الإطلاق من حرية علاقاتهما المتبادلة التي كانت عفوية مفعمة بالثقة.
وسرعان ما أطلقت ابنتي على نفسها اسما واتخذت لنفسها شخصية غامضة! فقد سمت نفسها كراليس، وعندما كان يصل أخوها فقد كانت تطلق عليه السيد كرالا. ثم ظهرت ساباتيه وظهر بالاجوست. وظل مؤنس حتى النهاية، بالنسبة لطه، بالاجوست، ذكرى قائمة في أخص زاوية من قلبه.
كانت أعياد الميلاد في تلك الفترة رائعة، وكان الجميع يسبغون عليها هذه الروعة من الشيخ مصطفى إلى ذلك الإنسان المتواضع الذي لم يكن يقل أريحية؛ وأعني به الزناتي. كانا، بروحيهما النضرتين، يتقبلان كل شيء بفورة الفرح العارم. وكان ثمة سيارة حمراء، كان الطفلان يستطيعان وراء مقودها القيام بدورة في الحديقة، وكنا قد اشتريناها في باريس. وكان طه قد أراد المجيء معي إلى محل «الربيع» لنختارها معا. وبعد سنوات عديدة في القاهرة، رافقني إلى متجر «شيكوريل» لشراء حصان يتأرجح لأمينة، بنت مؤنس؛ كان قد مضى عليه آنذاك سنوات لم يدخل خلالها إلى أي متجر، وكانت تلك هي المرة الأخيرة.
كانت المظلة الوردية والبيضاء الصغيرة تثير لدى أمينة فرحا عارما؛ فقد كان لها «علاقة»: هكذا كان يطلق على النطاق الذي كان يسمح بإمساك المظلة أو الشمسية. وأظن أن هذا الإتقان في الصنع هو ما كان يسبب النشوة.
تقول أمينة: «الثلج هو عبارة عن قطع من السماء تتساقط.» نحن في الحديقة؛ كانا يتكوران على ركبتي، الوقت وقت العشية، وقد خيم سكون تام. وتخطر على القلب ذكرى من فرنسا. صمت طويل، ثم همس: «إنني سعيد، إنني سعيد.» ثم، الصمت من جديد. ونحلم ثلاثتنا.
ذات صباح، وكان الوقت باكرا، والجميع يستغرقون في نومهم، يتناهى إلى سمعي صوت صغير يقول بهدوء: «صباح الخير يا أحدي الجميل.» كان الصوت صوت مؤنس، وكنا قد وعدناه القيام بنزهة في الصحراء ذلك اليوم.
كانت أمينة في الثالثة من عمرها. وفي إحدى الأمسيات دخلت المكتب واقتربت من أبيها وقالت بجدية بالغة: «لنعلل كما كان أرسطو يفعل؛ إذا وضعنا الماء في الدست ...» وتنطلق ضحكة صاخبة من أبيها، على حين ينفجر لطفي الفيلسوف بضحكة أكثر صخبا عندما رويت له هذه البداية من القياس المنطقي ...
وجاء وقت بات علينا فيه أن نفكر في مدرسة من أجلها. وستكون هذه المدرسة مدرسة الساكركير «القلب المقدس»
99
التي لم تكن بعيدة جدا عن البيت. لكنها لم تكن سعيدة بها ولم تكن تدرس فيها جيدا. على أنها استثيرت على كل حال إلى حد كبير بمناسبة عيد «الأم الوقور». لا أعرف شيئا كثيرا عن هذا العيد وعما كانه، لكني أذكر أنني غصصت لدى رؤيتي الثياب المرعبة المصنوعة من النسيج المضرب الأبيض والتي حزم بها الصغار المساكين.
كانت تلك هي الفترة التي كنا نرى فيها لطفي - وكان جارنا - يوميا تقريبا، وكنا نناديه آنذاك لطفي بك. وكنا نتناول طعام الغداء في بيته كل أسبوع كما كان يقاسمنا وجباتنا أحيانا، وكان يتخاصم مع طه حول قضايا الأدب أو الفلسفة أو السياسة. كنت أنقب في مكتبته الجميلة، وأستعير منه كتبه، ككتب سانت بوف، وكان كتاب أندريه جيد «لو أن الحبة لا تموت» أول الكتب التي استعرتها منه. وكنت أشارك بين الحين والآخر في النقاش عندما لا أوافق على رأي أحدهما. وكان لطفي يقول لي بابتسامة ودودة: «نعم يا ابنتي، إنك على حق دوما.» ونضحك ثلاثتنا. أيها العزيز لطفي! عندما جاء إلى «رامتان» للمرة الأخيرة، قبيل وفاته، كان يقول لي ثانية: «يا ابنتي، ستكونين على حق دوما!» كان يمشي بصعوبة، إلا أنه ظل يأتي لزيارة طه ما استطاع إلى ذلك سبيلا عندما لم يعد طه يغادر المنزل إطلاقا. وكنت أساعده على الركوب في العربة، ونجهد جميعا في أن نبدو جذلين.
في أول رأس سنة نقضيها في مصر الجديدة أثرت شخصيته في كثيرا؛ فبعد أن قدم لي التمنيات التقليدية بالعام الجديد أضاف بمهابة: «وقبل كل شيء ابق كما أنت.» كان لهذا الشكاك كلمات تنفذ إلى القلب مباشرة. وقد فقد أباه في تلك السنة، وكان صوته يرتعش عندما كان يقول لطه: «إنه صديق خمسين عاما هذا الذي فقدته والذي لن أعوضه أبد الدهر.»
كان هذا الرجل، الذي كان دميما، والذي كان وجهه المطبوع بآثار الجدري يشع ذكاء ساخرا، يملك هيئة خارقة؛ كان كبير الجسم، كان نحيلا، كان مهذبا، كان كلامه أكثر بطئا، إذا جاز لي القول، من عينيه الحيتين. كان يتكلم ببطء وعلى وتيرة واحدة تقريبا. ما أجمل الذهاب إلى الأوبرا برفقته! لم يكن - وربما لم يكن إطلاقا - يتذوق الموسيقى الغربية، وكنا نذهب دوما على وجه التقريب لمشاهدة الفرق الكوميدية. وما أجمل ترك الأطفال يرتعون في حديقة قصر الزعفران القديم؛ حيث أقيمت الجامعة! كنا نذهب لاصطحاب طه بعد أن ينهي درسه، كان مع مدير الجامعة بالطبع، وكانا يتناقشان، وكنا نضع المشاريع ونحلم ببيوت تبنى في الحديقة ليسكنها الأساتذة! هل يمكن أن يكون المرء أكثر توهما؟! وكنا غالبا ما نعود بعد ذلك معا.
كنا حين نذهب لرؤيته، بعد عديد من السنوات، نجده متدثرا بل متلاشيا في قفطان واسع أبيض أو أشهب أو أسمر، يكاد رأسه يختفي بين طيات لفة من الصوف؛ فقد كان سريع التأثر بالبرد. كان يجلس أمام موقد النار، هادئا، يداه الدقيقتان تسبحان، كان يبدو لي صورة طبق الأصل من الفلاسفة والعلماء الأقدمين الذين تبنى حكمتهم دون أي انبهار.
عند تأسيس جامعة الدولة في عام 1925،
100
اتخذ الطريق إلى بيتنا، الذي لم يهجره بالطبع أصدقاء القاهرة الأوفياء، قادمون جدد. وهناك بدأت جلسات الأحد التي سرعان ما اتسعت كثيرا في الزمالك. كان طه خلالها قطبا حقيقيا من الجاذبية؛ إذ ما كان الأساتذة الأجانب الذين كانوا يؤلفون أول فريق يصلون مصر حتى يأتوا بالطبع إلى بيتنا لقضاء ساعة أو ساعتين برفقة زوجاتهم. وكان منهم العميد «جريجوار
Gregoire »
101
والفيلسوف «إميل بريهييه
Emile Bréhier »
102
وعالم الآثار الإنجليزي «جريندور
Graidor »
103
والشخصية الساحرة «سكايف
Scaiffe » الذي كان شاعرا بقدر ما كان أستاذا للأدب الإنجليزي، ثم بعد ذلك «لالاند
Lalande » و«سانياك
Sagnac » ... إلخ.
كانت مصر تتقدم نحو الاستقلال الحقيقي بصعوبة ... وكان لكل الأحداث ولكل الانتفاضات عندنا صدى كان البعض يدهش له. فكان طه يحتدم ويضطرب ويغضب ويحتج ويناشد ويعلم. ولما كان لا يملك جفاف النظريين والسياسيين فقد استشاط غضبا عند تنفيذ حكم الإعدام بقتلة السردار
104
برغم معرفته التامة بأنه كان لا مناص من ذلك.
وفي انتخابات 1925 توسل إليه الأحرار الدستوريون بحرارة أن يرشح نفسه للنيابة،
105
فرفض.
كان يعمل، ووجد نفسه مرغما على استخدام سكرتير آخر للعمل في المساء في كتابة المقالات الأدبية والسياسية التي كانت تعرضه لمعارضة عنيفة وأحيانا حاقدة. وكانت تنضاف إلى مشاغله في القضايا العامة همومه الشخصية في الجامعة؛ كما كانت الصحف التي تظهر وتختفي تستصرخه وتسبب له الكثير من الشقاء بسبب تخليه عنها. فبعد «مصر»
106
كانت هناك الدروب المشوشة إلى «السياسة»
107
ثم صدور صحيفة «الاتحاد»
108
وكل ما كان في السنوات التالية ينذرنا باستمرار. إذ كان كل ذلك عاجزا عن أن يؤمن لنا ما يسمى بمورد ثابت.
ولم تكن تتوقف في الجامعة الجديدة، مختلف أشكال التخبط والدسائس والمؤامرات التي لم تكن تنتهي. وكان من المتفق عليه أن طه أستاذ بكرسي؛ ومن ثم، فهو في الدرجة الثانية من التصنيف، إلا أنه يكتشف في ديسمبر أنهم وضعوه في الدرجة الثالثة؛ الأمر الذي كان مخالفا للقانون، إلا أنهم كانوا على استعداد لاصطناع قانون آخر من أجل تنفيذ مآربهم. ويهرع إلى الوزير وإلى رئيس الجامعة، وبعد مناقشات لا طائل من ورائها، كان فيها قاسيا وفي نظر لطفي جارحا، فإنه يخرج حانقا، ويحاول لطفي تهدئته. وهذا ما كتبه لي بعد ثلاثة أيام، (وكنت في أبي قير
109
مع طفلينا):
منذ الأمس لم أكف عن العمل إلا من أجل أن أطعم وأنام. إنني متعب قليلا لكني سعيد جدا. إنك تعرفين هذا النوع من الرضا الذي يعقب القيام بالواجب، وذلك الشعور بأن المرء على مستوى الرسالة التي كلف بها برغم المصاعب التي يواجهها. لا أدري إن كان الطلبة يفهمونني، لكنني كنت سعيدا وأنا ألقي درسي قبل قليل؛ فأبحاثي الشخصية تصل بي إلى نتائج كبار المستشرقين نفسها. أتدرين أنني قررت ألا أقرأ أبحاثهم إلا بعد أن أنجز أبحاثي لكي أكون على علم بها فقط ؟!
وتغلبنا على المصاعب. على أن الوفيات كانت أكثر صعوبة من أي شيء آخر، فيما عدا الأحزان. وكان لا بد مع ذلك من مواجهة كل شيء بالقلب القوي الشجاع نفسه؛ فقد تلقينا أولا خبر وفاة عمي القس العزيز، إذ مات فجأة في «سان فرانسوا دو ديجون
Saint François de Dijon » وخلف في حياتنا فراغا لن يمتلئ على الإطلاق.
ثم كانت هناك وفاة «كازانوفا
Casanova »
110
في المستشفى الفرنسي بالقاهرة. كان طه قد عمل معه في باريس، وحصل له، بناء على طلبه، على بعثة في مصر، وكان سعيدا جدا أن وجد نفسه في الشرق. كان طه يزوره كل يوم، وكان يتنهد إذ يراه: «إنه سوء الطالع يا صديقي المسكين طه!» وعندما منعت عنه الزيارات في اليوم الذي سبق وفاته استطعت التسلل، فتسلقت الدرج بما أمكنني من السرعة، ولم يكن أحد يراني. كان باب الغرفة مفتوحا، وكان نائما. لم أدخل، وإنما قلت له بصمت: وداعا. وفي المقبرة، أمام القبر، ربما كان طه يفكر بما روته له الراهبة في المستشفى عن كلماته الأخيرة التي لفظها: «إلهي، سلح يدي!» لقد سبق له أن بعث إلي عندما كنت في «أركاشون
Arcachon » زهورا جميلة، وكنت أعرف أنها كانت تعبيرا عن إعجابه بطه وعن العاطفة التي كان يكنها لنا معا.
وكدت أموت عندما فقدت الأمل في الحصول على طفل ثالث كنا ننتظره بفرح. إلا أن ذعر طه المقلق هو الذي كان رهيبا. ولقد بقيت أمدا طويلا لا أستطيع التفكير دون خوف في الوجه المذعور، في هذا الإنسان الأعزل الذي وجد نفسه فجأة على حافة ليل جديد والذي كان يهرع إلى الهاتف مترنحا، مصطدما بالأثاث. وعرفت فيما بعد أنه قد أغمي عليه مرتين. وكان من حسن الحظ أنه لم يكن وحيدا في تلك اللحظة؛ فقد كانت تصحبه طيبة الدكتور نجيب محفوظ المرهفة والتي تعالج كل شيء بإدراك. وسأبقى مخلصة لذكرى الدكتور نجيب محفوظ الذي توفي منذ أكثر من سنة بقليل؛ لقد كان عالما يلقى الاحترام حيثما كان، وكانت سمعته العلمية تتجاوز إلى حد بعيد كل ما أشعر به نحوه من ود.
بعد ثلاث سنوات اضطر طه لإجراء عملية، لم يكن إجراؤها خطيرا في الأساس، لكنها كانت على كل حال عملية في الزائدة الدودية التي التهبت وهددت بالخطر. وحل لي كل شيء طبيب عظيم آخر هو الصديق العزيز علي باشا إبراهيم، ببساطة لم تكن تفارقه. وتنضاف إلى هذه الذكرى العذبة المريحة ذكريات أخريات؛ فقد هرع مصطفى إلى المستشفى حاملا مظروفا (وقد استطعت لحسن الحظ أن أعلم طه بمضمونه بسرعة). وكان ثمة مظروف ثان، بل ثالث ... لا أذكر أسماء هؤلاء الأصدقاء المخلصين، وإني آسفة لذلك أشد الأسف. ولحظة الدخول إلى غرفة العمليات، عهد طه إلى مصطفى وإلى أخيه الشيخ أحمد في الوقت نفسه بامرأته وولديه. ولدى عودتنا إلى البيت، كان هناك خمسة أطفال: طفلانا وأطفال الرفاعي الثلاثة، منهمكين في وضع الزهور في جميع الأواني. وقد حمل المرصفي، الذي جاء معنا، حمل طه بين ذراعيه من العربة حتى السرير كما لو كان يحمل طفلا صغيرا. وكانت جان ماري الرفاعي تبكي وتضحك في آن واحد من تأثير الانفعال. ثم كانت المسيرة العاطفية التي قام بها الطلبة وموظفو الجامعة من أدناهم إلى أعلاهم، والذين سبق لهم أن جاءوا إلى المستشفى قلقين للاطمئنان عليه. كانوا يدخلون البيت بهدوء، وكان أكثرهم فقرا يصر على أن يحمل معه السجائر. كان كل ذلك في نظري في منتهى الرقة، بعد أن واجهنا الأيام المخيفة في السنة الماضية، كما كنت أرى في ذلك وعدا بمستقبل أكثر إشراقا.
ذلك أن الهزات التي سببها كتاب «الشعر الجاهلي» قد أساءت وضعنا من جديد. فالضجة التي اقترنت بهذا الكتاب، وثورة الجهل والتعصب التي أعقبت صدوره نعرفها جميعا.
111
أما ما لا نعرفه فهو ما كانته هذه المحنة في نظر زوجي الذي كانت رزانته الثابتة تمنعه من الشكوى. لقد بدأ كتابة هذا الكتاب في يناير 1926، وأنجزه في مارس من العام نفسه؛ كان يعمل به في النهار ويحلم به في الليل مدفوعا بحماسة بلغت به درجة أنه شرع فور إنجازه بتأليف كتاب عن الديمقراطية ، لكن ما حدث له أرهقه. ولم يكن يفهم هذه الأحكام البليدة، وهذا التحيز الأخرق، وهذا الحقد الحاسد، وهذا الرياء، وتلك البراعة التي نجحوا بها في تحريض أناس طيبين ضد إنسان شريف، وفي جره إلى المحكمة بعد أن صادروا كتابه، والحملات القاسية في الصحافة، والشتائم، والتهديد بالموت الذي كان وراء إقامة حراسة على مدخل بيتنا أمام باب الحديقة خلال عدة أشهر؛ كل هذه الأحداث كانت تذهله وتستثير ضميره العلمي وتؤلمه كثيرا. وقد قلق فعلا على الطفلين عندما أرادوا أن يحرموه من مورد رزقه (ولم تكن تلك هي المرة الوحيدة!) ومع ذلك فقد احتمل كل شيء بصلابة ورأس مرفوع. وعندما أعلن رد الدعوى بعد ذلك بعدة شهور، لم يكن قد تراجع خطوة واحدة، لم يقهر؛ ومن الممكن أن يظنه المرء حصينا، لكنه لم يكن إلا شجاعا رابط الجأش.
لم تكن حالات «التخلي» قليلة، مثلما أنها لن تكون قليلة أيضا في العاصفة القادمة التي ستهب في عام 1932. لكني لا أريد أن أتذكر سوى الأصدقاء الذين ظلوا بقربنا باستمرار. كنت قد أحببتك من قبل يا شيخ مصطفى، وأنت يا عبد العزيز فهمي ... ولكن منذ ...
لكي يتمكن طه من التغلب على مرارته واستعادة صحته التي ساءت، صحبته إلى فرنسا، إلى قرية صغيرة في السافوا العليا. وهناك كتب، خلال تسعة أيام، كتابه الذي يحمل اسم «الأيام» أو «كتاب الأيام». •••
عندما عدنا إلى مصر، عدنا لنواجه من جديد التآمر، ولننعم كذلك بالتعاطف الذي أراد البعض أن يعبروا عنه؛ قبل تلك الأزمة، كان لطه شعبيته. وأذكر أنني في حفلة لتوزيع الجوائز في الجامعة الأمريكية لاحظت أنه كان كثير من الناس يتطلع نحونا برغم أننا كنا - إذا جاز لي القول - من غير المرضي عنهم سياسيا، أعني ممن لا يرضى عنهم رجال الحكم، وأولئك الذين كانوا يخشون فقدان وظائفهم. وبرغم أن القصر كان معاديا لنا، كان الناس يتهامسون، وكان كثير منهم يقترب منا ويحيينا. لم يقاطع أحد دروسه العامة ومحاضراته، وكانت القاعة تمتلئ بالناس يوم كانت في الأزبكية.
وفي شهر أكتوبر من تلك السنة المقدرة طلب إليه أن يتحدث في جمعية الشبان المسيحيين، وكان لا بد من إغلاق قاعة المحاضرات قبل ربع ساعة من بدء المحاضرة؛ إذ لم يكن ثمة مكان خال، وكان الشباب يجلسون على النوافذ. وعندما انتهت المحاضرة، جذب أمين الجمعية طه إلى الغرفة المجاورة وأغلق عليه الباب بالمفتاح! ثم جعله يخرج بعد ذلك من باب آخر؛ فقد كان يخشى أن يخنقه الناس في غمرة التصفيق والعناق.
لم نتمكن من الذهاب إلى فرنسا في عام 1927، إلا أننا قضينا عدة أسابيع في لبنان. وفي صباح اليوم الذي كان علينا أن نبحر فيه عائدين على ظهر الباخرة «لامارتين» علمنا بوفاة سعد زغلول.
112
فروع طه ودمدم شيئا بينه وبين نفسه، ولعله تلفظ بهذه الكلمات: «هذا فظيع!» كنا نتناول الغداء في الفندق مع إنجليزي لطيف كان يعيش في الجبل وارتبط مع طه بصداقة حميمة. وقال له هذا الأجنبي وقد رأى وجهه المتشنج حزنا: «لا بد أنه صديق عزيز هذا الذي فقدته.» فأجابه طه: «لم يكن لي من هو أكثر عداوة منه!» فنظر إليه السيد طويلا نظرة لا أستطيع التعبير عن الاحترام الذي كان يشع منها. وبدون أن يلفظ أي كلمة، وضع يده على كتف طه وربت عليه بقوة.
كانت هذه هي المرة الثانية التي نأتي فيها إلى لبنان
113
الذي أحببته منذ المرة الأولى التي هبطنا فيها إليه تحت وابل من المطر الغزير وفي الوحل؛ إذ لم يكن هناك بعد رصيف ميناء بالمعنى الحقيقي للكلمة. وكانت بيروت آنذاك جميلة ببيوتها الحمراء المليئة بالفتحات الخضراء هنا وهناك وبارتفاع شرفاتها في مواجهة الجبل. بحر لبنان وجباله وطبيعته تظل دوما متعة للنظر. كنا قد أتينا لحضور مؤتمر في التاريخ والآثار. ولقد كان مؤتمرا جميلا؛ فقد شارك فيه علماء كثر، وأقيم في بيروت حفل استقبال رائع لدى المفوض السامي «جوفينيل
Jouvenel »
114
كما أقام أشخاص أغنياء حفلات استقبال أخرى.
ولقد بدوت مأخوذة على الطريق المحفوف بأشجار البرتقال المزهرة والذي سيفضي بنا إلى طرابلس، لكننا وصلنا ليلا للأسف، وكان علينا أن نتابع الطريق منذ الصباح للصعود إلى قلعة الحصن. لم تكن الطرق معبدة آنذاك، لكن السائقين كانوا جسورين أيضا، كنا في غاية الإرهاق ونحن ننزل من القلعة، ولم يكن يخطر للعنزات التي كانت ترعى بسلام - (أتراها لا تزال ترعى؟!) على البلاط القديم المحدب - ما كنا نعانيه داخل سيارة لم تكن تسير مطلقا على خط مستقيم، ولم تكن تكف عن القذف بنا إلى السقف كلما كان عليها أن تدور مع منعطفات الطريق الوفيرة! على أن ذلك لم يكن يحد من عمق الانطباع الذي يخرج به المرء من القلعة القديمة التي كانت تحفل بتاريخ مدهش.
لم نكن في حلب سوى خمسة أشخاص؛ فالقسم الأعظم من الفريق كان في تدمر. وكان بصحبتنا آل دوسو وجورج سال
115
الذي كان شابا آنذاك، وربما كان معنا أيضا عالم آثار بلجيكي، وقد كنا منسجمين تماما؛ فقد كان الجميع ذوي أمزجة مرحة بالرغم من سفر القطار الطويل المتعب. وكان طه، منذ المساء الأول لوصوله إلى الفندق، محاطا بشبان كان من بينهم سامي الكيالي الذي سنراه مرارا في السنوات التالية. كان كاتبا شابا، وقد تعرف على طه منذ اللحظة الأولى التي رآه فيها. وأراد في اليوم التالي أن يجمعنا بأخيه الذي كان مفتيا. لم يسبق لي أن رأيت في القاهرة بيتا مسكونا عربيا حقا شأن هذا البيت الذي استقبلنا فيه هذا الإنسان الجليل، فعندما اجتزنا الجدران التي كانت تعزله كليا عن الشارع (وقد وجدت ذلك في غرناطة)، دخلنا الباحة الداخلية، وهناك ... ماذا أرى؟ أشجار الليلك المزهرة! لم أكن قد رأيت مثلها منذ وصولي مصر. لقد كنت دوما سريعة الانفعال إلى حد ما، وها هي عيناي تدمعان. وإذ لاحظوا ذلك، هرعوا لقطف غصن جميل وحملوه إلي، فاحتفظت به حتى وصولنا القدس.
وأتاح لنا سامي فرصة مشاهدة البساتين الشهيرة التي تحيط بحلب، بساتين أشجار الفستق واللوز. ولقد كان يرسل لنا من هذا الفستق اللذيذ بعض العلب في بعض الأحيان.
أما في نظر طه فإن ما اهتم له بطبيعة الحال كان القلعة والذكريات الفريدة التي احتفظت بها هذه المدينة التي، وإن كان طابعها العربي واضحا تماما، لا أدري - ولعله أمر غريب حقا - لم كنت أرى فيها شيئا من الطابع الآسيوي.
وفي بعلبك، يعود ليعيش ثانية بسعادة في الجو الكلاسيكي الذي كان يجد فيه راحته.
دخلنا فلسطين من مدينة حيفا، هذه المدينة القبيحة، لا أدري أي هواء كنا نستنشق فيها، ولعل من العدل أن أقول أي هواء كنا نحاول أن نستنشقه؛ إذ على الرغم من البحر، فقد كان الهواء خانقا، وكنت أشكو فيها دوما ألما في القلب. كان علينا أن نذهب إلى كفر ناحوم مع بقية أعضاء المؤتمر، إلا أن هذه الرحلات الطويلة كانت قد أتعبتني إلى حد أعلن معه طه عن عدوله عن الذهاب إليها وقرر أن نذهب إلى القدس فننتظرهم هناك. وقد طلب إلينا أحد رفاقنا، وهو شاب إنجليزي، أن يشاركنا سيارة الأجرة، وعلى الطريق توقفنا ثلاثتنا عند مسجد نابلس.
القدس ... كان عمي القس قد وضع مشروعا لزيارتها بصحبتنا، إلا أنه لم يجد الوقت لتنفيذه. كنت أدخل هذه المدينة أحمل معي ذكراها وأسفا مؤلما. كان الانفعال الذي توقعته قد هزني، ومع ذلك لم نكن أحرارا، ولم يكن قضاء أيامنا يتوقف على إرادتنا نحن الذين كنا نرغب أن نقضيها بصورة مختلفة. وكانت جلسات المؤتمر والدعوات التي وجهت لنا من قبل المفوض السامي «السير رونالد ستور
Sir Ronald Storr »
116
والجامعة العبرية، وزيارات الناس الذين كانوا يريدون مقابلة طه تمتص معظم وقتنا. كنا نقيم في قلب المدينة القديمة، ولم يكن فندق الملك داود قد بني بعد. وكنا نعود إلى الفندق الذي نزلنا فيه عن طريق السلالم التي تفضي بنا إليه عبر طرقات متعددة، حاملين حقائبنا على ظهورنا، وقد صادفت من فوري حمارا صغيرا يحمل قربة ماء كبيرة؛ كان موزع ماء شجاعا، هذا الماء النادر دوما. ومنذ المساء الأول استأثر الزوار بطه، وبقي أحدهم بصحبته حتى الساعة الثانية صباحا. كنت وحيدة مع طه في هذه الرحلة، ولم أكن أستطيع تركه، وكنت أقاوم النعاس والسأم بشكل يائس.
لم يكن فندقنا بعيدا عن كنيسة القيامة. كان الوقت وقت عيد الفصح والحج. وكان ثمة حاج قبطي، كما كان هناك عائلات قد أقامت على السطح بأكملها وسط رائحة قلي الطعام النفاذة. ولقد كانت عقليتي الغربية تدهش وتصدم، غير أن الأب الدومينيكاني الذي كان يرافقنا وضح لي الأمور، وعلمني أن أكون أكثر تواضعا، وصلينا، كل في قلبه، في مسجد عمر وفي الجثسيماني.
على أن هناك صورا أخرى تتراكب فوق تلك الصور الأولى، ومن الصعب علي أن أتحدث عنها بالتفاصيل، وأعني بها صور أشهر الصيف التي قضيناها مع الأطفال. كانت الحرب في أوروبا، وكانت هناك أحداث جارية مؤسفة تغير من وضع هذا المكان الفريد. هناك الآن كثير من الأشياء التي تثور في قلوبنا المتألمة. ترى هل سأراك يا قدس؟! وإن عدت إليك، فما الذي سأستشعره من دون طه؟!
عدنا إلى لبنان أكثر من مرة، وبقينا فيه فترة أكثر طولا. ففي عام 1927 عرفنا حمانا. كان لامارتين قد أحب هذه البلدة الصغيرة القائمة على مرتفع في الجبل يطل على غابات الصنوبر مثلما أحببناها نحن أيضا. وكان الفندق المتواضع يقوم بالقرب من شلال ماء في منتهى الجمال، وهو أمر نادر في لبنان، وأعني به شلال الشاغور. كما كان ثمة أشجار جميلة وارفة كنت أحب أن أستريح في ظلالها، لكنها كانت دوما حافلة بنزلاء الفندق أو بأهالي البلدة الذين كانوا يلعبون ويصخبون كصخب الماء المتساقط، وإنما بصورة أقل شاعرية منه!
كان الجميع في منتهى اللطف، وقد أقيمت مناظرات في الزجل على شرف طه. وفي الهواء العذب الندي كان الشعراء يرددون القوافي الرنانة بالتبادل كما لو كانوا يردون كرة اللعب، وكانت تؤلف على هذا النحو قصائد لا تنتهي. وقد كانت لي حصتي من الثناء، فبالإضافة إلى الابتسامة التي أثارها صياح أحد الزجالين عندما قال لي: «سيبقى اسمك يا سيدتي منحوتا على جرانيت الشاغور.» فإنني قد تأثرت عميق التأثر.
كان في الفندق معنا الممثل المصري الشهير جورج أبيض تصحبه زوجته وطفلهما. كانت دولت أبيض ممثلة هي الأخرى، وكنا نستشعر دوما موهبتها العظيمة. وكانت بالطبع نبيلة رصينة السلوك بليغة الحديث. ولم ينس أولئك الذين رأوها تمثل في مسرحية أندروماك حماسهم على الإطلاق، كما كانت تسهم أيضا في برامج إذاعية. ولئن لم أكن أراها كثيرا مثلما كنت أتمنى، فإني أشعر نحوها مع ذلك بكثير من الود والصداقة.
ثم جاءت سنوات الحرب: 1941، 1942، 1943، 1944. كنا نذهب إلى جبال لبنان لقضاء بعض الوقت في نهاية كل صيف؛ كي يستعيد طه والطفلان قواهم بعد العمل طيلة السنة وبعد تحملهم حرارة الصيف الخانقة. فقد غدا لبنان بلد الإجازات والاصطياف بالنسبة إلى كثير ممن لم يكن بوسعهم العودة إلى بلادهم، وكذلك بالنسبة إلى كثير من المصريين المتعبين. كان من الممكن اجتياز فلسطين التي كانت تحت الانتداب البريطاني آنذاك. وكنا ننطلق بالسيارة؛ كانت رحلة رائعة في قلب الصحراء، كنا نتوقف خلالها في محطات ذات أسماء متميزة: العريش، غزة، الخليل، بيت لحم، حتى نصل إلى القدس. وعلى الطريق إلى بيروت، بعد اجتياز رأس الناقورة، كنا نطل على البحر ونتمتع بمرأى الشواطئ المنفردة الساحرة التي كنت أود لو أنزل إليها. أما على اليمين، فقد كانت سلسلة الجبال تبدأ في البروز. عندما قمنا بهذه الرحلة للمرة الأولى، كانت هناك سيارة أخرى معنا، وكان يرافقنا صديقانا: الجراح كامل حسين
117
وعالم الجغرافيا محمد عوض.
118
لم نكن نعرف تماما أين نتوقف. فبعد أن تركنا الآخرين في بيروت انطلقنا، كامل ومؤنس وأنا، لنتعرف على المناطق. ذهبنا بعيدا. وعلى بعد عدة كيلومترات من بيروت، على طريق العودة، اكتشفنا المكان والفندق الذي كان يناسبنا، أعني قرية بيت مري، التي ترتفع عن سطح البحر 800 متر. كان الهواء فيها نقيا، كما أن فيها أشجار الصنوبر ذات الرائحة الجميلة. لم يكن ثمة ماء يجري من تحت الأشجار، بل كان هناك بدلا منه سحر مناظر الجبل التي كانت أيضا مناظر تعرفها الشواطئ المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط. كان هناك قادمون من مصر أو العراق أو من مناطق أخرى قد اكتسحوا البلدة والمنطقة كلها، وكان من حسن حظنا أن عثرنا على غرف في «جراند أوتيل ». كانت الشرفتان تسعداننا؛ إذ كنا نرى من إحداهما البحر حتى خليج جونيه، في حين كنا نرى من الأخرى سلسلة جبال لبنان والصنوبر الذي كان يظللها. وهناك قضى طه أيامه وعمل كثيرا، أما الطفلان فقد كانا يقومان بنزهات قصيرة بالطبع. وفي أحد الأيام، بعد عودة محمد عوض كما أظن، أرادا الذهاب مع كامل ورفاق آخرين إلى الجهة الأخرى من الوادي المنخفض انخفاضا عميقا تحت القرية. وهكذا مشوا زمنا وهم يأكلون ويتحدثون مع سكان الجبل، وكانوا سعداء جدا. كنا ننتظرهم، وعند ساعة العشاء لم يكن أحد منهم قد عاد بعد. كان المساء قد حل وأقبل الليل، فاستحال انتظارنا قلقا؛ إذ كنا نعلم أنه لم يكن هناك طرقات في المنطقة التي ذهبوا نحوها ولا ممرات حقيقية يمكن استخدامها. وكنا نتخيل ما يمكن أن يحدث لهم ما وسعنا التخيل. وإذ شعر صاحب الفندق بالقلق مثلنا فقد نظم فريق نجدة من متطوعين يلبسون أحذية طويلة ويحملون المصابيح الكبيرة. وفي اللحظة التي أوشك فيها أفراد الفريق على مغادرة الفندق، ظهر ضائعونا المنهكون يجرون - إذا جاز القول دون أن يكون في ذلك مس بالاحترام الذي أكنه له - كامل المسكين الذي كان قد تعثر لسوء الحظ بالحجارة فالتوى عرقوبه، وهو يتأوه. كانوا جميعا في قاع الوادي ولم يكن لديهم أية وسيلة لإعلامنا بما جرى. ولما كان كامل جراح عظام؛ فقد ضحكنا منه كثيرا عندما طمأننا عنهم جميعا.
لا أدري إذا كان زيوار باشا حاضرا ذلك المساء الشهير. فهذا السياسي المصري
119
كان بدينا إلى درجة كانوا يزعمون معها أنه يحتاج إلى أبواب خاصة لعربته كي يتمكن من ركوبها. وكانت مائدته في قاعة الطعام بالقرب من مائدتنا؛ فعندما كان ينهي وجبته، كان يطلب أحيانا إلى كامل أن يساعده على النهوض من مقعده. كان ثقيل الوزن بطبيعة الحال، ولم يكن كامل نحيفا كما أنه لم يكن كبير السن، ومع ذلك فقد كانت العملية صعبة! ولا أستطيع أن أؤكد إذا كان كامل قد سقط على الأرض في أثناء ذلك، إلا أنه كان علينا على كل حال أن نهرع لمساعدتهما.
كان الباشا يتحدث مع طه بصورة عفوية، وقد قال له ذات مرة: «هل تعلم أنني مت؟ (كان قد أصيب بغيبوبة نتيجة مرض السكر)، حسنا! أستطيع أن أؤكد لك ذلك. بعد الموت لم يعد ثمة شيء أحس به؛ أي شيء.»
كان طه يرى بلا عينين. فقد أذهلنا بتصريح مفاجئ حين كنا في فندق جبلي وكان الراديو يذيع برنامجا عن مطرب شرقي لم يكن يحب صوته؛ إذ هتف: «على كل حال لا بد لهذا الرجل من أن يكون بدينا وأصلع!» وعندما رأينا صورة هذا المطرب على مغلف إحدى أسطوانات أغنياته، تأكد لنا أن ما قاله طه كان صحيحا كل الصحة!
لم نعد إلى مصر، في السنة التي جرت فيها معركة العلمين، إلا في أكتوبر،
120
عندما لم تعد مهددة بالغزو. كان كل شيء مغلقا فيما عدا فندق صوفر، الذي بقينا فيه أسبوعا.
كنا نرتاح في لبنان، لكن أحدا منا لم يكن يسعه أن ينسى هموم المعارك. زرنا «بيت الدين»، المقر القديم للأمير بشير.
121
وهناك أيضا فكرنا في لامارتين. ربما كان في حديقة القصر أشجار صنوبر لكن فيها على وجه الخصوص أشجار الكستناء؛ إذ عندما وجدتني فجأة أمام هذه الأشجار، مأخوذة برائحة أوراقها، فقد فعلت كما فعلت أمام أشجار الليلك في حلب: بكيت، وتمثلت حديقة اللوكسمبورج أمام عيني وفي قلبي، فقد كانت باريس تحت نير الاحتلال.
تبقى بلدة بيت مري عزيزة علي. فقد اكتسبنا فيها الصحة، كما كانت تمنحنا الأمل بأننا سوف نرى مرة أخرى مناظر شبيهة إلى حد ما بتلك التي كنا نسعد برؤيتها ذات يوم. ثم إن هناك ذكرى ترتبط بهذه القرية المتواضعة. ففيها سمعنا الراديو، في أحد أيام شهر أغسطس، وهو يعلن تحرير باريس. كان علي آنذاك أن أكتب على الفور لأمي رسالة ربما لن تتلقاها: «أمي ... تعالي إلى ذراعي أضمك بجنون، أضمك حتى لأكاد أسحقك وأخنقك! ... لقد أصبحتم أحرارا، وها هي باريس قد أعيدت لكم؛ فكيف يمكننا أن نكون جديرين بكم؟! ...»
لقد مس الانفعال كافة من كان موجودا في بيت مري، حتى أولئك الذين كانت لهم أسبابهم للتذمر من فرنسا. وأعثر في أحد الدهاليز على السيد إلياس مدير الفندق الذي كان هو الآخر - وهو أمر طبيعي جدا - يريد استقلال بلده. كانت عيناه حمراوين، فقلت له بصوت مخنوق: «على الرغم من كل شيء يا سيد إلياس؟» فأجابني بصوت مبحوح كصوتي: «نعم يا سيدتي، على الرغم من كل شيء!»
لقد استثيرت كل القرية. كنا نتحدث، ونعبر بالإشارات والحركات والأصوات ونتبادل القبلات. ثم قام إلياس بتوزيع الشمبانيا على الجميع.
كان طفلاي منذ الحرب قد رفضا مشاهدة الرقص في الحفلات، ولم يحنثا بهذه اليمين الشخصية سوى مرة واحدة. كان ذلك على وجه الدقة في بيت مري ذات مساء، عندما صعد بحارة مركب يوناني رسا في بيروت إلى بيت مري. كنا نتحدث كثيرا معهم، وأرادوا الرقص (وكان الناس يرقصون كل مساء في الفندق). فافتتح قائدهم الحفلة وكان هذا الإنسان العزيز ضخما قليلا، فسرعان ما لهث تعبا وقال لابنتي بلطف: «أظن أنه من الأفضل أن نترك الرقص لضباطي الشبان ...»
وفي 26 أغسطس رقص سكان الفندق، أكان هو ذلك اليوم الذي وجد فيه طفلاي اللذان كانا يرقصان الفالس معا نفسيهما وحيدين مع زوج آخر من الراقصين على ساحة الرقص؟! وإذ كانوا في حالة من الإصرار الجنوني، فإن أحدا منهم لم يكن يريد التوقف. وكان ولداي هما اللذين بقيا إلى النهاية وسط حماس الذين كانوا يشاهدونهما وتهليلهم اللطيف!
وأشعلت في الليل نيران عظيمة على الجبل. تلك النيران التي كانت تشعل دوما في الخامس عشر من سبتمبر مع التأكيد بأنها ستمطر حتما في اليوم التالي. والحق أننا رأينا السماء تمطر في كل صيف، تلك الأمطار الغزيرة التي تحمل معها الخير بعد أشهر مضت دون أي قطرة من الماء. وكانت الأجراس جميعا تقرع في كل مكان.
لم نعد إلى بيت مري. بيد أنني في كل مرة أكون فيها على ظهر سفينة تتوقف في بيروت، فإنني أرفع عيني وأحيي من سطح الباخرة هذا البلد الذي يقع في مكان مرتفع. ساعة يغمره المغيب بنوره البنفسجي الجذاب. وكلما استطاع طه أن يغادر مقصورته، كنت أجلسه على السطح في مواجهة هذا المنظر وتلك الذكريات.
كان قد حصل على وسام الأرز في تلك السنة نفسها. وبعد ذلك تحدث عدة مرات في بيروت، في قاعات غاصة بالمستمعين الذين كانوا يصغون إليه بحب. وفي عام 1948، في أثناء المؤتمر العام لليونسكو، أجلسوه على المنصة عندما كان عليه أن يلقي خطابه. وعندما رأيت زوجي على هذه المنصة الواسعة العالية، أكثر عزلة من أي وقت مضى، بعيدا عني في مواجهة جمهور غفير، لا يملك أي إمكانية للخروج من هذا الموقع بنفسه، يستعد للكلام بدون أية مذكرات، فقد أصبت بهلع حقيقي، وبلغ بي الشحوب حدا ظنني معه صديق كان بالقرب مني مريضة. وبوسعي القول إن المحاضرة قد تمت وسط هتاف حماسي. كانوا قد وزعوا بطاقات دعوة بلغ عددها ثلاثة أضعاف الأماكن التي تسعها الصالة، وأرغم كثير من الناس تحت وطأة الزحام، على البقاء في الدهاليز.
كانت هذه الرحلة تكريما جميلا من اللبنانيين لإنسان كانوا يحترمونه. فقد كان طه، مرة أخرى، مغضوبا عليه. ووجدت مصر أن من الأفضل استبعاده من عضوية وفدها إلى مؤتمر اليونسكو؛ ذلك الوفد الذي كان يرأسه بحكم العادة. غير أن لفتة لبنان نحوه لا تنسى؛ فقد دعت حكومته طه، وتلقى منها كل تشريف واعتبار.
وكان طه، في كل مرة يخاطب فيها اللبنانيين، يتلقى منهم هذا الفيض من العاطفة الحارة التي تربطه بهم وتربطهم به.
كانت المؤتمرات عديدة في حياتنا برغم أننا تخلينا عن كثير منها لأسباب شتى، تتعلق بالعمل أو بالصحة تارة وتتعلق بالأسرة تارة أخرى. كانت بداياتنا في بروكسل، ولعل ذلك كان في عام 1923؛ فذكرياتي في هذا المجال غامضة إلى حد ما. ومع ذلك فقد كان الاضطراب يشلني عندما توجب علي أن أقوم بإلقاء كلمة طه في المؤتمر. كنت شابة وخجولا بوجه خاص، ولقد بقيت خجولا دوما. وتوجب علي في بعض الأحيان أن أبذل جهدا كبيرا لأتمكن من السيطرة على نفسي . غير أن طه استطاع الانتصار على تردده وصار بعد ذلك يقول لنفسه ما كان يريد أن يقوله في مثل هذه المناسبات.
كما أذكر اضطرابي في «بروج
Bruges »، وتسليتي أيضا عندما كنا نبحر بهدوء عبر القنوات الهادئة على ظهر زورق صغير. فقد اضطر أحد أعضاء المؤتمر، وكان كبيرا في السن، أن يجلس على الأرض عند مرورنا تحت جسر واطئ، قائلا لي بمهابة: «إنني أسقط على قدميك يا سيدتي!»
وكذلك عصبية طه بسبب أحد أعضاء المؤتمر الآخرين، وكان إنسانا في منتهى الاضطراب، إذ كان يقرر كل شيء بادئا دوما كلامه بجملة لا تتغير، عميق الثقة بنفسه: «إنني أسمح لنفسي في أن ...»
ولما كنت لا أترك طه وحده، فقد قدمت إلى الملك ألبير وإلى الملكة إليزابيت عندما استقبلا أعضاء المؤتمر. وفي حفل الاستقبال الذي تلا ذلك، تحدثنا كل الوقت تقريبا مع الأمراء الشبان، وكان منهم الأميران الشابان ماري جوزيه التي ستصبح ملكة وليوبولد الذي سيصبح ملكا، وكانا في منتهى اللطف.
ولا أذكر سوى القليل أيضا عن مؤتمر أكسفورد الذي كان المؤتمر الثاني
122
الذي نحضره. ومع ذلك، فلعلي كنت أنا أيضا من قرأ المحاضرة العلمية التي كتبها طه عن «استخدام ضمير الغائب في القرآن.» كان مؤنس، وقد أصبح في السادسة من عمره، معنا؛ ذلك أنه أبدى من التذمر لدى معرفته بسفرنا بحيث إن طه لم يستطع التغلب على عاطفته، فصحبناه معنا. لكنه سرعان ما مرض ونحن على ظهر الباخرة. كان المسافرون، وكانوا مرضى بدورهم، يصعقونه بنظراتهم. لم يكن هذا الفتى الصغير المسكين مسئولا عن بحر المانش الرهيب، ولا عن ضيق باخرة ليس فيها سوى السطح وقاعة خانقة. أما توفيق (سكرتير طه)
123
فقد اختفى، ولم أعثر عليه إلا في «نيوهافن
New Haven ».» إلا أن الصغير استعاد صحته في إنجلترا ولقي العناية من السيدة مارجليوث
124
العزيزة التي استقبلته معنا وكان في منتهى السعادة تحت رعايتها.
وفي مؤتمر ليدن، بعد ذلك بسنوات ثلاث،
125
تصرف بشكل ممتاز أيضا. ففي متحف «فرانس هالز
Franz Hals » ب «هارلم
Haarlem »، بدأ يكتشف الرسم، وأبدى من الفضول قدرا جعل معه مدير المتحف - وقد انتبه له - يزيح الأشخاص الكبار بلطف ليمكن هذا الطفل الصغير من رؤية اللوحات بشكل أفضل.
كان طه سعيدا في ليدن لاجتماعه ب «ليتمان
Littmann »، أستاذه القديم.
126
وكان ليتمان يشعر نحوه بود عظيم، ولا أدري أيهما كان أشد انفعالا من الآخر لرؤية صاحبه ذلك الصباح. لكني أعرف أن ليتمان بكى وهو يعانق تلميذه.
في هذه المرة لم أكن أنا التي قرأت نص محاضرة طه «ناهضا لحرب الشعوبية». لقد بحثنا عن تمهيد أقل شراسة لهذا البحث الجاد الذي يعالج البلاغة العربية من الجاحظ حتى عبد القاهر. ولقد ظل عنوان هذا النص شهيرا لدى الطفلين.
لم يكن الدمار الذي خلفته الحرب قد أعيد ترميمه وإصلاحه بعد، ولم يكن هناك أي فندق في ليدن. وقد أقام أعضاء المؤتمر، الذين لم يكن من الممكن جعلهم يقيمون مثلنا لدى سكان المدينة، في لاهاي، وفي أمكنة أخرى. كان الشيخ مصطفى في لاهاي، وقد دعانا للعشاء ذات مساء، وفي أثناء عودتنا، لمحت ابنتي في الفندق لوحة كبيرة؛ فصاحت: «من هي هذه المرأة المخيفة؟!» فانحنى مدير الفندق باحترام وقال: «إنها ملكتنا يا آنستي!» إن ابنتي، وقد غدت زوجة دبلوماسي، تذكر ذلك بمزيج من الارتباك والضحك.
ودعينا للقيام بنزهة جميلة على مركب عبر القنوات التي تجتاز الحقول والبساتين. وكان ثمة امرأة شابة لا تكف عن رسم أعضاء المؤتمر الذين كانوا على المركب، وأهدتني رسم طه ورسم الشيخ مصطفى، وما كان أشد اختلاف صورة الشيخ مصطفى وهو يرتدي البذلة والقبعة! وكان الأجانب يعجبون به أكثر وهو في ثيابه الحريرية الجميلة.
أفي هذه السنة نفسها ذهبنا إلى لوفان؟ أم بمناسبة مؤتمر آخر في بروكسل بعد ذلك بسبع سنوات؟ كان اليوم الذي كنا فيه يوم الكرمس؛ وهو يوم احتفال شعبي. وكنا قد اجتمعنا في سوق الحبوب القديمة حيث استقبلنا رئيس الجامعة الرائع. كان عليه أن يصحبنا إلى المكتبة الجديدة التي كانوا يجددونها. وقد قال لي الأب قنواتي إنها قد تهدمت مرة أخرى في الحرب العالمية الثانية، إلا أنها قد أعيد بناؤها الآن بفضل المساعدات التي وردت من كل مكان تقريبا، وأنها تحفل بالكتب الجميلة والقيمة.
كان الرئيس يسير على رأس الفريق، وكنا نحذو حذو خطواته ونتقاطر في لوفان على أنغام «تعالي يا بوبول» التي تطلقها الرقصات الدائرية في المعرض، وكنا نمشي بالرغم عنا سيرا إيقاعيا وراء الثوب البنفسجي الذي كان يتقدم أيضا حسب الإيقاع.
كان طه قد ذهب في السنة السابقة إلى فيينا مع فريد. كان توفيق قد غدا رب عائلة بعد وفاة أبيه، وكان طه قد جعله يتمم بأسرع وقت ممكن دراسته في الحقوق؛ فأحل توفيق أخاه محله بالقرب من طه. ولما لم تكن مصاريف رحلتي على حساب المؤتمر فقد عهد بنا إلى عوض وذهبنا ننتظره في باريس. لم يكن انتظارنا لحسن الحظ طويلا، كان سليم حسن قد بقي مع طه للعناية به. غير أن هذه الأيام القليلة من الفراق كانت مؤلمة جدا. وقد كتب لي: «علينا ألا نكرر على الإطلاق هذا الفراق الحكيم الأحمق. فبدونك أشعر أني أعمى حقا. أما وأنا معك، فإنني أتوصل إلى الشعور بكل شيء، وإلى أن أمتزج بكل الأشياء التي تحيط بي.» ويستشهد لي ببيت من الشعر العربي: «ناقتي في البيد تجري ...» أمامه كانت فيينا، ووراءه باريس ومن يحبهم.
تأثرت لقراءتي هذا الاستشهاد. ففي كثير من المرات التي كنا نتحدث فيها، كان يستشهد ببيت من الشعر أو بمثل أو بآية من القرآن الذي كان يحب أن يقرأه لي وأن يترجمه لي. وكنا في السنوات الأخيرة، نقضي لحظات طويلة في العربة التي لم تكن تجري بسرعة، ليتمكن من تحسس رائحة العشب، وسماع تغريد العصافير، ونهيق الحمير، وصوت الطاحونة وسط الحقول بين بنها وطوخ.
حاول أن يفهم مدينة فيينا وأن يتعاطف معها. وعثر فيها على أصدقاء له: ليتمان، و«بيرجشتراسه
Bergstrasser »
127
و«يونكر
Yunker »، وكان هذا الأخير غاضبا لرؤية فيينا وقد أصبحت اشتراكية. كان طه يريد أن يتعلم اللغة الألمانية (ولم يكن يملك الوقت لذلك على الإطلاق) واغتاظ لأنه فتش عبثا في هذه العاصمة عن كتاب فاليري «منوعات 2».
لكنه يتلقى وهو فيها خبرا سيئا. وفاة السير توماس أرنولد فجأة.
128
وقد نقل إليه الخبر السير «دنيسون روس
Dennyson Ross »
129
في اللحظة التي كان سيجلس فيها على مائدة العشاء التي دعا إليها الوزير. ويكتب طه إلي:
لقد تسممت أمسيتي. كنت أحبه كثيرا وكان يبادلني هذا الحب، وقد أخبرني عن وفاته السير دنيسون أمس. فمتى أعقل أن علي أن أعد نفسي لتقبل موت أصدقائي؟!
وكان عليه أن يتلقى قريبا موت صديق آخر (وكنا قد عدنا إلى القاهرة)، وأعني به موت حسين بك عبد الرازق، الأخ الأكبر لمصطفى. كنا نحبه كما لو كان أخانا الأكبر أيضا. كان يعيش أغلب الأحيان في عزبة أهله في «أبو جرج» التي كان فيما أظن مسئولا عنها. وكان يجمع إلى الاستقامة المثلى إخلاصا كاملا. كان كثير التعلق بالتقاليد؛ فامرأته وبناته كن يعشن في رصانة فرضتها تقاليد الماضي. ومع ذلك فعندما كنت في «أبو جرج» مع طفلي، فإنه كان غالبا ما يطلب إلي أن آتي إليه في التعريشة حيث كان يجتمع بنظار المنطقة ومزارعيها، وكان ذلك يؤثر في نفسي تأثيرا طيبا. لقد كنت أتحدث إليه في ثقة كاملة، وكانت هناك ناحية لم نكن نتفق حولها مطلقا. فقد كنت أستمتع بتغريد العصافير في الصباح، أما هو فقد كان يسخط أشد السخط؛ لأنه كان يرغمه على الاستيقاظ باكرا جدا.
عندما وقعت المصيبة كان مصطفى في البحر لا يعرف عنها شيئا. وذهب طه إلى الإسكندرية مع علي
130
لاستقباله. وأمضى ثلاثتهم يوما كان في منتهى القسوة عليهم جميعا.
والذكرى تستدعي الذكرى؛ أعني الموت المأساوي لعميد أسرة عبد الرازق قبل تسع سنوات من وفاة حسين عبد الرازق، أعني موت حسن باشا عبد الرازق الذي كان قد استقبلني لدى وصولي مصر والذي لم يكف عن العناية الودية بي؛ فقد كانت له لفتات مماثلة للفتات أخيه. كنا مدعوين معه لعشاء كنت فيه المرأة الوحيدة من المدعوين، وامتد العشاء. وكنت قد تعبت وبدأت أشعر بالسأم. آه! ما أكثر سأمي! ... ولاحظ ذلك حسن باشا؛ فقال لي بصوت منخفض : «هل تريدين العودة؟» فقلت بلهفة: «آه ... نعم!» فنهض وخاطب مضيفنا قائلا: «يا صاحب المعالي، إن السيدة طه حسين متعبة، فإذا سمحتم لي فإنني سأرافقهما؛ إذ علي العودة أنا الآخر أيضا.» إنه أمر بسيط ولا شك، لكنه ذو أهمية كبيرة في بعض الأحيان.
لقد حدث ذلك في إحدى المراحل العنيفة من الصراع السياسي الذي كان يجعل البلد في اضطراب دائم. كان هناك في ذلك اليوم، يوم وفاته، اجتماع للأحرار في مكتب «السياسة» وكان طه حاضرا هذا الاجتماع، وكان هناك خارج المقر بعض المجرمين يختفون في الظلام. كانوا يستهدفون عدلي ولا شك، إلا أن حسن باشا والمحامي زهدي كانا أول من خرج من الاجتماع ... بعد خمسين سنة مرت على هذا اليوم، كان من بين الجمهور الذي جاء للتعزية بوفاة طه، سيدة لم أكن أعرفها، وكانت شقيقة زهدي. لا شيء يموت.
كان حسن باشا قد جاء لزيارتنا في مصر الجديدة قبل عشية يوم المأساة، وعندما استأذن للانصراف رافقته. وعلى العتبة، تبادلنا القول: «إلى اللقاء.» ثلاث مرات بشكل غريب. وعندما كنت أنظر إليه يبتعد، شعرت بشيء من الاضطراب. لم تكن لي حدوس كثيرة، لكن ذلك الحدس كان واحدا منها. لم يعد طه ذلك المساء المأساوي في وقته المعتاد، وكنت قلقة. يا لوجهه عندما عاد! ... كان ممتقعا، واكتفى بأن قال لي بصوت أجش: «لقد قتلوا حسن باشا قبل قليل.»
بعد عودتنا من لبنان في عام 1927، كان لا يزال ثمة بعض الاضطرابات بسببنا بمناسبة قرار رد الدعوى الذي كان يراد إلغاؤه، واستقالة طه التي انتهى إلى سحبها، لكن الحياة سارت سيرها الطبيعي بعد كل شيء. وكان هناك حفلات استقبال وحفلات عشاء عامرة، ولم أعد كما كنت في البداية أشعر بالانزعاج من اجتماعات كانت تقتصر على الرجال فقط، وأكون فيها المرأة الوحيدة.
كنا نسكن في شارع المنيا؛ فقد كان أقل غلاء نسبيا من شارع رمسيس. وكنا اشترينا أول سيارة لنا؛ كانت عبارة عن سيارة كرايزلر عتيقة، جددت كليا عندما بيعت لنا، على أنها أسعدتنا كثيرا برغم حالتها وبرغم أنها كانت تقبع أكثر الأوقات في الجراج للأسف! كانت تسهل لنا، خلال إجازات الإسكندرية، كثيرا من النزهات، وخاصة في أبي قير. أما في القاهرة، فقد كنت أستطيع أن «أهوي» طه قليلا برغم احتجاجاته بالطبع؛ ذلك أن العمل كان مقدسا عنده، وكانت النزهات رفاها لم يكن يسمح به لنفسه ... وهناك نزهة من هذه النزهات قمنا بها ذات مساء ولا تزال ذكراها عذبة في خاطري؛ كنا نعود من حلوان، وكنت أحاول أن أصف له جمال هذا الطريق بين الشواطئ الصخرية والماء وضوء القمر على الصخور وانعكاسه الباهت في النيل، وكان يستشعر هذه الأشياء بحساسية عميقة.
دشنت المدرسة الثانوية الفرنسية. وقد جلس طه، الذي كان مستبعدا طيلة الوقت الذي كان فيه مهددا بالصواعق الرسمية، على منصة الشرف. وخلال العشاء الذي دعا إليه الوفد الفرنسي، كنت أجلس على يمين الوزير. كانت العاصفة قد هدأت، إلا أن أمينة المسكينة التي كانت تتمرن منذ شهر مع جوقة تتألف من أربعة أصوات، لم تستطع أن تغني «المجد لفرنسا».
131
فقد كانت تشكو من عسر الهضم، وخاب أملها بسبب ذلك.
كان الطفلان يكبران، وكانا متحابين دوما لكنهما يتشاجران غالبا. وذات يوم أغاظ مؤنس أخته عندما كانا في سقارة؛ إذ رفض الخروج من «السيرابيوم».
132
كان قد نزل إلى كل القبور التي استطاع النزول إليها في حين كانت هي نافذة الصبر بانتظاره.
لكن قلبها كان يظل مفعما بالحنان. فهي تكتب لأمها: «إنني أعتني بحمامة صغيرة، نظرا لأنها وحيدة تماما؛ حتى تتمكن من الطيران دوما.» دوما! يا لقلب الأطفال الرقيق! لقد مس طفل صغير من أيتام القاهرة القديمة شغاف قلبي ذات يوم إلى حد كبير، عندما ذهبت بصحبة غنيم لزيارة مؤسسة للأيتام. فقد أعطوه عصا وطلبوا إليه بغباء أن يقود الفرقة الموسيقية. وكان يحرك هذه العصا بغير مهارة محاولا أن يترنم بالغناء، لكنه كان أقرب إلى البكاء منه إلى الضحك بسبب هذه الحال!
كنا نصحح مسودات الترجمة الفرنسية للجزء الأول من كتاب «الأيام».
133
وكانت ترجمات هذا الكتاب إلى الألمانية والروسية والعبرية والإنجليزية قد صدرت من قبل. ... ثم وقعت المحنة من جديد في مارس 1932. ومرة أخرى كان طه يدفع غالبا ثمن جريمته أن يكون إنسانا حرا. والحق أنه لم يكف أساسا على الإطلاق عن دفع هذا الثمن، إلا أنهم كانوا يريدون سحقه حقا هذه المرة؛ إذ لم يكتفوا بطرده من الكلية التي كان عنوانا لعزتها وكرامتها وقوة نابضة فيها، وإنما أرادوا أيضا إحراق كتبه، فأخذوا منه بيته الذي يسكن فيه، وأغرقوه بالشتائم، وحاولوا أن يحرموه من كل وسيلة للعيش بمنعهم مثلا بيع الصحيفة التي كان يصدرها، وبإنذارهم البعثات الأجنبية في مصر بالكف عن أن تقدم له عروضا للعمل. ولا بد لي هنا من الثناء على الجامعة الأمريكية في القاهرة التي تحدت هذا الإنذار، وطلبت إلى طه تقديم مجموعة من المحاضرات؛ الأمر الذي قدم له دعما لا يقدر بثمن من قبل جمهور شاب كان يتحزب له، فضلا عن كونه أيضا دعما ماديا خفيفا.
وسيتسمر الأمر على هذا النحو ثلاث سنوات؛ أي حتى نهاية 1934، ثم تبدأ نتائج هذه السنوات العجاف بالظهور؛ فمؤنس الذي كان مصابا بالبنيمونيا كان قد اجتاز تقريبا عتبة الخطر، غير أن طه اضطر لملازمة الفراش بسبب المرض ذاته، وكان مرضا في منتهى الخطورة في حقبة لم تكن تعرف بعد المضادات الحيوية فضلا عن أنه يصيب رجلا يعاني في الأصل من محنة مؤلمة. ولم يكن هناك أي دواء أكيد حقا، وكان لا بد من السهر عليه مع الانتظار والأمل والدعاء. كان في فترات هذيانه يتقاتل مع كل خصومه، وكان يناضل طوال الليل ثم لا يلبث أن يسقط على مخدته في إعياء كامل. أيسعني أن أنسى تفاني الدكتور سامي كمال؟! حضوره وعاطفته اللذين كانا يمنحاني الشجاعة؟! لقد أمضى فريد عدة ليال في البيت، ولا أدري كيف استطعت البقاء في صحو كامل إحدى عشرة ليلة، أنا التي كنت أحتاج للكثير من النوم. وأخيرا شفي طه ونجا من المرض، ولم أكن أريد أن أفكر بغير ذلك على الإطلاق.
أما هو، فقد أراد أن يبدأ العمل على الفور. كان يسهم في تحرير القسم الأدبي في صحيفة «السياسة» مقابل ثلاثين جنيها، غير أنه كان شديد الضعف، وكان عليه أن ينتظر قليلا.
واضطررنا إلى الانتقال من بيتنا. كنا نسكن واحدا من بيوت مصر الجديدة المخصصة للموظفين. والحق أننا طردنا منه بالمعنى الدقيق للكلمة، بيد أن شركة هليوبوليس تفضلت وأجرتنا فيلا جميلة لا يفصلها عن البيت السابق غير الحدائق فقط. وهو ما سهل علي الأمور؛ فقد نقلنا كل شيء على دفعات دون أن نضطر إلى الحزم أو اللف أو الرزم تقريبا. وإني لأستعيد ذكرى ذلك الصباح الذي أخذنا فيه طه وما كان يستطيع المشي إلا بصعوبة. كان الأطفال في مقدمة موكبنا، أما طباخنا الضخم عبد العزيز فقد كان يسير في المؤخرة مهيبا كشأنه دائما، حاملا - بعناية وحذر لآخر أداة من أدوات مطبخنا - ماعونا كبيرا ممتلئا بمرق اللحم كنا نعده كل يوم بعناية فائقة. وكنت أستعجل أن أقدم منه لطه كوبا بمجرد أن نصل إلى غرفته الجديدة.
كنت أريدني متفائلة. في اليوم التالي لانتقالنا كنت مع الإنسان الطيب إسماعيل «الجنايني» ننقل أربع أشجار رائعة من العندم الهندي كنت زرعتها ولم أكن أرغب في التخلي عنها. كنا في شهر يونيو وكانت درجة الحرارة ذلك اليوم قد بلغت 39 درجة في الظل؛ لذلك كان الأمر مخاطرة، إلا أن ثلاث أشجار منها بدأت تنتعش من جديد. ويعود هذا النجاح إلى عناية إسماعيل، وربما عاد أيضا للابتهالات التي كان الطفلان يقدمانها بجدية وهما يتوسلان إلى الله للعناية بها!
نعم؛ كنت أريد أن أكون متفائلة، وعكفت على جعل بيتنا الجديد مستحبا. وكانوا يقولون بخبث: «لقد طرد صدقي
134
الدكتور طه من بيته، لكن ها هو يسكن الآن في بيت أفضل من البيت السابق بكثير!»
كنا عزمنا على الترفع والاعتزاز بأنفسنا فلا نغير شيئا من مظاهر حياتنا الأولى. فإذا اضطررنا لمعاناة الحرمان، فإنه لا ضرورة لأن يعرف أحد آخر غيرنا بذلك.
لكن مؤنس أصيب بحمى عنيفة ثلاث مرات. كنت شاحبة أشد الشحوب، وكنت أناضل برغم إصابتي بالتهاب اللوزتين وبآلام العينين وبهزال متزايد. فأرسلنا طه إلى الإسكندرية لقضاء ثلاثة أسابيع فيها، وفعل ذلك أيضا في السنوات التالية. أما هو فلم يمنح لنفسه سوى يوم واحد في عام 1933 ويومين في عام 1934. لم أكن أحب ذلك، ومن المؤكد أن هذا الفراق لم يكن كفراق 1922؛ إذ كنا على بعد ثلاث ساعات بالقطار من بعضنا البعض وكنا نتخاطب تلفونيا، كما أنه لم يكن سيدوم ثلاثة أشهر. ومع ذلك فقد كان يتألم منه مثلما كنت أتألم.
كان يحاول في البداية أن يكتب لي بمرح:
لا يمكن لأستاذ اللغة الفرنسية أن يعطيني علامة جيدة على ما أكتب! فمبدعي (أي رسالته) مليء بالاضطراب، شأنه شأن عقلي على كل حال! وربما كان لهذا السبب بالذات مبدعا وكنت من ثم كاتبا كبيرا!
وكتب مقالا شديد السخرية حول صحة رئيس الوزارة. وقال لي: «عندما لا نستطيع دفع الشر فلا أقل من أن نسخر منه!»
ومع ذلك، ففي نهاية السنة، وخاصة عند بداية العام الجامعي الجديد، كان غارقا في حزن أسود. وقد أسر لي: «أريد أن أكتب كتابا، وسوف أسميه «الجهد الضائع».»
كان يأمل أن يؤسس مجلة مع علي عبد الرازق. وبعد أن نوقش هذا الأمر مطولا، نصحه علي ومصطفى بالتخلي عن هذا المشروع.
كان وضعنا يتزعزع أكثر فأكثر. عندما سأله ماسينيون،
135
في رسالة مفعمة بالود، عما إذا كان على استعداد للذهاب إلى الولايات المتحدة، فقد عانى أشد العذاب. لكنه يكتب لي بعد ثلاثة أيام من التفكير: «لقد أيقظتني رسالة ماسينيون. إنني أستاذ معزول وعالم ممنوع عن العمل، ومن واجبي ألا أشتغل في السياسة، وإنما أن أؤلف الكتب وأسعى وراء الرزق. أما في أمريكا، فإنني سأكون أجنبيا، وسأنظر إلى حياة البلد دون أن أشارك فيها، ولن يكون علي أن أقوم فيها إلا بواجب محدود.»
نعم، أيها المناضل، فأنت لم تكتف قط «بواجب محدود».
لقد بقي له، فيما عدا الكتب، مجلة كان قد أصدرها بالمشاركة مع أحمد حسن الزيات، وهي مجلة «الرسالة»، ثم محنة العديد من المجلات: «الكاتب»، وأخيرا «الوادي » وذكرياتها المؤلمة.
ومع ذلك، كانت الأفكار الجديدة والمفاهيم الجريئة تشق طريقها بفضل إرادته التي لم تعرف القنوط.
16 أغسطس 1975
وصلت لتوي إلى «ميرانو
Merano »، وهي المكان الذي قضينا فيه إجازتنا الأخيرة في أغسطس 1973. ثم ودعنا بحيرة «جارد
Garde » وانتظرنا في «جنوة
Gêne » كالعادة، المركب الذي سيقلنا.
في كل مرة أترك فيها غرفتي أو أعود إليها، ألقي نظرة على الباب القريب من الغرفة والذي كان باب غرفتنا آنذاك. أراه ثانية على مقعده وفي سريره، صغيري المسكين الذي هزل كثيرا. كنت أتوصل أحيانا إلى أن أجعله يجلس على الشرفة الكبيرة المطلة على الحديقة التي تحيط أفقا من الجبال العذبة. على هذه الشرفة أخذنا صورنا الأخيرة. كان مؤنس موجودا معنا بصحبة زوجته وابنته، وكان طه في هذه الصور يبتسم لحفيدته. ففي كل عام، كانت هذه الطفلة تأتي إلى هنا وتسليه بمرحها الجميل وبحبورها الذي كانت تقص به مغامراتها في المدرسة الثانوية وتفعمه حنانا؛ إذ تلبي متعة شخصية بأن تقرأ له نصا كانت تقوم باختياره. لقد كانت تحب دوما أن تقرأ له، وكم كان منظرها يمس شغاف القلب عندما كانت في السادسة من عمرها، في «ترييست
Trieste »، جالسة على كرسي أعلى منها، وساقاها الصغيرتان تعلوان عن الأرض ثلاثين سنتيمترا، وقد ارتسم على وجهها طابع الجد والهيبة وهي تتناول كتابا لتقرأ له.
في ذلك الصيف كان قليل الضحك قليل التغذية، وكانت أمينة هي التي تنجح في جعله يقبل القليل من الغذاء الذي كان يبتلعه.
ويخيل إلي أن مؤنس كان يستشعر، وهو يغادرنا مع زوجته وابنته، أنه لن يرى أباه ثانية. لم أرافقهم إلى الطابق الأسفل كما كنت أفعل عادة، وإنما تابعتهم وأنا أستند إلى الباب بعيني على طول الدهليز العريض. وكنت أشعر بعمق أنهم يؤلفون مجموعة ذات كيان خاص، خلية قد انفصلت عنا.
وعندما اختفوا في المصعد، شعرت نحوهم بحنان هائل مفاجئ في حين كنت أدعو لهم أن يكون طريقهم مستقيما لا تعترضه الأشواك. لقد كانوا يبدون لي أكثر قوة وأقل حماية في آن واحد.
كان طه يحب هذه البلدة . وأسير مع ظل عزيز على امتداد السيل المتدفق والمياه العميقة تتراقص دون توقف على الحصى، وهي تجري نحو نهر «الأديج
Adige » القريب لتضيع في مياهه. كنا غالبا ما نذهب في الماضي لرؤية هذا اللقاء. وكنا، نحن أيضا، نمشي دون أن نتمكن من الوقوف نحو نهاية كنا غير قادرين على تصورها. ولا شك أننا لم نكن نفكر في ذلك عندما كنا نمشي على شاطئ «باسيريو
». كان طه يتوقف من حين لآخر ليصغي إلى خرير المياه الجارية. وكنت أبعد من طريقه الحجارة. هذا الطريق الذي أصبح الآن، عندما نذهب لرؤية الأديج، معبدا، خاليا من الحصى. كان لا بد من قطع الأشجار الجميلة ذات الأوراق الكثيفة. فندق «الإكسلسيور
Excelsior » مغلق الآن، وكنا كففنا عن النزول فيه منذ أربعة أعوام، بيد أننا نحتفظ منه بذكرى غالية. ذات مساء، وكان الوقت قد تأخر بنا، كنا نسرع، بل كنا نكاد نركض. فقد كان جورج لابيرا ينتظرنا منذ ساعتين، ولم نكن نعلم بمجيئه. كان قادما ذلك اليوم من «سيلفا فال جاردينيا
Selva Val Gardena » التي لم تكن بعيدة جدا. ذلك أنه منذ سنتين قدم إلينا من فلورنسا وعاد إليها في مساء اليوم الذي جاء فيه نفسه. أما اليوم فقد قدم ليقضي ساعة مع صاحبه، ولم نكن ندري أن ذلك اللقاء كان لقاء الوداع.
وكيف لا أذكرك أيضا يا ماريا ناللينو،
136
المخلصة الحنون، وقد كنت تأتين كل عام لتعبري عن احترامك وودك لمن كنت تعجبين به، وما أتيت مرة إلا وحملت لي فيها معك باقة من الزهور؟! لم أستطع عندما عدت إلى إيطاليا أن أقبلك؛ فقد رحلت عنا، أنت أيضا، باكرا جدا.
تجتاحني الذكريات القريبة وتزعزعني إلى الحد الذي يصعب علي معه أن أتحدث عن الأحزان القديمة. لكنها أحزان ذات أهمية مع ذلك، وكانت ثورتي كبيرة إزاء الأذى الذي كان بالوسع إلحاقه بإنسان كطه عن وعي وتبصر. لكنني أعتقد الآن، أنه بعد أن خيم الصمت العظيم، وامحت الوجوه الحاقدة والعدوانية إلى الأبد، ربما كف أولئك الذين أوذوا عن الغضب ممن آذوهم ما إن اجتازوا عتبة الحياة البشرية. والحق أن طه كان، منذ عام 1932، يأسف لاضطراره للعمل على قلب خصمه الرهيب صدقي، وقد كتب لي بعد أن كتب مقالا لاذعا:
لا أحب أن أكون قاسيا. وعندما اضطررت لأن أكون كظلك على الرغم مني، فقد كنت بحاجة لأن ألين نفسي. ولو أنك كنت قربي، إذن لوضعت رأسي على كتفك.
وعندما وجه له برقية وهو يدرك أنه على حافة الموت، برقية يبدو أنها لم توضع بين يديه، كان دون شك قد غفر له منذ وقت طويل؛ لذلك سأجهد الآن في أن أستدعي دون أي حقد تلك الساعات التي كانت يائسة إلى حد اعترف لي طه معه بعدها بكثير أنه فكر بالانتحار ... آه! ... لا، لم يفكر فيه زمنا طويلا؛ إذ لم تكن تلك طريقته في مواجهة العقبات. •••
كان يعمل في جريدة «كوكب الشرق» كما يعمل محكوم بالأشغال الشاقة؛ فقد كان يقضي فيها كل ساعات الصباح. وعندما حل الصيف، كانت الحرارة لا تطاق. وكان مكيف الهواء معطلا، كما كان المتطفلون الذين يغيظونه يوجدون دوما عنده في اللحظة التي يكتب فيها مقاله. أمر لا يكاد يصدق! كيف أنهم لم يدركوا أنهم كانوا يسببون له المزيد من التعب بتطفلهم هذا؟! ...
كان هناك ما هو أسوأ من ذلك. ففي أحد الأيام، دخل عليه مجهول لوحده. فبأي بصيرة استطاع طه أن يحدس أن هذا المجهول كان يحمل سكينا؟ إذ سرعان ما ضغط على مكبس الجرس الذي كان موجودا أمامه، فهرعوا إليه في الحال، وكان ظنه في محله!
كان ملاحقا ومشغولا إلى درجة لم يعد يستطيع معها رؤية أصدقائه. واستطاع علي
137
بعد لأي أن يصحبه للعشاء معه ذات مساء بعد نزهة في الجيزة. واضطر لطفي أن يطارده بإلحاح أربع مرات حتى تمكن من أن يقضي معه ساعتين. كان لطفي، الذي استقال من منصبه كرئيس للجامعة عندما عزل طه من منصبه، يشعر بالحزن والمرارة. كان يريد أن يكتب مذكراته، وأن يعود للماضي كي ينسى الحاضر وكي لا يرى المستقبل. ويبدو أن هذه المذكرات لم تكتب .
وأقيمت دعوى على الصحيفة. وذهب طه عدة مرات إلى النيابة العامة. وبعد عودته من إحدى جلساتها كتب لي:
يبدو أنني أهنت الشيخ الأكبر وكل المشايخ - رئيس الوزراء وكل الوزراء - بل ربما أهنت في النهاية كل الناس ... كان ذلك عملا أحمق وشريرا. بل إن المحقق نفسه لم يخف اشمئزازه مما كان يعمله، وكنت أود لو سمعت إجاباتي الساخرة.
وقد وصل توزيع الصحيفة تحت إدارته من 4000 إلى 20000 نسخة. لكن ذلك لم يكن ليصلح من أحوالنا المالية؛ فقد بقيت ساعات النهار مرهقة، واستمرت الخصومات التي لا تطاق مع مالك عنيد، ولم يستطع طه أن يتابع العمل في هذا الجو.
فبدون أي نوع من المساعدات، يشجعه النحاس باشا
138
معنويا من جهة وتقنطه اللامبالاة العامة من جهة أخرى. شرع يعمل بجنون لكي تكون له صحيفته: «الوادي».
139
كان ما يحققه فيها رائعا، لكنه كان عاجزا عن تدبير نفسه في عمل من هذا القبيل. فقد كان يتشاجر مع الآلات التي لم تكن تسير ويشكو من الورق الذي لا يرسلونه له ومن حروف الطباعة التي لم تكن تكفي، ويصطدم بالمخبرين الذين لم يكونوا دوما مستقيمين، وبالبائعين الذين لم يكونوا قادرين على البيع؛ لأنهم كانوا يمنعون من بيع الصحيفة. وكان مضطرا لأن يكتب كل يوم، وأن يستطيع كتابة المقالات الأدبية حتى للصحف الأجنبية في الخارج.
كان متعبا، مرهقا من الزيارات التي لا طائل من ورائها، ومن الثرثرة غير المجدية. وكان مشمئزا؛ فالمصادمات تتجدد كلما تنقل النحاس من مكان إلى آخر، وقد أراد في أحد الأيام أن يحييه، بيد أن مدخل المحطة كان ممنوعا؛ «فأحست نفسي مهانة بشكل عميق ... وماذا؟! رجل يتلاعب بملايين البشر دون أن يلقى أي مقاومة؟ فلتحي الحرية! ولكن لمن هم جديرون بها! ...»
للمرة الأولى منذ أن أصدرت «الوادي» لا أجد الرغبة في كتابة مقال أدبي؛ فطالما أن المصريين لا يريدون أو لا يستطيعون قراءتي، فلأوفر على نفسي إذن هذا العذاب!
لكنه كتبه مع ذلك، مثلما كان يجد الورق، ومثلما كان يسير الآلات ... ولكن، بأي ثمن ؟!
1 أغسطس
يقع علي الآن عبء نفوس كثيرة ... فكم من أسرة تنتظر اليوم أجورها الشهرية من صحيفة لا تقدم أي عائد!
أبقى لحظات طويلة دون أن أقول شيئا. أفكر فيك، وفي الأطفال، وفي الغد، وفي الأمس وأنتظر. ماذا أنتظر؟ مشيئة الله ولا شك!
لن تصدقيني لو قلت لك إنني أعجب لنفسي كيف أكتب كل يوم، تماما كما كنت أكتب ل «الكوكب» السخرية ذاتها والتهكم ذاته. هذا على الرغم مما أعانيه من أجل أولئك الذين أدافع عنهم وضد أولئك الذين أهاجمهم.
وكانت الهموم العائلية تختلط بهذه المصائب؛ فقد كان لا بد من إرضاء الأبوين العجوزين اللذين كانا يائسين من التصرفات السيئة لابنين أخرقين كانا يكدراننا نحن أيضا. وكان لا بد من التدخل ماليا برغم القليل مما نملك! وكان لا بد له، بعد تعب الصحيفة وما تسببه الحرارة من إنهاك أيضا أن يبذل جهدا مضنيا ليضع نفسه في جو همومهما، وأن يتظاهر بقبول الطريقة التي يعللان بها الأمور والتي يتخذان بها مواقفهما. وكان يحدث لنا بعد كل شيء أن نرضيهما فيذهبا مسرورين، «لكن - كما كان يقول - ما أشد ما كان ذلك يؤلمني!»
كان لا بد لشيء آخر أن يؤلمه أكثر، وأن يؤلمني كذلك بقدر ما كان يؤلمه. فقد حدث لنا شيء مذهل أطلق هو نفسه عليه وصف «الشيطاني»: كان تعسا بسببي. فقد وقع، نتيجة الإرهاق والمرض والوضع الفاجع وتمسكه في عزل نفسه عن الناس، فريسة إحدى النوبات السوداء المخيفة التي ما أكثر ما عرفتها! كان إذ ذاك يحبس نفسه وراء صمت شرس مخيف، كما لو أنه سقط في أعماق حفرة لا يستطيع أي شيء على الإطلاق أن ينتزعه منها. كانت حياتي تبدو لي قد توقفت، وانسحقت بلا أمل في مواجهة عزلة مطلقة يفرضها على نفسه، ورفضه العنيد سماع أقل كلمة تريد أن تحاول معونته. قلت له يوما: «لماذا تبعد نفسك عني؟!» فكانت هذه الكلمة مثار الأزمة.
كنت أنا الأخرى كئيبة؛ فقد كان يبدو ظالما قاسيا. ولا شك أنني كنت أنا الأخرى مثله أيضا . ويكتب لي: «أكان علي إذن أن أتألم في حبي أيضا ... إننا نؤلم بعضنا كثيرا. ولم أتصور على الإطلاق أمرا على هذه الدرجة من الشيطانية يسعه أن يتدخل فيما بيننا. فلنرحم أنفسنا. إن أقل شيء يمسني يزلزلك أنت، أنت معنى حياتي، إذن ما الذي يحدث لنا؟! اطويني في جناحك كما كنت تفعلين دوما؛ فلقد أبادتني رسالتك.»
وكنت قد كتبت له: «قلبك الضعيف ومصيرك، كانا لي وسيبقيان. لكن، فلنكف عن أن نتعلل بوهم أن حناني وابتسامتي سيضيئان لك الطريق أبدا.»
لكن الحب كان مع ذلك ثابتا. ويكتب:
أظن أنني سأظل كما أنا بعد كل شيء من أجلك وبفضلك. أسألك الغفران بإخلاص عن كل ما سببته لك من أذى. لكن لا تتألمي لوحدك؛ فأنا ما زلت قادرا على التألم معك؛ لأنني لست بعيدا عنك ... ولو استطعت لأخذت أول قطار كي آتي به إليك وأواسيك، لكني لا أملك الحق في صرف خمسة أو ستة جنيهات في هذا الوقت.
هل أستطيع أن أمنع نفسي من البكاء وأنا أنقل هذه الكلمات؟ لقد كان هذا القلب يستحق كل سعادة الأرض لو أن السعادة كانت توهب لمن يستحقها!
ومر الأسبوع البغيض، وهدأ كل شيء، ولم يكن يفكر إلا بمواساتي:
أمنعك من أن تكوني حزينة، وآمرك بالابتسام. لا تقولي شيئا. أعرف ما ستقولين وأعرف أن علي أن أستفيد من الدروس التي أوشك أن أعطيها. حسنا، حسنا، سوف أستفيد منها. أما الآن، فتعالي إلى ذراعي. أحبك حتى نهاية الحساب.
إنه مؤنس - ولم يكن يعرف بعد كيف يحسب - من ابتدع هذا التعبير ليشير به إلى أعلى رقم يمكن تخيله، كان يقول: «أحبك اثنين، ثلاثا ... حتى نهاية الحساب!»
كنا نذلل الصعوبات ونحن نسخر منها قائلين لها: «أعرف أنك هناك، لكني مع ذلك متماسك. وإني على يقين من أنني سأنتصر عليك ... ويقال إنني كنت أريد أن أكتب لك أشياء عذبة! ... اهدئي، إننا لن نسقط ... وإن حدث وسقطت، فسأفعل كالقطط ... إذ إني سأسقط على قدمي.»
وفي يوم ذكرى زواجنا، ارتكب «حماقة» المجيء لمدة أربع وعشرين ساعة، لكنه لم يستطع الاحتمال.
لم تحمل لنا هذه السنوات الثلاث لحسن الحظ مجرد الخيبات والمرارات. كنت قد خشيت كثيرا أول افتتاح للجامعة بعد هذه الأحداث، ولقد كانت تلك لحظة أليمة في الحقيقة. ومع ذلك، فقد كان ثمة أساتذة أجانب لا يريدون العودة إلى مصر، وكان ذلك مرا ومشجعا في آن واحد؛ إذ أعلن بيرجشتراسه على الفور أنه لن يعود ما دام طه حسين بعيدا عن الكلية. ولم يكن «وادل
Waddell » و«جرانت
Grant » هناك. أما الأساتذة الإنجليز الذين بقوا فقد كانوا ممتازين ومهذبين وودودين. وكانت هناك - من بين سيل الرسائل والبرقيات التي انهالت علينا في ربيع 1932، وكلها رسائل قيمة ومؤثرة - رسائل بليغة الأثر حقا. وسأختار منها رسالتين، جاءت أولاهما من روما، وأرسلها مستشرق اضطهدته الفاشية، هو «ليفي ديللا فيدا
Levi Della Vida »:
140 ... أحزنتني هذه الأخبار بصورة عميقة. إن تاريخ النضال من أجل الحرية العلمية لم يستكمل مسيرته بعد، لكن ذلك سيتحقق يوما ما وإني على اقتناع بذلك، وسيتحقق ذلك بانتصار روح الحرية والحقيقة. إن المأساة التي أصابتكم ستكون عارضة، وإني لعلى يقين من ذلك لأن قضية كقضيتكم، بل أقول كقضيتنا، هي من القضايا التي لم تكن خاسرة في يوم من الأيام. وإني مفعم إيمانا بالمستقبل الذي سيكون لنا دون أدنى قدر من شك ... أو لأطفالنا. وأود أن أكرر لكم مرة ثانية أنني مرتبط بكم بأعظم قدر من الإعجاب وبأعمق الود.
صديقكم
أما الرسالة الأخرى فقد أرسلها أستاذ تاريخ بريطاني قديم كان يعلم في الكلية منذ عدة سنوات. لقد وجه رسالته إلي:
أتساءل باستمرار كيف أنت، وآمل أن تحتملي هذه المحن بالشجاعة التي تبدينها إزاء أسوأ معاملة للرجال ... عندما أفكر بالثورة الجامعية فإنه يبدو لي أنني قد عانيت كابوسا حقيقيا. فكل ما كان مثاليا في فكرة الجامعة كان مجسدا في شخص العميد (لا أستطيع أن أسميه بغير هذا الاسم): البحث النزيه عن الحقيقة، والوطنية النقية الشريفة التي لا تحط أو تهين وطنيات الآخرين، والشخصية الساحرة النبيلة. فلماذا وجهوا للجامعة هذه الضربة القاضية بتدميرهم أهم ركن في هذه المؤسسة؟
وهناك شيء أثر في نفس طه كثيرا برغم تواضعه الشديد؛ فقد أهدى بيرجشتراسه له كتابه حول قراءات القرآن. ويؤكد طه على كلمات هذا الثناء الذي أدهشه بذلك النوع من البراءة التي لم تفارقه قط، ولقد تأثرت أنا نفسي بهذا: «لا كلمة إهداء فحسب، وإنما أقدم كتابي إلى الدكتور طه حسين الذي يناضل في الصف الأول في سبيل تقدم الروح العلمية.» لقد مات هذا الإنسان النزيه بصورة مأساوية في العام التالي في جبال بافاريا.
وسرعان ما قدم إليه وفد من الطلبة: «أنت معلمنا؛ فلا تتخل عنا.» وخصص لهم طه صباح كل يوم جمعة للاجتماع بهم ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
كان تعلق الشباب به دائما. فحينما ألقى محاضرته الشهيرة عن فاليري في الجامعة الأمريكية، كانت القاعة التي غصت بالحضور في هياج كامل، وكان حضور بعض الأزهريين في هذه القاعة حدثا ممتازا. كانت عاطفة الجماهير تعبر عن نفسها بطريقة مسلية؛ فقد تعرفت عليه ذات يوم فتاة عند خروجه من المحطة، فتأملته مليا، ثم صاحت بإعجاب: «هو زي القمر!» عبارة تعبر عن إطراء بليغ باللغة العربية الدارجة. وكان هناك واحد من تلاميذه لم يكف عن تشبيهه بالقمر، لا بالبدر كما هو واضح.
لم يكن الشباب والأجانب وحدهم من كان يدعم الرجل الذي كان يعمل على تحطيمه أعداء أقوياء. فعندما كان يسير في الطريق، كان المارة يسعون إليه ويعبرون له عن تعاطفهم معه ورغبتهم في أن ينتهي كل ذلك على خير. وكان يستطيع بعد ذلك أن يقول: «إنني أملك على الأقل العزاء المعنوي؛ لكوني على ثقة من أن الجمهور لا يتحول عني.»
وخلال جنازة والد زوجة عمر مكرم، كان من بين الجماهير التي أحاطت به مشايخ كانوا يقبلون يده.
أما الأمير يوسف كمال
141 (من كان يظن ذلك؟!) فقد دعاه للعشاء، وكان هذا التصرف أقصى درجة من المجاملة والتلطف.
في ديسمبر 1933، كان الاتحاد النسائي
142
يحتفل بأول دفعة من خريجات الجامعة المصريات، وكان ذلك انتصارا للطفي ولطه اللذين كانا قد فتحا أبواب الجامعة
143
أمام المرأة المصرية. كان طه يقدم الأربعة الأوائل من حملة الإجازة في الآداب وسط عاصفة مدوية من التصفيق، وكنت أرى، في كل مرة كان يهتف فيها باسمه، وجوها لم تكن تكظم غيظها.
من بين المصاعب التي أثيرت في وجه دخول الفتيات للجامعة، كانت هناك صعوبة تؤلم لطفي كثيرا. فقد كان الدستور يعطي لكل مصري الحق في دخول الجامعة، ولكن اللفظ الذي ورد في النص كان مذكرا؛ ومن ثم، فهو لا يعني النساء. لكن طه دفع الأمر إلى الأمام شأنه دوما في مثل هذه الحالات قائلا: «ألا تعني كلمة «المصريون» مجموع سكان مصر؟!» فأجاب لطفي: «دون أي شك.» فقال طه: «إذن، ألا يعني ذلك النساء أيضا؟!»
وخلال الأسابيع الكئيبة التي قضاها في الإسكندرية، كانت السيدة هدى شعراوي
144
التي أرادت أن تعينني في لجنة السيدات في الاتحاد النسائي، لطيفة جدا إزائي وإزاء طفلي. كنا نقيم في فندق البوريفاج، وكان بيتها قريبا جدا؛ فكنا نلتقي كل يوم، ولم يمض يوم دون أن تبدي نحوي لفتة لطيفة. إن الصداقة التي كانت تمنحني إياها هذه السيدة النادرة، مثلما كانت تمنحني إياها أيضا سيدة أخرى نادرة هي زوجة الزعيم سعد زغلول
145
بسخاء وعفوية ستبقى لها في نفسي دوما ذكراها العذبة. وعندما أقول بعفوية، فإنني أعني ما أقول.
وكان النحاس باشا الذي كنت بالكاد أعرفه، يقوم بزيارتي كلما حضر إلى الإسكندرية، ويحمل لي معه أخبارا عن طه. وفي أحد الأيام، وكان حضوره يقلب الفندق عاليه سافله كالعادة. كتبت إلى طه: «فجأة كان المصريون يختفون كأنما سقطوا في فخ، في حين كان يبدو لي وكأن عدد الخدم قد تضاعف.»
كذلك كان الدكتور سامي كمال يأتي لزيارتي، ولا أدري كيف عرف يوم عيدي، ولقد فوجئت حقا برؤيته بصحبة الفتاة التي كانت في ذلك الحين مجرد سهير القلماوي
146
تحمل علبة فاخرة من الشوكولا وإناء رائعا عسلي اللون. لقد فوجئت بذلك بقدر ما سررت منه.
وكانت لفتات مصطفى وعلي عذبة أيضا. فقد كانا يصحباننا من حين لآخر لتناول الغداء في أحد المطاعم.
وكان هناك أيضا خليل مطران.
147
وكم كنت أسعد بتبادل الحديث مع هذا الشاعر المرهف حساسية، ألأنه شاعر كان يحسن اختيار الدمى التي كان يحملها للفتاة الصغيرة من شارع رمسيس؟!
وفي عام 1933، تعزينا قليلا لوجود كتاب «على هامش السيرة» تحت الطبع. وكان لا بد من ساعات من النقاش مع المكتبة الناشرة للحصول على مائة جنيه على دفعات (وقد قال لي أحدهم أمس: «إنه أجمل كتبه.» إن هذا التفضيل نادر، غير أن كل إنسان يختار لنفسه وسط هذا الحصاد الوفير).
أما الطبعة الفرنسية الأولى من كتاب «الأيام» فقد ظهرت في أكتوبر لدى منشورات «إكسلسيور
Excelsior ». وقد وقعت غلطة إملائية على غلاف الكتاب، كما كان هناك ما يشبه الغش فيما يتعلق بعدد النسخ المطبوعة لحسابنا ولحساب الطبعة الشعبية لدار النشر، على أن نشر الكتاب كان بحد ذاته مثيرا للارتياح.
كنت أحاول تسلية طه والترويح عن نفسه، فجعلته يتعرف على السينما الناطقة. واهتم بها وكان يتسلى فيها أحيانا وكان ممثلوها مثل «ريمو
Raimu »، و«أندريه لوفور
André Lefaur » يمنحانه لحظات طيبة.
وكنا نقرأ ... كلما كان ذلك ممكنا، وأظن أنني قرأت له في تلك الفترة «الطباق الموسيقي»
148
Contrepoint
و«حية من الريش».
149
كان بوسعنا الاستماع للموسيقى على نحو خاص، وكان ذلك نعمة؛ فقد استمعنا من فرقة ألمانية إلى دون جوان ثم إلى فيدليو. وكان عوض معنا مساء حفلة فيدليو، وقد دهش من سلوك طه الذي كان مفتونا، غائبا كليا عن القاعة وعن كل ما كان يحيط به، منفعلا حتى النهاية بحيث إنه لم يحاول أن يفهم كلمة واحدة من النص، مستسلما بكليته لهذه الموسيقى القوية والعذبة.
وكانت فرحتنا عظيمة عندما التقينا «بجاك تيبو
Jacques Tibaud »،
150
الذي كنا نحبه حبا جما.
وقد حدث أن عازف بيانو مجريا أعمى قد عزف، من بين القطع التي عزفها، سوناتا شوبان (العمل 35)، فاهتم طه بأن يقارن بين الأداء الذي قدمه هذا العازف، والأداء الآخر الذي قدمه كازادسوس قبل عدة أشهر عندما عزف السوناتا نفسها، فوجد أن الموسيقى تحت ضربات كازادسوس، رحبة مهيبة، في حين أن المجري كان يبدو وكأنه يحفر حتى أعمق أعماق النفس البشرية.
وفي ربيع 1934، وكنا على حافة الدمار، قمنا بتصرف جنوني؛ إذ اشترينا آلة فونوجراف!
وكان هناك أيضا تغريد الكروان الذي كان يؤثر في طه كثيرا، وعندما كنت في الإسكندرية فإنه كان، إذا ما ترك على سجيته في المساء ليستريح على شرفة مكتبه، يستمع إلى هذا الصديق المخلص:
ها هو ذا طيري العزيز الذي يملأ الفضاء بغنائه الفرح منذ بدأت الكتابة لك. إن ذلك يغمرني بالفرح.
ولم يفتقده قط في حدائقنا المتتابعة. كنا نسمعه جيدا في رامتان، وكان يبدو أكثر قربا منا عندما يخترق غناؤه صمت سمائنا الرحبة في لحظات المغيب السريعة.
لم نكن بطبيعة الحال سجيني مصاعبنا. لقد أحزننا موت النحات مختار
151
في الثانية والأربعين من عمره. وعندما تقرر بمبادرة من السيدة هدى شعراوي والسيدة بقطر إقامة متحف لمختار،
152
فقد ساند طه هذا المشروع بإخلاص عميق.
أما موت حافظ إبراهيم فقد تحدث طه عنه كثيرا. لكنه كتب لي يوم وفاته:
أقضي يومي في حزن لا طائل من ورائه؛ ذلك أنه كان أكثر الناس مرحا، بيد أن موته يغلفني بحزن يكاد يكون مبتسما ... هناك أناس لا يموتون كليا، وخاصة منهم الشعراء. لن أستمع أبدا لصوت حافظ، لكني سأستمع دوما إلى روحه، وسأراها في كل مرة أشعر بالفرح أو بالحزن، وهو ما يعزيني قليلا.
ثم نتلقى من فرنسا خبر هذه المأساة، وأعني بها مقتل «بول دومير
»،
153
الذي أثر علينا بوجه خاص. ففي احتفالات الذكرى المئوية الرابعة لتأسيس الكوليج دو فرانس،
154
كان طه يلقي خطاب الجامعة المصرية، وكان كل مندوب يلقي خطاب جامعته في جلسة مهيبة في القاعة الكبرى بجامعة السوربون. وعندما وصلنا، طه وأنا، إلى المنصة الكبرى، نزل بول دومير درجات المنصة وجاء إلينا، ثم تناول ذراعي طه بذراعيه؛ فصفق الحاضرون تصفيقا بلغ من القوة حدا أثار ذهول أمي التي كانت تستمع إلى الاحتفال منقولا عبر الإذاعة. واستقبلنا كذلك في حفل الاستقبال بقصر الإليزيه بالود الرقيق نفسه. ولقد كنا نفكر بكل ذلك في غمرة حزننا بسبب هذا الموت الظالم.
كانت هناك وفيات ظالمة أخرى. فالأحداث التمهيدية للمأساة الكبرى التي كانت على وشك أن تقع لم تكن غائبة عن هموم طه ومشاغله فيما أعتقد.
وأخيرا، لماذا لا أعترف وأقول إنه بدلا من أن يحتمي وراء همومه الخاصة لم يكف قط عن بذل وقته لأولئك الذين كانوا يطلبونه منه، وعن بذل تشجيعه لأولئك الذين كانوا يبحثون عنه عنده، حتى ولو لم يكن يستطيع أن يقدم سوى المودة كما فعل مع السنهوري مثلا عندما وجد نفسه محطما تماما ومعزولا كليا لدى إحالته على المعاش بصورة تعسفية؟! لقد بذل طه كل جهده ليجعله يجتاز هذه الأزمة. لقد استبقاه للعشاء، ثم أخذا يثرثران بعد ذلك حتى الساعة الواحدة أو الثانية صباحا. إن طه، وهو الذي لم يكن ينجز أشغاله اليومية دائما، لم يكن يستعجل اللحظة التي يفترقان فيها.
على أنه كان يجب التخلص من هذه الحقبة من حياتنا التي سميتها «المجاعة»؛ فقد استقال صدقي في سبتمبر 1933. وكان لهذا الإنسان الصلف كلمة بدت لنا عذبة الرنين: «إن الدكتور طه لا يعوض في الجامعة.» كما صرح في مقابلة أجريت معه. على أن خلفاءه كانوا أعداءنا على الأقل مثلما كان هو عدونا. وأخيرا أصبح نسيم باشا رئيس مجلس الوزراء
155
في نوفمبر 1934. وأعيد كرسي الجامعة إلى طه في شهر ديسمبر. لقد كانت فرحة طلابه الذين حملوه منتصرين في ساحة الجامعة متفجرة وغامرة.
لكن الانتصار مر؛ فقد كان طه يحمل الصحيفة على ساعديه وحده، مثقلا بالديون، ولم يكن يتلقى أي مساعدة. وكان ثمة حديث عن تعويض كان يمكن أن يسد ثغرة لو أنه جاء على الأقل. ويتخبط طه في تصفية الصحيفة التي كانت عملية أكثر من صعبة. كان متعبا متقززا، وكان الناس يتوافدون علينا. لا شك أنه كان من بينهم مخلصون، ولكن كم كان أولئك الذين تحاشونا من قبل بحرص أكثر الناس الآن عجلة في المجيء إلينا! كانوا يجلسون على راحتهم ويثرثرون ويماحكون ويعبون كيلوجرامات عديدة من القهوة، ونحن مرهقون.
في الساعات الأخيرة من تلك السنة العصيبة، كنت أشعر أنني مثقلة القلب، قلقة إلى حد ما ... لكني لن ألعن هذه الأيام السيئة؛ ذلك أننا كنا خلالها، أربعتنا، موجودين نقف على أقدامنا بصلابة.
8 سبتمبر 1975، ريفا دل جاردا
لم تكن محطة التوقف الأخيرة قبل الوصول إلى جنوة سوى إقامة قصيرة. وهناك أيضا كانت غرفتي بالقرب من «غرفتنا». وصلت إلى هذا المكان مع مؤنس الذي تركني في الغداة بعد أن خصني بالأسبوع الأخير من إجازته. كان ثمة حضور عذب على طريقي المتوحد، كما كانت هناك باقة من القرنفل الأحمر تنتظرني تحية لطه أكثر مما هي تحية لي. لم يكن الجو رائعا؛ فالبحيرة رمادية وكذلك السماء، بيد أنه عند بزوغ الصباح، كانت السماء تغدو للحظة وردية رقيقة على القمم كما لو كان ذلك وعدا بنهار أشد إشراقا وبسماء أخرى!
اليوم عيد ميلاد ابننا. سرعان ما أحب طه حتى العبادة هذا الصبي الذي منحه الكثير من الأفراح وفخرا يبقى رصينا على الدوام. لم يستطع أحد أن يجعل طه يضحك من أعماق قلبه مثلما عرف هذا الصغير الذي غدا بعد ذلك هذا التلميذ الجاد في معهد المعلمين العالي
156
بشارع «أولم
Ulm ».
وأتلقى من أمينة رسالة تحكي لي فيها عن إجازتها في اليابان. فقد رأت لدى سفير سابق لليابان في القاهرة، كان قد ظل صديقا لمؤنس، ترجمة يابانية لكتاب «الأيام» صدرت مؤخرا في حلة قشيبة كما تقول، مزينة بصورة جميلة لطه. كانت سعيدة جدا بذلك وكانت تعرف أنها تسعدني بما ترويه لي؛ فهذه الطفلة الرصينة جدا لم تكن تكشف عن مشاعرها. ومع ذلك فقد تركت نفسها تقول لي عندما كنت في باريس: «إنني (هي) الوحيدة في الأسرة التي لها يد أبي.» وكان ذلك حقا. فيداها رائعتان أكثر دقة، بالطبع، من يدي جدها الذي قيل لي عن يديه إنهما كانتا جميلتين.
أينما حللت يعذبني هذا الجو الرمادي الراكد. إني بلا شجاعة. كان الجو جميلا جدا قبل سنتين. لكن إرهاق طه كان كبيرا؛ كان يريد أن يكون ممددا على الدوام، وكان ذلك مخالفا لأوامر الطبيب. ولقد اضطررت لخوض معركة حقيقية لكي أجعله يبقى، ولكن لا لوقت طويل للأسف، مستندا إلى أهرام من المخدات، ومعركة أخرى ليبتلع عدة قطع من تفاحة كنت أقطعها له قطعا رقيقة جدا، وكانت أعصابه تثور كلما كان الراديو غير واضح الصوت، كما كان يتعب بسرعة عند القراءة. لكن هذه الساعات كانت ثمينة للغاية؛ ذلك أنه كان موجودا.
كان موجودا. هنا سمعته للمرات الأخيرة يقول لي من سريره: «عودي، عودي.» فقد كنت أبقى كل مساء حيثما كنا على الشرفة فترة من الوقت أتأمل الليل، وكان يخشى أن يؤذيني البرد عندما كنت أطيل البقاء. وكان يلح: «قلت لك: عودي، عودي.» وما زلت أتأمل كل مساء الجمال المثير لليل نقي جليل على الريفا، وأتوجع حين أصغي في أعماق قلبي لصوت الحنان الذي سكت.
11 سبتمبر 1975
كان المساء جميلا. سرت على درب «ترانتو»، وهو الدرب الذي يمر عبر «آركو
Arco » والذي كنا نسير فيه في أغلب الأحيان للذهاب إلى «بينزولو
» أو إلى بولزانو. وكنت أراك، آه كم كنت أراك! لقد خيم الليل على الجبال. أحب البحيرة، لكن الجبال تأخذ بمجامع قلبي وأسير مستغرقة غائبة.
قبل سنتين، كنا نقضي الليل في «برجام
Bergame ». بينما كنا عائدين إلى جنوة، كان أليندي
157
قد قتل. كنت تستريح في سريرك، وكنت أتأمل في الليل موكبا رائعا، شبه صامت، إلا من كلمات: أليندي، أليندي، شيلي حرة. كلمات كانت تضع حدا لصمت مطلق عجيب. وكان هناك مشاعل متباعدة تضيء لافتات حمراء عريضة كانت تمر. لا صراخ، ولا انحراف في الصفوف، ولا إشارات. كانوا يسيرون وكانوا يقولون: «أليندي، شيلي حرة.»
منذ سنتين وشيلي ليست حرة، في حين يتألم أربعة آلاف سجين في السجون ... ولكن سيأتي يوم ...
لم يبحث طه عن الشعبية قط، بل كان يحدث له أحيانا ألا يشجع الناس على ذلك. لكن الجميع كانوا يتحسسون استقامة هذه الحياة ولا شك في وضح النهار، وهذه الشجاعة المعنوية والجسدية، وهذه التصرفات الحرة الكريمة. ولم يحدث لي قط أن التقيت بإنسان بقي غير مكترث به؛ إذ بمجرد أن يقال له «السيدة طه حسين»، تبدو منه حركة خفيفة ونظرة سعيدة، فخورة إلى حد ما، تعبر مباشرة عن إعجاب لا حد له بالإنسان الذي أحمل اسمه.
بدأ يساعد طلبته ويساعد الشباب الذين كانوا يبدءون مهنة الكتابة أو التعليم، أولئك الذين كانوا ينسون في أوضاع لم تكن رواتبهم فيها تكفي حاجاتهم، أولئك، واللواتي خاصة، الذين كانوا ينتظرون زمنا طويلا جدا معونة لا غنى عنها. ما أكثر المقدمات التي كتبها لكتب الكتاب الجدد! وما أكثر الجهود التي كان يبذلها دون أن يقنط! ولأكن عادلة بحق المسئولين أيضا؛ فنادرا ما كانوا لا يلبون طلبه. إنني لا أعرفهم جميعا، فضلا عن أنه لم يكن يحدثني عن هذه الطلبات قط إلا إذا كان بوسعي أن أكون ذات فائدة.
كنت معه يوم جاءوا يطلبون إليه التوسط في أمر يستحيل تحقيقه على نحو مأساوي؛ فقد حكم على عدد من مرتكبي جرائم القتل بالإعدام. وقبل عدة ساعات من التنفيذ، عند العشية، كان ثمة امرأتان تلحان على مقابلة طه. كانت أم أحد المحكوم عليهم وأخته يرجوانه الحصول على عفو عن المسكين! وكان ذلك يمزق القلب. لقد كتب لي طه يوما: «هو ذا الألم الحقيقي: أن تكون لدى الإنسان الرغبة ولا تكون لديه القدرة.» لقد عانق بعض هؤلاء الرجال الجلاد الذي كان يتهيأ لإعدامهم والذي لم يكن يكرههم.
لاحقتني هذه الحادثة زمنا طويلا. لقد قال عبد الناصر لطه حين كان يحدثه عن إدانة الإخوان المسلمين: «صدقني، لقد مضت علي ليال عديدة لا أستطيع فيها أن أنام.»
كان طه يقدر تعلق المصريين وغيرهم به حق قدره. أما الخصوم الذين لم تكن عزيمتهم تفتر فقد كان لا يهتم بأمرهم، ولم يرد قط تقريبا على ما وجه له من شتائم شخصية.
ولقد بدا لي يوم 31 أكتوبر 1973، عندما أقيم له مأتم مهيب في الجامعة للمرة الأولى في تاريخها أنه لم يكن هناك أعداء له. كنا نشارك في ثناء جماعي متعاظم، ويكاد المرء أن يقول إن خمسين عاما من حياة مصر كانت تستعاد في الذكريات وفي القلوب. كان ذلك مثيرا لا سيما أن الصمت كان مطلقا؛ ففي القاعة الكبرى المكتظة، لم نكن نسمع حتى خطوات الناس الذين كانوا يدخلون.
وفي الخارج كتبت على اللافتة التي مدت فوق النعش هذه السطور التي كتبها توفيق الحكيم:
لم يرد أن يترك روحه تغادر الحياة قبل أن يغادر اليأس روح وطنه.
158
وقبل عشرين عاما من ذلك كتبت لأمي:
إننا نصنع على كل حال، فيما وراء مشاغلنا اليومية، أشياء ستبقى ولن يستطيع أحد فيما أظن أن يقوضها.
يمنعني الحياء من وصف ما كانت عليه احتفالات الذكرى التي تتابعت، منذ احتفال جمعية الشبان المسيحيين
159
البسيط والمؤثر حتى الأيام المذهلة من 26 إلى 28 فبراير 1975، وفي المقدمة من كل ما كان يقال، كانت هناك كلمتان تتكرران بلا توقف: «شكرا، شكرا يا طه حسين.» كان ذكر هذا الاسم بلا كلل يبدو لي وكأنه خفقان قلبي المضطرب نفسه، ذلك القلب الذي كان يخفق بشدة، مستعدا للتوقف.
وما إن أصبح طه عميدا من جديد، عميدا كان العزيز «جرانت» يحبه حبا جما، حتى لم يعد يسمح لنفسه بأي لحظة من الراحة، وسوف يستمر الأمر على هذا النحو خلال السنوات التالية. كانت أنواع الأفكار كلها تدور في رأسه، وكان عليه أن يضعها موضع التنفيذ. ولقد باتت الاقتراحات والإصلاحات والإنشاءات التي قام بها خلال العديد من السنوات معروفة جيدا من الجميع. بات معروفا أنه ضاعف من عدد المدارس، وأنه أسس المعاهد والجامعات ... إلخ. كما أن كتبه تشهد على جهده؛ فقد صدر الكتاب السابع والثلاثون في عام 1945، في حين أنها تقرب اليوم من خمسين كتابا. أما من محاضراته، فلم يبق للأسف منها سوى المقالات التي كتبت عنها، كما بقي منها، بالنسبة إلى الذين استمعوا إليها، سحر صوت جليل وعميق وواضح كانوا يصغون إليه إصغاءهم للموسيقى، وأسلوب لم يكن ثمة ما يوازيه. وقليل من الأشرطة التي سجلت عليها هذه المحاضرات ما احتفظ بهذا الصوت حقا. وإني لا أكاد أتعرفه عبر هذه الأصوات القاسية المبحوحة أحيانا التي تخرج من هذه الأشرطة ، وآسف لذلك أشد الأسف. وإني لأود لو يتم الاحتفاظ منها بأكثرها أمانة لهذا الصوت فقط.
كنا قد تركنا مصر الجديدة التي كانت بعيدة جدا حقا، لنستأجر بيتا في حي الزمالك ما لبثنا أن تركناه أيضا، بعد وقت قليل. وفيه سنتابع درب الشر الذي سيفقدنا صديقنا العزيز المرصفي، الرفيق المرح الذي امتزجت حياته بحياتنا منذ البداية. عندما رأيته للمرة الأخيرة قبل ثمانية وأربعين ساعة من النهاية، كان قد تغير إلى درجة كنت لا أستطيع أن أتعرف عليه بها لو أنني مررت من جانبه عابرة في قاعة المستشفى. وعندما غادرنا غرفته تابعنا بنظراته حتى أغلق الباب وراءنا. كانت نظراته المفعمة بالحب محزنة إلى الحد الذي استحوذت فيه علي زمنا طويلا. وكان الدكتور سامي يشرف عليه بإخلاص لا يعرف الكلل، وهو إخلاص لم يكن يدهشنا على كل حال.
تأخرنا كثيرا عن زيارة فرنسا، وأخيرا سافرنا إليها في نهاية شهر يونيو، واستطاع طه أن يستريح وهو يكتب عدة أسابيع قبل انعقاد مؤتمر المستشرقين في روما.
160
وعدنا لنعثر ثانية على الغابات والمروج في «دوفينيه
Dauphiné »، ومغيب الشمس الجليل على القمة البيضاء في «سالانش
Sallanches »، والذي كان أكثر جلالا: «كومبلو
Combloux ». جاء توفيق الحكيم ليقضي معنا عدة أيام في سالانش وليمارس على شاطئ البحيرة الصغيرة الصيد بالصنارة. لم يكن يصيد أية سمكة! وإنما كان يعلق الشص في عروة سترته معلقا: «لقد اصطدت نفسي!» وذات يوم، بينما كنا نتنزه، أراد أن يقطف لي بعض النباتات التي كانت مزروعة على حافتي الدرب، وكانت عبارة عن نبات الحريق، وهو نبات شوكي.
وفي «آنيسي
Annecy » بدأ طه غرامياته مع البحيرات، وكذلك مؤنس. فقد كانا يبقيان ساعات طويلة على حافة الماء، وكان مؤنس يشير إلى كل الأسماك التي يلمحها، ولا أدري أي نوع منها كان يعمده باسم «كريكيتش»! وسيبقى هذا الاسم ذكرى من ذكريات الأسرة.
كنا في روما في شهر سبتمبر، وفي أوج الحكم الفاشي، وكنا قلقين إلى حد ما، لكن ذلك لم يمنعني من السير مع الطفلين طيلة النهار. وكان افتتاح المؤتمر الرسمي قد تم في «كامبيدوليو
Campidoglio »
161
مع تقديم السلاح تحية لدى مرور كل وفد. وقد استقبل الدوتشي في قصر فينيسيا رؤساء الوفود، وكنت اصطحبت طه بالطبع لكني لم أكن عضوة الوفد، إلا أنه سمح لي بالدخول وقادونا إلى قاعة بسيطة داكنة اللون. وكان المطران تيسيران
162 «لم يكن قد أصبح كاردينالا بعد» يعرف طه معرفة جيدة. فأخذه من ذراعه وقال لي مبتسما: «لا تقلقي! سوف أعيده لك!» لم أكن أشعر بالراحة في هذه القاعة غير المضيافة! وبدا لي الوقت طويلا حتى اللحظة التي رأيتهما فيها يعودان. وكان الكاردينال تيسيران أيضا هو الذي قدم طه إلى البابا بيوس الحادي عشر. كان بيوس الحادي عشر نفسه مستشرقا. وكان قد أراد استقبال مؤتمر المستشرقين في «كاستيلجاندولفو
Castelgandolfo ». وقد وجه لطه كلمات في منتهى الرقة كما وجه إلي مثلها، أنا التي لم يكن لها أي حق فيها.
ومنذ الجلسة الأولى للمؤتمر تنازل «ناللينو
Nallino »
163
عن رئاسة القسم لطه. ولم يسبق أن حدث مثل هذا الأمر إطلاقا. وعندما روى لي طه هذا الثناء من أستاذ عريق على من كان تلميذه الشاب، أضاف بشيء من السعادة والكآبة: «إنني أشيخ!»
كان الشيخ مصطفى معنا، ويمكن القول إن أحدنا لم يكن يفارق الآخر. ولدي صور تمثلنا جميعا في ميدان روما أنظر إليها الآن بابتسامة حزينة. كان هذا الصديق الذي لا مثيل له قد نزل في فندقنا المتواضع لكي يبقى بالقرب منا. كنا أربعة، بالإضافة إلى فريد. ولم تكن المصاريف مغطاة إلا بالنسبة لاثنين فقط، وكان علينا أن نتخلى من ناحيتنا عن الفنادق الفاخرة. وعندما انتهى المؤتمر، فعل مصطفى الأمر نفسه عندما ذهبنا معا إلى فلورنسا. معا، نعم، لكننا وصلنا منفصلين على الرغم منا. ولا أدري كيف حدث أنه عند انطلاق القطار استطاع مصطفى أن يتسلق وسط الزحام عربة القطار. وما زال وجهه المذعور يتراءى لي على باب العربة، وإشاراته الآسفة في حين كان القطار يسير ونحن نصيح به أن ينتظرنا حتى القطار التالي. وعندما دخلنا محطة فلورنسا، كان هناك حاملا بيده باقة من الزنبق الأحمر .
وصعدنا إلى فييزول في الغداة. وبينما كنا نستريح ونتناول الشاي على شرفة جميلة، رأينا كتلا متراصة من الغيوم تغطي السماء كمجدلة تظهر وتتقدم فجأة بسرعة لا تصدق. وكانت تلك الظلمات السائرة تبدأ أجمل عاصفة رأيتها في حياتي؛ فقد هطل المطر مدرارا عنيفا، فأعارونا مظلات، لكنها لم تغننا شيئا، ثم أعادتنا سيارة أجرة عثرنا عليها أخيرا إلى فلورنسا شبه مبللين.
عندما عدنا إلى مصر، واجهنا جمهورا من الزوار بلغ من الكثرة حدا أني كتبت لأمي: «لو لم نكن نعرف هؤلاء الناس على حقيقتهم لكان بوسعنا القول إنهم يحبوننا بشدة.» غير أن البعض منهم كان يحبنا حقا.
كان مرسى الإسكندرية حافلا بالسفن الحربية، منذ ذلك الوقت.
وغدت الوزارة التي كان الإنجليز يدعمونها وحدهم مكروهة من الشعب إلى حد كبير. وأغلقت الجامعة أبوابها على إثر اضطرابات خطيرة؛ فقد أطلقت النار على الطلبة، ولم يكن بوسع طه أن يحبذ هذا التصرف. وبسبب ذلك غضب عليه نجيب الهلالي،
164
الذي كان مع ذلك صديقه، فترة طويلة.
وانتقلنا من بيتنا مرة أخرى،
165
لكننا سنبقى هذه المرة مدة عشرين سنة. وكان لا بد لذلك من أن يعزيني، فقد كنت بدأت أتعب قليلا إزاء الأواني التي كانت على حال من الفوضى والثياب التي يزداد انتفاخها - كأنما ذلك عن قصد - كلما حاولت إدخالها في الصناديق، والأوراق القديمة التي كنا نمسها ونحن نرتجف.
كان البيت الواقع في شارع رمسيس بيت السنوات الأولى الضاحك. أما بيت شارع البارودي، الذي أصبح شارع سكوت مونكرييف في الزمالك، فقد كان في نظر طه البيت الكامل.
166
كان بسيطا غير كبير. وقد وسعنا من القاعة المطلة على الحديقة بحيث تضاعفت مساحتها. كانت هذه الحديقة لطيفة، معزولة عن الطريق، وتفصل بين مدرسة الفنون الجميلة وحدائق أخرى. كان فيها قليل من الزهور وقليل من الأشجار، وأرض معشوشبة بلا ممرات سوى ممر واحد مبلط في أسفل عدة درجات تنزل من القاعة، وكان ثمة أوراق خضراء وجنبات معترشة تتسلق الجدران الآجرية حتى تصل إلى الشرفة الخشبية. أما المدخل فضيق وطويل يقع المكتب على يساره، وغرفة الطعام والقاعة اللتان لا يفصلهما شيء على يمينه، وثمة درج خشبي في قاع الدهليز يفضي إلى غرف النوم. وكنت قبل التوسيع قد جعلت المكتب في غرفة تقع على المطل، وكان جميلا جدا، بيد أن طه كان يستقبل كثيرا من الزوار، وكان الصعود إلى هذين الطابقين يتعب البعض منهم. وكنت أغتاظ كثيرا عندما كان «جوغيه
Jouguet »
167 - الذي لم يكن شابا على الإطلاق - يصر على الصعود، في حين كان طه على استعداد تام للنزول إليه. لكنه كان خطيرا أيضا إلى حد ما؛ أولم نكتشف ذات مساء حية نائمة بهدوء على الدرجة قبل الأخيرة من الدرج الثاني وعلى مسافة خطوتين من غرفة مؤنس؟ كنت مذعورة، لكن مؤنس الذي كان يدرس وراء مكتبه بدا هادئا تماما مثلما بدا أيضا مساء الزلزال الأرضي عندما استيقظت مذعورة وصرخت: «مؤنس! هناك جرذ في غرفتي.» لكنه كان بالقرب مني يقول لي بهدوء: «لا يا أمي، هذا ليس إلا زلزالا أرضيا.»
على أنه بعد فحص هذه الحية في المختبر تبين أنها من نوع غير سام، وبعد التفتيش بدقة على السطح، لم نعثر على شيء آخر.
وسرعان ما شهد هذا البيت حياة مضطربة. فقد كانت أيامنا تلتهم بسرعة فائقة، إلا أن ذلك كان أخاذا، وخاصة تلك اللقاءات التي كانت تتم بوجه خاص مع أناس قادمين من خارج مصر والتي كانت تزداد بنسبة مثيرة. وكان ينتج عنها محاورات خصبة بالنتائج وتبادل الأفكار وإسهامات مختلفة بقدر ما كان ينتج عنها أيضا حجارة جديدة من أجل البناء الذي كان طه يتابع إنشاءه بكتبه ونشاطه ... حجارة جديدة للآخرين أيضا ولا شك.
وكان الطفلان يقاسماننا هذه الحياة الخصبة؛ فقد كانت أمينة تبدأ دراساتها الجامعية، وتبعها مؤنس بعد ذلك بسنتين.
وكانت آحاد الزمالك تتضخم، وكان من الصعب أحيانا إنزال كل الناس في البيت. ويبدو لي أننا كنا مسرورين بهذه اللقاءات التي كانت تجري في جو من الود والبساطة، وكان ثمة أصدقاء جدد ينضمون إلى الأصدقاء القدامى. ولم تكن صداقتهم في أغلب الأحيان تضيع خلال سنوات الحرب القادمة وحتى عودة السلام.
كان مؤنس وأمينة ينشران في البيت مرحهما ونزواتهما. كانا يأتيان برفاقهما. وإني لأدهش اليوم أنه على الرغم من أنه كان لكل منهما أسلوبه وقناعاته المطلقة وما يفضله، فإنهما لم يظلا على هامش الحياة في البيت، وإنما كانا يختلطان بصورة عفوية وحرة مع الكبار. إن محمود خليل وريمون
168
ولطفي لم يكونوا شبابا على الإطلاق، لكنهم لم يكونوا يبتعدون عنهما. ومن المستحيل علي أن أسمي كافة من مروا بهذا البيت في الزمالك: كتابا، وصحافيين، وموسيقيين، وعلماء آثار، ودبلوماسيين، وممثلين، ورسامين، وأطباء. ... كان المشايخ يتحاورون بصداقة مع الآباء الدومينيكان أو مع رئيس كلية الأسرة المقدسة
169
الأب العزيز «مارجو
Margot »
170
الذي اشترك في الحرب وذهب ليلقى حتفه في تشاد، أو مع الأستاذ «دريوتون
Drioton »
171
مدير معهد الآثار القديمة، أو مع المونسنيور «دييس
Dies »
172
أحد كبار الأفلاطونيين في فرنسا الذي دعي للتدريس في الجامعة الجديدة «عين شمس».
173
لم يكن دريوتون حزينا قط، وكان جورج ريمون يقص أغرب القصص، وكان يتسلى بالحديث عن هذا المشهد خلال عمله مراقبا للفنون الجميلة. كان الملك فؤاد يريد زيارة معرض للنحت، ولما كان الوزير يعرف صرامة الملك؛ فقد خشي أن يناله غضبه عندما تتعرض معظم التماثيل العارية لنظراته القاسية؛ فباشر عملية كسوة التماثيل ببعض الملابس! وكان ريمون يعلق: «كان ذلك أشبه بالستائر العازلة للنور!» وعندما دخل الملك صاح: «من هو الأحمق الذي فعل ذلك؟!» فدمدم صوت لا يكاد يسمع: «إنه أنا يا صاحب الجلالة!» أما «واديل
Waddell »
174
المختص بالعلوم اللاتينية فكان جديا على الدوام مع شيء من الخجل. ولم يكن «إتيامبل
Etiemble »
175
يتفوه بكلمة لم تكن لمعة من الذكاء. ولقد عرفت جيدا أنه لم يكن ذا قلب جاف كما كانوا يدعون. أما زوجته «ياسو
Yassu » فقد كانت تتحدث قليلا، وربما كانت تتحدث أكثر مع جين أو مع موسكاتيلي، هذا التوسكاني الذي كان في منتهى الدقة! لم أستطع قط أن أعتاد عدم رؤيته في حفلات الاستقبال الرسمية وغيرها. كان بمجرد أن يرى طه يدخل، يبادر إليه بابتسامته المشرقة، يتبعه مصوره . فإذا ظهرت الصورة في الصحافة، فقد كانت دوما مرفقة بتعليق مخلص. لقد كان هذا الصحافي شاعرا أيضا.
176
في هذه الاجتماعات، كان ثمة شخصية تدعي لها حقوقا، وأعني بها عنتر - كلب ابنتي الضخم. كان عندما يتوصل إلى دفع باب بقوة، يدخل مبعثرا كل شيء في طريقه. وكان دريوتون يقول: «هو ذا الأسد!» كان هذا الأسد يحب الكاهن لكنه كان يختص مع ذلك بحنانه العظيم طه، ومحمد الطباخ الذي كان يميل إليه لسبب آخر لا يمت إلى الطبخ بصلة! فعندما كان محمد في إحدى السنوات يعود من المستشفى انفعل عنتر انفعالا عظيما؛ إذ ألقى بنفسه عليه ما إن رآه معرضا الناقه المسكين لأن يسقط على الأرض، ثم وقف على قدميه ووضع طرفيه الأماميين على كتفه وعانقه. وكان كل صباح يصعد إلى غرفة طه، وبعد أن يبذل كل جهوده في تحيته والتعبير عن عاطفته، فإنه يقاسم طه فطوره بدقة رياضية: قطعة خبز لطه وقطعة أخرى له. فإذا أخذ طه قطعتين، فإن عنتر كان يتناول أيضا قطعتين. ولم يكن يطلب زيادة على الإطلاق. وقد قام ذات يوم بفاصل عاطفي فيما أظن؛ فقد اختفى اختفاء كليا خلال أربعة أيام لم نره فيها، وظننا أنه ضاع، وكانت ابنتي تبكي كما غدا طه كئيبا، في حين لم يرضخ محمد للأمر الواقع. وها نحن نجد ذات صباح على سور الحديقة كلب شارع مسكينا يرافق بحنان عنترا مثيرا للرثاء، قذرا، مسلوخا، مخبولا. فأخذناه وأصلحنا من حالته، وعدنا للاهتمام به.
كان ضيوفنا يأتون إلينا بأصدقاء كانوا يمرون عبر القاهرة إلى بلد آخر. هكذا صحب إلينا جورج حنين
177 «هنري ميشو
Henrie Michaux ». هل تراه الأب قنواتي الذي قاد إلينا الأب «أفريل
Avril »؟
178
كان ثمة مسافرون يضعون في بنود برامج زيارتهم للقاهرة بندا خاصا بزيارة طه حسين!
وأولئك الذين كانوا يمرون أيضا كانوا يرتبطون بنا بعلاقات صداقة وطيدة؛ فكنا نلقاهم ثانية في بلادهم في فرنسا أو في إيطاليا. ولم يتأخر ماسينيون قط عن المجيء إلى البيت، سواء أكان اليوم يوم أحد أو غيره، إذا كان يمر عن طريق القاهرة، ولا تزال عدة أغصان من أزهار الليلك البيضاء التي حملها لي ذات صباح شتائي، وكان ذلك في بداية إقامتنا في «الرامتان»، تسعدني كلما ذكرتها. وفي باريس، كنا نرى في أغلب الأحيان الديواني
179
وسيدتنا العزيزة «رامباك
Rambach » التي غدت لي ببساطة بييريت.
180
ولكننا التقينا بهما في القاهرة. ذات يوم، وصل ريمون مع امرأة فاتنة، فنانة عظيمة الموهبة كانت تقيم معرضا للنحت. لم تكن فنانة فحسب، ومنذ ذلك الحين أصبحت وزوجها من أعز أصدقائنا. ولقد كانا من بين من لقيتهم في باريس قبل سنتين بنفس القدر من العاطفة والعذوبة عندما عدت إليها وحيدة. أما مرجريت بورديه (السيدة «كيليري
Quillery »)
181
فهي تمارس الآن الرسم؛ وهو رسم جميل وشخصي جدا، ذو وحي رفيع على الدوام، ولعل ذلك هو ما يجعل من خطوطها وألوانها دعوة إلى الحلم.
كان هناك أصدقاء بالطبع لا يأتون يوم الأحد فحسب، ومن بينهم: «آل كويريه
Koyre »
182
و«جورج وسيمون ديلو
Deslous »، ومن أقربهم كامل حسين وماري وجين.
كان «تيميلي
Thémélé »، عازف البيانو الأعمى، يأتي أحيانا لتناول العشاء أو الغداء، ثم يجلس وراء البيانو. كان يعرف أن طه يحب كثيرا الليلة الثانية «لفوريه
Fauré »، فكان يعزفها له دوما عزفا متقنا. لم يحقق تيميلي ما كنا نتمناه له نحن وأصدقاؤه من سمعة كعازف شهير؛ إذ ليس من السهل على أعمى أن يفرض نفسه كعازف ممتاز. كان يقوم، ولعله لا يزال يقوم فيما أظن، بعديد من الجولات في حين يستقر بين كل جولة وأخرى في أثينا. لكنه كان يستحق ما هو أكثر من ذلك.
ومن بين الناس الذين عبروا سراعا، هناك بعض من أفكر فيهم في أغلب الأحيان، وإنك لتعلمين ذلك يا مارتا. فلم نكن نلتقي خلال أكثر من سنة إلا قليلا جدا، ثم عدت إلى بلدك مع زوجك في ربيع عام 1951، ثم لم نلتق بعدها. وها هي خمسة وعشرون عاما تمضي على آخر لقاء لنا، ومع ذلك فإننا نتبادل الرسائل كما لو كنا نثرثر في صالون الزمالك! لقد تحولت هذه العاطفة المدهشة في قوتها إلى صداقة عذبة. مارتا الجميلة تحت قبعة الشعر المبيض باكرا، الذكية، المثقفة، الشجاعة في الأوقات الصعبة ... كنت تحبين، وما زلت، طه، وتحدثينني عنه في كل رسالة من رسائلك. لم تنسي صوته على الهاتف يوم رحيلك، وهو أيضا كان يحبكما كليكما. وأحب أيضا طفلكما الذي لم أر وجهه قط والذي تحملان معه الوعد المثير. •••
كانت حرب إسبانيا قد بدأت واستعر أوارها. وقد عرفنا رجلا ممتازا ووطنيا يلتهب وطنية، وإنسانا ذا عقيدة صلبة، إنسانا ذا ثقافة عظيمة، كان سفيرا لجمهورية إسبانيا في القاهرة، ولقد طلب من الحكومة الإسبانية في المنفى أن تمنح وساما لطه الذي كان قد منحه الدعم والثقة؛ الأمر الذي جعل طه يتأثر أعظم التأثر لهذه اللفتة. لقد مات في القاهرة، حيث يرقد في المقبرة المدنية، قرب واحد من الذين كانوا يعجبون به بعمق، وأعني جورج حنين الذي اختفى بسرعة قبل سنتين. إنني أحتفظ لجابرييل آلومار
183
بكل الود والاحترام اللذين كنت دوما أكنهما له.
ما إن تركنا البيت الذي سكناه في شارع البارودي حتى أصبح ملحقا بمعهد الفنون الجميلة. إن المعهد القديم الذي أعيد بناؤه هو الآن بناء حديث وجميل. ولا أدري أين أقيم «المرسم الحر»، الذي حلم به طه ثم حققه في عام 1943؛ ليتيح للفنانين الشبان الذين لا يحملون الشهادات إمكانية العمل واكتشاف طريقهم.
وهناك الآن في البيت الصغير المجاور للمعهد الجميل شبان وفتيات يحدثون ضوضاء هائلة في الغرف التي عمل فيها طه كثيرا. ذلك والحق لا يزعجني، بل على العكس من ذلك.
في اليوم الذي ذهبت فيه بصحبة أمينة (في نوفمبر 1973) للمرة الأولى إلى القبر الذي لم يكن بوسعنا الذهاب إليه يوم المأتم،
184
أثار انتباهي أمر لم أكن أتوقعه؛ ففي نهاية طريقنا تقريبا، وفي قلب منطقة مقابر «البساتين»، أثارتنا ضجة فرحة وصاخبة. كانت تلك ضجة وصخب التلاميذ الذين كانوا يمرحون في استراحة ما بين الدروس؛ فقد أقيمت هناك مدرسة حديثة، ودمعت عيناي، لكني ابتسمت على وجه التأكيد؛ فلا بد أن ذلك كان سيجعل طه مسرورا.
كانت لنا أيضا إجازات مريحة قبل مأساة الحرب. ففي «السافوا العليا
Haute-Savoie » كانت العلاقات الودية التي كنا نرتبط بها أحيانا في الفندق الذي ننزل فيه قد أصبحت صداقة وطيدة مع أسرة «بونو
Bonneau »؛ إذ كنا نلتقي بدانييل في كل مرة نستطيع فيها ذلك. كان والدها مديرا لمناجم
Hénin-Liétard ، وقد قضينا عدة أيام عندهم. كان شمال فرنسا مجهولا مني كليا، وللمرة الأولى والوحيدة أنزل إلى أعماق منجم عميق، وكانت السيدة بونو قد قالت لي: «إننا ننظر للفحم بطريقة مختلفة بعد أن ننزل إلى أعماق المنجم الذي يستخرج منه!» والحق أن عمال المناجم كانوا هم أيضا ينظرون له نظرة مختلفة.
وعندما اضطرت دانييل للانفصال عن زوجها، ساعدها طه على الحصول على منصب في ثانوية القاهرة؛ ولهذا كانت غالبا ما تقوم بزيارتنا. وقد بدأت أطروحتها عن منابع النيل في مصر، وهي الآن جدة وأستاذة بجامعة «كين
Caen ».
كان طه قد منح وسام جوقة الشرف الفرنسي. وكان السيد «دويتاس
Dewitasse »
185
هو الذي قلده هذا الوسام. كانت علاقاتنا به دوما علاقات صداقة. ولا أدري لماذا يخطر لي في هذه المناسبة سلة أزهار أو بالأحرى إناء خزفي مليء بأزهار حمراء متراصة ورائعة؟! أوكانت في هذا اليوم وفي تلك المناسبة، أم كانت عندما تناولنا الشاي مع السيد دويتاس وسان إكزوبري الذي عثر عليه لحسن الحظ بعد اختفائه في الصحراء؟
حمل إلينا هذا التكريم بطبيعة الحال كثيرا من الرسائل كان بعضها جميلا. وكان منها ما لم يكن متوقعا، كرسالة «جوزيه كانيري
José Caneri » مؤسس «إيجيبت نوفيل» العتيد، الذي لم يكن يعفي أحدا تقريبا من نقده اللاذع المتفجر:
في دوامة التيارات الثقافية المتضادة اتخذتم موقفا وناديتم بشجاعة نادرة بحق التفكير بحرية. وسرعان ما غدوتم رجل الساعة، ووجهتم القوى الروحية في هذا البلد في اتجاه لا يستطيع أحد أن يتنبأ بمآله.
13 سبتمبر 1936
لم نكن آنذاك قد التقينا به قط.
في بلدة صغيرة في «أوفيرني
Auvergne » تسمى «فيك سور سير
Vic-sur-Cère »، شعرنا بالهموم الأولى للحرب، وكان ذلك في عام 1939. كان على طه أن يتحدث من الراديو الفرنسي في 31 أغسطس 1939، وكنا قد طلبنا فيما إذا كان يمكننا الحضور إلى باريس، غير أننا تلقينا برقية رسمية تفيد إلغاء البرنامج. ذلك أن ألمانيا كانت قد اجتاحت بولونيا،
186
وأعلنت التعبئة العامة في فرنسا.
وكنا نبحث عن وسيلة نعود بها. لم يكن ثمة بواخر، وكنا في العاشر من سبتمبر ننوي العودة بقطار الشرق السريع الذي عاد للعمل منذ يومين، والمرور بسورية وفلسطين. لكن مصاعب كثيرة كانت تقوم في وجه هذه المحاولة وأولها أننا لم نكن نملك ما يكفي من المال؛ فالمصارف لم تكن تستجيب إلى طلبات زبائنها، فاضطررنا أخيرا للتخلي عن هذا المشروع. غير أننا تأثرنا من عرض صاحبة الفندق تسليفنا مبلغا من المال؛ إذ كيف كان بوسعنا أن نرد لها هذا المبلغ؟ وأخيرا علمنا أن الباخرة المصرية «النيل» على وشك مغادرة مرسيليا في قافلة مخفورة. وقد قبل سائق سيارة تاكسي أن يحملنا إلى القطار الذي سيسمح لنا بالوصول إلى مرسيليا. وعبرنا وفي وسط الليل وبأقصى سرعة غابات «سيفين
Cévennes » و«فيلي
Velay » الرائعة، حاملين في قلوبنا المثقلة آخر نظرة لأرض فرنسا تقريبا. وكان علينا أن ننتظر في مرسيليا عشرة أيام، على ظهر مركب كان ينتظر بين اللحظة والأخرى الأمر بالإقلاع. كانت الباخرة مزدحمة بالطبع، وكنا ننام في كل مكان - في قاعات الطعام أو في الدهاليز - وانتهوا إلى إعطائنا الغرف التي قيل إنها مخصصة للملك، وكان ذلك تكريما منهم لطه. ولقد أذهلني هذا الأمر بقدر ما سرني لا سيما وأننا استطعنا استضافة زوجين بلجيكيين: «آل سيرفي
Les Servais »
187
والدكتور «دوويه
Dewée »
188
مع زوجته وابنتيهما الصغيرتين اللتين وضعناهما على مفارش السرير. كان نظام التعتيم كليا بطبيعة الحال، وكنا نسمع في الليل أصوات الانفجارات التي كانت ترعب المسافرين الذين لم يعتادوا على مثل هذه الأمور، والذين كانت الغواصات الألمانية تتراءى لهم على طول ممر السفينة؛ فقد كانوا لا يصدقون مطلقا أنه لم يكن ثمة أية غواصة.
وخلال تمرين على الإنقاذ، لمح قائد السفينة أنني أحمل كيسا جلديا تحت زناري؛ فقال لي مبتسما: «إنها ولا شك مجوهراتك يا سيدتي؟!» فقلت: «لا، يا سيدي القائد، إنه مخطوط كتاب لزوجي.» كانت هذه المخطوطة تؤلف الجزء الثاني من كتاب «الأيام».
كانت الحياة في القاهرة عادية، وكنا نفكر بحزن بالبولينيين والفلانديين. أما الحرب بالنسبة إلى فرنسا، فقد كانت أكثر الحروب غرابة. كانت الرسائل البريدية تصل، وكنا نستمع جيدا إلى إذاعة باريس. ففي ليلة عيد الميلاد، استمعنا إلى قداس منتصف الليل يقام على خط ماجينو. كان الجنود ينشدون: «منتصف الليل يا مسيحيون.» وكانت الأبواق النحاسية تعزف لحن «إلى الميدان».
كان جامعيونا يصلون بصعوبة بالتدريج، وكنا سعيدين أن نعود للالتقاء بدو وشوري (ألكسندر كويري وزوجته
Alexandre Koyré ).
ذهبنا خلال إجازة الشتاء لقضاء عدة أيام في «تونا الجبل» في مصر الوسطى. كان طه قد خص كلية الآداب بموقع هرموبوليس الغربي، وكان صديقنا عالم الآثار سامي جبرة
189
مسئولا عن الحفريات، وكانت زوجته السيدة جبرة تستقبل الأصدقاء والزوار في بيت من الآجر المطبوخ، قائم في قلب الصحراء، وسط أحجار لا تزال قائمة في مكانها وأخرى يعاد وضعها كما كانت عليه. وقد أمكن استنبات أشجار وأزهار منذ أن بات جلب الماء ممكنا إلى المنطقة.
كانت العزلة النسبية في تلك السنة نعمة أكثر من أي وقت مضى، لكن العزلة الحقيقية لم تكن بعيدة جدا. على مسافة ثلاثين كيلومترا، حيث قادنا سامي ذات صباح، كانت الرمال تتلألأ تحت النور الذهبي كشذرات من الذهب. لم تكن السيارة تجري مسرعة، كنا ذاهبين إلى دير قبطي صغير. أهو دير حقا؟! ليس ديرا على وجه التدقيق، وإنما هو أشبه بصومعة متواضعة، كان يعيش فيها راهب واحد، وكان هذا الراهب شابا، وسيما، اختار الإقامة في الصحراء ليقوم بصلاته على نحو أفضل. وقد مال إليه طه على الفور، وتحدثا مطولا. لم ينس طه هذا الصباح، وقد تحدث عنه في كتبه.
أكتب في عام 1975. وتخبرني رسالة وصلتني قبل عدة أيام من القاهرة بوفاة لوريت جبرة. إن ذكريات البيت الصحراوي ترتبط بها بشكل وثيق، فقد قضت فيه أسابيع طويلة وكانت سعيدة فيه. ومن منا يستطيع أن ينسى لطفها المؤثر؟! كنت أحب السير بصحبتها عندما توشك الشمس المتوهجة على الانطفاء مع اقتراب الليل وبدء النجوم إرسال نور سري آخر عبر السماء الواسعة.
كان أطفالها في أغلب الأحيان بصحبة طفلينا. وقد اكتشفوا ذات يوم أن للخيمة سحرا يفوق سحر البيت، فخيموا. وقد نسي الدكتور كامل، الذي حضر مرة لقضاء عدة أيام، مزاجه القاسي كطبيب شهير وتقاسم معهم بعض وجبات الطعام، لكني لا أظنه وصل إلى حد القبول بأن ينام مثلهم في الكيس!
كنا نأمل دوما بالطبع اكتشاف شيء ما، وكانت هناك اكتشافات مهمة تحدث عنها سامي في كتابه الجميل «مع آخر عبدة هرمس»، على أن ما أسعدني منها لم يكن يعتبر شيئا في نظر العلماء، وكان عبارة عن سلة صغيرة ملأى بالبيض الذي كان مصفوفا بعناية منذ ألفي سنة، وكان ينكسر بسرعة بمجرد أن يتعرض للهواء. لقد كان هذا القربان المتواضع الخارج من باطن الأرض أمامنا - مع ما يتضمنه من الالتماس المرفق به - يدهشني.
وكان طه، الذي ظل مسئولا أمدا طويلا عن كافة أراضي الحفريات، يحب على نحو خاص هذه الأرض التي كانت تبدو له وكأنها تخصه؛ فقد كان يجد فيها حضارة يحبها ما دام العالم الفرعوني كان يتحول هنا تحت تأثير الاندفاعة الهيلينية. كانت مومياءات القرود في الأنفاق تهمه بشكل عابر، غير أنه كان يتوقف في معبد بيتوزيريس. كان يمشي ببطء بين أكثر القبور تواضعا أو بين النصب الجنائزية. وذات يوم، دخلنا إلى واحد من هذه القبور، كان يشبه القبور الأخرى بدرجه الخارجي الضيق. صعدنا إلى الغرفة الصغيرة، وكان قد وضع فيها قديما جسد نحيف لفتاة كانت قد ألقت بنفسها في النيل اسمها إيزيدورا، وتقول الكتابة الموجودة على قبرها إن أباها قد طلب من أجلها القرابين والصلوات، وفجأة لاحظنا أن طه قد ابتعد عنا، ثم طلب إلينا أن نحمل إليه مصباحا قديما (وكان ذلك متوفرا) وأن نشعله بالبخور وأن نستمر في إشعاله. لم يعد سامي يدير أشغال تونا، ولا أدري إذا كان مصباح إيزيدورا لا يزال يشتعل أحيانا.
أما بالنسبة لنا، فإن العقبات ما لبثت أن عادت للظهور من جديد؛ فقد عين طه مراقبا عاما للثقافة، وطرحت حول هذا التعيين استجوابات حادة في المجلس. فقد كان هناك اعتراض عليه، لكن الوزير صمد بصلابة وكانت الأكثرية تؤيد الوزير في موقفه، لكن طه الذي تقزز من ذلك أرسل استقالته إلى الوزير الذي رفضها. حدث مزعج لكنه لم يسبب لنا مشكلات أخرى، لا سيما وأن القلق كان يزداد في العالم. فبعد النرويج
190
تم اكتساح بلجيكا،
191
وبعد ذلك بقليل الكارثة: سقوط باريس.
192
كان الكثير من أصدقائنا قد رحلوا مخلفين وراءهم فراغا كبيرا؛ فقد كنا نتقاسم معهم الهموم نفسها في تفاهم كامل، كما كان ودنا المتبادل يزداد في تلك الساعات المأساوية، أما الأصدقاء المصريون فقد كانوا قريبين جدا منا. فقد كانت فرنسا بالنسبة إلى كثير منهم عزيزة، وكان اللطف الذي يبدونه نحوي يمس بلدي في جزء عظيم منه.
وكان هناك عدد لا بأس به من الفرنسيين. فقد تلقيت يوم سقوط باريس باقة هائلة من الأزهار. كان جورج ريمون الذي كان بورجونيا مثلي، يعبر لي عبرها عن آلامه وصداقته.
لم أكن أستطع البقاء في مكان ما، ولم أكن أريد أن أرى جماهير ولا أناسا غير مكترثين بما يجري في العالم. كنت أريد البكاء وحدي، وكان طه الذي لم يكن يقل عني تأثرا يفكر في السكنى في بيت كان قد بني من قبل بعثة أثرية أمريكية وكانت على وشك التخلي عنه. كان يقع في حوش ممفيس، وحيدا على أكمة صغيرة في حالة غير ثابتة. وكان هناك في الأسفل، على الجانب الآخر من الطريق، تمثال رمسيس الذي يقوم الآن أمام محطة القاهرة والذي واجه نقله إليها صعوبات كبيرة؛ فالجسور التي كانت على القنوات كانت هشة وكان بعضها ينهار. أما رمسيس الضخم الذي ينام تحت السقف الذي يحميه والذي لا يزال موجودا هناك، فقد كان على مسافة أبعد بقليل. أما معبد بتاح فإنه كان يقوم بالقرب من أجزاء قديمة غرقت في الماء المتسلل إليها، وكانت عبارة عن أجزاء مقوضة. وفوق المعبد، كانت تقوم قرية ميت رهينة التي كانت حية تماما. كنت أعرف أن زوجة أستاذ فرنسي كانت تتأسف لاستحالة الذهاب إلى فرنسا؛ فاقترحت عليها مقاسمتنا حياتنا التي كنا نعيشها هنا. فالريف أفضل على كل حال للفتيات الصغيرات من المدينة الكبيرة القائظة. كان البيت فارغا إلا من عدة أسرة حديدية ونحو عشرة كراسي؛ فجئت إليه بطاولات وكراسي طويلة وأدوات مطبخ وراديو وأصص من إبرة الراعي. كانت ج. موسيقية؛ فوضعت البيانو في غرفة منعزلة ولم يكن يستخدمه أحد سواها، وفي أثناء هذه العزلة سمعنا صوت ديجول، لكن لم يكن ما سمعناه نداءه الأول.
لم يكن البيت بعيدا عن القاهرة إلى الدرجة التي يصعب معها على طه الذهاب إليها والعمل فيها، وكنا نذهب - مدام ج. وأنا - إلى المشغل
193
الذي كان مفيدا لنا كثيرا ولا شك، لكني لم أكن أستطيع أن أمنع نفسي من اعتبار فعاليتنا هذه زهيدة بالقياس مع ما كان يجري في أوروبا.
ذات صباح بدت القرية الهادئة في هياج كامل، ولم يكن لذلك أية علاقة بالحرب؛ إذ بينما كان أحد الرجال يعمل في حقله، إذا به يصطدم بشيء قاس في قاع حفرته الملأى بالماء، وقد بدا له ذلك قطعة من تمثال؛ فأخطر بذلك دريوتون الذي كان يقيم على سطح سقارة في مواجهة الحقل والذي كان يزورنا غالبا في المساء لقضاء فترة من الوقت معنا. وفي اليوم التالي دعينا للمشاركة في احتفال حقيقي؛ فقد هيأ لنا العمدة مقاعد من المخمل الأحمر أمام حقل الكنوز هذا، وكان موظفو قسم الآثار القديمة منهمكين حول آلة لرفع الأثقال كانوا يأملون أن تكفي لإخراج التمثال الضخم. وشيئا فشيئا رأينا ظهور جزء من الجرانيت، ثم جزء ثان، ومع الجزء الثالث كان أمامنا تمثال رمسيس بأكمله. كان من الجرانيت الوردي، ولما كان يستحيل نقله إلى المتحف (خشية القصف؛ إذ كانوا قد خبأوا القطع الثمينة أيضا في القبو) فقد تقرر وضعه في باحة دارنا، وسار أطفال القرية جميعا في موكب نقل التمثال وهم يرقصون ويضحكون ويغنون. وفك دريوتون الرموز الكتابية: كان الملك يطلب أن توضع عند قدميه شجرتان تبقيان على الدوام، غير أن هذا النوع من الأشجار الذي يطلبه لم يعد موجودا على الإطلاق في مصر؛ فوضعت تحت قدميه شجرتان من أشجار الزيتون، وأعتقد أنهما لم تعودا موجودتين! على أنه لا يمكن لرمسيس وهو في المتحف أن يتوقع وضع شجرتين عند قدميه!
كان لا بد من العودة على كل حال. وهكذا فإن كلا من أمينة ومؤنس يعودان إلى الجامعة من جديد، في حين أن ابنتي ج. عادتا إلى المدرسة الثانوية. وكنا نعود إلى القرية من حين إلى آخر؛ الأمر الذي كان يتيح لطه أن يتخلص خلال يوم واحد على الأقل من إرهاق كان يقلقني، لكن هذا البيت كان مشبعا بذكرى الأيام المظلمة. وقد أغرق الألم طه في واحدة من هذه الأزمات السوداوية التي لا يمكن تخيلها إذا لم يعشها الإنسان معه، ولما كان غارقا في مأساة لا يستطيع منها فكاكا فقد كان مرعبا ولا سبيل للتفاهم معه، وكان يبدو وحيدا في العالم، ولم يكن ينتبه إلى أنني كنت بحاجة إليه. وعندما كنت أعود إلى ميت رهينة كنت بمجرد أن أدفع باب غرفتنا، أصاب بتثاقل وعجز عن الحركة لا فكاك منهما. وانكمش طه داخل نفسه، ولم يكف عن الألم حتى نهاية الحرب، لكنه لم يكن الوحيد الذي كان يتألم.
غدت أخبار فرنسا نادرة. وقد علمت في شهر ديسمبر أن أمي وأختي اللتين استطاعتا الوصول في يونيو إلى البيرينيه قد عادتا إلى باريس حيث استقرتا فيها بشكل ثابت. وكان بوسعي الكتابة لهما لوجود منطقة حرة بفضل خالة لي كانت تسكن في «كليرمون فيران»، وكانت تبذل أقصى جهدها لإعلامي عن بعض أخبارهما بمختلف الوسائل.
وفي أبريل 1941 جاء الجنرال ديجول إلى القاهرة وتحدث في الجامعة الأمريكية. وقد استقبله طه الذي كان يراقب إذاعة فرنسا الحرة (والتي كانت مصر كريمة إذ سمحت بها) في دار الإذاعة.
كما استمعنا إلى أوركسترا فلسطين التي كانت قيد التكوين تقريبا آنذاك ... لقد استقبل أعضاء الفرقة يومها استقبالا جيدا.
وخلال أربع سنوات، كان ثمة شباب جامعيون ، طلاب وطالبات، قد قرروا في حماسة عفوية وبغير غرض أن يجعلوا من وجه فرنسا حاضرا على الرغم من كل شيء، ذلك الوجه الذي كانوا يعرفونه ويحبونه. وقد جعلوا من أنفسهم فريقا أطلقوا عليه اسم «الطلبة».
194
وقد وضعت «الأوبرا» تحت تصرفهم وكانوا يقدمون في كل مرة عرضا فريدا؛ كانوا يتولون كل شيء بأنفسهم فيما عدا استخدام الآلات عندما يكون استخدامها ضروريا. ولم يكن الأساتذة أو غيرهم يتدخلون في اختيار المسرحيات أو في إخراجها، ولقد استمعنا إليهم يمثلون موسيه وبومارشيه وفين وجيرودو. كانوا يعملون عن قناعة وبذكاء بحيث أن القاعة التي كانت في غاية الازدحام بالجمهور لم تكن تخفي حماسها، وكان هناك من يتطوع للإسهام في هذا المشروع بحماسة. وكنا - جان وأنا - نساعد كلما كان ذلك ممكنا، في العمل بصنع بعض الأثواب الضرورية عندما لا يستطيعون العثور على ما يريدون، أو بإعارة بعض قطع الأثاث أو الأجهزة التي لم يكن يسعهم العثور عليها أيضا.
وبعد الحرب، ذهب جميع هؤلاء الشباب تقريبا إلى الخارج في بعثات كانوا سيبدءونها أو كانوا سيستأنفونها بعد اضطرارهم لقطعها. ولقد تركت تلك الأعمال في نفوسهم ذكرى جميلة انطبعت كذلك في نفوس الآخرين.
أما القلق العميق فقد عرفته القاهرة لحظة تهديد العلمين.
195
ولقد كان هنالك بعض الهلع. كان بعض المصريين الذين استبد بهم الخوف قد انسحبوا إلى ممتلكاتهم البعيدة، أما «الفرنسيون الأحرار» فقد أخلوا إلى لبنان والكاب، غير أن بعضهم قد نسي، في حين أصاب الذعر اليهود؛ فساعد طه بعضا منهم على الرحيل ومنهم «تيجيرمان
Tigerman ».
196
أما طه فقد انصرف برغم مدافع العدو القريبة إلى تأسيس جامعة الإسكندرية. ولقد ظلت الإسكندرية فخورة ومعترفة بهذا الجميل الذي تذكره له في كل مناسبة؛ ففي أثناء الاحتفال بذكراه في العام الماضي بقصر الثقافة، تم التعبير عن ذلك بكلمات سعيدة واعية. وعندما قال المحافظ - وكانت خطبته هي كلمة الختام: «كانت له على الإسكندرية أياد بيضاء.» كنت أشعر بتأثر الجميع.
غداة هذا الاحتفال، عدنا من الإسكندرية ليلا عبر طريق الصحراء. وشعرت لدهشتي بحزن لا يطاق ، حزن كان يعقب العديد من الشهادات الرائعة التي قيلت بحقه. وكنت أزن ما ضيعته وأحاول أن أخفي وجها غمرته الدموع في حين كنت في طريقي عائدة إلى بيت ابنتي.
كان يؤسس جامعة الإسكندرية، لكني لم أكن أستطيع أن أتجاهل أن إذاعة ألمانيا كانت تذكر اسم طه حسين غالبا وأن التهديدات كانت حقيقية. وكان كامل وماري القلقان علي يتصرفان نحوي كما لو كانا أخوي، حتى إن ماري كانت تصر علي بإلحاح أن آتي للإقامة في بيتها.
تلك السنة، كانت سنة العيد الفضي لزواجنا، لكن طه لم ينتبه إلى ذلك إلا لماما!
كنا في بيت مري عند تحرير باريس. ولقد تحدثت عن تلك الأيام المؤثرة في أثناء حديثي عن لبنان.
وبعد ثلاثة أشهر سقطت وزارة النحاس، ولم يعد طه مراقب ثقافة ولا رئيس جامعة الإسكندرية. وكان بوسعي - بمعنى ما - أن أستمتع بذلك؛ فقد كانت مهمته في الوزارة ثقيلة أصلا. ولكن عندما أفكر أنه كان يذهب إلى الإسكندرية يومين في الأسبوع يقوم خلالهما بعمل ستة أيام وبالمكافأة الضئيلة التي كانت تدفع له والتي لم تكن تسمح له بالذهاب إلى الفندق لقضاء الليل؛ الأمر الذي يضطره للنوم في الإدارة المؤقتة للجامعة، في غرفة صغيرة وضع فيها سريران حديديان من أسرة المستشفى، وأنه كان يأكل كيفما اتفق ... عندما أفكر بكل ذلك، أعايش الأمر من جديد، وتزداد قناعتي بأن الإيمان يصنع المعجزات.
وفي إحدى عوداته إلى الزمالك، وكان يصل منهكا من التعب، استوقفته رنات غريبة عند الدرج. كنت أعرف أنه يرغب في ساعة ذات بندول، ولقد سعدت إذ عثرت على واحدة منها كانت جميلة وغير مزعجة. لقد بقي هذا البندول منذ ذلك الحين قرب سريره ولا يزال حتى الآن، ولا أريد له أن يتوقف؛ فقد كان يطلب إلي عند وصولنا إلى البيت عائدين من رحلة ما أن أجعله يعمل على الفور. وكنت أفعل ذلك باستمرار وما زلت.
لم يكن طه سعيدا جدا إلا عندما يمارس نشاطه الغالي عليه. لقد كان يعزي نفسه بالكتابة وبالحديث من حين لآخر عبر الإذاعة البريطانية.
كان هناك أصدقاء يمرون من القاهرة. واستطعت أن أعهد إلى أحدهم ببعض الثياب الصوفية لأمي بفضل الكابتن «فيليول
Filliol » الذي عمل مدة أربع سنوات عضوا في وفد فرنسا المقاتلة، ثم في المفوضية. ولقد ذهب بنفسه يحمل أخباري لأمي التي لم يكن يعرفها. لقد كان هذا الإنسان ذو القلب يملك صفتين نادرتين: الحصافة، والفطنة.
وفي أبريل 1945 التقينا أخيرا «ب. ج. ديلو
Deslous » الذي نقل هو الآخر أخباري إلى أمي من مقره في الجزائر، كما حمل لي معه أقراطا من البلاستيك الأسود على شكل عنقود، هدية متواضعة وجميلة، من «مصنوعات باريس».
وذات يوم استمعنا من الراديو، ونحن نرتعد، إلى تصريح تشرشل: «لقد انتهى كل شيء.» وظننا أن المدافع سوف تطلق نيرانها على الفور احتفالا بذلك، وانتظرنا ساعتين. وعندما سمعناها كانت ذات أصوات مخنوقة؛ فقد كان الجنود محجوزين في ثكناتهم، كما كانت الشوارع هادئة.
وتعم الفرحة الجميع. كان آل سيرفيه يسكنون على الجانب الآخر من الشارع؛ فذهبنا إليهم مع كامل وخالد عبد الوهاب. وفي المساء حضروا جميعا إلى بيتنا كما حضر بالإضافة إليهم جين وريمون، فالتصقنا بالراديو محاولين التقاط إذاعتي باريس ولندن.
ودعت بعض جنود فرنسا الحرة الذين تمكنت من رؤيتهم. كانوا بعضا من جرحى معركة بير حكيم.
197
ما الذي حل بالشاب الكابتن بيرود ذي الشجاعة العظيمة والمتواضعة؟ كان قد رحل قبل بدء معارك الألزاس، ولم أتلق عنه أو منه منذ ذلك الحين أي خبر. أما المساعد دوريو، فقد كان يكتب لي الرسائل خلال سنوات طويلة، وكان يبدأ رسائله الودية الموجهة إلينا نحن الأربعة ب «أعزائي كافة.» وكان هناك أحد أعضاء الفرقة الأجنبية، قدم من التيرول، قد قال لي وهو يضغط على الراء: «أماه! أود لو استطعت أن أحمل فرنسا على يدي لأقدمها لك هدية!»
وكان هناك آخرون أيضا. ولن أنسى الجندي الإنجليزي الصغير المسكين الذي كان في أوج الفرح برغم مرضه وهو يعلن لي: «سأرحل غدا.» •••
لم يكن طه يجد وقتا كافيا لمجرد كتابة الكتب - وكان قد أصدر كتابه السابع والثلاثين - أو التحدث في الإذاعة، فأصدر مجلة «الكاتب المصري». كانت هذه المجلة تستجيب للهدف الذي لم يتخل عنه قط، وهو أن يقيم أكثر ما يمكن القيام به من الصلات بين الثقافة الغربية ومصر والعالم العربي.
198
وجاء إلى المجلة بكل الشباب الذين أرادوا التعاون معه، وأطلق جيشا من المترجمين من عدة لغات، وتدبر - يساعده في ذلك إتيامبل إلى حد كبير - أمر الحصول على نصوص غير منشورة من الكتاب المعاصرين كانت تترجم على الفور. كانت المقالات كثيرة، وكان المثقفون والناس الذين يحبون القراءة معجبين بها. ولقد قيل لي غالبا إنه كان ثمة آنذاك حركة تنطلق نحو الأمام، وإنها كانت حركة خصبة. لكن ذلك لم يكن يروق للقصر، فكفت «الكاتب» عن الصدور في عام 1948.
كان كتاب «المعذبون في الأرض» قد نشر كمقالات. أما نشر الكتاب فقد منع. ثم تم نشره في لبنان في عام 1949.
كان ولداي يكتبان من حين إلى آخر. وبما أن ابنتي قد غدت مدربة على الكتابة؛ فقد أقدمت على إلقاء محاضرة كان عنوانها «أحداث الساعة»؛ بدأت قراءة نصها بسرعة كبيرة بسبب خجلها واضطرابها الكامل، وظلت على هذا النحو عشرين دقيقة، ثم ما لبثت أن استعادت رباطة جأشها واستطاعت المضي على نحو جيد حتى النهاية. كنت أجدها جميلة في ثوبها الكحلي الذي كان يضيئه قميص أبيض وزهرة كاميليا.
وكان علينا أن نقوم بتنظيم سفر مؤنس الذي لم يتخل عن هدفه في تحضير شهادة الأستاذية برغم تأخره أربع سنوات. كانت الحكومة الفرنسية قد قبلته في معهد المعلمين العالي بوصفه طالبا أجنبيا، وكنت مضطرة لاصطحابه لأنني كنت أستعجل عناق أمي.
لم يكن ثمة مجال لقضاء إجازة كاملة في تلك السنة.
199
وقد قضينا عدة أيام في فندق ميناهاوس
200
حيث كان الجو مع ذلك أقل حرارة. وحصلنا على غرفة يتخللها الهواء إلى حد كبير. كانت تطل على الطريق الذي كان يؤدي بشكل مستقيم إلى الإسكندرية عبر الصحراء. كنت أطيل النظر في هذا الطريق على حين أفكر أنه سيصبح طريقا تاريخيا؛ فقد قطعته مدافع أفريقيا. وكنت أرى ثانية، مساء أول يوليو 1942، جيشا كان يقاتل وهو ينسحب، وجيشا آخر كان يمضي في الاتجاه المعاكس، ضد كل أمل تقريبا.
كيف يمكننا الذهاب إلى فرنسا؟! لم تكن ثمة طائرات ولا بواخر منتظمة المواعيد. لم تكن ثمة طائرات ولا بواخر منتظمة المواعيد، وكانت الأولوية بطبيعة الحال للعسكريين. وبعد أن خاب أملنا بعدة وعود، انتهينا إلى صعود سفينة بضائع فرنسية «ساجيتير»، وكان ذلك في 25 أكتوبر، فوصلنا مرسيليا في 30 نوفمبر! لا بد من القول إننا كنا نتوقف كثيرا على الطريق لحمل بضائع أو لانتظار أوامر؛ فقد عدنا من بيروت إلى بورسعيد لعدة أيام، هرع خلالها كل من أمينة وطه لمعانقتنا، ثم قضينا في الجزائر عشرة أيام. ولقد صدمني الهزال الشديد لعمال مينائها، كما اضطررنا فيها لاحتمال الكثير من الحرمان.
استقبلنا في الجزائر جورج ديلو وزوجته التي لم أكن أعرفها بعد، وقد صحبانا للنزهة في هذه المدينة ذات الجمال الرائع. لم يكن منظرها الشهير مخيبا للآمال، ولقد أحببت منه وأنا أنظر إليه من أعلى المتحف الحدائق التي كانت تنحدر حتى شاطئ البحر. كما صحبانا إلى الأوبرا، فقد كانت العروض قد استؤنفت مجددا آنذاك، واستمعنا إلى أغنيات وأناشيد فرنسية لم نعد نعرفها منذ ست سنوات، ثم رافقانا في المساء إلى المركب. ولحظة وصولي إلى فرنسا، قمت بصلاة خاشعة في كنيسة قائمة على لسان جبل مطل على البحر، حيث جاء إليها الكثير من البحارة للصلاة أيضا.
لم يتوقف جورج ديلو طيلة الفترة التي كانت الحياة خلالها صعبة في باريس عن إرسال اليوسف أفندي، والتمر، والهدايا الأخرى لمؤنس. كان ذلك لفتة طيبة منه نحو مؤنس؛ لقد كان يختص طه بود حقيقي، وبعد وفاته عاشت سيمون السنوات المأساوية من المعركة الجزائرية؛ إذ لما كانت قد ولدت في الجزائر وعاشت فيها دوما فقد تألمت الألم الذي يتألمه كل من عانى حبين متعارضين. وعاشت في فرنسا لا كما عاش هؤلاء الفرنسيون الذين طردوا من الأرض التي كانوا يعتبرونها وطنهم غير قادرين على التكيف مع وطنهم الحقيقي ... بكل تأكيد؛ ذلك أنها فرنسية حقا، غير أنها لن تشفى أبدا من حبها للجزائر. إنها تكتب لي رسائل طويلة بشجاعة وحنان، وإني لأحب رسائلها.
كان هناك الكثير من العسكريين على ظهر الباخرة، وكنا نتبادل الأحاديث في الموضع الوحيد الذي يمكن لنا أن نلتقي فيه، وأعني في بار صغير. كان البحر هائجا بين مرسيليا والجزائر، وكانت مرسيليا عندما وصلناها رمادية وباردة، لكن ... ها هي فرنسا أخيرا.
وفي مرسيليا اهتم بنا قنصل مصر آنذاك، وأدخل بحضوره الراحة إلى قلوبنا كما أسعدنا بدعوته لنا إلى غذاء رائع. كنا مضطرين لتناول العشاء في اليوم التالي عند زميل وصديق لجورج ديلو، وبانتظار ذلك، ولما كنا لا نملك بطاقات تموينية وكانت وجبات الباخرة أكثر من زهيدة، فقد استعلم مؤنس عن مكان يمكن لنا فيه الحصول على بعض الأشياء المغذية. فأعطي عنوانا، وذهبنا إليه، فوجدناه عبارة عن مكان صغير كانت تقوم فيه امرأة بالطبخ لثلاثة زبائن فقط. كانت الوجبة كاملة لكنها باهظة الكلفة قليلا. واستعجل مؤنس، فخورا بذلك ليحدث صديقنا شامبير عن هذا المكان عندما كنا نتناول العشاء عنده. وكاد شامبير أن يختنق وهو يقول مذهولا: «أصحبت السيدة والدتك إلى شارع «توبانو
Tubaneau »؟» وهكذا علم مؤنس المسكين أنه حي سيء السمعة جدا. ولا بد من التصديق أننا كنا، كلانا، ساذجين بما أننا لم ننتبه إلى ذلك. وأضيف، لكي تتضح معذرتنا، بأننا ذهبنا إلى ذلك المكان في وضح النهار.
وبعد فترة صبرنا فيها، حصلنا على مكانين في القطار السريع المتجه إلى باريس. وعندما توقف القطار في محطة ليون، لمحنا على الرصيف فورا مجموعة من الناس قلقة، كانوا قد جاءوا جميعا لاستقبالنا: أمي، وأختي، وصهري، وخالتي تورنييه،
201
وزوجها
202
وأطفالهما الأربعة،
203
بل لقد جاءت معهم أيضا عمتي العجوز القريبة لي بالمصاهرة. وباختصار جاءت كل الأسرة التي تقطن في باريس، ولست في حاجة هنا إلى وصف الكيفية التي ألقينا بها أنفسنا بين أذرع الجميع.
بقيت ستة أسابيع عند أمي، واستطاع مؤنس الحصول على غرفة في شارع أولم ليسكنها وحده خلال السنة الأولى، وبرغم أنه كان مشوشا بسبب عقلية وسلوك طلاب المعهد فإنه سرعان ما تمكن من تكوين مجموعة من الأصدقاء من حوله. كان الكثير منهم قد أدى الخدمة العسكرية خلال فترة طويلة تقريبا، متأخرين بسببها عن متابعة دراستهم؛ الأمر الذي جعلهم تقريبا متقاربين في العمر. وقد كتب مؤنس لأبيه رسالة طويلة وصف له فيها بدقة وعناية مكان إقامته، حتى إن طه كتب لي وهو يتدفق حنانا:
إن المرء ليظن أنه قد تناول ذراعي كي يجعلني أمس بيدي كل الأشياء.
كان الجو في منتهى البرودة، لكن أمي كانت تملك مدفأة على الغاز. ومن حسن الحظ أن استهلاك الغاز لم يكن محددا بكمية معينة آنذاك، وعانينا كذلك من انقطاع الكهرباء، وكان لا بد من السير على الأقدام كثيرا. أما الأصدقاء الذين التقينا بهم من جديد فقد كانوا يدعوننا، وينجحون، بالرغم من كل ما كان ينقصهم، في إعداد وجبات طعام جميلة وحافلة، الأمر الذي كان يمس شغاف القلب منا أكثر مما كان يمسنا ما كنا نأكله، ولم يكن يتركنا دون أن يخلف في نفوسنا شيئا من الحيرة.
كل شيء كان يؤثر في في باريس التي لم تبد لي من قبل على مثل هذا الجمال، بحيث أردت أن أتعرف إلى كل شيء فيها وعنها. تعرفت إلى أناس شاركوا أمي كثيرا من الأيام الصعبة، وعرفت كيف وفرت عليها أختي شر الأشياء، كما علمت بوفيات قاسية تحملها أصحابها بنبل؛ لقد كان الجميع في منتهى العظمة.
ومن بين الآخرين الذين عثرت عليهم آل كويري؛ فقد كان لقائي بهم من جديد فرحة بحد ذاته. وعندما وصلت بيتهم بعد أن قطعت المسافة بين بيتنا في شارع «جي لوساك
Guy Lussac » وبيتهم في شارع «نافار
Navarre » سيرا على القدمين تحت وطأة هواء ثلجي كان يمزق لي وجهي، تناولني «شوري» وهو يفتح لي الباب وسحبني بعنف نحو المدفأة الوحيدة التي كانت مشتعلة قائلا لي: «تعالي بسرعة يا سوزان، فإنك زرقاء اللون!» شوري العزيز، ما أرهف مراعاتك وملاطفتك! لماذا قال لي عندما تركتهما (وإني لأتساءل بدوري أيضا) في حين كان يعانقني ، وبلهجة ظاهرها الغضب: «ولكن لماذا أحب هذه المرأة؟!»
بعد ستة عشر عاما جاءا لرؤيتنا في جاردونيه بعد حضورهما مؤتمرا في إيطاليا. وتحدث طه وشوري في دارتنا «بالسافواي
Savoy » خلال ثلاث ساعات دون توقف. كان طه قد أجرى عملية جراحية قبل سنتين، وكنت في منتهى السعادة لرؤيته في حالة جيدة وعلى قدر كبير من الصفاء الذهني، حتى إنه استطاع ذلك المساء أن ينزل معنا إلى غرفة الطعام.
كان كويري وطه يتمازحان بعفوية. ولقد ذكرتني «دو» في العام الماضي بمساء أحد الأيام عندما طلب طه إلى زوجها في القاهرة إلقاء محاضرات عن ديكارت، وكيف أن سعادة طه بلغت حدا بعد المحاضرة الأخيرة أن قال له: «إنني أرغب حقا في أن أجعلك تقوم بدورة محاضرات أخرى!»
فأجاب كويري: «آه! إنك لن تفعل بي هذه الفعلة!»
فقال طه: «أتعلم! عندما كنا نعمل في الصحافة لم تكن تعنينا هذه الفعلة في شيء!»
لم نلتق بعد ذلك «شوري»، وكنت أتحدث مع «دو» عنه وعن طه، وكانت «دو» مكتئبة دوما؛ لأنها لم تنس وطنها الأصلي روسيا. وقد قالت لي في الأيام الأولى من صداقتنا: «إذا أراد الله أن يعاقب الإنسان فإنه ينفيه من وطنه.»
لقد عثرت في فرنسا على وطن جعلت منه وطنها على نحو كامل، غير أنها لن تلقى «شوري» ثانية على هذه الأرض.
كان علي أن أعثر على وسيلة للعودة إلى مصر، ولم يكن هناك سوى عمليات نقل الفرق الإنجليزية وترحيلها، وكانوا يقبلون ببعض المدنيين بناء على توصيات خاصة. وكان «سمارت
Smart » و«ليكوير
Lecuyer » قد وعدا طه بالمساعدة في هذا الشأن. ولا أدري لمن أنا مدينة بهذه المساعدة؛ فبعد عدة أوامر معاكسة حصلت على مكان في الباخرة «إمبير باتل إكس
Empire Battle-Axe ».
لم يكف كل من طه وأمينة بطبيعة الحال عن الكتابة لي، غير أن البريد كان لا يزال مضطربا؛ فقد تلقيت كافة رسائلهما، في حين لم يتلقيا سوى ثلاث رسائل من رسائلي. وفي 14 نوفمبر وجد طه هدايا كنا أعددناها له بمناسبة عيد ميلاده، وقد أعدت له أمينة التي كانت ربة بيت ممتازة حقا حفلة غداء خاصة بمناسبة هذا العيد، وتلقى الأزهار والأمنيات، لكنه يشكو من أنه لا شيء من ذلك كان يجعله ينسى غيابنا. •••
كانت المجلة في وضع ممتاز برغم المؤامرة الجديدة: حرب الورق الخفية، ومستوى المجلة الذي كان لا يزال في نظر البعض رفيعا أكثر مما يجب!
كانت أيام الآحاد تتوالى علي جميلة، وكانت القاهرة حافلة بالأجانب، صحفيين ومسافرين. كان كل الناس يبحثون، وكان كثير من الباحثين عن المعلومات الصادقة يتوجهون إلى طه بالأسئلة، فكان يستقبلهم جميعا: مراسلي «اللوموند» و«كومبا»، ومبعوث المكتب الثاني، والإنجليز، والأمريكان. حتى إن الروس أيضا جاءوا إليه، ولكي يعبروا له عن شكرهم أرسلوا إليه هدية، عددا من مؤلفات جوركي باللغة الروسية.
كانت أمينة تتناول الغداء يوم الثلاثاء، وكان يوم الروتاري، في بيت جين. وتلك مسرة كانت لا تزال تستمتع بها حتى بعد عودتي، وكان عنتر يشاركها فيها في أغلب الأحيان.
ذهب طه مع جين وابنتي لمشاهدة الغرفة البسيطة التي كان يسكن فيها عندما كان طالبا في الأزهر.
204
ورافقهم «شوفرييه
Chevrier » الذي كان سيقوم بتزيين كتاب «الأيام» في طبعته الإنجليزية. كان قد قطع على نفسه عهدا أن يصحبني إليها منذ أن عثر على مكانها، لكنه لم يستطع الوفاء بهذا الوعد، بيد أن هذا البيت القديم لم يعد قائما، وليس بوسع أحد أن يدلني عليه. وإن الحزن ليغمرني بسبب ذلك.
عين مصطفى عبد الرازق شيخا للأزهر، ولم يتم تعيينه في هذا المنصب بلا صعوبات. فقد تخلى عن لقبه كباشا، ولم يعد سوى مجرد شيخ الأزهر. وابتسم طه بود قائلا: «إن ذلك يسليني قليلا، ولا أدري لم أتذكر الآن البابوات في عصر النهضة.»
حدث ذلك كله بين مقتل أمين عثمان
205
والإضرابات المقلقة في المحلة الكبرى
206
وموت صفية زغلول زوجة سعد زغلول
207
الذي سبب لي الكثير من العذاب.
عندما وصلت بورسعيد كنت في حالة تدعو للرثاء؛ فالعاصفة لم تهدأ خلال سبعة أيام من السفر. كان مؤنس قد رافقني بحب حتى مرسيليا، وهناك علمنا أن المركب سيبحر من طولون؛ فاضطررت لوداعه بسرعة وأنا أتسلق الشاحنة الكئيبة المغلقة بغطاء، والتي كانت ستنقلنا إلى طولون مع سبعة عشر مدنيا آخرين، وأنزلنا على ساحل رملي معزول ومتوحد. كانت باخرة الإمبير باتل إكس غير أنها كانت أصغر من اسمها! وأعلنت سيدة مصرية من فورها وبشكل صارم أنها لن تصعد إلى هذه الباخرة، ونصحها زوجها متوسلا فترة من الوقت، حتى انصاعت في النهاية لرجائه. ونزلت في الحجرة التي نزلت بها، وتفاهمنا تماما مع المسافرين الأربعة الآخرين؛ فقد كنا ستة مسافرين في مقصورة واحدة! وكنا نتقاسم مغسلة عرضها ثلاثون سنتيمترا تقريبا، ولم يكن هناك بطبيعة الحال ماء ساخن أو حمام تحت تصرفنا. كانت الباخرة حافلة بالجنود الذين لم نكن نراهم، ولم نكن نتحدث نادرا إلا مع الضباط، كما أن الطعام لم يكن شهيا جدا، إلا أنه لم يكن لذلك أهمية كبيرة بما أن الجميع كانوا مرضى تقريبا. ولم يكن بوسع العسكريين الذين كلفوا بالاهتمام بنا أن يفعلوا شيئا مهما لنا، على أن ما كانوا يفعلونه، كانوا يقومون به بلطف.
لم نكن نعلم قبيل الوصول فيما إذا كنا سننزل في الإسكندرية أو في بورسعيد (كانت الباخرة تتابع رحلتها إلى الشرق الأقصى). وكان بصحبتنا دبلوماسيان مسافران إلى الهند، وكنت أحاول عبثا أن أبرق لطه الذي كان عليه المجيء لانتظاري مع أمينة. وكانا، هما الآخران، لا يتلقيان سوى معلومات متناقضة. وأخيرا قادوهما إلى الإسكندرية في حين رست الباخرة في بورسعيد، وقاما خلال الليل بسباق عنيف للوصول إلي، وعندما توجب علينا مغادرة الباخرة والنزول منها إلى الزورق لم يكونا قد وصلا بعد؛ ومن ثم، لم يكن ثمة بانتظاري زورق يحملني حتى الشاطئ؛ فقدمت لي إحدى رفيقاتي - بعد أن أخطرت بذلك زوجها - مكانا في زورقهم. وفي مكتب الجمارك الذي كان سيئ الإضاءة، كان أحدهم يركض نحوي صائحا: «لا تقلقي؛ فهما على وشك الوصول.» والحق أنه لم تمض لحظة حتى وصلا لاهثين، ضالين، لكنهما كانا سعيدين.
وعلى امتداد سبعة وعشرين عاما منذ ذلك الفراق، لم يفترق أحدنا عن الآخر إلا عندما كان طه يضطر للذهاب إلى العربية السعودية أو إلى تونس أو إلى دمشق لعدة أيام. •••
كنا نقوم بنشاط هائل في القاهرة، وكانت حفلات الاستقبال والمحاضرات وفيرة (فقد كانت المحاضرة حتى ذلك الحين حدثا اجتماعيا)، ولم يكن الناس يريدون أن يفوتوا شيئا. وكنت ترى الناس عجولين، لاهثين، يدلفون إلى المصعد الذي تركته لتوك، وترى آخرين ضائقي الأنفاس يتقاطرون وراءك في الدهليز حيث تتناول معطفك.
كنت أفضل على هذا النشاط تلك الاجتماعات البسيطة في ملجأ العجزة بشبرا.
ففي 19 مارس، وكان يصادف عيد القديس يوسف، راعي هذا الملجأ، أقيمت حفلة عشاء متواضعة في الحديقة في الساعة الخامسة بعد الظهر. لم يكن المدعوون إليها شبانا بطبيعة الحال، فقد كان المونسنيور جيرار الذي منح بركته في الكنيسة في الخامسة والثمانين من عمره، أما الرئيسة فقد تجاوزت السبعين؛ كانت امرأة ممتازة وذكية وحيوية. وألقى أحد النزلاء خطابا تقليديا، لا يتغير مع الأعوام - وإن نوع فيه قليلا على كل حال - ثم سلم الخطاب بعد ذلك معقودا بشريط إلى سفير فرنسا الذي شكره بتهذيب بالغ. وأخذت تعزف فرقة موسيقية تبرعت بالحضور، كانت مؤلفة من إيطاليين يسكنون الحي الذي يقوم فيه الملجأ. كان الاحتفال قد افتتح بالنشيد الوطني المصري والنشيد الوطني الفرنسي (المارسيلييز)، ثم اختتم بأغنية «أو سولو ميو»: يا شمسي!
ويخيل إلي أن الجميع كانوا سعداء، على أن الرجال كانوا سعداء أكثر من النساء. ويرجع السبب في ذلك، فيما يبدو لي، إلى أن النساء أقل تحملا للشيخوخة من الرجال وأقل صبرا على الافتقار للبيت العائلي، ولا يمكن للمرء إلا أن يلاحظ ضيقهن ومرارتهن القصوى أحيانا. لقد كنت دوما أشعر بذلك بألم، وكانت أمي تدهش عندما كنت أكرر على مسامعها ولم أكن قد تجاوزت سن الطفولة: «إنه لمن السهولة بمكان أن يهتم المرء بالصغار؛ فهم مرحون. إنهم المستقبل، كما أنهم في أغلب الأحيان وسيمون. ما أكثر ما أعجب بأولئك الذين يكرسون أنفسهم للعجائز، وهم غالبا، مرضى ومزعجون!»
كان الملجأ قد نقل إلى مصر الجديدة، ولم أعد أذهب إليه كما كنت أفعل من قبل، ثم انقطعت عن الذهاب إليه نهائيا منذ أن لم يعد بوسعي أن أترك طه فترة طويلة.
ومع ذلك، لم تكن مصر هادئة تماما. كانت وزارة صدقي في الحكم آنذاك. وقد كتب مؤنس لأبيه وهو الذي لم ينس أحداث 1932: «لا تسبب لنفسك السجن!» ثم تلقى مؤنس بعد ذلك رسالة من أبيه وصلته بعد أن تمت مراقبتها؛ فغضب لذلك. لا أدري إذا كانت وزارة صدقي لا تزال في الحكم إذ ذاك، على أن الحرية لم تكن موجودة على كل حال.
ثم حدث التقسيم المريع لفلسطين، وأعقبته الحرب. لم تبق فرنسا شومان حيادية كما وعدت في موقفها من مسألة فلسطين.
208
وكان ذلك حزنا آخر ينضاف إلى بقية الأحزان، حزنا لمؤنس أيضا الذي كان ينظر إلى الناس في قاعات السينما وهو يتابع الجريدة السينمائية وهم يصفقون لليهود طويلا في حين يصفرون للعرب.
ثم ستغمرنا الأحزان من جديد، وكان أكثرها إيلاما الموت السريع والمفاجئ لمصطفى عبد الرازق. لم يكن ذلك سرا بالنسبة لأحد، لقد كانت الفترة التي قضاها شيخا للأزهر كارثة؛ إذ إنه كان أكثر تنورا من أن تحتمله العقلية التي كانت لا تزال سائدة في الجامعة القديمة؛ ولذلك بقي فيها غير مفهوم يواجه الأحاديث الجارحة والظالمة بحقه، تلك التي كانت تؤلمه بصورة خطيرة.
كنت قبل وفاته بفترة قصيرة قد رجوته الحضور لتناول العشاء مع جورج ديهاميل الذي كان في زيارة للقاهرة؛ إذ لم يكن يلتقي بطه كثيرا تلك الأيام لانشغال كل منهما في عمله، فكتبت له: «تعال إذن مرة أخرى كما كنت تفعل.» (أو شيئا من هذا القبيل)، فأجابني: «مرة أخرى سيسعدني المجيء.» «مرة أخرى»؟ لقد كانت المرة الأخيرة!
كان «داردو
Dardaud » هو الذي اتصل بنا هاتفيا ليعلمنا بالنبأ، وكانت أمينة هي التي تناولت سماعة الهاتف ثم انفجرت في نحيب تشنجي. كانت مدعوة ذلك المساء لقضاء سهرة في السفارة الفرنسية، واستطاعت بصعوبة بالغة أن تتلفظ ببعض كلمات الاعتذار عن عدم حضورها. في حين أن طه في اليوم التالي، وهو الذي قضى ليلة لم يعرف النوم خلالها إلى عينيه سبيلا، أصيب بإغماء محزن كان يصاب به في أزماته العنيفة.
وبوفاة مصطفى بعد وفاة حسن باشا وحسين بك تنتهي مرحلة كاملة من حياتنا بشكل نهائي. لقد بقي علي خلال حياته بالنسبة إلينا صديقا عزيزا جدا، غير أن صداقتنا معه لم تكن تنطوي على تلك الصداقة الحميمة التي تولد من اللحظات التي يعيشها الأصدقاء معا.
لم نعد إلى «أبو جرج»؛ فالحياة قد تغيرت مثلما تغير هذا الريف الذي أحببناه.
ذات يوم من أيام الخريف في قرية «أبو جرج» تركنا بيت العائلة الكبير، وها نحن في «بيت الماكينة» وعلى الشرفة الكبرى التي تحيط به من كل جهاته، فوق المحرك المغلق، كان الهواء يهب فوق الخيم الكبيرة، يعبث بشعرنا ويقلب صفحات كتابنا. كان الأطفال يلعبون في الحديقة، وكان احمرار البلح متألقا، في حين يتناهى إلى السمع صوت ارتطام الرمان المتساقط بالأرض، ويملأ العين اخضرار الليمون الصغير، والشمس التي تغيب على حين تذهب العنب على الكروم. لم تكن نظراتي تصطدم أمامها بشيء يحد منها على امتداد الوادي الواسع، كما لو كنت على ظهر باخرة في عرض البحر. كان النسيم رقيقا، والليل يوشك أن يخيم، وكان لا بد من العودة بهدوء. ربما كان مصطفى بصحبتنا ذلك اليوم، أو لعله كان عليا. لم يكن مصطفى يمشي بسرعة مطلقا، وسيقوم الآخرون باستقبالنا ببساطة وحرارة الصداقة الأليفة المشتركة، وربما أوقد الموقد وربما شويت بعض أكواز الذرة، وسيهجع الأطفال عما قريب.
تلك كانت بلدتك تقريبا يا طه. أحلم بها أحيانا، كما لو أني أنعم النظر الحالم في صورة قديمة جدا.
كما سيرحل عنا علي باشا إبراهيم أيضا. كان جراحا شهيرا، لكنه كان أيضا صديقا حقيقيا، إنسانا لا يخشى الحياة؛ كان مرحا، وكنا سعداء حين كنا بصحبته.
ثم في نهاية العام، توفيت السيدة هدى شعراوي. عندما رفعت ورفيقاتها الحجاب عن وجوههن علانية، لم يكشفن عن وجوههن فحسب وإنما كن يكشفن عن قلوبهن وإرادتهن؛ كيما تستعيد المرأة المصرية كل ما فقدته خلال القرون الماضية في حياتها المادية وفي كرامتها، تلك المرأة التي استغلت في أغلب الأحيان نسيانا أو جهلا بأن القرآن الكريم، لو قرئ بإمعان، لا يسمح للمسلمين على الإطلاق بتعدد الزوجات. كانت مناضلة بلا عدوانية، دائمة النشاط، مستعدة دوما لطلب النصيحة والمعونة ممن يستطيع منحهما، وكان وجهها الهادئ النبيل الذي لا ينسى فيض طاقة وعذوبة ... بيد أنك أنت يا سيزا من تملك حق التحدث عنها.
209
وفي نهاية عام 1947 كنا نتخلص بالكاد من الخوف الكبير من الكوليرا، وكان يمكن لهذا المرض أن يسبب كارثة لولا حكمة وفعالية الإجراءات التي اتخذت على الفور؛ فقد علمنا بذلك عندما كنا في مرسيليا لحظة إبحارنا. وأظن أننا، ونحن على ظهر الباخرة، بعيدين عن الأخبار الدقيقة، كنا في منتهى القلق. لم نكن وحدنا القلقين، وككل ربات البيوت، قمت باتباع القواعد الصحية الضرورية المطلوبة في مثل هذه الحالة بدقة. وكان الجميع في بيتي يطيعني، بيد أنه لم يقبل أحد منهم تناول الموز المغلي، وكان ذلك منهم سلوكا طفوليا.
وتطوعت ابنتي مع غيرها من الفتيات والنساء للمساعدة في التطعيم العام. لم تكن قد مارست إعطاء الحقن من قبل قط، وكانت أولى زبائنها التي اختارتها امرأة قوية من الدرب الأحمر بدا عليها الذعر. قالت لها أمينة بصوت حاسم: «هيا معي! لا تخافي؛ فمعي لن يؤلمك ذلك أبدا.» وغرزت إبرتها بجرأة في ذراع على قدر كبير من السمنة أتاح للإبرة أن تدخل وحدها. وبعد هذا النجاح، قامت بتطعيم مئات الناس حتى الوجه القبلي؛ حيث ذهبت بصحبة فريق من الصليب الأحمر.
حفلت سنوات ما بعد الحرب بلقاءات سعيدة. وكان أول هذه اللقاءات لقاؤنا مع أندريه جيد. كان عائدا من الأقصر، وكان ينزل ضيفا على أسرة «فييت
Wiet ». وقد صحبه جاستون فييت
210
لمنزلنا ذات صباح. كان طه في مكتبه يحدث الحب أحيانا منذ النظرة الأولى، وكذلك الود، ولقد كان هذا اللقاء الأول بين طه وجيد واحدا من هذه المرات. كان طه يعجب بجيد، ولا شك، ولكن من بعيد قليلا؛ فهما لا يتشابهان كثيرا. غير أنهما ما إن التقيا حتى تفاهما على الفور إثر مناقشة عفوية كانا فيها كلاهما على رأي واحد، وأظن أن كلا منهما قد تعرف في الآخر هذا الانفتاح الروحي النادر والبساطة الكلية. وقد عاد جيد لزيارتنا وتقاسم معنا بعض وجباتنا، وعرفت ما يحب: الشيري براندي، والجانرك. ولاحظ طه أن جيد أعجب بالسجائر التي كان يدخنها، وهي سجائر «الميراكل»، فأرسلنا له منها إلى باريس، وأسعده ذلك.
وكان عدد من أصدقاء أمينة أعضاء سابقين في جماعة «الطلبة» فيما أظن، قد قرروا أن يقدموا عرضا لمسرحية «أوديب» لأندريه جيد، لا بشكل تمثيلي، وإنما بإلقاء حوارها إلقاء. فحضر جيد إلى البيت للاستماع إلى تمارينهم.
فجأة انتبهنا إلى أننا لم نعد نرى بوضوح، وأن السماء غدت في منتصف النهار سوداء تماما، تعبرها من حين لآخر نقاط حمراء غريبة. وأذكر أن آنية أزهار رقيقة كانت تحوي فيما أظن أزهار الخوخ، غدت وهي فوق البيانو الأسود، جميلة بشكل غريب. كنا مذهولين إلى حد ما، وظن أناس أنها نهاية العالم؛ فشهدنا اعترافات علنية. وكان جيد الذي أثار ذلك اهتمامه إلى حد بعيد يستمر في متابعة هذا المشهد الغريب لا يصرفه عن متابعته شيء آخر؛ فقد جلس على درج المدخل ولم يرض بالعودة إلا عندما عادت الشمس إلى الظهور ثانية بشكل تدريجي.
كان قد قرأ لنا في صالوننا الصغير ذات مساء روايته
Thésé . وقد تأثرنا ولا شك من نص كان يعتبره آخر أعماله كما هو معروف، لكننا تأثرنا كذلك بالصوت العميق الذي كان يقرؤها به. وقد ترجم طه حسين هذا النص على إثر ذلك مباشرة تقريبا.
ولما كان يحب المسرح فقد صحبناه إلى مسرح الريحاني.
211
لست أذكر المسرحية التي كانت تقدم آنذاك. كان جيد لا يفهم بالطبع كلمة مما كان يقال، بيد أن طه كان يقدم له بعض التفسيرات، وكان لا بد لتمثيل هذا الفنان الرائع من أن يؤثر فيه؛ فرغب في الذهاب إلى مقابلته في مقصورته بالمسرح ليعبر له عن سعادته الكبيرة بما رآه. كان الريحاني سعيدا جدا بهذه المقابلة ، وكذلك أنا؛ لأنني كنت أعجب به دون أن أفهم أكثر بكثير مما كان يفهم جيد.
ورغب مؤنس في باريس في لقاء هذا الصديق الجديد. فتلقى على إثر ذلك دعوة من جيد للحضور إلى شارع «فانو
Vaneau »، وجاء لزيارته وظل مأخوذا؛ إذ وجد الكاتب الشهير في زيه العجيب: بيريه باسكيه، وسترة عتيقة من المخمل الأحمر البنفسجي، وبنطلونا ذا مربعات زرقاء وسوداء، وخفين مستهلكين ... هو الذي يبدو في منتهى الأناقة عندما يلتف في عباءته (الكاب) الداكنة اللون! وسحبه جيد إلى غرفته، فرأى مؤنس على مكتبه دهشا مسودات كتاب «الأيام» النص الفرنسي. كنا نعرف الموقف الذي وقفه جيد في دار جاليمار للنشر بصدد الكتاب، لكننا لم نتصور أن يصل به الأمر إلى أن يهتم بتصحيح مسودات الطبعة الأولى! لا بل إنه كان يقوم بذلك بعناية وفهم دقيق، مبينا الأخطاء الطفيفة، سائلا مؤنس عن المعنى الأدق لبعض الكلمات، ثم ينتهي به الأمر إلى أن يطلب من مؤنس أن يحمل معه بعض الصفحات ليسجل عليها ملاحظاته الخاصة.
كان جيد يوجه أكبر قدر من اهتمامه لما كان يكتبه طه. وقد طلب إلى مؤنس بعض الإيضاحات المفصلة عن «الشعر الجاهلي»، هذا الكتاب الذي كان له دوي هائل، وكذلك حول تأملات أبيه في التصوف الإسلامي التي عرضها في مقدمته للنص العربي من كتاب جيد «الباب الضيق».
لقد خص جيد مؤنس بلفتاته اللطيفة؛ فدعاه إلى التمارين على مسرحية «المحاكمة» وقدم إليه مقاعد لحضور حفلة موسيقية في مسرح الشانزيليزيه، كما أهدى إليه ترجمته لمسرحية «هاملت».
كانت الصداقة الحارة التي عبر عنها جيد بأسلوب بليغ برغم تحفظه المعروف والأخاذ، أمرا عظيم القيمة في نظر طه على وجه اليقين.
لم نكن ننتظر زيارة «بيير بوردان
»، وكنا نعرف جيدا الصوت الذي كان يصلنا من لندن مع صوت موريس شومان وجان ماران أيام الفرنسيين الأحرار،
212
لكننا لم نكن قد رأيناه إطلاقا. وعندما حضر لرؤية طه بقي عنده أكثر من ساعة ونصف الساعة، ثم جاء ثانية صباح يوم سفره، وكتب لنا رسالة من تونس التي ذهب إليها ، وهي رسالة ما زلت أحتفظ بها. ولقد مات هذا الشاب المتواضع، الخجول إلى حد ما، والذي يفيض ودا ... مات بعد وقت قليل. لقد عبر سريعا، لكن طه، شأنه في ذلك شأني، كان يعتبره دوما صديقا.
وجاء كوكتو بدوره إلى مصر. وقال لطه على الهاتف عندما اتصل به: «أنتظر بفارغ الصبر أن أقبلك.» ووصل وقبله. وتناول العشاء في البيت، ثم قام بزيارتنا مرتين، واستمرت زيارته في كل مرة ثلاث ساعات. لم يكن ساكنا على الإطلاق، بل كان حيويا في إشاراته وفي كلماته، وكان يختار الجلوس حين يدخل الصالون ليس على مقعد وإنما على درجة طويلة من الخشب تحاذي الفتحة ذات الباب الزجاجي التي ننزل منها إلى الحديقة. كنت أجلس قربه وأبقى مأخوذة أستمع إليه وهو يلوح بيديه الذكيتين اللتين كانتا تتحركان بشكل لا يصدق، واللتين كانتا ترسمان أمامه أشكالا غير مرئية.
ذات يوم، جلست إلى جانب طه على الأريكة ذات اللون الوردي الهادئ امرأة صغيرة الحجم، وكانت هذه المرأة إديث بياف. كنا قد حضرنا حفلتها الغنائية، ولكني لم أكن أتصور على كل حال أنها بهذا الحجم، فقد كان العرض والإضاءة يزيدان من حجمها. كما لم أر أن عينيها الزرقاوين على هذا القدر من الصفاء، هاتين العينين اللتين كادتا أن تفقدهما ذات يوم، ولقد حدثتنا عن ذلك.
ومر «جوفيه
Jouvet » مع فرقته. ودهشت إذ وجدته في منتهى الحرارة وهو يمثل في «أوندين
Ondine ». ولعل مرد ذلك إلى أنه كان من التعب بحيث لم يكن يسيطر على لهجته المعتادة ذات الطابع الحيادي إلى أقصى حد، والساحرة أيضا. تناولنا الغداء معه في بحيرة قارون
213
بدعوة من جورج ديلو، وتحدثنا طيلة فترة الغداء. بيد أني لا أستطيع أن أعيد ما تحدثنا به.
ولا أدري إذا كان بابلو كازال
214
قد جاء إلى مصر. لست أظن ذلك. ففي مونبلييه صافحناه بطريقة غير منتظرة. كانت جامعة مونبلييه قد اختارت عام 1946 سبعة أشخاص لمنحهم دكتوراه الشرف، وكان طه أحد هؤلاء السبعة، أما بقيتهم فلا أذكر منهم سوى ستيفن سبندر
215
وبابلو كازال . ألقى ستيفن سبندر خطبة جميلة، أما كازال الذي كنا بالكاد نراه بسبب قامته القصيرة ومظهره المتواضع؛ فقد قال عندما جاء دوره: «إنني لا أعرف التحدث إلا بواسطة كماني، فإن شئتم استمعوا له.» وعزف لحنا من مقام ره؛ فهام طه في عالم الملائكة.
كان لهذا الاحتفال الذي أقيم بعد الحرب مباشرة تقريبا طابع خاص وحميم وأخاذ.
وكان أكبر تأثير علينا منه الذكريات التي لنا في هذه المدينة؛ فقد عدنا إلى هذا المكان بعد واحد وثلاثين عاما من لقائنا. وخلال هذه الأيام القليلة، وبمصادفة غريبة، كنا هناك يوم 12 مايو (يوم لقائنا الأول). ذهبنا إلى «كاريه دوروا»، إلى النزل الذي رأيت فيه طه للمرة الأولى؛ كان مغلقا ولم يكن لدينا وقت للعودة إلى دروب أيامنا الأولى، لكن مؤنس وأمينة كانا معنا؛ فبم يسعنا أن نحلم بأفضل من ذلك؟!
وبعد زيارتنا لمونبلييه مباشرة كان موعد انعقاد مؤتمر الفكر الفرنسي والسلام
216
في باريس الذي دعي طه إليه، وكان عليه أن يلقي كلمة فيه، وهكذا كان يجلس على منصة المؤتمر غير بعيد عن مورياك وإيلوار وقريبا جدا من إلزا تريوليه. كان يشترك في المؤتمر كثير من كتاب المقاومة، وكان ذلك في حد ذاته أخاذا. كان طه مضطربا؛ إذ إنه كان دوما يتعذب كلما وجب عليه إلقاء خطبة حتى ولو كان ذلك باللغة العربية. وقد وقف لإلقاء كلمته على إثر إلزا تريوليه التي رأت أن عليها وهي تلقي كلمتها أن تعتذر عن لهجتها الأجنبية.
217
فبدأ طه كلمته بقوله: «وأنا أيضا أرجوكم معذرتي على فرنسيتي الرديئة ...» فانفجرت إلزا ضاحكة، وكذلك آراجون الذي ضحك بود إذ كان يعرف طه جيدا. وها هو زوجي، وقد جعله ذلك يضطرب بشكل مخيف، يحاول أن يستدرك ويغمغم: «لم أكن أريد أن أقول يا سيدتي، إن فرنسيتك ...» وبعد اعتذارات لطيفة، توصل إلى ما كان يريد أن يقوله، وصفق له الحاضرون بحرارة بالغة.
لم تكن الدكتوراه الفخرية التي منحتها له جامعة مونبلييه أول دكتوراه تمنحها فرنسا لطه. ففي عام 1930 أنعمت عليه جامعة ليون بهذا الشرف ، وقد ذهبنا معا إليها. وكان ذلك في شهر نوفمبر، على متن الباخرة «شامبليون». كان طه يعرف «هيريو
Herriot »
218
إلى حد ما؛ إذ كان يلتقي به غالبا في اجتماعات التعاون الفكري
219
ويلتقي معه من ثم في الوقت نفسه فاليري الذي كان طه يكن له إعجابا عظيما. ولم يكن يخفي هذا الإعجاب، حتى إن الراديو الفرنسي أرسل له، عندما أراد شكره على الحديثين اللذين قدمهما للمستمعين العرب، كتاب فاليري الجميل «السيد تيست
Monsieur Teste » المزين بقلم فاليري نفسه.
استقبلنا عمدة ليون في مدينته كأصدقاء. وكان حديثه، كما هو معروف، عيدا. كان كل ما يقوله مثيرا، بل إن طريقته في قول ما يقول كانت أكثر إثارة. وأقيمت بالطبع عدة ولائم، غير أن وليمته كانت ممتازة، وكان أيضا ذواقة شهيرا للأكل، ولقد حدثني بإطناب عن الحدائق خلال الغداء، وكان يقول إن في عالم النباتات كما هو الأمر في العالم الإنساني نباتات وأشجار غير متحابة بوضوح. لقد قرر أن يبتكر زهرة في مزرعة الورد التجريبية حيث كانت تجرى تجارب علمية عظيمة، وسوف يطلق على هذه الوردة «سوزان طه حسين»، والحق أن مدير المختبر أعلمني بعد ذلك بسنة واحدة تقريبا عن ولادة زهرة شاي مهجنة تحمل اسمي. لم أرها قط؛ فقد قامت الحرب ولم نعد إلى ليون.
كان هيريو أيضا مرحا بقدر ما كان بليغا عندما منحته جامعة القاهرة الدكتوراه الفخرية. وبدأ ينادي طه منذ ذلك الوقت: «يا عزيزي العميد.»
رأيناه ثانية في نهاية الحرب. فقد قضى أربعا وعشرين ساعة في القاهرة في طريق عودته من روسيا إلى فرنسا، وقد تلطف وزير فرنسا المفوض؛ فدعانا لتناول الغداء بصحبته في جلسة خاصة، وعندما لمحته في الحديقة حيث كان يتمشى إلى جانب الوزير بدا لي إنسانا متغيرا كليا، متهالكا، قد شاخ بشكل لا يصدق. وعندما التقى طه به تعانقا. وانفعلت من لقائي به فعانقته بدوري، فقال لي السيد ل. مبتسما: «إن الرئيس محظوظ.» أما زوجته السيدة هيريو فقد بدت لي أقل إنهاكا، وكان زوجها يردد: «لقد كانت رائعة رائعة؛ فبفضلها ما زلت أعيش، إنها بطلة!»
وفي العام التالي، كان مؤنس يحضر في باريس محاضرة لهيريو الذي كان قد استعاد صحته. وعندما تقدم لتحيته، قام هيريو بتقديمه مطولا إلى كل من كان حوله، متحدثا بإطناب عن أبيه. كان مؤنس عفوي الإعجاب بهذا الرجل المسن المتعب الذي كان يجد في غمرة هموم الحياة السياسية الوسيلة للذهاب إلى المكتبة الوطنية لمراجعة المخطوطات.
ثم ذهبنا في أحد الأيام لزيارته. كان رئيسا للمجلس النيابي، لكنه كان مريضا جدا. كان ينتقل بصعوبة، وكنا مضطرين لمساعدته على المشي، وكان لقاؤنا ذاك به هو لقاءنا الأخير. •••
ما إن عادت أمينة من الريف بعد جولة التطعيم ضد الكوليرا حتى تقرر مصير حياتها، وكان لا بد من إعلان ذلك. فمنذ ثماني سنوات وهي، فيما يبدو، تبادل محمد الزيات المودة دون أن تلتزم نهائيا بالارتباط به. ومع ذلك فإن محمدا لم يكن يشك قط في مشاعره، منذ تقديم «إليكترا»، نحو الفتاة الطويلة الشامخة الرأس، والتي كانت تقف باستقامة أخاذة وسط ثنيات سترتها البيضاء ذات الحزام الفضي.
كانا يدرسان في الكلية نفسها. كان هو مختصا بالدراسات الفارسية. وقد دفعه طه في هذا الاتجاه مثلما كان يوجه بعض طلابه نحو اليونانية والبعض الآخر نحو اللغات السامية. وقد قص علي صهري أنه بعد أن تقدم بطلب منحة دراسية (ولم تكن مسألة الخطوبة قد طرحت بعد آنذاك) دهش من إعطاء المنحة لطالب آخر؛ فسأل طه: «ولماذا؟» فأجابه طه: «لأنه أفقر منك.» وأعلنت الخطوبة. ولما كانا قد انتظرا طويلا فقد أصبحا مستعجلين! وهكذا كنا نسرع في الإعداد للزواج، وزوجناهما في فترة فصلت بين مؤتمرين كان علينا حضورهما في الخارج. فقد عدنا من المؤتمر الأول في الرابع من يونيو
220
وتم الزواج في الثاني عشر منه، ثم رحلنا في السابع عشر ثانية.
وتركناهما وراءنا متألقين، وبعد عدة أيام توفي والد صهري فجأة ... وقد تألمنا من ذلك كثيرا، أما ابنتي فقد كانت مبلبلة، لكنها وجدت لدى حماتها تفهما نادرا؛ فقد تمكنت هذه المرأة الشجاعة الطيبة من كبت حزنها الشخصي كي لا تكدر سعادة وليدة.
وفي التاسع والعشرين من أبريل في السنة التالية، احتفلنا بميلاد «حسن»، أول حفيد لنا، وكنا نحتفل عشية ذلك اليوم أيضا بعيد ميلاد الملك. وكان على طه، بصفته عضوا في المجمع،
221
أن يكون في مسجد الرفاعي مع بقية الهيئات الأخرى فضلا عن أنه تلقى جائزة فؤاد في الأدب. ولما كان مكلفا بإلقاء خطاب فإنه ألقاه بسرعة وبفراغ صبر مهموم؛ ذلك أن الطفل كان قد ولد. أما بالنسبة إلي، فقد عشت ساعة غريبة لا تمحي ذكراها من خاطري ولا تغشاها الظلال. كنت وحيدة في الغرفة بالقرب من ابنتي التي كانت لا تزال تحت تأثير المنوم، وبالقرب منها وليدها صامتا مثلها. وكان أفراد الأسرة يحدثون ضوضاء على بعد منا في المستشفى وهم يتبادلون التهاني، وكانوا سعداء. كنت أعرف في تلك اللحظة أن أختي قد توفيت، وأخذت أفكاري تتنقل بين تلك الحياة التي كانت تبدأ وتلك الحياة التي كانت تنتهي. وبقيت على هذا النحو ساعة من الزمن مستغرقة في تأمل موضوع لا أظنني مذنبة فيه.
فعندما وصلنا باريس، كانت «أندريه» لا تزال تأمل. كانت مضطرمة النشاط تضفي على كل ما تقوم به فيضا من الحيوية! وكانت تردد: «أعبد الحياة.» وكان ذلك يحطم قلبي. وفي العاشر من شهر أغسطس، لم تكن قد تخلصت بعد من آثار المورفين على وعيها عندما مدت إلي مع ذلك يدها بباقة من الورود الحمراء، وهمست لي: «عيد سعيد!» ولا تزال وريقات هذه الزهور المسودة والمسحوقة معي حتى الآن.
ماتت في الليل.
222
كنا نسرع في البحث عن تاكسي عندما اتصل بنا بيير هاتفيا، وكانت هناك راهبة قد ألبستها ومشطت شعرها. وعدنا إلى الفندق في الصباح الباكر، وعندما وصل مؤنس، وكان قادما من معهد المعلمين العالي، ورأى وجوهنا ... لا أرى حاجة لوصف مشاعرنا في تلك اللحظة. ضغطني على صدره بدون أي كلمة من جانبه أيضا، وكان هو الذي ذهب لإخطار أمنا.
كان قد قبل لتحضير شهادة الأستاذية، وكانت أندريه تعرف ذلك. ولما كانت بلا أطفال فقد كانت فخورة به جدا.
منذ ستة وعشرين عاما وأنا أتألم كلما فكرت فيها، ومع ذلك فإن الرجفة لا تزال تعتري كياني كله عندما تنفجر الأنشودة الطاهرة «هليلويا» في جناح كنيسة نوتردام دي فيكتوار حيث تمت المراسم الدينية: «إلهي، امنحني أن أحب حتى يومي الأخير، ولا تدع قلبي يا إلهي أبدا. أتوسل إليك لا تدعه أبدا قلبا جافا أو قلبا أصم!»
عندما عدنا لمصر كان هناك حشد حقيقي بانتظارنا في الميناء، وكان طه الذي كان لا يزال مغضوبا عليه من قبل السلطة، ممسوكا من قبل صهره من جهة ومن قبل الأصدقاء والصحافيين من جهة أخرى، يواكبهم طلبة ومجهولون حتى وصوله إلى السيارة.
وفي منزل ابنتنا وجدنا «حسن» قد كبر. كان طه يطلبه غالبا، وكانت أجمل صفعات الصغير مخصصة له، وكان سعيدا. •••
لم نكن نتوقع أن يصبح طه وزيرا في يوم من الأيام. فقد كنا نرى دوما أن ثمة موانع حاسمة تقوم عقبة في وجه ذلك بسبب عاهته وأفكاره المتحررة الجريئة وطبعه المستقل والحاسم. فبوصفه مستشارا فنيا كان يكتب لرئيس المجلس، حيث هوجم بعنف، على هذا النحو:
نعم؛ إنني أدافع عن سياسة الوزير وسوف ألازمه في ذلك. وسألقي خطبا من أجل الدفاع عن الوزارة؛ ذلك لأنني أدافع عن سياستها التعليمية التي هي سياستي، ولن يستطيع أي إنسان أن يحول بيني وبين ذلك سواء كنت موظفا أم لم أكن (رسالة مفتوحة).
كان دون أي شك سعيدا لاستطاعته أن يحقق عددا من مشاريعه. فقد اجتاز بنضال عنيف الخطوة الحاسمة من أجل تحقيق مجانية التعليم التي كان قد طالب بها منذ عام 1942. وكان قد تقرر قبول المبدأ غير أنه لم يطبق، وكان الناس في الخارج على وعي كامل بما كان يعنيه هذا التحول الهائل. أما في مصر فقد سبب الأمر هيجانا، وقد تسلى طه عندما نقلت له كلمة تاجر بسيط لامرأته: «فلنأت بأولاد يا امرأة؛ فالآن يسعنا أن نعلمهم!»
وأمكن بعد ذلك المساعدة في تغذيتهم؛ وذلك عن طريق تقرير وجبة مجانية في المدرسة.
كما تأسست كلية جديدة للطب، وكذلك جامعة جديدة هي جامعة إبراهيم - جامعة عين شمس حاليا - وأنشئ المعهد الإسلامي في مدريد. وفي أثينا أنشئ كرسي جامعي للغة وللثقافة العربيتين، وكان يأمل تأسيس معهد في الجزائر.
وقد استخدم كل الوسائل الممكنة كي يزيد من عدد المدارس الابتدائية التي لم يكن عددها كافيا حتى وصل به الأمر أن قام بجولة مخيفة في محافظة الدقهلية وأراد أن يقوم بجولات أخرى أيضا. كانوا يريدون الاستماع إليه، وكان يقبل الكلام شريطة دفع مبلغ معين لبناء مدرسة، وكان بعض الوجهاء المأخوذين به يدفعون بشكل عفوي؛ فكان يعود إلي في حالة نفسية ممتازة.
لم يكن ثمة أبنية كثيرة في أكتوبر من أجل افتتاح المدارس، وكنت متوترة النفس قلقة؛ إذ كيف سيتدبرون أمرهم أمام هذا المد، هذا السيل من الأطفال الذين كانوا ينتظرون هذا الوعد الرائع؟ هذا دون حسبان الطلبة الذين قبلوا بكثرة في الكليات، وخاصة في كلية الطب. وبسبب انشغاله بالأبنية الجديدة وبالأساتذة الجدد لم يكن طه ينام مطلقا.
وتم افتتاح المدارس، وبدأت الآلة تمشي. لم تكن تتحرك دون هزات بالطبع، لكنها لم تكن تتوقف.
وفي العام التالي أمكن قبول 90٪ من التلاميذ المتوقع دخولهم المدارس في أكتوبر، أما الباقي فسيدخلون المدرسة في نوفمبر. ولم أفهم على الإطلاق كيف أمكن تدبير ذلك، ولا كيف كان يتغلب على عقبات محفوفة بالمخاطر على نحو خاص. ولقد قرأت بعد سنوات عديدة مقالا مؤثرا لعالم ألماني كان مكفوفا هو الآخر أدهشني منه هذا المقطع:
عندما توجب مناقشة ميزانية وزارته في البرلمان، كان النواب ينتظرون بفارغ الصبر أن يروا كيف سيتصرف الأعمى في أثناء المناقشات، وخاصة كيف سيدافع عن ميزانيته. ولقد دافع طه حسين عن الميزانية وحده تماما في خطاب استمر أربع ساعات ولم يرتكب فيه أي خطأ حتى في الأرقام التي أوردها.
كان يحمل هذا الحرص على الدقة في كل مكان يذهب إليه، وقد كتب أحدهم في مجلة المصور: «إن رؤية طه حسين في وزارته هي رؤية قائد على رأس جيوشه.»
كانت هناك أمور تدعو للحماس ، وكانت هناك التزامات المهنة: افتتاح المدارس والمستشفيات وما إليها. والتزامات سارة أيضا: كاستقبال فرقة الكوميدي فرانسيز مثلا الذي تم في الوزارة؛ نظرا لأن بند الإنفاق في ميزانية الوزارة في هذه الميادين لم يكن يتجاوز 80 جنيها فلم يكن هناك مجال من ثم لاستقبالها في فندق. وأمكن بالكاد تسديد الحساب لجروبي.
223
على أن ذلك كان في منتهى الجمال؛ فقد أرسلت وزارة الزراعة باقات من الأزهار، وأعار بعض الأصدقاء بعضا من لوحاتهم، أما أنا فقدمت منحوتين لرزق
224
وبعض الأثاث. كان الجميع يفيضون سرورا وأناقة أيضا، وقد فوجئت بعد عدة سنوات بامرأة تحاذيني في جاردونيه في صالون «السافوا
Savoy »، لم أتعرف عليها على الفور، تقول لي: «إنني «بياتريس بريتي
Béatrice Bretty ».
225
لقد استقبلتمونا في القاهرة.» كنت أعجب بهذه الممثلة، ولقد أسعدتني هذه الذكرى.
وأقيم احتفال هائل لوضع حجر الأساس في جامعة الإسكندرية تحت رعاية الملك، وكان طه في ثوبه كأستاذ جامعة، بالغ الشحوب والجمال معا.
ثم احتفل بزواج الملك. وعندما ذهب طه إلى قصر القبة كنت مهمومة؛ إذ إن إحدى أسنانه كانت فاسدة إلى حد كبير، وقد خلعت في اليوم التالي، وكانت تسبب له أسوأ الآلام. غير أن كل شيء تم لحسن الحظ على ما يرام. وعندما عاد إلى الزمالك كان متعبا، لكنه كان متأثرا؛ إذ لم يكف الناس على طول الطريق عن الهتاف: «يحيا وزيرنا، يحيا صديقنا، يحيا أبو المساكين ... ذلك الذي ينورنا!»
كان على زوجات الوزراء أن يقدمن بعد الظهر إلى الملك والملكة الجديدة. وبانتظار لحظة الدخول إلى قاعة الاستقبال، كانت زوجة النحاس باشا تبذل جهدها في تعليم الخطوة التراجعية التي يجب القيام بها في أثناء تحية الملكين لامرأة لم يسبق لها أن قامت بها قط، وقلت على الفور أنني عاجزة عن القيام بها، وبدت إحدى صواحباتنا متمردة على هذا التقليد. بيد أن ذلك لم يحدث فضيحة؛ فتنفست مدام النحاس المسكينة الصعداء، فقد كان الملك والملكة في منتهى اللطف، وكانت حفلة الشاي التي تلت مراسم التقديم مرحة. لم يحضر حفل التقديم هذا سوى رجلين فقط : الأمير محمد علي، والأغا خان. وكان كلاهما يملك الحق في الجلوس؛ فقد كانا إلى حد ما متعبين.
وبعد ذلك بيومين قدمت على مسرح قصر عابدين
226
حفلة باليه لروزاريو وأنطونيو. ولما كانت الملكة لم تحضر هذا الحفل، فإنه خلا من أية امرأة مصرية فيما عداي باعتباري أرافق زوجي.
لم يكن هناك وقت طويل من أجل إعداد اليوبيل الفضي لجامعة القاهرة في يناير 1951. كان الجميع مرهقين بالعمل في نهاية شهر ديسمبر، وكان يجيء إلى بيتنا أربعة عشر عميدا وأستاذا ينهمكون ويناقشون ساعات وساعات وسط غيوم من الدخان، وأعد لطه ثوب خاص بالبلاط! وكان ثوبا أكثر زخرفة من الردينكوت الأسود المعتاد. أما توفيق الذي كان يعمل في مكتب الوزير آنذاك، فقد كان يبذل ما في وسعه. وكنا نتفاهم جيدا، ولم أكن آخذ عليه سوى تناسيه من حين لآخر لبعض الأمور وكان يعترف بذلك.
كان هناك من بين أعضاء الوفود كثير من الأصدقاء والشخصيات الذين نعرفهم، بيد أننا لم نكن نملك الفرصة لسوء الحظ لنتحدث معهم كثيرا. ولقد سعدنا بلقاء الكاردينال «تيسيران
Tisserant ». كان عظيما وودودا كعادته دوما!
وفي سهرة قصر عابدين كنا هذه المرة امرأتين مصريتين: زوجة وزير قبطي مسيحية، وأنا.
كان برنامج الأعياد حافلا؛ فقد أقيمت حفلة غداء في المزرعة الملكية بأنشاص، وسهرة دبلوماسية زاخرة بباقات الأزهار. أما «السهرة الشرقية» فقد خلفت في نفسي ذكرى إرهاق كبير. لقد أقيمت السهرة في جناح «السلاملك» بقصر المنسترلي في جزيرة الروضة، وكان جناحا ساحرا يطل على النيل. كان ساحرا لكنه خرب تماما؛ إذ كانت خيوط العنكبوت في كل مكان، وكان الغبار يغمر حتى علاقات الثياب، أما زجاج النوافذ فقد كان معتما تماما، وكان السجاد الذي يحملونه ينفض كل الغبار تقريبا بحيث تتعب الرئتان من رفعه. ولم يكن أمامنا سوى عدة أيام لإعداد كل شيء من أجل السهرة؛ فجلبن المصابيح والكراسي، وأتي ببيانو، واستطاع تيميلي
227
أن يعزف ألحانا موسيقية لباخ وفوريه. كما عزفت موسيقى عربية بطبيعة الحال وأغنيات جميلة. وكانت زوجة رئيس جامعة باريس اللطيفة التي كانت قد عاشت في إسبانيا واضحة الاهتمام بهذه الأغنيات وبتلك الموسيقى، وكانت ليلة شتائية جميلة في الشرق.
وقال الملك بابتسامة ساحرة لطه على إثر خطابه في افتتاح معهد الصحراء خلال هذه الأعياد: «أشكرك يا باشا.»
هكذا منح طه لقب الباشا،
228
ذلك اللقب الذي لم يفكر فيه إطلاقا مثلما لم أفكر فيه من ناحيتي على الإطلاق. لقد شكر طه الملك بطبيعة الحال على ذلك، لكن هذا التكريم لم يحرك فيه ساكنا؛ فلم يكن من عبدة الألقاب. غير أن كثيرا من الناس كانوا سعداء بذلك، وتتالت برقيات التهنئة علينا شأن السنة الفائتة، بيد أنها زادت بتهنئة 180 مدعوا أجنبيا كانوا حاضرين يومها. وكان بعضهم يقول: «لقد تشرف اللقب بك ولم تتشرف به.» ولم نحزن لقيام الثورة بإلغاء كافة الألقاب بعد ذلك بسنتين؛ ذلك أن طه لم يغير على الإطلاق البطاقة التي كانت لا تحمل منذ زمن بعيد سوى كلمتين: طه حسين. وكانت وحدها بطاقة الدعاوى الرسمية التي تحمل اسمه واسمي «السيد والسيدة طه حسين.» قد حملت لقب الباشا؛ إذ كان من المعيب ألا يضاف اللقب.
كانت الأعمال تنفذ وتتتابع، ولم تكن الاحتفالات المختلفة تحول بيننا وبين الأسفار الرسمية؛ ففي الربيع قمنا برحلتين إلى نيس وروما، كما قمنا في الخريف برحلتين إلى مدريد ولندن، وفي السنة التي تلتها إلى أثينا وفلورنسا وفينيسيا.
كان طه في نيس يفتتح مشاركة مصر في الندوة التي أقامها مركز البحر المتوسط.
229
كانت رحلة قصيرة، مريحة وسريعة. فقد التقينا فيها ذكرى عزيزة هي ذكرى آل «جلينشيف
Gelenischeff »،
230
هو نبيل روسي، وهي فرنسية. كان جلينشيف يتكلم أربع عشرة لغة، وكان عالما مختصا بالآثار المصرية. وكان غالبا ما يأتي إلى مصر عندما كان أرستقراطيا غنيا، كما قضى فيها كأستاذ وكمنفي معظم السنوات الأخيرة من حياته. كانا، هو وزوجته، لا يستقبلان الكثير من الناس، متمسكين بشيء من العزلة. بيد أن ودهما نحونا كان مخلصا وقريبا. ويعرف ولداي ذلك جيدا، وهما اللذان لم يريانهما قادمين إلى بيتنا دون أن يحملا علبا ضخمة من الشوكولا والألعاب الجميلة .
كان جلينشيف يقول للسفرجي الذي يفتح له الباب عند قدومه: «أعلن عن الموسكوفي.» ولعل التهذيب الكامل لزمن مضى كان يزيد من متعة اللقاءات. لقد مات في نيس التي كان قد اعتزل فيها
231
وكان عمره 90 عاما، أما زوجته فقد لحقت به بعد عدة سنوات.
وصحبنا الديواني الذي جاء للاشتراك في ندوة المركز المتوسطي إلى باريس بسيارته مع مؤنس الذي كان قد جاء هو الآخر. ولقد أتانا الربيع، ربيع جزيرة فرنسا (إيل دو فرانس)، مع العربات المحملة بالليلك حين كنا نجتاز غابة فونتنبلو؛ فاشتريت منها باقات عديدة.
وحضر طه إلى روما ليتسلم الدكتوراه الفخرية. وكانت ماريانا لينو هي التي رحبت بوصولنا؛ فكتبت لي: «لا أريد لأول تحية تتلقيانها من روما أن تكون تحية رسمية، وإنما أن تكون تحية الود. تحيتي وتحية أبي الذي كان سيعبر لكم عنها والتي كان سيكون سعيدا لو كرر التعبير عنها لكما.»
كانت الجلسة في الجامعة مؤثرة. وقد ألقى الرئيس الفخري كلمة جميلة، وأعطى وهو واقف إشارة التصفيق.
حضر الجلسة «أرانجيو رويز
Arangio-Ruiz ».
232
لكنه استقبل طه في السنة التالية في أكاديمية «دي لينشي
Dei Lincei »
233
بكلمات حملت من الود الواضح ما جعلني أذكرها دوما بامتنان. كان هذا العالم القانوني ذو الشهرة العالمية قد علم في القاهرة حيث لا يزال له ولا شك تلاميذ فيها. كان مرحا بقدر ما كان عالما. ففي ذات مساء، بينما كنا نتناول العشاء معه في أحد مطاعم القاهرة، كان ثمة عازف بيانو يعزف ألحانا إيطالية. فلم يتمكن من كبح جماح نفسه، وانطلق يغني بصوت عال دون أن يهتم لجيرانه الذين دهشوا، وكان بعضهم ممن يزن تصرفاته إلى حد ما، وغنى بفرح أغانيه النابوليتانية في البوزليب،
234
على شرفة مطعم آخر. كانت الشمس مشرقة، والكرمة فوق رءوسنا، خليج نابولي ... وصديق مخلص. كان ذلك هو الوجود الكامل!
وأقام سفيرنا لدى الفاتيكان حفلة عشاء ضخمة، رأسها الكاردينال تيسيران وحضرها خمسة أو ستة من أشهر الأساقفة كانوا يلبسون المعاطف القرمزية والجبب البنفسجية والأحزمة الأرجوانية. أما «المدنيون» فكانوا يلبسون الملابس الرسمية، وكان الخوان يختفي تحت الأزهار الحمراء.
وبفضل اللفتة اللطيفة ل «جاك إيبير
Jacques Ibert »
235
الذي كان قد زارنا في القاهرة، قمنا بزيارة فيللا ميديتشي. كانت زوجة هذا الموسيقي نحاتة، فصحبنا مؤنس وأنا إلى مشغلها الذي يقوم في أغوار حديقة جميلة. وأمام قطعة من الخشب وجذع شجرة كانت تنحت فيها وجها ذا ملامح قوية وقاسية، قالت: «إن اسمه الألم.» كانت قد فقدت قبل زمن قصير ابنة لها سقطت سقطة مرعبة من فوق سلم. وهكذا فإن هناك ساعات تستضيء فيها الحياة بأنوار أخرى.
كان طه مذهولا في حدائق فيللا دي «إيست
Este ». كنا تقريبا وحدنا، وكنا ننزل من شرفة إلى شرفة ومن ينبوع إلى ينبوع. هذه الينابيع العديدة الشادية المفعمة حياة. مياه في ألوان قوس قزح ونور موزع. لم تكن هناك أصوات أخرى سوى شدو عصفور، أو رنين جرس كنيسة مجاورة. كان أريج الصنوبر والأزهار والطحلب في كل مكان. كان طه يقتعد حجرا كبيرا، وتمتم حالما: «حسنا؛ لعل هذا الكاردينال
236
لم يكن واثقا كل الثقة من فردوس السماء حتى صنع فردوسا على الأرض!»
وتعرفت بفضل مؤنس على بعض كنائس «آفانتين
Aventin » وكنيسة «القديسة ماري كوسميدين
Santa-Maria-Cosmedin » الصغيرة القديمة العارية، تلك التي أثرت في أكثر من غيرها.
ثم رافقنا سفيرنا الممتاز طاهر العمري لمقابلة البابا بيوس الثاني عشر. وكنت مأخوذة إلى حد كبير عندما كنت أجتاز القاعات الفسيحة التي كانت تفصلنا عن المكتب الذي أدخلنا إليه. وفكرت في فرنسا وفي أصحابي الذين كانوا سيكونون سعداء لو كانوا معي. كنت شبه مضطربة عندما دخلت. الخيال الهزيل الأبيض، والوجه، كالثوب، أبيض كذلك، والعينان السوداوان اللتان كانتا تنظران إلي برفق ويشع منهما عمق وخصوبة الحياة الباطنية وتتألق الروحانية فيهما، هذا فضلا عن التلطف البسيط البعيد عن المراسم التافهة. صدمت؛ فالانفعال والاحترام كانا يسحقانني. ولم أستطع أن أتلفظ إلا بكلمتين أو ثلاث كلمات. أما طه ومؤنس، وكانا مثلي مأخوذين أيضا، فقد كانا أكثر اتزانا. وبدأت المحادثة، ولم ينس طه قط اللهجة التي قال بها بيوس الثاني عشر كلماته حين كان يودعنا: «سيدي، أريد أن أصلي من أجلك، ومن أجل أسرتك، ومن أجل بلدك.» كما أنه كلما تذكر هذه اللحظة، كان يتوقف دوما عند هذه العبارة: «لقد قال: من أجل بلدك».
أعرف أن الهجوم انصب ولا يزال ينصب على إنسان قيل عنه إنه متحفظ. هو الذي لم يكن يرفض أي يد تمتد إليه، إنسان لم يخش أن يستقبل وأن يحمي يهودا كانوا تحت الخطر. إنه لمن السخرية أن ألح على ذلك، ولست أملك أن أحكم على سلوكه بوصفه رئيسا للكنيسة، لكني أقول إنني لم ألتق بكثير من الشخصيات التي أثارت إعجابي إلى هذا الحد.
سافرنا في شهر نوفمبر إلى مدريد. لم تكن تلك أول رحلة لنا إلى إسبانيا؛ فقد سبق لنا أن جئنا إليها في عام 1948 بناء على دعوة من الجامعة. وكان طه قد تحدث في مدريد وفي غرناطة.
في غرناطة، أقمنا في سكن يقع على أكمات الحمراء. ودهشت إذ علمت أن جنود نابليون هم الذين زرعوا الأشجار الجميلة التي نعجب بها. لماذا هنالك، للأسف! ذكريات أخرى؟ لست أعني، بالتأكيد، أشجار السرو في حدائق قصر الحمراء، تلك الأشجار الخارقة. ذات يوم، بينما كنا نتنزه بعد الظهيرة بصحبة «جارثيا جوميز
Garcia-Gomez »
237
على الدرب الرائع فيما وراء الينابيع - وها هنا أيضا منظر في منتهى الجمال للينابيع - فوجئنا بنداء صادر عن صوت حاد داو، كان يمكن أن يكون صوت صبي يتسلى باللعب في حين أنه كان صوت المحامي الغرناطي الجاد. كان يختفي وراء الأشجار كما لو كان صبيا، ليفاجئنا. وهو الذي قال لي عندما كنا نذهب لتناول العشاء معا في أحد المطاعم، بدون تكلف: «كنت أظنني أسمع صوت عالم أو أستاذ، لكنني سمعت أستاذا معلما جليلا ...»
إن رعاية مضيفينا الطيبة وبساطتهم، والطريقة التي استقبلنا بها «لوسينا
Lucena » في جو الألفة العائلية، ولطفه المرح عندما كان يرتمي على أرض الحديقة ليبحث لي عن الفراولة، وثقافة جوزفينا وفخرها وهي تقوم بالتعليق لنا على الآثار التي كانت تطلعنا عليها. جمال السماء، والأحجار الحمراء، ورقص الفلامنكو الحقيقي (الذي لم يكن خاصا بالسواح!) كل ذلك كان ممتعا لنا.
ومع ذلك - بما أن الذكريات تتداعى - فقد كان على الطريق من غرناطة إلى إشبيلية مجموعة من الناس كانت تمشي بطريقة مؤلمة: رجل، وامرأة، وطفلان. وفجأة سقطت المرأة أرضا؛ فوقفنا. وساعد السائق الرجل في حمل امرأته المغمى عليها إلى السيارة، في حين حمل مؤنس الطفلين، وأمكننا أن نودعهم جميعا في أول مركز للإسعاف. وسألت السائق: «لا شك أن سقوط المرأة كان بسبب حملها برضيع آخر؟»
فجاءني الجواب كضربة سوط: «لا، إنه الجوع.»
كان وجه الرجل مرعبا بقدر ما كان مرعبا صوت السائق. لم ينبس بكلمة واحدة طيلة الرحلة. كان يحدق في الطريق، هادئ الأعصاب، متحصنا وراء كبرياء عنيفة، رافضا حتى علبة السجائر التي قدمها له مؤنس.
قمنا بهذه الرحلة كلها بالسيارة. كانت الطرق قبل خمسة وعشرين عاما شبه قاحلة. كان السائق عسكريا. وعندما كنا نجتاز سهل «المانش
La Manche » كنا نضطر لإيقاظه من وقت إلى آخر؛ فقد كانت تأخذه سنة من النوم على امتداد الطريق الذي كان يمتد في خط مستقيم تماما؛ حيث كنا لا نرى سوى أشجار الزيتون.
أما الرحلة الرسمية التي قمنا بها في عام 1950، فقد كانت إلى مدريد وطليطلة فقط. ودشن طه خلالها معهد الدراسات الإسلامية الذي أسسه في جو ساده أعظم الود، وهناك قلده وزير التربية الوشاح الأكبر لصليب ألفونس العاشر الحكيم، يساعده في هذه المهمة المعقدة وزير الخارجية.
وفي الأكاديمية الملكية للتاريخ وضع دوق إلبا، الذي كان رئيسها، حول رقبة طه وشاحا آخر أصغر بكثير لكنه رائع الجمال. إنها ذكرى مخلصة تلك التي تربطني إلى دوق إلبا؛ فقد قام بيننا ود عفوي. كنا قد تعرفنا إليه في رحلتنا الأولى، غير أنه لم يكن ثمة ما يشير إلى أننا سوف نشعر معه بالراحة منذ اللحظة الأولى للقائنا، كما لو كنا مع صديق قديم. لقد تحسسنا جميعا هذا التماس المباشر الذي سرعان ما اكتسب طابعا عاطفيا. وكان سلوكه مع مؤنس ساحرا حقا.
كنا نريد دعوته للعشاء الذي كان على طه أن يقيمه بهذه المناسبة، وكانت الصعوبة التي واجهناها أنه لم يكن بالوسع أن نحجز له المكان الذي يليق بمن في مقامه أن يحتله؛ فقد كان موقفه من نظام الحكم أنوفا بقدر ما كان رصينا ... وكانت الحكومة هي التي تستقبلنا. ففاتحته بذلك في منتهى البساطة، وأجابني بالبساطة نفسها ألا أقيم اعتبارا لمثل هذه الأشياء، وجاء إلى الحفلة وجلس في المكان الثالث، إلا أنه جاء إلي عندما قمنا من على المائدة وقدم لي ذراعه، وتبعنا المدعوون جميعا إلى القاعة حيث كنا سنتابع الأمسية مع الموسيقى.
من الموسيقى قدم لنا الكثير، وبطريقة رائعة الجمال؛ ففي قصر باهر من القرن الثامن عشر، هو قصر «فيانا
Viana »، عزفت لنا رباعية مقام ره مينور من تأليف «خ. أرياجا
J. Arriaga » على آلات قديمة. وكان هناك كذلك «رودريجو
Rodrigo »
238
الذي كان في بداية حياته الموسيقية، لكنه كان قد ألف كونشرتو «الأرانخويث
Aranjuez »، وغنت زوجته الشابة عدة أغنيات إسبانية كانت ألحان إحداها من تأليفه. كان الأمر الذي تأثرت له على نحو خاص كون هذا الموسيقي أعمى. وقد أرسل لنا بسرعة قصوى تسجيلا لكونشرتو الأرانخويث.
سحرت طليطلة ابني تقريبا؛ فقد تحدث عنها عبر الإذاعة بعاطفة يستشعرها المرء دوما حاضرة إزاء جمالها المأساوي. توقفنا ثلاثتنا مليا في باحة الدار العذبة في بيت الجريكو، وجلسنا على المصطبة الآجرية؛ كوخ حميمي، نصف مغلق، منفصل عن الحديقة، لكنه مطل على أوراق الشجر وأريجها.
كانت هناك، لدى مغادرتنا مدريد، وفرة من تحيات الوداع ترافقنا. ثم أسرعنا إلى لندن.
وصلت إليها مصابة برشح خبيث بدأ في إسبانيا وحال بيني وبين الذهاب مع طه لزيارة «السير جون مود
Sir John Maud ».
239
وقد أسفت لذلك؛ فقد كان مود ودودا، وكان يريد منذ أن كان في القاهرة أن يعرفنا بزوجته التي كانت موسيقية ماهرة. لكني أمضيت وحدي، في الشقة المريحة بفندق كلاريدج، دون كلام؛ أمسية هادئة بالقرب من نار الحطب المتأججة، بحيث إنني تمكنت من الذهاب إلى أكسفورد في حالة ملائمة إلى حد ما، قادنا إليها «وايمان
Wayment »، مترجم الجزء الثاني من كتاب «الأيام»، بسيارته. كان الجو رديئا إلى حد كبير، وكان المنظر يختفي تحت ضباب كثيف، وكنا مضطرين للسير ببطء شديد كي لا نسقط في خندق ما. أما في أكسفورد، فقد كان الجو أفضل بقليل؛ لكن نوفمبر ليس يونيو، ولم تكن أكسفورد الآن هي أكسفورد 1928، غير إن السماء لم تكن تمطر على كل حال عند دخول طه - الذي كان قليل الاعتياد على التقاليد البريطانية، لكنه يتصرف بخجل لطيف في مثل هذه المناسبات، لابسا الثوب الأرجواني - فناء الكلية، ثم المدرج الكبير «شلدونيان تياتر
Sheldonian Theatre »، وقد ألقيت الخطبة التي وجهها له الخطيب العام باللغة اللاتينية، وذلك ما جعل من الدكتور الجديد شابا مرة أخرى.
ثم صحبونا إلى مانشستر، واستقبلنا اللورد - العمدة - في قاعة المدينة العامة، وبدا مظهره احتفاليا في طقمه ومع السلسلة الضخمة من حول عنقه، لكنه كان كثير الأنس في حديثه. ولقد بقيت مدهوشة لرؤيتي مدينة كانت بفضل حيوية وذكاء سكانها في منتهى المرح برغم قتامتها وبللها وحزنها المحتوم الذي لا بد منه؛ إذ بمجرد أن تغلق الأبواب دون السماء الكدرة والظلمة المغمة، تدفئنا الأنوار وصخب الأحاديث الدائرة وسعادة اللقاء بوجوه باسمة متفتحة وعظيمة الود.
كانت حفلة الغداء في الجامعة لطيفة؛ كما كانت المحادثة مع أستاذ للأدب الفرنسي في مانشستر غير متوقعة إلى حد ما، وقد وجه إلى طه كلمة جميلة ختمها على النحو التالي:
سأجهد، لكني أستغفركم جرأتي، وبالرغم من قصور الترجمة، أن أستشهد بأبيات من قصيدة، مطبقا معانيها عليكم، وهي قصيدة تعرفونها أفضل من أي إنسان آخر بما أنها للمتنبي:
240
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى
إلى قول قوم أنت بالغيب عالم
مثله في اللطف أيضا كان «ج. باربيرولي
J. Barbiroli »
241
الذي كان يدير الحفلات الموسيقية في ليفربول لفترة طويلة، وفي الحفلة التي دعينا إليها جاء في أثناء الاستراحة ليجلس بالقرب من طه، ولم يتركه إلا ليعود إلى منصة القيادة.
وعدنا إلى لندن، لكننا قبل أن نعود إليها زرنا مدينة كامبريدج التي كانت جديدة بالنسبة إلينا، وفيها أيضا كان الناس مرحين مضيافين، وكانت مسرة حقيقية أن يتناول المرء طعام الغداء بصحبة «إ. م. فورستر
E. M. Forster »
242
في إطار كان على نحو ما تخيلت تماما. كان يعيش في «كينجس كوليج
King’s College »، وكنا نفرا من الأصدقاء في غرفة واحد من أصدقائه. كان هذا الإنسان يتحدث بعفوية حيوية، وأحببت كتبه وأحببت مؤلفه. وكان بصحبتنا خلال تأدية إحدى الشعائر - وربما توجب علي أن أقول «العبادة» - في كنيسة الكلية التي قادنا إليها عميد الجامعة.
كان هذا العميد مضيافا مثلما كانت امرأته أيضا. لم يكن بوسعه أن يعرف أن طه يصاب بداء الحساسية إذا ما تناول الفطر؛ فبعد العشاء الذي أقامه على شرفنا ذلك المساء، وبينما كان طه يستقبل معي مدعوينا للأمسية التي أقمناها، إذا به يتهافت فجأة ويسقط على الأرض، وعم الانفعال والبلبلة، وسرعان ما حضر الطبيب ورجلان ليحملاه إلى المصعد فاقدا وعيه، ثم إلى غرفته لاتخاذ الإجراءات المعتادة. وفي اليوم التالي أعلنت صحف لندن أن وزير التربية المصري أصيب بإغماء في أثناء حفلة استقبال، كما أذاعت ذلك الإذاعة البريطانية، وتهافت علينا سيل من البرقيات القلقة.
واستمرت أيامنا حافلة بشتى البرامج، وقد تفاهم طه على نحو جيد مع وزيرة الشئون الاجتماعية؛ فقد وجدا نفسيهما على اتفاق تام حول نقطة تتعلق بالتربية البدنية، أظن أنها كانت الملاكمة، وكانت راضية عن ذلك إلى حد بعيد؛ لأننا لم نكن نتفق معها بشكل عام في الأمور الأخرى.
زرنا عددا من الكليات، وأخذت لنا فيها مجموعة من الصور تروق لي؛ ففيها بدا طه في منتهى الحيوية والسعادة، مثلما كان دوما بين طلابه وتلامذته.
وعلى طريق العودة، قبلنا أمي على عجل.
وسيمنح في الربيع التالي
243
دكتوراه أخرى، هي دكتوراه جامعة أثينا؛ وصلنا إليها دون قصد في الخامس والعشرين من مارس؛ أي يوم العيد الوطني في اليونان، فاستقبلنا بصداقة من قبل الرسميين ومن قبل سفيرنا عدلي أندراوس، وذهبنا في الغداة لوضع باقة من الأزهار على قبر الجندي المجهول.
كان برنامج زيارتنا ذلك اليوم حافلا إلى حد كبير بحيث لم يكن متاحا لي سوى القليل من الوقت لزيارة الأكروبول (وقد زرته من دون طه)، وكنا قد ذهبنا لزيارته لحسن الحظ خلال مرة من مرات هبوطنا العابر هناك.
244
وقد احتفظت دوما بذكرى الأزهار المتفتحة في بركة تقوم بين البلاط. من المؤكد أنني نظرت مطولا إلى البارثينيون والكارياتيد
245
في «الأرخيتون
Erechthéion »، إلا أنه لم يكن محظورا رؤية الأزهار النابتة بين الأطلال. كانت الأزهار هذه المرة هي أزهار البروق،
246
لم يسبق لي أن رأيت منها قط، والخزامى الأحمر ذا التويج القصير، الذي كان يكتسي لون الأرض بين أثينا «وثيبس
Thèbes »، وكذلك في أمكنة أخرى على وجه التأكيد، وأزهار البابونج المتواضعة في «دلف» حول نبع كاستاليا.
كانت رحلة ممتازة من أثينا إلى دلف. كانت الأرض ذات مظهر جليل في «كادميه
Cadmée »، وفوجئت في ثيبس، وسط صخب الأحاديث باليونانية، بتحية تلقى علي بالعربية كان يلقيها علي يوناني عاش غالبا زمنا طويلا في مصر، وتحية مؤثرة للغاية في لوفاديا؛ فقد كان حاكم مقاطعة «بيوتي
Béotie » ينتظرنا أمام بيته المتواضع، كان يقف إلى جانبه رئيس الأساقفة وقد أخذ يلمع صليبه الكبير تحت أشعة الشمس الجميلة. كنا نسير، منذ دخولنا المدينة، وسط هتاف تلاميذ المدارس، في حين كانت أصوات الأبواق واضحة، ووجهت إلي خطب وباقات الأزهار، وأقيم لنا غداء عائلي بصحبة الأسقف، وأحاطتنا ضيافة حقيقية وفق التقاليد القديمة. ثم غادرنا المقاطعة برفقة الموسيقى والهتاف الفرح؛ كان هذا الحاكم في منتهى الود، لا شك أنه كان موظفا قليل الثراء، لكنه كان فخورا بحق بمدينته وببلده، وقد كتب إلي - إلى القاهرة - كما أرسل لي صورا التقطت لنا في هذا اليوم المشهود (ولم تكن صورا صحفية).
ولنتخيل طه في دلف، محمولا ألفي عام إلى الوراء، في غمرة هذا العالم الهيليني الذي أحبه دوما. وإني لأشك في أنه، إذ وجد نفسه في المدرج الكبير الذي كان يرقص فيه الراقصون بثيابهم الزاهية القصيرة لنا وحدنا، ويتمايلون بلطف وخفة؛ أقول: أشك في أنه كان يصغي لوقع خطواتهم، أو لإيقاع الموسيقى والأغنيات ... فربما كان يعيش مع «بيثي
».
أما أنا، وقد كنت طائشة دوما إلى حد ما، فقد كنت أنعم النظر طويلا عند مدخل الملعب في العلامة المطبوعة على الحجر، التي خلفتها أقدام العدائين الذين كانوا ينطلقون في سباقهم من هناك. في المساء، نزلنا حتى البحر، وحاذى طه على الشاطئ رجلا عجوزا حياه، مناديا إياه بالشاعر، ولعله هو الآخر واحد من الشعراء المنشدين القدامى العائدين. كانت الجبال من الجانب الآخر من خليج كورنيثه لا تزال مغطاة بالثلوج.
واستقبلنا الملك بول والملكة فريديريكا لتناول طعام الغداء، ولم يكن معنا سوى سفيرنا وضابط من القصر، وتحدثنا بطلاقة وبصورة عائلية تقريبا في القاعة الزرقاء المؤدية إلى غرفة الطعام.
247
وسألت الملكة طه من هو موسيقاره المفضل، فأجاب: باخ. فصفقت الملكة بيديها قائلة: «كنت على ثقة من ذلك!»
وببساطة متناهية، بل أكاد أقول بطيبة متناهية - إذ إنه كانت ثمة طيبة في سلوك هذا الإنسان - قلد الملك طه صليب العنقاء الأكبر.
على أن الشيء الهام كان احتفال الجامعة؛ لقد كان باهر الجمال. كان الطلاب والطالبات من حولنا يشكلون موكبا طويلا، ولعل صورة بالاس أثينا التي تطل على المنصة قد أوحت ولا شك لطه الذي كان في منتهى الانفعال؛ فلقد ألقى خطابا مؤثرا إلى الحد الذي رأيت فيه الدموع تترقرق في كثير من العيون بما في ذلك عيون جنرال عجوز.
كان هناك واحد من الحاضرين لم يكن مسرورا، وأعني به سفير تركيا. لقد كان طه يتألم دوما - دون أن يعاني ذلك بنفسه - من التصرفات التي مارستها الإمبراطورية العثمانية في مصر خلال قرون، هذا فضلا عن أن هذا الاحتفال كان يقام على إثر الاحتفال باستقلال الشعب اليوناني. واستاء السفير التركي من جملة لم تكن - لوجه الإخلاص والأمانة - فظة، غير أن عدلي أندراوس أخذ على عاتقه أمر إقناعه بذلك.
وغمرنا مضيفونا بالعناية، ولم يكن أقلها رقة أن عرضوا علينا فيلما مستوحى من كتاب طه «الوعد الحق».
وعدنا بطريق البحر.
أود أن يتعلم كل الأطفال في المدارس اليونانية عدة صفحات عن حياتك ... إنه أجمل الدروس ...
كنت أذكر هذه الكلمات التي قالها أحد أعضاء الحكومة اليونانية، حين كانت باخرة «الإدنا
Adna » تبتعد، وحين كانت لا تزال تغمرنا حرارة الود والفهم الصامت والحنين الآسف لوداعنا بلدا جميلا ورجالا حقيقيين.
لم يكن طه يستريح إلا في «القناطر»، عندما كان بوسعنا قضاء يوم في أحد بيوت الاستراحة، وقد حملت إلى هذا البيت ذات مساء هدية عيد ميلادي، وكانت عبارة عن تسجيل لقداس من مقام سي لباخ؛ كنا نستمع إليه ليلا والنوافذ مفتوحة المصاريع، وكان النوتيون يدهشون دون شك من هذه الموسيقى الغريبة، على أني أذكر أنه لدى إجراء تحقيق مع الناس الذين يجهلون الموسيقى الغربية، لوحظ وجود جاذبية واضحة غير متوقعة لموسيقى باخ في نفوسهم.
وهناك تحقيق آخر أجري هذه المرة في القرى التي كان طه يفكر تزويدها بجهاز راديو ليستخدمه جميع الناس. لم يكن الفلاحون يريدون ذلك، فقد كانوا يقولون: «لا حاجة بنا إلى هذا، فعندما نعود من العمل نريد أن نأكل وننام.»
لقد تغيرت الأمور الآن إلى حد كبير؛ فأجهزة الراديو في كل مكان، وسترتفع احتجاجات جميلة لو تم إلغاؤها!
عندما توجب علينا - خلال السنة الأولى من عمل طه كوزير - المجيء إلى الإسكندرية حيث تنتقل الحكومة كل صيف، استأجرنا دارة صغيرة في بولكلي. كان صهري قد أوفد إلى واشنطن كملحق ثقافي، وقبل أن تلحق به ابنتي أمضت بعض الوقت بيننا بصحبة طفليها، إذ كان قد ولد لهما بنت صغيرة قبيل فترة، وعندما جاء طه لرؤيتها في مستشفى كوتسيكا بالإسكندرية، كان الأطفال في الغرف المجاورة يحدثون ضجيجا كبيرا بصراخهم، في حين كانت هذه الطفلة ساكتة؛ فصرخ طه غاضبا بسخرية: «إنها لا تبكي! ماذا يقول الناس عنا!»
كان هناك في الدارة أيضا مؤنس الذي وصل من باريس مع رفيقه وصديقه هنري بوييه. كان هنري يأتي كل يوم، وكان الشابان يسليان الطفلة الرضيعة بمنتهى اللطف، وخلال نزهة قمنا بها إلى رشيد، كان هنري شديد الانتباه على وجه الخصوص لهذه الطفلة الصغيرة، ولابتسامتها، ولغمازتيها.
كان طه مولعا بها، وكان يزعم أنها لم تكن تبكي قط عندما تكون بين ذراعيه (بعد أن تعلمت البكاء!)
كانت هذه النضارة عذبة بالنسبة إليه خلال الغم العظيم الذي ألم به آنذاك؛ فقد توفيت أمه العجوز بعد أن نامت خلال يومين لم تستيقظ بعدهما. كانت مقبرة المنيا فيما وراء النيل، وكان الطريق إليها رديئا، ومشى طه وقتا طويلا تحت أشعة شمس لاهبة، وصافح آلاف الأيدي.
عندما كنت في المنيا في شهر نوفمبر من العام الماضي؛ حيث ذهبت للمشاركة في الاحتفال الذي أقيم في محافظته تخليدا لذكراه، أردت الذهاب لزيارة قبر أبويه، ورغبت السير هناك، أنا الأخرى، والاقتراب من هذا الصخر القاسي العاري الذي ينتصب عموديا في النيل في هذا الموضع الذي يتسم بشدة الاتساع والزرقة، لكني لم أستطع، فنحن دوما سجناء المواعيد والبرامج والضرورات المستقلة عن إرادتنا.
وقد حكى لي صهري أنه خلال الجنازة قام نزاع حول أرض المقبرة؛ فقد كانت مقابر العائلة في مكان تتسرب إليه المياه، وكانت عائلة الأم تريد أن تدفن حماتي في مدفن جديد كانوا قد بنوه، في حين كان الآخرون يرفضون؛ فقال طه: «حسنا، سأشتري منكم هذا المدفن الجديد.» لعائلة الأم (فيصير بذلك لعائلة الأب)، وتدفن الوالدة فيه (كما تريد عائلة الأم) وينتهي الإشكال! وقد كان.
وأضاف صهري: «هكذا كان الدكتور طه يحسم المشاكل ويتغلب على المصاعب خلال دقيقتين.»
وقد ذكرني بالأستاذ «دوبوا ريشار
Dubois-Richard »
248
الذي كان يقول لي عندما كان طه وزيرا:
آه! أين هو الزمن الذي كان يرأس فيه مجالس الكليات! ففي أقل من ساعة كان يحل كل شيء ... على أفضل نحو ...
ومحمد الزيات هو الذي قص علي أيضا كيف أمكن إرسال طالب لدراسة اللغة العبرية في القدس قبل حرب فلسطين؛ كانت لوائح البعثات تنص على عدم إرسال بعثة إلا للبلدان المحددة لهذا الغرض مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا، ولم تكن فلسطين من بين هذه البلدان، فاعترض رجال البعثات على ذهاب المبعوث الشاب إلى الجامعة العبرية.
فقال طه: «أليست فلسطين تحت الانتداب البريطاني؟» - دون أي شك!
فقال طه: «حسنا، سيذهب إذن إلى القدس، إلى جامعة من جامعات بريطانيا العظمى!»
وتوجب علي ذات يوم أن أصحب ابنتي وطفليها إلى الباخرة. كان قلبي مفعما بالحزن؛ إذ إن أمريكا كانت تبدو لي في منتهى البعد، لكني كنت أقول لنفسي مع ذلك إن من الأفضل لأمينة ولزوجها أن يوسعا من أفقيهما، وكان ذلك بالنسبة إلى صهري بداية درب متألق؛ أما بالنسبة لي فقد كان بداية الفراق الذي لم يكف قط عن التكرار. عندما كنت أغادر الباخرة حيث ودعتهم، كنت أحمل في عيني الصورة الرائعة للصغيرة سوسن في ثوبها الوردي الواسع ذي التويج ضمن مهدها الخشبي.
ونتلقى من باريس خبرا مذهلا: فقد أعلنت صحيفة «باري بريس
» وصحيفة أخرى وبعناوين عريضة أن ملك مصر قد طلب إلى جراح فرنسي شهير الحضور إلى القاهرة لإجراء عملية جراحية لإعادة البصر إلى طه! يا للمسكين الصغير الذي لم يعد لعينيه حتى مجرد الوجود! أحدث الخبر ضجيجا، وكان لا بد للملك من أن يستاء جدا من هذا الخبر، غير أن الديوان دبر الأمور بهدوء.
وبعد عدة سنوات، كتب لنا عامل فرنسي، كان قد قرأ مقالا عن طه - لعله مقال موريس دريون - رسالة مثيرة؛ فتحت تأثير دهشته وإعجابه الشديد بما قرأه عن طه، كان يعرض تقديم إحدى عينيه إلى طه بكل بساطة! وشكره طه بأفضل ما استطاع متأثرا من عرضه إلى حد كبير، فعاد وكتب مرة ثانية أيضا. هذا العرض الذي كان في منتهى الكرم، كانت عروض مماثلة له قد قدمت عدة مرات، لكن ذلك كان من قبل مصريين أو عرب عرفوا طه جيدا، وكانوا يملكون الكثير من الأسباب ليحبوه؛ أما أن يأتي هذا العرض من قبل عامل فرنسي في السادسة والثلاثين من عمره إثر مجرد قراءة مقال يتحدث عما كانه هذا الأعمى ... فقد كان ذلك أمرا رائعا ...
طرأت اضطرابات خطيرة، ولما استفحلت كان لا بد من إغلاق الجامعة، ولم تفتح أبوابها إلا في يناير، حيث استطاع مؤنس أخيرا بدء دروسه فيها.
لكن الهدوء لم يستمر؛ فقد بدأت القلاقل مجددا، وكانت محافظة الإسماعيلية هي التي هوجمت بالرصاص هذه المرة.
249
وفي السابع والعشرين من يناير حدث حريق القاهرة، وفي الغداة سقطت حكومة النحاس .
250
كان يوم حريق القاهرة يوما حافلا بالقلق والأسرار أيضا؛ إذ لم نكن نعرف حقا ما الذي كان يجري. كان نظام منع التجول الطاغي مستمرا، وخلال الأشهر التي تلت جرت محاولات عدة لإقامة حكومة جديدة، لكنها لم تنجح، ثم كانت نهاية الملكية.
لم يخل بيتنا من الزوار عند سقوط الوزارة. كنا نتلقى كميات من الأزهار والرسائل، وكنا نرى أنواعا من الثناء والمديح غريبة؛ فقد أهدى إيطالي مثلا إلى طه معزوفة عسكرية من تأليفه، وجاء مصري إلينا بلوحة مؤطرة بإطار فخم لجد جده الذي كان فكر في تأسيس مدرسة للغات، فكان من العدل إذن إهداء هذه الذكرى لطه الذي قام بتأسيس مثل هذه المدرسة!
كانت هذه اللفتات، وهي في معظمها اعتراف بجميل، تمس شغاف قلبه بالتأكيد، لكنه كان مع ذلك ينظر للأمور من عل إلى حد ما، أعني فيما يتعلق بسقوط الوزارة. كان له في الوفد أصدقاء حقيقيون سمحوا له بتحقيق عدد من مشروعاته، لكنه لم يكن سياسيا، ولم يكن عضوا في الوفد. وفي فترة، وربما في فترات كثيرة، انتقد عدد من الوفديين الحزبيين تعيينه وزيرا «على حساب» أعضاء الحزب؛ فقدم طه استقالته للنحاس الذي رفضها محتجا بأن المسألة - وقد كتب له ذلك - ليست مسألة حزب، وإنما هي مسألة وطن.
كان النحاس ودودا باستمرار، يحترم طه ويتعامل معه في جو من الألفة البسيطة السائغة التي عرفت عنه دوما. وإني لأذكر رحلة قمنا بها معا وبمحض الصدفة قبل زمن الوزارة بوقت طويل، وعندما كان «الوفد» العدو رقم واحد للحكومات القائمة، كنا قد أمضينا أسبوعا في أسوان، ولم نكن نعلم أن النحاس سيعود إلى القاهرة بالقطار نفسه الذي كنا سنعود به، وكانت السلطات تخشى قيام مظاهرات بهذه المناسبة، فمنعت الدخول إلى المحطة على كل من لم يكن مسافرا؛ فلم يحدث شيء، إلا أنه عند وصول القطار إلى المحطة التالية، كان هناك سيل بشري يتدفق على طول الرصيف، وصعد المتظاهرون متدافعين إلى المقصورة التي كان الزعيم فيها - أعني مقصورتنا؛ إذ كان النحاس قد جاء إلينا للجلوس بالقرب من طه - وكانت هتافات الترحيب تختلط بباقات الورود، وكانت زجاجات «الشربات» تقذف بصورة خطيرة عبر باب المقصورة، وتمكن بعض الجسورين من اقتحام المقصورة، فجرحت قدم مؤنس المسكين - وكان طفلا آنذاك - وكادت تنسحق؛ فتسلقنا على المقاعد. وكان ذلك يتكرر في كل مكان كان القطار يتوقف فيه حتى هبوط الليل، وكان هناك نفر من الناس كانوا يرقصون بصورة رائعة على خيولهم الجميلة على امتداد الطريق، وقد بدا النحاس متأثرا على الرغم من اعتياده على مثل هذه التظاهرات، ولقد تأثرت أنا الأخرى.
ولكي يبدأ العمل، استعاد طه بفرح رئاسة لجنة المعاجم في المجمع اللغوي، واستغرقته تماما المهمات المختلفة المنتظرة منه، أو تلك التي يلزم بها نفسه، بحيث إنه كان في نهاية السنة التالية مرة أخرى خائر القوى، الأمر الذي اضطره إلى تعطيل العمل في كتابه عن الخليفة علي الذي كان قد كتب في «التيرول
Tyrol » الفصول الستة الأولى منه.
كانوا يبدون نحوه الاحترام والثقة (وكانوا يسمونه «أبو الثورة»). كان أحد أعضاء لجنة صياغة الدستور، وطولب من جديد بإلقاء محاضرات، وألقى منها عددا لا ينسى، كمحاضرته عن حرية الكاتب، أما محاضرته في نادي الضباط فكانت داوية؛ فلدى خروجه ألقت امرأة بنفسها على عنقه، وأرسلت له في الغداة سلة رائعة من الورد.
بينما كان طه يتحدث عن حرية الكاتب، كان ابني يتحدث عن الموسوعة في الإذاعة. كنت في منتهى التعب وأنا أصغي إلى أحدهما مفكرة بالآخر، في حين كنت أشد خيوط الصوف في يدي؛ وكنت منفعلة إلى حد ما. لم يكن طه يهمل المجمع أو المعهد؛ فقد قبل إلقاء دروس خارج البرنامج في الكلية، وأعطى - إذا جاز لي القول - دفعة الانطلاق لمركز التربية الأساسية التابع لليونسكو في سرس الليان؛
251
إذ كان طه قد انتزع اختيار مكان المركز، فاستقر الاختيار على مصر (لكنه لم يستطع المشاركة في الافتتاح لإصابته بنزلة صدرية).
وكتب طائفة ضخمة من المقالات في كل الموضوعات، حتى إن سفير اليونان جاء إلينا في عام 1955 ليشكره على مقاله عن قبرص، ودفع مقاله عن قبرص أيضا «الضمائر الحمراء» تاجرا من الزقازيق ليكتب له رسالة جميلة. وفي عام 1958 نقل له السفير لامبروس رسالة من المطران مكاريوس
252
الذي كان مارا في القاهرة، وقطع على نفسه عهدا بالذهاب لرؤيته، غير أنه اضطر إلى العودة إلى الجزيرة فجأة.
كان قد استأنف الكتابة في كتابه عن «علي» الذي صدر في عام 1953، واستأنف العمل في الجزء الثالث من كتاب «الأيام». •••
كانت أحداث 1952 قد هزتني تماما، وقد كتبت لأمي: «تبقى حياتي إلى جانب طه شيئا مثيرا؛ فكل ما يحدث يؤثر عليه بصورة تختلف عن تأثيرها في الآخرين، وهذا طبيعي؛ لكني أشعر بصدى ذلك أحيانا أكثر مما يشعر به هو نفسه. إنني أستمتع برؤيته ينفرد بنصوصه القديمة التي سيستخلص منها تاريخ الخليفة علي وبنيه.»
كنت أهنئ نفسي أكثر بكثير أيضا على الوقار الخارق الذي تمت به الثورة (1952). أية سيطرة على النفس وأية فطنة! لم تكن هناك أية شتيمة أو أية قطرة من دم. كنت فخورة؛ فقد عاشت مصر تلك اللحظة - ربما - أجمل ساعات تاريخها.
إلا أنه لا بد من الحديث، ويا للأسف، عن السويس (1956). كنت ممزقة؛ أن يحب المرء بلده، وأن يتوجب عليه أن يقول إن فرنسا لا تملك الحق في تصرفها، كان أمرا مؤلما وصعب القبول. على أن المصريين لم يغيروا شيئا من مواقفهم نحوي؛ فلم أسمع أية كلمة جارحة أو حتى عدائية، وعندما توجب علي الحصول على بطاقة هوية (وكنت أحمل الجنسية المصرية منذ زواجي، إلا أنه كان يتوجب على المرء في مثل هذه الظروف أن يعلن عن أصله)، فإن مدير الجيزة كان أكثر من ودي في سلوكه نحوي. كنت أتألم بقسوة؛ في ثقتي ببلدي التي كانت وتبقى مطلقة، وفي الإساءة التي وجهت إلى مصر.
إن من الحق أن نقول إن بلدا ما لا يتجسد كله فيمن يمثلونه، بل ربما لا يتجسد فيهم على الإطلاق، لكن ذلك لا يحول بين الأخطاء المجرمة والشريرة وبين أن تسبب الدمار.
عندما طرد سلطان المغرب من بلده قبل ذلك حزن طه حزنا عميقا ؛ فقد كانت لديه فكرة رفيعة عن فرنسا، وكان قد ناضل كثيرا للدفاع عنها في كثير من المناسبات، كما عمل الكثير لنشر ثقافتها، وبذل كل ما يستطيع للإبقاء على مؤسسات التعليم الفرنسية في أثناء الحرب ... وكانت هناك مسألة الجزائر التي كانت جارحة إلى أقصى حد؛ فبعد أن قطعت له الحكومة الفرنسية وعدا بالسماح له بتأسيس معهد الدراسات الإسلامية فيها، جاءه منها رفض قاصم. ولم يستطع أن يقبل الهجوم على السويس، وقد أعاد وسام جوقة الشرف إلى فرنسا، ولم يكن ذلك أمرا يسر القلب، كما آلمني ذلك جدا.
كانت هناك ندوات ومؤتمرات في الخارج من جديد توجب علينا الاشتراك فيها، وفي سبتمبر 1952 عقد مؤتمر الفنانين والكتاب في البندقية.
والبندقية مدينة محبوبة وأليفة شأنها شأن فلورنسا، وشأن فلورنسا كانت تبدو لنا ملكنا إلى حد ما، لكننا - فيما عدا المؤتمرات والزحام - تعرفنا بندقية تكاد تكون شتائية؛ كان ذلك في نهاية أكتوبر، وكانت السماء تمطر دون توقف، والجو باردا، ولم نكن نستطيع وقاية أنفسنا جيدا ونحن ننتقل فيها على القوارب البخارية، كما أن التدفئة المركزية لم تكن قد بدأت في الفنادق بعد؛ فكنت أفتح صنابير المياه الساخنة لنشر الدفء في الغرفة، وكان طه يشرب في البار عصير اللوز القوي بأمل الدفء أيضا. لم يكن يحب أن يمشي وسط هذه الرطوبة، أما مؤنس وأنا، فقد كنا نتابع القوارب، ونصعد ونهبط الكثير من الجسور ونتعرف على الساحات الصغيرة وآبارها القديمة، ونلتقي ببعض الأشجار العارية. وها أنا ذا، ذات صباح، فجأة، في حضور «تانتوريتو ديلا سكوولا سان روكو
Tintoret de la Scuola san Rocco »، نادرا ما شعرت بصدمة مماثلة، وبقيت مذهولة أمام لوحة «البشارة». كل شيء يتحرك، ولم يبق شيء في مكانه في الغرفة حيث كانت ماري مبهوتة، وقبل ذلك غير مصدقة، تستمع إلى الرسول، كما لو أن الأمر زلزال أرضي؛ كان أمرا عظيما. أية جرأة في هذه العبقرية! لقد كان هذا الرجل عظيما يرى الأشياء بعظمة خارقة.
كان مؤتمر 1952 يعقد في مؤسسة «تشيني
Cini »
253
في جزيرة سان جيورجيو. المنطقة جميلة؛ فإلى جانب كنيسة «بالاديو
»، كانت صومعة البنديكتيين القديمة قد رممت وأعدت للمؤسسة باحترام وعلم وأناقة تثير الإعجاب؛ فقد رسمت الحدائق وزرعت النباتات وبني مسرح من الخضرة.
ويخيم ما يشبه البركة فوق ذلك كله، فوق هذا الإنجاز الذي ألهمه ألم عظيم؛ ذلك أن الكونت تشيني كان قد أقام ذلك الشيء الجميل للغاية تخليدا لذكرى ابنه الذي قتل خلال حادث طائرة. وأضيفت إلى الأهداف الثقافية مختلف المشاريع الاجتماعية بمعونة السلطات الحكومية؛ فقد كان من الممكن أن نرى فيها مشغلا لبناء البواخر يعمل فيه أطفال البحارة الذين كانوا في معظمهم أيتاما، وقد عرفت أنه - ذات يوم، منذ أمد قصير - وصل إلى «برينديتسي
Brindisi » مركب بنوه بأكمله وقادوه بأنفسهم. وكم أحببت لو أني رأيت هذا المركب.
عهد بتنظيم المؤتمر إلى «أندريه لوته
André Lhote ».
254
كنا نعرفه قبل أن يأتي إلى القاهرة، وقد نظمه بطريقة مبتكرة استساغها الجميع. كان يكتب لطه من باريس رسائل مسهبة يعرض فيها كثيرا من أفكاره عن الرسم بشكل عام، وعن الرسم المعاصر بوجه خاص، وتلك كانت لفتة تقدير رقيقة نحو رجل لم يكن يرى.
كنا بين شخصيات عظيمة الأهمية، وعندما كتبت صحيفة إيطالية: ««روو
Rouault » و«هونيجر
Honegger » و«مور
Moore » وطه حسين يدافعون عن كرامة الفن.» فإن بوسعي الاعتراف أن ذلك قد سرني. كنت سعيدة ولم أدهش لذلك؛ لأن طه قال:
الكتابة هي أيضا العمل ... كل كاتب وكل فنان لا يستطيع التقدم إلا بالإخلاص ... شأنه شأن بطل دانتي يحمل المصباح معلقا إلى ظهره ليضيء طريق الذين يتبعونه.
كان «جول رومان
Jules Romains » حاضرا في المؤتمر؛ كان طلق الوجه دوما، وكانت تبدو عليه ملامح السرور في حفل الاستقبال الجميل الذي أقامته قنصلية فرنسا على «الزاتير
Zattere ».
وإذا كان الجميع قد عملوا بجد في مختلف لجان المؤتمر، فلم يكن بعض المشتركين فيه من ذوي الطباع الحسنة؛ لقد غضبت من فرط العنف الذي كان يهاجم به كاتب - فرنسي للأسف - مندوبا إيطاليا خلال مناقشة عامة يحضرها الجمهور. لم أكن في القاعة، لكني عندما كنت في الدهليز أنتظر طه، رأيت هذا الإنسان يتشابك بالأيدي مع الآخر الذي كان يكبره سنا، ورأيت طه يتدخل بينهما! ثم علمت أنه تدخل في أثناء الجلسة أيضا يدعمه في ذلك «أونجاريتي
Ungaretti »
255
بقوة.
ما كان أجمل صمت البحيرة عصر يوم قضيناه على شاطئها! وأخيرا نزلنا إلى «تورتشيللو
Torcello » التي حلمت بها منذ وقت طويل. كانت هذه الجزيرة المهجورة الآن، عذبة غريبة ساحرة الكآبة. وأي منظر كان، منظر وجه العذراء الرائع وسط سماء ذهبية على قبة الكاتدرائية.
ليس من الممكن وصف الأنوار أو التعبير عن الهدوء في نهاية هذا الإبحار البطيء الحالم على سطح مياه رقراقة. عند اقتراب الغسق، كانت البحيرة تغدو مظلمة، في حين تدخل الأشرعة الحمراء والصفراء عالم الليل، وكذلك زورقنا. كان لا بد من النزول. كنت في حالة ذهول كاملة، ولعلني كنت كذلك حين وصولي القاهرة؛ إذ قلت لصديق مصري: «لو تعلم ما كان أجمل ذلك!» فأجابني قائلا: «إنني أرى جمال ذلك في عينيك.»
عدنا بعد ذلك بثلاث سنوات لحضور ندوة حول سوء التفاهم بين الشرق والغرب. كانت هناك لحظات صاخبة في ذلك المؤتمر، كنا إما مفرطين في الاقتناع بتفوق الغرب، وإما مفرطين في العداء نحو هذا الغرب. ودافع طه عن الشرق وعن إسهام الشرق في العالم المتحضر ضد بعض الدعاوى الجاهلة والظالمة في هذا المجال، ويبدو إن انفعاله لم يعجب بعض المؤتمرين، على أن أولئك الذين يعرفونه كانوا يعلمون أنه كان دوما يريد ويطالب بتكثيف المبادلات بين الشرق والغرب، وخاصة عبر البحر المتوسط. كان «جبرييلي
Gabrieli »
256
مضطربا إلى حد ما، إلا أنه لما كان يعرفه فإنه كان يفهمه. كان يعرفه ويحبه، وقد عرف أن يعبر لي عن ذلك بعد موت طه بكلمات نفذت إلى قلبي. لقد حصل على تقاعده في السنة الماضية، وكان درسه الأخير الذي خصصه للحديث عن طه ثناء مؤثرا من الصديق المخلص.
وقد عقدت جلسات الندوة في سان جيورجيو أيضا، وعندما لم نكن نملك الوقت للعودة إلى الفندق - وكان ذلك أمرا معقدا عندما نكون في جزيرة - فقد كان المؤتمرون يتناولون طعام الغداء في قاعة الطعام بالمؤسسة، وكان الكونت تشيني يتناول في كل مرة ذراع طه ولا يتركها قبل أن يطمئن إلى جلوسه جلسة مريحة.
وأقام الكونت حفل استقبال في الدار الجميلة - وهي إحدى قصور البندقية القديمة والجميلة كما هو واضح - القائمة على زاوية القنال الكبرى وقناة نسيت اسمها. كل شيء كان يخلو من البذخ، لكن كل شيء كان يبدو رائعا. ولن يحدث لي أبدا مرة أخرى أن أشرب قهوتي في حين أرى أمامي لوحة رائعة ل «فيرونيز
Véronèse »، وعلى يساري لوحة لتينتوريتو. كانت هذه الأشياء التي لا تقدر بثمن في مكانها الطبيعي، شأن الخزائن القديمة والصوانات والطنافس التي لم تكن تقل راحة عن المقاعد الحديثة ونقاء اللوحات ذات الأطر الجميلة. لم يكن هناك أقل إفراط أو تزيد، ولم أر شيئا يماثل هذا الكمال.
استأثرت ابنة مضيفنا - وهي امرأة شابة - بطه، وتفاهما على نحو جيد، وقد وجد طه نفسه على سجيتها في هذا الوسط الذكي المرهف بلا ادعاء، وعند عودتنا أراد الكونت أن نعود بقاربه، فصحبنا إليه، وافترقنا عند هذه الكلمات: «كم سأفتقدكم!»
كانت «ماريا ناللينو» تلك السنة معي في أكثر الأوقات؛ فقد كانت فيما أظن إحدى سكرتيرات المؤتمر. كنا نخرج غالبا معا، وكانت قد فقدت عمتها التي ربتها بعد وفاة أمها، ولم تكن لديها أية عائلة قريبة، وذات يوم قالت لي محمرة الوجه: «أود أن أطلب منك شيئا، ولا أجيز لنفسي ذلك.» - بل أجيزي لنفسك يا ماريا ... قولي! - أود أن ترفعي الكلفة معي.
257
فقلت لها على الفور: أنت. وصرت أخاطبها بصيغة المفرد منذ ذلك الحين.
كانت لا تزال تلبس الحداد وتتلهف لمعرفة ما إذا كان بوسعها أن تسمح لنفسها بوضع شال وردي صغير لتذهب به إلى «لافينيتشي
Lafenice » حيث كنا مدعوين جميعا لسماع حفلة موسيقية ل «بنيديتي
M. A. Benedetti ».
258
كانت الحفلة في منتهى الجمال، وقد وضعت ماريا شالها وكانت سعيدة.
كنا في عوداتنا المتأخرة نمشي في مدينة شبه خالية. كنا نجتاز ساحة سان مارك، وكانت تبدو لي - وقد خلت من الجماهير ومن الحمام - وكأنني أكتشفها من جديد، وأذكر ذات مساء كنا نمشي فلا نسمع سوى وقع خطواتنا؛ لم يكن أحد منا يتكلم، وربما كان القمر يرسل أشعته بهدوء على الواجهات وبلاط الرصيف، ولعلنا كنا نصغي إلى الليل.
وكذلك عدنا إلى فلورنسا مرة أخرى بعد رحلتنا التي لا تنسى في عام 1935 مع الشيخ مصطفى عبد الرازق.
فقد عقد فيها مؤتمر عام لليونسكو. كان توفيق معنا، وقد غدا يتذوق زيارة المتاحف، فكنت أهنئ نفسي على ذلك. على أن همه العاطفي الأكبر في تلك الأيام كان أن يلتقي ب «ميرنا لوي
Mirna Loy »؛
259 «نجمة» كانت عضوا في الوفد الأمريكي، وكان يعجب بها إعجابا شديدا، وما أشد ما كنا نعابثه على ذلك.
ولكثرة ما بذل طه من جهد في هذا المؤتمر، فقد توجب علي أن أجعله يستريح ثلاثة أيام في «ستريزا
Stresa »
260
قبل عودتنا، ولم يضطر للاستجابة كثيرا إلى المتطلبات الاجتماعية المعتادة، وكانت أفضل ذكرى أحتفظ بها من هذا المؤتمر محادثاته مع «توريز بوديه
Torres Bodet »؛ فقد قامت بينهما صداقة حقيقية.
وبدءا من عام 1953 ولأربع سنوات متتالية، كانت هناك اللقاءات التي نظمها جيورجيو لابيرا الذي كان عمدة فلورنسا آنذاك تحت شعار: الحضارة المسيحية والسلام. كانت هذه اللقاءات جميلة، فقد كان الناس يأتون إليها من أطراف العالم أجمع، وكان يشارك فيها مسيحيون ومسلمون ويهود، ولم يكن لذلك أية علاقة بالسياسة مباشرة، بيد أننا كنا نجد أنفسنا بين الحين والآخر على أرض خطرة. ذات يوم احتدم طه - وربما كان ذلك بمناسبة قبرص - وصرح بكل وضوح لقنصل بريطانيا العظمى الذي كان قد ألقى بتصريح غير مناسب:
أود لو أعرف في أية لحظة من الزمن عهدت العناية الإلهية لإنجلترا بأمر القيام بمهمة البوليس في العالم.
لم يكن ذلك جوهريا على كل حال، وإنما الجوهري كان هو الجهد المخلص الذي بذل من أجل تحقيق الفهم المتبادل الذي كان يعلو على كل الحواجز والعقبات، وإني لعاجزة عن التعبير عن قناعة «لابيرا» وحماسته الكريمة وأمله العنيد
Spes contra Spem .
261
إني لأفضل أن أدعه يتكلم عن طه:
كانت فلورنسا قد رفعت بجرأة في أوج الحرب الباردة الراية المبشرة بالأمل والوحدة والعدالة والسلام ... وكان طه حسين، خلال أربع سنوات، داعيتها الرئيسي ... وهذا هو السبب في وجودي هنا شاهدا، وإلى حد ما حاملا رسالة طه حسين التي دوت دوما على المنصات العالية حيث أعلن عنها ... رسالة مبشرة بالوحدة والرضا والعدالة والسلام ... لقد كان يبشر بها من أجل جميع شعوب البحر المتوسط، ومن أجل الأسرة الإنسانية كلها.
كلمات ألقيت في فبراير 1975 خلال الاحتفال بذكرى طه.
ولعل أشد ما أثار دهشة أعضاء الأسرة الصحفية في فلورنسا أن يتحدث مسلم بهذا الأسلوب:
إن واجبنا يتجلى في عقد روابط الأخوة بين العالم الإسلامي الذي أمثله هنا - بما أنه بوسع أصغر مسلم، إذا قال الحق، أن يقوله باسم الجميع - وبين العالم المسيحي، ومدها إلى كل الناس؛ ذلك أنه لا وجود في نظر الله لشرق أو لغرب، ولا للجنوب أو الشمال، وإنما العالم والناس. وعندما يمنح الله العدالة للناس، فإنه لا يمنحها للمسيحيين فقط، أو للمسلمين فقط، وإنما لجميع الناس. إنني أطالبكم بمحاسبة أنفسكم ...
ويضيف الصحفي الذي كتب أحد المقالات عن المؤتمر: «نهض لابيرا الذي كان قد استمع إلى هذا الخطاب دون أن يستطيع مداراة فرحه، وقال له: «أنت أخي حقا.» وعانقه.»
ولاحظ صحفي آخر:
كان كلامه، بل أكثر من ذلك، شخصيته نفسها تستأثر بانتباه الجميع؛ ذلك أن الدين والثقافة قد أوجدا فيه نقطة التوازن والاتحاد الكاملين.
أما المنصات العالية التي أتى على ذكرها لابيرا فقد عرفناها جميعا: «الساحة القديمة
Vecchio »، وقصر «الميديتشي
Médicis »، و«الدوم
Dôme »، و«سانتا أنونتسياتا
Santa Annunziata »، و«سانتا كروتشه
Santa Croce »، و«سان مارك
Saint Marc »؛ فقد جرت في معظمها تصريحات وكلمات لا تنسى، وخاصة في ساحة فيكيو التي كانت تعقد فيها الجلسات (على أن المؤتمرين كانوا يتكلمون حيثما ذهبوا معا).
كان يوم 24 يونيو - يوم عيد فلورنسا في الدوم - يوما مشهودا؛ فقد قاد لابيرا إلى الدوم كل مدعويه. كان المندوبون يجلسون في المكان المخصص للكورس، في حين جلست النساء في الصفوف الأولى في جناح الكنيسة الكبير. وكان الكاردينال «دالاكوستا
Dalla Costa » الذي يبلغ من العمر ثمانين عاما، يجتاز المسافة الطويلة من المدخل حتى المنصة بخطى سريعة وشابة . كان يمكن أن يكون بهزاله ووجهه النحيل نموذجا لفنان من عصر النهضة؛ قامة طويلة كان يزيد من طولها الذيل المتجرجر لثوبه الأرجواني. وبعد أن قدم إليه أعضاء الوفود، بدأ الاحتفال. كان هناك حارسان بملابسهما التقليدية يقفان على يمين ويسار الهيكل، وعند التقديس، انفجرت العلامات الموسيقية الواضحة من بوقيهما الفضيين فجأة، وفي الوقت نفسه ارتفعت الراية الناصعة البياض الخاصة بفلورنسا، التي تتميز بزنبقة حمراء مطبوعة عليها ... ووجدتني أجثو مع الناس جميعا.
وخرج علم المدينة من الكنيسة يتبعه العمدة والمندوبون وكافة المشتركين، وكان ثمة خارج الكنيسة جماهير غفيرة فرحة تنتظر وتصفق، ثم استؤنفت الحياة العادية؛ حياة كل يوم. أما نحن، فقد كنا بحاجة إلى بعض الوقت لكي نعود من العالم البعيد الذي كنا فيه.
كان الكاردينال دالاكوستا شخصية باهرة؛ كان متحفظا، رزين الكلام، رصين الحركات، زاهدا. واجه النظام الفاشي بشجاعة بطولية، وكان خلال الحرب كل شيء بالنسبة إلى الجميع. كان يسعف أبأس الناس، ويحمي اليهود المهددين، وكان تواضعه على قدر هذه النفس العظيمة، ولقد عرفت فلورنسا أن تعبر عن عرفانها بالجميل له عند موته، وقد قرأت كلمة ممثل الحزب الشيوعي في رثائه وتقديره؛ ولم تكن أقل الكلمات جمالا.
واستمعنا ذات مساء في رواق كنيسة سانتا كروتشه إلى السمفونية الرابعة لبراهمز، بقيادة «د. ميتروبولوس
D. Mitropoulos ». هل يجب علي أن أقول إن ذلك كان خارق الجمال؟
وفي الليل أيضا عزفت موسيقى أخرى في ساحة سانتا أنونتسياتا، وكنا نسمع من وقت لآخر صوت قطرات المياه الرقيق؛ فقد كنا بالقرب من واحد من الينابيع. تلك هي الأصوات التي كنا نسمعها في الليل: مياه الينابيع، وجزالة باخ العاطفية أحيانا، والمدى الشاسع لإيقاعات براهمز، وكل ما يمكن لنجوم ليلة صيف في توسكانا أن تضيفه أيضا!
موسيقى، في مكان آخر أقل قداسة أيضا؛ في المسرح البلدي، وفي إطار احتفالات «شهر مايو الفلورنسي»؛ فقد استمعنا إلى «قوة القدر» و«عطيل» مع الصوت الوحيد ل «تيبالدي
La Tebaldi ».
262
كانت دراما «عطيل» تدور في جو من العنف والحنان والحزن الأخاذ بشكل غريب. كنا نجلس في واحدة من تلك المقصورات الجميلة المكشوفة في جزء منها، في وضع مريح؛ كانت المقصورة مملوءة بالزخارف، مزدانة بالأزهار، وكنت ألبس ثوبا يلائمني تماما. كان طه منشرح النفس، وكنا سعيدين.
لا بد لي من أن أتحدث عن الأوبرا-باليه «الهنود الحمر الغزليون»، التي عرضت في حدائق «بوبولي
Boboli »، وعن مباراة كرة القدم على الطريقة القديمة «الكالتشيو
Calcio »
263
على ساحة «سينيوريا
Signoria »؛ كان اللاعبون يلبسون ثيابا من القرون الوسطى، وكانت طلقات البنادق العتيقة «القربينات» تسجل الوقت. وكذلك علي أن أتحدث عن أشياء أخرى كثيرة، لكني لو بدأت فلن أنتهي من الحديث.
غير أني لا أستطيع بعد كل شيء أن أكف عن الحديث عن فلورنسا دون أن أتذكر دير «فييزوليه
Fiesole » حيث كنا نسمع الرهبان، وقد جلسنا حول بئر وتحت أوراق الشجر دون أن نراهم، ينشدون من أجلنا نشيد القديس فرانسوا، نشيد الشمس؛ وكذلك دون أن أتذكر «فالامبروزا
Vallombrosa »
264
بغابتها الواسعة الحافلة بأشجار الصنوبر التي كانت تبدو وكأنها تريد عناق السماء من طولها. لقد قضينا لذلك في هذه المدينة شهرا كاملا. كان الطريق، فيما وراء الغابة، يتلألأ بأنوار أزهار الوزال الذهبية.
وقد جعلنا «لابيرا» نتعرف على صوامع أخرى متباعدة. وأذكر يوم كنا نعود من زيارة إحداها؛ كنت معه على سطح الباص (وكان طه بالطبع يجلس في الداخل)؛ كانت السماء تظلم شيئا فشيئا، إلا أن الليل لم يكن قد حل بعد. قال لي لابيرا: «انظري إلى النجوم
Respice Stellem !» ... ومنذ أن بت وحيدة، أبحث عنها كل يوم، ولكن ما أكثر الأمسيات التي لم أكن أراها فيها.
تقع مدينة «أسيز
Assise » على مسافة ثلاثمائة كيلومتر من فلورنسا، وقد جئنا إليها - دون أن نكون مرتبطين بمؤتمر - شبه حجاج، ولم يكن مساء كالأماسي الأخرى ذلك المساء، حين كنا نصعد الطريق ببطء على الأسوار، صامتين متأملين، وفجأة لمحت سربا من الحباحب بكياناتها الدقيقة المضيئة ترف من حول طه، ومن حوله وحده؛ هذا النور الزاخر بالأسرار، الراقص والمبعثر، استمر يصحبه حتى اقترابنا من مصابيح المدينة. ولئن كان علي أن أتحدث عن «أسيز»، موطن القديس فرانسوا، لوجب علي أن أتحدث عن انفعالي، ولست بقادرة؛ ذلك أنه يظل حبيس أعماقي، أتقاسمه مع آلاف وآلاف الناس الذين شعروا ولا بد هناك ولو خلال دقيقة واحدة بالرغبة في أن يكونوا أفضل مما هم عليه.
كان من المرغوب فيه أن يرأس طه الوفد المصري لمؤتمر اليونسكو في «مونتوفيدو»، لكنه لم يكن يستطيع ركوب الطائرة، وخاصة للقيام برحلة كانت تدوم في ذلك الوقت ستا وثلاثين ساعة، وقد تم اتخاذ القرار في وقت متأخر لم يكن بوسعنا معه الذهاب على متن باخرة ما؛ فغدا ذلك شبه مأساة. كانوا في القاهرة يستعجلونه الذهاب، وفي «مونتوفيدو» يضجون بالشكوى حيث ينتظره الكثير من المستشرقين. كان طه مقلقلا، ومرض وسط كل هذه المناقشات؛ وهكذا اتخذت على عاتقي مسئولية تقرير عدم الذهاب، إلا أن اللجنة الوطنية لليونسكو في أورجواي أرادت بعد سبع سنوات أن تحتفل بذلك الذي لم يعد يستطيع قط أن يشارك في المؤتمرات؛ فنظمت محاضرات ومعرضا لكتبه ربما رافقتها تعليقات عليها. ولا يزال الحقوقي والفيلسوف «آنيبال دل كامبو
Anibal del Campo » يبرهن حتى النهاية عن إخلاص أشعر مع مؤنس إزاءه بتأثر لا حدود له.
لم أكن أستطيع بالطبع مرافقة طه إلى جدة. كانت فرحة عميقة بالنسبة إليه أن يعيش قليلا في الجزيرة العربية، في أماكن عرفها فكره وقلبه وأحبها حبا قويا، وقد وصف لي الاستقبال الحماسي الذي استقبل به؛ فما إن نزل من المركب، حتى استقبلته الهتافات، تمتزج بها هتافات العمال المصريين الذين كانوا على ظهر المركب. جاءت وفود كثيرة لحضور هذا المؤتمر الذي نظمته الجامعة العربية فيما أعتقد، كما قدم شعراء من مكة بقصد إلقاء قصائد نظموها من أجله، وانهالت عليه تحيات الطلاب والمارة والتلاميذ الذين جاءوا مع فرقهم الموسيقية. كان الجميع يريدون رؤيته والإصغاء إليه، وتوصل برغم كل شيء للذهاب إلى مكة، وإلى اختلاس ساعتين للذهاب إلى المدينة المنورة على متن طائرة صغيرة رديئة تثير العجب! (وقد غدت الأشياء أسهل اليوم بكثير). وما كان يواسيه شيء لو لم يتمكن من رؤية المدينة المنورة، وأعرف كم كان منفعلا عندما كان يقول لي: «حقا، إن الإسلام دين الصفاء والتسامح.»
لم يستطع فريد أن يرافقه في هذه الرحلة لكونه مسيحيا، وإني لأعترف بفضل أمين الخولي الذي لم يتركه خلال هذه الرحلة، وسهر على راحته بأخوة.
كانت تلك هي المرة الأخيرة تقريبا التي كتب فيها لي؛ لقد فعل ذلك مختلسا بعض اللحظات خلال الأيام التي لم يكن يملك فيها وقته، وكانت آخر رسالة من الجزيرة العربية تقول: «تعالي إلى ذراعي، وضعي رأسك على كتفي، ودعي قلبك يصغي إلى قلبي.» كان عمره آنذاك خمسة وستين عاما.
ولست أستطيع أن أتحدث كثيرا عن زيارته السريعة لتونس؛ فقد أصابه فيها ألم أسنان رهيب جعله يتألم إلى درجة اضطروا معها أن يعطوه كمية كبيرة من المسكنات، الأمر الذي عكر عليه هذه الرحلة، غير أن ود الجميع، كما هو الأمر دوما، عرف أن يعبر عن نفسه، وخاصة ود الرئيس الحبيب بورقيبة الذي كنا نعرفه منذ زمن بعيد.
أما المغرب، فكان هو المرحلة الأخيرة من الطريق الذي كان يحمل على امتداده غالبا تحية مصر وكلمتها، وأتطلع برضا إلى صورة يبدو فيها الملك محمد الخامس وهو يعانقه؛ كان الوجهان معا جميلين.
ثم أبحرنا إلى طنجة، واصطحبونا إلى مقر حاكمها بأقصى سرعة محفوفين بجنود على دراجاتهم البخارية التي لا تكف فرقعتها العالية وبصفارات حادة تثقب الأسماع؛ إنه أمر معتاد بالنسبة إلى كبار هذا العالم - ولم نكن منهم - ولهذا سررنا عندما تخلصنا من هذا الضجيج الكثير.
كانت دار الحاكم دارا ساحرة، وكانت أعلى من المدينة، وكنا نلمح عبر أشجار الأوكاليبتوس والصنوبر على شرفاتها البحر ومضيق جبل طارق. كان مضيفونا تجسيدا للطف. أما في الرباط، فقد سمحت لنفسي - لأن طه لم يكن حرا كما هو واضح - بالقيام بنزهة شاعرية ومتوحدة أمام المحيط الذي لم أره منذ سنوات عديدة.
الدار البيضاء: بعد أن ألقى حديثه، احتفظوا بطه وقتا طويلا بحيث إنني - وقد رأيته تأخر عن العودة - بت هلعة من القلق، ولا بد من القول إنه قد أخافني مرة أخرى عندما أغمي عليه في محل تجاري بمدينة جنوة عشية عودتنا، فأعدناه إلى الفندق ضمن عربة إسعاف؛ لم تكن ملامح الطبيب الشاب المتوجسة - وقد دعي على عجل لإسعافه - لتطمئنني، فقمت بكل هذه الرحلة وأنا أشعر بالاضطراب.
أما هو فقد كان مفعما فرحا؛ إذ وجد نفسه في فاس. كان السيد علال الفاسي معنا، وتدبرنا أمرنا للحصول على السيارة الصغيرة التي كانت في خدمة الملك قبل فترة من ذلك الوقت، فسيارة عادية لا تستطيع السير في هذه المدينة، كما أنه لم يكن من الممكن أن يخاطر طه بالسير وقتا طويلا في طرقات ضيقة تفصل بينها سلالم غير منتظمة، في جو حار جدا، فيتعب ويرهق؛ إذ إننا كنا في شهر يونيو.
وعصر ذات يوم، صعدنا إلى مدينة صغيرة تقوم على الطريق إلى الأطلس. لم يكن لدينا وقت كاف للأسف للمضي صعدا في هذه الجبال؛ كان الجو جميلا ونديا، وكان المنظر يختلف تماما عن منظر مدينة فاس الذي يتسم بالخشونة العارية، وكان هناك رجل لطيف أعتذر عن عدم تذكري اسمه، يملك دارة استقبلنا فيها بأروع ما في العالم من طرق في الاستقبال، وكنت سعيدة لتنزهي في إحدى هذه الحدائق ذات المسطحات المتدرجة التي أحبها كثيرا، والتي كانت مزروعة بأشجار الصنوبر والسرو. كان ظل الأوراق الضعيف على مياه المسبح الزرقاء يرسم صورا غير مستقرة، في حين كانت تطفو بعض الأغصان الصغيرة.
ودعي طه للحضور إلى تطوان، فتوجب الذهاب إليها. واجتزنا خلال وقت طويل - على الأقل بدا لي طويلا - مساحات واسعة قاحلة. كان الطلاب مرحين ودودين، ولن أنسى أنني تلقيت منهم عند وفاة طه رسالة مؤثرة جدا.
لم أتمكن من شراء شيء مهم من المغرب، لكني حملت معي على كل حال دثارا صغيرا جميلا أبيض اللون، مطرز الحواف باللون الأزرق، خاصا بطفل رضيع هو طفل مؤنس؛ أمينة. كان مؤنس وليلى قد تزوجا قبل سنتين
265
بعد أن عاشا فترة خطوبتهما في حلم مدهش، حلم كائنين شابين يكتشفان الحب، وربما كان من الأصح القول إنهما كانا يكتشفان بدهشة أن الحب يهبط عليهما ؛ فليلى هي حفيدة أمير الشعراء أحمد شوقي،
266
وقد استقبل هذا الزواج بترحيب، وبدا أنهما قد استودعا جزءا ثمينا من الآداب العربية. كان الجميع يبتسمون لهما، وبعد سنوات من زواجهما، كان هناك دبلوماسي شاب يصحب ليلى ومؤنس في باريس بعد حفل استقبال، يقول لهما متعجبا: «أن يكون معي في سيارتي ابن طه حسين وحفيدة أحمد شوقي ... أعتقد أنني أحلم!»
وقد تم هذا الزواج، مثلما تم زواج ابنتي، بلا صخب، وفي جو يسوده الحب والحنان، إلا أنه لما كان من المتوجب بعد كل شيء أن يدعى إليه كثير من أصدقاء العائلتين، فقد جعل والد ليلى من حديقتهم قاعة استقبال رائعة في الفضاء، أضيئت بمصابيح معلقة على الأشجار، وعندما خرج الزوجان الشابان من البيت بعد أن عقد قرانهما المفتي الأكبر
267
الشيخ عبد المجيد الذي عقد قران أمينة، بدوا - وقد سبقتهما أنوار آلات التصوير في الليل - كأنهما يمشيان على أنوار المشاعل كموكب قديم.
ذات يوم بعيد دخلنا هذه الحديقة لكننا لم نعد إليها قط؛ كان ذلك في عام 1926. كان طاغور
268
يمر من القاهرة، وكان شوقي الذي أقام حفل استقبال على شرفه قد دعانا إليها. وكنت المرأة الوحيدة، شأني في الكثير من المرات، في هذا الحفل، خجلة ولا شك ضمن هذه المجموعة الهامة التي كان من أفرادها سعد زغلول وعدلي ولطفي وعدد من النواب، وكان حاضرا أيضا مغن شاب هو الآن المطرب الشهير عبد الوهاب.
269
لم أنس على الإطلاق ذلك العجوز ذا القامة الطويلة الذي كان ينزل عند ذهابه درجات المدخل ببطء، لم أنس ثنيات ثوبه الأسمر، ووجهه العظيم يؤطره ثلج شعره ولحيته، وعينيه الرزينتين، ورأسه المرتفع الذي كان يزيد من ارتفاعه قبعة عالية من المخمل الأسود - والنيل عند قدمي البيت
270 - وفيما وراء ذلك القلعة والجبل حيث كان الغروب يختفي تاركا وراءه نورا ورديا خفيفا.
وفي المساء تحدث طاغور في الأزبكية، أما في الغداة فقد قضى الشيخ مصطفى وطه بصحبته نصف ساعة في جلسة اقتصرت عليهم ثلاثتهم.
كان ذلك منذ زمن بعيد لم تكن فيه ليلى قد ولدت بعد ...
لم نر طاغور بعد ذلك، إلا أنه في عام 1964 خصت الجمعية الآسيوية
271
طه بواحدة من الميداليات الخمس المضروبة بمناسبة العيد المئوي لرجل كان عظيما ...
يتبع مسار حياتنا أحيانا دروبا غريبة، فنصادف فيه لحظات كنا حسبناها قد توارت في أعماق ذاكرتنا، الأمر الذي يزعزعنا إلى حد ما.
استؤنف إيقاع الحياة والموت، «الموت، إشارة تعجب للحياة» كما كتبت لي ذات يوم صديقتي «مارتا»؛ فبعد ستة أشهر من زواج مؤنس توفيت والدتي فجأة تقريبا؛ كان قد أغمي عليها، واستغرقها الإغماء الذي لم تصح منه بحيث وفر عليها أمر انتظاري عبثا. أمي، يا وجها عزيزا ما كنت لأراه مرة أخرى - يا كلمات ما كنت أستطيع سماعها ... ولكن، ماذا سمعت من أندريه في الساعة الأخيرة؟ ماذا سمعت من طه؟
كان لها من العمر ستة وثمانون عاما،
272
وكنت أعرف أننا لن نحتفظ بها طويلا، ومع ذلك، متى كنا نقبل هذه الثغرة في وجودنا بحكمة؟ لم تكن تفهمني دوما، وقد تألمت من ذلك أحيانا، وكان يحدث لي أن يراني طه حين يعود إلى البيت، مقلوبة رأسا على عقب، فيقول لي: «هل تلقيت رسالة من أمك؟» ومع ذلك فقد كانت تحبني، وكنت أحبها، وأعتقد أن تلك هي أول كلمة كتبتها لخالتي «مادلين».
273
كانت هي التي أعلمتني بمصابي، وقلت لها والدموع تغطي وجهي وتكاد تبلل ورقتي: «لم تكن تعرف كم كنت أحبها!»
كانت مادلين، التي تسكن في باريس، بالنسبة إليها ابنة أخرى أقرب إليها مني أنا التي كنت أعيش بعيدا عنها، وخاصة عندما لم تعد أندريه موجودة. كان أبواها يعيشان دوما في «البورجوني
Bourgogne »، وكانت تذهب إليهما غالبا. كانت تعرف وتلتقي الناس الذين سبق لأمي أن عرفتهم، أو تلتقي بعائلاتهم، وكانت تتحدث دون أن تتعب عن البلدة الصغيرة التي عرفت طفولتهما معا، هما اللتان كانتا تتشابهان برغم فوارق السن. كانت الأجيال تتتابع، تبقى الأسماء والبيوت والنهر والغابات ... والكنيسة. وكان بينهما علاقة حميمة لم يكن بوسع أمي أن تجدها معي. كان حبيبا إلى نفسي أن ألتقي بمادلين ثانية قبل عامين، وأن أسمعها تحدثني عن أمي وعن كل هذه الأمور.
وفي وقت هذا الحداد لم تكن أمينة هناك، بل لم يكن هناك تقريبا أي إنسان كان يعرف تلك التي أبكيها. لقد كان هناك طه، وكان هناك مؤنس، وكان هناك جان، وكانت هناك ماري.
وقد مات معاصرها تقريبا، بول كلوديل، في شتاء السنة نفسها، وقد تنفس طه الصعداء وهو يفكر في جيد عندما تلقى خبر وفاته، وبصراعاتهما التي لم تنته، وقال: «حسنا، ها قد وفق الموت بينهما!»
وفي الوقت نفسه فقدنا «مارسيل أبراهام
Marcel Abraham »
274
الذي كان يسميه مؤنس «روح وعقل العلاقات الثقافية»، ولقد كان كذلك. كان أيضا مخلصا (وأكاد أقول إنه كان تجسيدا للإخلاص نفسه). إن ما أبداه من سلوك يكشف عن تعلقه بذكرى «جان زاي
Jean Zay »
275
يعبر بشكل رفيع عن أنه كان هو نفسه قلبا عظيما. فلنكن ممتنين له، نحن الذين استطعنا أن نقرأ «ذكريات وتوحد
Souvenirs et solitude »،
276
ولنتمكن من ألا ننسى ولا نتجاهل كل ما قام به بذكاء وفعالية في المهنة التي أفنى عمره فيها.
ذات صباح من شهر مارس كنا مجموعة من الأصدقاء ونفرا من تلامذة مدرسة ثانوية يغمرنا الحزن جميعا ونحن نشيع إلى المقبرة ماري فولكونسكي. كانت الأميرة ماري فولكونسكي
277
قد وجدت في مصر منفى لها حين وصلتها بعد أن تماثلت للشفاء من مرض التيفوس عقب الثورة الروسية، واستطاعت العيش فيها بفضل عملها كأستاذة للغة الإنجليزية في الثانوية الفرنسية التابعة للبعثة العلمانية كما كانت تسمى آنذاك. كانت ابنتي تلميذتها، وقامت بيننا على الفور علاقة من الود، ثم من التعاطف والحب. كنت أنظر إليها، إلى شجاعتها وكبريائها ودقتها بإعجاب ما زلت وسأبقى أحتفظ به. من المؤكد أنني لا أشاركها كل أفكارها (برغم أنها كانت لدهشتي تحررية في بعض الأمور) مثلما لم تكن تشاركني كل أفكاري. وقد كانت تتفاهم مع أمي في بعض النواحي على نحو أفضل من تفاهمها معي، وذلك خلال الوقت الذي بقيت فيه أمي في مصر، بيد أنه أمكننا التحاب برغم ذلك لحسن الحظ.
ومن الغريب أنه كانت لدي في تلك الحقبة صداقتان - إذا جاز لي القول - متعارضتان كليا: ماري فولكونسكي الأرستقراطية المتكبرة إلى حد ما، وامرأة إسبانية ذات نزعة جمهورية هي زوجة ابن «جابرييل ألومار
Gabriel Alomar »، التي كانت هي الأخرى تناضل ببسالة للتغلب على المصاعب والأحزان اللتين تعاني منهما عائلة في منفى. لا شك أن الأميرة المتوحدة كانت شخصية فذة، لكني لا أقل إعجابا بماتيلد التي كان قبولها للأمر الواقع يتم على نحو رصين.
عندما غزا الألمان روسيا، كنا نرى بعض المنفيين يتبادلون التهاني آملين من وراء ذلك هزيمة الشيوعية. وحكت لي ماري:
تصوري! اقترب مني أمس صباحا بعد القداس أحد شبابنا متهلل الوجه، وهتف بي: «يا أميرة ... إن الألمان دخلوا روسيا!»
فأجبته: «الألمان غزوا روسيانا المقدسة؟! فلتتكسر أسنانهم إذن ولتحل عليهم اللعنة!»
تمنيت لو أستطيع إعادة اللهجة المتقدة حنقا التي لفظت بها جوابا ما كان ليدهشني صدوره عنها.
كانت قد تبنت - هي التي لم تكن تكفي نفسها إلا بالكاد - صبيا صغيرا كان ابن أحد القوزاق، غير أنه سبب لها للأسف خيبة أمل شديدة.
ثم ماتت في أحد مستشفيات القاهرة، وقد نثرنا على نعشها المفتوح جميعا أزهار ربيع مصر الندية.
ولسوف ألتقي بنساء رائعات؛ ففي مايو 1952 كانت هيلين كيلر
278
تزور القاهرة، وطلبت أن تلتقي بطه؛ كانت قد قالت عن هذا اللقاء: «سيكون لقائي مع طه حسين أجمل يوم في حياتي.» وكنا نشعر بانفعال شديد حين ذهبنا، طه ومؤنس وأنا، إلى فندق سميراميس، ونتساءل كيف سيدور الحديث مع امرأة لم تكن عمياء فقط، وإنما صماء بكماء أيضا. والحق أن ذلك لم يكن صعبا على نحو ما انتظرنا؛ أولا لأن هذه المرأة كانت بشوشة بقدر ما كانت لطيفة، كما كانت ذكية إلى حد خارق، ثم لأنه كان بالقرب منها سكرتيرة مدهشة كانت تسمى فيما أذكر مس طومسون. لقد كانت تقوم بكل ما يمكن لإخلاص لبق مستنير أن يقوم به؛ كانت تعرف بالطبع لغة الصم والبكم في مثل هذه الحالة الخاصة إلى حد كبير، كانت تنقل الأسئلة والأجوبة بسرعة من طرف إلى آخر، وذلك بضغطة تقوم بها على حنجرة هيلين، أو بمس قبضتها. تحدث مؤنس كثيرا، وكان مبهورا. وفي الغداة، ألقت هيلين كيلر خطبة في صالة اختيرت بقصد ألا تكون واسعة، وعندما سمع مؤنس هذا الصوت المبحوح؛ هذا التتابع المتعب - المفهوم برغم كل شيء - من الأصوات المبتورة التي كانت تعبر عن إرادة عزمت على الوصول إلى الآخرين بأي ثمن، فإن حماسته لم تعرف لها حدودا؛ ونظم على الفور قصيدة أهداها إليها وسرها بها. أما نحن، فلم نكن أقل منه تأثرا بذلك.
كان على مس طومسون أن تهتم بهندام هيلين بحنان، ولعلها هي - فيما أفترض - التي اشترت لها القبعة الصغيرة المزهرة ذات الألوان المشرقة التي رأيناها تضعها على رأسها.
والتقطت لنا صور معها، بدت فيها هيلين كيلر من المرح بحيث لا أسمح لنفسي أن أنظر إليها بحزن.
شغلنا تلك السنوات وغبنا عن مصر كثيرا إلى درجة لا أذكر معها شيئا عن الحياة التي تسمى بالعادية اليومية.
عندما تقرر زراعة غابة في الصحراء التي تصل إلى وادي الفيوم، سعدت للخبر جدا، ورأيتني أمشي عبر الغابة على بعد ستين كيلومترا من القاهرة! بصحبة مؤنس وثلاثة من أصدقائه ورفاقه، وقد حمل كل منا أربعة أصص صغيرة من الكزورينا والأوكاليبتوس، وغرسناها بعناية كبيرة في الأرض الرملية إلى جانب أصص عديدة غيرها. هل نمت وكبرت؟ لن أعرف ذلك. كان يمكن لتلك الأشجار الصغيرة إذا ما كبرت أن تؤلف غابة ... غير أنها ليست سوى مجموعات أشجار تصنع ما تقدر على صنعه! •••
لم أكن لأشك وأنا أصعد على ظهر الباخرة «أوسونيا» في البندقية في شهر أكتوبر 1960 أن حياتنا مقبلة على انعطاف مفاجئ سوف يغيرها تماما. فجأة، غدا قرصان منخمصان في العمود الفقري العنقي بمنزلة تهديد للنخاع الشوكي بالنسبة إلى طه، على أن عملية جراحية صعبة أجريت له حالت دون الشلل، غير أن طه لم يعد يستطيع استخدام ساقيه استخداما عاديا. عندما أصبح يمشي بصعوبة، ثم عندما لم يعد يمشي إلا قليلا جدا، ثم عندما لم يعد يستطيع القيام إلا بخطوات مؤلمة مترددة؛ فقد قامت عقبة أخرى في وجه فعالية لم تكن تعرف التعب، ولم تكن تستسلم إلا ببطء. عندما غدا هذا الرجل بلا عينين، رجلا شبه مقعد، يزيد من ضعفه تقدم العمر والآلام، كان لا بد من القبول بالتخلي عن كثير مما كان يقوم عليه وجودنا.
ومع ذلك فلم تكن هذه السنوات الاثنتا عشرة، التي كانت سنوات نعمة، عقيمة كلها؛ كانت مفيدة في كثير من الأحيان، وجميلة أحيانا. كنا أكثر قربا واحدنا من الآخر؛ إذ لم يكن يخرج قط إلا للذهاب إلى المجمع الذي ظل رئيسه حتى يومه الأخير، وكنت أصحبه في ذهابه إلى مقره، كما أني لم أكن أترك البيت إلا من أجل المشتريات الضرورية.
ولكن قبل أن أتحدث عن عذوبة هذه السنوات الكئيبة، أود أن أبتسم لصور إيطاليا التي كانت بردا وسلاما بالنسبة له حتى النهاية. «ألا يسعنا البقاء أيضا فترة أطول قليلا؟» هذا ما قاله لي عندما كنا نصعد على الباخرة «إسبيريا» ... أربعة أسابيع قبل ...
إذ على الرغم من الصعوبات المتزايدة، كنا نذهب إليها كل سنة، ولم تكن الرحلات الأخيرة سهلة حقا. كان طه يظن - وهو الذي ترهقه الحرارة المرتفعة - أنه لا يقدر على الذهاب، وكنت أوشك أكثر من مرة أن ألغي الحجز، والحزن العميق يأكلني؛ لأنني كنت أعرف كم كان ضروريا أن يتنفس هواء أكثر تنشيطا. كان هناك أيضا هموم الساعة الأخيرة التي تسبق السفر: إجراءات تحويل النقد الأجنبي المعقدة، كما أنه فجأة لم يكن ثمة سكرتير يرافقنا، على أنه أمكن تدبير كل شيء تقريبا، بيد أنه لولا الدكتور سيرج غالي ما كنا استطعنا السفر؛ إذ بإقناعه طه بكثير من الصبر واللباقة والود، مانحا إياي في الوقت نفسه الشجاعة والثقة، قد أتاح لنا هذه المنافذ كيما نلتقط أنفاسنا.
كنا نأتي بواسطة الباخرة؛ فمقصورات «الأدرياتيكا» كانت مريحة، وكنا معروفين منذ زمن طويل فيها؛ فنذهب بسيارة أجرة حتى بحيرة «جارد»، ثم نذهب بعد قضاء عدة أسابيع إلى «التيرول
Tyrol » أو إلى «الدولوميت
Dolomites »، ونطوف بذلك من جديد وبهدوء، بعض الدروب التي سبق لنا أن سرنا فيها.
مدن إيطالية، آجر وردي يبلغ من العمر ستة أو تسعة قرون، ممتدة على شواطئ الأنهار والغدران، مطلة على البحر، متشبثة بالهضاب المظللة على قمم جبل «آبينينيس
Appennins »، «فيرونا
Vérone »، «برتشيا
Berscia »، «فيتشينزا
Vicence »، «بيلونو
Belluno »، «تورينو
Turin »، «ترنتو
Trente »، «مانتوفا
Mantova »، «كريمونا
Crémone »، «فيرارا
Ferrare »، نابولي، جنوة، «برينيديزي
Brindisi »، ومدن أخرى كثيرة مررنا بها بحبور.
مدن صغيرة، وقرى الأودية والجبل تحتفظ دوما بشهادة الماضي المثير بين اندفاعات الأشياء الجديدة، ولا أدري بأية معجزة كان يبقى دوما البرج القديم أو الجسر القديم أو الكنيسة القديمة أو المركب القديم في المكان الذي يجب أن تكون فيه؛ وبمعجزة أخرى، فإنك تلتقط في المشهد الذي وقفت أمامه خطوطا، هي من الكمال بحيث لا يستطيع أي رسام مهما حاول أن يتخيلها.
ما أكثر ما أحببناك! ما أكثر ما أحببنا مباهجك، ورقة استقبالك المحبوبة، وأجراس آحادك وأيام أعيادك المألوفة!
ما أكثر ما أحبك! وما أكثر ما أنا ممتنة لما منحتنا من سلام!
عندما أمكنني، إثر هموم شتاء 1961، أن أصحب طه إلى إيطاليا، توجهنا إلى «بادو
» التي توقفنا فيها أولا (وقد وصلنا إليها مارين عبر مدينة البندقية)، ولما نظرت إليه في الغداة، كنت لا أصدق ما تراه عيني؛ كان جالسا مبتسما، بالقرب مني على شرفة مقهى «بيدروكي
»، وعندما تناولنا العشاء في الهواء الطلق في المطعم الصغير القريب، شعرت بنفسي محمولة على موجة من السعادة بحيث وددت أن أهتف حامدة شاكرة. كان طه يكرر القول غالبا: «إننا لا نشكر الله بما فيه الكفاية.» آه! لا شك أن شكرنا لا يفي نعمة الله علينا.
استطعنا العودة إلى حديقة «آرينا
Arena » وأجلسته على مقعد، في حين جلس فريد إلى قربه يقرأ له في صحيفة «اللوموند»، ريثما ذهبت لرؤية اللوحات الجدارية ل «جيوتو
Giotto » في كنيسة «سكروفيني
Secrovegni »
279
الصغيرة في الحديقة نفسها. وعدنا إلى كاتدرائية سان أنطوان، وكنا نفكر هناك بقلوب الرجال، بإخلاص بعضهم وبآمال البعض الآخر. لم نر ثانية الجامعة القديمة التي كانت لا تزال تحتفظ بحيويتها إلى جانب الجامعة الجديدة. وفي القاعة المدهشة الصغيرة جدا والتي كانت أول قاعة للتشريح، كنا قبل سنوات عدة من ذلك نحلم بجهد الناس - وعبقريتهم - ونحن نقف أمام الكرسي المسوس الذي كان كرسي «جاليله
Galilée ».
لكننا دخلنا في دير «براليا
» الذي يقع على بعد عدة كيلومترات من بادو، وقد قادنا قس عميق الثقافة شديد الود عبر الأجنحة الثلاثة التي كانت أروقتها حافلة بأزهار الجيرانيوم والباجونيا، وحيث تغني الينابيع.
قبل ذلك، كنا نقوم برحلتنا الإيطالية انطلاقا من باريس، فنجتاز الطريق ضمن سيارة الستروين الصغيرة التي كان يملكها مؤنس، والتي كانت تنقلنا أيضا عندما كان طه وزيرا. آنذاك، كان حرس الحدود إذ يرون جوازات مرورنا يفاجئون من تواضع سيارتنا! بيد أننا كنا نرتاح فيها، وكان مرح وبشاشة هذا الشاب خلال العطلة ينسياننا كل التعب. كنا نمر عبر مسقط رأسي في بورجوني، ونقف في «شالون
Chalons » أو في «بورج
Bourg »، وكنا ننزل بحيرة «بورجيه
Bourget » بالقرب من نفق «شا
Chat » حيث تناولنا ذات مرة غداء شهيا أكل منه طه بشهية. كان ذلك حدثا؛ إذ إن الوجبات كانت بالنسبة إليه أشبه بعمل سخرة أو منة يتفضل بها علينا، أو على أقل تقدير تنازلا كان يقوم به من أجلنا. ولم ينس مؤنس مثلما لم أنس مطعما صغيرا في «بولونيا
Bologne » قدمت لنا فيه وجبة بسيطة لكنها كاملة من كافة النواحي، وعندما جاءت صاحبة المطعم - التي كانت تقوم بنفسها بإعداد الوجبات - لترفع طبق طه الذي لم يكن قد مسه تقريبا. نظرت إليه بدهشة وعتاب واكتفت بالقول: «خسارة
!» كانت مستاءة فعلا، وكنا نشعر بالضيق بسبب ذلك!
على أنه كان يسر لتناول بعض الأشياء: قطعة كبد باللفت - آه، مجرد قطعة صغيرة جدا - أو فطيرة نخاع، وخاصة إذا كنت أنا التي قامت بتحضيرها، أو حلوى اللوز وفطيرة السوزيت. وكان هناك رئيس خدم في الأدرياتيكا يأسف لرؤيته حين لا يتناول من الطعام إلا القليل مما كان يعده له دوما، ويسألني بلطف بالغ: «متى أعد الفطائر لمعاليه؟» بيد أنه كان من العبث خلال السنوات الأربع أو الخمس الأخيرة أن نفكر بفطائر السوزيت.
كنا نصعد ثانية وادي «موريينا
Maurienne »، وفي جبل «سوني
Cenis » كان المشهد الواسع يذهلني؛ كان الطريق عريضا والأشجار هائلة، وعلى الممر المرتفع الذي كان خاليا من الأشجار بالطبع، كنا شبه وحيدين مع رجال الجمارك وعدد من الأبقار، وعند هبوطنا إلى مدينة «سوز
Suse » كنت ضيقة الصدر، فالمنحدر الإيطالي شديد الانحدار! بيد أن مؤنس كان حذرا.
ثم زرنا تورينو وميلانو و«بيرجامو
Bergame »، تاركين مؤقتا بحيرة جارد، لنصل حتى «بولزانو
Bolzano » ثم إلى «كول إيزاركو
Colle Isarco ».
تقع «كول» على مسافة سبعة كيلومترات من ممر «برينير
Brenner » وعلى ارتفاع ألف ومائتي متر، وهي قرية يبلغ عدد سكانها 700 نسمة، يقوم فيها فندق واسع يعود إليه كثير من الزبائن كل عام قادمين إليه من ميلانو وروما ونابولي، وكنا نحن أيضا نعود إليه. كانت نوافذنا تطل على واد شديد الاخضرار، ينتهي بحواجز ثلجية بيضاء، أما في الحديقة الكبيرة فقد كان طه يعمل على هواه، وقد عمل كثيرا؛ إذ كتب عددا لا يصدق من المقالات، كما كتب الجزء الثالث من كتاب «الأيام» وكتابه «الفتنة الكبرى» في معظمه. كان يحب المشي على امتداد ضفة «الفليرس
Flers »، وكان السيل الذي يخترق القرية كالإعصار يأتي من النمسا، قافزا من فوق «البرينير
Brenner »؛ إنه «الإيزاركو
Isarco ». أما الفليرس فكان أكثر هدوءا، وكان يلتقي الإيزاركو على مسافة غير بعيدة عن المحطة. كان طه يسأل دوما: «أليس الإيزاركو هو الذي يصب في الفليرس؟» - لا، إنه الفليرس الذي يصب في الإيزاركو!
كان يعرف ذلك جيدا، لكنه كان يحب معابثتي، شأنه في ذلك شأن مؤنس ... كانا يدعيان أنني أشرب قهوتهما بانتظام بعد الغداء. كنت قد نصحت بعدم تناول القهوة، أو تناول القليل منها؛ ولذلك كنت أشرب قطرة من فنجان كل منهما، ويبدو أنني بذلك كنت أفرغ فنجانيهما معا!
ما أكثر ما كان طه يمس شغاف قلبي في تلك السنوات الأخيرة! فبينما كنا نتنزه على ضفة «الفليرس»، أراد أن يحمل محفظتي بأي شكل مثلما كان يفعل في السابق لمساعدتي، بما أنني لم أكن أملك سوى ذراع حرة واحدة، إلا أنه عندما كان يتوجب على ذراعي اليسرى أن تسند ذراعه اليمنى أيضا ، فإنه لم يكن ممكنا أن يحملها فضلا عن أن ذلك كان يسبب له إرهاقا كبيرا.
أملك صندوقا صغيرا لوضع أدوات الزينة؛ ليس صندوقا عريضا، لكنه عال بما فيه الكفاية. لا أستطيع أن أنظر إليه الآن بلا مبالاة؛ فعندما كنا نذهب في «رحلة خاصة»، كان يحمله بعناية وبفخر رقيق حنون يؤثر في نفسي تأثيرا عميقا. إن هذه الأشياء هي أكثر من عادية إذا ما جرت بين زوجين عاديين، بيد أني كنت أقيم لها اعتبارا عظيما إذ أراها تصدر عنه!
في عام 1954 جاءت ابنتي وصهري وطفلاهما للقائنا في «كول»، وتعرفنا إلى ابنتهما «منى» التي ولدت في أمريكا، والتي كان لها من العمر آنئذ ثلاث سنوات. كانت لها نزوات لا تطاق، غير أنه كانت لها أيضا لحظات مؤثرة؛ ذات عصر، تركت وحيدة مع مربيتها، إذ كان الآخرون يقومون بجولة قصيرة، وكنت مضطرة للخروج وطه أيضا، فما إن رأت سيارة الأجرة تصل حتى ألقت بنفسها علي رافعة ذراعيها بحركة بلغت من التوسل والرجاء - بلا بكاء - أنها دفعتني إلى حملها إلى السيارة ووضعها قرب طه الذي كان قد ركب، مخالفة بذلك أوامر أمها القاطعة!
كان طه يثرثر مطولا مع الكبرى سوسن؛ كان يأخذها على ركبتيه، وكانت تصرح له بأن من الواجب أن تدعى «لامب» - مصباح! - ولم نعرف قط السبب في هذه التسمية. وغادرونا بعد خمسة عشر يوما، فأسف طه لذلك، وكانت أربع سنوات قد مضت منذ رحيلهم، ثم التقينا بهم في الخريف في فترة من الوقت في الزمالك عندنا. لم يكن الطفلان يتحدثان إلا بالإنجليزية، ولم تتعلم منى سوى كلمة فرنسية واحدة، وهي: «شريرة
Vilaine !»
ثم لقيناهم ثانية في «جاردون
Gardonne » خلال عدة أيام من السنة التالية. كنا قد وعدنا الأطفال بالذهاب إلى «كول»، لكنهم لم يذهبوا، وكان حسن الذي يعجب بها كثيرا قد حزن لذلك حزنا أضيف إلى عذابي عندما توجب علي وداعهم بمثل هذه السرعة.
وكان لا بد من انتظار عدة سنوات قبل أن يعودوا إلينا في إجازة، في مدينة «ميرانو» هذه المرة. لم تعد منى آنئذ طفلة رضيعة؛ وكانت القصص التي يقصها عليها جدها تسحرها. كانت تستمع إليه ساكتة فاغرة الفم، ولم تكن كل هذه القصص مبتكرة؛ بل كانت غالبا أخبار العصر الأول من الإسلام ومن تاريخ العرب.
كانت دوما عفوية وحساسة. وكان ينزل في الفندق كونتيسة إيطالية، لا أدري من هو الذي قال عنها إنها أميرة. كانت الأميرة في مخيلة منى شخصية قوية مخيفة؛ وقد خافت لذلك من هذه السيدة خوفا كبيرا، في حين أنها كانت في الحق امرأة متميزة ساحرة الشخصية.
في كول، قمنا بعقد صلات جميلة مع عدد من نزلاء فندق بالاس، وذات يوم اندفع واحد منهم في الصالة ملوحا بمجلة إيطالية وقال: «انظروا! انظروا! ... أليس هذا عظيما؟ أية مفاجأة!»
وكان يشير إلى نقد لكتاب «دونالد روبينسون
Donald Robinson » «أهم مائة شخصية في العالم
The 100 most important men in the world ». لم نكن نعرف إطلاقا أن روبينسون كان يفكر في هذا الكتاب.
كنا قد تعرفنا بهذا الكاتب الأمريكي خلال اللحظة الدرامية في أثناء حريق القاهرة؛ كان يقوم برحلة إلى مصر بصحبة زوجته، وكان ينزل في فندق شبرد، واحترق الفندق فأضاعا كل حقائبهما، لكنهما لم يفقدا مرحهما. كنت قد وعدتهما باصطحابهما إلى سقارة، وذهبنا إليها برغم كل شيء، وأغدق عليهما «لوور»
280
من علمه المحبب، وعدنا معا للغداء في البيت. في ذلك اليوم تحدث طه كثيرا مع دونالد، وها نحن نعلم دهشين أن طه يمثل لا بين الشخصيات المائة المختارة فحسب، بل ضمن التصنيف الأضيق؛ بين الرجال العشرة الذين طبعوا عصرهم أيضا، مع برتراند راسل
281
وتشرشل، وأينشتين، وشويتزر،
282
وبيريا!
283 (أشأمهم). كان هذا الاختيار بالطبع تعسفيا، وكان هناك بالطبع كثير من الأسماء الغائبة، على أن ما أراده الكاتب هو «أن يشير في كل ميدان من ميادين الفعالية الإنسانية إلى الإنسان الذي كان يصنع عالم الغد».
وقبل عدة سنوات أعيد طبع هذا الكتاب ثانية، فأضيفت إليه بعض الأسماء وحذفت منه أسماء أخرى، أما طه فقد بقي اسمه ماثلا فيه.
وقد عبر لي دونالد عن ألمه لوفاة طه ببيت شعر للشاعر الإنجليزي «شيلي
Shelley »:
I weep so deep because I weep in vain
أبكي بكاء مرا لأنني أبكي عبثا
كان يحدث أحيانا أن يمر في مدينة «كول» من وقت لآخر أناس من القاهرة قادمين بصورة عامة من النمسا؛ هكذا التقينا ذات سنة برسل باشا
284
وزوجته وهما يدخلان غرفة الطعام، فيدهشان لرؤيتنا بقدر ما دهشنا لرؤيتهما. كنا سعيدين دوما أن نتواجد بين مصريين - إذا أمكننا قول ذلك. كان ذلك عقب الثورة، ولم يكن رسل يحمل لقب «الباشا».
في يوم من أيام يوليو 1952 تلقى طه مخابرة هاتفية من سفارة مصر في روما تعلمه أن الملكية قد ألغيت، وأن الثورة قد تمت. كان من الدهشة بحيث سقط مغشيا عليه، مخيفا بذلك الناس كلهم، وأستطيع القول إنه أخافني بوجه خاص، بل حتى الدكتور الطيب «لومباردو» الذي غدا شبه صديق لنا إثر هذا الحادث.
كان طه متعلقا بالقرية المتواضعة؛ كل شيء فيها كان يروق له، وعندما كنا نغادر الفندق للذهاب إلى وسط المدينة لتناول فنجان من القهوة في المقهى الذي كان - والحق يقال - يذكرنا بالتيرول أكثر مما يذكرنا بإيطاليا، كنا نتوقف برهة على الجسر الصغير فوق الإيزاركو الذي كان يشكل بانحداره هناك شلالا. كان طه يعبد هذا الصوت المجلجل الإيقاعي، وكان يعبد مثلي النباتات التي تفرش أرض الغابات.
وقد قضينا هناك صيفا كان جميلا على نحو خاص. كنا في ساعة متأخرة ذات مساء من شهر أغسطس في الحديقة، وكان هناك مذياع لا أدري من أين يبث لحنا هادئا من ألحان موزار، وقد أثر هذا اللحن النقي الذي كان يصل في الليل في نفس طه بشكل عميق، وأعتقد أنه لم يسمع ثانية هذا اللحن مرة دون أن يتذكر تلك الساعة.
يوم الأحد، كان هناك موكب يمر تحت نوافذنا، وكانت تمشي في مقدمته فتاة تلبس ثوبا «تيروليا
Tyrole »، تجر بواسطة شريط خروفا أو حملا وتحمل بالذراع الأخرى باقة. أما الموسيقيون الذين كانوا يلبسون أيضا ثيابا تيرولية ويضعون قبعات ذات ريشة، فكانوا يتبعونها وهم يعزفون على آلاتهم حتى الساحة الصغيرة بالقرب من الكنيسة حيث أخذوا يتابعون العزف هناك.
تقع «بولزانو
Bolzano » على مسافة 70 كيلومترا من كول ، وهي مدينة رائعة بمدرجها الصخري وبأبوابها، غير أن جوها حار جدا في الصيف (وشديد البرودة في الشتاء). لم يكن طه يستطيع البقاء فيها طويلا؛ لذلك كنا نقضي فيها يومين أو ثلاثة أيام بسرور، ثم نغادرها نحو جاردون ... (بعد ذلك صرنا نذهب إلى جاردون أولا، ثم بعد ذلك إلى الجبل.)
تكاد جاردون في نظر طه أن تكون هي الفردوس نفسه؛ ففيها من كل الأزهار ومن كل الأشجار، من السرو حتى النخيل، ومن كل عطور الماء والعشب؛ وفي الجبل المجاور، كنا ننزل في غرفة تطل على أشجار السرو وأزهار الدفلى في حديقة كبيرة، وكان ثمة - فيما وراء الحديقة - درب لا تسير فيه العربات، وأجمل بحيرة في إيطاليا بحيرة عريضة نبيلة قاتمة اللون إلى حد ما، كانت مياهها تتكسر على الحصى بهدوء بالقرب منا؛ فإذا كان الجو لسوء الحظ جميلا! فإننا لا نسمع حتى مجرد الصوت الرقيق لهذه البحيرة الهادئة؛ وكان طه يأسف لأنه أصبح أصم! ... أما على الشاطئ المقابل، وفي مواجهة جاردون تماما، فهناك «توري ديل بيناكو
Torri Del Benaco » التي كان جيد يأتي إليها كل سنة، وقد ذهبنا إليها عصر ذات يوم لنرسل له تحية حزينة ودودة، وكنت كل مساء أرسل للصديق الراحل تحية عذبة عبر الماء. لم يعد طه موجودا بقربي، وإنني أقوم بذلك دوما مثلما كنت أفعل سابقا، باسمنا نحن الاثنين.
كان ملحقا بالغرفة التي ننزل فيها دوما شرفة كبيرة، كان من الممكن أن يبقى فيها المرء حتى عند نزول المطر، وكان طه يحب البستان، لكني أعتقد أنه كان يفضل الشرفة التي كانت مطلة على كل حال على البستان، فيقرأ فيها الصحف ويعمل فيها. أما في المساء فكنا نستمع إلى الراديو ونقرأ أيضا، وهناك قرأت له كتابي تشارلز مورجان: «فونتين
Fontaine » و«سباركينبروك
Sparkenbroke »
285
وغيرهما من الكتب.
كان يحب القيام بالنزهات، وكان يتنزه مع مؤنس، ثم بات يتنزه دونه في سيارة أجرة، فنذهب أحيانا إلى «ماديرنو
Maderno » التي كانت قريبة جدا، وكنا نتابع السير بكسل على امتداد الرصيف المحاذي لشاطئ البحيرة ما استطاع السير ، ولا نعود إلا ساعة العشاء.
كان يستطيع في «سيريميوني
Sirimioni » - في البستان البري الذي كان بستان الشاعر «كاتولوس
Catulle » - التأمل كما يريد في هذا التاريخ الروماني الرائع الذي كنا نلقاه في كل مكان (وأفكر في الجسر الروماني القديم في «مارانو
Marano » الذي وجدت فيه سحرا عظيما). كانت حديقة وأطلال الدار القديمة تطل على البحيرة عموديا.
من كان يحسب أننا رأينا هناك - مؤنس وأنا؛ إذ لم يكن طه معنا هذه المرة - بحيرتنا تتحول إلى بحر هائج؛ محيط صاخب تتكسر أمواجه على الصخور بصوت كصوت الرعد، تحت سماء يحسبها المرء سماء بحر المانش في يوم عاصف؟!
إن لبحيرة «جارد» عواصف مرعبة ومفاجئة. ضربة رياح قوية، وها هو ذا الماء أسود كالحبر، يبدأ ثورته، فتبدأ تحت الزوابع خيم الشرفات بالرقص وتنقلب الكراسي والموائد، في حين تتناثر أوراق الشجر بعنف وتستعيد البحيرة جلالها؛ فحين يتلألأ الماء كالماس المتألق تحت الشمس، أو هو البدر، يرسم على سطحه خطا طويلا مرتعشا فضي اللون.
وفي «جاردونيه» عاش «أنونتسيو
Annunzio »،
286
ويطل منزله المدهش الواقع بالقرب من الكنيسة القديمة على مدينة «جاردونيه» السياحية التي تقع في الأسفل على شاطئ البحيرة. أما حديقته فكانت رائعة؛ دروب صاعدة، أشجار جميلة، شرفات وممرات وحشية، طحلب، لبلاب، سرخس، بنفسج، ينابيع، تماثيل ... وكان ثمة نصف مركب وطائرة جاثمة تحت سقف تبدو وكأنها لعبة كبيرة، يشهدان على النشاط الحزبي لهذا الشاعر الصاخب إلى حد ما، وإن لم يخل سلوكه من بطولة. لقد أوصى «أنونتسيو» بذلك كله إلى بلده، وكانت تتجمع في أيام الآحاد وأيام الأعياد أسر بكاملها في الحديقة وغرف «الفيتوريالي
Vittoriale »، وكنا نفكر في شيء من الدهشة - إذ نطوف في هذه الأمكنة المتوحدة بشكل مأساوي إذا ما جئناها ليلا - أن جنون العظمة وشيئا من التكبر أديا في النهاية إلى مآس جميلة وأحجار جميلة. «إن أي بيت لا يكون صغيرا إذا ما جعله إنسان عظيم كبيرا.» هذا ما نقرؤه على جدار إحدى الغرف. لا شك في ذلك، لكننا نشعر بالحيرة إذ نقرأ ذلك في هذا المكان. - لقد أحببتها ما دمنا نحتفل بها؛ فقد انتهت تقريبا أمسيات عيد الإله. كانت المراكب تتجمع واحدا في إثر واحد، قادمة أحيانا من بعيد، مشكلة دائرة أمام الرصيف تحت «السافوا
Savoy »، وكل واحد منها قد أنار مصباحه، كما كان كل واحد في الموكب الذي يتوقف هنا يحمل فانوسا. كان قد أقيم مذبح على طاولة مطعم، وكانت الصلاة تبدأ أمام البحيرة حيث تعكس مصابيح المراكب أنوارا متحركة في مائها. كنا على الشرفة، وكنت تصغي معي إلى الصوت الصاعد في الليل؛ «البركة» انتهت الصلاة. وكان على الدرب ثلاثة أو أربعة موسيقيين يستهلون الإنشاد على أنغام لحن مرح، وكانت الفتيات الصغيرات اللواتي يلبسن الثياب البيضاء يرحن ويجئن ويركعن، وكانت الشموع مشتعلة - في الفندق كما هو الأمر في المنازل المجاورة - على حواف النوافذ والشرفات، وكنت سعيدة إذ بقيت شمعتنا مشتعلة زمنا طويلا. وكانت القوارب التي تعود من حيث أتت، لا تزال مرئية برغم أنها بعيدة. - أين هو القس العجوز الذي قال لي بفيض من الود واللطف، لي أنا المجهولة الأجنبية، في يوم كان يستقبل فيه المطران بعد قداس يوم الأحد:
تعالي، تعالي، أنت أيضا! ...
Viene, viene, anche lei .
آه يا إيطاليا الإخاء!
جاردونيه، 24 يونيو 1975
لماذا لا تكلمني يا حبيبي؟ منذ صباح الأمس وأنا أناديك بيأس. لقد قمت ثانية، عندما كنت قادمة من «فيرونا
Vérone » بالسير على هذا الدرب بين «ديسنتسانو
Desenzano » و«سالو
Salo » الذي وإن كنا لم نكن نسير فيه قط خلال السنوات الأخيرة، فقد أتينا إليه وسرنا فيه غالبا قبل ذلك. كنت - وأنا وحيدة في سيارة أجرة - أكاد أتعرف إلى كل شجرة تقريبا، ونزلت في الفندق، في غرفة تبعد عن غرفتنا أربعة أمتار فقط. أمس مساء، فكرت طويلا في جيد وأنا أنظر إلى البحيرة ليلا ... البحيرة - بحيرتك - ما أكثر ما أحببتها. وتبدو لي الحديقة دوما صغيرة بالمقارنة مع حديقة السافوا؛ إذ لم يكن فيها قط كثير من الأزهار، لكني أتعلم على حبها. غير أن نزهتي فيها بعد الغداء - وقد قمت بها قبل قليل - كانت في منتهى الجمال. كان النسيم رقيقا مفعما بعطور «جاردون» إلى الحد الذي شعرت فيه بأنني مذنبة إذ أتلقى كل هذا الجمال، في حين يثقل علي غيابك بشدة، وآسف في الوقت نفسه؛ لأنني كنت أخنق بكائي. آه، يا صغيري! يا صغيري الذي لن أعثر عليه أبدا إذا ما دفعت بابا ما. نعم، سيكون ثمة باب آخر يوما ما؛ فهل ستكون وراءه كي تستقبلني؟
شرفة واحدة تفصل بين شرفتي والشرفة التي كانت لنا في المرة الأخيرة. ما أكثر ما أنظر إليها! كنت أغير مكان مقعدك باستمرار، فأضعه أحيانا في منتصف الغرفة - كنت تشعر بالبرد أو بالحرارة - وكان الهواء قويا ... وكنت أريد بأي ثمن أن تشعر بقليل من الراحة، أن تبقى قليلا أمام الأشجار والبحيرة مستمعا إلى طيور السنونو ساعة جولانها، لكنك لم تكن على ما يرام. وأتساءل الآن فيما إذا كنت على حق، وفيما إذا كنت أسبب لك في كثير من الأحيان الإزعاج والتعب، في حين كنت لا أبغي سوى راحتك. تعبك، أعيشه ثانية بمجرد أن أدفع هذا المقعد الشبيه بالمقعد الذي كنت تجلس عليه مرتعشا في الصباح لتتمكن من تناول الفطور (لا أستطيع أن أجلسك وحدي في سريرك خوفا من أن تسقط).
ولا أستطيع الآن أن أبدأ في أن أقرأ لك الأخبار في صحيفة الكوريير، ولا أن أعطيك البسكويت الذي تحبه ... و... و... لم يعد ثمة شيء قط. •••
نلتقي بالتاريخ، الماضي والحاضر، غالبا في أثناء السفر. في سبتمبر 1935، كنا في القطار الذي كان يقودنا إلى جنوة؛ إذ كان يتوجب علينا أن نبحر منها في الغداة، عندما استمعنا دهشين إلى أجراس كافة الكنائس في البلدة التي كنا نجتازها تقرع بشدة؛ كانت تنادي - وقد عرفنا ذلك لدى وصولنا - الإيطاليين لسماع خطاب موسوليني الذي كان سيعلن الهجوم على الحبشة، ورأينا الجمهور الضخم الذي كان يتجه نحو ساحة فيراري. كان هناك الكثير من الأطفال مع آبائهم، وكانوا يلبسون الثياب الفاشية، وكان ثمة - في المطعم الذي كنا نتناول فيه غداءنا - صبي يؤكد بلهجة قاطعة للشيخ مصطفى، الذي كان معنا، الإبادة القريبة لبريطانيا العظمى. كان طه يصغي إلى ذلك حالما.
لكن إيطاليا كانت قد تغيرت كثيرا عندما كنا نقضي إجازاتنا بين «التيرول» والبحيرات. كنا نتوقف غالبا على الطريق من «بولتسانو
Bolzano » إلى جاردونيه، في مدينة «ترنتو
Trente »، في مطعم ذي حديقة. ذات يوم كان الجو فيه جميلا، والحديقة مزدحمة بالناس، دخل بائع صحف؛ كانت الصحف يومها تحمل بعناوين كبيرة هذا الخبر: «وفاة دو جاسبيري
De Gasperi »،
287
وسرعان ما ساد بيننا صمت ثقيل وعميق، واشترى كل الناس عددا من الصحيفة، وقرأنا. لم ينبس أحد بكلمة واحدة؛ فقد كان الانفعال والاحترام يغمران هؤلاء الرجال وهاتيك النساء، ويبدون وكأنما ضاعفا من أعمارهم. وكان هناك، في «بريشيا
Brescia » حيث مررنا بعد يومين، ثلاثة بيوت من أربعة تضع لافتات الحداد، وقد كتب عليها: «حزنا على وفاة جاسبيري.» كنا نفهم ونعجب بهذا الألم الرفيع، بل لقد شاركنا فيه، في أعماق نفوسنا، بجزء صغير، كان الشيء الوحيد الممكن.
وقد كانت انفعالاتي أيضا في أعماق نفسي عصر ذات يوم في «بادو
»؛ كنت أصعد شارع دانتي وحيدة (فقد كان طه يستريح في الفندق)، وكان ثمة جماعات عديدة تتجه عبره نحو مكاتب الحزب الشيوعي الإيطالي. كان «تولياتي» قد توفي في الاتحاد السوفييتي،
288
وكانت تنظم رحلات للراغبين في المشاركة في الجنازة في روما. كانت الوجوه ذات الملامح المتعبة جادة وحزينة، هناك أيضا لم يكن أحد ينبس ببنت شفة، وكان ذلك يبدو لي بسيطا وطبيعيا؛ أن يتوحد المرء بنفسه مع هذا الألم العارم المستمر، ألم كان طبيعيا إلى الحد الذي كان معه يقف، بين الجماهير المحتشدة
289
في روما، رجل مثل «جيورجيو لابيرا».
وعندما أصبحت «كول» شديدة البرودة على صحة طه الضعيفة، فقد بتنا نقضي وقتنا على الجبال بين «بينتسولو
» و«موينا
Moena ». وتقع «بينتسولو» في «ترانتو» تحت «مادونا دي كامبليو
Madonna di Campiglio »، وهي - شأنها شأن «موينا» - ليست مكانا يأتي إليه السواح الأجانب؛ فالمصطافون كلهم من الإيطاليين. وفي «بينتسولو» كنا نقيم لفترات قصيرة؛ كان طه لا يزال يستطيع السير قليلا، وكان يستمتع بوجوده تحت أشجار الأرز الكبيرة في الحديقة الصغيرة، وقد استطعت أن أصحبه مرتين بعيدا عن الفندق ثلاثمائة أو أربعمائة متر، حتى نصل مقعدا أمام المروج ذات الروائح الطيبة؛ فقد كان يحب أريج العشب الأخضر وأريج الحشائش الجافة.
وفي مرة ثالثة، حملتنا سيارة أجرة حتى غابة صنوبر كثيفة قضينا فيها ساعة من الوقت، قام خلالها بالسير عدة خطوات في درب ضيق تحت الغابة كان يذكرنا بكول. كانت الأشياء الصغيرة، الأشياء المتواضعة، تمنحنا الفرح، ولم يكن قد بقي له منها إلا القليل، فكنت أتألم لرؤيتها تتناقص كل يوم.
عندما كان الجو جميلا والأمسيات عذبة، كنا نستطيع الجلوس على الشرفة. كان هناك، خلال سنتين، برنامج تبثه إذاعة فرنسا المحلية تحت عنوان «من نشوة الماضي»، وكان يتضمن بالطبع تسجيلات قديمة، وكان طه سعيدا أن يستمع من جديد إلى صوت «داميا
Damia »،
290
هذا الصوت العميق المخلص، البسيط دون تكلف أو بحث عن التأثير المصطنع ودون ابتذال، صوت كان يعطي للكلمات معانيها جميعا. وذات مساء جعلنا الراديو نضطرب ونتألم إذ كان يعلن عن وقوع مأساة مؤلمة؛ ولم تكن هذه المآسي تنقصنا، غير أن هذه المأساة بدت لنا متجاوزة للحدود الإنسانية؛ إذ بعد أن أتم ثلاثة رواد فضاء روس مهماتهم عادوا إلى الأرض، غير أنهم عادوا فاقدي الشعور، وعندما ذهب المسئولون لاستقبالهم فرحين، وجدوا الكبسولة سليمة تماما، وكان ثلاثتهم فيها أيضا. لقد فكرت طويلا في هذه العودة الغريبة، هذه العودة الكاملة لأجساد بلا أرواح.
كانت «موينا
Moena » حزينة وعذبة عندما وصلت إليها في الصيف الماضي، وكان النهار لا يزال واضحا عندما صعدت إلى غرفتي بعد العشاء. كان الربيع متأخرا، وكان ثمة ثلج على القمم، وكانت قمم «مونت باليدو
Monte Pallido » - والصخرة هنا بيضاء في الحقيقة - تبدو أكثر بياضا لا سيما فوق خضرة أشجار الصنوبر القاتمة، وأعثر على أريج الغابات؛ أريج الغابات القريبة، وأريج المنشرة المجاورة حيث تنتظر صفائح الخشب المتشابهة (أولم تعابثني يا طه في «مورزين
Morzine » و«أوفيرني
Auvergne » و«كول
Colle » لأنني كنت أعيد المرور بالقرب من منشرة خشب؟) وكذلك خشب الشرفات الجديدة.
كنت في منتهى الهدوء؛ فقد استقبلت هنا بود وصداقة كانا يريحاني، وكان الاهتمام بي هنا على كافة المستويات؛ فقد كانوا يعرفون ماذا أحب من الوجبات وما لا أحب منها، وكانوا يأتون إلي بمدفأة كهربائية إذا شعرت بالبرد، خاصة وأنهم يدركون تماما ما أعانيه وما تعنيه بالنسبة إلي هذه العودة. ويعلم السيد «ج» أنني أحب جمال الجبال الصارم وصمتها لأن السيل والنبع، بعيدا عن صخب الناس العابث، هما أيضا بعض هذا الصمت. وذات يوم اصطحبني إلى ممر «سان بيليجرينو
San Pellegrino »، وما فوقه.
على أنني ألقى في كل مكان نفس الود الرصين ونفس الاهتمام؛ فالأزهار تنتظرني على الطاولة، وقد وضعت أمامها صورة طه. جاردون، ريفا، جنوة، ما أجمل الرجوع إليك!
وإني لأميل إلى الذكريات بشغف؛ في «موينا» لم يعرف طه سوى شرفة وزاوية صغيرة من العشب، وامتداد السيل الجاري أمام الفندق. ذات صباح جميل كان الناس فيه يتنزهون، استطعت إقناعه لمغادرة الغرفة قليلا؛ كنت مع سليم قد وضعنا على العشب، إلى جذع شجرة رقيق على حافة الماء، المقعد الصغير الذي حملناه بواسطة المصعد حتى ذلك المكان. كل شيء كان صافيا ولامعا ونديا، وكنت سعيدة لرؤيته على هذا النحو مغمورا بالنور والسلام.
وفي العام الماضي، كنت أعود إلى الفندق وأمشي عيناي تنظران إلى الأزهار الوحشية التي تهبط حتى الماء، وفجأة رفعت عيني؛ كان هناك في المكان نفسه، تحت الشمس، جالسا على المقعد الصغير، واضعا شاله على ركبتيه، ومسندا عصاه إلى جذع الشجرة، في حين وضع قبعته القماشية على الكرسي. كل ذلك كان من الوضوح بحيث إنني توقفت فجأة وقلبي يخفق، ونظرت إلى شرفتنا القديمة بشكل غريزي. نظرت إليها طويلا، ولم يكن فيها أحد تلك اللحظة لحسن الحظ.
يوم الأحد الأخير الذي قضيته في «موينا»، خلال أول صيف أقدم إليها وحيدة، دهشت في الكنيسة أثناء القداس عندما رأيت أحدهم يصحب ضريرا إلى المنصة، وتقدمت امرأة ضريرة أيضا للقراءة الثانية التي قامت بها وفق طريقة بريل، كالقراءة الأولى؛ وبعد تلاوة الإنجيل، جاء دور ضرير آخر، فتحدث بإيجاز عن عميان إيطاليا الذين انخرطوا في الحياة العادية، ثم تحدث بإطناب عن عميان العالم الثالث والضرورة الملحة لمساعدتهم. لا أستطيع رؤية أعمى دون انفعال؛ إذ عندما بدأ هذا الإنسان الوقور أمامي كلامه بأريحية، لم يكن هو الذي كنت أراه، وإنما أنت، أنت الذي كنت تثير انفعال الجماهير، في كثير من المرات ولكثير من الأسباب، وهي التي كانت تتزاحم للاستماع إليك. وقد تأثرت من هذا الموقف تأثرا جديدا، اضطررت معه للمقاومة شديدا كيما أستمر في امتلاك زمام نفسي كما يجب في مثل هذه المواقف.
ها هي ذي دروب الله. في هذا اليوم الأخير، يد كانت تمتد إلي تدعوني للاقتراب من الآخرين؛ لا لأني وضعت سلة من الأزهار أمام قدم المذبح حيث جاء الناس لتقديم القربان فحسب، لا، وإنما لأني كنت أشعر بقوة لا توصف بكمال النعمة التي أغدقت علي، أنا التي وجدتك على طريقي.
في صباح اليوم التالي، وفي سيارة الأجرة التي كانت تقودني إلى «ميرانو
Merano » على الطريق الذي اجتزناه معا قبل سنة، لم أكن وحيدة قط، فقد كنت تكلمني.
كنت أدهش دوما للتحول الذي ألاحظه على طه، وهو المتألم كثيرا والكئيب أحيانا، ما إن نكون في سيارة أو على طريق. وكان يحدث أن نضطر في أوج الفصل أن نقيم وقتا في أماكن لم تكن هي التي كنا نريد البقاء فيها، وكان ذلك غالبا في الجبال. كنت أذعر من المسافات الطويلة ومن الارتفاعات العالية، لكني كنت على خطأ؛ إذ لم يكن طه أحسن حالا وأسعد نفسا مما كان عليه في ممر «بوردوي
»
291
أو «توناليه
Tonale ».
292
أما بالنسبة ل «مندولا
Mendola » التي كانت على مسافة 1400 متر، فلم تكن ذات أهمية، وعلى هذا النحو قضينا عدة أيام في «كورتينا
Cortina »، و«بونتي دي ليني
»، و«أورونتسو
Auronzo ».
293
كنا نرغب قبيل إنذار 1960 بالتعرف على الأدرياتيك بشكل أفضل ورؤية «ترييست
Trieste »، لكنه لم ير لا هذا ولا تلك، عندما كان في صحة جيدة، وهناك أيضا أراد العودة مع ذلك.
لم يكن يحب شواطئ البحار ولا كنت أحبها أنا الأخرى أيضا، لكن الصغيرة أمينة التي كان لها من العمر خمس سنوات كانت في «لينيانو
Lignano »
294
وكانت في منتهى السعادة؛ كانت تعود بعد الساعات الصباحية التي تقضيها على الرمل وفي الماء بغبطة تسعد جدها. كانت بالغة الحيوية والغرابة معا، وكان طه يضحك بقوة مثلما تضحك يوم كانت تقفز على سريري قفزات أوشكت بها أن تحطمه (لكنها لم تكن ضخمة!) قافزة مسافة أعلى بعد كل مرة تحط فيها عليه، وبدأت بعرض شبكة من الكلمات كانت تتسلى في تحويرها أو في قلبها، وكان طه يفعل مثلها مخترعا كلمات أخرى بالطبع؛ كانا في قمة المرح.
وقد أسرت له بواحدة من خيباتها: «التقيت اليوم على الدرب بحلزون، فقلت له بمنتهى اللطف: «صباح الخير يا سيد حلزون!» هل تتصور أنه لم يرد علي! إنها فظاظة!»
لا بد أنها تعلمت بعضا من حكايات «لافونتين
La Fontaine ».
كانت حديقة الفندق في «جيسولو
Jesolo » تطل على البحر مباشرة، وقد قبل طه ذات مساء عذب أن ينزل إليها، فجلس معنا تحت الصنوبر أمام شاطئ خال من الناس، فأمكننا أن نصغي إلى الموج وأن نشم الرائحة الملحية. وقد ارتبطت أمينة بصداقة مع فتاة صغيرة كانت تقيم في الفندق نفسه، فكانت الصغيرتان تتلاحقان من شجرة إلى شجرة، ولولا صياحهما من آن لآخر، لبدتا لطيفتين خفيفتين سريعتين كالعصافير التي تظل في طيران مستمر. كانتا ساحرتين، وكان طه يبتسم في مقعده ويتحدث؛ كان مساء جميلا.
كان الوصول إلى ترييست بطريق البر رائعا؛ فقد خلفنا وراءنا أمجاد البندقية، واجتزنا أنهارا ذات أسماء مثيرة؛ «السيل
Le Sile »، و«البياف
Le Piave » الذي كان أنونتسيو يحب تأنيثه
La Piave ، و«التاليامنتو
Tagliamento ». وفي «مونت فالكون» بدأنا اكتشاف الخليج؛ كان الطريق بعده يطل على البحر من عل، وكان الأفق العريض يتسع تماما. ها هي ذي «سيستيانا
Sistiana »
295
في قاع غابة ساحرة، وها هي ذي «دوينو
Duino »
296
تجعل الإنسان حالما.
وفي أرباض ترييست، كانت الأشجار والأدغال تنحدر حتى تحاذي أمواج البحر. وعلى اليسار، كانت أشجار الصنوبر تتسلق الشواطئ الصخرية.
وندخل المدينة عبر قبة جسر بديعة.
وتأثرت أمينة أشد التأثر بهذا التناسق الرائع. كنا نعود من «سيستيانا»، وكان ثمة أشرعة ملونة على البحر الهادئ ذي الزرقة الغامرة، كانت الشمس على وشك المغيب، وكان الهواء الندي يحمل أريج الصنوبر، فبدا الوجه الصغير رصينا، وكانت تقول بعذوبة، كما لو كانت تحدث نفسها: «هذا جميل!»
كانت على الدوام مرحة قادرة على إدراك أكثر الأمور جدية؛ ذات عصر ماطر قررنا الذهاب إلى السينما، وكان هناك فيلم واحد يفتننا، لكنه كان يبدو لي أكثر جدية من أن يسليها، كان اسمه «أنا، أنا ... والآخرون»، غير أنها شاهدته باهتمام جالسة في هدوء متسلية بالفصول الضاحكة منه، دون أن تشعر قط بالسأم مما لم تكن تفهمه. كانت أخاذة!
وفي «ترييست» قامت بالقراءة لجدها لأول مرة.
من وقت لآخر، كانت تجلس على شرفتنا حاملة على ركبتيها الدب الصغير الذي تعبده، والذي لم يكن يفارقها. كانت تنظر إلى البحر، وتتأكد من أن الدب ينظر معها أيضا، وكان يمكنها البقاء على هذا النحو فترة طويلة دون أن تلفظ كلمة واحدة.
كان طه، في عودتنا الأولى إلى إيطاليا، يستطيع المشي ببطء ولا شك، لكنه كان يسير عن طيب خاطر من الفندق حتى شرفة القهوة الصغيرة على الرصيف؛ حيث كان بوسع أمينة الجري.
بل إنه اجتاز ذات مرة ساحة «أونيتا
Unita » الكبرى. كنا وحيدين مع فريد، وكانت هناك عاصفة، وكنت أتوقع أن نعود بسيارة أجرة، لكننا لم نجد مثل هذه السيارة، وعندما كف المطر عن الهطول سار على طريق العودة بشجاعة، لكنه لم يكن يستطيع السير دون ألم.
جميلة هي هذه الساحة المنفتحة على البحر، كان على المواكب أن ترتقي وأن تنزل هذه الدرجات التي تفصلها عن الماء بين العمودين العاليين. كم من مرة تسلقتها وأعجبت بها، محيية بصداقة الخط القاتم لجبل «كارسو
Carso » في الأفق! كان الفندق «السافويا
Savoia » بعيدا عن مركز المدينة إلى حد ما، وكان علي أن أقوم بشراء حاجاتي من هناك.
في كل مرة كنا نمر فيها من هنا كان طه يعمد للذهاب إلى «سان جيوستو
San Giusto ».
297
كنا نحاذي في أثناء صعودنا حديقة «ريممبرينزا
Rimembrenza »، حديقة الجنود الشهداء؛ فثمة، من أجل كل جندي، حجر مغروز في العشب، وحصاة غير منحوتة يتباين حجمها من مكان إلى آخر، كتب عليها اسم الجندي، في حين زرعت إلى جانبها شجرة.
وبمجرد أن نصل إلى الساحة في أعلى المدينة، نمر بجانب أطلال كنيسة رومانية. كان طه يدخل معي إلى الكاتدرائية القديمة التي كنت أحب جدرانها العتيقة العارية، كما هو الأمر في «سان نقولا دو باري
Saint Nicolas de Bari »، ثم نتوقف بعد ذلك أمام منظر الخليج الهائل تحت أقدامنا.
أكثر من عشرين قرنا مضت على هذه الهضبة، وكلما أتينا إليها كنا نجد فيها ثوبا أبيض لعروس. لماذا؟ من الطبيعي أن نشهد مراسم الزواج في الكنيسة، غير أن المآتم تقام فيها كذلك وحفلات التعميد ...
ميرامار:
298
بقية حلم قاتم بشكل مأساوي، نسيان، ووفرة من الأشجار والرياض، أطفال فرحون. ذهبنا إليها بصحبة مؤنس والديواني الذي جاء لرؤيتنا في ترييست؛ كان الديواني إنسانا محبوبا وسعيدا، شكورا لما منحته الحياة من نعمة، وكانت صحبته مسرة، وعلمت بموته بعد ستة أشهر من ذلك، فأخفيت حزني؛ إذ لم أكن أسمح لنفسي أن أتحدث بذلك إلى طه الذي كان خارجا من المستشفى لتوه.
عاد مؤنس عدة مرات بصحبة ليلى وأمينة، لكني كنت وحيدة يوم وصلنا بالباخرة، ولم أكن أعرف أنه لم يكن هناك محطة بحرية أو خدمات معتادة أو سيارة أجرة إذا لم تحجز مقدما. ذهلت لرؤيتي الرصيف خاليا، ولم يكن ثمة أي هاتف ولا أي مقعد أجلس عليه طه الذي نزل الجسر بشجاعة متوقعا أن يستقر بسرعة في سيارة ما. ذهب فريد للبحث عن سيارة أجرة. كان الركاب جميعا قد غادروا الميناء، فغمرني غم حقيقي، وقمنا بالسير مائة خطوة ببطء شديد، أشد خلالها على ذراع طه كما لو كنت أريد أن أسندها خشية السقوط المفاجئ؛ كنت أخشى أن تتلاشى قواه في كل لحظة، فأشجعه، فيرد قائلا: «إنني بخير، لا تقلقي.»
لم أره ثانية على الإطلاق مصمما على الصمود مثلما رأيته ذلك اليوم.
وأخيرا مر أحد موظفي الباخرة في سيارة فيات صغيرة، فتعرف علينا وتوقف وصحبنا بسيارته. لم يكن ذلك سهلا لأن السيارة كانت أصغر من أن تتسع لساقي طه ، لكن هذا الموظف ساعده وساعدني بلطف ورعاية لا يصدقان، وعندما وصلنا الفندق كان طه يبتسم، وفي ذلك المساء تناول عشاءه في قاعة الطعام.
ربما كانت تلك هي المرة الأخيرة التي يتناول العشاء فيها في قاعة الطعام؛ إذ لم يعد يتناول بعد ذلك وجباته إلا في غرفته وأنا بصحبته، وذلك في الفنادق التي كانت تقبل القيام بأداء هذه الخدمة المزدوجة.
على هذا الرصيف الفارغ حيث وقفنا وحيدين، كان هناك الكثير من الشجاعة والحنان لا يزال قلبي دافئا من حرارتهما. بعيدة هي ترييست؛ لم أستطع العودة إليها، وللسبب ذاته لم نذهب إليها على كل حال منذ ثلاث سنوات؛ فالذكريات الإيطالية الأخيرة، وبقية المعالم الأخيرة لم تكن فيها. «ريفا دل جاردا
Riva del Garda »، 30 سبتمبر 1975
لا بد من مغادرة «ريفا»، كنت قد وصلتها في العام الماضي وقد شد من عزمي الرعاية الحنون التي غمرني بها مؤنس وأسرته. كنت قد قضيت في سويسرا شهرا كاملا بصحبتهم، وعشت فيها بألم يوم التاسع من أغسطس، أول تاسع أغسطس يمر علي دون طه. لبثت زمنا في الكنيسة الصغيرة، كنيسة «ديابليريت
Diablerets » الجديدة، الخشبية كلها وذات الواجهة الزجاجية الكبيرة العارية فوق المذبح التي كانت تتيح رؤية الجبل. كنت وحيدة وحدة مطلقة؛ لكني عدت إلى الفندق مع ولدي، وفي غرفتي وجدت باقة وضعتها أمينة لي، باقة من القرنفل الأحمر، ذي اللون الوردي الرقيق رقة قلب هذه الطفلة.
لم يأت طه قط إلى الديابليريت. وفي «مونترو» عثرت ثانية حيث مررنا بسرعة على وفرة الأزهار والعطور على شاطئ البحيرة حيث سرنا ذات مساء معا.
للمرة الأولى، منذ سنوات، ركبت القطار (عندما قدمت من البندقية إلى باريس، كنت مع مؤنس شبه لا واعية)، وعندما اختفى وجه مؤنس العزيز في محطة مونترو شعرت ببعض الذعر (كنت وحيدة، غير شابة، وغير سعيدة). ومر القطار في «بريج» و«السامبلون» و«الدومودوسولا» التي كانت سوداء تحت المطر، أما «ستريسا» فكانت تختفي تحت الغيوم وهطول المطر المدرار. ما أكثر السنوات والمرات التي مررنا بها هنا! وما أكثر الأفراح التي عشناها! وما أجمل ما كانت عليه غبطة الأطفال!
أعددت حقائبي ووضعت صورتك. كانت قوارب النزهة تحت الشرفة تتمايل وتهدر من حول القلعة. لا أرى عند منابت الجدران العتيقة أزهار الغار، لكني أعرف أنها حمراء بشكل رائع.
قلبي يثقل علي؛ عندما أغادر هذا المكان أشعر وكأنني أنفصل عنك من جديد. علي أن أغادر الشرفة، وأن أغلق النافذة، وأن أسدل الستائر ... «عودي، عودي! ...»
وأعود.
جنوة، 6 أكتوبر
هو ذا بهو «البلازا
»، والمقعد حيث أجلستك في انتظار انتهاء سليم من محاسبة السائق كي يساعدني. ما أشد حضورك معي، شديد التعب، منهكا، ومع ذلك تجهد في الابتسام، كريم الصبر.
علي أن أقوم ببعض المشتريات، لكن أين حمية السنوات الأولى؟! ليس ثمة شيء للأسف أبحث لك عنه، لكني سأحاول مع ذلك أن أعثر على أسطوانة جميلة، وبذلك لا تكون غائبا عني كليا.
صعدت إلى دير «الكابوشين
Capucins »، ومرة أخرى حضرت مراسم زواج كان في منتهى البساطة والتأثير. لم يكن الدير بعيدا عن الفندق، لكن الصعود إليه كان قاسيا، وكذلك درجات سلمه التي تؤدي إلى سطح مزروع بأشجار السرو، وكان البحر يرى من خلالها عندما يكون الجو صحوا. عدت نازلة أتأمل دون أن أرى تقريبا دروب الحديقة التي تحمل لك حتى في مدينة كبيرة أريج وندى أوراق الشجر.
على الباخرة «الأسبيريا» لم تعد موجودة، ولم يسبق لك أن سافرت على الباخرة «فيكتوريا»، فكرة رحلتنا الأخيرة تلازمني. أسمع، أسمع صوتك: «ألا يسعنا البقاء أيضا فترة أطول قليلا؟» كانت لديك رغبة عميقة في البقاء، وكنت تقول ذلك بخجل. لم نكن نستطيع؛ فقد حاولنا عبثا النزول في فنادق متواضعة في الجبل وفي الريف وألا نبذر في مصروفنا. عبثا ... فالموارد تتلاشى، ولم تكن لحسن الحظ تعرف أن تحسب قط، ولم تكن تتبين ذلك. ما أكثر حنانك حين شعرت بي مهمومة، فقلت لي بسذاجة: «معي نقود في محفظتي ... خذي منها ...» كان معه مائة جنيه؛ مائة جنيه أحملها بعناية، ولا تزال موجودة في محفظته القديمة الزرقاء.
اعتاد مؤنس المجيء لمساعدتنا عند الإبحار الذي كانت تتزايد صعوبته من يوم إلى يوم، كان هذا اللقاء القصير خيرا لنا، إلا أن مؤنس اضطر لسوء الحظ أن يسافر في مهمة إلى زائير لحظة إبحارنا تماما؛ فحزن طه بسبب ذلك حزنا شديدا، وأثارته باقة الورود الهائلة التي كانت تنتظرنا في المقصورة، لكنها لم تواسه.
لم نكن نعلم أننا سنجد بيتنا فارغا؛ فالخدم السابقون هاجروا نحو بلاد غنية، كما غادرتنا أمينة في اليوم التالي إلى نيويورك، أما سليم فقد أخذ إجازة لعدة أيام، وكان قد بقي لنا أربعة أسابيع نعيش فيها معا! لم أكن لأصدق تعجب الناس من حولي لدى وصولنا الإسكندرية وفرحهم وهم يقولون: «ما شاء الله، الباشا بخير!»
لا أنظر تقريبا إلى البحر، وإنما أرى صورا أخرى، وثمة منها الكثير، بل أكثر من الكثير. ذات مساء، كان طه يتألم على ظهر «الأسونيا»، شأنه غالبا، وبدأ الصراخ بعصبية بالغة: «إنني أموت.» فأردت ألا يفقد أعصابه، وقلت له حتى أهدئه وأنا أجهد نفسي لأضحك: «اسمع، لا تفعل بي ذلك على الباخرة! لننتظر على الأقل حتى نصل مصر ...»
كنت أريد ممازحته، غير أنه رسم ابتسامة غامضة، وهدأ قليلا.
لم أنا في «جاردونيه سوبرا
Gardone Sopra » التي كنا صعدنا إليها بسيارة أجرة؟ هو ذا مقهى «ديليو أوليفي
Degli Olivi »؛ رصيف وموائد تحت أشجار الزيتون العتيقة. أدخلت طه، وفهم المعلم فاستعجل وقرب كرسيا لمساعدتي. كانت القهوة ممتازة، وشربها طه بسرور - بسرور ...
عدت ألقي نظرة على الأشجار والموائد، ولا أملك الشجاعة للدخول.
نزلت إلى نابولي لوضع رسالة في البريد، وعدت من فوري، ثم إن السماء كانت تمطر مطرا مدرارا. لا أنزل هذا السلم الكبير للمحطة البحرية دون أن أتذكر رحيل المهاجرين؛ كنا على الباخرة «كولومبا» المسافرة إلى نيويورك، غير أننا كنا سننزل منها في طنجة. كان هناك حشد كبير من الرجال فقط يصعدون إلى الباخرة، وحشد آخر من النساء والأطفال على رصيف الميناء ينظرون ويلوحون بأيديهم ومناديلهم، وكانت العيون في الأعلى وفي الأسفل حمراء جميعا، وكان يقف على الجسر موسيقيو الساحل يعزفون دون توقف أكثر الألحان مرحا جاهدين عبثا ولا شك ، وعندما أعلن أخيرا أن «الباخرة ستبحر»، أحسست بالقطيعة؛ كانت قلوب الأمهات والزوجات تتحطم. أعرف كيف كن يبكين وهن عائدات منحنيات على الدرج الكبير ... كانت الباخرة تبتعد بسرعة؛ كانت جميلة، لكن جمالها الباذخ بدا لي ذلك المساء عيبا.
سنصل الإسكندرية قريبا. كنت تقول: «تزعمين أننا لا نرى الإسكندرية فقط حين نكون بها.»
وكان ذلك صحيحا، فوصولنا إليها كان يختلف تماما عن وصولنا إلى جنوة أو بيروت بالتأكيد؛ إذ بمجرد أن نلمح الشواطئ، نكون قرب المدينة، وفي الصباح الندي تبدو الإسكندرية رائعة وخيالية إلى حد ما، كما لو كانت خطا ورديا لطيفا موضوعا على الماء شبه البنفسجي.
علي أن أتخلص من التخيلات، ولا بد من الظهور بمظهر طبيعي أمام هؤلاء الناس الذين يقومون بنزهة بحرية مفعمين جذلا وفرحا، لكني أعرف جيدا أنني ذاهبة إلى لقاء الصمت. لم أشعر قط بمثل هذه الحاجة إلى سماعك؛ ذلك أني أصطدم بجدار لا يمكنني النفاذ منه، وأحيا - دون أن أعيش - حياة لم تعد حياتي، ولا أجد العذوبة فيها إلا عبر الدموع.
كنت أود لو حملت معي هذه الصفحات من الذكريات وقد اكتملت - وإن كانت ستبقى ناقصة على كل حال - كنت آمل إنجازها في بيتنا ب «رامتان»، بيد أنه كانت هناك جماهير من الزوار طيلة الصيف؛ ولم يعد البيت قابلا للسكنى. ها أنا ذا من جديد عند ابنتي في المعادي. أريد أن أكون شجاعة، كما كنت في إيطاليا؛ وما دمت أستذكر، ما دمت أحاول التحدث عنك، فسنبقى معا.
رامتان
حلم قديم لم نستطع تحقيقه إلا في عام 1956 عندما كان لطه ستة وستون عاما؛ كانت مدرسة الفنون الجميلة القائمة بالقرب من البيت الذي كنا نسكنه في الزمالك تطالب بهذا البيت لتجعل منه ملحقا بها، وكان شبه مستحيل إيجاد بيت للإيجار؛ فقررنا بناء فيلا تضم شقة مستقلة يسكن فيها مؤنس وليلى. ولما كنا نريد حديقة كبيرة، وكان ذلك مستحيلا في الزمالك، فإننا اتجهنا نحو طريق الأهرام، وكان ثمة على درب صغير متفرع من الطريق الرئيسي أرض محاطة بالكازوارينا ، فأغرتنا . لقد تغير هذا المكان منذ ذلك الحين للأسف! لكنه كان ساحرا آنذاك؛ كان الدرب الضيق عبارة عن ممشى عبر أشجار العندم الهندي، وكان في الجهة المقابلة لحديقتنا حقل برسيم ترعى فيه من حين لآخر جاموسة كانت تفرح - وتخيف - أمينة عندما كانت في الثانية من عمرها. كان هناك قليل من البيوت السكنية؛ فإذا ما ذهبنا في المساء حتى الطريق الرئيسي، فإن بوسعنا أن نرى أمامنا امتداد الريف في البعيد، وكانت السماء تبدو لي عظيمة الاتساع.
ووضعت المخططات؛ بيت طويل أبيض ذو طابق واحد يقوم على الأرض مباشرة ليتمكن طه من الذهاب إلى الحديقة بسهولة، وواجهات متلاصقة، وشرفة من الحديد المطروق الأسود، دهليز صغير يؤدي إلى المكتب الذي ينفتح على صحن من الآجر مع مقعد من الآجر أيضا، ونافذة من الحديد المطروق تطل على القاعة المجاورة، وذلك لتذكرنا ببيت جريكو، ومجموعات من الشجيرات ذات الأريج العطر. وفيما وراء المكتب عند البهو، هناك قاعة فسيحة وغرفة طعام مشمسة لا تفصل بينهما سوى ستارة وتكعيبات عنب كبيرة تنقل الحديقة إلى داخل الغرف، وفي أمسيات الشتاء كنا نوقد الحطب في المدفأة الجدارية المدهونة بالأبيض ببساطة تامة شأن الدار كلها. وفي قاع البهو هناك درج أبيض ذو درابزين من الحديد المطروق يؤدي إلى غرفنا وإلى شقة الزوجين الشابين اللذين كان لشقتهما سلم خارجي خاص بهما تماما، وعندما أردنا تسمية هده الدار طلبت والأولاد إلى طه أن يساعدنا في البحث في النصوص القديمة عن اسم لها، وهكذا عثرنا على اسم «الرامتان»؛ فهذه الكلمة الغريبة مثنى يميز خلال مراحل الصحراء مخيمين وخيمتين وناري المخيمين. وبما أننا أردنا أن تحتوي الدار على بيتين ... فقد كتبنا على الباب الأبيض على الشارع هذا الاسم بالحروف العربية والحروف اللاتينية.
كان البيت محاطا بالحديقة، وقد أردتها أن تكون في منتهى الجمال. كان ذلك جموحا، ومع ذلك فقد كان المرج مريحا. وعلى الجوانب الأخرى، كانت أشجار النسرين والورد والغار وبعض الخبيز وشبيه السنطر تتألق تحت أشعة الشمس بألوانها الحمراء والوردية والذهبية، ولم يكن ذلك يخلو من السحر، ونمت صنوبرة كنت زرعتها في العشب أمام قاعة الجلوس بسرعة فائقة، وكم كنت شديدة الفرح بذلك!
299
منذ الأيام الأولى لإقامتنا، جاءت كلبة صغيرة لجيراننا لتقضي معنا جزءا كبيرا من النهار، كانت تسمى «أريان»، لم تكن تشبه «عنتر» الجليل الذي كانت تملكه ابنتي، ولا الكلب الذي لم نعرف من أين هو، وكان يزورنا يوميا في الزمالك؛ أما هذه فقد عمدناها باسم «بيلفيجور» (الوجه الجميل)! وقد بدا جورج حنين الذي كان ودودا ومهذبا في كل مناسبة، مضطربا حين ناداها ذات يوم بيليزير!
300
كانت الهداهد في «الرامتان»، كما كان الأمر في هليوبوليس، تتنزه على المرج براحة واطمئنان، وكانت الجداجد تذكرنا بوجودها الدائم. أما في المساء، فكان ثمة ضفادع صغيرة تأتي من القناة المجاورة وتقفز على الشرفة وتدخل أحيانا عبر النوافذ المفتوحة!
على أن ضيوف الحديقة الحقيقيين لم يكونوا ضيوف الأرض بل العصافير؛ لم أر ولم أسمع في بيوتنا الأخرى كثيرا منها كما أرى وأسمع هنا، وكانت العصافير أيضا تدخل إلى الغرف وتجن عندما تجد نفسها ضمن الجدران. ولا بد أن أدع الكروان جانبا؛ فقد كان طه الذي أحب دوما عصفور بلده هذا يستقبل تحيته كل مساء بفرح، ويظن المرء أن صرخة واحدة أو خفقة جناح واحدة تجتاز السماء كلما مرت طيور الكروان من فوقنا بسرعة.
لم أكن الوحيدة التي سمعت بطريقة مختلفة هذا الكروان، الذي أوحى إلى طه بواحد من أجمل كتبه، بطريقة مختلفة. كان «هنري بورنيك
Henri Borneeque »
301
قد أراد التعرف على طه الذي كان عاجزا عن الحركة، فجاء لرؤيته وتحدثا وقتا طويلا، وهذه هي السطور الأخيرة من مقال كتبه بعد هذا اللقاء:
ها أنا ذا من جديد على الدرب القصير الهادئ حيث تغني الجداجد تحت أقواس الأشجار المغلقة ... ... وأعيد التفكير في النهاية المؤثرة ل «دعاء الكروان» وقيمتها الصوفية في نظر النفوس الكبيرة: ««أليس من العجب أن يكون هذا الضوء الذي أخذ يغمرنا شرا من الظلمة التي خرجنا منها؟ إن أحدنا لن يستطيع أن يهتدي في هذا الضوء إلا إذا قاده صاحبه.»
302
آنذاك توقفنا عن الحديث، لكن صوتك أيها الطير الذي أحب، ينتزعني من هذا الصمت العميق.»
ألاحظ أنني أتحدث عن هذا البيت بصيغة الماضي، والحق أن «الرامتان» لن يبعث ثانية؛ فمؤنس مستقر في باريس، وأمينة وزوجها يسكنان بيتهما في المعادي، أما أنا ... فربما سأعود إليه وسأستمع آنذاك إلى صدى الأصوات الخرساء. ربما استطعت الابتسام للصنوبرة التي زرعتها؛ ففي أيامه الأخيرة من ربيعه المصري الأخير نجحت مرة أخرى أن أضع إلى ظلها مقعد طه، لكنه لم يرد أو لم يستطع البقاء طويلا في هذه الحديقة التي أقمتها خصوصا من أجله. ولقد مرت ثلاثة أعوام لم تعد تراه فيها الدروب التي شققتها من أجله ليمشي عبرها دون تعب.
وأتذكر بعذوبة ذات صباح من مايو 1957؛ لم أكن قد نمت كثيرا منذ بداية الليل حين اضطر مؤنس لاصطحاب ليلى إلى دار الشفاء، ولم يكن الوقت متأخرا عندما فتحت نافذتي وخرجت إلى الشرفة. كان مؤنس في الممشى الكبير، يمشي ببطء ويدخن سيجارة، ورفع عينيه وابتسم لي وسمعته يقول: «إنها بنت صغيرة ...» كان صباحا منيرا من مايو حين تلقيت هذه السعادة النقية على هذا النحو ببساطة وجدية ...
لعل وعسى ...
كنا قد عشنا في بيتنا في شارع مونكرييف بالزمالك عشرين عاما، وفي الصباح الذي تركناه فيه، وكنا منهمكين بالطبع في جلبة الاستعداد للانتقال، قال لي طه فجأة، وشعرت به متأثرا: «ألا أستطيع الذهاب قليلا إلى الحديقة؟» ... وشعرت بأني أتزعزع إزاء ما كان يشبه التوسل؛ كان نادرا ما يطلب شيئا ما، فتناولت ذراعه، وحملت كرسيا، وبقينا برهة على الأرض المعشوشبة.
وعندما انسحبنا في المساء إلى غرفنا الجديدة، شعر للمرة الأولى بالخوف في بيت مجهول، وقال لي - بنفس الصوت الخجول الذي خاطبني به في الصباح: «هل تسمحين لي أن أقضي هذه الليلة في غرفتك؟»
وجعلني طلبه هذا مرة أخرى أضطرب.
303
كنا في السنوات الأخيرة نقضي أمسياتنا في غرفته نستمع إلى أسطوانات الموسيقى؛ كان يحب ذلك ويسألني: «ما الذي سنستمع إليه هذا المساء؟» كما لو كنا نستعد للذهاب إلى حفلة موسيقية.
عندما كان على مؤنس وليلى أن يستقرا في باريس، فتحت بابا في الجدار الذي يفصل غرفتهما عن غرفتي، وغدت هذه الغرفة غرفة لطه؛ كانت أكبر وأكثر عرضة للشمس من الأولى، وتابعنا فيها حفلاتنا الموسيقية وقراءاتنا حتى الليلة الأخيرة تقريبا، تلك الليلة الفظيعة التي كانت تقطعها أصوات وكلمات واعترافات لم أفهمها تماما حتى الآن. وفي إحدى المرات التي كنت أنام فيها قليلا على الرغم مني، حلمت بحلم لم أفهمه على الفور أيضا؛ فقد رأيت فيما يرى النائم أن خاتم زواجي قد تحطم بطريقة لا تفسر، وأنني إذ كنت أنظر إليه حزينة لاحظت أنه كان ثمة داخل الدائرة المكسورة شيء من السواد كما لو كان غبار فحم.
مضت أربع سنوات عادية حفلت بالرحلات الرسمية والعمل الشخصي، أما السنوات الاثنتا عشرة التالية فقد كنا نسافر فقط طلبا للراحة والنسيم العليل. كان طه قبل ذلك قد تخلى - لعدم قدرته على أن يسافر دوما - عن عدة دعوات لزيارة الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة والأردن والكويت وغيرها، ثم اضطر أخيرا ذات يوم أن يكف عن متابعة العمل نفسه الذي كان يقوم به.
كانت فترة العملية مؤلمة جدا؛ فالعملية الجراحية كانت بالقرب من الدماغ بطبيعة الحال، وكان عمر طه يوم أجراها سبعين عاما. عندما قال لي البروفسور «أوليفا كرونا
Olivia-Crona » إثر التصوير الذي قام به للنخاع الشوكي بعد التخدير: «ربما لا أتوصل إلى إزالة القرصين المشوهين مرة واحدة.» (وكان يجب أيضا استبدالهما) فقد فزعت من فكرة القيام بتخدير ثالث ... ومن حسن الحظ أن العملية كانت كاملة برغم استمرارها وقتا طويلا. وجاء إلي الطبيب السويدي المعاون
304 - وهو بروتستانتي مشبع بالتوراة - بسرعة ليقول لي مبتسما: «حسنا! لن نقول كما قال المسيح للمشلول: «خذ سريرك وامش!» وإنما يمكن أن نقول إنه بعد فترة من الزمن سوف يمشي على كل حال.»
الأمر الذي كان صحيحا تقريبا، لأجل من الوقت.
ما سأقوله ليس سارا لي، لكني أريد أن أقوله مع ذلك؛ فقد كان المصريون يعتقدون - وما زالوا - أن الحكومة قد تحملت مصاريف هذه العملية، وكان ذلك يبدو لهم أمرا طبيعيا. ربما كان الأمر على هذا النحو، لكنه لم يحدث؛ فقد دفعنا مصاريف ونفقات الإقامة في المستشفى كالعادة كاملة، بل بشكل مضاعف باعتبار أنني لم أترك طه لحظة واحدة.
وشأن الظروف الاستثنائية في حياته، فإن الرسائل الودية القلقة قد انهمرت علينا، ولم تكن القاعة المجاورة للغرفة - التي كان ينتظر فيها عدد كبير من الناس مستعجلين لرؤيته - تكفي لاحتواء الأزهار التي حملها الزوار أو أرسلها الأصدقاء. كان للغرفة شرفة كبيرة، فوضعت فيها سلال الزهر، فبدت وكأنها حديقة معلقة، ولقد كانت هذه الحديقة جميلة وسارة. كثير من هذه السلال ما كان جميلا، غير أن باقة متواضعة منها قد أثرت في على نحو خاص؛ فقد حملها ساع للبريد يعمل في شارع مونكرييف حيث كنا نسكن، ولا أنس أيضا أزهار وزيارة صلاح سالم
305
الذي كان مريضا، وتوفي في السنة التالية في جناح آخر من المستشفى ذاته.
جاء لزيارته خلال العملية مجهولون، كما جاء أناس لم نكن قد رأيناهم منذ عشرين عاما. كان مؤنس في باريس، فكنت أعتمد على أمينة وزوجها، وكذلك على ليلى وماري وجان اللواتي كن مخلصات بطبيعتهن؛ إذ كن صديقات موثوقات ولم يكففن يوما عن أن يكن كذلك؛ صديقات كان مجرد النظر إليهن يعود بالخير. كان ريمون حاضرا أيضا، يجهد في السيطرة على انفعاله واضطرابه.
لا يذكر الأب قنواتي - الذي كان من أوائل من جاءوا لزيارة طه - ما قاله لي، لكني أذكره؛ كان ذلك عشية العملية الجراحية، فقد عانق طه، ثم رافقته حتى الدهليز، وإذ رأى القلق على وجهي، ذكرني ببساطة قائلا: «أنت مسيحية، وهذه هي اللحظة التي تبرهنين فيها على ذلك!»
كانت عصافير «رامتان» تغني بقوة صباح اليوم الربيعي الذي عاد فيه طه إلى البيت، ورافقت ساعات نقاهة طويلة لا تزال مثقلة بالهموم، لكنها كانت أكثر سرعة مما كنا ننتظر، ولقد عبرت عن ذهولي عندما وصلنا «بادو» معا، وكلانا مفتون لا يكاد يصدق.
كنت سعيدة لرؤية طه سعيدا، ولا سيما أنه تألم كثيرا عندما اضطر مؤنس لأن يتخلى عن الجامعة بعد أن غدا هو الآخر هدفا للغيرة السافلة والمناورات الشريرة. كان ولا يزال المصري الوحيد الذي يحمل شهادة الأجريجاسيون في الأدب، وقد نال درجة الدكتوراه في السنة التالية بعد الدفاع عن رسالته، وهي إحدى الرسالات النادرة التي كتبها مصري حول موضوع شرقي وقدمت للسوربون وعنوانها: «الرومانتيكية والإسلام». لم يكن بوسعنا أن نكون هناك، فقص علينا الأصدقاء جلسة الدفاع عن الرسالة بتفصيل واسع، وقد وصل الأمر بدانييل أن وصفت لي الطقم الذي لبسه يومها، أما «دو» (مدام كواريه) فقد كتبت لي: «كنا - شوري وأنا - نختال كالطواويس!»
وعرض عليه في القاهرة منصب بائس، فلم يقبله؛ كان ذلك زهيدا، كما كان معيبا.
ولم يكن طه نفسه، الذي كان يهاجم بشكل أقل في تلك السنوات، بمعزل عن المكان؛ فلم يكن يخلص من النقد، ولا من الضربات البشعة كضربة صحيفة الجمهورية
306
التي ألغت في عام 1964 فجأة عقدها معه، كما ألغت في الوقت نفسه عقود آخرين كان أحدهم كاتبا معروفا، وقد كتب هذا الأخير في الأيام الأخيرة مقالا ذكر فيه أنه كان له الشرف أن «أقيل» مع طه حسين.
وبما أنه لم يكن «في السلطة»، فقد كانوا لا يتحدثون إلا قليلا عما كان يعتبر بعد عام 1952 انتصارا في الخارج؛ فلم تشر أية صحيفة إلى رحلته إلى تونس، ولا أدري إن كانوا قد توسعوا كثيرا في وصف الاستقبال الحماسي له في المملكة العربية السعودية. كان منذ زمن طويل فوق هذه الأشياء، لكنه كان يتألم من أجل ولده، ولقد وجد مؤنس في «اليونسكو» عملا في وسط يروق له، فضلا عن العلاقات الودودة والذكية شأن علاقته ب «جاك هافيه
Jacques Havet »
307
ثم «رينيه ماهو
René Mahu »
308
وآخرين.
كان طه يتعاون مع اليونسكو منذ سنوات، وقد اهتم كثيرا بالمشروع الكبير (الشرق-الغرب)، فكان أحد أعضاء اللجنة الاستشارية التي اشترك فيما أظن في جلساتها الأربع الأولى، أما بالنسبة للاجتماع الخامس في عام 1963، فإنه اضطر للاعتذار برغم الإلحاح والإصرار، مقترحا أسماء يمكن لها أن تحتل مكانه؛ إذ لم يعد قادرا على المشاركة في الاجتماعات والمؤتمرات، وإن لم يقطع كل صلة له بها.
وقد طلب إليه أن يكتب دراسة عن «الإسلام والعنصرية»، لكني لا أظن أنه استطاع إنجازها.
وقد سره أن يجيب عن أسئلة الآنسة «جان هيرش
Jeanne Hersh »
309
التي كلفت من قبل اليونسكو بإعداد مجموعة مختارة تحت عنوان: «الحق في أن تكون إنسانا»، وقد كانت ترغب في الحصول على ترجمة دقيقة للآيتين 64 و65 من سورة الأنعام، ولنص عربي قصير يتعلق بحقوق الإنسان، ثم طلبت إليه ترجمة وشرحا لسورة «الغاشية». كان ذلك يروق لطه؛ لقد كان بالقرآن شغوفا.
كان يتابع كتابة كثير من المقالات، والإجابة على العديد من رسائل الطلاب التي يتلقاها، وخاصة منها رسائل الطلاب الأجانب التي يطلبون فيها منه معلومات أو إيضاحات أو توجيهات. لا أدري ما الذي حصل بدراسة «دراسة وتقديم الثقافة العربية» التي كانت موضع بحث.
واستطاع من ثم أن يرسل الرسالة التي طلبتها مجلة «هيرن
Herne » لنشرها في العدد الخاص الذي كرسته ل «أونجاريتي
Ungaretti »، ولقد سعد بذلك لأنه أحب أونجاريتي والتقى به عدة مرات في روما وفلورنسا والبندقية.
لقد أفادته كثيرا الرحلات الأولى التي قمنا بها عقب الهزة العنيفة عام 1961 إلى حد كبير، ومع ذلك فقد كان بحاجة للرعاية والمراعاة، ولقد قلقت كثيرا ذات مساء حين قبل التحدث في التليفزيون. والحق أن هذه المقابلة معه قد تمت إثر خروجه من المستشفى تماما، لكنه اكتفى بالإجابة عن بعض الأسئلة. ذلك المساء، نصبت في المكتب أجهزة معقدة، وكنت أخشى المصابيح الضخمة التي ترسل حرارة قوية ومؤلمة، لكن الفنيين أقسموا لي أن ذلك لن يدوم أكثر من ساعة، إلا أنه مضت ساعتان وهو لا يزال يتحدث؛ فانتهزت فرصة راحة وتوسلت إليه أن يتوقف، لكنه ابتسم لي ابتسامة جذلى وقال لي مرحا: «دعيني، فإن عمري ثلاثون عاما!»
وبعد دقائق وصلت ممرضة كانت تحضر للعناية به ليلا، وإذ أذهلها ما رأته من أسلاك وأناس يملئون الدهليز، تجاسرت فأطلت على المكتب؛ نادرا ما رأيت وجها مشدوها على هذا النحو!
ولم يكن على أمين
310 - الذي كان يتابع المقابلة على الشاشة الصغيرة - أقل منها دهشة، وقد عبر عن ذلك في مقالة ساحرة كتب فيها:
ذلك أنه لم يكن يتحدث فحسب، وإنما كان يتابع النضال.
كان قد مر بمثل هذه التحولات المثيرة. ذات مساء، كنا نتنزه في «جاردونيه»، وكان الجو شديد الحرارة؛ فانتابته نوبة، وظل بلا وعي على المقعد حيث مددناه، وهرع فريد للبحث عن طبيب وسيارة، فوصلت السيارة أولا، واستطعنا إعادة طه إلى الفندق، وعندما حضر الطبيب، الذي أخطر بحالة إغماء، ودخل الغرفة، وجد فيها إنسانا عاديا جالسا على سريره يستقبله بود؛ دهش لرؤيته وقال لي بشيء من الإعجاب: «إن زوجك يا سيدتي إنسان يثير الفضول.» ... إنه يثير الفضول حقا! لكن هذا الطبيب اللطيف عاد مع ذلك في الغداة للاطمئنان عليه، وكان كل شيء على ما يرام.
في عام 1966، كان أشد تعبا مما كان عليه ذلك المساء، يوم كان يهاجم بعنف الانتصارات المزيفة والمؤسسات المنخورة، ومع ذلك لم يخش التليفزيون أن ينظم ندوة بينه وبين اثني عشر كاتبا وصحفيا وجامعيا، وجرت الندوة في الصالون الذي كان أكثر اتساعا من المكتب؛ لقد قلبوه رأسا على عقب تقريبا وبكثير من النشاط! ... واستغربوا قلقي عندما كانوا يجرون - بلا احترام - صوانا قديما كاد أن يتحطم، كما لو كان كرسيا عاديا؛ أقول «كرسي»، بما أن أحدهم وجد فيه أداة يصعد فوقها لتثبيت ما لا أدري!
ليس هذا هو المهم على كل حال؛ فخلال ثلاث ساعات تقريبا أجاب طه بإسهاب على الأسئلة الكثيرة التي طرحت عليه، عالما تماما بمن يحدثه دون اضطراب من توجيه أسئلة مفاجئة له.
ولقد عشت ثانية تلك الساعات هذه السنة في أثناء بث تحقيق تليفزيوني. لم نكن نعرف شيئا عن البرنامج، ولا عن موعده، فلم نره منذ بدايته. كان ذلك بالنسبة إلي انفعالا عظيما؛ فقد كانت عيناي الدامعتان تريانه ثانية في كرسيه بالقرب من المدفأة، متنبها، واثقا من نفسه، دقيقا. وفي النهاية، عندما وجهت له مقدمة البرنامج سؤالا إضافيا، قال بهدوء وبمزيد من اللطف: «مش كفاية؟» اضطربت؛ فصوته كان - بشكل استثنائي - هو هو ... صوته الذي عرفت، وكان هذا الصوت يعيده إلي ... لثوان عدة، ما يلبث بعدها أن يتوقف.
وسجلت معه أيضا عدة مقابلات للراديو، لكنها كانت أقصر من الأولى، وانتظمت من حوله - هو الذي كان خروجه يقل أكثر فأكثر - اجتماعات حية تناقش فيها موضوعات مختلفة.
لم أكن أتصور - إذ جعلت من صالون «رامتان» فسحة - أنه سيشهد احتفالات صغيرة يحضرها عدد كبير من الناس؛ إذ لما كان طه لا يستطيع تحمل جلسات رسمية طويلة منهكة، فقد حملت له إلى بيته دكتوراه الشرف التي منحتها له جامعة «باليرم
» في عام 1966، وفي عام 1970 حملت إليه شهادتا الدكتوراه الفخرية من جامعتي مدريد وغرناطة.
جاء سفير إيطاليا «فانسينسو سورو
Vincenzo Soro » وبصحبته وفد كامل وعدد من الصحفيين والمصورين، وفي الوقت نفسه الذي سلم فيه طه الشهادة الجديدة، قدم إليه أيضا هدية المستشرقين الإيطاليين بمناسبة عيد ميلاده السبعين، وكانت عبارة عن كتاب جميل يتحدث عنه، مجلد بجلد أحمر، كما أهدى إليه أيضا نسخة مجلدة هي الأخرى بجلد أحمر من الترجمة الإيطالية للجزأين الأول والثاني من كتاب «الأيام»، ثم وجه له خطابا ساحرا، ورد عليه طه، وافترقا بعد ساعة متأخرة على مضض وكل منهما يحمل عن الآخر انطباعا جميلا.
وتوفي ف. سورو، وإني أفكر فيه بكآبة وصداقة مثلما أفكر ب «أنجل ساجاز
Angel Sagaz »، سفير إسبانيا الذي توفي في سن أكثر شبابا حسب ظني؛ كان قد صحب إلينا وزير التربية الإسباني «فيلار بالازي
Villar Palasi » عندما حمل هذا الأخير الشهادتين خلال رحلة له في الشرق، وقد حضر الحفلة شخصيات مصرية وإسبانية، وكان الحفل وديا وحارا ومهيبا في بعض اللحظات التي كانت تراعى فيها التقاليد؛ فقد ألبس طه الدثار الصغير ذا اللون الأخضر الفاتح الخاص بجامعة غرناطة، ووضعت على رأسه قلنسوة سحقته قليلا والحق يقال! ... وقلد بإصبعه خاتما ذهبيا، كما وضعت على رقبته ميدالية، لكني أظن أن الميدالية كانت من جامعة مدريد. كل ذلك لم يكن يزيد من جماله بطبيعة الحال، لكنه كان يؤثر في كثيرا.
وفي نهاية 1965 منحه جمال عبد الناصر قلادة النيل.
كان من المفروض أن يقلده رئيس الجمهورية هذا الوسام خلال مهرجان الآداب والعلوم والفنون، غير أن طه لم يكن قادرا على حضور الاحتفال؛ فحضر إلى البيت رئيس التشريفات وحمله له.
كانت هذه القلادة جميلة، لكنها اختفت خلال السطو المفجع على «رامتان» بعد أربعة أشهر من وفاة طه، وقد عثر عليها محطمة، لكنها كانت كاملة بصورة عامة، مثلما اختفت الساعة «اللونجين» أيضا، التي سبب لي فقدانها كثيرا من الشجن. كان ضابط البوليس الذي أعاد لي هذين الغرضين يعلم تماما كم كنت متعلقة بالساعة التي لم تفارق يد طه منذ خمسين عاما، وإني لأشكره ثانية على ذلك.
كانت هذه السرقة هامة، لكنها لم تكن الأولى؛ فقد كانت هناك سرقات أخرى أقل أهمية، بيد أني أسفت على كل حال حين سرقت فضيات المائدة، ولم نتمكن من العثور عليها.
قبل وقت طويل من ذلك، ضاعت مني محفظتي في مخازن «أوروزدي باك» حيث نسيتها بطيش، كانت تحتوي على قليل من النقود، وبعض الأوراق، واثنتي عشرة صورة لطه من صور الهوية، كنت ذهبت لأتسلمها، وبعد عدة أيام تلقيت رسالة من مجهول وجدت فيها:
وجدت هذا في مجرى ماء، وحين رأيت ما يحتويه، رأيت إعادته لك، لكنني احتفظت بواحدة من ...
والحق أنه كان هناك إحدى عشرة صورة في المظروف.
وقد حيا المصريون أيضا العيد السبعيني لطه بكتاب «إلى طه حسين في عيد ميلاده السبعين»، اشترك فيه بعض الكتاب الأجانب، ولم يتخلف عن المشاركة فيه لويس ماسينيون، وكانت مشاركته هذه - إذ إنه توفي في عام 1962 - هي الشهادة الأخيرة ولا شك على صداقة طويلة، صداقة استمرت خمسة وأربعين عاما وربما أكثر. لم يصل نص مقاله إلى لجنة تحرير الكتاب؛ فاهتم للأمر وأرسل نصا آخر فيه بعض الإضافات القليلة إلى إبراهيم مدكور،
311
وكتب لي بالتفصيل يشرح لي الأمر، ويطلب مني إعلام اللجنة التي لم يكن لي بها شأن، لكنه كان يريد الاطمئنان على مقاله.
تعارف وطه منذ حقبة الجامعة الأولى؛ كان والد ماسينيون من ناحية أخرى مسئولا آنذاك عن المبعوثين المصريين الشبان، وبناء على دعوته ودعوة السيدة زوجته قمنا بزيارتهم للمرة الأولى لتناول الشاي في شقتهم التي كانت تقع في شارع «مسيو
Monsieur ».
كل الناس يعرفون حياة لويس ماسينيون الطويلة، حياته الحماسية المثيرة للحماس؛ فذكراه ومؤلفاته حاضرة باستمرار، وليس لدي حتما ما أضيفه إليها، وإنما أستدعي بعض الذكريات لنفسي.
كان غالبا ما يمر بالقاهرة، ولم يتخلف مرة خلال مروره عن المجيء إلى البيت ولو للحظة قصيرة، إن لم يملك الوقت لتناول الغداء أو العشاء؛ كانت زياراته الخاطفة في أثناء الحرب تثير انفعالي دوما، والحق أنه كان دوما مستعجلا لسبب ما. ذات مساء من شهر ديسمبر 1939 كان لديه مع ذلك بعض الوقت ليبقى ويتناول العشاء معنا، لكن أملنا ما لبث أن خاب قليلا عندما تركنا فجأة - بعد أن توقعنا أن نقضي السهرة بصحبته - ليذهب إلى الكنيسة لقضاء ساعة مقدسة في «الفجالة».
312
طيلة الفترة التي قضاها مؤنس في معهد المعلمين العالي بباريس، كان مواظبا على حضور محاضراته التي كانت تفتنه، وعند الخروج كانا يمشيان معا، وكان ماسينيون يستعلم باهتمام ودي عن كل ما يقوم به طه من عمل أو يخطط للقيام به، وقد عرفنا من رسالة مؤنس مدى سخطه إثر سحب «الكوليج دو فرانس» دعوتها لطه لإلقاء عدة دروس فيها عام 1949 (لأسباب سياسية بالطبع). كان حقا قد خرج عن طوره.
عندما كان يكتب لطه، فقد كان يكتب في مسائل تتعلق بالعمل أو النقد أو اللسانيات برصانة كانت تمتزج بها أحيانا بعض الأفراح الشخصية؛ فقد كتب له عندما ولدت له «جنفييف»:
وأنا أيضا صار عندي بنت!
ثم بعد ذلك صرخة الألم المرعب يطلقها الأب الذي كان يرى ابنه يموت.
كنت أتردد دوما في محادثته بحميمية زائدة؛ فقد كان مشغولا بكثير من الأشياء! ومع ذلك فقد اضطررت - وكنا ذات يوم وحدنا - أن ألمح إلى مرارة طه وألمه - خلال إحدى أسوأ سنوات حياتنا - فسكت لحظة، ثم قال لي بصوت رصين أبطأ من صوته المعتاد: «نعم! أتصور. آه، أتصور ما يعانيه هذا القلب، وأتصور أنك الوحيدة التي تعرف ...»
كان يعلم حق العلم أن هناك أعداء قد وجدوا دوما على درب طه، وأن وجودهم لم يقتصر على مصر وحدها فحسب ... بل إنه كان يفكر في ذلك في أكتوبر 1952، عندما كان يكتب هذه الرسالة الجميلة: ... أكتب لك اليوم لأعبر عن إعجابي وفرحي بمشاريعكم؛ ففي عالم المبتزين والجبناء تتألق شجاعتكم لتواسي بعض من لا يتوصلون إلى قتل أنفسهم في الشهادة من أجل العدالة، شأنهم في ذلك شأني. إنني أدعو الله أن يبارك طه حسين لقاء الزكاة الروحية التي يؤديها للشعب المصري ... أقبلك يا صديقي، وليبارك الله زوجتك العزيزة بسببك، وكذلك أولادك وأصدقاءك، بل حتى أعداءك الذين لولاهم ما كنت لتنتبه إلى المهمة الملقاة على عاتقك ...
يوم وفاته، أرسل «آراجون» برقية يطلب فيها كلمة من طه لتنشر في العدد الذي كانت «الآداب الفرنسية» تكرسه لهذه الذكرى العظيمة، وقد أرسلنا له هذه الكلمة برقيا أيضا.
في الشهر الماضي، كان يحتفل في «دار السلام» بذكرى الأب «زندل
Zundel »
313
الذي توفي قبل عدة أشهر. وخلال حديثه عما يدين به مركز الدراسات هذا لفكر وعمل وروحانية «الأب زندل» الذي كان يتحدث فيه غالبا، أضاف المطران حكيم
314
أنه لا يمكنه في هذا المكان أن يفصل اسمه عن اسمين آخرين تدين «دار السلام» بتألقها لهما أيضا، وهما: لويس ماسينيون وطه حسين. وإني لأحب أن تجتمع هذه الأسماء الثلاثة على هذا النحو.
عندما ازداد تعب طه حسين بات الزوار يفدون في مجموعات أقل عددا، وأصبحت المحادثات - وخاصة منها ما كان مع الزوار الأجانب الذين يمرون في القاهرة - تتم على انفراد تقريبا. هكذا أمضينا أكثر من ساعة مع «إيفو أندريتش»
315
الذي كان قد تلقى جائزة نوبل للآداب؛ لم نكن نعرفه، ولم نكن نعرف عن كتبه سوى القليل، لكني أحتفظ بذكرى رجل ودي في غاية الهدوء. كان يتحدث بعذوبة كبيرة، ويخلف انطباعا بأنه إنسان عاكف على التفكير، وربما على التأمل، ولا أدري لم أعاني نوعا من الطمأنينة إذ أستذكر هذه الزيارة.
أما اللقاء مع الرئيس ليوبولد سنغور،
316
فقد كان فرصة لإطلاق هذه المشاعر الودية التي بدت غاية واستهلالا في الوقت نفسه؛ غاية وتأكيدا لما كنا نتخيله قبل اللقاء، واستهلالا لما سيصبح صداقة حميمة وحارة. كانت المحادثة التي دامت ساعتين معه ومع عدة أشخاص كانوا بصحبته متألقة وهادئة؛ فقد كنا نجد أنفسنا بغتة على أرض صلبة، متفقين في آرائنا عند تناولنا بالحديث الأصدقاء والكتب التي نعرفها جميعا.
وقد أسف طه كثيرا لعدم قدرته على المشاركة في المحاضرة العظيمة التي ألقاها الرئيس في القاعة الكبرى بجامعة القاهرة؛ كان موضوعها يدور حول «الخصائص الزنجية» بشكل خاص، وكذلك عن جوانب أخرى من العالم والحياة، وقد استمعت إليها وكنت متحمسة.
لم ير طه سنغور ثانية؛ لكنه تلقى منه رسائل تفيض بمشاعر الصداقة.
وصباح 28 أكتوبر، حمل لي سفير السنغال منذ اللحظات الأولى، تعازي صديق جاء متأخرا في حياته.
وجاء ذات يوم رئيس الهند؛ ذاكر حسين،
317
وقد تأثرنا بكلامه المتميز، وصوته الرصين، وحبه الواضح للزهور، وميله إلى الأجواء البسيطة والرزينة.
لكن هان سوين
318
المحببة، وهي شديدة الاختلاف بالطبع، بقيت أكثر من ساعة ونصف مع طه حسين في مكتبه؛ كانت شديدة الحيوية وتتكلم مثلما تسمع أيضا.
ومر «بلاشير
Blachère »،
319
كانت آخر مرة يمر فيها، فقد غدا الليل بالنسبة إليه تاما، وكان يتحمل المحنة بصبر رواقي. وإني لأراه ثانية في المكتب يجلس على مقعد قريب من مقعد طه؛ هذا الرجل الذي كان في منتهى التحفظ، أظهر ذلك اليوم كم كانت صداقته حية وعميقة، وعندما قبل طه على جبهته عند مغادرته له كان ثمة حمية عفوية فاجأتني وأثرت في؛ كان مع بروده الظاهر يملك هذه الكبرياء الرفيعة التي كنت أحبها كثيرا في طبع طه. لقد شعرت به قريبا وأثيرا في تلك المرة الأخيرة، وعلى هذا النحو أستذكره منذ رحيله.
كانت زيارة «جاك بيرك»
320
للبيت لحظة سعيدة عند طه بما تحفل به هذه الزيارة من محادثة ذكية وعميقة في جو من الود الحار. يقول «بيرك»: «ثمة بيني وبينه شيء غير عادي.» وإني لأعتقد ذلك؛ فكلما حدثني عن طه استثار مشاعري، آنذاك أجد في الصوت المعتدل تعبيرا عن شعور حق وصلب شريف. إنه واحد من الذين يجدون طه في حقيقته إنسانا جديرا بالحب، وليس بوسع أحد أن يمنحني ما هو أثمن من ذلك.
ومنذ أن لم يعد طه موجودا، فإنه يعرض رأيه فيه بأجمل أسلوب، معرفا به بشكل أفضل وبتفصيل أوسع. وها هي السنة الثانية التي يكرس فيها له درسه، في «الكوليج دو فرانس»، كما أنه كان هو صاحب الفكرة في إصدار «مختارات من أعمال طه حسين» باللغة الفرنسية سوف تنشر قريبا،
321
وأعرف أنه لن يتوقف في هذا المجال عند هذا الحد.
أما «إتيامبل
Etiemble » الذي أظن أنه لم يأت إلى مصر منذ زمن طويل، فلم يكن قد زار «رامتان» وعرفها، لكن رسائله كانت تصل إليها؛ إذ لم يكف قط، منذ أن كنا في الإسكندرية وفي الزمالك، عن التعبير عن تعلقه، وعن التعبير عن حماسه. كان دوما مع طه، ولا يزال على الدوام مخلصا إخلاصا فعالا للرجل الذي عرفه وفهمه.
لا أنس بالطبع المدائح، وكلها جميلة، خلال السنوات الأخيرة، وليس من اللائق أن أقوم بتعدادها جميعا، لكني أظل ذاكرة ما يقوم به المصريون والفرنسيون والإيطاليون والآخرون ممن يعملون بجد على نشر مغزى ودلالة نشاط ومؤلفات لم تنشر في رأيهم بما فيه الكفاية في الغرب.
ذات يوم، غدا من الضروري الحد من الزيارات، ومع ذلك كان هناك من يريد رؤيته ولقاءه؛ ذلك تقريبا ما تمنوه في مدرسة داخلية في مصر الجديدة أرسلت لنا وفدا كاملا؛ فقد صعدت اثنتا عشرة فتاة بصحبة مديرتهن ومعلماتهن إلى الطابق الأول من الدار محملات بالأزهار التي أهدينها له مع التهنئة، ثم أخذن في الغناء، وكان ذلك في منتهى الجمال.
وما أرق ذلك العجوز المتواضع من «المنوفية»،
322
الذي كتب أو استكتب رسالة يسأل فيها عما إذا كان بوسعنا استقباله لعدة دقائق؛ حددنا له موعدا، فجاء إلى القاهرة مع ابنه، وبقي لحظة رصينا ساكنا، ينظر بحدة إلى الوجه الذي أراد أن يعرفه دون أن ينبس ببنت شفة، ووجه له طه وهو يجلس على مقعده ، عدة كلمات يرحب بها بمجيئه.
وقدم يوسف إدريس
323
ذات يوم مع فرنسية تقضي فترة من الوقت في القاهرة، وتريد أن تكتب كتابا أو مقالات، لا أدري على وجه التحقيق؛ كان ذلك عشية إحدى سفراتنا الصعبة، وكان طه متمددا على سريره بسبب إرهاقه، فشرحت لهذه السيدة أن ليس بوسعه استقبال زوار هذا اليوم، فقالت: «لن أدخل الغرفة، لكني أتوسل إليك، دعيني أنظر إليه!» وألحت إلحاحا لم أجد بدا بعده من أن أقودها حتى فتحة الباب، ولقد حافظت على وعدها ولم تدخل.
وكان يريد رؤيته أيضا ذلك القاضي الذي قدم من نيجيريا بصحبة شاب في رحلة إلى مصر؛ كان ذلك في السنة الماضية، ولم يكن وجه طه الحي مرئيا ... لقد كانا يتخيلانه ولا شك حين ذهبا إلى القبر حيث طلبا أن نصحبهما، وعند زيارتهما ل «رامتان»، وعند تصويرهما تمثاله البرونزي الذي صنعه الفنان رزق، وعند التقاطهما لأنفسهما صورة قرب الوجه المنحوت، قال لي القاضي هذه الكلمة التي ما كنت أنتظرها: «رحمة بنفسك يا سيدتي؛ لأننا إذ نراك إنما نراه!»
كنا في «جاردونيه» يوم الخامس من يونيو 1967، وعلمنا بالاعتداء الإسرائيلي، وكانت الأيام التي تلت الكارثة مفعمة بالقلق؛ فلم نكن نلتقط إذاعة مصر، وكنا - بطبيعة الحال - بلا خبر عن أمينة وأسرتها الذين كانوا في القاهرة، أما الإذاعات الأجنبية فقد كانت تنقل لنا تفاصيل مرعبة عما جرى في سيناء، ولم تكن الصحف والإذاعات موضوعية فيما كانت تنقله، بل لقد كانت أحيانا مزدرية كارهة بحيث كان يتضاعف تمزقنا.
أوقفت حرب الأيام الستة، وتجمدنا في هذا الموقف الغامض الذي لم يكن موقف حرب أو سلم، لكننا شهدنا القصف الإجرامي لأبي زعبل، والعدوان الشنيع على مدرسة بحر البقر.
324
كنا نشعر بالحزن العميق إزاء عدم فهم العالم الغربي كله تقريبا لما يجري خلال عدة سنوات، وكانت الشهادات الواضحة في هذا المجال من أثمن الأشياء، كما كانت الصداقات الحقيقية حاضرة دوما! ثم عندما أبحرنا إلى الإسكندرية في 29 سبتمبر 1973، كانت الحرب؛ ففي السادس من أكتوبر عبرت فرق الجيش المصري القنال، وبات الناس جميعا قلقين حتى النهاية، واستطاع طه برغم تعبه وضعفه أن يعلم بالانفراج العظيم لشعب عثر على كرامته وثقته بنفسه. أتراه يذكر أنه كان قد توقع المأساة عندما قال في مقابلة أجرتها معه في نوفمبر 1945 مجلة «صور العالم
Images du Monde » بشكل حزين: «لقد انتهت الحرب بالقنبلة الذرية، لكنها تركت قنبلة زمنية هي فلسطين»؟
أما أنا فإني أذكر اللهجة المؤلمة التي قال لي بها في عام 1918 إثر قصف «الجماح»: «إن خسائر بلدنا تبقى بلا مقابل، أولن يأتي اليوم الذي تدافع فيه مصر عن نفسها بنفسها؟»
لا أستطيع أن أنهي الحديث عن أيام «رامتان» دون أن أتوقف قليلا عند بعض الذين عرفوا هذه الدار، ثم اختفوا قبل اختفاء طه.
توفيق؛ بعد مرور سنة على سكنانا فيها، حدث ما حدث فجأة وعلى غير انتظار؛ لم يكن له من العمر أكثر من خمسين عاما، وكان قد انضم إلينا في سن مبكرة جدا، وتصور آنذاك أن من المفيد له أن يزيد على عمره الحقيقي سنة واحدة! تسلى كثيرا مع أطفالنا، وما أكثر ما كان يضحك من أعماق قلبه يوم كان يكسر لمؤنس بيضة «برشت»، فقال له مؤنس - الذي كان يزعم أن بوسعه أن يفعل ذلك بنفسه - باطمئنان تام: «ربما عندي طفل، أليس كذلك؟»
325
وكان طه يعابث غالبا سكرتيره الشاب على اضطرابه عندما يضطر للتعبير عن فكرة من أفكاره فلا يتوصل للعثور على الكلمات المناسبة، فيغمغم متلجلجا: «إنه الشيء ... الشيء ... إنه شيء الأشياء!»
كان يجعل من عيد طه عيده الشخصي، فيختار بعناية كبيرة الهدية التي يقدمها له، غير أنه كان هناك دوما شيء ما ينقص هذا العيد!
ومنذ أن لم يعد ولداي بقربي، كان يصحبني إلى رؤية الأفلام التي تهمني. كنا كلانا نحب أفلام «جاري كوبر»، ولم نكن نفوت واحدا منها، لكني منذ وفاته لم أر واحدا منها.
أما محمد، فلم يكن له من العمر عشرون عاما عندما تقدم للعمل عندنا كطباخ تحت التمرين في بيتنا بالزمالك، وسرعان ما غدا طباخا ممتازا، وعرف أن يساعدنا جيدا عندما جئنا للسكن في «رامتان». كنا نحبه جميعا، لكن الشاب المسكين كان يملك قلبا ضعيفا، وكنا نعرف أنه لم يكن قويا تماما، فكان غالبا موضع اهتمام أصدقائنا من الأطباء؛ وذات صباح دخل «السفرجي» قاعة الطعام حيث كنا ننهي وجبة غدائنا وقال لنا: «محمد مريض جدا!»
فهرعت مع مؤنس إلى المطبخ؛ كان يبصق دما، فحاولنا استدعاء طبيب، وهيأنا له بسرعة السيارة لنقله إلى أقرب مستشفى، ثم قمت بإعطائه إبرة - بلا فائدة - وكان ينظر إلي بعينين هلعتين، لكنه ما لبث أن اطمأن بطريقة مؤثرة عندما قلت له: «إنه الدواء الذي يتناول منه الباشا.» وحمل إلى المستشفى ولم أره بعد ذلك، وقال لي كامل: «لم يكن بوسعنا إنقاذه حتى على طاولة العمليات!»
كان ذلك حدادا حقيقيا بالنسبة إلي، ولقد بقيت زمنا طويلا أحاول الاعتياد على ألا أرى في «رامتان» هذا الوجه البشوش الطيب. •••
بالقرب من السفارة الفرنسية، قاموا بهدم دار جميلة جدا هي دارة آل واصف غالي الذين كانوا أصدقاءنا على الدوام؛ فبعد موت واصف باشا، لم تعد زوجته تخرج من الدار إطلاقا بسبب مرضها شبه الدائم. لم تكن الدارة بعيدة جدا عن «رامتان»، وكان بوسعي الذهاب إليها بسهولة؛ كانت الساعات التي نقضيها معا وحدنا في أغلب الأحيان ساعات ساحرة، لم تكن السيدة غالي تلبس في ذلك الحين سوى قميص طويل أبيض ذي أكمام عريضة صممت طرازه هي بنفسها، كانت تجتاز بقامتها اللطيفة البهو الفسيح القاتم والعالي بسرعة، سعيدة بمشيتها الرشيقة دوما، وما دامت قادرة على الوقوف، لم أكن قادرة - إلا في أمسيات الشتاء - على منعها من مرافقتي حتى العتبة لوداعي ومراقبة عودتي! وكان أقصى ما أستطيع الحصول عليه منها ألا تنزل معي الدرجات الست أو السبع المسيجة بالخضرة، التي تؤدي إلى الحديقة.
أحببتها كثيرا، وأعجبت بشجاعة هذه الفرنسية المطمئنة عند نفي الوفديين وقلقهم (وكان زوجها واصف باشا أحد أعضاء الوفد). بعد ذلك بسنوات كثيرة، عثر ذات مساء في الحديقة على طفل لقيط فحمل لها، وروت لي كيف دفأت ولفت وغذت هذا الوليد الجديد، هي التي لم يكن لديها طفل؛ فدهشت وقلت لها: «وكيف عرفت القيام بكل ذلك؟» فأجابت بلهجة طبيعية: «إنها الغريزة!» كان لها من العمر خمسة وسبعون عاما، وكان هذا الطفل قد أصبح صبيا رائعا في السنة التاسعة أو العاشرة من عمره عندما تركته؛ إذ لم يكن بوسعها تبنيه.
من المعلوم أن لبعض البيوت نفوسا، وهي نفوس ترحل دون أي شك مع رحيل أولئك الذين يغادرونها؛ كانت نفس هذه الدارة على طريقي عند ذهابي للمدينة، فكنت أتوجه إليها في أثناء مروري بتحية صغيرة ودودة. لم يعد ثمة سوى أرض خالية تقوم بين الشارع الرئيسي والنيل، عليها عدة شجيرات فقط. عندما كنت أمر، مثلما كنت أمر أمام «موقف السيارات» الحزين حيث أنشأت السيدة هدى شعراوي شيئا لا يعوض - مشربيات من الخزف المزخرف ومصنوعات زجاجية بحثت عنها بصبر - وأتذكر، هنا أيضا، حيث كان الاستقبال القلبي شديد الحرارة، شديد الطيبة؛ أقول عندما كنت أمر وأدرك عبثا أن امحاء آثارنا بسرعة هو القانون، كان قلبي ينقبض لمجرد تفكيري في أنني لن أعثر ثانية على آثار أولئك الذين أحببتهم.
مضى زمن طويل وعوض واحد منا، كان يواظب على قضاء ساعات كثيرة مع طه في «رامتان»، وكان حاضرا بطريق الصدفة صباح تقليد طه قلادة النيل، ولقد تأثر تأثرا عميقا هو المريض أصلا، وقبل أيام من الأزمة التي أودت بحياته، كان في «رامتان» أيضا.
لقد كان يسلي الأطفال طيلة فترة طفولتهم، كما علمهم كثيرا من الأشياء كالتجديف مثلا على النيل. كان هذا الإنسان يتمتع بروح مرحة؛ إذ لم يخش أن يرسل لنا إلى إيطاليا هذه البرقية على العنوان التالي: «عائلة ريكيكي. سافوا بالاس، جاردونيه.» وقد اعتبر هذا الاسم اسما شرقيا بما أنهم حملوا إلينا البرقية! كان هذا الجغرافي يطوف بسيارته في الطرقات الإيطالية دون أن يتذكر أنه يسير بالقرب من نهر كبير. هكذا روى لنا ذلك على الأقل: «تركت الطريق الرئيسي نحو طريق مختصر، فوجدتني فجأة أمام المياه، ولم يكن هناك جسر. كنت قد نسيت نهر «البو
Le Pô ».» ثم انفجر ضاحكا !
لم يكن عوض ينسى حتى النهاية أن يقدم لنا أمنياته مصحوبة بباقات الأزهار يوم الثاني عشر من مايو في كل عام، يوم أول لقاء لي بطه. •••
قال لطفي لدى إحدى عوداتنا من أوروبا: «هيه! نعم أنا ما زلت من هذا العالم!» كان يتعجب، ويكاد يعتذر - بلهجة هازئة دوما - ويمزح أيضا، لكني كنت أعرف أن الظل كان هناك، وأنه سيطويه عما قريب ويخفيه عن أنظارنا؛ فإذا ما ابتسمت في أثناء تفكيري في الوجه العزيز مثلما كنت أبتسم له عندما يجلس في سيارته بصورة مؤلمة ويرفع يديه علامة وداع ودية، فإنما أبتسم بكآبة عذبة، شديدة العذوبة. •••
لم يكن الموت وحده هو الذي يخلف الفراغ؛ فهناك أناس لم يعرفوا في السنوات الأخيرة الطريق إلى بيتنا إطلاقا، وكنا نظن البعض منهم أصدقاء حقيقيين، لكننا كنا نخدع أنفسنا. لقد اعتاد طه على «الهجران»، ولربما بات مع مرضه وضعف نشاطه، يستشعر ذلك أكثر فأكثر، على أنهم كانوا نادرين. ثمة أسماء ترد خاطري على الفور، لكني لا أذكرها؛ فأولئك الذين كانوا أبعد الناس هم المدينون لطه أكثر من غيرهم، وكان هناك آخرون بالمقابل ينسون، ثم يبدءون بالتذكر، وهناك لفتة من أحدهم كان قد هاجم وربما شتم طه الذي سبق له أن ساعده، وكانت هذه اللفتة علنية؛ ففي إحدى المقدمات التي كتبها، كان هذا الرجل الشريف يعتذر بنبل عن ضلال عاق.
وفي يوم الاحتفال بالعيد الألفي للقاهرة، كان هناك كثير من المدعوين بهذه المناسبة ممن لم يكلفوا أنفسهم مشقة المجيء لتحية طه، على أن الذين جاءوا حلوا محلهم على نحو كامل، وقد كنت بينهم يا ماريا،
326
ما أكثر سعادتك في الصور التي التقطناها ذلك اليوم!
وفي المؤتمر السنوي للمجمع، التقى طه بالمؤتمرين - المدعوين هم أيضا - ما استطاع خلال ترؤس الجلسات الاستثنائية، لكن أحدا بعد ذلك لم يكلف نفسه أيضا مشقة المجيء إلى بيته.
لا أريد أن أتوقف كثيرا عند نواحي الضعف هذه، فهي لا تستحق الوقوف عندها؛ لقد تجاوزناها كليا بمودات مخلصة عملية، زائدة أحيانا، وجديدة أحيانا أخرى ؛ تلك المودات تبقى حتى ما بعد القبر. القبر ... ألم تقلها لي يا آرنالديز؟
327 ... لكني أعرف أنك ذهبت مرتين خلال زيارتك القصيرة للقاهرة كيما تتذكر أمام هذا القبر.
خلال حرب 1940، غادر أصدقاؤنا «آل كواريه» مصر وسط حزن عظيم، ودعونا وهم يبكون ويكررون القول إننا كنا أسرتهم الثانية، ويقول طه: «إننا لا نهجر أصدقاءنا!»
وكان طه يقول في أغلب الأحيان: «لن أنسى أبدا.» كان معتادا على قول ذلك حتى بمناسبة أشياء لا أهمية لها.
عندما لم يعد قادرا على النزول، أعددت له ما يشبه «استوديو» بالقرب من غرفته ليتمكن من استقبال الزوار والكتاب والصحفيين فيه، وبطبيعة الحال أيضا ليتمكن من استقبال أكثر أصدقائه الحميمين، وكنا قد هيأنا له كرسيا قديما منجد المساند والظهر لكنه مريح، وكان من قبل مهملا؛ وضعناه قرب المدفأة التي كنا نوقد النار فيها عندما يكون الجو شديد البرودة ولا تكفي المدافئ الكهربائية لتدفئة البيت؛ وكانت النوافذ الأربع تنفتح على الحديقة.
كان الأخ الأصغر لطه عبد المجيد وحزين وثروت أباظة وسهير وكامل والأب قنواتي والأب جومييه وماري وجان ودولت أبيض
328
وعائلتها والشيخ أبو رية وعوض حتى وفاته ويوسف السباعي؛
329
من رواده المألوفين، وكان ينضاف إليهم مع الأجانب مواطنون دبلوماسيون أو آخرون عابرون، وسرعان ما غدت هذه القاعة حميمة وحارة، ويبدو لي أنها لا تزال تحتفظ بشيء خاص إلى حد ما، وأكاد أكون ممتنة لها لاحتضانها لقاءات بسيطة ومحاورات مباشرة وعفوية. كان طه يجد فيها الراحة وينسى التعب أو الألم، كما كانت هناك لحظات تؤلف خلالها حلقة عائلية تقريبا، ويبدو لي أن كلامنا كان فيها هو نفسه حقا.
وكانت سهير القلماوي
330 - وهي الابنة الروحية لطه، وإحدى أوائل الفتيات اللواتي قبلن في الجامعة، والتي أستطيع أن أسميها «تلميذته» - تأتي أحيانا مع زوجها، وكانت نادرا ما تأتي برغم أن طه كان يحب أن يراها كثيرا. لقد كان طه سعيدا إذ أخذ يوجه ذكاءها اللامع على نحو خاص وذوقها في دراسة الآداب العربية، وكل الناس يعرفون بأي حماسة تتحدث وتكتب عنه ؛ ولا أستطيع أن أنسى بأي طريقة مؤثرة خاطبتني يوم الاحتفال بذكراه يوم السادس والعشرين من فبراير،
331
وأعرف أنها لن تكف أبدا عن تعزيز ذكرى المعلم الذي توقره.
في كل مرة كنا نعود فيها من أوروبا كانت تنهال علينا الترحيبات بالعودة مصحوبة غالبا بالأزهار؛ كانت آخر عودة لنا في أثناء الحرب، ومع ذلك فقد كان هناك واحد فكر أن يرسل لطه باقة من الورد الأحمر، وأعني به يوسف السباعي الذي كان آنذاك وزيرا للثقافة، وهو على كل حال لم يقصر مرة عن ذلك في كل مناسبة؛ كانت تلك الأزهار آخر أزهار تلقاها طه، وقد أتت من صديق مخلص على الدوام، عبر عن نفسه بشكل رائع إذ افتتح احتفال فبراير بادئا بقوله «أبي»! خطابا يتوجه به إلى طه، وقد تلفظ هاتين الكلمتين بلهجة سأبقى أرتعش كلما ذكرتها. •••
ما أكثر المرات التي أضفى فيها الأب قنواتي وبصحبته الأب جومييه
332
وغيره من الآباء الدومينيكان على هذه الغرفة الجديدة روحه المرحة وحديثه العميق؛ كان يعرف طه جيدا، وهو الذي قال لي ذات يوم كنت أعترف فيه أمام الكتب التي صففناها على طاولة طويلة، بأنني لم أكن أتصور مدى ضخامة هذا العمل: «بالطبع، فإنك ترين النقطة التي تصنع بها السجادة يوما بعد يوم، أما نحن فإننا نرى السجادة كلها.»
وبرغم معرفته العميقة به، فإنه لا يزال يدهش. ذات يوم، قال لي خلال لقاء تم بيننا صدفة: «إنني في هذه اللحظة مع الدكتور طه بمناسبة دراسة أقوم بإعدادها. ما أكثر ما أعجب به! وأية شجاعة احتاج إليها لكي يخوض معركته! وما أكثر ما اجتاز من عقبات!»
إذ إنه لاحظ - خلال مراجعته من أجل هذه الدراسة نصا لبروكلمان
333 - أن طه كان قد ذهب إلى «لورد
Lourde » و«سان أوديل
Sainte Odile »، وكان ذلك صحيحا؛ فقد ذهبنا إلى «لورد» أيام إجازاتنا القديمة في «البيرينيه».
لم تكن تلك الأيام أيام الحج الأكبر، كما أن الكنيسة الكبيرة لم تكن قد بنيت بعد؛ كنا شبه وحيدين أمام الكهف، وكانت مياه نهر «جاف
Gave » من ورائنا تجري بسرعة.
أما «سانت أوديل» فقد زرناها في سنوات متأخرة. لماذا لا أحتفظ منها بذكرى واضحة؟ لكني أذكر جيدا أننا كنا في «هوالد
Howald » وأن توفيقا والأطفال كانوا معنا، ويتراءى لي من جديد ممر «لينج
Linge »، و«شلوش
Schlucht »، و«جيرارمير
Gerardmer »، و«كولمار
Colmar »، وحماسة مؤنس أمام كاتدرائية ستراسبورج.
منذ أن بت وحيدة، يكتب لي الأب قنواتي، كلما كان بعيدا، ورسائله تبهجني: «... إنها فرحة عظيمة أن أقرأك، ذكراك وأخبارك مرتبطة بشكل حميم بذكرى وأخبار الدكتور طه، بحيث إنني أتخيل أنني أتلقى أخباركما معا.» يا للإخلاص الثمين! أوليسوا جميعا مخلصين أولئك الذين عرفهم «الاستوديو»؟
لقد قطعنا معا دربا طويلا يا ماري، منذ أن كنا نلتف من حول السيدة هدى شعراوي في الاتحاد النسائي وفي بيتها، كما كنا نلتقي - كلما استطعنا ذلك - في باريس، أو في جبل «أربوا
Arbois »، أو في لبنان، وكانت شيزر
334
هناك.
لقد ولدت في السنة نفسها التي ولد فيها طه، وكنتما تريان في ذلك نقطة مشتركة بينكما. منذ فترة والسلالم تتعبك! ومع ذلك، فللذهاب لرؤية صديقك - أنت التي لا تستخدم في بيتها سوى المصعد - كنت تصعدين إلى الاستوديو. ما أكثر ما أحببتك عندما كنت تتسلقين الأدراج مستندة على عصاك وعلى الدرابزين، أو تقبلين أحيانا الاستناد إلى ذراعي! كنت تحملين القشدة والمربى والتمر أيضا؛ تدخلين وتعانقيه ثم تجلسين بمهابة، ويبدأ تدفق فصاحتك الجذاب عبر ما تقصينه من أخبار تعكس طاقتك التي لم تخمد قط؛ فتعلنين مشروعا جديدا، وتردين على الذين يتناقشون، وتقصين إحدى ذكرياتك التي لا تنسى. كنا نتحدث عن المستقبل والماضي، ولم تكوني تنسين شيئا، حتى إبزيم مؤنس عندما كان في الرابعة أو في الخامسة من عمره (وكنت لا تزالين تعجبين به!) ونتحدث عن دار السلام التي تبقى شغل عقلك الشاغل. ومن بين مشاغلك التي اهتممت بها على الصعيد المادي، عنايتك بأولئك المعوزين. ونستشعر بقدر من الحنان إذ نتحدث عن ماسينيون، لكنه يبقى بالنسبة إلينا حيا بحيث لا نستسلم للكآبة. كنت تلقين إلى طه بنصيحة حكيمة، ثم تعانقينه وتغادرين البيت، مستصحبة معك كالعادة عددا من الزوار لا سيارات لهم.
بعد اللحظة الرهيبة التي كنت أتحدث فيها إلى طه الذي لم يعد يستطيع فيها الإنصات إلي، عند وصول الدكتور غالي، قال لي على الفور: «سأنادي جان.»
كان يدرك تماما أنني بحاجة إليها.
فهي لم تتركني لحظة واحدة خلال الأيام التي تلت، والتي كنت أعيش فيها كتمثال متحرك؛ كانت هي الأخرى متألمة، لكنها كانت مسيطرة على أعصابها، منيرة ومستنيرة، أخوية وحنونة، حنونة نحونا كلينا، وهي التي أخذت من إصبع طه خاتم الزواج، الذي كنت سأنساه دون أي شك، كيما تعطيني إياه.
لم تدعني أذهب إلى المقبرة، أما هي فقد ذهبت مع الركب، وعادت بسرعة إلى قربي وقالت إن لديها ما تقوله لي، ومنذ تلك اللحظة صرنا نذهب لمقبرة معا، متوحدتين أكثر من ذي قبل - في الذكرى، وفي صلاة صامتة.
معها أيضا، مشينا كثيرا على مدى الأيام المطرزة غالبا بالأفراح نفسها، والآمال نفسها، والهموم نفسها، والسخط نفسه؛ وكلها مختلطة بطريقة لا أستطيع معها دون مشقة أن أفصل إحداها عن الأخرى؛ عشنا معا قلق الحرب، وتقاسمنا عاطفتها وعاطفة ريمون يوم زواجهما ويوم سعادتهما الكبرى بولادة جان مجدي، هذه الولادة التي كان مؤنس ينتظر حدوثها، بيقين خارق ولد من تعاطف عميق، في الثامن من سبتمبر؛ أي في يوم عيد ميلاده، إلا أنها تأخرت ثلاثة أو أربعة أيام. معا غالبا، عبرنا البحر المتوسط على ظهر «الأسونيا» وعلى «الإسبيريا» فرحتين بالذهاب نحو وطننا فرنسا، تسيطر علينا الحماسة نفسها على مدى إبحارنا.
كان لطه سكرتير وقارئة، وكنت أسهم في هذا المجال ما أستطيع، على أنه كانت تبقى دوما نصوص لا بد من الاطلاع عليها، ولقد سدت جان الكثير من الثغرات؛ فهي التي قرأت له بوجه خاص كتاب سان بول «مدينة الإله» و«اعترافات» القديس أوغسطين؛ كانا يتبادلان تأملاتهما، وكانت جان - التي كانت أكثر تعمقا منه في هذا الميدان - تضيف تعليقاتها العميقة على ما تقرأ. كان ذلك يجري في الزمالك، وكنا يومها جيرانا، فاستفدنا من جيرتها لنا إلى حد كبير؛ أما دارنا «رامتان » فقد رأتها كثيرا، وكانت الأزهار التي تحملها إليها جميلة.
أما ريمون، الذي كان يعمل في فرنسا، فقد كان مجيئه نادرا بطبيعة الحال، وخلال زيارته الأخيرة التي قام بها لمن كان يسميه معلمه، معبرا بذلك عن وده وولعه اللذين لا يقلان عن ود وولع سهير به. أخذ علينا تشاؤمنا قائلا: «ولكن ماذا تقولون؟ ها هي ساعة مضت لم يكف المعلم خلالها عن النقاش، وعن تذكيري بكثير من الأشياء، وعن الاستشهاد بنصوص كاملة ...»
بالتأكيد! فعلى هذا النحو كان يبدو في لحظات الانشراح.
لم يكن جان وريمون لينزعجا من اللقاء بكامل، لو أن هذا الأخير لم يختر لمجيئه دوما ساعات الصباح. معه يبدأ موكب الذكريات، وفي الوقت نفسه موكب المشكلات المعاصرة التي لم تكن تنتهي. كان طه وكامل يتحدثان غالبا عن أشياء وعن أناس لا أعرفهم قط، وكانا في الأيام الأولى من سكنانا في «رامتان»، يستقران كلاهما في مؤخرة الحديقة، في ظل شجرة كزورينا؛ كان كامل عطشا دوما، ويطلب كأسا من الماء كل برهة. من تراه ذلك الذي قدم له ذات يوم صينية صفت عليها ستة أقداح ملأى بالماء بصورة كاملة، فجعله يضحك من أعماق قلبه؟
كانت لديه آراء مسبقة عني، شأنه في ذلك شأن لطفي باشا، فيقول لي كلمات في منتهى اللطف. آنذاك، كان طه يوبخه مازحا ويستشهد له في صرامة بآية من سورة «المنافقون»:
إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون .
وكان يحدث أن يتوقع كامل منه ذلك فيستشهد هو نفسه بالآية! ولقد كان «نفاقا» رائعا يوم صحبنا جميعا لتناول الغداء في مطعم قارون بمناسبة أحد أعياد ميلادي؛ قضينا وقتا طيبا ثم، عندما حل المساء، وكان الجو جميلا، تأخرنا في البقاء ... غير أن عجلات سيارتنا تخلت عنا عندما كنا في طريق العودة؛ كان ذلك في عام 1945، ولم يكن من السهل تغييرها، وحين حلت الساعة الواحدة صباحا كنا لا نزال حيث توقفت بنا السيارة، لكننا عدنا في ضوء قمر جميل كان ينعكس على صحراء غدت واسعة، وبت من الصفاء والبعد عن الناس والوحدة بحيث وجدتني أشعر - بعد إذ عيل صبري وانتابني الضيق - أننا نعود إلى البيت أبكر مما يجب!
كان كامل، الشكاك الساخر، الذي كان يتسلى كثيرا بقراءة «بنش
»
335
يضحك أقل فأقل مع مرور السنوات. لقد أحب طه حبا مطلقا، ولم يكن يستطيع - هو الطبيب - أن يتحمل رؤيته متألما؛ فبات في النهاية يحد من وقت زياراته قليلا؛ إذ لم يكن صريحا منفتح القلب، لكني في يوم 28 أكتوبر رأيت إنسانا محطما، لم أتعرف عليه إلا بمشقة، يقول لي وهو يبكي: «لم أحب في حياتي أحدا مثلما أحببته.» كنت مشوشة في تلك اللحظة، ومع ذلك أعتقد أنني كنت أتألم من أجل كامل.
عزيزي! أيها العزيز جدا كامل! لا أستطيع أن أراك أو أن أرى جان وماري دون أن أرى في وجوهكم جميعا طه على الفور؛ لقد عرفتموه معرفة حملتموه بها في أعماقكم بطريقة ما، مثلما أحمله؛ لقد اقتربتم منه كثيرا، ولم تكونوا تنسون شيئا، وكنتم ترددون لي أحيانا كلمات ووقائع نسيتها، وكنتم تعلمونني أحيانا أيضا ما لا أعلم؛ فلم يغب عني قط بسبب حنانكم الذي يغلفني. كان «دو» و«شوري» يقولان: إننا كنا بالنسبة إليهما أسرتهما الثانية؛ فأي كلمة أعبر بها عما تعنونه ثلاثتكم لي؟
أستطيع أن أضع في عداد الأفراح النادرة، تلك الأفراح التي منحتها الطبيعة له؛ فعلى امتداد ذكرياتي، هناك غابات ومروج وبحيرات وجبال وسهول وبحار، كانت بعض المناظر عزيزة علينا وأليفة إلى أنظارنا بحيث كانت تبدو وكأنها ملكنا في لحظات الغبطة، فنقف ونطيل الوقوف أمامها؛ كنا نلقاها بفرح كما لو كنا سنلقى أصدقاء أعزاء، وهذا هو السبب في أنني أحاول أن أستمر في الذكرى ماضية إلى لقاء بعض هذه الأماكن التي كان فيها سعيدا.
وقد بقي حتى النهاية يحب - كلما اضطر للبقاء في السيارة - أن يكون على طريق خال ليستنشق الهواء الطلق والرياح، وحتى هنا - حيث الهواء ليس رقيقا أو نديا - كانت النزهات تمنحه راحة أكيدة. في البدء، يبدأ الاعتراض بقوة ؛ فهو تعب ولا يريد الخروج، وعندما أملك القوة أتصرف معه بطريقة حاسمة، ثم بمجرد أن تمضي ساعتان على النزهة، تبدأ اعتراضاته الجديدة حين يتوجب علينا العودة، فيقول: «لكن لا، أرجوك، لنستمر في البقاء فترة أطول قليلا!»
وهكذا، فإنه بمجرد أن نصل إلى البيت وتستقبلنا تحيات فرقة عصافيرنا المنشدة، يكون في راحة تامة، جائعا إلى حد ما!
أدت بنا إحدى نزهاتنا الأخيرة ذات يوم إلى بحيرة قارون؛ لم نكن قد خرجنا باكرا، لكنه لم يكن يريد العودة، وكانت ساعة الغداء قد مضت منذ فترة طويلة عندما عدنا أخيرا، وعلى الطريق كان الخادمان القلقان يقفان لرصد السيارة!
كم هي عزيزة علينا سيارة «البويك» القديمة التي اشتريناها في عام 1947، وكانت آنذاك متألقة، فلم تتخل عنا قط! صحيح أن العطل الذي أصابها عدة مرات في السنوات الأخيرة قد أرغمنا على انتظار سيارة أجرة عابرة، غير أنها صمدت بعد كل شيء حتى النهاية. كانت أقدم من أن أسميها عربتنا، وكان صهري يدعي أن بوسعنا أن نبيعها في الولايات المتحدة بثمن باهظ باعتبارها قطعة أثرية! كانت مريحة وواسعة، وكان بوسع طه أن يمدد فيها ساقيه براحة، وكان على كل حال يحبها حقا؛ فنحن مدينون لها أن سارت بنا زمنا طويلا - في مصر بالطبع - على طرق مألوفة. وكنا عندما نسير بها في طريق الإسكندرية، نذهب بها أحيانا حتى طنطا؛ كنت أختار عندما يكون الجو حارا، حقلا جميلا من البرسيم أو القمح الوليد ونتوقف في ظل شجرة أوكاليبتوس. ولما كنا لا ننزل منها، فقد كنا نفتح أبوابها على مصاريعها ونستنشق أريج العشب والأرض؛ كنت أحمل القهوة في الترمس وشيئا من البسكويت، وكان طه يشرب القهوة ثم يدخن سيجارة يرغبها بقوة، لكنه ما يلبث أن يرميها قبل أن ينهيها، ونعود بعد ذلك آملين أن نسمع على طريق العودة طاحونة كنا قد حددنا مكانها.
كنت بالتأكيد أستشعر كآبة هذه النزهات، لكني كنت سعيدة أن طه كان يتحدث خلالها أكثر مما يتحدث في البيت، لا بل إنه يتحدث خلالها بحماس.
كان أحيانا كثير المرح! شأنه في ذلك اليوم الذي ظل شهيرا بالنسبة إلى جان وريمون وإلينا؛ كان يمشي آنذاك، ولم يكن قد مضى علينا زمن طويل في «رامتان». كان جان وريمون عندنا، وكان الجو جميلا، فخرجنا جميعا للنزهة؛ مشينا على محاذاة القناة التي تمر بين الحقول المجاورة في أرض متربة يبدو أنها لم تزعج طه كثيرا هذه المرة. كان شديد المرح، وبعد مرور بعض الوقت أرادت جان العودة، غير أن ريمون الذي كان سعيدا باستئثاره ب «المعلم» لوحده، تناول ذراعه «للقيام بعدة خطوات، ثم اللحاق بنا على الفور بعد ذلك»، وجلسنا في البيت ننتظر بصبر، وبشيء من الدهشة، المتنزهين اللذين لم يعودا؛ ثم بدأ القلق ينتابنا بحق شيئا فشيئا، وأخيرا عادا بسيارة أجرة مضطربين حائرين، هما أيضا، وبدآ يكثران من الاعتذارات. لقد كنا على ما يرام، أليس كذلك؟ إنه لجميل أن يتنزه المرء في الريف، فقد كنا نتحدث حديثا هاما. والخلاصة ... أن ريمون ضاع مع طه الذي عهدنا به إليه! ... لكن العناية الإلهية أرسلت لهما سيارة أجرة! •••
شكرا للذكريات السعيدة، شكرا أيضا لليوم الذي كان فيه عيد «سان جيرفيه
St. Gervais »، يوم صعدنا - مؤنس وأنا - إلى قمة «الأربوا
Arbois » - كان طه يكره التليفيريك. وعند النزول قررنا في منتصف الطريق إتمام المسافة سيرا على الأقدام، لكن المسيرة كانت طويلة وكان الليل قد حل، وعندما وصلنا إلى أوائل بيوت القرية صدمنا ونحن نرى طه الذي كان ينتظرنا مع فريد وقد انتابهما القلق؛ لم يطق البقاء في الفندق بعد أن أظلم الليل ولم نعد! آه، يا وجه الحنان العزيز! •••
هو وحده القادر على أن يقول ما كانته الموسيقى بالنسبة إليه! لم يعرفها قط، لكنه كان يفهمها دوما؛ كان يتوجه إليها بفرح وبثقة، وأحيانا بجهد، كيما يفهمها، وكان في أحيان أخرى يستسلم لها استسلاما كاملا، كذلك المساء الذي استمع فيه إلى «فيديليو»، وكان فعلا في «مكان آخر»!
في أثناء رحلته إلى فيينا - ولم أكن معه - استمع إلى أوبرا، لم يعرفوا أن يقولوا له اسمها ولا اسم مؤلفها! كما لم يستطع الصديق الذي كان يصحبه إليها الاستمرار في الاستماع إليها حتى النهاية، فعاد به منها قبل أن تتم! ... لا يهم ... فقد كان يستمع إليها بحدة، وحاول في اليوم التالي أن يصف لي شعوره. لم يعجبه صوت «الصادح
Ténor »، أما صوت «الجهير الأول
Baryton » فقد كان هائلا، وكان الانسجام الهائل بين الغناء وعزف الأوركسترا يفتنه: «في لحظة ما بدت القاعة مغمورة بهمهمة عذبة مستمرة، في حين كان الغناء يعلو فوق الهمهمة. إنه لأمر رائع، ولو كنت أرى، لقارنت هذا بقاع عذب حزين يبرز منه شيء من المرح السوداوي ... إنني أتحدث بغباء! بم أزج نفسي، وماذا أعرف عن الموسيقى؟ لكنها أشياء أحسها، وفرنسيتي الفقيرة لا تمنحني الوسيلة للتعبير عنها ...» «لو كنت أرى» ... كانت هناك لحظات يبدو فيها أنه يرى؛ لا لأنه كبقية الذين لا يرون ذو براعة يدوية مذهلة أو ذو براعة بالمعنى المباشر للكلمة - إذ لم يكن حاذقا، بل لم يحاول أن يكونه، ولم يكن ليهتم بذلك كثيرا - غير أني أحتفظ برسالة مؤثرة من شخص لم نره قط، وهي رسالة مؤرخة في عام 1951:
أمس مساء في الأوبرا، في أثناء أداء «أنطونيو وروزاريو»، تأثرت لا من رؤيتك تستمع فقط، وإنما من رؤيتك وأنت تنظر إلى الرقصات. وإني أريد أن أشكرك بحرارة على هذا الدرس الخارق في الحياة الذي استخلصته من ذلك أمس. بئست الكلمات الكبيرة؛ فهي من القصور والجمود بحيث لا تسعفني على التعبير عن مدى إعجابي بك وبالصفاء الذي تغلبت به على العقبات في حياتك؛ فأنا الآخر لدي عقبات كنت أظنها فريدة وكبيرة، لكنها منذ الأمس، تضاءلت بفضلك وكبرت أنا ... ... كنت في المدرسة الثانوية في الوقت الذي كان فيه ولداك فيها، وفهمت الآن معنى تألق الفخر الإنساني الذي يصعب تحديده، والذي كنت أراه في قاع نظراتهما؛ إنه الفخر بأنهما انحدرا منك، والفخر بأنهما يعيشان بالقرب منك، يا أبي ... منذ الأمس ... يا أبي!
كان طه شديد الحساسية للأداء الموسيقي، وما زلت أسمعه يدهش خلال عزف الحركة الثانية من الكونشرتو الأول لبراهمز قائلا: «أي عازف على البيانو!» لم يكن العازف شهيرا على ما أعلم على الأقل، لكنه كان ممتازا في الحقيقة، وهذا الحكم كان شخصيا وعفويا بصورة مطلقة.
في السنة التي جاءت خلالها «فاندا لاندوفسكا
Wanda Landowska »
336
إلى القاهرة وعزفت موسيقى باخ خاصة، وأكاد أقول إنها لم تعزف سوى موسيقى باخ؛ لكني أذكر أنني إذ سألت مؤنس: ما الذي فضله؟ أجابني قائلا: «رامو
Rameau »، باخ، فاندا. كان طه يبدو محمولا على الأثير حتى نهاية الكونشرتو بحيث إنه وقف فجأة - هو الخجول في مثل هذه المناسبات - وهتف: «إن فنانة مثلها تستحق أن يصفق لها وقوفا!»
ووقف جميع من في القاعة.
أية أعياد ... كلما تمكنا من سماع كمان «تيبو
Thibaud »، من صالة «جافو» في باريس حتى صالة «إيوارت» في القاهرة، وما أجمل الأمسيات التي قضيناها بصحبته في القاعة الصغيرة لسماع عازف كمان شاب! وأي انفعال حين استمعنا إلى صوت «تيبالدي
Tebaldi »! إنها لسعادة أن يصغي المرء إلى «روبنشتاين»
337
و«باهاوس»
338
و«فورتفانجلر»
339
وغيرهم. كان باخ وموزار وبيتهوفن وليست وشوبرت وبرليوز وفرانك محل إعجابه الأعظم، لكنهم لم يكونوا الوحيدين، بل كان ثمة آخرون أيضا، وإني لأذكر الحركة الهادئة
Adagio
من سمفونية شوستاكوفيتش الخامسة.
وهناك حفلات موسيقية حضرها فلم ينسها إطلاقا؛ فهو يتحدث بحنين عن كونشرتو باخ لأربعة بيانوهات كان قد سمعه في قصر «شايو» في باريس، ولم يخلف لديه أي واحد من التسجيلات التي اشتريتها له من هذا الكونشرتو ذلك الانطباع الذي خرج به من تلك الأمسية، ولم يستطع أن يستمع إلى «الآلام
Les Passions » إلا بواسطة الأسطوانات. وفي الفترة الأخيرة، بينما كنا نستمع إلى أسطوانة «سان ماتيو
Saint Mathieu »، أطلقت صرخة: «إلهي ... إلهي ...» كان آنئذ يرتعش بقوة.
من المؤكد أنه كان يحب لو استمع ثانية إلى «بينيلوب
»،
340
وإلى «سيرة القديس كريستوف
La Légende de Saint Christophe »،
341
وإلى موسيقى «طفولة المسيح
L’enfance du Christe ».
342
كل ذلك سبق لنا أن سمعناه منذ أمد طويل، ولم نستمع إليه ثانية منذ ذلك الحين.
ومؤخرا، قدمت فرقة الإذاعة الفرنسية حفلتين موسيقيتين في القاهرة، وقدمت «السمفونية الخيالية» لبرليوز في البرنامج الثاني. كان طه يحب برليوز، وكنت أصغي كما أصغي الآن : نهبا لعاطفة مزدوجة من العذوبة والتمزق.
لن يتحقق هذا مرة أخرى أبدا؛ أصغي إلى باخ وأنظر إلى صورتك، فيتفجر قلبي. لن نسمع أبدا معا التعابير القوية التي تتولد من تجاوز للنفس رائع ... فتلك لحظات ختمت إلى الأبد وتلاشت، وتلك وحدة مشاعر لن أعرفها إطلاقا مرة أخرى.
ذات مساء من أمسيات الأيام الأولى لسكننا في «رامتان»، كنا على الشرفة وحيدين تماما أمام الحديقة الكبيرة الهادئة، وكنا نسمع من القاعة السمفونية السادسة لتشايكوفسكي بقيادة «فون كاريان»؛ كانت الحركة الثالثة تبدأ شبه مرحة، ثم تبدو شيئا فشيئا إيقاعية، متلاحقة الضربات بشكل منهك، مجلجلة، تستحوذ على الليل وعلينا نحن اللذين كنا قد بلغنا مستوى من الحماس والتوتر بسبب هذا التصعيد الذي لا يقاوم، والذي يقوم به «فون كاريان» بحيث إننا في الائتلاف الأخير كنا نلهث تقريبا.
كنت وحيدة في ذلك المساء الآخر، ولكني لم أكن في «رامتان» بل في «المعادي»، وكنت أصغي إلى «ريختر
Richter »
343
يعزف «الأباسيوناتا
Appassionnata »، ولم يسبق لي أن عانيت إطلاقا ما عاينته عند استماعي إلى هذه الموسيقى ذلك اليوم؛ كنت أعرف أنني وحيدة في غرفة كانت تبدو لي غريبة، لكنني أحسستك قريبا مني. وفي هذا الطواف الصاعد الجليل، في تلك الوقفات والاستئنافات، في هذا التدفق من الضربات العنيفة المنتزعة من رقة بالغة الموهبة، في هذه الصدمات، كانت حياتنا تبدو لي وهي تجهد في التقدم بمشقة وشجاعة. كان ثمة ومضات ساطعة تضيء فجأة مناطق الظل، كنت ضائعة ضالة، واستمرت هذه الحالة الغريبة حتى تمكن النوم مني.
لا تتاح للمرء دائما هذه المستويات الرفيعة. لقد أحب طه الأجراس وأجراس «البندقية» منها على نحو خاص، وعندما بنيت كنيسة جديدة في «ميرانو» سخط لوضعهم فيها مجموعة آلات موسيقية كهربائية؛ فقد كانت هذه الموسيقى تغيظه، لكنها كانت قريبة من فندقنا، ولم يكن بوسعنا أن نتفادى الاستماع إليها.
أحب أناشيد «دوبارك
Duparc » و«شوسون
Chausson » و«فوريه
Fauré » في أيامه الأخيرة، ولا أدري لماذا كان يتحدث كثيرا عن «الأغنية الحزينة» (دوبارك) ويعيد التفكير في «ضوء القمر» لفوريه؛ كان يبحث عن كلماتها ويقول لي : «تعرفين جيدا أن روحك لوحة طبيعية ساحرة.»
344
وعلى الوجه المقابل للعواطف، أتذكر الضحكة المجلجلة التي لا سبيل إلى كتمانها إزاء تقديم «كان بشعا للغاية» ل «فرانسيسكا داريميني»،
345
وقد اضطره التقديم إلى اللجوء داخل المقصورة، ولم يتحرك منها حتى النهاية.
تماما كما فعل كامل ذات مساء عند تمثيل إحدى المسرحيات الميلودرامية؛ فقد قال الممثل - الذي كان يفترض أن يكون نهبا لرعب فظيع - بهدوء عظيم وبأشد الأصوات عذوبة: «إنني خارج عن طوري، لم أعد أتمالك نفسي!» ذلك أن كامل - الذي لم تكن الموسيقى تهمه كثيرا - كان يصحبنا أحيانا إلى المسرح.
كان طه يذهب إلى المسرح كثيرا، وكان محبا للمسرح منذ ذلك الزمن البعيد الذي كنا فيه لا نستطيع الذهاب غالبا إلى المسرح لمشاهدة العروض، فكنا نعوض عن ذلك بالتهام المسرحيات التي كانت تنشرها مجلة «لابتيت إيلستراسيون». وبفضل الأسطوانات لم يحرم كثيرا من الموسيقى، لكنه لم يتمكن منذ 1960 من رؤية أي عرض مسرحي، وكان ذلك أحيانا شديد القسوة عليه. •••
جاء في السنة الماضية مجموعة من شباب كلية الأسرة المقدسة لرؤيتي، وكان أول سؤال ألقوه علي هو: «إننا نعرف طه حسين الكاتب، المفكر، المصلح ... إلخ، ولكن كيف كان طه حسين أبا؟»
فأجبت: «رائعا!»
فلم يكن هذا الأب يستخدم لهجة رسمية أو متحفظة مع أولاده؛ كان يتحدث دائما مع ولديه على قدم المساواة، حديث الند للند، وعند الحاجة بوصفه حاميا لهما. والحق أننا كنا نعيش معا في علاقة حميمة خالصة أدهشت غالبا أصدقاءنا؛ أولم يكونا معنا على امتداد هذه الصفحات منذ ظهور «السيد كرالس» و«السيد كرالا» طفلين هشين، حالمين، حنونين، ثم تلميذين جادين، ثم طالبين في منتهى الجدية، ثم أبوين يحملان على أذرعهما طفلا؟ الحق أن ذكرياتنا تخصنا أربعتنا على امتداد سنوات طويلة. طه! فلنتذكر قليلا! هل تسمح؟! لقد استمرت علاقاتك بهما طبعا على ما هي عليه عندما كان لهما من العمر سنتان، ثم عندما كان لهما من العمر عشرون عاما، ومع ذلك فقد كنت تصغي لأحاديثهما في الثانية من عمرهما بجدية ، كما أن حريتك في الحديث لم تتغير. لقد تسليتم معا تمام التسلية، وكانت لك ضحكات مجلجلة كنت لا تزال تذكرها حتى الأشهر الأخيرة وتضحك لذكراها أيضا.
إنهما مثلك حتما، بما أن الألفة المستمرة - التي لم يكن لها أن تقبل عدم الاحترام والوقاحة - والتأنيب النادر المعتدل قد آتت أكلها بشكل لا بأس به.
كيف كنت تتصرف وقت امتحاناتهما وأنت المعلم الصارم الذي كان صيته يرعب طلابه؟
إن نجحت أكن سعيدا، وإن رسبت فسأهديك هدية!
ربما كنت أقلق أحيانا إذ أفكر أن الحياة لن تبسم في وجههما بشكل كاف دوما، وكنت مهمومة ولا شك حين كتبت لأمي: «إنني أقرأ بانتباه «انبلاج الصباح»
346
ولي ابن سيبلغ من العمر ثلاثة عشر عاما.» كانت همومي لا تستمر طويلا، ومن الخير بدء الطريق بابتسامة دون خوف.
كنت تحبهما بحنان عظيم! تذكر ما قالته ابنتنا الصغيرة التي لم تكن تستطيع النوم ذات ليلة: «سقط نومي في الباحة»؟ كانت تبكي، فأخذتها بين ذراعيك، وغنيت لها: «يا ليل، يا ليل!»
تذكر: يأسنا المشترك المضحك كوالدين بلا تجربة، عندما كانت تملأ منخريها بقطع القطن، الأمر الذي لم يكن ذا أهمية إزاء محاولتها أيضا أن تملأ فمها بالنفتالين!
كنا نمشي على طريق ريفي بخطوات سريعة، وكنت أدندن لحن «المادلون ... لكي أطلب منها يدها ...» لقد أثرت هذه الجملة فيها فمدت لك يدها الصغيرة قائلة: «ها هي ذي يدي! ...»
هل أجبتها عندما سألتنا ذات يوم: «لماذا نقول لماذا؟»
عندما كنا نسكن في شارع الحواياتي، كانت تجد ضروريا أن تقذف بقرش إلى ذلك الذي كان يأتي كل خميس ويعزف على «الأورغن الصغير المتنقل» تحت نوافذنا. لفتة لم تكن تعني شيئا، لكنك عندما كنا في فرنسا واضطرت هي للبقاء هنا، غدا سماع هذه الموسيقى يمزق قلبك، وكنت ترفض أن تفتح النافذة ... ثم صرت تفتحها وتلقي بالقرش لذلك الذي كان ينتظره من يد صغيرة.
أصحبها إلى حديقة الحيوانات، لكنها تعود ساخطة: «فالذئاب صغار بشكل مضحك!»
أما مؤنس، فإنه يخاطبني بحنان وهو في الثانية أو في الثالثة من عمره قائلا: «عندما تصبحين صغيرة وأصبح أنا كبيرا سأعطيك كل شيء ... كل شيء!» كيف أمكن له أن يتصور هذا الانقلاب؟!
وكان شديد الحنان أيضا ذات مساء كان خلاله مصابا برشح قوي؛ إذ ناداني بيأس بصوت تخنقه البحة: «ماما، شيري دامور!»
347
جملة حولها صوته المبحوح إلى: «إما شيلي دابور!» كانت هذه الكلمات المعادة تمس شغاف القلب منك وتسليك!
قلقت ذات مرة من هدوئه المريب؛ إذ مضى وقت طويل دون أن أسمع صوته، ثم اكتشفته تحت مائدة غرفة الطعام ساكنا سكونا مطلقا؛ قلت له: «ولكن ماذا تفعل هنا؟» فأجابني: «إنني أرقد فوق البيض حتى يفرخ!»
ذات صباح صيفي في «جيرارمير
Gérardmer » عاد من الحديقة ممزق الثياب؛ فسألته: «كيف فعلت ذلك؟» فأجاب: «كان هناك النبات الشوكي القراص متسترا في شكل نبات القرع!»
وقد أثارته رحلة إلى «الفوج
Vosges » عندما كان له من العمر سبع سنوات؛ فقد أذهلته كاتدرائية ستراسبورج، وكان يسبقنا ويغور في منعطفات السلم المؤدي إلى الجرس بحمية ونشاط كنا نلاقي معهما المشقة في اللحاق به، وكان في غابات الصنوبر على امتداد الجداول الضيقة المتساقطة على الحصى يرى الجنيات ويتحدث معها! أما في المتحف المحلي ب «نانسي
Nancy » أو «كولمار
Colmar » فقد وقف مذهولا أمام صف من صناديق قديمة من الحديد المصبوب سوداء اللون كانت توحي بالحزن، وبعد أن فحصها مطولا أعلن: «أستطيع القول إن صندوق جدتي الخشبي أجمل بكثير من هذه الصناديق!» (كان صندوقا من النسيج المخملي الأحمر لم يكن فيه أي شيء جميل بالطبع!) هذا التعبير (أستطيع القول) لم يكن يخلو من الشجاعة؛ كان يسلينا ويسلي الزوار الآخرين أيضا؛ كان ذلك في السنة التي رسم خلالها - بعد أن قرر أنه سيصبح مهندسا معماريا - «مدينة «مودن» التي سأبنيها عندما سأصبح كبيرا»! كل بناء كان له اسم، غير أن واحدا من الأبنية أزعجه، وكان عبارة عن المحطة التي حلم بأن تكون هامة، فسماها: «محطة كل الجهات»! والمقصود محطة السكك الحديدية بطبيعة الحال!
ثم حلت سنوات الدراسة الثانوية، والاحتكاك الأول، ربما مع سماجة ما؛ هناك رفيق له كان يردد ولا شك حديثا سمعه، قال عنك أشياء فظة - وكان ذلك في فترة كنا نعاني فيها من مصيبة كبيرة - كان مؤنس نحيفا غير قوي، في حين كان الآخر ضخما قوي الجسم، لكن ابنك طرحه أرضا منذ الضربة الأولى مذهولا مما فعله!
ما أكثر ما كنا مرحين! كانا يغنيان دوما كل ما يخطر على خاطرهما، وإني لأرى مؤنس ثانية في محطة «ميلانو»؛ كنا نغير القطار، وكان مؤنس يجر حقيبة ويغني على امتداد الرصيف بنشاط أغنية «والبهجة ...» وهذا أمر لم يكن منتظرا منه، لكنه كان يحب على كل حال باخ ولحن «المانيفيكا
Manificat ».
لم يكونا يحبان «ديبوسي» كثيرا في تلك الحقبة على الأقل؛ فأثناء نزولنا من ممر «جيت
Get » مع أصدقاء لنا، كانا يغنيان بلا أدب «رواية هيدروفيل والفيليجران» على ألحان ... ديبوسي!
وكان مؤنس أكثر جدية عندما كان يطلب إلي أن أشكرك لمساعدتك أحد أصدقائه:
قولي لأبي إنه إنسان رائع.
وفي أحد الأيام، كتب لك في إحدى اللحظات المؤلمة، وكان جديا تماما آنذاك:
هناك رجال خلقوا من أجل قيم مطلقة وخالدة، وآخرون من أجل قيم عابرة ونسبية، وليس للأوائل الحق في أن ينسوا رسالتهم.
ولم يكن ذلك يمنعك من أن تناديه بحنان مازحا: «بالاجوست!»
هذا الجو من الثقة والحرية كان سائدا دوما. لم يكن المرح يسوده دائما، ومنذ أن تجاوزا سن الطفولة، صارا يعانيان من صدى مراراتك ومحنك التي لم يكونا ليجهلاها، ولقد مرت علينا أيام أظلم خلالها البيت؛ كنا نتألم جميعا لأننا كنا متحابين.
متفرقات
كان يقول ساخطا: «كيف؟ أليس عندك آلة حلاقة؟» كلما كانت هذه الأداة التي كانت تبدو له لا غنى عنها غير موجودة في إحدى غرفنا في الفندق.
وهناك من هذا القبيل ذكريات ترد كلما شاءت على خاطري، وخاصة منها ذكريات الحياة اليومية العادية، غير أن معظمها لا معنى له إلا بالنسبة لي ولولدي. «ماذا تفضلين أخيرا؟ مجموعة من آنية المطبخ أم عقدا ذا جوهرة لصدرك؟» ... هكذا كان يعابثني في أحد أيام ميلادي، وكان يعرف أنني أحب أن أزين البيت .
وكانت له - هو الحزين غالبا - لحظات من المرح الساخر، كتلك اللحظات التي كان خلالها يتسلى بقص حكاية غضب الشيخ العجوز الذي كان يعنف ابنه الذي أصابته عدوى الحياة الحديثة: «قيل لي إنك تشرب الويسكي فقلت: معليش! وقيل لي إنك تشرب الحشيش فقلت: معليش! وها أنت ذا الآن تشرب القازوزة
1
الملعونة من جهنم ... اخرج من هنا يا ابن الكلب!»
وكان يضحك أيضا في «فيرون
Vérone » يوم كنا نزور قبر جولييت، ولا أدري إذا ما كان هو أم مؤنس الذي سأل: «وأين روميو؟!» وكانت غرابة الصيغة التي استخدمها الحارس تطابق في غرابتها اللهجة التي أجاب بها: «
Qui, non abbiamo Romeo ».
2
قالها وهو في أشد حالات الاستياء، شأنه شأن البائع الذي لم يجد البضاعة التي طلبت منه في مخزنه!
يروي لي صهري: في إحدى السنوات، حضر جلسة تعقدها لجنة تضم بين أعضائها شخصيات مهمة كان عليها اتخاذ قرار بشأن النشيد الوطني؛ فتحدث كل واحد من الحاضرين بإطناب وبلا فائدة، وفي النهاية - وكان قد أعياه ذلك - أعلن طه الذي كان يشترك في اللجنة: «حسنا! ... قلنا هذا، وقلنا ذاك ...» (ولم يكن قد قيل شيء محدد في الواقع!) ثم التفت ناحية أمين سر الجلسة وقال له: «حسنا! اكتب.» وأملى عليه تقريرا على مسمع من الحاضرين الذين كان كل واحد منهم على اقتناع تام بأنه يجد في نص التقرير كلمات خطبته اللامعة، فيأخذ بالموافقة والاستحسان، وتنطلق الكلمات متناثرة من الجميع: «ممتاز! ... تمام! ... هذا ما قلناه بالضبط تماما!»
كنت في الإسكندرية مع ولدي، وكانت الخادمة مريضة خلال عدة أيام. كانت وحدها تعرف غسل الثياب الصوفية والحريرية، وهي ثياب ثمينة لم نتجاسر أن نعهد بها إلى «الكواء»، وكان طه يتخيل أن هذه الثياب سوف تأتيه حزينة وتناشده ألا يهملها، فيقرر إذن أن يغسلها بنفسه! وبينما هو يصبن ويدعك ويشطف ويعصر، كان يملي رسالته اليومية التي يتجلى فيها الحوار الطويل الضاحك الذي يقوم بينه وبين هذه الأشياء التي تثير العطف.
قال لي ذات يوم: «تريدين مني أن آكل البيشاميل؟! لكن كيف يمكنني أن آكل من شيء له هذا الاسم؟!»
وكنا في ترييست؛ فأوصيت له على حذاء، غير أن الحذاء تأخر عن إنجازه، في حين كان موعد الباخرة يقترب، فأصررت عليه أن ينجزه بسرعة بعد القياس الذي قام به؛ فانتصب هذا الإنسان ذو الضمير في اعتزاز وطمأنني بلباقة: «سونو جانتيمو!» - أنا رجل متمدن! - وتصور طه، وهو يسمع ذلك، أنه في مسرح!
قال لي عندما كنت أعبر عن أسفي لاضطراري كالنساء الأخريات أن أذهب لتناول القربان في الكنيسة حاملة على يدي المحفظة: «إذا كان لديك إيمان قوي، فبوسعك أن تتركي حقائبك على المقاعد!» لم يكن يريد أن يصدق أن الحقائب تسرق أيضا في الكنائس ... بيد أن في الحقائب أوراقا ومفاتيح!
لا بد من القول إن لحظات الانبساط والراحة كانت نادرة بعد كل شيء، أكثر منها كانت لحظات الغيظ. «أسكته، أسكته!» هكذا كان يناشد مؤنس في أثناء جنازة مدير ثانوية هليوبوليس عندما قام أحد الحاضرين باستعراض مثير للسخرية مدعيا الحزن العميق!
كانت السيدة «ل» ممرضة إيطالية قضت أكثر من شهر بالقرب من طه لتشرف عليه بعد العملية الجراحية التي أجريت له، وكانت العلاقة بينه وبينها عاصفة إلى حد ما؛ إذ إن كلا منهما كان يعاند الآخر بشدة، وقد اشتد التوتر بينهما ذات ليلة فقال لها: «نادي الست!» وبما أنها كانت أيضا مكلفة بالإشراف على راحتي فقد رفضت الإذعان، وكان ذلك يستمر أحيانا فترة طويلة ... ثم تنتهي بالاستسلام له وهي ترتعد غضبا، ومع ذلك فحين غادرتنا عانقته بحنان وهي تذرف الدموع وتردد لي: «أي شرف أن أتعرف إلى هذا الإنسان! لن أنسى أبدا، لن أنسى أبدا!» وكان هو نفسه منفعلا أيضا؛ ذلك أنه كان متسلطا دون شك، لكنه لم يكن جارحا قط.
كان هناك في «بادو
» بالقرب من فندقنا مقهى ذو شرفة كبيرة، كانت فيه كل أغطية الموائد وكل المظلات بنفسجية اللون، وكان ذلك جميلا جمال صباح ربيعي؛ فكنا لا نترك الرصيف العريض لكي نأتي إليه من الفندق، واستطاع طه أن يأتي إليه خلال فترة طويلة؛ كان يحب هذه الشرفة كثيرا، وربما كان اللون الندي الرقيق الذي كان يحيط به والذي لم يكن يراه؛ يحمل إليه شيئا من العذوبة.
لم يكن ثمة مجال للحديث عن العذوبة ليلة وصولنا إلى «بادو» وسط عاصفة مخيفة؛ كان أحدهم قد أوقف سيارته بلطف أمام باب الفندق، فتوقفت سيارة الأجرة على بعد عدة أمتار من المدخل، وإني ما زلت أتساءل كيف استطعت أن أجذب طه بسرعة كافية وسط قرقعة الرعد، وتحت وابل المطر والبرد الذي كان يتساقط علينا. لم تكن المظلة تفيد شيئا، ولم تكن لدينا الرغبة في أن نغني «تحت نفس المظلة» كما كان طه يفعل في السنوات الأولى يوم كنا نذهب للتنزه تحت وابل من المطر، كنا نحتمي منه فعلا تحت مظلة واحدة، مشدودين واحدنا إلى الآخر، مستنشقين بسعادة الهواء المغسول وأريج الأرض المبلولة.
ويذكرني المطر بتلك المسيرة شبه المأساوية التي قمنا بها ذات سنة حدثت فيها طوفانات خطيرة في وادي «الأديج
Adige » كنا قد غادرنا «بولتسانو
Bolzano »، وكان علينا أن نقضي الليلة في «ترانتو
Trente » - التي لم تكن بعيدة - لكن الجو كان مخيفا، والطريق كان مسدودا في عدة أماكن بسيول من الوحل الأصفر. كانت السيارات كثيرة وهي تنزل من «برينير
Brenner ». كان ذلك بعد الظهيرة، وكنا لا نرى أمامنا تحت سماء صفراء كالوحل سوى عدة أمتار فقط، فنضطر للسير بالسيارة ببطء شديد. أما في سان ميشيل فلم تكن هناك أية وسيلة للتقدم؛ إذ كان الطريق مقطوعا كليا؛ فكان لا بد لنا من العودة، غير أن ذلك لم يكن سهلا أيضا بسبب الزحام، والليل الذي اقترب، والانزعاج العام من حولنا، ودمدمة السائق العدائية بسبب خوفه على سيارته، والتهديد المستمر من الماء والوحل، ولشعوري بالقلق إذ عرفت أننا لا نستطيع الوصول إطلاقا إلى قرية ما، وأنه إذا طرأ من ثم طارئ على طه فإنني لا أستطيع أن آمل بأي إسعاف سريع له، وأعتقد أننا قضينا ست ساعات تقريبا خلال الذهاب والإياب في مسيرة لم تتجاوز مائة كيلومتر، واستمر المطر في الهطول دون توقف ولو دقيقة واحدة خلال الأيام الثلاثة التي تلت، ولم يكن من المستطاع استخدام الطريق إلا في اليوم الرابع. ولقد وجدنا لحسن الحظ - أو بالأحرى بسبب اللطف - غرفة في فندقنا الأنيس «جريفون
Grifon »، كان طه بمأمن عن كل ذلك، لكني لم أنس هذا المشهد من الخراب، وتلك الساعات من العذاب المفجع. لم يسبق لي في حياتي أن رأيت طوفانا حقيقيا، ومنذ ذلك الوقت رأيت - ولكن بعد زوال كل خطر - نهر «التاليامنتو
Tagliamento » يحمل جثث حيوانات وأشجارا مقصوفة، وإني لأقدر بشكل أفضل القلق الرهيب الذي يعانيه أولئك الذين يعيشون ساعات مماثلة أو الذين يموتون بسبب ذلك. ••• «إنك تبحرين!» - هكذا كان يقاطعني، حتى أيامه الأخيرة، بحنان كلما احتدمت - وهذا ما كان يحدث لي غالبا خلال مناقشة أو ثورة أو حماسة؛ فعلى أية مياه عقل أو قلب سوف أبحر الآن دون أن أسمع الصوت الساهر المتيقظ يعطيني إشارة ما؟
كان في السنوات الأخيرة يقول بحزن: «كنت أقل الجميع اعتبارا في نظر أسرتي، كنت مهملا، محتقرا ... ومع ذلك فإن كان لهم أن يفخروا ... أحيانا ...» ولم يكن ليتم جملته.
وكان يقول غالبا: «لو تعلمين ... لو تعلمين ...» كنت أعلم فيما أظن، وربما ليس كل شيء، ومع ذلك فهل تعتقد أنني لم أكن أعلم لماذا حزمت رسائلي أنت الذي لم تكن تستطيع قراءتها؟
ولكن أكنت تعرف أنت ما كنت أعانيه عندما تحمل لي واحدا من كتبك صدر أخيرا؟ آه! ... لم يكن ما أعانيه زهوا ولا كان - أسألك العفو - مسرة مشروعة. لا؛ إذ إن ما كان يقلقني - ولا يزال يقلقني أكثر كلما تذكرت ذلك - هو الحركة التي كنت تمد لي بها يدك بالكتاب؛ كانت حركة مرتبكة تقريبا، كما لو أنك تعتذر، كما لو أنك كنت تقدم لي شيئا ضئيلا جدا في حين كنت تمنحني أفضل ما لديك، وتمنحني ما كان الآخرون ينتظرونه بفراغ صبر! آه، ما أكثر تواضعك! وما أشد ثبات هذا التواضع! ما أكثر ما أحببتك! وأحبك بسبب هذا! ولم أعرف كيف أعبر لك عن هذا الحب. •••
ولد في 14 نوفمبر، وقد احتفل بهذا اليوم كثيرا، بل لقد تمنى أحدهم لو أنه يكون يوم عيد وطني! وبمناسبة عيد ميلاده، أقمنا في بيت صهري بالمعادي - حيث لم يكن يستطيع المجيء غالبا - حفل عشاء جميل حضرته ماري، لكنه كان خلاله مرهقا إلى أقصى حد. كنت أنظر إليه وهو على مقعده في مواجهتي، قلقة عليه شأني دوما؛ كان يحاول أن يتحمل تعبه وأن يبتسم، ولم يأكل سوى القليل. كان العيد عيده، وكان محاطا بكثير من الحب، وكنت أجهد في ألا أحزن.
كان سيكون عمره 85 سنة في 14 نوفمبر 1974. في ذلك اليوم تحدثت الصحف والإذاعة والتليفزيون مطولا، كما تحدثوا عنه أمام الأطفال في كل مدارس مصر، وفي السنة الماضية تذكر كثيرون هذا اليوم. كان صهري قد وجد بعض الفصول من رواية كان طه قد بدأ بكتابتها في عام 1947 ولم ينجزها، وهي رواية «ما وراء النهر»، فنشرها وصدر الكتيب في ذلك اليوم.
ذهبنا إلى المقبرة - أمينة وأنا - لم أكن قد نمت جيدا، لكني حاولت الظهور بمظهر الهادئة. لم أكن أسيرة ذكريات الماضي كليا، لم تعد ثمة أزهار أو برقيات أو لقاءات حارة وودودة. أعرف أن الأمر ينبغي أن يكون على هذا النحو الآن. لا، إذا بكيت فإنما أبكي غيابك الذي لا دواء له، وربما كنت أبكي حياتي التي بت لا أتعرف عليها. أرفع عيني وأنظر إلى الخط المنحدر الأصفر للمقطم؛
3
كنا نأتي إليه في بعض الأحيان صباحا، وكنا نتوقف على حافة الجرف، لكننا لم نكن نترك السيارة التي كانت تحمينا من شمس حادة حتى في الشتاء. وكنت أفكر أن هذه السعادة، هذه السعادة الصغيرة التي منحت لنا ونحن ساكنين في سيارة «البويك» القديمة، كانت أيضا عذبة بلا حدود؛ كانت نعمة. ويبدو لي الآن أنني أرتكب عملا جائرا إذ أتبين أن السماء جميلة، وأن الصخرة جميلة، وأن أوراق الشجر جميلة ... إذ إنني لا أملك الحق في ذلك ما دمت لا أستطيع أبدا أن أقول ذلك لك.
لموتاي الآخرين في مقابر فرنسا قبور لا تشبه هذا القبر؛ قبور ضيقة متراصة بعضها إلى جانب البعض الآخر في هدوء وخضرة وألفة الأماكن المسيجة في الريف، وعلى الرغم من الأشجار والأزهار، فهي قبور محزنة وباردة. أما هنا، فإن ما يخصك من الأرض كبير بحيث يسعني إقامة حديقة متواضعة، وعلى القبر البسيط المتواضع بلا أي زخرفة سيحفر على النصب التذكاري الدعاء الذي كنت تقوله في فلورنسا وفي المدينة المنورة. زرعت عدة أشجار، وكانت منها شجرة «فتنة»،
4
أزهرت زهرات صغيرة صفراء لها عطر كنت تحبه.
يمكن للمرء - إن لم يأت ضمن جمهور غفير - أن يجد هنا السلام في الصمت والسكون المحيطين، ومن الممكن أيضا أن يأمل الصفاء بتأمله قطعة كبيرة طلقة من السماء، طلقة من فوقه، هذا الصفاء الذي تشعر به «جان» بحق في مقابر المسلمين.
لكني لست صافية بعد، وإني لا أتمكن من تخيلك هناك. علي أن أستبعد رعب الفناء الجسدي، وفكرة أنه لا شيء مما كان يكون شخصك المرئي حاضر؛ وأتلاشى في الوعي بعزلتنا التامة وهشاشتنا.
والحق أنك لست هناك، ولئن كنت آتي في الرمل المحرق إلى قدم الصخرة العارية التي تكاد تتأجج لهبا، فإنما آتي بشعور وراثي من الاحترام، راغبة في أن أستدعي بشكل يختلف عما يتم في غرفة مغلقة، ذلك:
الذي أعطانا الحب،
الذي يرى كل ألم،
والذي يعرف كل دعاء.
عندما أكون في إيطاليا أذهب إلى مقابر الريف لأحيي موتى لا أعرفهم، وأمام القبور المهجورة التي ليس لها سوى كومة صغيرة من التراب، أتوقف فترات أطول من فترات وقوفي أمام القبور الأخرى.
30 أبريل 1976
ذهبت قبل قليل لتسلم بطاقة الباخرة من أجل العودة في سبتمبر. ستكون هذه الباخرة «الأسونيا»، وتأثرت كليا حين رأيت قسيمة البطاقة: (المقصورة 45، الممر)؛ إذ إنني أعرف هذا الممر جيدا كما أعرف مقصوراته المزدوجة في القاع حيث أقمنا غالبا. لسوف أنظر مطولا إلى الدهليز، إلى هذه الأبواب، سبعة أعوام مضت على آخر مرة كنا فيها معا على هذه الباخرة؛ إذ إن عوداتنا الأخيرة تمت على الباخرة «إسبيريا». أعرف أنني سأكون مرتعا للذكريات؛ لكني سوف أستقبلها كأصدقاء. لقد شعرت بالبرد على ظهر «الفيكتوريا»؛ ذلك أنه لم يكن فيها شيء يحدثني عنك!
كنا على هذه البواخر نتلقى الزيارات كما لو كنا في بيتنا، وإني لأرى ثانية ريمون وقد جاء ذات يوم محملا بأزهار متألقة، وأرى كذلك «دو» و«شوري» اللذين كانا مارين في البندقية فجاءا لتناول الغداء على الباخرة معنا، ولم يفتنا حتما حين افترقنا أن نقف لحظة صمت كنا نفكر خلالها في لقاءات مأمولة. وكذلك ماريا التي كانت موزعة بين جامعات روما والبندقية، تناولت الغداء معنا أيضا في قاعة الطعام التي كانت في تلك الآونة ذات لون بنفسجي وأزرق (وربما ما زالت كذلك)، وقبل مجيئها كانت ترسل باقة من شقائق النعمان وبرفقتها بطاقة لطيفة تعبر فيها عن أمنياتها وترحب بنا في مدينتها.
ماريا، شوري: فقيدان. هناك لحظات لا تؤلم الذكريات خلالها ما دامت مغمورة بالصداقة التي تجعل من تلك الساعات ساعات عذبة.
وهناك اختفاء آخر، حدث مؤخرا، يستدعي أياما أخرى: ريموند. كانت قد وصلت مصر قبلي بوقت قليل، وفيما عدا رحلتين أو ثلاثا، لم تكن لتترك مصر، قبل عدة أشهر، إلا من أجل زيارة قصيرة لفرنسا. لم أقل لها حتى وداعا، لكني سأقول لها هذا الوداع في قلبي مع الكآبة الجديدة الغريبة التي أعانيها الآن في كل مرة تنغلق فيها عينان سبق لهما أن رأتا وجه طه، كما لو أنه بطريقة ما يزداد غوصا في الظل، ولسوف يأتي يوم لن توجد فيه أي نظرة بشرية تمل منه.
الظل ... غالبا ما استخدمت هذه الكلمة في أثناء الحديث عنه لمعارضتها بالنور الداخلي الواضح وضوحا شديدا، أما الظل الكبير فهو ظل شاعر أعمى شهير عاش منذ عشرة قرون ورافقه طيلة حياته؛ فقد كرس له رسالته المصرية وكتابين آخرين، لكنه في الواقع كان يتحدث عنه دون توقف، ويبدو أنه عاش آلام هذه النفس المتقشفة وتحسس مرارتها بحيث إنه كاد أن يتقمصها في بعض اللحظات.
ليس لدي من التبجح كي أكتب عن أبي العلاء المعري، غير أنه كثيرا ما قيل - وتردد ذلك - إن طه كان أبا علاء آخر! إنسانان غارقان في الليل نفسه، إنسانان يرفضان أيضا قدرا ظالما، إنسانان يملكان وضوحا خارقا وموهبة في التعبير استثنائية، وكبرياء شامخة وجرأة فكر؛ كلاهما يعرفان نفسيهما ويريدان أن يكونا حرين، وكلاهما كان يحاكم العالم دون أي وهم. نعم!
غير أنه لم تكن لدى طه تلك النزعة التشاؤمية السوداء المطلقة التي لا مخرج منها. عندما كان يقول: «وبعد؟» أو «ثم ماذا بعد؟» فقد كان يطرح سؤالا لا يخلو من قلق عن المستقبل الذي لا نسيطر عليه، أكثر مما يطرح شكا يشل الإنسان.
كما أنه لم يكن لديه هذا الاحتقار للناس الذي تغلب على أبي العلاء المعري كي يهرب منهم ولينعزل في وحدة قاسية، حتى ولو كان يشعر في أعماق نفسه بأنه وحيد وحدة لا خلاص منها.
إن أبا العلاء برفضه المتكبر إنما كان يرفض سجن العاهة الذي يواجهه، والعقبات التي اعتبرت مما لا يمكن التغلب عليها؛ كان يرفض الآثام والمظالم، كما كان يرفض الضغوط والإكراهات وكل أنواع العبودية، ولكنه لم يقل هيا إلى الحياة، إلى النضال، إلى الحنان ... أما طه فقد أراد أن يحيا، وأن يحيا بجرأة مستقيما، مستنيرا في داخله، بحيث لم يكن يعطي الانطباع بأنه أعمى. ولقد حدث دون أن يقصد ذلك أن علم كيفية الحياة لأناس آخرين. كثيرون هم الذين قالوا له ذلك، بل إن بعضهم قد كتب له حول ذلك بكلمات رائعة أحيانا، ولا يمكن لي أن أتصور أن هذه القوة التي لا تقهر، هذه القوة الكريمة هي شيء باطل. •••
وقيل أيضا - لكن ذلك يقل أهمية عما سبق - إن «أديب» هي سيرة ذاتية، وهذا غير صحيح إطلاقا؛ فقد أراد طه في هذا الكتاب أن يتحدث عن مصري لم يسبق له أن التقى به فيما أعتقد قبل أن يصبح كل منهما مبعوثا للجامعة المصرية، ولقد عرفته شخصيا في فترة خطوبتنا وزواجنا؛ شابا ودودا لامعا.
والقصة غير كاملة عن عمد؛ فالصبي سقط مريضا، وكان لا بد من ترحيله إلى الوطن. كان الزمن زمن حرب، وقد عرفنا أنه يعيش في قريته، ولم نستطع قط أن نحصل أخبارا أخرى عنه. •••
لدي عدد وافر من صورك وخاصة منها الصور الصحفية التي هي أشد هذه الصور حياة - أنظر إليها مطولا. لكني لا أحتاج إليها لأستعيدك رقيقا جدا، منتصبا جدا، حتى تاريخ إجراء العملية الجراحية في عام 1961 - في هيئتك الرخية، وأناقتك العفوية. هذا التميز الطبيعي الذي أدهش من كان يقترب منك وخاصة الأجانب. إنه أمامي، وجهك الجاد المستطيل ذو اللون الكامد، الهادئ دوما على نحو التقريب، فيما عدا اللحظات التي تقطب فيها الحواجب عند الهموم أو الغضب.
أبتسم إذ أرى الصور التي التقطناها في أثناء الإجازات التي قضينا معظمها مع ولدينا ... وهناك واحدة منها تسلي دوما كل من يراها: كنت ممددة على الرمل، على شاطئ الرملة، وأمينة التي كان لها من العمر أربع أو خمس سنوات آنذاك، كانت قد وضعت قبعتها الشمسية على رأسك.
في حين تبدو مجموعة أخرى منها ونحن نمشي معا. تلك ليست صورا التقطت في أثناء الإجازات فحسب، فقد مشينا كثيرا جنبا إلى جنب! وما أكثر ما يمر أمام عيني اللتين تنظران في ذهول موضعا غامضا، كما لو أن الأمر على شاشة، إطار غامض يبدو فيه ظلانا غير المحددين ... وأنت تستند إلى ذراعي، نتقدم دون ضجيج، كما لو أن أقدامنا لا تمس الأرض.
وفيما عدا ساعات القراءة أو الساعات التي نستمع فيها إلى الموسيقى، هناك اللحظات التي كان الواحد منا خلالها أقرب ما يكون إلى الآخر؛ إذ إنك خلال جزء كبير من النهار تكون مع سكرتيرك، أو في مكتب، أو مع الزوار، أو تقوم بإلقاء محاضرة ما.
هناك صور خاطفة كثيرة حينما تتحدث. كنت خلال فترة طويلة لا تتحدث إلا واقفا، على أنك سواء أكنت واقفا أم جالسا فإنك قليلا ما تتحرك؛ بيد أنك لم تكن جامدا صلبا؛ إذا ما تحدثت جالسا كانت يداك بشكل عام تتشابكان على الطاولة وتبقيان ساكنتين، ومع ذلك فالسكون لم يكن يستمر؛ إذ إن صحفيا إيطاليا كان يراك للمرة الأولى (وكان ذلك خلال أحد اللقاءات في فلورنسا) قد وصفك على هذا النحو:
يبتسم طه حسين حين يتحدث، وينطلق صوته في الهواء انطلاق الموسيقى وعيناه المطفأتان لا تفصلانه عن العالم؛ فهو يتلقى النور واللون والجمال بتحسس خفيف من يده الطاهرة للأشياء المحيطة به.
هل أنا بحاجة للصور كيما أرى ثانية اللطف - نعم، لا أخشى أن أقول اللطف - المهذب الذي كنت تتلقى به زائرا في مكتبك الإداري أو الوزاري أو الشخصي؟ كان لديك هذا التحفظ الذي لا يرد إنسانا، بيد أنه يجعل الجميع على مسافة منك. كان يقال إنك مخيف؛ وهذا حق، كانت لك أحيانا كلمات قاسية؛ لأنها عادلة، لكنه لم يكن لك قط تصرف قاس. وما أكثر ما تعرف أن تكون في أغلب الأحوال قريبا، مستعدا للإصغاء، موحيا بالثقة!
أحب صور السنوات الأخيرة عندما تبدو فيها جالسا. قليلا ما يبدو على وجهك الضيق! أما تلك التي التقطت عند صعودنا أو نزولنا بصعوبة سلالم المجمع، أو ما هو أسوأ منها عندما كنت تحمل خارج السيارة ... أوه! تلك أكرهها وأود لو أمزقها، كنت ستكرهها لو أمكنك أن تراها؛ كان جسدك المرضوض يجر بشكل أخرق. وأنا، أنا التي ثارت في العام الماضي في «ميرانو» حينما رأت عجوزا شبه عمياء تدخل قاعة الطعام تجرها امرأة تصحبها وتمشي أمامها بدلا من أن تمشي إلى جانبها؛ رأيت الشيء نفسه مرة أخرى، ولم يكن ذلك ليسعدني؛ إذ كان يخلف في نفسي دوما آثار إهانة مزدوجة!
كانت سهير تتعجب كلما جاءت زائرة إلى البيت إذ تجد طه دوما لابسا حليقا، عاقدا ربطة عنقه، منتعلا حذاءه (فيما عدا الأيام الأخيرة)، وكانت تقول له: «وبعد ... أنت في بيتك، فلماذا لا تلبس الروب دو شامبر؟»
كان هذا الاهتمام بمراعاة قواعد اللياقة يروق لي، وكنت أتمسك به بقدر ما كان يتمسك هو به، ولقد كان لي هذا الاهتمام بالنسبة إلي أيضا، أنا التي لم ترد أن يقال عنها ذات يوم: «زوجها أعمى، فما أهمية أن تكون بلا هندام ما دام لا يراها!»
لم يكن الخليفة عثمان
5
نظرا لتقشفه يرغب في لبس الثياب الحريرية، وكان طه - الذي كان لأسباب كثيرة يعجب به كثيرا - قد انصاع إلى هذا الوسواس، فرفض دوما أن يلبس أي قميص حريري، ولم يكن يقبل من الحرير سوى ربطات العنق.
وعندما اضطر للتخلي عن الثياب المعتادة، اخترت له «روب دو شامبر» يناسبه، كحلي أو أحمر، ثم لم يتمكن أن يلبس سوى «المنامة» والشال الهندي - الذي كان لفترة طويلة يضعه على ركبتيه - أخذ يلف به كتفيه عندما يستقر في سريره.
لم يكن بوسعه قط أن يقول مازحا، شأنه في الأيام الماضية، عندما يكون في فورة غضب: «سأمزق سترتي!» وهو ما كان يذكرني بأسلوب التوراة، إلا أنه كان يقال آنذاك: «ثيابي!» •••
طه! كانت ضحكتك - على الرغم من التجارب والعقل الذكي - تعبر عن قلبك النقي، ضحكتك المجلجلة الصريحة الواضحة.
وعلى الوجه الذي أحببته، الوجه الذي نظرت إليه طويلا، كان ثمة دموع تغمره في أحيان نادرة، وهو أمر لا يطاق؛ فقد كان قاسيا مؤلما إلى حد يتحطم معه قلبي كلما تذكرتها ... وتأبى الكلمات أن ترد خاطري.
قيل الكثير عن ضحكتك ... أما أنا فإن ما أود لو استطعت وصفه هو ابتسامتك. آه! هناك الكثير من الصور التي تبتسم فيها، وليس خطؤها أنها لم تستطع أن تعكس تماما ابتسامتك الرقيقة الرصينة الناعمة السخرية، أو ابتسامتك البالغة الطيبة إن كنت تريد المساعدة أو المواساة، ابتسامة «تسمع» - كما كانت «دو» تقول - الابتسامات الأخرى، وتعرف أن ترد عليها. كانوا يعرفون ابتساماتك وكانوا يحبونها.
بيد أن أحدا - فيما عداي - لم يسمع أشد الابتسامات تأثيرا، وأعني بها تلك الابتسامة التي كانت تكاد تزهر شفتيك المغلقتين في بعض الأيام التي كنت تجد فيها نفسك مختلطا بعدد كبير من الناس، وبصورة عامة في أثناء حفل استقبال ما. كان يحدث أن يفيض أحدهم أمامك مبالغا في الحديث عن أشياء لا تعرفها ولا تستطيع رؤيتها، دون أن ينتبه إلى صمتك الشارد. وكان يحدث أن بعض محدثيك، ممن يودون التقرب من آخرين يمكن أن يكونوا مفيدين لهم، ويزعجهم ألا تنتبه لوجودهم إحدى الشخصيات ذات المكانة، أو ببساطة إحدى شخصيات الحكومة، فيتركونك وحدك فجأة وسط الجمع. وما كنت لأبتعد عنك قط؛ إذ كنت سرعان ما أهرع إليك لأجدك ساكنا غريبا. كنت تبتسم بهدوء كما لو كنت تبتسم لنفسك؛ إذ إنني أعرف تسامحك المزدري - الذي لم يكن يكاد يلمح - لهذه الهموم الباطلة، لكني كنت أعرف أيضا أنه كان ثمة وراء ذلك جرح ما غير مرئي. ما أكثر ما كنت أحبك تلك اللحظات! •••
ذراعي لن تمسك بذراعك أبدا؛ ويداي تبدوان لي بلا فائدة بشكل محزن، فأغرق في اليأس. أريد عبر عيني المخضلتين بالدموع حيث يقاس مدى الحب، وأمام الهاوية المظلمة حيث يتأرجح كل شيء؛ أريد، أريد أن أرى، تحت جفنيك اللذين بقيا مغلقين، ابتسامتك المتحفظة، ابتسامتك المبهمة الباسلة، أريد أن أرى من جديد ابتسامتك الرائعة.
رامتان، مايو 1976
كان لا بد من حضور مؤنس كي أعجل في إعادة النظر في إقامة جديدة أرغب فيها أكثر فأكثر، فثمة مشروع لجعل «رامتان» متحفا، وقد قبلت بالمبدأ وسط بلبلة الأسابيع الأولى وبعد الصدمة العنيفة إثر حادث سطو مذهل على الدار. لقد وجدت في هذا المشروع تقديرا لطه، وكان هذا تقديرا حقا؛ فكثير من الناس يتمسكون بالمجيء إلى هذا البيت، وعندما أقيمت احتفالات فبراير أراد كافة المشتركين الأجانب الحضور إليه لزيارته، وكنت في منتهى التأثر حينما قمت باصطحابهم عبر الغرف والحديقة، وكانوا هم أيضا متأثرين مثلي.
غير أن الإجراءات التي لا تنتهي أتعبتني؛ فقد باتت الحالة المحزنة التي آل إليها البيت لا تطاق، وقد أصبح مغمورا بالمياه مهملا، خاصة وأنني أعلم أنه إذ سيتحول إلى متحف فإنه لن يشبه الحالة التي كان عليها، ولسوف تختفي الحياة الحقيقية التي دار فيه بذهاب وإياب الموظفين الذين لم يعرفوا عنها شيئا. وفي الوقت نفسه سوف تسيطر على كل شيء إدارة باردة الجمود. لا أريد ذلك؛ فذات يوم سوف تسحب منه كل حياة، ونصف الموت هذا سيكون طبيعيا، ولكنني ما دمت أستطيع أن أجعله يواصل حياته فسوف أفعل ذلك. •••
وصلت الطائرة في الساعة السادسة مساء . ذهبت ليلى وأمينة على الفور إلى دار السيدة العلايلي،
6
في حين تناولت العشاء مع مؤنس ومحمد في المعادي. إنه مؤنس الذي فتح - في ليلة شديدة الظلمة - الباب الذي لا أفتحه إلا في النهار خلال الأسابيع التي قمت خلالها بالإصلاحات. لم أكن لأملك الشجاعة، فيما أعتقد، للمجيء وحدي كي أوقظ الصمت المعذب الذي يغلف البيت والحديقة بعد ذهاب العمال.
بقي معي مؤنس أسبوعين، أعانني خلالهما على ترتيب إقامتي الجديدة في جزء منها، بما أنني أسكن الآن خاصة الطابق الأول، تاركة أبواب ونوافذ الغرف الكبرى في الطابق الأسفل مفتوحة للشمس والحديقة؛ فالأرض الخشبية قد صقلت وأعيد طلاء بعض النوافذ وخصاصاتها؛ هذا كل ما أستطيع أن أفعله الآن، أما الحديقة التالفة فقد بدأت تنبعث من جديد. كان مؤنس يقوم فيها بجولة بعد الظهيرة، فاكتشف عدة مرات وردة قد نبتت بمعجزة، وكانت ساحرة الجمال، فحملها إلي.
ثم رحلا من جديد، فحل الصمت ثانية واستعادتني الوحدة، لكني سأتابع ممارسة العادات التي اعتدنا ممارستها معا؛ فحنانه السابق لا يزال يحيط بي، كما أن أسوأ لحظة قد مرت. وعندما سأعود في الخريف فربما أعثر على متكأ أنا بحاجة إليه، مدركة أنه لا يمكن مع ذلك أن يكون سوى متكأ عابر وهش. هذه العودة إنما هي أولا عودة إليك؛ فغيابك رهيب، لكني أريد أن أتألم من هذا الغياب هنا، في الوقت الذي أكون فيه في مصر. •••
أقول: أريد أن أعيد الحياة إلى «رامتان»! إنه وهم؛ فقد كنت سبب جهودي، ومن أجلك إنما جعلت الشمس تدخل والورود تزدهر. كل خطوة، كل باب مفتوح، كل نظرة على قطعة أثاث تستدعي ماضيا لا أريد أن أصدق أنه ماض!
إننا نتكئ على الذكريات؛ إذ لما كنا نستشعر حاجة عميقة لئلا يموت أولئك الذين أحببناهم، فإننا نبعثهم عبرها ثانية، ولكيلا يتخلوا عنا، فإننا نجعلهم يشاركوننا حياتنا المستمرة. وإنه لوهم آخر أيضا! فالحياة تتغير كل لحظة، كما أنهم يبقون غرباء عنها، فإن رأونا فإنهم لا يروننا بين الأشياء وفيما بين جدران غرفنا ، ولا في الأحداث الجارية بعيدا عنهم. والآن، ما أكثر الأشياء التي تحيط بي، ومع ذلك فلم تعد هي الأشياء التي عرفها هو، وإنه لمن العبث، بل لمن الغرارة إن لم أذكر العمر الذي بلغته، لكني لا أحب الثياب التي لم تكن الثياب التي كنت ألبسها إذ كان حيا.
أفكر - وما أكثر ما أفكر! - في النساء اللواتي غدون وحيدات وهن ما زلن في ريعان الصبا؛ أفكر في كل ما لم يعرفه الرفيق الراحل الذي سيتسع دون توقف ... آه! أعرف جيدا أن أولئك الذين تحابوا يتواصلون على نحو آخر، لكن الأمر مؤلم بعد كل حساب.
أدخل وألتقي بذكرى سنواتنا الأولى، كنت - مذ نجتاز باب المدخل إثر عودة من رحلة ما - تعانقني في البهو ... تلك كانت قبلة العودة؛ كانت حارة، ممتنة، مرتعشة قليلا لفكرة عودتنا سالمين.
ثم أنظر إلى الأريكة البيضاء في البهو؛ فالتعب قد حل، وكان علي إثر إحدى عوداتنا أن أمددك عليها، وأن أعتاد القيام بذلك - فيما بعد - فور نزولنا من السيارة. •••
رامتان: حزينة ومرحة؛ مرحة بسبب حماستنا كلما أتينا إليها، والكتب تبدو أجمل على رفوف مكتب أكثر اتساعا. صحن الدار كان أليفا، وكنا ننتظر بفراغ صبر أن يخضر العشب الأول، وكنا نرقب النمو الشديد البطء للأشجار الجديدة، وكل ما حواه هذا البيت من خير: الأطفال، والأصدقاء الذين كانوا يبقون فيه، اللهب في المدفأة، والبيانو الذي كان أحدهم يفتحه بين الحين والآخر.
ثم ... سرعان ما حل القلق على حياتك، وربما على صفاء ذهنك.
ثم ... الراحة؛ فقد استعيدت الصحة تقريبا، ولا تزال أمامنا سنوات عدة نحياها معا بصورة طبيعية.
ثم أخذ يتوالى تخليك عن أشياء كثيرة، وكآبتك المتزايدة، وانحراف مزاجك المتصاعد. وما أكثر ما كنا نبتهج للنصر الذي نحققه إذا ما استطعت المشي من غرفتك حتى الاستوديو! وما أشد قنوطنا حين نلمح أنه لا بد لك، بعد خطوات عدة تقوم بها، أن تتمدد بسرعة على أقرب أريكة! وما أشد حزني في الأيام الأخيرة حين انتبهت إلى أنك لم تعد تسمع قط ما كنت أقرؤه لك ... الموسيقى وحدها ...
لست أملك الشجاعة بعد لأفتح «الحاكي»، فأنا لا أسمع أسطواناتي إلا على «الحاكي» الخاص بي. هذا الراديو، أنظر إليه، وها أنا ذا أتذكر شيئا لا أهمية له، لكنه استثار حنانك. لم تكن مريضا جدا ذات مساء حين كانت تذاع تمثيلية مستوحاة من كتاب «الأيام»، وعندما انتهت التمثيلية رن الهاتف، وأجبت؛ كان ثمة صوت طفولي خجول على الطرف الآخر من الخط يقول: «أنا الذي قمت بدور طه الصغير.» كم كان هذا الطفل فخورا ومتأثرا!
إلى هذه الغرفة، غرفتك، أحمل صينية غدائي. أولم نكن نتناول على هذا النحو وجباتنا طيلة ثلاثة أعوام؟ ... تبدو لي هذه الغرفة وكأنها تملك شيئا ما ... شيئا سأقول إنه رسمي (إن لم أكن أرفض المغالاة) ... ففيها تم أكبر سر، سر الموت. أمن الممكن التفكير أنه لم يبق من هذا السر شيء؟
كل شيء يزعزعني، كل شيء يختلط، يتشابه ... ينتزعني من الحاضر؛ أأنا ضعيفة إذن؟ أأنا عاجزة عن مواجهة الفراغ والأيام الخوالي؟ ... كنت صلابتي، كنت تحميني، وها أنا ذي بلا دفاع! ... •••
شجرة الفلفل التي تصل حتى الشرفة، والتي أردت أن تمنحنا أغصانها شيئا من الظل، نشرت أمس رائحتها القوية المرة قليلا، أما النجوم التي انحجبت كل أيام الخماسين
7
فقد عادت إلى الظهور، لتختفي بين حين وآخر وراء غيوم خفيفة. كنت أنظر إلى الليل من الشرفة كما كنت أفعل في الماضي، لكن نظرتي آنذاك كانت تقف أيضا عند باب الشرفة الزجاجي، عليك أنت، وأنت شبه نائم. أما الآن، فالخصاص مغلق، ولا أنظر إلا إلى اللمعان الذي يتسرب من خلال شقوقه، ثم لا أطفئ هذا المصباح إلا في اللحظة التي أطفئ فيها مصباح غرفتي. تضيع نظراتي في هذه السماء، سماء مصر الفسيحة المنيرة؛ إنها سماء بعيدة، وليس ثمة سوى كتل من الظلال العالية لأشجار الكزورينا، وأغصان مفرغة ينساب خلالها الليل الأزرق وبعض الأضواء السحيقة البعد؛ بحيث لا يمكن أن تكون إلا مجرد أضواء وليست أضواء غرف مسكونة. لا شيء بشريا يرى، لا شيء يتحرك.
صمت رائع ؛ أنت وأنا في هذه العزلة التي أباركها. خير خارق يفوق الوصف. إنني لاهثة إلى حد ما؛ أتنفس بعمق، وبكل قواي أريد أن أتخلص من الضيق الذي يشلني؛ أود الذهاب نحو شيء فسيح، وبرغم توتري أتطلع نحو مدى أدرك استحالة الوصول إليه ... أنا الضعيفة التافهة ... وأنظر إلى هذه السماء بشغف.
تعالي، تعالي، أنت أيضا! ...
Viene, viene, anche lei!
يعز علي دوما هجران طريق ما. كنت أود لو أن الطرق لا تنتهي، وما أشد ما يحزنني ترك قطار أو مغادرة سيارة، وأذكر أن العزيز لطفي باشا كان يتعجب من ذلك، ولعله كان يفكر: «أن يتابع المرء طريقا ما بلا نهاية ... ولكن، للذهاب إلى أين؟»
ها أنا ذي على نهاية طريق، ذلك الطريق الطويل الذي اجتزناه معا وحدنا، وها نحن قد اجتزناه معا مرة أخرى، لكن الدرب لا يمتد أكثر من ذلك، ولا بد من الوقوف؛ فهو درب لا يمكننا أن نجتازه ثانية. لا بد من وداعه، وإني لأوجه له نظرة عرفان أخيرة. حبيبي ...
ابقي، لا تذهبي، سواء خرجت أو لم أخرج، أحملك في، أحبك. ابقي، ابقي، أحبك. لن أقول لك وداعا، فأنا أملكك، وسأملكك دوما. ابقي، ابقي يا حبي.
منذ أربعة وخمسين عاما كتبت لي ذلك!
رامتان، أكتوبر 1976
تذييل: تأملات حول نص، وحياة، وعالم
تنبه سوزان طه حسين في الصفحات الأولى من كتابها «معك»: «وإنما لكي آتي إليك أكتب وأتابع كتابة كل ما يطوف بقلبي»، صرخة حب حقيقية نحو من تناديه بعد قليل «صديقي»، و«بالمعنى الذي أعطيه لهذه الكلمة؛ صديقي الوحيد.» هذا الكتاب الذي كتب لكي يتجنب موت الحبيب، هذا الكتاب ذو النبرات المؤلمة أحيانا؛ هو مع ذلك، وقبل كل شيء، كتاب حياة.
فهو شهادة مثيرة حول الحياة الفكرية والفنية والسياسية لمصر من العشرينيات إلى الستينيات، في قلب مجتمع عالمي كانت فيه اللغة الفرنسية لغة النخبة المفضلة.
وهو شهادة حميمية أيضا، حول حياة رجل وامرأة كان يمكن أن يفصل بينهما كل شيء؛ الثقافة والدين والجنسية والعائق، التقيا يوما، وتزوجا، وعاشا، متحدين بثبات، على الرغم من كل شيء ، وربما بفضل كل هذه الاختلافات المعتمدة التي صارت وثاق حبهما.
وكذلك شهادة نادرة، لكنها ليست معزولة، حول لقاء فرنسية ومثقف مصري جاء يتابع دراسته في فرنسا؛ قبل سوزان طه حسين، ومنذ إرسال أول بعثة طلبة مصريين إلى فرنسا من قبل محمد علي عام 1826، جاء عدد من الشباب المصريين، أطر مصر الحديثة للمستقبل، للقيام بدراساتهم في الحقوق والطب والآداب، في جامعة مونبلييه أو جامعة باريس، وعادوا إلى بلادهم مع زوجة فرنسية. عرف بعض هاتيك النساء الشهرة، مثل أوجيني لوبران (1878-1908)، زوجة حسين رشدي باشا الذي أدى بعد ذلك دورا سياسيا هاما (فقد كان رئيس وزراء من أبريل 1914 إلى أبريل 1919)، قبل أن ينهي حياته المهنية رئيسا للجنة الثلاثين - المكلفة من قبل الملك في أبريل 1922 بكتابة الدستور المصري الجديد. كانت أوجيني لوبران تقيم بالقاهرة صالونا يرتاده رجال ونساء يريدون النقاش حول موضوعات الساعة، ولا سيما مكانة النساء في المجتمع المصري. وفي هذا الصالون إنما تلقت هدى شعراوي - التي لعبت مدام رشدي حتى وفاتها عام 1908 دور الأم البديلة بالنسبة لها - جزءا هاما من تكوينها كمناضلة نسائية. كتبت السيدة رشدي تحت اسم ريا سليمة كتابين تناولا المرأة المصرية: «حريم ومسلمات مصر (رسائل)
Harems et musulmanes d’Égypte (Lettres) »، ويقع في 336 صفحة، وطبع بباريس حوالي عام 1900 لدى منشورات
Félix Juven ؛ وكتاب «المطلقات
Les Répudiées »، الذي طبع بباريس عام 1908 لدى الناشر المذكور نفسه. بعد السيدة رشدي، هناك فرنسية أخرى؛ جان بويش داليساك، تزوجت الدكتور سليم بيك فهمي - الذي التقته ثم تزوجته عام 1879 بمدينة مونبلييه - كتبت تحت الاسم المستعار جيهان ديفري عددا من المؤلفات تنتمي إلى السيرة الذاتية وإلى أدب الرحلات، أشهرها «في قلب الحريم
Au cœur du harem »، الذي نشر لدى
Juven
عام 1910، كما كتبت كذلك روايات تاريخية وروايات اجتماعية. كانت تتعاون مع مجلة المصرية
L’Egyptienne ، واهتمت بصورة خاصة بالعلاقات بين حركة السان سيمونيين والنساء.
1
كما أنه أخيرا شهادة حول الصحبة الفكرية والعلاقة الغرامية بين امرأة بصيرة ومثقف أعمى لا نعرف لها مثيلا؛ فقبل وبعد سوزان طه حسين عاشت نساء أخريات بالطبع هذا النمط من الاتحاد؛ فهناك في القرن الثامن عشر إيميه لولان، زوجة عالم الحشرات السويسري الأعمى فرانسوا هوبير؛ وفي القرن التاسع عشر جولي دو كيرانجال، زوجة المؤرخ الفرنسي أوجستان تييري، الذي صار أعمى ومشلولا بالتدريج؛ وفي بداية القرن العشرين، لويز بوترو، زوجة المثقف والمحسن الكبير الأعمى بيير فيللي، المعروف عالميا بسبب مؤلفاته عن مونتيني والكتاب الفرنسيين في عصر النهضة؛ وأخريات كثيرات. لكن لم تترك أية واحدة منهن على ما نعلم شهادة عنه؛ ربما بحن بهذه التجربة في رسائل أو في كتابات حميمية لم تصل إلينا. أشارت المؤرخة ميشيل بيرو حول هذه النقطة إلى الصعوبة التي يمثلها - بالنسبة إلى مؤرخ النساء أو مؤرختهن - «امحاء الآثار، العامة منها والخاصة»
2
لهذا التاريخ؛ فكثير من النساء فضلن القضاء على دفاترهن الخاصة ورسائلهن بدلا من تركها عرضة للامبالاة ولعدم فهم - إن لم يكن لسخرية - أحفادهن. وافترضت كذلك أن هذا «الحكم الهائل بالموت الذي قضى على القسم الأعظم من كتابات النساء الخاصة» أمكنه أن يكون «استسلاما لنفي الذات الذي هو في قلب ضروب التربية النسائية، الدينية منها والعلمانية.»
3
وحول هذه النقطة كادت سوزان من ثم ألا تخرج على التقليد كليا، هي التي كانت عادتها المزعجة أن تمزق الرسائل والأوراق، والتي رفضت عام 1951 بصورة قاطعة أن تتكلم عن نفسها إلى صحفية من صحيفة
Le Progrès égyptien
جاءت تسألها: «حين نملك سعادة أن نعيش في ظل رجل عظيم، أرى أن علينا أن نتضاءل كثيرا، وأن نساعده بمقدار ما تتيحه لنا إمكاناتنا.»
4
هذا فضلا عن أن عنوان الكتاب نفسه، «معك»، يقول بوضوح إنها لا تريد كتابة «مذكراتها» - ومن الممكن ملاحظة «صمتها» في هذا النص إزاء نفسها وطفولتها ومسارها الفكري الخاص بها قبل أن تلتقي طه - ومع ذلك، يذكر مؤنس كلود طه حسين في «ذكرياتي» أنها بعد شهادة الدراسة الثانوية «كانت تعد نفسها في مدرسة «سيفر
Sèvres » كي تصير معلمة.»
5
أسرة وطفولة بورجونية
إذ انطلاقا من إشارات شديدة الدقة، خاصة بالأسرة وبأماكن طفولتها، قدمتها سوزان في كتابها، واستكملتها «ذكريات» ابنها، إنما توصلنا إلى أن نوضح جزئيا - لقاء بحث صبور جرى بمعونة مسئولين عن الأرشيف ، ومكتبيين في الكوت دور، والهيرو، والأرشيف القومي، وإدارة ثانوية فنلون بباريس - ما كانته بيئتها العائلية، وطفولتها وحياتها المدرسية.
ولدت سوزان طه حسين وسميت: سوزان، جولي، هيلويز بريسو، يوم 26 أبريل 1895، بلوزيني-سور-أوش، في الكوت دور، وتم تعميدها يوم 19 مايو التالي على يدي خالها، الأب جوستاف فورنييه - «الخال رئيس الدير» الشهير والمذكور عدة مرات في الكتاب.
6
وكان راعيها وراعيتها على التتالي: نقولا بيير فورنييه جدها لأمها، وإيلوييز بريسو (المولودة لورو)، جدتها لأبيها - التي كانت بكر إخوتها الأربعة، منهم: الأصغر، أختاها، ماري فيليبين «العمة ماريا»، وآن بالمير «العمة بالمير»، المذكورتان في كتاب سوزان طه حسين.
عند ولادة سوزان، كان أبوها ألبير فيليكس آندوش بريسو - وقد بلغ الخامسة والعشرين من عمره - يمارس مهنة المحاسبة، أما أمها آن مرجريت بريسو، المولودة فورنييه، وعمرها أربعة وعشرون عاما، فكانت «بلا مهنة». تزوج ألبير ومرجريت يوم 26 مارس 1894 بلوزينيي؛ حيث كان والد ألبير، لازار-فيكتور بريسو، قد سمي فيها لتوه معلم مدرسة ابتدائية، وحيث كان والد مرجريت، نقولا بيير فورنييه، مصرفيا في بلينيي سور أوش، وهي قرية تقع على مسافة تقل عن 2كم من لوزينيي.
بعد ثلاث سنوات، يوم 19 أغسطس 1898، ستولد بقرية بلينيي أختها ماري أندريه التي تتكلم عنها في عدة مناسبات في كتابها، وسوف تعمد فيها بكنيسة القرية يوم 22 سبتمبر التالي، مع راع وراعية هما الأب جوستاف فورنييه الذي كان آنئذ «خوري سيفر»، وماريا لورو «مديرة مؤسسة بسومور آن أوكسوا». في ذلك الوقت كان ألبير بريسو يمارس مهنة الحسم المصرفي
7
ببلينيي؛ حيث أقامت الأسرة اعتبارا من ذلك التاريخ.
بفضل تحرينا في سجلات الأحوال المدنية وإحصاءات السكان ومختلف الوثائق المحفوظة في أرشيف مديريات الكوت دور، يسعنا التأكيد أن والدي سوزان وأندريه ينتميان إلى نخبة صغيرة محلية، بدأت منذ نصف قرن عملية صعود اجتماعي طالت أجيالا عدة، عن طريق السير بصورة أساسية في طريقين: التعليم والتجارة - وبصورة أخص تجارة المال.
من ناحية الأب، ولد لازار فيكتور بريسو، جد سوزان وأندريه، عام 1843 في موتييه سان جان، لأسرة حجارين نشأت في سانتينيي، في اليون (آل بريسو)، وفي موتييه سان جان (آل بريور)، ربما كانوا يعملون في مقالع الحجارة الكبرى بأنسترود - الواقعة على مسافة متساوية من القريتين - ولكنهم كانوا في بعض فترات السنة يهاجرون إلى باريس للعمل فيها في بناء العمارات، كما تشهد على ذلك مثلا «الجوازات من أجل الداخل» الخاصة بجان بريور (جد لازار فيكتور لأمه) التي تنحصر تواريخها بين 1825 و1834،
8
ومع الأيام صار آل بريسو وآل بريور من «الملاك».
9
ومن ناحية أخرى، فقد أشير إلى والد لازار فيكتور، فرانسوا أندوش بريسو، الذي كان «حجارا» عند زواجه مع بولين جابرييل لازارين بريزر - المسجل عام 1942 في موتييه سان جان
10 - بوصفه «متعهد أشغال» في سجل وفاة حماه وعمه بالتصاهر، حيث سجل اسمه شاهدا. وأخيرا، سجلت صفة «ملاك» في عقد زواج ابنه مع ماري آن إيلوييز لورو، يوم 4 يونيو 1866، ثم إننا نجده عام 1870 في قائمة الموقعين على النداء من أجل دعم النظام الإمبراطوري،
11
في حين أن الحجارين قديما وسواهم من العمال المهاجرين من موتييه سان جان والمعروفين بنزعتهم الجمهورية كانوا قد عارضوا انقلاب عام 1852.
من الممكن أن نلاحظ أثناء قراءة سجلات الأحوال المدنية لأجداد وأجداد أجداد سوزان لوالديها سهولة تواقيع عمال البناء هؤلاء، وهي سهولة تشهد على ممارسة عادية للكتابة (في حين أن النساء لم يكن يعرفن التوقيع)، وإذا تخلى فرانسوا آندوش بريسو متأخرا عن المثل العليا الديمقراطية الاجتماعية لأقربائه، فقد ظل محافظا على الإيمان الجمهوري بالتعليم عاملا في الارتقاء الاجتماعي؛ ولهذا فقد اهتم بتعليم ابنه الوحيد كي يسمح له بالخلاص من مهن البناء القاسية التي مارسها أجداده منذ ثلاثة أجيال.
وهكذا بعد حصوله على شهادة الكفاءة في أوكسير عام 1862، صار لازار فيكتور معلما مساعدا عام 1863، ثم معلما عام 1865.
12
وفي رسالة طلب عمل موجهة إلى مفتش أكاديمية ديجون، غير مؤرخة، لكنها ربما تعود إلى بداية عام 1863، يشير إلى «التضحيات» التي قام بها أبواه لإتمام دراساته.
13
سيولد من زواجه بإيلوييز لورو ولدان، ألبير فيليكس آندوش، المولود يوم 13 أغسطس 1869 في كورسيل فريموا، حيث سيولد أيضا أخاه ، فيكتور هنري جابرييل يوم 19 مايو 1875، وهو «العم هنري» الذي تتكلم عنه سوزان في كتابها.
14
عند ولادة سوزان عام 1895، كان لازار فيكتور معلما رسميا في لوزينيي سور أوش منذ سنتين - بعد أن مارس المهنة في عدة قرى أخرى في الكوت دور - وقد أنهى مساره المهني عام 1903، بعد أربعين عاما من الخدمة. استقر آنئذ في روجمون، على حدود اليون، حيث ولدت زوجته - وهي نفسها من أسرة ملاك زراعيين،
15
آل لورو-موريل. انتخب لازار فيكتور عمدة مدينة روجمون عام 1908، وبقي حتى عام 1912،
16
بعد أن حصل على تصنيف كنيسة روجمون واحدة من الآثار التاريخية. في عام 1910 تلقى وسام الأكاديمية، وكان بين عامي 1911 و1913 أحد أعضاء الجمعية الأثرية والسيرة لمدينة مونتبار؛
17
لقد حقق إذن طموح أبويه إزاءه حين صار من الوجهاء المحليين. توفي لازار فيكتور بريسو بروجمون يوم 31 يناير 1919، وتبعته زوجته، التي توفيت يوم 25 سبتمبر من العام نفسه، ولا شك أن هذا ما يمكنه أن يفسر لماذا لا تتكلم سوزان في كتابها عن جديها لأبيها اللذين عرفتهما مع ذلك، لكنهما لم يكونا على قيد الحياة عندما قامت برحلتها إلى بورجوني عام 1922.
على أنها تتكلم بالمقابل بعطف واحترام عن أخت جدتها «العمة ماريا»، التي عرفت نفس نوع الارتقاء الاجتماعي الذي عرفه صهرها المعلم، ولكن في إطار التعليم الخاص. لقد رأينا في هامش النص (هامش 93، [فصل معك]) أن ماري فيليبين لورو كانت تدير في سومور آن أوكسوا ميتم فييي، وهي منشأة خيرية علمانية تأسست عام 1880 بفضل إرث شخص يدعى جان فيكتور آدولف دو فييي، لتستقبل «عشرين فتاة فقيرة من مدينة سيمور، يتراوح عمرهن بين سبعة أعوام وواحد وعشرين عاما، ويتلقين تعليما وتربية مناسبين.»
18
كان على الطالبات الداخليات أن يتدربن خارج الأوقات المخصصة للتعليم المدرسي على «كل أشغال الخياطة، والغسيل، والمطبخ، والبستنة، والزراعة، وتربية المواشي، بطريقة تجعل منهن اختصاصيات في تدبير المنزل».
19
بعد أن دخلت إلى هذه المنشأة بوصفها نائبة مدير عام 1880، حين كانت في الواحدة والثلاثين من عمرها، كلفت ماريا لور بهذه الصفة «بإدارة الأعمال اليدوية للطالبات الداخليات في المشغل والمغسل والملابس »
20 - قبل أن تسمى مديرة عام 1892 - لكنها لم تكن معلمة فيها قط؛ فالنظام الداخلي كان يقضي في الحقيقة بأن تدرس الطالبات في «المدرسة القروية العلمانية لمدينة سومور»،
21
وأنه في حالة استحالة ذلك يمكن أن تفرز معلمة «تحمل شهادة الكفاءة»
22
إلى المنشأة - وهو ما حدث بعد ذلك. لا نعلم شيئا عن حياة ماريا لورو قبل وصولها إلى معهد فييي، ولا عن تكوينها الفكري، ومن الممكن أن يقرأ على استمارة ترشيحها للسعفات الأكاديمية
23
التي حصلت عليها في يناير 1909 تحت عنوان «الدرجات الجامعية»، إشارة «لا شيء»، وهو ما يمكن أن يدل على أنها لم تكن تحمل شهادة الكفاءة.
24
أيا ما كان الأمر، فبعد وفاتها التي وقعت بسيمور يوم 18 نوفمبر 1925، اشتركت صحيفة
Le Réveil de l’Auxois ، المحافظة والدينية، وصحيفة
L’Indépendant de l’Auxois et du Morvan
الجمهورية، في تكريم جماعي لهذه المرأة المثالية، حين أبرزت الأولى «المشاعر المسيحية العميقة للآنسة لورو»،
25
والثانية «إخلاصها للتربية الشعبية» الموضوع في خدمة مسار مهني «كرس كله للخير العام».
26
هل ثمة حاجة للإشارة إلى أن هذا الاعتراف الاجتماعي - إذ جذبت الجنازة جمهورا كبيرا ضم كل شخصيات المدينة
27 - ينطوي على مغزى كبير، لا سيما وأنه موجه إلى امرأة وإلى عزباء. من الممكن أن نتصور أن ميزاتها الفكرية والعاطفية وتفانيها في العمل الذي حملت أعباء مسئوليته جعل منها مثالا يحتذى أوحى لسوزان بالرغبة في أن تمارس مهنة التعليم العام النسائي.
أما من ناحية الأم، فإن أسرة سوزان تنحدر من شاتيونيه ومن منطقة بون؛ ولد جدها نقولا بيير فورنييه، وهو السابع من اثني عشر أخا - توفي ثلاثة منهم في عمر مبكر - في 10 سبتمبر 1828 بمدينة فولين-لي-تامبلييه، وهو من أسرة حرفيين ريفيين وملاك زراعيين، وكان جده
28
وأبوه
29
وأحد أعمامه
30
صانعي عجلات في غورجي لو شاتو وفي فولين، وكانوا أحيانا يمارسون إلى جانب هذه المهنة مهنة الملاك الزراعيين، بل حتى مهنة الفندقي فيما يتعلق بأبيه خلال سنوات 1836-1838.
31
أما أمها، آن جايو، فكانت ابنة مالك مزارع من شامبان، الواقعة على مسافة خمسة عشر كيلومترا من فولين، على تخوم منطقة أوت مارن .
تزوج نقولا بيير فورنييه يوم 4 يوليو 1858 بمدينة بلينيي سور أوش، جولي مادلين شابوي، المولودة يوم 25 مارس 1836 وسط أسرة استقرت منذ عدة أجيال في وادي الأوش. كان والد جولي، أنطوان شابوي، وجدها جان - وهو نفسه ابن معماري - كلاهما نجارين بمدينة بلينيي حيث كانت تتواجد الورشة العائلية. أما أمها، مرجريت جوانيه، فكانت ابنة حارس غابات في فوفي سور أوش. كان لجولي أخت تدعى مرجريت، ستتزوج كاتب محكمة، وستصير تاجرة أقمشة في بلينيي.
عند ولادة سوزان، كان جدها وجدتها، أنطوان شابوي ومرجريت جوانيه «الملاكين في بلينيي سور أوش»، لا يزالان على قيد الحياة. سيتوفى أنطوان شابوي يوم 1 نوفمبر من السنة نفسها، في سن السادسة والثمانين، لكن زوجته ستعيش سنتين أخريين حتى بلوغها سن السابعة والثمانين. بوسعنا أن نتخيل إذن سوزان الصغيرة على ركبتي والدة جدتها التي كانت تعيش وحدها في مسكنها الواقع في 7 شارع الكنيسة.
كان نقولا بيير فورنييه شخصية.
ففي عام 1853، وعلى عقد زواج أخيه نقولا ليون، صانع عجلات في فولين، أشير إلى نقولا بيير - الذي كان شاهده - بوصفه «عاملا بلا اختصاص».
32
بعد خمس سنوات، من الممكن أن نقرأ على وثيقة عقد زواجه أنه «طالب صيدلي مقيم بباريس شارع دروو رقم 15»،
33
على أن عقد زواجه يشير مع ذلك إلى أنه يقيم «منذ أيام قلائل في بلينيي سور أوش».
34
في عام 1859؛ أي السنة التالية لزواجه، افتتح تجارة «بقال-عطار» في بلينيي،
35
وبعد عدة سنوات، في يونيو 1866، التمس وحصل على رخصة مكتبي «مكان السيد مينيون، المستقيل»؛
36
وهكذا جمع إذن إلى مهنة بائع الكتب مهنة الصيدلاني. وفي عام 1886، سجل على القائمة الاسمية لسكان قرية بلينيي، ثم على صك وفاة زوجته يوم 19 يونيو 1892 مهنة الحسم المصرفي، ثم مهنة «المصرفي» إضافة إلى مهنة «التاجر» - الوحيدة المسجلة خلال إحصاء 1876. وأخيرا، واعتبارا من 1894 (صك ولادة حفيدة ماري مادلين فورنييه، يوم 13 مارس، وعقد زواج ابنتها آن مرجريت وألبير بريسو يوم 26 مارس) ستكون مهنة «مصرفي» الوحيدة المشار إليها في الصكوك الرسمية - وخصوصا صك ولادة سوزان، يوم 26 أبريل 1895.
لا نعلم كيف تمكن نقولا بيير من العمل بتجارة المال، نستطيع مع ذلك أن نتخيل أن نشاطاته كبقال وكبائع كتب قادته إلى أن يدين زبائنه، وأن هذا النشاط بوصفه دائنا حضه شيئا فشيئا على فتح مكتب للقطع، مشاركا شخصا يحمل اسم أدولف فيليبير مونيو، وهو مراقب أعمال في قصر آرجيلي؛ هكذا صار مصرفيا بالتدريج دون أن يتخلى بصورة حاسمة عن نشاطاته التجارية، كما يشهد على ذلك تطور «صفاته» المهنية مع الأيام - حتى إحصاء عام 1896؛ حيث ظهرت مهنة «المصرفي» لآخر مرة في وثائقنا. الواقع أن «شركة المصرف التي أنشئت بينه وبين آدولف فيليبير مونيو تحت الاسم التجاري فورنييه-مونيو»،
37
قد صفيت في عام 1897؛ وبتاريخ 14 فبراير 1899، أشار سجل واردات الصكوك المدنية العامة في بلينيي سور أوش مرة أخرى «نقل
38
ديون» قام به «فورنييه نقولا بيير، ملاك في بلينيي سور أوش، إلى بريسو ألبير، العامل في مهنة الحسم المصرفي في بلينيي سور أوش».
39
وهذا آخر صك رسمي عثرنا فيه على أثر لنقولا بيير فورنييه، رغم الأبحاث المضنية في أرشيف دوائر الكوت دور؛ وليس لدينا خصوصا أية فكرة عن تاريخ ولا مكان وفاته.
40
أيا ما كان الأمر، فقد صار «العامل اليدوي» ذو الخمسة والعشرين عاما، وابن أسرة كبيرة من الحرفيين الريفيين والمزارعين، خلال أربعين سنة، وبفضل عقليته المغامرة وموهبته الأكيدة في العمل التجاري؛ «بورجوازيا صالحا» على الصعيد المحلي. ولد له من زواجه بجولي مادلين شابوي ثلاثة أطفال: جوستاف أنطوان إدوار، المولود يوم 17 يونيو 1860 في بلينيي، الذي سيرسم كاهنا عام 1833؛ وإدوار ليون شارل، المولود يوم 10 مارس 1865، والذي سيصير «صيدلانيا» و«فوتوجرافيا» (لنفهم من ذلك أنه كان يبيع معدات من أجل التصوير الفوتوجرافي) في بلينيي، حيث سيتزوج عام 1892، بعد عدة أشهر من وفاة أمه؛ وأخيرا آن مرجريت، المولودة يوم 17 يونيو 1870، التي ستتزوج ألبير بريسو يوم 26 مارس 1894، في لوزينيي سور أوش.
في ذلك الوقت، صار بوسع نقولا بيير - الذي كان عقد زواجه عام 1858 ينص على أن «الزوج» (أي هو نفسه) «يحدد مهرا قدره خمسمائة فرنك، مما وفره.»
41 - أن يهب ابنته ما قدره 15000 فرنك «من إرثه القادم (...) تدفع عند الاحتفال بالزواج»،
42
ينضاف هذا المبلغ إلى «إسهامات المستقبل»؛ جهاز عروس بقيمة 4000 فرنك، وحقوقه في ميراث أمه المقدر ب 7800 فرنك، وملك الرقبة لبيت في بلينيي في الساحة بقيمة 10000 فرنك، «يطرح منه دين بقيمة 8333,34 فرنكا، ويبقى منه 1666,66 فرنكا.»
43
كانت الهبة التي أعطيت إلى ألبير من قبل أبويه أقل، لكنها مهمة، بما أنه تلقى 10000 فرنك نقدا من إرثه القادم، «تدفع خلال سنة الزواج بمقدار تحقيق الأموال»، وهو مبلغ ينضاف إلى «إسهامات المستقبل»؛ أي «جهاز العروس والمجوهرات» بقيمة 2400 فرنك.
44
على الصعيد المادي، بدأت حياة ألبير بريسو ومرجريت فورنييه الزوجية إذن في ظل طالع سعيد؛ كان ألبير يمارس آنئذ مهنة المحاسب؛ لا نعلم أين تعلمها، ولا ضمن أي شروط يمارسها، كل ما نعلمه، بفضل ملف استخدامه العسكري، أنه في عام 1889، تماما قبيل تجنيده، كان «موظف جباية» - وهو ما يسمح لنا أن نتصور أنه كان مكرسا لمهنة موظف صغير، كي يكون مثل أبيه. في سبتمبر 1891؛ أي بعد أقل من عام على تجنيده في فوج المشاة 117، سمح له تكوينه كمحاسب أن ينتقل إلى «القسم 23 الخاص بالمستخدمين والعمال العسكريين في الإدارة»، حيث بقي حتى نهاية خدمته العسكرية، يوم 17 سبتمبر 1893، وقد صار له خلالها أصدقاء، بما أن أحد شهود زواجه كان من يدعى «كورمان لويس كليمان جييوم، ضابط إدارة، ومساعد أول في مكاتب الخدمات العسكرية، المقيم بفانسين.»
45
عند ولادة سوزان، كان ألبير لا يزال محاسبا، والزوجان الشابان يسكنان لوزينيي سور أوش، حيث يقيم أبوا ألبير. في السنة التالية، وعلى القائمة الاسمية لإحصاء السكان عام 1896، سجلت أسماء ألبير ومرجريت وسوزان في بلينيي سور أوش، حيث كانوا يسكنون بيتا يقع في 10 الميدان العام، «الميدان الكبير» بيبلينيي، مع خادمة شابة، بيرت أليس شوفاسو، لها من العمر خمسة عشر عاما. لا بد أنه البيت الذي اعتبر في عداد «الإسهامات القادمة» على عقد زواج ألبير ومرجريت. كان ألبير بريسو في السادسة والعشرين من عمره يمارس آنئذ مهنة «الحسم المصرفي» في بلينيي.
لا نعلم للأسف لماذا ولا كيف انتقل ألبير بريسو من مهنة المحاسب إلى مهنة «الحسم المصرفي»؛ ففي عام 1896 لم يكن نقولا بيير فورنييه قد صفى تجارته في الحسم المصرفي. لا يمكننا في الوضع الحالي لمصادرنا أن نفكر أنه قد تنازل عنها لصهره،
46
إلا أنه على ما يبدو قد لعب على كل حال دورا في تحوله المهني. مهما كان الأمر، كان أبوا ماري أندريه حين ولدت يوم 19 أغسطس 1898، في طريقهما ليصيرا مثل جدها «بورجوازيان صالحان»؛ يبقى أن شاهدي صك الولادة - وهما على التتالي خالها إدوار ليون شارل فورنييه، صيدلي، وعمره ثلاثة وثلاثون عاما، وجان ماري مولينييه، كاتب عدل في بلينيي سور أوش، وعمره اثنان وثلاثون عاما - وجيهان شابان في هذه القرية الريفية التي لا يتجاوز عدد سكانها ألف نسمة، والتي كانت فيها أسرة فورنييه-شابوي محترمة ومعروفة. من الممكن أن نتخيل أن سوزان كانت ضمن هذه الشروط وعمرها ثلاث سنوات تعيش طفولة سعيدة خلية البال، محاطة بحب والديها وجديها.
زمن العذاب
انقلب كل شيء على عقبيه في مارس 1900، حين لم تكن قد تجاوزت الخامسة من عمرها؛ ففي 7 مارس، في الواقع، «بموجب حكم صدر بناء على طلب من الدائن، أعلنت محكمة التجارة في بون المدعو بريسو، العامل في مهنة الحسم المصرفي في بلينيي سور أوش، في حالة تصفية قضائية.»
47
واعتبارا من اليوم التالي 8 مارس، عند الساعة 9 صباحا، انتقل المصفي المؤقت إلى مسكن أسرة بريسو للقيام بالجرد. استقبل من قبل «السيدة مرجريت ديكنسي، أرملة مورو، امرأة مستخدمة في خدمة المعني بالتصفية»، التي سميت حارسة للأمكنة - «باعتبار أن السيد بريسو وأسرته غادروا بلينيي منذ يوم 5 مارس، وذهبوا للسكن في لوزينيي»، «لدى السيد بريسو، الأب، المعلم في المكان المشار إليه.»
48
وكما يجب العمل في مثل هذه الظروف، تم إحصاء كل شيء، من القبو إلى السقيفة: الأثاث، والثياب، وأواني المطبخ، و«القروض المعتبرة صالحة»، و«الأسهم الأصلية»، و«دفاتر الحسابات». تأثر الجميع حين رؤيتهم «مغطس أطفال»
49
مهجور في السقيفة. احتج ألبير بريسو في الرسالة التي طلب فيها من المحكمة إعلانه في حالة تصفية قضائية، «بحالته الصحية السيئة » التي لم تكن تسمح له بالاهتمام بأعماله، «وكذلك بالخسائر التي تكبدها.»
50
يكشف تقرير المصفي عن «محاسبة سيئة وناقصة»،
51
لم تكن تسمح للسيد بريسو أن ينتبه إلى وضعه؛ «فقد كان يعيش ليومه»
52
كما يلخص كاتب التقرير، دون أن يهمل الإشارة إلى النمائم التي لا بد منها في القرية، والتي تقول «إن مصاريف الأسرة المختلفة كانت كبيرة.»
53
كان الوضع من السوء بحيث لم يكن من الممكن الوصول إلى تسوية تجارية، وهكذا أعلن ألبير بريسو في حالة إفلاس بحكم صدر في 3 يوليو 1900.
كان هناك من بين الدائنين «السيد فيكتور بريسو، المعلم المقيم في لوزينيي»،
54
و«السيدة مرجريت فورنييه، زوجة بريسو»،
55
التي قبلت أن تخفض مبلغ قرضها إلى 100 فرنك بدلا من 19000 فرنك التي كان بوسعها أن تضعه دينا على التصفية «لتغطية حصصها والالتزامات التي أبرمتها لحساب السيد بريسو.»
56
يستخلص أن مبلغ مهرها بين أشياء أخرى قد ابتلع في هذا الغرق.
كيف صارت سوزان وماري أندريه إثر هذا الخراب الذي دمر أسرتهما، وألقى بالعار على أبيهما، وأدى إلى انفصال أبويهما؟ حقا، لقد أفلتتا من أسوأ صدمة؛ زيارة الدار من قبل المصفي، بما أن أسرتهما لجأت قبل ثلاثة أيام إلى لوزينيي. هل كان هذا الرحيل معدا قبل بعض الوقت أم أنه تم على عجل؟ لا نعلم شيئا عن ذلك، الواقع أن الفتاتين وإن لم تتمكنا من فهم ما كان يحدث على وجه الدقة، فإن ذلك لم يمنعهما من أن تعيشا الاضطراب العائلي، وأن تشعرا بعنف الكلمات وثقل ما لا يقال - ولا سيما بالنسبة إلى الأكبر سنا بين الاثنتين. وليس من المستحيل أن تكون هذه المأساة التي ستقلب كل حياة عائلة بريسو الشابة وراء القلق الدائم وعادة «أخذ كل شيء مأخذ الجد»، اللذين تتحدث عنهما سوزان في كتابها مثلما يفعل مؤنس كلود طه حسين في ذكرياته.
لا نعلم شيئا تقريبا - والحق يقال - عن صيرورة وضع الأسرة بين 1900 و1906، ومعلوماتنا الوحيدة شديدة الدقة، تتعلق بألبير بريسو، ومصدرها ملف التجنيد العسكري؛ ففي أغسطس 1901، انتقل في الحقيقة إلى سان آمان مونترون ، حيث سكن في شارع بور تموتان وصار مرتبطا بمنطقة بورج
57
العسكرية. لا نعلم إن كانت مرجريت قد تبعته إلى منفاه. سينتقل على كل حال في الأول من نوفمبر 1903 من سان آرمان إلى روجمون،
58
قرية أسرة أمه؛ حيث جاء ولا شك أبواه إليها ليستقرا فيها - بعد أن حصل لازار فيكتور على إجازة لأسباب صحية، من 1 أكتوبر 1903 إلى 30 سبتمبر 1904، قبيل أن يحال على التقاعد بالضبط. تشير القوائم الاسمية لسكان هذه القرية الخاصة بالإحصاءات الجارية بين 1906 و1911 إلى اسم ألبير بريسو المقيم في 17 شارع جراند، في بيت جده لأمه، سيمون لورو - حيث يسكن أيضا عمه، لويس موريل و... خالته بالمير - وفي عام 1911، بقي وحيدا مع خالته؛ فالجد وصهره كانا قد توفيا على وجه الاحتمال. لن يترك ألبير أبدا روجمون حتى استنفاره وتجنيده في شهر أغسطس 1914، في احتياطي الجيش المحلي. تم التصريح عنه بوصفه «لا مهنة له»،
59
ما دام لا يملك الحق بعد إعلان إفلاسه في ممارسة مهنة المحاسبة.
في عام 1906، وبفضل لائحة تعداد سكان روجمون، نعثر على سوزان وأندريه، اللتين تسكنان 3 شارع بوتيت دي جويف، عند لازار فيكتور بريسو رب الأسرة، وزوجته إيلوييز لورو.
60
هناك غائبة؛ مرجريت فورنييه بريسو التي لم تحص لا مع زوجها، ولا مع حمويها وابنتيها. من الممكن أن نستنتج أنها لا تسكن روجمون؛ نظرا لوجوب إحصاء الأشخاص المقيمين والغائبين مؤقتا. لا شك أنها - وقد أرغمت على أن تكسب معيشتها ومعيشة ابنتيها - ذهبت لتعمل في مدينة كبيرة، هذا إلا إذا كانت قد بدأت ممارسة مهنة «مندوبة تجارية»، المشار إليها في عقد زواج سوزان وطه، بباريس عام 1917.
61
بالمقابل، بما أنه لا يجب تسجيل الضيوف العابرين على اللائحة، فإن بوسعنا أن نكون على يقين من أن سوزان وأندريه في تلك الحقبة كانتا تسكنان لدى جديهما بصورة دائمة. هل عهد بهما إليهما غداة إفلاس ألبير، حين لجأت أسرة بريسو إلى بيت لازار فيكتور في لوزينيي، وهل تبعتاهما بعد ذلك حين استقرا في روجمون؟ هل أقامت سوزان، الأكبر سنا من أختها، بصورة عابرة لكن لفترة طويلة نسبيا في منشأة الخالة ماريا بسومور قبل أن تعود إلى بيت جديها لأبيها؟ لا نعلم شيئا عن ذلك.
يبدو على كل حال أنها أعدت شهادة الدراسة الابتدائية بروجمون، والواقع أننا نعثر في ملف المسار المهني لمارسلين مويون، معلم القرية في تلك الحقبة، على رسالة إلى مفتش سومور الابتدائي، يدعو فيها مويون، الذي كان موضع شكوى من قبل بعض أهالي التلامذة، إلى ملاحظة أنه «في عام 1906 كان قد قدم لشهادة الدراسات الابتدائية تلميذين (...) يحملان اسم بريسو ولورو.»
62
دون أن يعطي للأسف الاسمين الأوليين ... وبما أن الطفلين الوحيدين اللذين يحملان اسم بريسو والمقيمين في القرية عام 1906 هما سوزان وأندريه، من الممكن أن نستنتج دون خطر الوقوع في خطأ أن أحد هذين التلميذين المشار إليهما من قبل المعلم هي سوزان، التي كان عمرها آنئذ أحد عشر عاما.
63
لكننا نفقد أثرها من جديد؛ إذ لم تعد لا هي ولا أندريه تسكنان عام 1911 لدى جديهما، وليس في ذلك ما يثير العجب؛ لأن الوقت كان قد حان منذ عدة سنوات على الأقل بالنسبة إلى سوزان كي تتابع دراساتها الثانوية.
64
بعد البحث في أرشيف ثانوية الفتيات بديجون التي لم تكن فيها تلميذة، ثم لدى ثانويات أوكسير وليون
65
التي دمر أرشيفها جزئيا أو كليا؛ انتهينا إلى العثور على سوزان بريسو تلميذة في ثانوية مونبلييه، وهي أول ثانوية للفتيات افتتحت في فرنسا عام 1881؛ أي بعد مضي أقل من عام على التصويت على قانون كامي سي الصادر في 21 ديسمبر 1880.
66
ويشير دفتر توزيع الجوائز عن سنة 1913
67
في الحقيقة إلى أنها فازت هذه السنة ذاتها بشهادة نهاية الدراسة الثانوية،
68
التي حصلت عليها مع درجة جيد، وعلى القسم الأول من البكالوريا، اللغة اللاتينية/اللغات الحية (إنجليزية-إيطالية).
69
إنه يشير أيضا إلى أنها حصلت من ثم عند توزيع جوائز الثانوية على جائزة جيمس هايد لحصولها على أعلى علامة في اللغة الإنجليزية في امتحانات شهادة نهاية الدراسات الثانوية. ومن المؤسف أنه من المستحيل معرفة تاريخ بداية تسجيلها في هذه الثانوية؛ إذ إن دفاتر توزيع الجوائز عن سنوات 1911 و1912 ناقصة، كما أن الأجزاء الخاصة بسنوات 1910 وما قبلها لا تشير إلى سوزان.
بالمقابل، يسمح لنا سجل علامات البكالوريا
70
بالعثور على أثر مرجريت بريسو، بما أنها هي التي أشير إليها في عمود «اسم المستحقين». هل كانت لها روابط في مدينة مونبلييه؟ وهل عثرت فيها على عمل؟ لا شيء يسمح بتأكيد ذلك؛ إذ لم تكن أم سوزان تقيم بالضرورة في المدينة التي كانت ابنتها تتابع دراستها فيها، ما دام التلامذة يقيمون من حيث المبدأ في المدرسة. لكن مسألة اختيار مونبلييه في النهاية - التي سيكون لها موقع هام في مستقبل سوزان وطه، والتي ستولد فيها عام 1918 ابنتهما مرجريت (أمينة) - بقيت مطروحة. ويطرح أيضا سؤال يتناول معرفة السبب الذي لم يكن فيه والد سوزان هو من يملك الحق بصددها؛ نعلم في الواقع أنه كان في هذا التاريخ لا يزال حيا، بما أنه استنفر في 2 أغسطس 1914؛ ربما لأنه لم يكن - وقد كان بلا أي عمل - قادرا بكل بساطة على دفع النفقات الدراسية لابنته.
71
أيا ما كان الأمر، تسمح لنا هذه القرينة وسواها بالظن أن أبوي سوزان كانا يعيشان منفصلين وإن لم يكونا مطلقين.
بعد مونبلييه وشهادة نهاية الدراسات الثانوية والبكالوريا، نلتقي سوزان في ثانوية فنلون بباريس التي سجلت فيها بين 1 أكتوبر 1913 و31 ديسمبر 1914، في القسم السادس آداب (إنجليزي)، ثم في القسم السادس آ
72
من أجل إعداد مسابقة الدخول إلى مدرسة المعلمين العليا بسيفر، وستكون معها خصوصا رفيقتها إيرين فالييه، من منطقة السافوا، المولودة بتاريخ 1 يوليو 1895 بشامبيري
73 - التي ستكون أحد شهود الزواج بتاريخ 9 أغسطس 1917.
74
ولكن في الوقت الذي كانت فيه إيرين لا تزال تلميذة في مدرسة المعلمين بسيفر في أغسطس 1917، وستتقدم لنيل شهادة الأستاذية (الأجريجاسيون) في التاريخ والجغرافيا عام 1921،
75
أوقفت سوزان دراساتها - بمبادرة من أمها ولا شك - لتعود إلى مونبلييه عام 1915، كي تكون في مأمن من القصف الألماني. ربما كانت تنوي أن تستعيد بعد زمن من ذلك الدراسة لإعداد المسابقة التي تسمح لها بالوصول إلى درجة الأستاذية في التعليم الثانوي العام للفتيات؛ هكذا كان يمكن لها أن تنجز صعود أسرة بريسو عن طريق التعليم الذي بدأه عام 1863 جدها المعلم، وتابعه اعتبارا من 1896 عمها هنري الذي عين عام 1923 أستاذا مساعدا في ثانوية كارنو بديجون - التي كان لا يزال يشغل فيها منصبه في شهر سبتمبر 1925 حين زواج أندريه بريسو الذي كان أحد شهوده.
76
على أن الله شاء خلاف ذلك؛ إذ جعل من هذه الإقامة في مونبلييه نقطة انطلاق قصة حب كبرى، ستحمل سوزان بعد التردد في البداية على أن تسير بصورة حاسمة في درب مختلف كل الاختلاف، وعلى مغادرة أسرتها وبلادها:
ربما كان الأمر جنونا، لكني كنت قد اخترت حياة رائعة. اخترت! من يدري؟ لقد قالت لي صديقة عزيزة ذات يوم: «لقد كان عليك أن تضطلعي بهذه الرسالة.» وصديقة أخرى تقول لي منذ زمن ليس ببعيد: أتذكرين يا ماري؟ «لقد ملئت حياتك إلى أقصى حد.» نعم، لقد ملئت حياتي إلى أقصى حد.
ثم بعد ذلك، ثناء مؤثر على الرجل الذي أحبته وتقاسمت معه حياته مرفوعة الرأس:
فيما يتعلق بي، كان هناك هذا الشيء الرائع: الفخر واليقين من أنه ليس ثمة ما يدعو للخجل، ومن أنه ليس هناك على الإطلاق أية فكرة مريبة أو بشعة أو منحطة يمكن أن تأتي لتحقر أو لتثلم الكائن الذي أقاسمه حياته.
هل هي إشارة تعرفها هي وحدها إلى ضعف وتهور أبيها، اللذين حملا أمها وكل أسرتها على الخجل فعلا؟ هذا الأب، الذي استعاد شرفه باشتراكه في الحرب على ألمانيا بين أغسطس عام 1914 ومايو 1916،
77
سيسرح من الخدمة في 6 مايو 1916 من قبل مجلس الفوج الخاص بسبب السرطان، وسيتوفى بعد عدة أشهر في منزله بروجمون يوم 12 يوليو 1916، بعيدا عن زوجته وابنتيه اللواتي كن يسكن باريس، وكان لازار فيكتور ومعلم القرية هما من صرح بالوفاة. أي حزن هذا البعاد وأي أسف ولا شك في قلب سوزان، حتى إن أمكن الأمل أن تكونا - أختها وهي - قد تمكنتا من حضور إن لم يكن اللحظات الأخيرة فعلى الأقل مأتم أبيهما الذي بات اسمه من الآن فصاعدا منقوشا على النصب التذكاري للموتى بروجمون. «وقد انفعلت أمام عمي هنري نظرا لشبهه بأبي.» أي حنين تنطوي عليه هذه الجملة القصيرة، وهي الإلماح الوحيد والخجول من سوزان إلى أبيها في الكتاب كله؟ ربما أسهم هذا الموت الذي كان يوقع بصورة نهائية القطيعة مع الطفولة وأرض مولدها، في القرار الذي اتخذته سوزان - التي كانت لها علاقات صعبة مع أمها - بالسير على درب سوف يقودها بعيدا عن أقربائها وعن بلدها.
اللقاء
يوم 12 مايو 1915، حين تم اللقاء بين سوزان بريسو وطه حسين المسجل منذ 7 يناير بوصفه طالبا حرا لنيل الليسانس في التاريخ والجغرافيا في كلية الآداب بمونبلييه،
78
كانت قد بلغت من العمر عشرين عاما؛ كان أبوها مع فوجه في منطقة «الفوج
Vosges »، وكان ابن خالها جوستاف فورنييه - خالها الصيدلي في بلينيي - قد أرسل لتوه إلى الجبهة بناء على طلبه، وقد سقط يوم 6 يونيو «قتيلا في ميدان الشرف» بالقرب من نوتر دام دو لوريت.
79
كان سيبلغ من العمر عشرين عاما يوم 24 أغسطس.
بعيدا عن طوفان «الحديد والنار والفولاذ والدم»،
80
وفي واحدة من تلك اللحظات الخاطفة الهاربة من مجرى التاريخ المأساوي، «بين الساعة 6 والساعة 7 مساء وبين عاصفتين»،
81
حدثت المعجزة؛ وككل المعجزات، تنبثق برصانة من بين شئون الحياة اليومية: «لم يكن ثمة شيء في ذلك اليوم ينبئني بأن مصيري كان يتقرر، ولم يكن بوسع أمي التي كانت بصحبتي أن تتصور أمرا مماثلا.» فتاة فرنسية، متعلمة وقليلة الثروة، بحاجة إلى أن تكسب القليل من المال، اقترحت أن تكون قارئة لطالب شاب أجنبي أعمى، كان قد وضع لهذا الغرض إعلانا صغيرا في صحيفة محلية. حين قص هذه المحادثة الأولى، عزا طه خجل الفتاة إلى أنه كان أجنبيا، وأشار إلى التحفظ الذي طبع أحاديثهما كليهما: «كنت أول أجنبي تلتقيه هذه الفتاة، وكانت أول فتاة تزورني. كان من الطبيعي إذن ألا تجري محادثتنا مجرى سهلا.»
82
أما سوزان فقد شددت من ناحيتها على عمى طه، كي تشرح ارتباكها: «وكنت على شيء من الحيرة؛ إذ لم يسبق لي في حياتي أن كلمت أعمى.» دفعة واحدة وضعت إذن العمى في قلب علاقتهما، والواقع أنه لو لم يكن أعمى، بل أجنبيا فقط، لما كان بحاجة إلى قارئة ... ومع ذلك، ولأنه أجنبي ولأنه لم يستكمل المناهج الدراسية التي يستكملها عادة طالب فرنسي وصل إلى كلية الآداب، ستقوم عما قريب بدور يتجاوز مجرد دور القارئة؛ فمن قبل في مونبلييه، كانت القراءات اليومية متبوعة بمناقشات تطلعه خلالها سوزان على الأدب الفرنسي الذي جعلته «يتذوق جماله».
83
أخذ دور الوصية هذا في الاتساع حين سيلتقيان بباريس، ويتكلم طه عنها بوصفها «أستاذته»: «كانت صديقتي أستاذتي، فأنا مدين لها أن تعلمت الفرنسية، وأن عمقت معرفتي بالأدب الفرنسي، وأنا مدين لها أن تعلمت اللاتينية ونجحت في نيل إجازة الآداب، وأنا مدين لها أخيرا أن تعلمت اليونانية واستطعت أن أقرأ أفلاطون في نصوصه الأصلية.»
84
حققت سوزان إذن وبمقدرة مع ما اتسمت به من طبع جاد إزاء تلميذ وحيد - وأي تلميذ - الرغبة التي كانت رغبتها الأساس في أن تكون أستاذة آداب:
85 «مضت شهور على هذا النحو، كانت خلالها علاقاتنا علاقات تلميذ نحو أستاذته، وصديق نحو صديقته.»
86
حين استحوذ صوت «أستاذته» العذب نهائيا على الشاب طه، وبعد تفكير عميق قررت سوزان أن تستجيب لحبه - وحول هذه النقطة لا يسعنا إلا أن نتساءل عن المعنى المعطى لكلمة ميشليه المذكورة في كتابه: «الحب الإرادي، أرقى تعبير عن الحنان البشري» - وسيمتد دورها كمعلمة إلى كل نواحي الحياة العاطفية والاجتماعية لخطيبها الذي أخرجته من عزلته، فألغت «في رفق وفي جهد متصل أيضا ما كان مضروبا بينه وبين الحياة والأحياء والأشياء من الحجب والأستار!»
87
الذكريات
تستدعي ذكريات سوزان طه حسين إذن حياتها مع من كان خلاصة «الشيخ والدكتور»،
88
وقد اتخذت شكل رحلة بحث عن أقل آثار الحبيب الذي رحل الآن كي تتجنب غيابه. هذه الرحلة في الفضاء تقودها من آخر أماكن سياحتهما في إيطاليا حتى عودتهما إلى رامتان، البيت الذي رسمت مخططاته، وصممت عمارته الداخلية، وزخرفت على تعاقب الفصول حديقته الواسعة. رامتان الذي يعني كما تشير إلى ذلك مأويين، أو خيمتين، أو ملجأين ، كان مأواهما خلال السنوات الخمس والعشرين الأخيرة، الذي يقع في شارع صغير متعامد مع شارع الهرم بالقاهرة. وهي بالقدر نفسه رحلة في الزمان منذ لقائهما الأول يوم 12 مايو 1915 بمونبلييه، حتى هذا اليوم الحاسم 28 أكتوبر 1973، ومنذ محنة الحداد؛ أي الحضور الغائب. مهد لهذه الرحلة في الزمان منذ بداية النص بجملة تتعاقب فيها أربع علامات زمنية: «اليوم، التاسع من يوليو 1975؛ أي بعد مضي ثمانية وخمسين عاما على اليوم الذي وحدنا فيه حياتينا، وبعد مضي ما يقرب من العامين على رحيلك عني، سأحاول أن أتحدث عنك ما دام قد طلب إلي ذلك. أولئك الذين يعرفون حياتك العامة، ويعرفون عن حياتك عالما وكاتبا أكثر مما أعرف عنها أنا نفسي، كتبوا وسيكتبون مؤلفات جميلة وعميقة عنك. أما أنا، فإنني أريد بكل بساطة أن أخلد للذكرى.» أما جوهر هذه الذكريات فيتعلق بالحياة «مع» طه حسين كما يشير العنوان، ومع ذلك فوراء «معك» هناك باستمرار «ليس بدونك».
لا تتكلم سوزان تقريبا عن أسرتها ولا عن فرنسا، وتتكلم القليل جدا أيضا عن نفسها، ومع ذلك ثمة بعض الإشارات بمناسبة ملاحظة أو نادرة. نحزر طبعا يشبه طبع طه حسين، عنيدا ومستقيما: ««إنك تبحرين!» هكذا كان يقاطعني، حتى أيامه الأخيرة، بحنان كلما احتدمت - «وهذا ما كان يحدث لي غالبا» - خلال مناقشة أو ثورة أو حماسة.» وتشير، ونادرا ما تفعل (وبإيجاز)، إلى دلالها وهي تروي حفلة تيبالدي الموسيقية ذات أمسية صيفية بفلورنسا، حين ذهب الزوجان لحضور اللقاءات التي نظمها لابيرا: «وكنت ألبس ثوبا يلائمني تماما.» ونظن بوجود علاقة صعبة مع أمها التي تذكرها عشر مرات في النص من باب النوادر، لكنها في المرة الأخيرة عند وفاتها تدلي بالاعتراف التالي، وهي تذكر بالحب المتبادل الذي كان يجمعهما: «لم تكن تفهمني دوما، وقد تألمت من ذلك أحيانا. وكان يحدث لي أن يراني طه حين يعود إلى البيت مقلوبة رأسا على عقب، فيقول لي: هل تلقيت رسالة من أمك؟» ونلاحظ علاقة كانت تنطوي على بعض التباعد (وكانت مصدر عار عند أزمة السويس عام 1956) مع فرنسا التي تذكرها بها بعض المناسبات النادرة بطريقة حادة: «كنت أعود إلى فرنسا فتغمرني مشاعر كئيبة»، «وما زلت أحلم بسيمور التي لن أراها أبدا»، «زرنا بيت الدين (...) عندما وجدتني فجأة أمام هذه الأشجار، مأخوذة برائحة أوراقها، كررت ما فعلت أمام أشجار الليلك في حلب؛ بكيت وتمثلت حديقة اللوكسمبورج أمام عيني وفي قلبي، فقد كانت باريس تحت نير الاحتلال.» ونرى التأثر نفسه يوم احتلال باريس عام 1940، ويوم اللقاء مع البابا بيوس الثاني عشر. يغيب الحنين إذن عن هذه السطور، حتى ولو اعترفت سوزان: «لم أكن دوما سعيدة في مصر، بل ما أكثر ما تألمت فيها!»
لا بد من قبل أن نسجل جودة كتابة هذه الذكريات: أسلوب مرهف، وحب للغة، واهتمام بالدقة في اختيار المفردات، مع حس شاعري حقيقي بين الوقت والآخر؛ كل الميزات المدينة إلى حياة قضتها في بيئة ثقافية بقدر ما هي مدينة إلى حياتها كقارئة كبيرة، التي يشهد عليها كل الذين تحدثوا عن شخصيتها. لنستمع إلى هذه السطور الأخيرة: «يعز علي دوما هجران طريق ما. كنت أود لو أن الطرق لا تنتهي، وما أشد ما يحزنني ترك قطار أو مغادرة سيارة!»
النهضة
يتجذر قاع هذه الذكريات في نهضة مصر الحديثة التي تعود إلى محمد علي، ثم إلى ابنه إسماعيل في النصف الأول من القرن التاسع عشر؛ كانا أول من أرسلا المبعوثين المصريين للدراسة في فرنسا. وكانت لإقامة الطهطاوي (1801-1873) - مثلما كانت بعد سنوات من ذلك لإقامة العفراني ومحمد عبده ولطفي السيد ثم طه حسين من أجل الدراسة في أوروبا - أثر المرآة الذي سيؤدي إلى الوعي المؤلم، خصوصا في حالة طه حسين بالوضع الاجتماعي والسياسي والثقافي في وطنهم. ومن جملة آخرين، كان هذا الأخير يعمل من خلال رؤية ليبرالية على التوفيق بين الحضارة الحديثة على الطريقة الأوروبية والماضي العربي - الإسلامي والتراث الفني القديم لمصر القديمة. كانت أدواته إعادة قراءة التراث، وأعمال هامة في الترجمة من الإغريق إلى المحدثين، واعتماد العقل النقدي منهجا في التفكير، وفي ذلك إنما ذهب جيل طه حسين أبعد مما ذهب إليه الجيل السابق في التوفيق بين المحافظة والتجديد، بين القديم والحديث، وإعادة اكتشاف الأدب القديم والاتصال مع الآداب الغربية. وقامت مهاترات عنيفة بين عدة معلمين كبار من الجيلين، وكانت الصحف والمجلات ضمن هذا الظرف أدوات النقل المفضلة لنمو هذا الفكر وهذه السجالات، العنيفة غالبا، التي تصاحبه؛ فقد ارتفع عدد النسخ المطبوعة من الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية من عدة مئات أو آلاف قبل الحرب العالمية الأولى، إلى أكثر من 10000 نسخة بعد الحرب.
89
وشهدت تلك الحقبة ولادة المثقف العلماني بوصفه شخصية عامة في مقابل شخصية المثقف الديني (الشيخ)، وكان إنشاء جامعة فؤاد في مايو 1925 اعترافا رسميا بهذه الأنتليجنسيا. «كانت السجالات الكثيفة والمناقشات الحماسية في هذه المرحلة استمرارا لتلك التي كانت في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حول إصلاح الدولة، والتغريب، وأصول الأمة، وتكييف الإسلام مع الحداثة في ظرف سياسي مضطرب.»
90
ومن الطبيعي أن قضية الاستقلال كانت موجودة في الخلفية كما سيقول فيما بعد طه حسين: «كانت الأمة تستعيد وعيها بنفسها.»
91
تذكر سوزان في «معك» الوفد المصري إلى فرساي عام 1919، وكذلك أيضا مغامرة الأحرار الدستوريين الذين قادوا التجربة الليبرالية اعتبارا من 1923، والذين أرادوا دستورا وإصلاحات قبل الاستقلال، على العكس من الوفد. تتحدث أيضا عن حكومة صدقي المحافظة التي سرحت في عام 1932 طه حسين من وظيفته كأستاذ في الجامعة. في مقال يقدم تقريرا عن هذه المرحلة، يلح هذا الأخير على دور الصحافة التي كانت تستخدم «لغة قاطعة، ولاذعة، وقادرة على تحطيم الخصم»:
92 «كانت للأحزاب السياسية إلى جانب صحيفتها اليومية في المعركة مجلتها الأدبية الأسبوعية، وفيها كانت فئة من المثقفين النشيطة والمختصين تتناول مختلف الموضوعات الأدبية وكبرى مشكلات الثقافة؛ وبذلك أسهمت على نحو واسع في تكوين نخبة من القراء قادرين على متابعة حركة الأفكار.»
93
وأخيرا، هناك المرور المتأخر بوزارة المعارف التي بقي فيها سنتين كاملتين (12 يناير 1950-27 يناير 1952)، وكان مروره فرصة من أجل تطبيق البرنامج الذي أعده في «مستقبل الثقافة في مصر»، ولا سيما تقرير مجانية التعليم الثانوي.
أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي»
في هذا الظرف فيما بين الحربين اللتين اختلط فيهما القلق والتجديد، إنما طرأ حدث كبير في حياة طه حسين؛ أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي». تتحدث عنه سوزان على هذا النحو: «فالضجة التي اقترنت بهذا الكتاب، وثورة الجهل والتعصب التي أعقبت صدوره نعرفها جميعا، أما ما لا نعرفه فهو ما كانته هذه المحنة في نظر زوجي الذي كانت رزانته الثابتة تمنعه من الشكوى. لقد بدأ كتابة هذا الكتاب في يناير 1926، وأنجزه في مارس من العام نفسه.»
ما المشكلة؟ كان طه حسين خلال الحقبة التي انفجرت فيها الوقائع أستاذا في جامعة الدولة فؤاد الأول التي أنشئت عام 1925. أثرت عليه أزمتان حديثتا العهد: إحداهما مباشرة والأخرى بفعل واحد من المقربين إليه. تتعلق الحلقة الأولى العاصفة بمشاركته في صحيفة السياسة المرتبطة بحزب الأحرار الدستوريين، التي كان يديرها محمد حسين هيكل. كان النقد العنيف الذي كانت توجهه هذه المجلة، وخصوصا نقد طه حسين ضد حكومة الوفد، قد أدى إلى منع الأعداد الصادرة يومي 10 و12 يناير 1924. بقي طه حسين خلال استجوابه صامتا، ثم طويت القضية وحفظت، بعد سنة من ذلك، نشر صديقه علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم»؛ نادى المؤلف بفصل السياسة عن الدين، وطرح مسألة الخلافة. كان الشجار عنيفا؛ عزل عبد الرازق من وظيفة القاضي في المحكمة الشرعية، وطرد وزير العدل بأمر من الملك، وتكفي بعض السطور في مقال كتبه طه حسين لفهم عنف الجدال وأسلوب الكاتب اللاذع: «اجتمع ناس من الأزهر على هذا الرجل وأبعدوه من صفوفهم، لكن الأزهر شيء والدين شيء آخر ... تعالوا إذن، لنناقش ولنضحك من هذه الحكاية الساخرة.»
94
كانت المعركة الأولى قد خيضت إذن حول كتاب في الشريعة الإسلامية بين «العلمانيين» أو «المحدثين» و«المشايخ» أو دعاة إسلام يبقي أساس المجتمع على قاع من قضايا الانتماء والوطنية، والمواجهة مع الفكر الأوروبي والفرنسي منه خصوصا.
في ذلك الوقت نشر طه حسين في شهر مايو 1926 كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي استخدم فيه النقد التاريخي كي يشكك في أصالة هذا الشعر. «ولد الجدل من حقيقة أن قصائد القرن الخامس الميلادي كانت قد لعبت حسب الموروثات دورا هاما في ازدهار اللغة العربية، وعبر هذه القصائد إنما تكونت لتصير لغة الوحي. كانت هذه القصائد تنطوي تقليديا إذن على طابع مقدس جاء النقد يشكك فيه مع خطر امتداده إلى القرآن والحديث.»
95
ما أثار الاستنكار إذن كان المنهج بقدر إن لم يكن أكثر من المحتوى، وما حمل على الخشية من تطورات أشد تدميرا تنال القرآن نفسه. لقد أعلن طه حسين بوضوح مقاصده وهو يشرح أن المنهج التاريخي النقدي هو «هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء.»
96
ويتابع على هذا النحو: «فلنصطنع هذا المنهج حين نريد أن نتناول أدبنا العربي القديم وتاريخه بالبحث والاستقصاء، ولنستقبل هذا الأدب وتاريخه وقد برأنا أنفسنا من كل ما قيل فيهما من قبل وخلصنا من كل هذه الأغلال الكثيرة الثقيلة التي تأخذ أيدينا وأرجلنا ورءوسنا، فتحول بيننا وبين الحركة الجسيمة الحرة، وتحول بيننا وبين الحركة العقلية الحرة أيضا.»
97
وهو يشير أيضا إلى أن «للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي.»
98
أمام احتجاجات الأزهر العنيفة قرر أحمد لطفي السيد، عميد جامعة فؤاد الأول، حجز كافة نسخ الكتاب، لكن ذلك لم يخفف من غلواء العلماء (وقسم من الوفد) الذين طالبوا برفع القضية أمام العدالة، وانتشرت تهديدات بالقتل، وبناء على نصائح الجامعة، ذهب طه حسين إلى فرنسا، وبقي فيها حتى يناير 1927. وأخيرا طويت القضية وحفظت بعد مداولات كثيرة، ولا سيما في البرلمان، لكنها لم تطو نهائيا بما أنها ستلاحقه بعد سنوات عدة حين عزل من وظيفته كعميد بأمر من رئيس الوزراء صدقي. كانت نهاية هذه القصة على غير انتظار بعض الشيء؛ فطوال نفيه في فرنسا الذي دام تسعة أشهر، أملى طه حسين دفعة واحدة مبدعه الأهم الذي سيطبع نهائيا الآداب العربية - الجزء الأول من ثلاثة أجزاء كتاب الأيام الذي تشير سوزان طه حسين إلى أنه أملي خلال تسعة أيام.
99
مصر الفرنكوفونية
تذكر هذه الصفحات أيضا إلى أي حد كان قسم كامل من الأنتليجنسيا المصرية فرنكوفونيا ومحبا لفرنسا، وهي قصة تعود على الأقل إلى نتائج الحملة المصرية وإرسال المبعوثين إلى فرنسا. كانت باريس كذلك ملجأ لمحمد عبده (1849-1905) الذي خيم ظله بقوة على التكوين الأزهري لطه حسين. كان تلميذا للأفغاني، وكان قد نفي عام 1882 إثر فشل ثورة عرابي والاحتلال الإنجليزي؛ بعد أن أقام في لبنان، انتقل إلى باريس حيث نشر مع الأفغاني صحيفة كانا يدعوان فيها إلى تجديد الإسلام، وإلى التوفيق بين الإسلام والعالم الحديث. يتحدث محمد حسين هيكل، الذي جرى الحديث عنه عدة مرات في هذه الصفحات، والذي كان بوجه خاص وزير المعارف، بهذه المفردات عن السنوات التي قضاها بباريس من 1909 إلى 1912: «رغم أن اللغة الأولى التي تعلمتها كانت الإنجليزية، وأنني دنوت من اللغة الفرنسية متأخرا، فقد وجدت سهولة أكبر في التعبير بهذه اللغة الأخيرة، بفضل صلات القربى التي تربط شعوب حوض المتوسط كافة.»
100
ويتحدث طه حسين نفسه في سلسلة من المقالات المنشورة في مجلة «السفور»، خلال عودته الإجبارية إلى مصر عام 1915 بين إقامته بمونبلييه (التي تعرف فيها على سوزان) ودراساته بباريس، عن حنينه إلى فرنسا والحياة الفكرية التي كان يعيشها آنئذ ... وعن «الصوت العذب» الذي التقاه؛ هذه الرابطة المفضلة مع فرنسا ومع الثقافة المتوسطية في جانبها الغربي ستؤخذ عليه من قبل خصومه الذين اعتبروه - سواء في القصر وفي أمكنة أخرى - شديد الحرية وشديد الاستقلال. ومن المثير أن نلاحظ لدى الجانب الفرنسي وجود الحذر الشديد نحوه أيضا.
101
أما الحركة المعاكسة؛ أي جاذبية مصر في نظر الفرنسيين، فلا تقل قوة. من سليمان باشا، الكولونيل السابق في الجيش الإمبراطوري الذي اعتنق الإسلام (الكولونيل سيف سابقا)، والذي جاء مع حملة بونابرت، إلى الطبيب أنطوان كلوت (كلوت بيك) الذي أقام في مصر من 1825 إلى 1849، وأنشأ بوجه خاص مستشفى ومدرسة للطب، ثم مدرسة للقابلات عام 1836، وإلى المهندسين لينان دو بلفون أو بريس دافين، دون نسيان الرحالة مثل الأكاديمي جان جاك آمبير وكزافييه مارمييه والسان سيمونيين الذين جاء بهم شارل لامبير، هناك العديد من الفرنسيين الذين رافقوا مشروع التحديث الخاص بمحمد علي الذي سمح خصوصا بإرسال أول بعثة مدرسية مصرية إلى باريس عام 1826. بعد فترة انقطاع قصيرة في منتصف القرن، شغل فرنسيون من جديد وظائف هامة في الإدارة وفي المدارس كمدرسة الطب ومدرسة الحقوق ودار المعلمين، وكانوا في أصل مشروع بناء قناة السويس، وشاركوا في مشروعات البناء الكبرى سواء في القاهرة أو في الإسكندرية. بالإضافة إلى ذلك، أنشأ أوجست مارييت دائرة الآثار المصرية ومتحف بولاق الذي صار مديره عام 1858 (وخلفه جاستون ماسبيرو عام 1881). في عام 1908، كانت المدارس التي يشرف عليها رجال الدين الكاثوليكيون ويتم التعليم فيها باللغة الفرنسية «تضم 25000 تلميذ؛ أي سدس عدد التلامذة المسجلين في مدارس مصر، دون الأخذ بعين الاعتبار 2500 تلميذ مسجل في مدارس غير فرنسية، مثل الأليانس اليهودي الذي كان التعليم فيه بالفرنسية. واعتبارا من عام 1909، انضافت إلى كل ذلك ثانويات ممتازة تابعة للبعثة العلمانية الفرنسية بالقاهرة وبالإسكندرية وببورسعيد.»
102
كان هناك العديد من النساء اللواتي انخرطن في هذه المغامرة؛ تذكر سوزان منهن أربعا على الأقل: جان فرنسيس إحدى أعز صديقاتها، ولويز ماجوريل (زوجة واصف غالي باشا)، وإميليين هكتور (زوجة محمود خليل)، ولوريت جبرا. كن مثلها قد اخترن مصر «وطنا ثانيا». لم يكن خيار سوزان هذا إذن فريدا، ولكن ما أكثر ما كان جسورا! فالملاحظات من حولها كانت واضحة حول هذه النقطة: «كيف؟ أجنبية، وأعمى، وأكثر من هذا وذاك مسلم! أنت مجنونة تماما!» لنتخيل فتاة بورجونية تتواجد في قلب بلد مجهول، ولغة لم تمتلك ناصيتها إلا لحاجات الحياة اليومية. لكنه كان طه حسين! لكنها كانت سوزان بريسو!
العمى
يحتل «ألم العمى الكبير» - لكي نستعيد تعبير بيير فييي - مكانة مركزية في حياة وكتابات طه حسين الخاصة بسيرة حياته. ألم «لا يحايث قلب الأعمى»، كما يعبر عن ذلك فييي بصورة جيدة؛ لأن «الحرمان من إحساس ما ليس هو ما يؤلمه» - لا سيما حين يكون الأمر متعلقا بأعمى منذ الطفولة - «بل الدونية التي يضعه فيها إزاء الآخرين.»
103
والواقع أنه إذا كانت عاهة طه حسين بالنسبة إليه هي هذا العذاب،
104
وحتى لقائه بسوزان، مصدر هذا القلق، فلأن ذلك يعود بصورة أساسية إلى الشعور بالدونية والإزعاج اللذين كان يحسهما في المجتمع - إلى الدرجة التي تبنى فيها كلمة أبي العلاء المعري الرهيبة: «العمى عورة.»
105
ولأنه احتل مكانة مركزية في حياة طه، وفي حياتهما كزوجين، كان العمى أيضا سيمة جوهرية في كتاب سوزان، كما يوحي بذلك من ثم الاستشهادان المقتطفان من أشعيا ومن نزار قباني الموضوعين في مقدمة الكتاب. وإذا كانت سوزان مثلما كتب طه حسين بصورة رائعة في الرسالة المؤثرة التي وجهها لابنته، والتي ختم بها الجزء الأول من «كتاب الأيام»؛ هي الملاك الذي «حنا (...) على أبيك فبدله من البؤس نعيما، ومن اليأس أملا، ومن الفقر غنى، ومن الشقاء سعادة وصفوا»،
106
فإننا نشعر تماما أن هذه المرأة القلقة على الدوام عاشت بصورة مأساوية عائق زوجها؛ كانت تتخيله عفويا «الضائع في ليله»، ويصيبها الهلع حين يتوجب عليها تركه لوحده، وحين يضطران - بصورة استثنائية ونادرة - إلى الانفصال مدة طويلة وتخشى فكرة ترك طه «لعناية أصدقاء لا شك في إخلاصهم، لكنهم لا يعرفون قط كيف يجب القيام بها.» صحيح أن طه لم يكن يطمئنها صراحة حين يكتب لها حين ابتعدت عنه فترة قصيرة: «بدونك أشعر أني أعمى حقا، أما وأنا معك فإنني أتوصل إلى الشعور بكل شيء، وإلى أن أمتزج بكل الأشياء التي تحيط بي.»
ولكن في الوقت الذي يأسف فيه طه على غياب حبيبته؛ لأنه عاشق قبل كل شيء - في الخامسة والستين من عمره مثلما كان في الثالثة والثلاثين - ولأن حضور سوزان وحده يمكن أن يعيد «إلى الأيام والأسابيع ألوانها الضائعة»،
107
فإن سوزان التي كانت لديها صورة شديدة السواد عن العمى، وفكرة سلبية على نحو مدهش عما يمكن أن يفعل أو ألا يفعل أعمى في الحياة اليومية؛
108
تتخيله بلا هوادة متعثرا وعاجزا عن تدبير أموره دونها - وهو ما كان يقلقها ويشعرها بالذنب. وحين تريد بالمقابل أن تبرز التفوق الفكري لطه، فإنها تلح أيضا على عاهته كي تؤكد الطابع الاستثنائي لنجاحاته: «كلما فكرت بها عاودتني الدهشة من أن امرأ يشكو كف البصر وقلة الاستعداد في الثقافة الغربية استطاع في أقل من أربع سنوات أن يحصل إجازة ودبلوما في الدراسات العليا، وأن ينجز رسالة دكتوراه.» تستحق هذه الكلمات كما يبدو لنا ملاحظتين: من جهة، في الوقت الذي تعبر فيه سوزان بلا مواربة عن أنها لا غنى عنها لطه في الحياة اليومية، فإنها تمحي هنا كليا ساكتة عن الجزء الهام الذي يعود لها في نجاحات طه الجامعية خلال إقامته في فرنسا؛
109
ذلك لأنهم لا يستطيعون الوصول مباشرة إلى الوثائق، يمكن اعتبار الأشخاص العميان المنخرطين في الحياة الدراسية معاقين فعليا، ومن هنا - إذ لم تكن تتواجد في تلك الحقبة الوسائل التقنية التعويضية: آلات التسجيل، آلات القراءة، المعدات المعلوماتية الملائمة - الأهمية الكبرى للمساعدات الإنسانية: قراء أو إعادة كتابة بالحروف النافرة (برايل)، من المتطوعين أو غير المتطوعين. ومن جهة أخرى، من الممكن أن نتفاجأ من طريقتها في الإلحاح على عاهة طه حسين في هذه الحالة على وجه الدقة، مثلما يفعل شخص غير معتاد، على استعداد دوما للدهشة من نجاح أعمى في مجال لم يكن متوقعا فيه نجاحه. الواقع أن ما يدهش في الطريقة التي تتحدث بها سوزان عن العمى، أنها احتفظت كما يبدو بعد ستين عاما من حياتها المشتركة مع أعمى بالصور وبالدهشة التي كانت لها حين التقت طه للمرة الأولى: «كنت على شيء من الحيرة؛ إذ لم يسبق لي في حياتي أن كلمت أعمى.»
حول هذه النقطة لا يمكننا أن نحول دوننا ودون طرح السؤال كي نعرف لماذا لم تعمل هذه المرأة الشديدة الذكاء والثقافة على أن تعلم أكثر عن العمى بقراءتها مثلا لمؤلفات بيير فييي،
110
الأعمى والجامعي مثل طه، التي كانت مقروءة فيما وراء عالم مكفوفي البصر وجمعيات المكفوفين - بفعل شهرة فييي في العالم الجامعي في فرنسا وفي سواها من البلدان الأخرى، ونظرا لعلاقاته في أوساط السلطة.
111
ربما كانت تقدر أن تجربتها اليومية مع أعمى استثنائي ستعلمها أكثر بكثير مما يمكنها أن تجده في الكتب، وربما لم تكن علاقتها الزوجية الوثيقة التي كانت لها مع طه تترك لها مجالا لاستقبال تجربة الآخرين في ميدان مرهف كعلاقتها مع عمى زوجها، أو ربما لأنها لم تسمع على الإطلاق عن هذا الأدب. لم تكن تنتظر «وصفات» من قراءاتها على وجه اليقين؛ لأنها عرفت بصورة رائعة وهي تمتح من ينابيع قلبها وذكائها أن تقيم «هذا الجو من الأمان الدافئ» الذي كان طه يحتاج إليه كي يضمد جراح عاهته، وأن تجعل من بيتهما مركز حياة اجتماعية شديدة الثراء والغزارة. ومع ذلك، فقد كان بوسعها أن تساعده على الإجابة عن أسئلته الخاصة به حول العمى، وأن تجعله أكثر إشراقا مما سمحت به رؤية طه المتشائمة حول عاهته الخاصة به.
ومع ذلك، إذا كانت نظرة البعض تتركز على الدعم المستمر الذي كانت تقدمه سوزان لزوجها الأعمى في الحياة اليومية: «لم تكن تتركه هنيهة واحدة؛ كانت عصاه البيضاء، كانت قديسة حقيقية.»
112
في حين كان البعض الآخر أكثر رهافة قد فهم دورها الحقيقي: «كان توفيق وفريد عصاه البيضاء، أما سوزان فقد كانت نوره.»
113
لكن سوزان من ناحيتها تعود مرات عديدة إلى الحياة التي كانت بصحبة طه ثرية وخصبة: «نعم، لقد ملئت حياتي إلى أقصى حد»، «كنت أشعر بقوة لا توصف بكمال النعمة التي أغدقت علي، أنا التي وجدتك على طريقي.» وثناء أسمى على القوة الروحية الداخلية لذلك الذي تقدمه لنا في مكان آخر على هذا القدر من التبعية: «كنت صلابتي، كنت تحميني، وها أنا ذي بلا دفاع!» هكذا، هذا الرجل المجروح بعاهته، فريسة «النوبات السوداء المخيفة» - دون الحديث عن الأمراض التي أصابته في شيخوخته - «عندما غدا هذا الرجل بلا عينين رجلا شبه مقعد». وكان «الصخرة» التي كانت تستند إليها هذه المرأة التي يصفها أقرباؤها
114
بالمرأة القوية والمرأة الحديدية؛ عادت فجأة إلى هشاشتها.
ربما وجب أن يمتلك المرء تجربة مرافقة شخص معاق كي يعرف القوة التي يستمدها هؤلاء الأشخاص من معركتهم من أجل حياة كريمة مفعمة بالإنسانية، وكي يفهم إلى أي حد كانت كلمة سوزان - «كنت صلابتي» - دقيقة. حول هذه النقطة، تتجلى شهادتها ثمينة بقدر ما هي فريدة، ونأسف أن لويز فييي مثلا لم تكتب شيئا عن حياتها مع زوجها الأعمى، ولعلها لم تكن تملك موهبة سوزان كي تفعل ذلك ...
العطور والألوان والأصوات تتجاوب فيما بينها
منذ أن وصف العميان الآليات القادرة على توليد شعور الحب في قلوبهم، فهمنا أهمية «موسيقى الصوت»
115
من أجل استثارة هذه «الانفعالات اللذيذة من صدمة اللقاء»
116
في أنفسهم؛ هكذا امتلك صوت قارئته قلب طه حتى «انجلى عنه حزنه، وانجاب عنه يأسه، وانصرف عنه الهم.» هذا فضلا عن أنه في «الأيام» لا يشير مطلقا إلى سوزان باسمها: إنها الفتاة «ذات الصوت العذب» قبل أن تصير صديقته، وخيار قلبه، وخطيبته، وزوجته.
يروي مؤنس كلود طه حسين في ذكرياته أن سوزان التي فتن صوت كلامها أباه، كان لها صوت جميل غنائي، «صوت ندي (سوبرانو) صاف، احتفظت به حتى في سنوات عمرها المتقدم.»
117
وكانت ألحان فوريه، ودوبارك وعدة إيقاعات من أوبرا «زواج فيجارو» مما تفضله: «وعلى ما كانت عليه من جهل»،
118
كانت في الواقع تحب وبشدة الموسيقى الكلاسيكية، ودربت زوجها على سماعها، «وكما كانت قد علمته في مجال مادي بحت كيف يلبس، ويحلق، ويربط عقدة ربطة عنقه، والجلوس إلى المائدة، وعشرات الأشياء الأخرى؛ كذلك كشفت أمي لزوجها باخ وموزار وبيتهوفن وبراهمز وشوبان وشومان وشوبيرت.»
119
وسمح شراء بيانو ثم «الفونوجرافات مع تطور صناعتها» للموسيقى أن تدخل البيت، وأن تعزز بمعنى ما «التفاهم الرائع في الأسرة. وكنا نتشارك في الموسيقى بقدر ما نتشارك في الأدب»
120
كما يروي مؤنس كلود. هذا فضلا عن الأصدقاء الذين كانوا يأتون إلى بيت آل طه حسين للاستماع معهم إلى أسطوانات 78 دورة.
121
الأصوات الناطقة: أصوات جيد، وماسينيون، وجاك بيرك، والصوت الأجش - وكم هو مؤثر - لهيلين كيللر، والأصوات الغنائية «صوت تيبالدي الفريد»، وأصوات رهبان دير فييزول، والصوت العميق المخلص البسيط لداميا، و... غناء العصافير الشديدة الحضور في كتاب سوزان، وبالطبع صوت الحبيب الراحل ، في عدة مناسبات: «صوت جليل وعميق وواضح. كانوا يصغون إليه إصغاءهم للموسيقى»، «الصوت الساهر المتيقظ»، «صوت الحنان الذي سكت».
الموسيقى، التي احتلت مكانة واسعة في حياة طه حسين - «هو وحده القادر على أن يقول ما كانته الموسيقى بالنسبة إليه» - والتي ربما كانت الرابطة الأقوى بينه وبين سوزان - «كان بوسعنا الاستماع للموسيقى على نحو خاص، وكان ذلك نعمة» - موجودة في كل مكان من الكتاب. يذهب كل من سوزان وطه إلى الحفلات الموسيقية، ويستمعان إليها عبر الأسطوانات أو الراديو في بيتهما أو أثناء الرحلات، ويلتقيان في مصر وفي فرنسا وفي إيطاليا وفي إسبانيا مؤلفين موسيقيين وعازفين يعجبان بهم ويحفل الكتاب بأسمائهم. وبعد رحيل طه، لا تزال الموسيقى هي التي تجمعهما: «ليس بوسعي أن أستمع إلى الموسيقى التي كنت تحبها ببرود أعصاب، فها هنا أعثر عليك من جديد بشكل أفضل، وأصغي للموسيقى معك.»
وأخيرا، فإن طه الذي تعلم مبكرا «حسن الاستماع»، والذي كان قد «تعود أن يأخذ العلم بأذنيه لا بإصبعه»
122 - «لم يكن كبقية الذين لا يرون ذا براعة يدوية مذهلة، أو ذا براعة بالمعنى المباشر للكلمة؛ بل إنه لم يكن حاذقا، ولم يحاول أن يكونه، ولم يكن ليهتم بذلك كثيرا» - كان شديد الحساسية للمناظر الصوتية والشمية، وكان يرى في حدائق فيلا ديست أو في شواطئ بحيرة جارد التي كانت تتجاوب فيهما الأصوات والعطور؛ ألوان الجنة:
كان طه مذهولا في حدائق فيلا ديست. كنا تقريبا وحدنا، وكنا ننزل من شرفة إلى شرفة، ومن ينبوع إلى ينبوع؛ هذه الينابيع العديدة الشادية المفعمة حياة. مياه في ألوان قوس قزح ونور موزع. لم تكن هناك أصوات أخرى سوى شدو عصفور، أو رنين جرس كنيسة مجاورة، كان أريج الصنوبر والأزهار والطحلب في كل مكان. كان طه يقتعد حجرا كبيرا، وتمتم حالما: حسنا! لعل هذا الكاردينال لم يكن واثقا كل الثقة من فردوس السماء حتى صنع فردوسا على الأرض!
الحياة مع طه
لم تكن الحياة مع طه سباقا نحو السعادة؛ فمنذ السطور الأولى تتذكر سوزان كلمة الرجل الذي «تحمل اسمه»: «إننا لا نحيا لنكون سعداء.» وتعلق: «عندما يكون شأن المرء شأن طه، فإنه لا يعيش ليكون سعيدا، وإنما لأداء ما طلب منه.» ثم تعود فيما بعد مرة أخرى إلى هذه النقطة من أجل نفسها هذه المرة، وتستشهد بقول صديقة: «لقد كان عليك أن تضطلعي بهذه الرسالة.» ثم تعود إلى كلمة قالها طه: «لعل ما بيننا يفوق الحب.» لا شك أنه يجب علينا أن نقرأ في المقام الأول على هذا النحو هذه الذكريات باعتبارها قصة حب جميلة وواسعة بين كائنين مختلفين كثيرا ومتحدين كثيرا. سيمة الحب تتكرر غالبا، وغالبا عند لحظة غياب المحبوب. ذات يوم، كان على سوزان أن تسافر إلى فرنسا لمدة ثلاثة أشهر، وفي مرة أخرى اشتغل طه وحيدا بالإسكندرية طوال الحرب. في كل مرة بدا الفراق بلا نهاية، حتى ولو عثر على كلمات حب صاف: «أحبك وأنتظرك ولا أحيا إلا على هذا الانتظار (...) لم أكن أعتقد على الإطلاق بقدرتي على مثل هذا الحب ...»
فيما وراء الفراق المؤقت أو النهائي، كان الألم غالب الحضور في هذه الصفحات، سواء أكان ذلك بسبب حساسية طه المتفاقمة وطبعه الميال إلى التحفظ أحيانا، أم بسبب العقبات التي رسمت مساره، أم بسبب عدم الفهم أو الشتائم بل وكذلك المشكلات المالية التي يمكن أن نخمن تكرارها. وإذا كان الصرف المتعاقب من الوظيفة بالجامعة في سن الرشد سبب رقة حال حقيقية، فإن انعدام الأمن هذا يعود بالنسبة إلى الاثنين إلى طفولة وشباب عرفا عدم الاستقرار المادي (لنذكر إفلاس الأب بالنسبة إلى سوزان، أو لدخل طه الضعيف الذي يتحدث عنه على امتداد الكتاب الثالث من «الأيام»). ومع ذلك، ثمة عذوبة وفرح وقلب طفل حتى لدى طه، ورقة تنعكس على صفحات كتاب «معك». حتى لو أمكن أن ندهش من أن سوزان تبدو أحيانا وهي تعامله كما لو كان طفلا حين تناديه «يا صغيري المسكين»، أو حين تقلق بلا سبب من بعض سلوكه في الحياة اليومية (في حين أنه كان يذهب إلى الجامعة، أو إلى العديد من الاجتماعات بصحبة أحدهم ولا شك ولكن من دونها)، فإن علاقتهما مفعمة بحنان كبير حين تذكر يديه، وصوته، وهذه الجبهة الشديدة النبل التي «بقيت ملساء حتى الساعة الأخيرة.» ثمة نادرة تساوي ألف كلمة؛ فعلى الباخرة تحمل سوزان وقد ربطته إلى حزامها أغلى ما تملكه من مال - مخطوط «كتاب الأيام» - في صرة ظن قبطان الباخرة خطأ أنها تحوي مجوهراتها. يبلغ ذلك كله الذروة في هذه الحركة عند الساعة الأخيرة: «أعطني يدك - وقبلها.»
وتعود سيمة السير كما لو أنها لازمة في النص، كي تستعيد هي الأخرى حبهما: «كم توافقت خطواتك مع خطواتي.» فالسير كطريقة في الانفتاح على العالم وفي التغلب على العقبات والآلام هو سيمة استهلال «كتاب الأيام»، سيرة طه حسين الذاتية المنيرة في ثلاثة أجزاء. كل شيء يجري كما لو أن الحياة كانت حجا طويلا في حركة السير اللامتناهية والمطمئنة. تعترف سوزان على كل حال: «كنت أدهش دوما للتحول الذي ألاحظه على طه، وهو المتألم كثيرا والكئيب أحيانا، بمجرد أن نكون في سيارة أو على طريق؛ وكان يحدث أن نضطر في أوج الفصل أن نقيم وقتا في أماكن لم تكن هي التي كنا نريد البقاء فيها، وكان ذلك غالبا في الجبال. كنت أذعر من المسافات الطويلة ومن الارتفاعات العالية، لكني كنت على خطأ؛ إذ لم يكن طه أحسن حالا وأسعد نفسا مما كان عليه في ممر «بوردوي
» أو «توناليه
Tonale ».» أو أيضا: «أستطيع أن أضع في عداد الأفراح النادرة، تلك الأفراح التي منحتها الطبيعة له؛ فعلى امتداد ذكرياتي، هناك غابات ومروج وبحيرات وجبال وسهول وبحار (...) كنا نلقاها بفرح كما لو كنا سنلقى أصدقاء أعزاء، وهذا هو السبب في أنني أحاول أن أستمر في الذكرى ماضية إلى لقاء بعض هذه الأماكن التي كان فيها سعيدا. وقد بقي حتى النهاية يحب - كلما اضطر للبقاء في السيارة - أن يكون على طريق خال ليستنشق الهواء الطلق والرياح.»
والأصدقاء الأعزاء «الحقيقيون» ... يملئون هذه الصفحات؛ هناك أولا حلقة الأصدقاء المقربين: جان وريمون فرنسيس، ماري كحيل، كامل حسين، علي ومصطفى عبد الرازق اللذين نعثر في أحد الهوامش في الكتاب على موجز لسيرتهما؛ وهناك من يحيط بهما من المثقفين المصريين؛ وهناك أيضا الأصدقاء والزملاء ممن يمرون بالقاهرة: لويس ماسينيون، ألكسندر كويريه وزوجته دو، أندريه جيد، جان كوكتو، أندريه لوت، هنري ميشو بل وكذلك طاغور وسنغور. وخلال الرحلات العديدة ندرك اتساع علاقات الزوجين: هناك المستشرقون بالطبع (ولا سيما بمناسبة المؤتمر الدولي للمستشرقين)، بل وكذلك العديد من المثقفين (روو، أونجاريتي، إلزا تريوليه ... إلخ)، ورجال دين وشخصيات عامة (من الرئيس دومير إلى البابا بيوس الثاني عشر مرورا بلابيرا) بمناسبة المؤتمرات أو تكريم طه حسين. وكما تشير سوزان: «حفلت سنوات ما بعد الحرب بلقاءات سعيدة.» ولأنها سيدة بيت ممتازة، فقد سهرت على أن تجعل من البيت لطيفا ومرحبا، ولا سيما من أجل لقاءات بعد ظهر الأحد. كانت غزارة هذه الزيارات تزعج أحيانا سوزان التي كانت تفضل أن تحمي حياتهما العائلية، وأن تسمح لطه أن يستريح؛ ويبدو أن الرحلات الصيفية وحدها إلى فرنسا أولا ثم إلى إيطاليا، كانت تسمح بهذه الراحة وهذا الاستجمام العائلي الذي تتحدث عنه سوزان في كتابها.
ألا يسعنا البقاء أيضا فترة أطول قليلا؟ «ألا يسعنا البقاء أيضا فترة أطول قليلا؟» هذا السؤال المفجع ذو الجواب المعروف الذي يتردد ثلاث مرات في النص، يصف اضطراب العاشقة المتيمة والضائعة. كيف يمكن إدامة ال «نحن» عندما يكف المخاطب عن الوجود هنا؛ عندما يمحي وجه المحبوب فإن حضوره هو الأكثر افتقادا، ومن هنا هذا الأمل بلحظة تمتد، تعبر عنها بصورة رائعة هذه ال «أيضا»، كلمة الرغبة، التي نعثر عليها في كل صفحة تقريبا، بل وأكثر في أغلب الأحيان من مختلف تصريفات الكلمة وحدها.
الصفحات الأخيرة محض قبول - تود من الآن فصاعدا أن تستقبل الذكريات «كأصدقاء» - حب حتى الذروة النهائية في المقاطع الأخيرة، والتي تبدو في آن واحد الثناء الأقوى وتصعيدا للعزلة في حب أبدي تكشفه كلمات الغائب نفسه.
إن تكرر السير في الدرب حتى العودة إلى رامتان، «عودة إليك» حيث «كل خطوة، كل باب مفتوح، كل نظرة على قطعة أثاث؛ تستدعي ماضيا لا أريد أن أصدق أنه ماض.» لكنها عودة إلى سماء مصر، إلى النور كي «عبر عيني المخضلتين بالدموع حيث يقاس مدى الحب، وأمام الهاوية المظلمة حيث يتأرجح كل شيء، (...) أرى (...) ابتسامتك المتحفظة، ابتسامتك المبهمة، الباسلة، (...) أرى من جديد ابتسامتك الرائعة.» فيما وراء ضروب الفراق كلها، وكل الآلام، فيما وراء الضحكات المجنونة والأيام الحالكة، والحملات الماكرة والسخرية المريرة، يمكن للحياة أن تجعل الإنسان سعيدا، مرة أخرى وإلى الأبد.
في هذا الكتاب الصاخب بالأصوات، وبالموسيقى، وبزقزقة العصافير وهدير البحيرات، غالبا ما يذكر الصمت، وإذا كان الموضوع أولا هو «الصمت الحاسم»، «الصمت الفظيع» للموت وللغياب، والصمت المؤثر للجماهير الثكلى، ثم - بعد صفحات - طه الغارق في «صمت شرس مخيف» إثر وقوعه «فريسة إحدى النوبات السوداء»، فإن سوزان تستدعي مرات عديدة وبشاعرية فياضة صمت الطبيعة المهدئ؛ صمت غروب هادئ تتقاسمه مع طفليها؛ جمال الجبال الصامت «لأن السيل والنبع، بعيدا عن صخب الناس العابث، هما أيضا بعض هذا الصمت»؛ «هدوء معجز» عصر يوم على الشاطئ في البندقية مع هذه العلامة التي لا يمكن أن تصدر إلا عن موسيقية وعن راهبة: «ما كان أجمل صمت البحيرة!»
زينه ويجان
برونو بونفار
«معك» في صور
طه حسين وزوجته سوزان.
طه حسين وزوجته.
طه حسين مع زوجته.
طه حسين وزوجته وكلبهما، 1950.
سوزان طه حسين.
طه حسين في حجرة مكتبه في الزمالك.
طه حسين، ديسمبر 1942.
طه حسين مبتسما.
طه حسين مسترخيا.
طه حسين في مكتبه.
طه حسين أثناء تسلمه شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة أكسفورد، 18 نوفمبر 1950.
طه حسين بصحبة زوجته سوزان وابنه مؤنس وحفيده حسن الزيات، 1950.
طه حسين وعائلته.
طه حسين مع زوجته وابنه في منزل الأسرة بالزمالك، 1946.
طه حسين بصحبة ولديه في زيارة إلى الريف، أبريل 1935.
طه حسين ومعه زوجته وابنه.
طه حسين ومعه زوجته وابنته.
طه حسين وأسرته.
طه حسين وابنه مؤنس، الجمعة 28 أبريل 1950، نيس، فرنسا.
طه حسين بصحبة ابنته أمينة.
طه حسين مع زوجته وعدد من زملائه على متن إحدى السفن.
سوزان طه حسين، وولداها: مؤنس وأمينة.
طه حسين وسكرتيره الشخصي فريد شحاتة.
طه حسين مع «هيلين كيلر» خلال زيارتها مصر، وإلى يسار الصورة زوجته سوزان وابنه مؤنس.
طه حسين أثناء زيارته لندن، وإلى اليمين يقف السفير المصري، وإلى اليسار ممثلة عن وزارة التعليم البريطانية.
طه حسين وزوجته في ضيافة عمدة مانشستر أثناء زيارتهما للمملكة المتحدة، نوفمبر 1950.
في تونس.
طه حسين في زيارة للمغرب، وبصحبته سكرتيره الشخصي فريد شحاتة.
صورة لطه حسين يظهر فيها النحاس باشا وفؤاد باشا سراج الدين، 7 مايو 1943.
طه حسين مع زوجته أثناء تنقلهما بين المغرب وإسبانيا والبرتغال.
هوامش
هذا الكتاب
مقدمة
معك
متفرقات
تذييل: تأملات حول نص، وحياة، وعالم
Unknown page