Lughz Cishtar
لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة
Genres
وقف إنسان الكهف سنين طويلة يرقب بوجل، في الليالي العاصفة المدلهمة، ألسنة النيران المتصاعدة من الأشجار التي تضربها الصواعق. لقد رأى في النار قوة إلهية غامضة تنبعث من داخل الشجر، ورأى في لونها القمر المشع نفسه، فكانت النار بالنسبة إليه قبسا من قوة القمر، أودع في الحياة النباتية، به يعيش العشب والشجر، فإذا استلب منه زال وناله الفناء متحولا إلى رماد. ثم تعلم بعد ذلك كيف يستثير تلك القوة من مكمنها، عن طريق دلك غصنين جافين دلكا دءوبا يؤدي إلى انطلاق القوة القمرية الهاجعة فيهما؛ لتعطيه دفئا ونورا بعد أن أعطته ثمرا ... عطية أخرى من عطايا الأم القمرية. وقد استمر أسلوب استثارة النار بالدلك قائما ألوف السنين، ومنه استمد رمز الصليب العشتاري، ربما، أول دلالاته. فالصليب هو ذانك الغصنان الأولان اللذان أطلقا النار لأول مرة، وهو بذلك رمز للقوة الإخصابية الكونية في تصورها الأولي.
تعبر الأعمال التشكيلية عن هذا المعتقد بأبلغ ما يمكن لأي كلام أن يفعل، كما هو الحال في الشكل رقم (
4-1 )، وهو من كريت، المكان التقليدي لعبادة الأم الكبرى وابنها الثور؛ حيث كانت تلقب ب «تلك التي تشع على الجميع» و«السيدة الندية»، وحيث كانت طقوس الندى المخصب تقام لها في كل الهياكل.
1
في هذا الشكل، نجد كاهنة تتعبد أمام مذبح فوقه شجرة زيتون مورقة ، وتحت الشجرة يشرق القمر الهلال، روح الإخصاب التي تمد النبات بقدرة الحياة. فالحياة النباتية، وفق المعتقد العشتاري، لم تظهر بأمر سماوي أعطاها الدفعة الأولى، بل هي قائمة بنسمة من روح الأم القمرية الكبرى، تسكن فيها وتعطيها استمرارها في كل لحظة. والشجرة الدانية القطوف ليست سوى يد عشتار التي تمدها مليئة بخيرات الأرض، مثبتة أمومتها للبشر. وذلك على عكس المعتقدات الذكرية التي تنظر إلى الحياة النباتية، كظاهرة خاضعة للفعل الإلهي المفارق، شأنها في ذلك شأن بقية ظواهر الكون. نقرأ في كتاب التوراة: «وقال الرب: لتنبت الأرض عشبا وبقلا يبزر بزرا وشجرا ذا ثمر ... وكان ذلك.»
2
شكل 4-1: كريت، أواخر الألف الثاني ق.م.
لم تعبد عشتار كروح للخصوبة وربة للحياة النباتية فقط مع اكتشاف الزراعة. فمن زمن بعيد راقب الإنسان التبدلات التي تطرأ على وجه الأرض خلال الفصول، وظهور النبات وخضرة الأشجار في الربيع ثم اختفاءها في الخريف. ولما كان يعتمد في جزء من حياته على التقاط الثمار والنقب عن الجذور، وفي جزئها الآخر على حيوانات الصيد التي تأكل من الأعشاب؛ فقد كان ينظر بقلق إلى جفاف الأرض وغياب مظاهر الخضرة في البراري والغابات، ويلبث طيلة فترة الشتاء ينتظر بفارغ صبر عودة روح الإنبات إلى الظهور، ويقيم الطقوس التي تعينها على ذلك. لم يكن هذا التناوب الدوري مفهوما لديه، فربطه بحركة قوة ماورائية.
إن موت النباتات في الخريف وحياتها في الربيع هو غياب «عشتار» روح الخصوبة الكونية، وعودتها حية قوة متجددة، والاحتجاب الشهري للأم القمرية هو الآن احتجاب سنوي لأم الخصوبة وروح الإنبات. في الخريف تهبط عشتار إلى العالم الأسفل لترقد هناك طيلة فصل الشتاء، ومع الربيع تنتفض من مرقدها ملونة وجه البسيطة بكل أخضر بهيج. هذا التصور الأسطوري البدئي قد نضج وأخذ كامل أبعاده مع اكتشاف الزراعة واعتماد الإنسان في غذائه بشكل أساسي على القمح والحبوب الأخرى، فاكتملت أسطورة هبوط الأم الكبرى إلى العالم الأسفل، وأخذت صيغتها النيوليتية التي نستطيع تلمس آثارها ومعالمها الرئيسية في أساطير عصر الكتابة. وإن بعض الأعمال الفنية التشكيلية اللاحقة لتعطينا صورة حية نابضة عن هذه الأسطورة الزراعية الأولى في شكلها الأصلي، رغم بعد العهد وتكاثف الحجب. ففي الشكل (
4-2 ) وهو رسم على الخزف من فترة نضج الثقافة الإغريقية، نجد عشتار كروح للخصوبة والإنبات تبعث من الأرض في فصل الربيع داخل أكمة صغيرة أشبه بالقبر، ومعها تصحو الأشجار والأغصان المزهرة والأوراق الخضر. وحول الإلهة عدد من أنصاف الآلهة يبتهجون لرجوعها.
Unknown page