219

Lughz Cishtar

لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة

Genres

تتجلى الأم المصرية الكبرى، في شكلها الأبهى كسيدة للطبيعة، تحت اسم إيزيس التي تصفها النصوص الميثولوجية والطقسية بالإلهة المتعددة الأسماء. فهي سيدة القمح وأول من اكتشف زراعته. من ألقابها: «خالقة كل نبت أخضر» و«حقل القمح». وقد قرنها الإغريق والرومان بكل من «ديمتر» و«سيريس»، ووصفتها بعض النصوص الإغريقية ب «والدة ثمار الأرض» و«أم حزم القمح». ولذا نراها في الأعمال التشكيلية الإغريقية والرومانية وقد رفعت بيديها الاثنتين باقتين من سيقان القمح أو زينت رأسها بسنابله. وقد انتشرت عبادتها في العالم الكلاسيكي انتشار النار في الهشيم، منذ فتح الإسكندر الكبير، وملأت تماثيلها المقدسة أصقاع الإمبراطورية الرومانية، وخصوصا تلك التي تمثلها جالسة وفي حضنها الوليد الإلهي، والتي بقي بعضها يعبد من قبل المسيحيين على أنه تمثال السيدة مريم وابنها يسوع.

74

ومنذ الأزمنة المبكرة، يظهر الإله أوزوريس إلى جانب إيزيس أخا أو زوجا أو ابنا، وشريكا في خصائص الخصب، وإلها أسيرا لدورة القمح والإنبات.

فبعد أن اكتشفت إيزيس القمح، أعطت باقاته الأولى لأوزوريس الذي قام بتعليم البشر زراعتها.

75

وقد ابتدأ أوزوريس مهمته في أرض مصر فأبطل العادات الهمجية القديمة، وعلم الناس كيفية صناعة الأدوات الزراعية واستعمالها في استنبات القمح والشعير، وعلمهم أكل الخبز وشرب النبيذ والجعة وبناء البيوت. وهو الذي أسس الديانة الأولى وعلم البشر عبادة الآلهة، واستخدام الآلات الموسيقية. وبعد أن قام بنشر الحضارة في مصر غادرها إلى آسيا وبقية أنحاء المعمورة، متابعا مهمته في نشر الحضارة مستميلا إليه الناس باللين والمحبة والموسيقى، ثم عاد إلى مصر ليحكمها بالعدل، ولكن إلى حين. ففي السنة الثامنة والعشرين من حكمه، قام ضده أخوه الشرير «سيت» الذي نام على حسده وغيرته وضغائنه فترة طويلة، فقتله غيلة ووضع جسده في صندوق خشبي أغلقه بإحكام ورماه في النيل. حملت مياه النيل الصندوق إلى البحر، فطاف على غير هدى حتى استقر عند شواطئ كنعان أمام مدينة بيبلوس، حيث أمسكت به أغصان شجرة الطرفاء النحيلة، التي ما لبثت أن نمت بشكل غير مألوف بعد أن لامسها التابوت المقدس، واحتوته بكامله داخل جذعها. فلما رآها ملك بيبلوس، أعجب بها أشد العجب وأمر بأن تقطع لاستعمالها كعمود يزين قصره ويدعم به سقفه. وما إن نصبت الشجرة عمودا حتى أخذت تتضوع طيبا نفاذا ذاع صيته في كل البلاد، ووصل إلى أسماع إيزيس في مصر، التي كانت في حداد مقيم منذ غياب زوجها. فعرفت ببصيرتها سر الشجرة، وطارت لتوها إلى بيبلوس، حيث تنكرت في هيئة امرأة عادية، ودخلت القصر الملكي كضيفة على الملكة «عستارت»، وصارت مربية لابنها. ثم ما لبثت أن أعلنت عن نفسها وطالبت باستعادة أوزوريس من الشجرة، فكان لها ما أرادت. شقت إيزيس الشجرة وأخرجت الصندوق ففتحته وبكت ما شاء لها البكاء فوق جثة زوجها المسجاة، ثم حملته وطارت به إلى مصر حيث خبأته مؤقتا في مستنقعات الدلتا؛ خوفا من أن يعثر عليه أخوه «سيت». ولكن سيت يجد الصندوق فيفتحه ويمزق جسد أوزوريس إلى أربع عشرة قطعة، يوزعها في طول البلاد وعرضها. غير أن هذا لا يفت في عضد إيزيس التي تعود للبحث عن أوزوريس وتذرع الأرض منقبة عن أجزائه المبعثرة، فتعثر عليها قطعة بعد قطعة، ما عدا عضو الذكورة، ثم تجمع فتنفخ فيها الحياة مستعيدة حبيبها من عالم الموتى. ولكن أوزوريس بعد بعثه، لا يفضل قضاء حياته على الأرض، وإنما يهبط إلى العالم الأسفل ليغدو سيدا له، حاكما وقاضيا في مملكة الموتى، بينما يتابع ابنه من إيزيس «حورس»، مقارعة عمه سيت، ويستمر صراع القوتين: قوة النور والخير، وقوة الظلام والشر.

76

وصلت هذه الأسطورة إلينا عن طريق المصادر الإغريقية، وهي النص الوحيد المعتمد نظرا لعدم وجود نص مصري متكامل يروي قصة إيزيس وأوزوريس. ولا شك أن الإغريق قد استلهموا روايات شفهية كانت سائدة في القرون القليلة السابقة للميلاد، وخصوصا إبان عصر البطالمة، فجاء النص تعبيرا عن الأسطورة في شكلها المتأخر، مضافا إليه تزيين إغريقي واضح. ولكننا رغم ذلك نستطيع أن نكتشف فيها آثارا تدل على أشكال الأسطورة الأقدم. فالمراحل الأولى للأسطورة القمرية تظهر في تقطيع أوزوريس إلى أربعة عشر جزءا، ثم إعادة تجميعها ونفخ الحياة فيها. وقد أشرنا إلى ذلك مفصلا في مكان آخر من هذا الفصل . أما الأسطورة النيوليتية الأولى، فتظهر في قيام الإله بنشر زراعة القمح والحبوب في مصر وبقية أنحاء العالم، ونقل البشر من طور البداءة إلى طور الحضارة. فأوزوريس هنا هو القمح الذي كان لاكتشاف زراعته الأثر الحاسم في بداية التاريخ البشري، وليس موته، وقيام إيزيس بإعادته إلى الحياة، إلا تكرارا لأسطورة القمح القتيل ودورة حياته السنوية. ونستطيع التأكيد على أن أسطورته كانت نسخة مطابقة لأسطورة تموز وأسطورة أدونيس، قبل أن تحوله الاتجاهات المتأخرة إلى إله للعالم الأسفل. ولربما كان تحوله إلى إله للعالم الأسفل، قد مر بمرحلة انتقالية كان فيها إلها لذلك العالم، خلال نصف السنة التي يغيب فيها القمح في باطن الأرض، كما هو حال بيرسفوني التي كانت تقضي نصف السنة ملكة على الموتى، ونصفها الآخر ملكة نورانية في العالم الأعلى. أما توزيع أجزاء أوزوريس الأربعة عشر في أنحاء متفرقة من الأرض، فيذكرنا بالأمثلة العديدة التي أوردناها في هذا الفصل، وبعض الفصول السابقة، عن دفن أجزاء جسد القربان البشرية الممثل لإله الخصب القتيل في الأرض لإخصابها. ولربما كان ملوك مصر الأوائل، الذين بقوا حتى آخر أيام الحضارة المصرية يحملون قبسا من روح الإله الأكبر، وتقدم لهم فروض العبادة كالآلهة، ربما كانوا في الأيام السالفة يقتلون باعتبارهم ممثلين للإله أوزوريس نفسه، وتوزع أجزاؤهم في الحقول لإخصابها.

هذا وتشف بعض عناصر الأسطورة عن صلتها الوثيقة بأسطورة أدونيس الكنعانية، فأوزوريس يولد ولادة ثانية من الشجرة، كما ولد أدونيس. وهذه الولادة تحصل في مدينة جبيل الفينيقية، المركز الرئيسي لعبادة أدونيس. وكما خبأت عستارت أدونيس في صندوق وضعته في عهدة بيرسفوني، ثم عادت إلى العالم الأسفل تحاول استرجاعه، كذلك هو حال أوزوريس الذي وضع جسده القتيل في صندوق راحت إيزيس تبحث عنه حتى وجدته في قصر ملكة بيبلوس، التي تطلق عليها الأسطورة اسم «عستارت». وهذا التطابق بين اسم الملكة واسم الإلهة ليس من قبيل الصدف، بل هو بقية باقية من أسطورة أدونيس، التي ارتحلت في تاريخ مبكر من شواطئ كنعان إلى شواطئ مصر حيث يبدأ حياته الجديدة في أحضان الأم المصرية الكبرى. ويذكرنا الصراع بين أوزوريس الأخضر وسيت، الذي يمثل الجفاف والصحراء التي تحاول التوسع دوما على حساب الأراضي الخصبة حول ضفاف النيل، بالصراع بين بعل وموت. وبشكل عام نلاحظ أن شخصية أوزوريس تتطابق في ملامحها مع شخصية تموز وأدونيس، وخصوصا في علاقته بإيزيس، التي تبدو في النصوص المصرية ظلا حاميا للإله الابن، لا حياة له بدونها. نقرأ في نص يعود إلى المملكة المتوسطة:

أخته من قدم الرعاية له وبسط عليه الحماية.

Unknown page