وكانت الشمس قد مالت للمغيب وصبغت أطراف السحب بألوان الشفق الزاهية مرة أخرى، وكانت الرياح الحائرة الثائرة ما تزال تثير في الفضاء غلالة من الغبار يبدو من تحتها قرص الشمس أحمر مختنقا مثل جذوة نار تتقد من تحت الرماد. ووقف السلطان فوق الربوة ينظر إلى مدخل الوادي، وتبسم ابتسامة ضئيلة عندما رأى كوكبة من فرسان العرب مقبلة نحوه. ولما اقتربت منه رأى الأمير حسن بن مرعي على رأسها، فصاح به قائلا: حسبك أيها الأمير، لا تكلف نفسك عناء، فإني رجل واحد.
فرفع الأمير رمحه قائلا في حنق: يا مولاي لا تسئ بي الظن، فإنما جئت لأقف بينك وبين هؤلاء الترك.
فزالت الابتسامة عن وجه السلطان، ونظر حينا إلى الأمير العربي في دهشة وعيناه تطرفان، وأبصر جموع الترك وهي تتدافع في صف طويل من مدخل الوادي، ثم تنحدر كالسيل وتحيط بدائرة فرسان العرب من وراء. ومضت دقائق طويلة وفرسان العرب يقفون من وراء أميرهم، وعليهم مظهر التحدي ينتظرون ما تأتي به اللحظات المقبلة. وخشعت الأصوات. وخيم على الجموع الزاخرة صمت يشبه السكون الرهيب الذي يشمل الجو قبل العاصفة. فعرف السلطان أن صديقه العربي قد آثر الموت بمن معه في سبيل المروءة، وجالت في عينيه الدموع واختنق صوته عندما حاول الكلام، ولكنه جاهد نفسه وصاح في حشرجة: يا حسن بن مرعي! جزاك الله عني خيرا أيها الأمير. لقد كنت أستطيع النجاة لو أردت الحياة. دعني لقضائي فقد وفيت بذمتك.
فصاح الأمير العربي: لن أسلمك ما دام سيفي في يدي.
فنادى السلطان وقد عاد صوته إلى الصفاء: إني آمرك يا حسن بن مرعي. لا تسفك دما بعد هذا. إني أسلم نفسي. أين قائد الجيش التركي؟
فسكت الأمير حسن ولم يجب، وتقدم قائد الترك «إياس» من بين الصفوف، وأمر قواد جيشه أن يرتدوا بالجند إلى الوراء، ثم ترجل عن فرسه وأغمد سيفه وتقدم نحو الربوة يريد أن يخرق حلقة العرب التي حولها، فاعترض حسن بن مرعي سبيله متحديا.
فصاح السلطان من أعلى الربوة: أفسح له أيها الأمير، مر جندك أن يفسحوا له، إني آمرك إن كنت محتفظا بالولاء. تقدم أيها القائد فإني أنتظر.
فأطرق الأمير حسن إلى الأرض، وسار القائد «إياس» مصعدا في الربوة حتى بلغ موضع السلطان.
ولم يقو الأمير العربي على النظر إلى ورائه عندما علت صيحة الفرح من جنود الترك، فهمز جواده وانطلق مسرعا وفرسانه يركضون في أثره حتى خرجوا من الوادي إلى الفضاء.
وأخذ إياس بذراع طومنباي وهو محتفظ بسيفه ونزلا معا ليركبا عائدين إلى القاهرة، ليكون طومنباي آخر السلاطين.
Unknown page