ثم أحس فجأة بعطش شديد إلى كأس من تلك الكئوس التي تلمع بين الأنامل الأنيقة، فقام إلى البار وتشجع إذ لم يلتفت إليه أحد. ولما شرب الكأس الأولى أحس العطش يزداد به إلى أخرى، وما زال حتى دب في نفسه الأنس وبدأ ينظر إلى البهو بعينه النشوى. صار البهو في عينيه ملهاة صاخبة ضاحكة، وبدأ ينطلق من انطوائه ووحشته، وتردد على الحلقات التي يعرف من فيها والأخرى التي لا يعرف أحدا فيها، وأبهجها جميعا بفكاهاته وضحكاته العالية. وانطلقت أنغام الموسيقى تتردد جريئة مطربة، وسال البهو بالراقصين والراقصات، ولمعت جنباته بالوجوه الباسمة المشعة. وكانت القدود الرشيقة تتجاوب في نعومة مع الأنغام السريعة، كأنها تسبح فوق الهواء بخطواتها الخفيفة.
وتخاصر النساء والرجال، بين شباب وكهول، يتمايلون في ليونة ويتناظرون بلحظات وانية. وكانت ملابسهم تلمع تحت الأنوار كأنها قوس قزح مختلف الظلال، والوجوه المضيئة تبرق بالأذهان مثل لوحات في معرض فني. وأحاطت السواعد بالخصور، واستدارت الظهور البضة العارية إلى الصدور الغضة السافرة تتطلع إليها أطراف الحلل الحريرية مترددة كأنها تريد أن تتساقط. وتدفقت الهمسات الرقيقة في الأسماع واقتربت الأعناق من الأعناق.
وكان الأستاذ عطية قد عاد إلى ركن من البهو يرتشف من كأس أخرى في استرخاء، وعثرت عينه بصاحبه جابر بك يراقص غادة حسناء كأنها جنية خرجت من البحر في أقل ثيابها، وكان ظهرها العاري يكذب برد الشتاء، وقد لبست في يديها قفازين من الجلد الرمادي يغطيان معصمها وبعض ساعديها، وكانت يمينها معتمدة في رفق على كتف صاحبها، ويسارها في يمينه. ونظر جابر نحو الأستاذ عطية فتلاقت عيناهما وخيل إلى عطية أنه يبتسم. وكان على رأس الغادة طرطور من ورق ملون له ذؤابة تترجح بحركة ناعمة مع حركات الرقص، وقد عقدت في شعرها شريطا من الحرير الأحمر ورشقت فيه وردة حمراء كبيرة.
ووقف الأستاذ عطية ذاهلا يتطوح ويسأل نفسه: من هذه الساحرة الجريئة؟ ووثبت إلى ذهنه المخمور صورة صديقه كوكو المسكين وهو يراقصه بجسمه العاري وذؤاباته الملونة ووردته الكبيرة الحمراء. ثم لاحت له من ثنايا لمحات وجه الحسناء ملامح صورة قديمة يعرفها، صورة الفتاة الصغيرة الوديعة «بسمة» الدعجاء. وصرخ في مكانه صرخة خافتة، وكاد يعيد صرخة عالية يناديها باسمها. وفي مثل لمح البصر ملأ الغضب قلبه على صاحبه الذي غضب على كوكو عندما رآه يرقص معه في أول الليلة.
حقا كان كوكو عاري الجسم ولكن هذه أيضا عارية، وهي تلبس طرطورا أحمر وتضع في شعرها وردة حمراء، لا فرق بينها وبين كوكو. لا فرق بينهما سوى أنها حسناء وهو قبيح، وأنها ابنة محمود بك صعبان وهو المهرج المسكين. أي فرق بين هذه الحسناء التي ترقص بين ذراعي جابر بك وبين كوكو عندما كان يرقص إلى جانبه؟ ولماذا قال له جابر إنها رقصة مجنونة؟ ولماذا قال له إنه هم بأن ينزل ليعيد إلى كوكو عقله بصفعة؟ ولماذا أراد أن يضع كوكو في إصلاحية أو في السجن؟ فهل كوكو وحده المتوحش الذي يجلب على البلاد السخرية لأنه يسير عاريا ويرقص ضاحكا؟ ولم يدر ما هو فاعل عندما اندفع في ضحكة مخمورة واخترق الصفوف بين الراقصين حتى وصل إلى صديقه وصاحبته.
وقبل أن يفطن جابر بك إلى وجوده قريبا منهما، اندفع الأستاذ عطية نحو الآنسة صائحا: مساء الخير يا كوكو!
وبضحكة عالية انتزع الحسناء من بين يدي صديقه المذهول واندفع يراقصها كأن شيطانا يقهقه في جوفه. وفي لحظة قصيرة عم الاضطراب وانفلتت صرخة عالية من الفتاة الحسناء، وأسرع جابر إليها لينقذها من بين يديه، ولكن عطية اندفع في عنف يرقص ويغني كما كان يرقص ويغني مع كوكو.
كانت حقا رقصة مجنونة!
وسقطت الفتاة مغشيا عليها، وسقط الأستاذ عطية قريبا منها لا يسمع شيئا!
وفي تلك اللحظة انطفأت الأنوار بناء على برنامج الحفلة كما جرت العادة في نصف تلك الليلة، فتسلل جابر بك من البهو وهو يترنح، وكانت تلك آخر مرة دخل فيها إلى قصر الوجيه محمود صعبان، وآخر مرة سمحت له الآنسة بسمة بزيارتها كخطيبة.
Unknown page