سنة 1917
الشباب الضائع
رواية قصصية مصرية
الفصل الأول
كان الأستاذ الشيخ محمد عبد العليم يلقي على تلاميذ الفصل الأول من السنة الأولى بالمدرسة الخديوية في الساعة الثالثة بعد الظهر درسا في «المبتدأ والخبر»، وكانت التلاميذ مصغية إليه إصغاء الطفل لنصائح أبيه؛ لا حبا في الأستاذ ولكن خوفا من شدته؛ إذ كان معروفا بينهم ببأسه وغلظ كبده، حتى لقبه أشقياؤهم بالصاعقة، فكان إذا لاح شبحه من بعيد وهم يلعبون ويمرحون في فناء المدرسة، صاح أحدهم قائلا: «هلم بنا نغادر هذا المكان قبل أن تحل به الصاعقة.» وتعقب هذه الصيحة ضحكات متواليات تدل على بغضهم للأستاذ ونفورهم منه، وما كان الأستاذ بالرجل ذي القلب الأسود كما يزعمون، ولكنه كان ممن يتفانون في حب النظام ومراعاة الآداب، وكم من مرة رأف بتلاميذه وأشفق عليهم وساعدهم إذا خانهم الحظ في الامتحان.
أتم الأستاذ درسه ونظر في ساعته، ثم قال: «ليرفع سبابته من تعسر عليه فهم شيء من درس اليوم.» وأجال ببصره بين صفوف تلاميذه فلم يجد بينهم من أجاب سؤاله، فابتسم ابتسامة الظافر، وقال: «نتيجة حسنة تبشر بمستقبل باهر، إن كنتم فيما فعلتم صادقين.» وحول بصره لوجه شاب أسمر اللون نحيف القوام، أقنى الأنف أسود العينين، يرى الناظر فيهما أثرا للحزن والتفكير. نظر إليه الأستاذ مليا والتلميذ حاسر الطرف، ثم قال له بلهجة الهازئ: «ما رأي أبي الإنشاء في درس اليوم؟» فلم يجب التلميذ ببنت شفة، فأردف الأستاذ جملته بجملة أخرى أغضى لها التلميذ حياء، وكاد يجول الدمع في عينيه؛ إذ كان من خلقه الحياء الشديد، حياء يقرب من الجبن.
قال له الأستاذ: «أتلوي عطفك أنفة وتصعر خديك استكبارا؟!» وألقى عليه سؤالا في درس اليوم وطلب منه الإجابة، فلازم التلميذ الصمت لتشتت فكره، فقال الأستاذ وهو يحرق الأرم: «لقد أهملت النحو وانصرفت نفسك للإنشاء؛ ولذا تأتي بالخطأ الفادح في جملك المنمقة، ولو تبعت نصحي وخصصت جزءا من وقتك لدراسة النحو، لكان لك في فن الإنشاء شأن عظيم؛ إذ لا ينكر أحد جمال أسلوبك، ولكني أبشرك بخمول الذكر ما دمت لا تسمع إلا ما توحيه إليك نفسك.» وتمشى الأستاذ يمنة ويسرة وهو غير ملتفت للتلميذ، ثم أدار إليه وجهه وقال: «اجلس.» ودق الناقوس معلنا للطلبة ساعة انصرافهم، فخرج الأستاذ تتبعه التلاميذ إلى فناء المدرسة.
وقف التلاميذ في الفناء صفا صفا، ونادى الضابط المعاقبين وكانوا كثيرين في ذلك اليوم، وانتظر التلاميذ ناظر المدرسة إلى أن وافاهم، وأدوا له التحية وهو واقف على درج لم يكن غير «سلم الفناء»، فأذن لهم بالانصراف، فغادروا باب المدرسة وهم ثملون بخمرة حريتهم بعد سجنهم.
خرج حسن أمين «أبو الإنشاء» مع من خرجوا من التلاميذ وهو يتعثر بأثواب خجله وخيبته، وما زال يفكر فيما سمعه من أستاذه أمام إخوانه إلى أن وصل إلى باب المدرسة الخارجي، فابتدره البواب قائلا: ما الذي يشغل بالك يا حسن بك؟ - لا شيء يا عم طه.
وسار حسن في شارع درب الجماميز وهو مطأطئ الرأس إلى أن وصل إلى ساحة باب الخلق، وهناك عرج على قهوة وطنية معلقة عليها لوحة مكتوب عليها بالثلث «النادي المصري»، وجلس في ركن من أركانها يفكر كالشاعر الذي يمنعه خياله عن رؤية ما حوله، ثم وافاه خادم القهوة حاملا تحت إبطه جريدتين، وضعهما أمامه وهو يقول: هاك اللواء والمؤيد يا سيدي، وسآتيك بالأهرام والمقطم بعد أن أعد لك القهوة.
Unknown page