ولما رأى الشيخ تلميذه مقبلا رمى مطرقته وإزميله ومد يده ليصافحه صامتا. ولم ينطق دوشري بكلمة عزاء، بل نظر إلى الرجل في صمت ثم ترك يده وحول عنه وجهه وأجهش بالبكاء. وأسرع مبتعدا ليتدارى وراء جدار المقبرة، ثم ارتمى على الرمال وترك دموعه تتدفق ليخفف عن قلبه المحترق وصدره المختنق. وعاد أمنكارع إلى جدار المقبرة يضرب فيه بمطرقته وإزميله في عنف وهو صامت، وكان أمامه لوح من الجرانيت الأحمر فيه نقش صورة ما تزال تحتاج إلى المزيد، والشيخ يضرب بمطرقته وإزميله بغير توقف كأن في داخله ثورة عنيفة.
وقام دوشري بعد أن استطاع أن يتماسك، فذهب إلى الشيخ ووضع يده على كتفه مترفقا، فرفع الشيخ رأسه ورمى بالمطرقة ورفع يده فمسح عرقه المتصبب من جبينه، وتنفس نفسا عميقا وهو ينظر نحو دوشري، ثم استرخى وخر متهالكا. وبعد حين رفع رأسه في فتور وقال: هذا أنت يا دوشري، لقد وعدت أن أصنع لك صورة فوق الجرانيت الأحمر. ها هي ذي صورتك يا بني، ولكنها صورة باكية.
ثم قام وترك الفتى ينظر باكيا إلى الصورة، وانطلق يسير في طرق مدينة الموتى المتعرجة حتى اختفى.
وأما دوشري فقد عزم على أن يعود إلى أون من ساعته، وأن يذهب إليها في هذه المرة ليكون كاهنا راهبا.
وقد عرفت طيبة فيما بعد كاهنها الطيب الوديع دوشري، ذا البشرة البيضاء والعينين الزرقاوين، الذي يقال إنه كان من قبل أميرا جميلا ثم جذبته محبة آمون فآثر خدمة الإله على أن يكون ملك المتاني.
وقد عرف عن الكاهن دوشري أنه كان في كل يوم يعبر إلى مدينة الموتى في الغرب ليذهب إلى قبر نفرتويا وقبر أمنكارع الذي في جواره؛ لأنهما كانا حبيبين لآمون.
وكان دوشري كلما ذهب إلى المقبرة وقف حينا ينظر إلى الصورة البديعة التي في اللوحة الحمراء الجرانيتية، ثم يتمتم قائلا كأنه يتلو صلاة:
قد نزول نحن عن الأرض، ولكن خلجات نفوسنا تبقى مع الفن إلى الأبد في هذه الصخور الصماء.
حبيب آمون
«كان السلطان والعقل يتنازعان منذ آلاف السنين كما لا يزالان يتنازعان إلى اليوم. وقليلون هم الذين يرفضون السلطان طاعة للعقل.»
Unknown page