دخل حسن غرفته بعد أن ترك والدته في ردهة البيت، ووقف فيها هنيهة كأنه يقرئ السلام كل ما في الغرفة من كتب وفراش؛ إذ للجماد في قلوب أهل الخيال مكانة لا تقل عن مكانة بني الإنسان. وقف حسن هنيهة، ثم أرسل زفرة أطلقتها جوانحه، لم يسمعها غير كلبه الأمين «سحاب» الذي أتاه يبصبص بذنبه كأنه يسأله الصفح عن تأخره. جلس حسن على كرسي ونظر لكلبه نظرة العاتب، ثم ناداه بصوت حنون رقص له الكلب طربا وقفز ليجلس على ركبتي سيده، فأمسك به حسن وداعبه قليلا قائلا له: «أين كنت يا سحاب؟ وإلى متى تهمل سيدك وهو الذي أحسن إليك وآواك إلى منزله ليلة كنت ترتعد بردا أمام الباب، وقد نبذك أصحابك كما ينبذ الطفل النواة؟ أهذا جزاء الإحسان؟» وتمادى حسن في عتابه، واستمر الكلب في إظهار ولائه، وكان الوقت - كما قلنا - وقت الغروب، وقد اختفت الشمس ولم يبق في الأفق إلا احمرار الشفق، وحانت في تلك الساعة التفاتة من حسن للنافذة، فإذا به يرى في البيت الذي يقابل لبيته فتاة تطل من نافذتها لتمتع بصرها بجمال الطبيعة، وتنظر نظرة المعجب لتورد خدود السماء. نظر حسن للفتاة نظرة لم تعرها التفاتا كأنها أتت للنافذة وفي قصدها غير لقائه؛ إذ الحياء كما نعلم من خلق النساء. ناداها حسن بصوت يسمع السامع منه رنين الحب والخوف، فالتفتت إليه جافلة كما يجفل الريم وقد سمع خطوات الصياد. ثم اطمأنت له بعد أن عرفته، وأشار إليها بالسلام فردته بأحسن منه، وتلى سلامه بقبلة أرسلها على أطراف أنامله، احمر لها وجه تلك الفتاة الخرود «الكثيرة الحياء»، فكسرت من طرفها، ثم رفعته إليه وقد علت شفتيها ابتسامة جمعت بين آية الجمال والهيام، وابتدأ حسن في محادثتها، فكانت تسمع كلامه كأنها كانت معه في غرفته؛ إذ لم يكن بين بيته وبيتها غير ثلاثة أمتار لا يعرفها إلا من عاش في أمثال ناحية الحمزاوي.
قال لها حسن: إني سعيد بلقائك يابنة خالتي، ولقد فكرت فيك طول اليوم وأنا مثلوج الفؤاد، وكنت كلما استرجعت في مخيلتي صورتك المحبوبة، أشعر بالفرح يهز عطفي، وبالسرور يتمشى في جوانحي. كيف حالك اليوم؟ - كما ترومه أنت، وكيف حالك؟ - المحب المحبوب لا يشعر بحزن، ولا يتفجع لمكروه. - وهل حل بك مكروه؟ - لقد خاصمني أستاذ النحو اليوم، وعاقبني أمام إخواني الطلبة حتى ندي وجهي عرقا. - أتعد يا عزيزي خصام الأستاذ مصيبة تفتت الكبد وتمزق الأحشاء؟! - خصام كل أستاذ سهل على أفئدة الطلبة، ولكن خصام «الصاعقة» ... - أما زلت تسمي أستاذ النحو ب «الصاعقة»؟ - اسم وافق مسماه يا عزيزتي. - دع عنك هذا الفكر جانبا ولنفكر بأمر آخر. - لنفكر بحبنا، فهو أحسن وقعا على قلبي.
أمالت لبيبة بعطفها عند سماعها كلمة الحب للمرة الثانية، ونظرت إليه نظرة المحبة الوفية الصادقة، وقالت: وهل يبقى هذا الحب في قلوب الرجال طويلا؟ - ما بقيت الأرض والسماء. - ألم تستهو فؤادك اليوم نظرات الغيد في الطريق؟ - أسير في الطريق وصورتك في مخيلتي. أنت معي في كل مكان؛ في البيت وفي المدرسة وفي الشارع وفي الحدائق، حتى وفي الساعة التي أجتهد فيها لفهم درس يصعب على سواد الطلبة فهمه. أنت الحياة. أنت الوجود. أنت الدنيا وما فيها من نعيم، وإني أقسم لك على الوفاء حلفة عاشق صدوق المقال يبر بقسمه حتى آخر نسمة من نسمات حياته.
واستمر المحب يغازل حبيبته و«سحاب» جالس عند أقدام صاحبه كأنه الشاهد العدل على هذا الحب، وعلى هذه الأقسام التي تترى على ألسنة الناس ولا تلبث أن تذروها الرياح. وسمعت لبيبة أمها تناديها، فأسرعت للقائها بعد أن حملت النسيم قبلات عديدة، وكاد أن يشعر حسن بحرارتها على خديه، وما لبيبة هذه إلا ابنة تبلغ السابعة عشرة تربت تربية حسنة، وتعلمت تعليما يحسدها عليه الكثيرات من أترابها، وأبوها عبد الرءوف أفندي خال حسن، رجل طيب السيرة والسريرة، سكن أمام منزل المرحوم مصطفى أفندي بعد وفاته؛ ليكون عونا لأخته «والدة حسن» إذا دعتها الحال لطلب المعونة، والحياة تدعو النساء كثيرا لذلك.
وقف حسن بعد أن غادرته ابنة خاله قليلا، ينظر للسماء تارة ولنافذة حبيبته تارة أخرى، إلى أن سمع صوت أمه تناديه قائلة: لقد أعددت الطعام يا حسن. هيا لتتناول عشاءك. - ها أنا ذا يا أماه ...
الفصل الثاني
- ألم تقرأ مقالة إبراهيم يسري في مؤيد أمس؟ - لم أطالع الجرائد أمس. - أنا أعلم الناس بعاداتك يا محمود، فأنت ممن يأنفون من مطالعة الجرائد. - بل أنا يا عبد العزيز ممن لا يضيعون أوقاتهم في قراءتها. - بل ممن يضيعون أوقاتهم في لعب الكرة. - الكرة ديدني يا عزيزي، وإني لا أجد فيها ضياعا للوقت كما تزعم، وهل وقع إبراهيم مقالته باسمه؟ - كتبها تحت اسمه المستعار كعادته. - إني لا أعرف لقبه الجديد. - لقد كتبها تحت اسم «ابن بطليموس». - لقب مضحك.
والتفت يمينا فرأى حسن أمين يقترب منه فصاح به قائلا: ألا ترى يا أبا الإنشاء في لقب «ابن بطليموس» ما يدعو للضحك؟! - لقد قرأت مقالته، وأعجبني فيها سمو خياله، وجمال أسلوبه؛ إذ وصف الأهرام وأبا الهول وصفا دل على سلامة ذوقه ونصاعة بيانه. ألا تشاطرني رأيي هذا يا محمود؟ - أنا لا أشاطر الناس أفكارهم في شيء لم أقف عليه، وأظن أخي عبد العزيز يوافقني على ذلك وإن كان ينكر علي إهمال مطالعة الجرائد.
فقال عبد العزيز وهو كاره: إن أهوائي لا توافق أهواءك يا محمود، فعبث الكلام في ذلك. - إني ذاهب لأرى من أميل إلى مذهبه.
وترك محمود رفيقه ومشى يوسع الخطا مبتعدا عمن لا يتكلمون إلا في جودة الإنشاء وطلاقة اللسان. ثم التفت عبد العزيز لحسن وقال له: وما رأيك أنت؟ إنك بلا شك ممن لا يغضبهم الكلام النافع. - وهل ظننت في غير ذلك؟ - كلا وحاشا أن أظن فيك الظنون، ولكني أرى بين نابتة اليوم قوما لا يعبئون بخدمة بلادهم ولا يعملون إلا على خذلانها بانصرافهم للهو والألعاب؛ ولذا تراني أرثي لحال محمود مع اعترافي له بالتفوق في لعب الكرة. أنا لا ألوم التلاميذ الذين يخصصون جزءا من وقتهم للتريض، ولكني ألوم الذين لا يفعلون ذلك. إن للدرس يا حسن ساعة وللتريض ساعة. - بلا شك، ولكن أتعلم كيف توصل إبراهيم يسري للكتابة في جريدة كبيرة؟ - ابتدأ بالكتابة في جريدة صغيرة، وشجعه صاحبها على المثابرة حتى ثبتت أقدامه في ميدان الكتابة، وهو ميدان وعر كما تعلم، ووجد في نفسه الكفاءة لأن يحرر في جريدة يقرؤها سواد الناس في مصر، فكتب في المؤيد. - ولكن علام تسألني يا أبا الإنشاء هذا السؤال؟ أفي نفسك ميل للكتابة في الجرائد؟
Unknown page