وفيما كنا نسير في أصيل اليوم الثالث من رحلتنا، سمعت صاحبي يصيح فجأة: اسمع ...
فنظرت إليه فوجدته يحدق بنظره في ناحية عن يسارنا بها مدخل واد ضيق، وقال وهو يوقف السيارة: انظر إلى هذا الموقع. إن شيئا في مظهره يأخذ بنفسي.
فتأملته لحظة فإذا هو يشبه فناء بيت من تلك البيوت التي يصفها علماء آثار ما قبل التاريخ، عندما كان الإنسان يتخذ من الكهوف منازل قبل أن يعرف سر البناء. وشعرت بشيء يجذبني إليه. فقلت لصاحبي وأنا أنحدر إلى الوادي: إن التمتع بالصحراء لا يتم لمن يسير على مثل هذه السيارة السريعة.
فأجابني صاحبي في ابتسامة عابرة: حقا، إن السيارة هنا دخيلة، إنها تدنس أرضا خلقها الله لتكون وادعة مطمئنة راضية بسير إبلها.
وكان يسير إلى جانبي ويحدثني وأنا متجه بكل اهتمامي نحو مدخل الوادي. ولو كانت الجان تتخذ بيوتا لما كانت تختار إلا مثل هذا المكان.
وبعد جولة قصيرة في الوادي بدا لنا أن نقضي الليلة هناك، فقد كان منزلا طبيعيا لمن يمر بذلك الجانب من الصحراء. وجلسنا بعد ساعة إلى جانب صخرة قائمة في وسط الفناء الفسيح الذي ينفرج من وراء المدخل الضيق، وأعددنا عليها طعامنا وجعلنا نضرب في شعاب الحديث، كأننا على مائدة في فندق عظيم في عالم مسحور.
وقلت لصاحبي: كم من الناس أتوا قبلنا إلى هذا المكان وجلسوا حول هذه الصخرة كما نجلس؟ وكم من أجيال من البشر مرت من مدخل هذا الوادي إذا عرجت لقضاء ليلة هنا في أسفارها الطويلة؟
فقال صاحبي: لعل هذه الصخرة كانت مذبحا مقدسا تنحر عليه القرابين للآلهة التي لم يفهم الناس سرها؟
والحق أنني فطنت عند ذلك إلى سر الرهبة التي أحسستها منذ دخلت إلى ذلك الفناء الفسيح.
وجلسنا لحظة في صمت ننظر فيما حولنا، وخطر لي أن هذا المكان البعيد ينطوي في صمته على أسرار عميقة.
Unknown page