ما دل عليه القرآن
مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان
تأليف
السيد محمود شكري الآلوسي
تحقيق
محمد زهير شاويش
تخريج
محمد ناصر الدين الألباني
1 / 1
جمع الحقوق حفوظة
الطبعة الثانية
١٤١٨ هـ - ١٩٩٧م
المكتب الإسلامي
1 / 2
مُقَدّمَة الْمُؤلف
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
نحمدك يَا مبدع الأكوان، وَيَا خَالق الْكَوْن وَالْمَكَان، وَيَا ميسر الْفلك على حسب مَا تَقْتَضِيه الْحِكْمَة من الدوران؛ وَنُصَلِّي ونسلم على نبيك " مُحَمَّد " الَّذِي سريت بِهِ من حرم إِلَى حرم، ورفعته من سَمَاء إِلَى سَمَاء، حَتَّى أوصلته إِلَى مقَام لَا تصل إِلَيْهِ الأذهان، صلى الله تَعَالَى وَسلم عَلَيْهِ وعَلى آله وَأَصْحَابه بدور سَمَاء الدِّرَايَة وَالْهِدَايَة وشموس أفلاك الْعرْفَان.
أما بعد: فقد شاع فِي عصرنا قَول " فيثاغورس " الفيلسوف الشهير فِي هَيْئَة الأفلاك، وَنَصره الفلاسفة الْمُتَأَخّرُونَ، بعد أَن كَانَ عاطلا مَهْجُورًا، وَهُوَ القَوْل بحركة الأَرْض اليومية والسنوية على الشَّمْس، وَأَنَّهَا هِيَ مَرْكَز نظامها، وَأَن الأَرْض إِحْدَى الْكَوَاكِب السيارة، وَأَنَّهَا سابحة فِي الجو، معلقَة بسلاسل الجاذبية، وقائمة بهَا، كَسَائِر الْكَوَاكِب، لَا أَنَّهَا كَمَا ذهب إِلَيْهِ
1 / 11
" بطليموس " فِي الأفلاك كالمسامير فِي الْبَاب، إِلَى غير ذَلِك من قواعدها الْمَشْهُورَة وقوانينها الْمَذْكُورَة.
وَقد سَمَّاهَا الفلاسفة الْمُتَأَخّرُونَ " الْهَيْئَة الجديدة "، لكَونهَا شاعت فِي الْعَصْر الْمُتَأَخر. وَإِلَّا، فَالْقَوْل بهَا مُتَقَدم جدا، فقد رَأَيْت كثيرا من قواعدها لَا يُعَارض النُّصُوص الْوَارِدَة فِي الْكتاب وَالسّنة. على انها لَو خَالَفت شَيْئا من مَذَاهِب السّلف الْحُرِّيَّة بِالْقبُولِ، بل لَا بُد أَن نقُول: إِن الْمُخَالف لَهما مُشْتَمل على خلل فِيهِ؛ فَإِن الْعقل الصَّرِيح، لَا يُخَالف النَّقْل الصَّحِيح، بل كل مِنْهُمَا يصدق الآخر وَيُؤَيِّدهُ.
وَأعلم أَن الشَّرِيعَة الغراء لم ترد باستيعاب قَوَاعِد الْعُلُوم الرياضية، إِنَّمَا وَردت بِمَا يسْتَوْجب سَعَادَة الْمُكَلّفين فِي العاجل والآجل، وَبَيَان مَا يتوصلون بِهِ إِلَى الْفَوْز بالنعيم الْمُقِيم، وَرُبمَا أشارت - لهه الْأَغْرَاض - إِلَى مَا يستنبط مِنْهُ بعض الْقَوَاعِد الرياضية.
وَقد ورد الْقُرْآن الْكَرِيم - فِي بَيَان ذَلِك - بِمَا خَاطب بِهِ الْعَرَب، مِمَّا يعلمونه من عُلُوم تلقوها خلفا عَن سلف. فقد كَانَت لَهُم عُلُوم ذَكرنَاهَا فِي الْكتاب الَّذِي ألفناه فِي بَيَان أَحْوَالهم، كَمَا كَانَ لعقلائهم أعتناء بمكارم الْأَخْلَاق واتصاف بمحاسن الشيم، فصححت الشَّرِيعَة مِنْهَا مَا هُوَ
1 / 12
صَحِيح وزادت عَلَيْهِ، وأبطلت مَا هُوَ بَاطِل قَبِيح، وبينت مَنَافِع مَا ينفع من ذَلِك ومضار مَا يضر مِنْهُ. فَكَانَ من علومها " علم النُّجُوم " وَمَا يخْتَص بهَا من الاهتداء فِي الْبر وَالْبَحْر وَاخْتِلَاف الْأَزْمَان باخْتلَاف سَيرهَا، وتعرف منَازِل سير النيرين وَمَا يتَعَلَّق بِهَذَا الْمَعْنى. وَهُوَ معنى مُقَرر فِي أثْنَاء الْقُرْآن، فِي مَوَاضِع كَثِيرَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جعل لكم النُّجُوم لتهتدوا بهَا فِي ظلمات الْبر وَالْبَحْر﴾، وَقَوله تَعَالَى: ﴿وبالنجم هم يَهْتَدُونَ﴾، وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَالْقَمَر قدرناه منَازِل حَتَّى عَاد كالعرجون الْقَدِيم لَا الشَّمْس يَنْبَغِي لَهَا أَن تدْرك الْقَمَر، وَلَا اللَّيْل سَابق النَّهَار، وكل فِي فلك يسبحون﴾، وَقَوله تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي جعل الشَّمْس ضِيَاء، وَالْقَمَر نورا، وَقدره منَازِل، لِتَعْلَمُوا عدد السنين والحساب﴾، وَقَوله تَعَالَى ﴿وَجَعَلنَا اللَّيْل وَالنَّهَار آيَتَيْنِ، فمحونا آيَة اللَّيْل، وَجَعَلنَا آيَة النَّهَار مبصرة﴾ الْآيَة، وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد زينا السَّمَاء الدُّنْيَا بمصابيح، وجعلناها رجوما للشياطين﴾، وَقَوله تَعَالَى: ﴿يَسْأَلُونَك عَن الْأَهِلّة، قل: هِيَ مَوَاقِيت للنَّاس وَالْحج﴾، وَمَا أشبه ذَلِك.
وَمن عُلُوم الْعَرَب: " الأنواء " وأوقات نزُول الأمطار، وإنشاء السَّحَاب، وهبوب الرِّيَاح المثيرة لَهَا، فَبين الْكتاب وَالسّنة حَقّهَا من باطلها، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي يريكم الْبَرْق خوفًا وَطَمَعًا، وينشئ السَّحَاب الثقال، ويسبح الرَّعْد بِحَمْدِهِ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَرَأَيْتُم
1 / 13
المَاء الَّذِي تشربون؟ أأنتم أنزلتموه من المزن، أم نَحن المنزلون﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وأنزلنا من المعصرات مَاء ثجاجا﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وتجعلون رزقكم أَنكُمْ تكذبون﴾، أَي بدل شكر رزقكم أَنكُمْ تكذبون، أَي تَقولُونَ: " مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا وَكَذَا ". وَفِي حَدِيث الصَّحِيح: " بعد وُقُوع الْمَطَر أصبح من عبَادي مُؤمن بِي وَكَافِر أما الْمُؤمن، فَيَقُول: أمطرنا الله؛ وَأما الْكَافِر، فَيَقُول: مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا " (١). وَفِي (الْمُوَطَّأ): " إِذا نشأت بحريّة، ثمَّ تشاءمت، فَتلك عين غديقة" (٢). وَقَالَ عمر بن الْخطاب، ﵁، للْعَبَّاس وَهُوَ على الْمِنْبَر وَالنَّاس تَحْتَهُ: كم بَقِي من نوء الثريا؟ فَقَالَ الْعَبَّاس: بَقِي من نوئها كَذَا وَكَذَا. فَمثل هَذَا مُبين للحق من الْبَاطِل فِي أَمر الأنواء والأمطار. قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاح لَوَاقِح فأنزلنا من السَّمَاء مَاء فأسقيناه إِلَى بلد ميت، فأحيينا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا﴾، إِلَى كثير من هَذَا الْقَبِيل.
وَقد أَحْبَبْت أَن أجمع مَا ورد فِي هَذَا الْبَاب من الْآيَات المنتشرة فِي سور الْقُرْآن على تَرْتِيب سورها، وأخص مِنْهَا الْمُشْتَملَة على الأجرام العلوية
_________
(١) أخرجه الشيخان في صحيحهما - ن -.
(٢) رواه مالك (١/ ١٩٢/٥) بلاغًا بدون إسناد - ن -.
1 / 14
والأجرام السفلية، وأذكر فِي تَفْسِيرهَا مَا ذكره جهابذة الْمُفَسّرين، مُلْتَزما فِي ذَلِك طَرِيق الِاخْتِصَار. وَأَصَح الْأَقْوَال وأصوب الأفكار.
وَقد سميت مَا كتبت فِي هَذَا الْبَاب، وَمَا جمعته من لب اللّبَاب:
(مَا دلّ عَلَيْهِ الْقُرْآن مِمَّا يعضد الْهَيْئَة الجديدة القويمة الْبُرْهَان)
وَمن الله أَسْتَمدّ التَّوْفِيق؛ نعم الْمولى وَنعم الرفيق.
1 / 15
سُورَة الْبَقَرَة
فِي هَذِه السُّورَة بعض الْآيَات الْمُشْتَملَة على بَيَان الأجرام مِنْهَا قَوْله تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢١، ٢٢]
تَفْسِير هَذِه الْآيَة
معنى ﴿جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾ أَي كالفراش فِي صِحَة الْقعُود وَالنَّوْم عَلَيْهَا أَنه سُبْحَانَهُ جعل بَعْضهَا بارزا عَن المَاء مَعَ أَن مُقْتَضى طبعها أَن يكون المَاء محيطا بِأَعْلَاهَا لثقلها وَجعلهَا متوسطة بَين الصلابة واللين ليتيسر التَّمَكُّن عَلَيْهَا بِلَا مزِيد كلفة فالتصيير بِاعْتِبَار أَنه لما كَانَت قَابِلَة لما عدا ذَلِك فَكَأَنَّهَا نقلت مِنْهُ وَإِن صَحَّ مَا نقل عَن ابْن عَبَّاس ﵁ أَن الأَرْض خلقت قبل السَّمَاء غير مدحوة فدحيت بعد خلقهَا ومدت فَأمر التصيير حِينَئِذٍ ظَاهر إِلَّا أَن كل النَّاس غير عَالمين بِهِ وَالصّفة يجب أَن تكون مَعْلُومَة للمخاطب وَلَا يُنَافِي كريتها كَونهَا فراشا لِأَن الكرة إِذا عظمت كَانَ كل قِطْعَة مِنْهَا كالسطح فِي افتراشه كَمَا لَا يخفى.
1 / 16
وَسَيَأْتِي إِقَامَة الدَّلَائِل على كريتها وَبَيَان مَا يعارضها من ظواهر النُّصُوص وتوجيه ذَلِك
وَاخْتَارَ سُبْحَانَهُ لفظ ﴿السَّمَاء﴾ على السَّمَاوَات مُوَافقَة للفظ الأَرْض وَلَيْسَ فِي التَّصْرِيح بتعددها هُنَا كثير نفع وَمَعَ هَذَا يحْتَمل أَن يُرَاد بهَا مَجْمُوع السَّمَاوَات وكل طبقَة وجهة مِنْهَا
وَالْبناء فِي الأَصْل مصدر أطلق على الْمَبْنِيّ بَيْتا كَانَ أَو قبَّة أَو خباء أَو طرافا وَمِنْه قَوْلهم بنى فلَان بأَهْله أَو على أَهله خلافًا للحريري لأَنهم كَانُوا إِذا تزوجوا ضربوا خباء جَدِيدا ليدخلوا على الْعَرُوس فِيهِ
وَالْمرَاد بِكَوْن السَّمَاء بِنَاء أَنَّهَا كالقبة المضروبة أَو أَنَّهَا كالسقف للْأَرْض
وَيُقَال لسقف الْبَيْت بِنَاء وَرُوِيَ هَذَا عَن ابْن عَبَّاس
وَالْمرَاد من السَّمَاء فِي قَوْله ﴿وَأنزل من السَّمَاء مَاء﴾ جِهَة الْعُلُوّ أَو السَّحَاب.
وَإِرَادَة الْفلك الْمَخْصُوص - بِنَاء على الظَّوَاهِر - غير بعيدَة، نظرا إِلَى قدرَة الْملك الْقَادِر ﷻ وسمت عَن مدارك الْعقل أَفعاله إِلَّا أَن الشَّائِع أَن الشَّمْس إِذا سامتت بعض الْبحار والبراري أثارت من الْبحار بخارا رطبا وَمن البراري يَابسا فَإِذا صعد البخار إِلَى طبقَة الْهَوَاء الثَّالِثَة تكاثف فَإِن لم يكن الْبرد قَوِيا اجْتمع وتقاطر لثقله بالتكاثف.
1 / 17
فالمجتمع سَحَاب والمتقاطر مطر. وَإِن كَانَ الْبرد قَوِيا كَانَ ثلجا وبردا وَقد لَا ينْعَقد وَيُسمى ضبابا.
وعَلى هَذَا يُرَاد بالنزول من السَّمَاء نشوؤه من أَسبَاب سَمَاوِيَّة وتأثيرات أثيرية فَهِيَ مبدأ مجازي لَهُ على أَن من انجاب عَن عين بصيرته سَحَاب الْجَهْل رأى أَن مَا فِي هَذَا الْعَالم السفلي نَازل من عرش الْإِرَادَة وسماء الْقُدْرَة بِحَسب مَا تَقْتَضِيه الْحِكْمَة بِوَاسِطَة أَو بِغَيْر وَاسِطَة كَمَا يُشِير إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى ﴿وَإِن من شَيْء إِلَّا عندنَا خزائنه وَمَا ننزله إِلَّا بِقدر مَعْلُوم﴾ بل من علم أَن الله سُبْحَانَهُ فِي السَّمَاء على الْمَعْنى الَّذِي أَرَادَهُ وبالوصف الَّذِي يَلِيق بِهِ مَعَ التَّنْزِيه اللَّائِق بِجلَال ذَاته تَعَالَى صَحَّ لَهُ أَن يَقُول إِن مَا فِي الْعَالمين من تِلْكَ السَّمَاء وَنسبَة نُزُوله إِلَى غَيرهَا أَحْيَانًا لاعتبارات ظَاهِرَة وَهِي رَاجِعَة إِلَيْهِ فِي الْآخِرَة
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)﴾ [البقرة: ٢٩]
تَفْسِير هَذِه الْآيَة:
﴿اسْتَوَى﴾ أَي علا إِلَيْهَا وارتفع من غير تكييف وَلَا تَمْثِيل، وَلَا تَحْدِيد،
1 / 18
قَالَه الرّبيع أَو قصد إِلَيْهَا بإرادته قصدا سويا بِلَا صَارف يلويه وَلَا عاطف يثنيه من قَوْلهم اسْتَوَى إِلَيْهِ كالسهم الْمُرْسل إِذا قَصده قصدا مستويا من غير أَن يلوي على شَيْء قَالَ الْفراء
وَالْمرَاد ب ﴿السَّمَاء﴾ الأجرام العلوية أَو جِهَة الْعُلُوّ
وَالنَّاس مُخْتَلفُونَ فِي خلق السَّمَاء وَمَا فِيهَا وَالْأَرْض وَمَا فِيهَا بِاعْتِبَار التَّقَدُّم والتأخر لتعارض الظَّوَاهِر فِي ذَلِك
فَذهب بَعضهم إِلَى تقدم خلق السَّمَاوَات لقَوْله تَعَالَى ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (٢٧) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (٣٠) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (٣١) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (٣٢) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (٣٣)﴾ [النازعات: ٢٧ - ٣٣]
1 / 19
وَذهب آخَرُونَ إِلَى تقدم خلق الأَرْض لقَوْله تَعَالَى ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (١١) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢)﴾ [فصلت: ٩ - ١٢]
وَجمع بَعضهم فَقَالَ: إِن قَوْله ﴿أخرج مِنْهَا ماءها﴾ بدل أَو عطف بَيَان لقَوْله ﴿دحاها﴾ أَي بسطها مُبين للمراد مِنْهُ فَيكون تأخرها لَيْسَ بِمَعْنى تَأَخّر ذَاتهَا بل بِمَعْنى تَأَخّر خلق مَا فِيهَا وتكميله وترتيبه بل خلق التَّمَتُّع وَالِانْتِفَاع بِهِ فَإِن البعدية كَمَا تكون بِاعْتِبَار نفس الشَّيْء تكون بِاعْتِبَار جزئه الْأَخير وَقَيده الْمَذْكُور كَمَا لَو قلت بعثت إِلَيْك رَسُولا ثمَّ كنت بعثت فلَانا لينْظر مَا يبلغهُ. فَبعث الثَّانِي وَإِن تقدم لَكِن مَا بعث لأَجله مُتَأَخّر فَجعل نَفسه مُتَأَخِّرًا
وَمَا رَوَاهُ الْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ عَن ابْن عَبَّاس فِي التَّوْفِيق بَين الْآيَتَيْنِ،
1 / 20
يُشِير إِلَى هَذَا. وَلَا يُعَارضهُ مَا رَوَاهُ ابْن جرير وَغَيره وصححوه عَنهُ أَيْضاأَن الْيَهُود أَتَت النَّبِي ﷺ فَسَأَلته عَن خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض فَقَالَ خلق الله الأَرْض يَوْم الْأَحَد والاثنين وَخلق الْجبَال وَمَا فِيهِنَّ من الْمَنَافِع يَوْم الثُّلَاثَاء وَخلق يَوْم الْأَرْبَعَاء الشّجر والمدائن والعمران والخراب فَهَذِهِ أَرْبَعَة فَقَالَ تَعَالَى ﴿أئنكم لتكفرون بِالَّذِي خلق الأَرْض فِي يَوْمَيْنِ﴾ إِلَى قَوْله ﴿سَوَاء للسائلين﴾ وَخلق يَوْم الْخَمِيس السَّمَاء وَخلق يَوْم الْجُمُعَة النُّجُوم وَالشَّمْس وَالْقَمَر وَالْمَلَائِكَة. (٢)
وَإِنَّمَا قُلْنَا وَلَا يُعَارضهُ إِلَى آخِره لجَوَاز أَن يحمل على أَنه خلق مَادَّة ذَلِك وأصوله إِذْ لَا يتَصَوَّر الْمَدَائِن والعمران والخراب قبل فعطفه عَلَيْهِ قرينَة لذَلِك.
وَاسْتشْكل الرَّازِيّ تَأَخّر التدحية عَن خلق السَّمَاء وَقَالَ إِن الأَرْض جسم عَظِيم فَامْتنعَ انفكاك خلقهَا عَن التدحية فَإِذا كَانَت التدحية مُتَأَخِّرَة كَانَ خلقهَا أَيْضا مُتَأَخِّرًا.
_________
(٢) في الأحاديث ذكر أيام الخلق، وفيها اختلاف كثير. وليس تحديد الأيام على ما يظن. وقد دخلت الأقوال الإسرائيليات في تفصيلات لا تثبت في صحاح الأحاديث. وانظر "صحيح الجامع الصغير وزيادته" ٣٢٣٥.
1 / 21
وَهَذَا غَفلَة مِنْهُ لِأَن من يَقُول بتأخر دحوها عَن خلقهَا لَا يَقُول بعظمها ابْتِدَاء بل يَقُول إِنَّهَا فِي أول الْخلق كَانَت كَهَيئَةِ الفِهْر (١) ثمَّ دحيت فَيتَحَقَّق الانفكاك وَيصِح تَأَخّر دحوها عَن خلقهَا.
وَقَوله إِن خلق الْأَشْيَاء فِي الأَرْض لَا يُمكن إِلَّا إِذا كَانَت مدحوة لَا يخفى دَفعه بِنَاء على أَن المُرَاد بذلك خلق الْموَاد وَالْأُصُول لَا خلق الْأَشْيَاء فِيهَا كَمَا هُوَ الْيَوْم.
وَقَالَ بعض الْمُحَقِّقين: اخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي أَن خلق السَّمَاء مقدم على خلق الأَرْض أَو مُؤخر نقل الإِمَام الواحدي عَن مقَاتل الأول وَاخْتَارَهُ الْمُحَقِّقُونَ وَلم يَخْتَلِفُوا فِي أَن جَمِيع مَا فِي الأَرْض مِمَّا ترى مُؤخر عَن خلق السَّمَاوَات السَّبع بل اتَّفقُوا عَلَيْهِ.
فَحِينَئِذٍ يَجْعَل الْخلق فِي الْآيَة الْكَرِيمَة بِمَعْنى التَّقْدِير لَا الإيجاد أَو بِمَعْنَاهُ وَيقدر الْإِرَادَة وَيكون الْمَعْنى أَرَادَ خلق مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا لكم على حد ﴿إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة﴾ و﴿فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن﴾ وَلَا يُخَالِفهُ قَوْله تَعَالَى ﴿وَالْأَرْض بعد ذَلِك دحاها﴾ فَإِن الْمُتَقَدّم على خلق السَّمَاء إِنَّمَا هُوَ تَقْدِير الأَرْض وَجَمِيع مَا فِيهَا أَو إِرَادَة إيجادها والمتأخر عَن خلق السَّمَاء إِيجَاد الأَرْض وَجَمِيع مَا فِيهَا فَلَا إِشْكَال وَأما قَوْله ﷾ ﴿خلق الأَرْض فِي يَوْمَيْنِ﴾ فعلى تَقْدِير الْإِرَادَة وَالْمعْنَى أَرَادَ خلق الأَرْض.
_________
(١) الحجر الذي يملأ الكف مع شبه الإستدارة.
1 / 22
وَكَذَا قَوْله تَعَالَى ﴿وَجعل فِيهَا رواسي﴾ يَنْبَغِي أَن يكون بِمَعْنى أَرَادَ أَن يَجْعَل وَيُؤَيّد ذَلِك قَوْله تَعَالَى ﴿فَقَالَ لَهَا وللأرض ائتيا طَوْعًا أَو كرها قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين﴾ فَإِن الظَّاهِر أَن المُرَاد أَتَيْنَا فِي الْوُجُود وَلَو كَانَت الأَرْض مَوْجُودَة سَابِقَة لما صَحَّ هَذَا
فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ اإنكم لتكفرون بِالَّذِي أَرَادَ إِيجَاد الأَرْض وَمَا فِيهَا من الرواسِي والأقوات فِي أَرْبَعَة أَيَّام ثمَّ قصد إِلَى السَّمَاء فتعلقت إِرَادَته بإيجاد السَّمَاء وَالْأَرْض فأطاعا بِأَمْر التكوين فأوجد سبع سماوات فِي يَوْمَيْنِ وأوجد الأَرْض وَمَا فِيهَا فِي أَرْبَعَة أَيَّام.
بَقِي هَا هُنَا بَيَان النُّكْتَة فِي تَغْيِير الأسلوب حَيْثُ قدم فِي الظَّاهِر هَاهُنَا وَفِي ﴿حم﴾ السَّجْدَة خلق الأَرْض وَمَا فِيهَا على خلق السَّمَاوَات وَعكس فِي (النازعات)
وَلَعَلَّ ذَلِك لِأَن الْمقَام فِي الْأَوَّلين مقَام الامتنان فمقتضاه تَقْدِيم مَا هُوَ نعْمَة نظرا إِلَى المخاطبين فَكَأَنَّهُ ﷾ وَهُوَ الَّذِي دبر أَمركُم قبل خلق السَّمَاء ثمَّ خلق السَّمَاء وَالْمقَام فِي الثَّالِثَة مقَام بَيَان كَمَال الْقُدْرَة فمقتضاه تَقْدِيم مَا هُوَ أدل على كمالها
هَذَا وَالَّذِي يفهم من بعض عِبَارَات الْقَوْم أَن المحدد وَيُقَال لَهُ سَمَاء أَيْضا مَخْلُوق قبل الأَرْض وَمَا فِيهَا وَأَن الأَرْض نَفسهَا خلقت بعد ثمَّ بعد خلقهَا خلقت السَّمَاوَات السَّبع ثمَّ بعد السَّبع خلق مَا فِي الأَرْض من معادن ونبات ثمَّ ظهر عَالم الْحَيَوَان ثمَّ عَالم الْإِنْسَان.
فَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى ﴿خلق لكم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا﴾ حِينَئِذٍ قدره أَو أَرَادَ إيجاده أَو أوجد مواده
وَمعنى قَوْله تَعَالَى ﴿وَجعل فِيهَا رواسي﴾ إِلَى آخِره فِي الْآيَة الْأُخْرَى على نَحْو هَذَا.
وَقَوله تَعَالَى ﴿وخلق الأَرْض﴾ فِيهَا على ظَاهره، وَلَا يأباه قَوْله سُبْحَانَهُ ﴿﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت: ١١] إِلَى
1 / 23
آخِره لجَوَاز حمله على معنى ائتيا بِمَا خلقت فيكما من التَّأْثِير والتأثر وإبراز مَا أودعتكما من الأوضاع الْمُخْتَلفَة والكائنات المتنوعة أَو إتْيَان السَّمَاء حدوثها وإتيان الأَرْض أَن تصير مدحوة أَو لتأت كل مِنْكُمَا الْأُخْرَى فِي حُدُوث مَا أُرِيد توليده مِنْكُمَا.
وَبعد هَذَا كُله لَا يَخْلُو الْبَحْث من صعوبة وَمَا زَالَ النَّاس يستصعبونه من عهد الصَّحَابَة إِلَى الْآن وسنعود إِلَيْهِ مرّة أُخْرَى إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَمعنى سواهن أتمهن وقومهن وخلقهن ابْتِدَاء مصونات عَن العوج والفطور لَا أَنه ﷾ سواهن بعد أَن لم يكن كَذَلِك فَهُوَ على حد قَوْلهم ضيق فَم الْبِئْر ووسع الدَّار.
لَا يُقَال إِن أَرْبَاب الأرصاد الْمُتَقَدِّمين أثبتوا تِسْعَة أفلاك وَهل هِيَ إِلَّا سماوات لأَنا نقُول هم لَا يزالون شاكين فِي النُّقْصَان وَالزِّيَادَة فَإِن مَا وجدوه من الحركات يُمكن ضَبطهَا بِثمَانِيَة وَسَبْعَة بل بِوَاحِد وَبَعْضهمْ أثبتوا بَين فلك الثوابت والأطلس كرة لضبط الْميل الْكُلِّي
وَقَالَ بعض محققيهم لم يتَبَيَّن لي إِلَى الْآن أَن كرة الثوابت كرة وَاحِدَة أَو كرات منطوية بَعْضهَا على بعض.
وَأطَال الإِمَام الرَّازِيّ الْكَلَام فِي ذَلِك
على أَنه إِن صَحَّ مَا شاع فَلَيْسَ فِي الْآيَة مَا يدل على نفي الزَّوَائِد بِنَاء على مَا اخْتَارَهُ الرَّازِيّ من أَن مَفْهُوم الْعدَد لَيْسَ بِحجَّة
وَكَلَام الْبَيْضَاوِيّ فِي تَفْسِيره يشيير إِلَيْهِ خلافًا لما فِي منهاجه الْمُوَافق
1 / 24
لما عَلَيْهِ الإِمَام الشَّافِعِي وَنَقله عَنهُ الْغَزالِيّ فِي "المنخول".
وَذكر عبد الْحَكِيم السيالكوتي الْهِنْدِيّ أَن الْحق أَن تَخْصِيص الْعدَد بِالذكر لَا يدل على نفي الزَّائِد وَالْخلاف فِي ذَلِك مَشْهُور
وَإِذا قُلْنَا بكرية الْعَرْش والكرسي لم يبْق كَلَام.
وَضمير ﴿فسواهن﴾ للسماء إِن فسرت بالأجرام
وَأما مَا ذهب إِلَيْهِ متأخرو الفلاسفة فَلَا سَمَاء عِنْدهم بل الأجرام العلوية قَائِمَة بالجاذبية فَإِن الشَّمْس وَسَائِر الْكَوَاكِب السيارات عَلَيْهَا بل وَجَمِيع الثوابت لَيست مركوزة فِي جسم من الْأَجْسَام والآيات القرآنية وَإِن لم يكن فِيهَا مَا يدل على خلاف مَا ذكر فِي الْكَوَاكِب بل رُبمَا كَانَ فِيهَا مَا يدل على مَا يُؤَيّد مَذْهَب الْمُتَأَخِّرين فَإِن النُّصُوص تشعر بِأَن مَا نشاهده من الحركات لَيست بالأجرام اشْتَمَلت على الْكَوَاكِب مثل قَوْله سُبْحَانَهُ ﴿لَا الشَّمْس يَنْبَغِي لَهَا أَن تدْرك الْقَمَر وَلَا اللَّيْل سَابق النَّهَار وكل فِي فلك يسبحون﴾
1 / 25
نعم المناقضة والمخالفة بَين مَذْهَب الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين فِي هَذَا الْبَاب فَإِن الْمُتَقَدِّمين قَالُوا إِن الْعَالم الجسماني كرة منضدة من ثَلَاث عشرَة كرة ومركز الْعَالم مَرْكَز كرة الأَرْض غير أَن الْمُتَأَخِّرين لم يثبتوا من السَّمَاوَات سبعا وَلَا أَكثر من ذَلِك وَلَا أنقص والمتشرعون مِنْهُم قَالُوا المُرَاد من السَّمَاوَات السَّبع أَصْنَاف أجرام الْكَوَاكِب فَإِنَّهُم جعلوها على سَبْعَة أَصْنَاف فِي الْمِقْدَار وَذَلِكَ هُوَ الضلال الْبعيد فَلَا يلْزم أَن يكون كل مَا لم تصل إِلَيْهِ أَيدي أفكارهم هُوَ فِي حيّز الْعَدَم ﴿بل كذبُوا بِمَا لم يحيطوا بِعِلْمِهِ وَلما يَأْتهمْ تَأْوِيله﴾ فَإِن الرُّسُل ﷺ كلهم أخبروا بِوُجُود السَّمَاوَات فِي هَذَا الفضاء الَّذِي لَيْسَ لَهُ مبدأ وَلَا انْتِهَاء وَهَذَا خاتمهم ﷺ قد ذكر مَا ذكر مِمَّا رأى فِي معراجه فِي السَّمَاوَات واستفتاحه لَهَا بِوَاسِطَة جِبْرِيل كل ذَلِك يبطل تَأْوِيل من أوَّلَ.
وَسَيَأْتِي فِي ذَلِك كَلَام مفصل وَمَا ذَكرْنَاهُ هُنَا كَاف فِي الْمقَام وَالله ولي التَّوْفِيق.
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ [البقرة: ١٨٩]
1 / 26
ذكر أهل التَّفْسِير أَن معَاذ بن جبل وثعلبة بن غنم قَالَا يَا رَسُول الله مَا بَال الْهلَال يَبْدُو ويطلع دَقِيقًا مثل الْخَيط ثمَّ يزِيد حَتَّى يعظم وَيَسْتَوِي ويستدير ثمَّ لَا يزَال ينقص ويدق حَتَّى يعود كَمَا كَانَ لَا يكون على حَال وَاحِدَة فَنزلت.
وَالسُّؤَال يحْتَمل أَن يكون عَن الْغَايَة وَالْحكمَة وَأَن يكون عَن السَّبَب وَالْعلَّة وَلَا نَص فِي الْآيَة وَالْخَبَر على أَحدهمَا.
أما الملفوظ من الْآيَة فَظَاهر وَأما الْمَحْذُوف فَيحْتَمل أَن يقدر مَا سَبَب اختلافها وَأَن يقدر مَا حكمته.
وَهِي وَإِن كَانَت فِي الظَّاهِر سؤالا عَن التَّعَدُّد إِلَّا أَنَّهَا فِي الْحَقِيقَة متضمنة للسؤال عَن اخْتِلَاف التشكلات النورية لِأَن التَّعَدُّد يتبع اختلافها إِذْ لَو كَانَ الْهلَال على شكل وَاحِد لَا يحصل التَّعَدُّد كَمَا لَا يخفى.
وَأما الْخَبَر فَلِأَن مَا فِيهِ يسْأَل بهَا عَن الْجِنْس وَحَقِيقَته فالمسؤول عَنهُ حِينَئِذٍ حَقِيقَة أَمر الْهلَال وشأنه حَال اخْتِلَاف تشكلاته النورية ثمَّ عوده إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ الْأَمر المسؤول عَن حَقِيقَته يحْتَمل ذَيْنك الْأَمريْنِ بِلَا ريب
1 / 27
فعلى الأول يكون الْجَواب بقوله ﴿قل هِيَ مَوَاقِيت للنَّاس وَالْحج﴾ مطابقا مُبينًا للحكمة الظَّاهِرَة اللائقة بشأن التَّبْلِيغ الْعَام المذكرة لنعمة الله تَعَالَى ومزيد رأفته وَهِي أَن تكون معالم للنَّاس يوقتون بهَا أُمُورهم الدِّينِيَّة ويعلمون أَوْقَات زُرُوعهمْ ومتاجرهم ومعالم للعبادات يعرف بهَا أَوْقَاتهَا كالصيام والإفطار وخصوصا الْحَج فَإِن الْوَقْت مرَاعِي فِيهِ أَدَاء وَقَضَاء
وَلَو كَانَ الْهلَال مدورا كَالشَّمْسِ أَو ملازما حَالَة وَاحِدَة لم يكد يَتَيَسَّر التَّوْقِيت بِهِ وَلم يذكر ﷺ الْحِكْمَة الْبَاطِنَة لذَلِك مثل كَون اخْتِلَاف تشكلاته سَببا عاديا أَو جعليا لاخْتِلَاف أَحْوَال المواليد العنصرية كَمَا بَين فِي مَحَله لِأَنَّهُ مِمَّا لم يطلع عَلَيْهِ كل أحد
وعَلى الثَّانِي يكون من الأسلوب الْحَكِيم وَيُسمى القَوْل بِالْمُوجبِ وَهُوَ تلقي السَّائِل بِغَيْر مَا يتطلب بتنزيل سُؤَاله منزلَة غَيره تَنْبِيها على أَنه الأولى بِحَالهِ وَاخْتَارَهُ السكاكي وَجَمَاعَة. فَيكون فِي هَذَا الْجَواب إِشَارَة إِلَى أَن الأولى على تَقْدِير وُقُوع السُّؤَال أَن يسْأَلُوا عَن الْحِكْمَة لَا عَن السَّبَب لِأَنَّهُ لَا يتَعَلَّق بِهِ صَلَاح معاشهم ومعادهم وَالنَّبِيّ ﷺ إِنَّمَا بعث لبَيَان ذَلِك
وَبَعض عُلَمَاء الْهَيْئَة اليونانية قَالَ لَيْسُوا مِمَّن يطلع على دقائق علم الْهَيْئَة الْمَوْقُوفَة على الأرصاد والأدلة الفلسفية
وَهَذَا وهم لِأَن ذَلِك على فرض تَسْلِيمه فِي حق أُولَئِكَ الْمَشَّائِينَ فِي ركاب النُّبُوَّة والمرتاضين فِي رواق الفتوة والفائزين بإشراق الْأَنْوَار والمطلعين بأرصاد قُلُوبهم على دقائق الْأَسْرَار وَإِن لم يكن نقصا من قدرهم
1 / 28