maʿaʾl-mushakkikīn fī al-Sunna
مع المشككين في السنة
Editor
فاروق يحيى محمد الحاج
Genres
ولو كان الاشتغال بالجنس المباح يزري بمنصبه ﵊ لم يتزوج إحدى عشرة امرأة غير الإماء، ولاكتفى بواحدة. وكيف يكون مزريًا بمنصبه وقد اعتبره ﷺ عبادة يؤجر عليها الرجل؟ ففي الحديث الصحيح عن أبي ذر ﵁ أن النبي ﷺ قال: (وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ) (^١).
ومع ذلك فلم يكن الجنس كل همه ﷺ ولا شغله الشاغل، ويدلُّ على ذلك:
١ - أنه ﷺ لم يجمع قبل الهجرة بين اثنتين من النساء قط.
٢ - لم يتزوج ﷺ بكرًا غير عائشة ﵂.
٣ - لما غاضبنه أزواجه ﵅ بسبب النفقة آلى ﷺ منهنَّ جميعًا، وحلف ألا يدخل عليهنَّ شهرًا (^٢).
فلو كان ليس له ﷺ همٌّ إلا الجنس لما استطاع أن يصبر عنهنَّ شهرًا كاملًا.
ولم يكن حبه ﷺ للنساء يشغله عن واجباته وأعماله الدينية والدنيوية، فهذه عائشة ﵂ تحدِّثنا عما كان يصنع في بيته لما سُلت عن ذلك، فعن الأسود قال: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ: مَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ -تَعْنِي: خِدْمَةَ أَهْلِهِ- فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ) (^٣)، يعني: ولم يلتفت إليهنَّ ﵅.
فهل يجوز بعد هذا أن يتهم العلماء الربانيون والمحدِّثون الصادقون بأنهم ينسبون إلى النبي ﷺ روايات غير صحيحة تصوّره أنه شهواني، شغله الشاغل وهمه الأكبر هو النساء؟ سبحانك هذا بهتان عظيم، وزور وحوب كبير!
ثالثًا: أن أنس بن مالك ﵁ ليس الصحابي الوحيد الذي روى طواف النبي ﷺ على نسائه ﵅، بل شاركه في ذلك:
١ - عائشة أم المؤمنين ﵂، وهي واحدة ممن طاف عليهن ﷺ.
٢ - أبو رافع ﵁ مولى النبي ﷺ.
وهذا ما كان يجهله صاحب الرسالة، أو أنه تجاهله عمدًا؛ ليُلبِّس على النَّاس ويقوِّي حجته، وحجته بحمد الله داحضة. وبيان ذلك في الآتي:
- أما حديث عائشة ﵂ فأخرجه الشيخان عن محمد بن المنتشر قال: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ، فَذَكَرْتُ لَهَا قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ: مَا أُحِبُّ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا أَنْضَخُ طِيبًا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَنَا طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ طَافَ فِي نِسَائِهِ، ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا) (^٤).
وفي رواية عنها ﵂: (كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَيَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا يَنْضَخُ طِيبًا) (^٥).
- وأما حديث أبي رافع ﵁ فأخرجه أبو داود عن أبي رافع ﵁: (أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ طَافَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى نِسَائِهِ، يَغْتَسِلُ عِنْدَ هَذِهِ وَعِنْدَ هَذِهِ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلَا تَجْعَلُهُ غُسْلًا وَاحِدًا؟ قَالَ: هَذَا أَزْكَى وَأَطْيَبُ وَأَطْهَرُ) (^٦).
وقال أبو داود عقب ذكره: «وحديث أنس أصح من هذا» (^٧).
قلت: وهذه العبارة لا تعني ضعف الحديث عند العلماء، ولهذا سكت عليه ابن حجر لما ذكره في الفتح (^٨)، مما يدلُّ على أن أقل درجاته عنده أنه حسن، كما هو معروف من منهجه.
وبهذا يتضح: عدم انفراد أنس ﵁ بهذا الخبر، وأنه يمكن أن يكون تلقاه عن عائشة ﵂ أو عن النبي ﷺ نفسه. ولا مانع من ذلك، ولا محظور فيه شرعًا؛ لأنه لا يدخل في مسمى الأسرار الزوجية التي يحرم إفشاؤها والتحدُّث بها، وقد دلَّت النصوص على أن ذكر الجماع بمجرده لا يعتبر سرًا من الأسرار الزوجية المنهي عن إفشائها، غير أنه لا ينبغي التحدث به إلا عند الحاجة، فقد جاء في الحديث عن عائشة زوج النبي ﷺ قالت: (إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنِ الرَّجُلِ يُجَامِعُ أَهْلَهُ ثُمَّ يُكْسِلُ هَلْ عَلَيْهِمَا الْغُسْلُ؟ وَعَائِشَةُ جَالِسَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: إِنِّي لَأَفْعَلُ ذَلِكَ أَنَا وَهَذِهِ ثُمَّ نَغْتَسِلُ) (^٩).
(^١) صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (٢/ ٦٩٧)، رقم (١٠٠٦).
(^٢) عن أنس ﵁ قال: (آلَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا). صحيح البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب الغرفة والعلية المشرفة وغير المشرفة في السطوح وغيرها (٣/ ١٣٥)، رقم (٢٤٦٩)، وصحيح مسلم، كتاب الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ﴾ [التحريم:٤] (٢/ ١١١٢)، رقم (١٤٧٩).
(^٣) صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب من كان في حاجة أهله فأقيمت الصلاة فخرج (١/ ١٣٦)، رقم (٦٧٦).
(^٤) صحيح البخاري، كتاب الغسل، باب من تطيب ثم اغتسل وبقي أثر الطيب (١/ ٦٢)، رقم (٢٧٠)، وصحيح مسلم، كتاب الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام (٢/ ٨٤٩)، رقم (١١٩٢).
(^٥) صحيح البخاري، كتاب الغسل، باب إذا جامع ثم عاد ومن دار على نسائه في غسل واحد (١/ ٦٢)، رقم (٢٦٧)، وصحيح مسلم، كتاب الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام (٢/ ٨٤٩)، رقم (١١٩٢).
(^٦) مسند أحمد (٣٩/ ٢٨٨)، رقم (٢٣٨٦٢)، وسنن ابن ماجة، كتاب الطهارة وسننها، باب فيمن يغتسل عند كل واحدة غسلًا (١/ ١٩٤)، رقم (٥٩٠)، وسنن أبي داود، كتاب الطهارة، باب الوضوء لمن أراد أن يعود (١/ ٥٦)، رقم (٢١٩). وقال الألباني: «حسن». صحيح سنن ابن ماجة للألباني (١/ ١٨٢)، رقم (٤٨٦).
(^٧) سنن أبي داود (١/ ٥٦).
(^٨) انظر: فتح الباري لابن حجر (١/ ٣٧٦).
(^٩) صحيح مسلم، كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين (١/ ٢٧٢).
1 / 268