Ma Bacd Hadatha Muqaddima Qasira
ما بعد الحداثة: مقدمة قصيرة جدا
Genres
استحقاقات الفنان أو الفنانة لا تقترن بجنسه، أو أيديولوجيته، أو ميله الجنسي، أو لون بشرته، أو وضعه الصحي، كما أن تناول إحدى القضايا لا يعني بالضرورة مخاطبة الجمهور ... إن الفن السياسي الذي نشهده حاليا في أمريكا ليس سوى سلسلة طويلة من محاولات إقناع من اقتنعوا بالفعل.
روبرت هيوز، «ثقافة التذمر» (1993)
كان هيوز محقا أيضا عندما أشار إلى أن مشكلة الكثير من تلك الأعمال الفنية السياسية هي افتقارها فعليا إلى الأفكار الجيدة؛ إذ غالبا ما تتضمن أفكارا تافهة أو ساذجة لا تثير لدى أي منا عمليات تفكير معقدة أو خارجة عن المألوف إلى حد كبير. على سبيل المثال، «عمل الفنانة جيسيكا دايموند الذي يتكون من علامة يساوي تلغيها علامة تقاطع، ومكتوب تحتها بخط خفيف «غير متساو تماما». أي شخص يظن أن هذا الشكل البياني قد يساهم بأي أفكار جديدة تدعم فهم المرء لقضية الامتيازات في الولايات المتحدة لمجرد احتلال مساحة على حائط في أحد المتاحف ليس سوى واهم.» فعلى أفضل الأحوال، يقتصر ذلك النوع من الفن «في الأساس على تناول فكرة عادية إن لم تكن بديهية - مثل «العنصرية سلوك خاطئ» ... - ثم تشفيرها على نحو غاية في الالتواء بحيث يشعر المشاهد عندما يتمكن من ترجمتها ببريق الانضمام إلى ما نطلق عليه «خطاب» عالم الفن» (روبرت هيوز، في العمل المستشهد به).
قد ينتقد العمل الفني المجتمع ومؤسساته ، وينتهي به الحال رغم ذلك معروضا في ذلك المجتمع، ومبيعا لتاجر، ومكتسبا شرعيته غالبا من آراء مؤسسة فنية تابعة للطبقة الوسطى. فذلك النقد المجتمعي لم يمنع عرضا قدمه جيلبرت سيلفرمان بقيمة 90 ألف دولار مقابل عمل من أعمال هاكه - يدعى «دهن اجتماعي» - على الرغم من أن العمل يهزأ بالشخصيات البارزة في عالم السياسة والأعمال من خلال اقتباس أقوالهم التي تدافع عن الفنون باعتبارها «مشحمات اجتماعية» ووضعها على لوحات معدنية منفصلة. لا ينطوي الأمر على مفارقة مثلما يبدو؛ فالمجتمعات الليبرالية قضت ما يزيد عن قرن من الزمان في استيعاب الأعمال الفنية التي تعاديها. وبوجه عام، ومع بعض الاستثناءات الشهيرة، لا تخضع تلك المجتمعات الفنانين للرقابة أو تعمل على الحد من تأثيرهم، بل تحمي حقهم في التعبير. (رغم أن الأعضاء غير الليبراليين في المجتمعات الليبرالية يحاولون الإطاحة بهذه الفرضية، كما حدث في فضيحة مايبلثورب، عندما أثير النقاش حول التمويل الفيدرالي الذي قدم لمعرض ضم بعضا من صوره التي تتناول العلاقات السادية المازوخية بين المثليين.)
مع ذلك، ما تزال البنى الاجتماعية والقانونية الأساسية في تلك المجتمعات التي أتناولها هنا ليبرالية دون شك. حتى وإن كانت المؤسسة هي التي تدعي الشرعية أولا لا العمل الفني، فإن ما يهم عقب ذلك هي القيمة التي يحظى بها مشاهد العمل الفني الفردي على المدى الطويل، التي تتجاوز «البيان» الصادر عن عرض فني ما. لا يوجد ما هو أقدم ولا أكثر مللا من الأخبار النسوية والتصورية التي شهدناها في بضعة العقود الأخيرة؛ فغالبا ما يبدو عمل ما بعد الحداثة العقائدي الواضح أكاديميا إلى حد تعجيزي في هذا الإطار. يوجد اختلاف كبير بين ما بعد الحداثة المذهبية وهذا النوع من الفن المعاصر الذي في وسعه تقديم محفز فكري يمتد لفترة أطول مما يدرك الكثير من نقاد ما بعد الحداثة على ما يبدو. بالطبع، يجب على الأعمال الفنية «إثارة الشكوك»، أليس هذا ما فعله المسرح التراجيدي بدءا من «أنتجوني» وانتهاء ب «هيدا جابلر»؟ لكنها في حاجة إلى تحقيق ذلك بطرق أكثر تعقيدا وثباتا مما نلاحظه في أحدث أعمال ما بعد الحداثة الفنية.
إن نظرية ما بعد الحداثة التي تبناها الكثير في الحركة الفنية الطليعية كانت نسخة من الفلسفة - وسياستها وتاريخها - التي وضحتها في الفصول السابقة. تدعو هذه النظرية إلى الهجوم على الامتياز وشروطه المرتبة هرميا - ومن بينها الشكلية المرتبطة بالحداثة - وهدمهما، وإلى الارتياب في السرد المنظم وفي المركز، وفي الشروط المتعالية لتحقيق القيمة. توجب كذلك الشك في صدارة الحضارة الغربية (وأي تنظيم مميز يرجع إليها). في أغلب الأحيان، كان الهدف من ذلك يستحق الإعجاب من الزاوية الأخلاقية، وهو النظر بعين الاعتبار إلى المهمشين والمقموعين والمستبعدين والدفع بهدم القيم المهيمنة أو عكسها. كان ذلك بالتأكيد دافعا ليبراليا تقليديا، لكنه برز تحت رعاية نظرية متزعزعة. على سبيل المثال، من غير الواضح إن كان عمل تفكيكي حقيقي مثل كتابات دريدا يمكن أن يتبنى أيا مما قد يعتبر موقفا سياسيا فعالا وثابتا، على الرغم من أفكار دريدا الأخيرة.
وقعت الفنون المرئية كذلك أسيرة الفكر التناقضي الذي يزعم أن «كل شيء» هو نص محتمل. وهيمنت هذه النظرة التي تحول العالم إلى نص - كما هو معتاد في كتابات دريدا وبارت - على الفرضية الدافعة بأن جميع أشكال التفكير لغوية نوعا ما؛ مما أدى إلى استبعاد جزء كبير من استجابتنا غير اللغوية للفن في الماضي - مثل الاستمتاع ببساطة بملمس اللوحة أو ألوانها أو علاقتها الشكلية - إما باعتبارها تأثيرات جانبية منبوذة لمبدأ المتعة المرتبط بالحداثة الشكلية البالية، وإما طلبا للتحرير والخلاص من خلال تقديم شكل من أشكال الارتباط اللفظي المفاهيمي النظري المناسبة. وهكذا، أصبح من المحتم اعتبار كل شيء - بدءا من الأثاث وحتى الملابس والمباني - جزءا من «لغة» يمكن تقصي بنيتها الاجتماعية، ثم إبراز قابليتها لنوع من التعطيل أو الإلغاء، بعيدا عن التنظيم الهرمي المشبوه الذي حظيت به في المجتمع «البرجوازي». وإذا كان كل شيء هو جزء من اللغة، وإذا كانت اللغة تنتثر ببساطة، وإذا كانت خطابات الفن - مثلها مثل خطابات الطب والقانون وعلم العقوبات وغيرها - تتجاوز الفرد؛ فإن مفاهيم التأليف والإبداع والأصالة هي أيضا موضع ريبة ولا يمكن اعتبارها «مميزة».
انتشر هذا الميل ذو التأثير الديمقراطي السخي، الذي رأى أن القارئ والطالب يسبحان في نفس الفضاء اللغوي الذي يسبح فيه الكتاب الروائيون العظماء. ومن ثم، فهم بالمثل في موقف يتيح لهم الهيمنة على النص من خلال التفسير. ولدواعي المفارقة، فقد اضطلع بهذا الدور عدد من النقاد الثقافيين ذوي الطابع الخاص الذين يتميزون بتسلطهم الشديد وبارتفاع رواتبهم. وهكذا، أصبح تفسير العمل الفني من خلال المزاج الفردي، أو التجربة التي أنتجته، أو جانب الواقع الذي حاول نقله؛ اتجاها باليا.
تنبع من هنا - على سبيل المثال - هجمات ما بعد الحداثة على الرسم «التعبيري الجديد» الذي برز في ثمانينيات القرن العشرين. وهو خلاف يستحق التحليل هنا؛ لأنه يوضح وجود اتجاهات منافسة فعالة لما بعد الحداثة، وأن عددا من أبرز أتباع ما بعد الحداثة هاجموا تلك الاتجاهات مستخدمين مصطلحات سياسية واضحة، فلم يكتفوا بنعت الرسم التعبيري الجديد في ألمانيا والولايات المتحدة بأنه معبر «تصويريا» وذو تأثير عاطفي واضح، بل زعموا أنه «فضل» المفهوم الهرمي العتيق الطراز لفن الرسم في حد ذاته.
كان من الواضح تماما أن الفنانين التعبيريين الجدد الأمريكيين - مثل جوليان شنوبل وديفيد سال وإريك فيشل - اتحدوا أو تشابهوا مع الفنانين الأوروبيين أمثال ساندرو كيا وفرانشيسكو كليمنته وجيورج بازليتس ويورج إيمندورف وأنسيلم كيفير وبي إيه آر بينك ممن ينتمون بوضوح إلى التعبيرية الألمانية الحداثية. وزد على ذلك أن أولئك الفنانين وسعوا هذا الاتجاه التعبيري بدلا من هدمه أو محاكاته محاكاة ساخرة أو «نقده». وفي أثناء ذلك، أعادوا إلى الفن السمات الحسية والشعورية التي تعرضت للإقصاء بسبب تزمت نظرية ما بعد الحداثة. يمكننا اعتبار فيشل - على سبيل المثال - رساما رمزيا تعبيريا، بناء على أسس نفسية لا تدين بشيء إلى ما بعد الحداثة، حتى وإن كانت نفسية شخصياته المشوهة نسبيا واغترابها الظاهري تدين على نحو واضح بشيء لمناخ أفكار ما بعد الحداثة الأكثر شمولا والمتمحور حول السرد. وعلى نحو مماثل ، يمكن اعتبار رسامين مثل جنيفر بارتليت وروبرت كولسكوت ونيكولاس أفريكانو وإليزابيث موري يحيون الاتجاهات الماضية في الرسم الحداثي؛ فقد أجازوا لأنفسهم مخاطر المنافسة مع الماضي وتوسيع اتجاهاته على نحو أكثر مباشرة، على سبيل المثال قد يرى البعض بارتليت خليفة مونيه.
Unknown page