36

ثم أخذ يحدثهم عن العدو الذي تسلل إلى الديار في غيبتهم فسلب الأموال وسفك الدماء. ثم قص عليهم أسر هند. لقد كان أول هم العدو أن يحيط بخباء هند فجعلها أثمن غنائمه، وأردفها وراءه على فرسه البيضاء، ونجا بها قبل أن يدركه أحد من آل حجر أو أتباعه المخلصين. ولم يصبر حجر ليسأل طويلا عن حديث الغزوة، فقد كان أول همه أن يبادر إلى العدو ليستخلص منه زوجته وحبيبته الحسناء.

وطلعت الشمس على جيش حجر وهو يحث مطاياه عائدا بجيشه نحو الغرب يطلب منازله في نجد، لعله يدرك عدوه قبل أن ينجو بما غنمه منها. وكان حجر صامتا ينفث في أنفاسه سما، ويهوي على دابته بالسوط وهي تنهب الأرض، ولا يزال يستبطئها ويعنف في القسوة عليها. وبعد أيام بلغ هضاب نجد وطالعته رياحها العاطرة، ورأى رمالها صفراء ناعمة لا أثر عليها ينم عن الغارة التي شنها عليه عدوه الحانق. ولكن امرأته لم تكن هناك. وكان أول همه أن يرسل رجلين في آثار العدو يتحسسان أخباره، ويريان كيف أصبحت هند معه وكيف صارت إليه حالها. وكان قلبه يذوب كلما تصور ذلك العدو القاسي يسومها الذل والعذاب في أسره.

وقضى أياما في عذاب لا يذوق نوما، وهل ينام من يعلم أن حبيبه يعاني مرارة الأسر ويتجرع غصص الفراق؟ وعاد إليه رسوله سدوس بعد أيام يحمل إليه الأنباء، وأخذ يحدثه في ضوء القمر بين الكثبان العفراء، وسمع حجر سدوسا يتكلم وكان شاخصا ببصره في الفضاء يكاد بريق الغضب في عينيه يلمع في ضوء القمر الوضاء، وأخذ سدوس يصف له كيف تسلل إلى جيش العدو في الليل، وكيف زحف على الرمال حتى صار وراء خيمة هند وسمع حديثها مع العدو الذي اختطفها. وكان كلما أفاض في وصفه تلوى حجر كأن النار تتقد في حشاه، يقبض يده تارة ويبسطها، وينزع حبوته مرة ثم يشدها، حتى قال له سدوس: ثم دنا زياد من هند!

فصاح حجر مقاطعا: مهيم! ويحك، أتقول إنه دنا منها؟

واستمر سدوس في حديثه فقال: نعم، دنا منها فاستقبلته مرحبة!

فصاح حجر قائلا: ويلك، أتقول إنها رحبت به؟

فقال سدوس: ثم أهوى إليها بقبلة.

فهب حجر من مجلسه كأنه قد لسعته أفعى، وقبض في يمناه قبضة من غصن مرار كان في جواره، فقطعه بأسنانه وجعل يلوكه، وقال وهو يهدر غضبا: ويل أمه وويل لك! ماذا تقول يا سدوس؟

فقال الرجل وقد خشع خوفا: إذا شئت أن أمسك عن الكلام أمسكت.

فقضم حجر قطعة من المرار وجعل يحطمها بأسنانه ويلوكها، ثم قال بصوت مختنق: بل امض في حديثك لا أم لك ...

Unknown page