الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة طبعة الأعمال غير الكاملة
عشتار تتحدث عن نفسها
فاتحة
1 - البؤرة الحضارية والأسطورة الأولى
2 - عشتار الأم الكبرى
3 - عشتار القمر
4 - عشتار الخضراء
5 - عشتار العذراء
6 - عشتار البغي المقدسة
7 - عشتار السوداء
8 - عشتار سيدة الأسرار
9 - تموز الخضر
10 - عشتار المخلصة
رؤيا
مراجع البحث
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة طبعة الأعمال غير الكاملة
عشتار تتحدث عن نفسها
فاتحة
1 - البؤرة الحضارية والأسطورة الأولى
2 - عشتار الأم الكبرى
3 - عشتار القمر
4 - عشتار الخضراء
5 - عشتار العذراء
6 - عشتار البغي المقدسة
7 - عشتار السوداء
8 - عشتار سيدة الأسرار
9 - تموز الخضر
10 - عشتار المخلصة
رؤيا
مراجع البحث
لغز عشتار
لغز عشتار
الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة
تأليف
فراس السواح
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
في عام 1970م بدأت الأفكار العامة لكتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» تتشكل في ذهني، وعندما بذلت المحاولات الأولى لكتابتها، شعرت بحاجة إلى مراجع أكثر من المراجع القليلة التي في حوزتي، فرحت أبحث في منافذ بيع الكتب، وفي المراكز الثقافية التابعة لوزارة الثقافة السورية، وفي مكتبة جامعة دمشق؛ عن مراجع باللغة الإنجليزية فلم أجد ضالتي، فتأكدت لي استحالة إتمام المشروع وتوقفت عن الكتابة.
وفي عام 1971م قمت برحلة طويلة إلى أوروبا والولايات المتحدة دامت ستة أشهر، رحت خلالها أشتري ما يلزمني من مراجع وأشحنها بالبريد البحري إلى سوريا، وعندما عدت شرعت في الكتابة وأنجزت الكتاب في نحو سنة ونصف. بعد ذلك رحت أستعين بأصدقائي المقيمين في الخارج لإمدادي بما يلزمني من مراجع، وكانت مهمة شاقة وطويلة تستنفد المال والجهد، وكان عمل الباحث في تلك الأيام وفي مثل تلك الظروف عملا بطوليا، إن لم يكن مهمة مستحيلة.
بعد ذلك ظهر الحاسوب الشخصي في أوائل الثمانينيات، ثم تأسست شبكة الإنترنت التي لعبت دورا مهما في وضع الثقافة في متناول الجميع، ووفرت للباحثين ما يلزمهم من مراجع من خلال الكتب الإلكترونية المجانية أو المدفوعة الثمن، فأزاحت هم تأمين المراجع عن الكاتب الذي يعيش في الدول النامية، ووصلته بالثقافة العالمية من خلال كبسة زر على حاسوبه الشخصي.
لقد صار حاسوبي اليوم قطعة من يدي لا أقدر على الكتابة من دونه، مع إبقائي استخدام القلم في الكتابة، لا برنامج الوورد. ولرد الجميل للإنترنت، أردت لطبعة الأعمال الكاملة لمؤلفاتي التي صدرت في 20 مجلدا، أن توضع على الشبكة تحت تصرف عامة القراء والباحثين، واخترت «مؤسسة هنداوي» لحمل هذه المهمة؛ لأنها مؤسسة رائدة في النشر الإلكتروني، سواء من جهة جودة الإخراج أو من حيث المواضيع المتنوعة التي تثري الثقافة العربية.
جزيل الشكر ل «مؤسسة هنداوي»، وقراءة ممتعة أرجوها للجميع!
مقدمة طبعة الأعمال غير الكاملة
عندما وضعت أمامي على الطاولة في «دار التكوين» كومة مؤلفاتي الاثنين والعشرين ومخطوط كتاب لم يطبع بعد، لنبحث في إجراءات إصدارها في طبعة جديدة عن الدار تحت عنوان «الأعمال الكاملة»، كنت وأنا أتأملها كمن ينظر إلى حصاد العمر. أربعون عاما تفصل بين كتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» والكتاب الجديد «الله والكون والإنسان»، ومشروع تكامل تدريجيا دون خطة مسبقة في ثلاث وعشرين مغامرة هي مشروعي المعرفي الخاص الذي أحببت أن أشرك به قرائي. وفي كل مغامرة كنت كمن يرتاد أرضا بكرا غير مطروقة ويكتشف مجاهلها، وتقودني نهاية كل مغامرة إلى بداية أخرى على طريقة سندباد الليالي العربية. ها هو طرف كتاب «مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة» يبدو لي في أسفل الكومة. أسحبه وأتأمله، إنه في غلاف طبعته الحادية عشرة الصادرة عام 1988، التي عاد ناشرها إلى غلاف الطبعة الأولى الصادرة عام 1976، الذي صممه الصديق الفنان «إحسان عنتابي»، ولكن ألوانه بهتت حتى بدت وكأنها بلون واحد لعدم عناية الناشر بتجديد بلاكاتها المتآكلة من تعدد الطبعات التي صدرت منذ ذلك الوقت. وفي حالة التأمل هذه، يخطر لي أن هذا الكتاب قد رسم مسار حياتي ووضعني على سكة ذات اتجاه واحد؛ فقد ولد نتيجة ولع شخصي بتاريخ الشرق القديم وثقافته، وانكباب على دراسة ما أنتجته هذه الثقافة من معتقدات وأساطير وآداب، في زمن لم تكن فيه هذه الأمور موضع اهتمام عام، ولكني لم أكن أخطط لأن أغدو متخصصا في هذا المجال، ولم أنظر إلى نفسي إلا كهاو عاكف بجد على هوايته . إلا أن النجاح المدوي للكتاب - الذي نفدت طبعته الأولى الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق في ستة أشهر، ثم تتابعت طبعاته في بيروت - أشعرني بالمسئولية؛ لأن القراء كانوا يتوقعون مني عملا آخر ويتلهفون إليه.
إن النجاح الكبير الذي يلقاه الكتاب الأول للمؤلف يضعه في ورطة ويفرض عليه التزامات لا فكاك منها، فهو إما أن ينتقل بعده إلى نجاح أكبر، أو يسقط ويئول إلى النسيان عندما لا يتجاوز نفسه في الكتاب الثاني. وقد كنت واعيا لهذه الورطة، ومدركا لأبعادها، فلم أتعجل في العودة إلى الكتابة، وإنما تابعت مسيرتي المعرفية التي صارت وقفا على التاريخ العام والميثولوجيا وتاريخ الأديان. وعاما بعد عام، كان كتاب «لغز عشتار» يتكامل في ذهني وأعد له كل عدة ممكنة خلال ثمانية أعوام، ثم كتبته في عامين ودفعته إلى المطبعة فصدر عام 1986؛ أي بعد مرور عشر سنوات على صدور الكتاب الأول، وكان نجاحا مدويا آخر فاق النجاح الأول، فقد نفدت طبعته الأولى، 2000 نسخة، بعد أقل من ستة أشهر، وصدرت الطبعة الثانية قبل نهاية العام، ثم تتالت الطبعات.
كان العمل الدءوب خلال السنوات العشر الفاصلة بين الكتابين، الذي كان «لغز عشتار» من نواتجه، قد نقلني من طور الهواية إلى طور التخصص، فتفرغت للكتابة بشكل كامل، ولم أفعل شيئا آخر خلال السنوات الثلاثين الأخيرة التي أنتجت خلالها بقية أفراد أسرة الأعمال الكاملة، إلى أن دعتني جامعة بكين للدراسات الأجنبية في صيف عام 2012 للعمل محاضرا فيها، وعهدت إلي بتدريس مادة تاريخ العرب لطلاب الليسانس، ومادة تاريخ أديان الشرق الأوسط لطلاب الدراسات العليا، وهناك أنجزت كتابي الأخير «الله والكون والإنسان». على أنني أفضل أن أدعو هذه الطبعة بالأعمال غير الكاملة، وذلك على طريقة الزميلة «غادة السمان» التي فعلت ذلك من قبلي؛ لأن هذه المجموعة مرشحة دوما لاستقبال أعضاء جدد ما زالوا الآن في طي الغيب.
وعلى الرغم من أنني كنت أخاطب العقل العربي، فإني فعلت ذلك بأدوات البحث الغربي ومناهجه، ولم أكن حريصا على إضافة الجديد إلى مساحة البحث في الثقافة العربية، قدر حرصي على الإضافة إلى مساحة البحث على المستوى العالمي، وهذا ما ساعدني على اختراق حلقة البحث الأكاديمي الغربي المغلقة، فدعاني الباحث الأميركي الكبير «توماس تومبسون» المتخصص في تاريخ فلسطين القديم والدراسات التوراتية إلى المشاركة في كتاب من تحريره صدر عام 2003 عن دار
T & T Clark
في بريطانيا تحت عنوان:
Jerusalem in History and Tradition
ونشرت فيه فصلا بعنوان:
Jerusalem During the Age of Judah Kingdom
كنت قد تعرفت على «تومبسون» في ندوة دولية عن تاريخ القدس في العاصمة الأردنية عمان عام 2001، شاركت فيها إلى جانب عدد من الباحثين الغربيين في التاريخ وعلم الآثار، وربطت بيننا صداقة متينة استمرت بعد ذلك من خلال المراسلات، إلى أن جمعتنا مرة ثانية ندوة دولية أخرى انعقدت في دمشق بمناسبة اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية، وكانت لنا حوارات طويلة حول تاريخ أورشليم القدس وما يدعى بتاريخ بني إسرائيل، واختلفنا في مسائل عديدة أثارها «تومبسون» في ورقة عمله التي قدمها إلى الندوة. وكان الباحث البريطاني الكبير «كيث وايتلام» قد دعا كلينا إلى المشاركة في كتاب من تحريره بعنوان:
The Politics of Israel’s Past
فاتفقنا على أن نثير هذه الاختلافات في دراستينا اللتين ستنشران في ذلك الكتاب، وهكذا كان. فقد صدر الكتاب الذي احتوى على دراسات الباحثين من أوروبا وأميركا عام 2013 عن جامعة شيفلد ببريطانيا، وفيه دراسة لي عن نشوء الديانة اليهودية بعنوان:
The Faithful Remnent and the Invention of Religious Identity
خصصت آخرها لمناقشة أفكار «تومبسون»، ول «تومبسون» دراستان الأولى بعنوان:
What We Do And Do Not Know About Pre-Hellenistic Al-Quds
والثانية خصصها للرد علي بعنوان:
The Literary Trope of Return - A Reply to Firas Sawah
أي: العودة من السبي كمجاز أدبي - رد على فراس السواح.
الكتاب يشبه الكائن الحي في دورة حياته؛ فهو يولد ويعيش مدة ثم يختفي ولا تجده بعد ذلك إلا في المكتبات العامة، ولكن بعضها يقاوم الزمن وقد يتحول إلى كلاسيكيات لا تخرج من دورة التداول. وقد أطال القراء في عمر مؤلفاتي حتى الآن، ولم يختف أحدها من رفوف باعة الكتب، أما تحول بعضها إلى كلاسيكيات فأمر في حكم الغيب.
فإلى قرائي في كل مكان، أهدي هذه الأعمال غير الكاملة مع محبتي وعرفاني.
فراس السواح
بكين، كانون الثاني (يناير) 2016
عشتار تتحدث عن نفسها
أنا الأول، وأنا الآخر،
أنا البغي، وأنا القديسة ،
أنا الزوجة، وأنا العذراء،
أنا الأم، وأنا الابنة،
أنا العاقر، وكثر هم أبنائي،
أنا في عرس كبير ولم أتخذ زوجا،
أنا القابلة ولم أنجب أحدا،
وأنا سلوة أتعاب حملي،
أنا العروس وأنا العريس،
وزوجي من أنجبني،
أنا أم أبي، وأخت زوجي،
وهو من نسلي.
فاتحة
عندما يشرع المؤلف في الكتابة بعد فترة تحضير طويلة، يقبل على عمله معتقدا أن جملة الأفكار التي غدت جاهزة في ذهنه، والخطوط العامة التي بعثرها على الأوراق والدفاتر والبطاقات، هي كل ما سيقدمه كتابه إلى القراء، وأن جهده المقبل سوف ينصب على توضيح تلك الأفكار وصقلها وتفصيلها من خلال المنهج الذي رسمه. إنه يريد من خلال عمله مشاركة الآخرين له في معارف توصل إليها وحقائق أضناه الكدح في سبيلها. ولكنه ما إن يسير شوطا قصيرا في طريق ظنه ممهدا سهلا، حتى تتكشف له جسامة المهمة وقصور العدة التي تزود بها؛ فكل مرحلة من الطريق ترمي به إلى أخرى أشق وأكثر وعورة، فيجد نفسه يرتاد مفازات لم يحلم بارتيادها، وتتكشف أمام ناظريه آفاق لم تخطر ببال. فإذا وصل غايته سالما غانما بعد أن حدثته نفسه مرارا بالنكوص والعودة من حيث أتى، استدار ببصره إلى الوراء البعيد، إلى نقطة البداية، وقارن حصيلته الراهنة بأهدافه الأولى، عرف مقدار ما علمته الرحلة مقاسا بما كان عنده. ثم يخامره شعور غامض وخفي، حقيقي بمقدار ما هو غير مفهوم، شعور بأنه لم يكن إلا قناة مرت من خلالها حقائق كامنة في الظل، منتظرة أن تعبر عن نفسها من خلال أحد ما مستعد لبذل الوقت والجهد وأرق النفس. ولعل أهم ما علمني إياه العمل في هذا المؤلف، هو وحدة التجربة الروحية للإنسان عبر الزمان واختلاف المكان، وأن كل دين ونظام ميثولوجي ليس إلا قطعة ملونة صغيرة في فسيفساء بديعة زاخرة بالأجزاء التي تبدو مستقلة عن قرب، متوحدة عن بعد، في نظام متكامل يعطي معنى لكل جزء من أجزائه، ويستمد معناه من هذه الأجزاء ذاتها.
في البداية، كنت أطمح إلى تقديم بحث واف عن شخصية الإلهة الأم، أو الأم الكبرى، في النسق الميثولوجي السوري-البابلي، ومتوازياتها في الثقافات الكبرى المجاورة. ثم اكتشفت تدريجيا أن الحيز المكاني الثقافي، والمدى الزمني اللذين حددتهما إطارا للبحث قاصران عن الإحاطة بالموضوع. كان تتبع الأم الكبرى يوغل بي زمنيا إلى ما وراء حدود التاريخ، حيث وجدت نفسي أودع النصوص المكتوبة مجتازا عتبة ما قبل التاريخ، حيث لا شواهد وعلامات سوى الأدوات الحجرية وأعمال الإنسان الفنية الأولى. وكان اقتفاء أثر قدميها على الأرض يأخذني في الاتجاهات الأربعة حتى درت الكرة المعمورة، راجعا إلى نقطة المبتدى. وشيئا فشيئا كنت أتبين أن البحث في ميثولوجيا الأم الكبرى ليس بحثا في موضوع محدد، بل هو بحث في جوهر الأسطورة ومبدئها وغاياتها؛ لأنها المحور الأساسي الذي دارت حوله أساطير الثقافات البشرية، وعنه شعت وتفرقت. ومن خلال البحث تكونت النظرية التي تلم شتات الملاحظات في كل واحد فتفسرها وتعطيها المعنى. وكما تكونت النظرية من خضم البحث، لا سابقة عليه، ولا موجهة له، كذلك جعلتها تتفتح تلقائيا عبر صفحات الكتاب دون أن أعمد إلى بسطها ثم أنفق الجهد في إثباتها. فأنا لا أطمح إلى وضع تفسير شامل لا يأتيه الباطل من أمام أو وراء، بل أطمح لإثارة الأسئلة عند من سيحاورهم هذا الكتاب ويحاورونه لا لإعطاء الأجوبة.
ورغم أني قد قدمت الملامح العامة للنظرية في الفصل الأول، فإن الفصول الباقية يجب ألا تعتبر بحال من الأحوال جهدا منصبا على إثبات الأطروحات الأولى؛ لأنني في الحقيقة قد كتبت الفصل الأول آخر ما كتبت لا أوله، فكان بالنسبة لي نتيجة لا افتراضا مسبقا موجها للبحث. من هنا، يستطيع أي قارئ أن يصرف النظر عنه إذا شاء دون أن يفقد البحث مضمونه ووحدته وتماسكه.
أخيرا، لقد كان من الأهداف الأساسية لمنهجي في البحث، تقديم كتاب سهل التناول للقارئ غير المتخصص، وإقامة حوار على المستوى العالمي مع الحلقات المهتمة والمتخصصة بهذا الموضوع. كل ما أرجوه ألا أكون قد ضحيت بأحد هذين الهدفين لحساب الآخر.
الفصل الأول
البؤرة الحضارية والأسطورة الأولى
منذ أن انبثق الإنسان من المملكة الحيوانية، كان في صراع مع عوامل البيئة من أجل إثبات نفسه كجنس متميز يبتكر تاريخه الخاص، مبتعدا عن الأجناس الأخرى التي خلفها وراءه بلا تاريخ مستسلمة لآلية الطبيعة. وقد جاءت حضارتنا الحديثة ثمرة لذلك السعي الدائب الذي استمر مئات الألوف من الأعوام وتتويجا له. إلا أن السؤال الذي طرح نفسه منذ أمد طويل على العقل الإنساني، لم يجد جوابه إلا في العقود الثلاثة الأخيرة، ومن خلال البحث الأركيولوجي الحديث: فمتى بدأت حضارتنا الحديثة، وما هي العوامل الحاسمة التي أدت إلى ظهورها؟ أين ابتدأت هذه الحضارة؟ وكيف تم تعميمها على جهات العالم الأربع؟ هل نشأت في بؤرة أساسية فشعت منها نحو الأطراف، أم صدرت عن مراكز متباعدة وسارت في خطوط متوازية قبل أن تلتقي وتتمازج؟
تميز التاريخ الإنساني بأربعة تحولات أساسية؛ كان كل تحول منها يحدث انقلابا شاملا في شتى مناحي الحياة، ويعطي للحضارة نقلة حاسمة في شتى مظاهرها ومضامينها: (أ)
أقدم هذه التحولات حدث في مطلع العصر البليستوسيني الأعلى الذي امتد من عام 100000ق.م. إلى عام 10000 قبل الميلاد. فهنا تشير الدلائل إلى أن الإنسان قد أحس انفصاله الفعلي عن عالم الحيوان، وأخذ في إدراك إمكانيات بيئته الطبيعية وتكييف نفسه تجاهها، وتنظيم جهوده من أجل استغلالها وتوجيهها لمصلحته. وقد اصطلح على تسمية جملة التغييرات التي حدثت خلال هذه الفترة بالثقافة بالباليوليتية
أي ثقافة العصر الحجري القديم، والتي تم تقسيمها إلى ثلاثة عصور فرعية هي: الباليوليتي الأدنى، والمتوسط، والأعلى. (ب)
التحول الثاني حدث في سياق الألف التاسع وأوائل الألف الثامن قبل الميلاد؛ وذلك بتأثير ثلاثة عوامل حاسمة هي: (1) الاستقرار في الأرض وبناء المستوطنات الثابتة الأولى. (2) اكتشاف الزراعة والبداية المنظمة لإنتاج الغذاء. (3) تدجين الماشية. ولقد أحدث هذا التحول هزة كبرى في بنية المجتمعات البشرية أعطتها الدفعة الأولى الحاسمة لبناء الحضارة، والخروج من رقدتها المستكينة في حضن الطبيعة، وامتلاك مصيرها بنفسها. فخرج الإنسان من كهوفه وبدأ ببناء القرى المستقرة الأولى في السهول المفتوحة ، منهيا بذلك تاريخا طويلا من التجوال في الأرض بحثا عن الغذاء. ثم تعلم زراعة الحبوب بعد أن قضى زمنا في جمعها من حقولها البرية، وسيطر على بعض الأنواع الحيوانية فدجنها وأخذ يستفيد من منتجاتها. ولقد أطلق على هذا التحول الهام اسم «الثورة النيوليتية» التي فتحت الطريق لثقافة العصر النيوليتي
Neolithic
الذي امتد بين 8500ق.م. و4500ق.م. وانتهى بظهور أول المدن في تاريخ البشرية. (ج)
حدث التحول الثالث مع تكون المدن الأولى في وادي الرافدين الأدنى بتنظيماتها المدنية والسياسية والدينية المتطورة، وهو التحول الذي أطلق عليه اسم «الثورة المدينية»
Urban Revolution
والذي كان بداية لعصر ما زلنا نعيش فيه حتى الآن. (د)
أما التحول الرابع فهو آخر التحولات وأقربها إلينا، وهو التحول المعروف باسم «الثورة الصناعية» في القرن التاسع عشر، والذي أحدث انقلابا جذريا في كل أساليب الإنتاج.
1
وأعتقد أننا الآن في خضم ثورة رابعة هي الثورة المعلوماتية.
وفي الواقع، فإن الثورة النيوليتية التي أدت إلى الاستقرار واكتشاف الزراعة وتدجين الماشية، هي البداية الحقيقية لحضارتنا القائمة الآن. أما الثورة المدينية فهي التي أعطت هذه الحضارة أطرها الأولى التي ما زالت قائمة في أساسات مجتمعات العصر الحديث. ورغم أن كل الحضارات، القائمة منها والمندثرة، قد حققت هاتين الثورتين في زمن ما من تاريخها، فإن علم الآثار الحديث يقرر اليوم أن الثورة النيوليتية والثورة المدينية قد حدثتا لأول مرة في تاريخ الشرية في منطقة الشرق الأدنى القديم، وهي المنطقة الوحيدة التي حققت ثورتيها في معزل عن كل تأثير خارجي، جاعلة من نفسها نموذجا أول للتحولات التالية في المناطق الأخرى.
2
فالثورة المدينية وظهور المدن الأولى، قد تم في سومر بوادي الرافدين، ومنها انتقلت جنوبا نحو مصر، وشرقا نحو الهند.
3
أما البشائر الأولى للثورة النيوليتية، البداية الحقيقية للحضارة، فقد انطلقت من سوريا، حيث أثبتت الحفريات الأثرية التي ما زالت قائمة اليوم على قدم وساق، أن أولى التجمعات البشرية المستقرة، وأولى القرى المبنية في السهول المفتوحة قد قامت في سوريا الجنوبية في منطقة فلسطين ووادي الأردن خلال الألف العاشر والألف التاسع ق.م.
4
وأن أولى التجارب الزراعية قد تمت في المناطق الداخلية من سوريا على طول الشريط الممتد من جنوب حلب إلى صحراء سيناء، ويعتقد أن قصب السبق في هذا المضمار كان لموقعين رئيسين هما موقع تل المريبط في الشمال عند شاطئ الفرات، وموقع أريحا في الجنوب بوادي الأردن، وذلك نحو نهاية الألف التاسع وبداية الألف الثامن قبل الميلاد.
5
وخلال الألفين التاليين تم انتشار الزراعة انطلاقا من مراكزها الأولى نحو جميع الاتجاهات، فلم يأت الألف السادس قبل الميلاد حتى كانت الثورة النيوليتية قد آتت ثمارها في جميع أنحاء الشرق القديم، وانطلقت منها نحو آسيا وجنوب أوروبا.
6
وهكذا يأتي علم الآثار ليدعم نظرية البؤرة الحضارية الأولى وانتشار الحضارة من مركز واحد، في مقابل نظرية التطور المتوازي، ويشير إلى منطقة الهلال الخصيب كموطن لهذه البؤرة، حيث بدأ الاستقرار في الأرض وتبعته الزراعة في قرن الهلال الغربي، وظهرت المدينة الأولى نواة مدنية اليوم في قرنه الشرقي. ولسوف نأتي فيما يلي على سرد الخطوط العريضة لهذا التحول الكبير؛ وذلك لأهميته القصوى لموضوع هذا الكتاب.
لقد شكلت المرحلة الممتدة بين الألف العاشر والألف السادس قبل الميلاد، مرحلة حاسمة في تاريخ الإنسانية؛ فالتحولات الجذرية التي تمت هنا قد نقلت الإنسانية من مرحلة الصيد والالتقاط إلى مرحلة الاستقرار والزراعة وتربية المواشي. وإن الدلائل تشير حتى الآن إلى أن هذه التحولات التي شكلت القاعدة المكينة لحضارتنا المدنية قد تمت في الشرق الأدنى قبل أن تتم في أي مكان آخر على سطح الكرة الأرضية.
7
ولقد كانت نقطة انطلاق هذه التحولات مجموعة من الصيادين واللاقطين التي بدأت تدريجيا بالخروج من كهوفها والتجمع في وحدات قروية صغيرة شبه مستقرة، أخذت شكلها الثابت مع مطلع الألف التاسع قبل الميلاد في منطقة فلسطين وغور الأردن، حيث ظهرت أولى القرى ذات البنية الحضرية المكينة، فيما يدعى بالحضارة النطوفية التي نشأت وتطورت مستوطناتها المستقرة الأولى قبل ظهور أية دلالات واضحة على إنتاج الغذاء.
8
ولقد كان اقتصاد هذه المستوطنات استمرارا بطريقة جديدة لاقتصاد العصر الباليوليتي، إلا أنها قد أخذت بالاعتماد أكثر فأكثر على الاغتذاء بالقمح البري الذي كانت الشروط المناخية في المنطقة قد ساعدت على انتشاره بكثرة. فكانت المستوطنات في شكلها المتواضع البدئي تقام بصورة مؤقتة قرب حقول القمح البري على شكل مستوطنة، أم تدعمها معسكرات تابعة تبعد عنها مسافة ليست بالقصيرة، يقيم فيها رجال المجموعة خلال تطوافهم بحثا عن الغذاء، ليعودوا من ثم إلى مستوطنتهم الأصلية التي كانت تنتقل من مكانها كل فترة سعيا وراء حقوق قمح أغنى وقطعان صيد أوفر.
9
وقد استمدت هذه الحضارة النطوفية اسمها من وادي نطوف حيث تم العثور على أولى مواقعها، وبعد ذلك تابع الكشف الأثري البحث عن امتدادات هذه الثقافة حتى تم اكتشاف ثلاثة عشر موقعا رئيسيا من مواقعها، وذلك في الشريط الضيق الذي يمتد بعرض ثمانين كيلومترا على محاذاة البحر المتوسط بين خط عرض بيروت وخط عرض القاهرة؛ أي من جنوب دمشق في الشمال حتى نهايات صحراء النقب باتجاه سيناء، فكانت هذه المنطقة من أكثر المناطق كثافة سكانية بمعايير ذلك الزمن. وفي الألف التاسع، أخذت المستوطنات النطوفية تأخذ شكل القرى المستقرة وبعضها كان يسكن لمدة تصل عدة مئات من السنين، أما تعداد سكانها فيتراوح بين الخمسين والمئتين والخمسين فردا، وهو تعداد كبير إذا ما قورن بتعداد التجمعات الباليوليتية السابقة التي لم تكن تزيد عن الخمسة والعشرين فردا. في هذه القرى ظهرت العمارة لأول مرة، وبنيت البيوت ذات الأساسات والجدران الصلبة والثابتة والأرضيات المرصوفة، فكان عدد بيوت القرية الواحدة يصل في بعض الأحيان إلى خمسين بيتا. ورغم أن الزراعة لم تكن قد اكتشفت بعد، إلا أن الاستفادة المكثفة من القمح البري وبعض الحبوب الأخرى كانت على ما يبدو المرحلة المنطقية الممهدة للمرحلة الزراعية، حيث تم في المواقع النطوفية العثور على أدوات الاستفادة من الحبوب وتحضيرها للغذاء، وذلك كالمناجل الصوانية وأحجار الطاحون وما إليها، ومخازن الحبوب، دون العثور على أية بينة تشير إلى توصل هذه الحضارة إلى تقنيات الزراعة أو البداية المنظمة لتدجين الماشية.
10
وإضافة إلى النشاطات شبه الزراعية والصيد، فإن التبادل التجاري الإقليمي ، قد بدأ في شكله المتواضع البدئي خلال الفترة النطوفية، ولعب دورا مكملا في اقتصاد تلك القرى الأولى؛ فقد تم العثور في المواقع النطوفية على بعض أنواع أصداف الزينة التي يرجع مصدرها إلى البحر المتوسط والبحر الأحمر؛ مما يدل على وقوع تبادل تجاري مع تلك المواقع. كما تشير الدلائل إلى حصول تبادلات تتعلق بأنواع أخرى من بضائع الرفاهية وبضائع الاستهلاك؛ مثل الأحجار، وقطع العظم المحفورة، والجلود، والملح.
11
نحو نهاية الألف التاسع انتهت الثقافة النطوفية، وهجرت قراها دون سبب واضح، مفسحة المجال لظهور القرى الزراعية الأولى.
أثبت علم الآثار الحديث بالتعاون الوثيق مع علم الحياة النباتية لما قبل التاريخ، أن الزراعة لم تظهر لأول مرة في وديان الأنهار الخصبة، كما جرى الاعتقاد لفترة طويلة، بل في السهول والوديان الداخلية التي ترويها مياه الأمطار، وفي المناطق التي شهدت لفترة طويلة النمو الحر لحقول الحبوب البرية، وعلى الخصوص سهول سوريا الداخلية وسفوح زاغروس الغربية شرقي وادي الرافدين.
12
فمع مطلع الألف الثامن قبل الميلاد تظهر البينات على بداية التجارب الزراعية الأولى في سوريا في أريحا جنوبا، وفي تل المريبط شمالا، وبذلك يبتدئ العصر النيوليتي الأول، الذي اصطلح على تسميته بنيوليتي ما قبل الفخار، والذي استمر حتى الألف السادس قبل الميلاد.
13
كما تظهر البينات بعد ذلك بوقت قصير على تدجين الماشية لأول مرة في الشرق القديم في موقع «الخيام» غربي البحر الميت.
14
تظهر أريحا كقرية مكتملة منذ عام 8350ق.م. فوق موقع نطوفي قديم، وتستمر آهلة بالسكان مدة ألف عام كاملة حتى 7350ق.م. وذلك على ما أعطته تواريخ الفحم 14. وفي الحقيقة فإن إطلاق اسم قرية على هذا الموقع ليس إلا انسجاما مع التسمية السائدة لمواقع ذلك العصر؛ ذلك أن أريحا كانت الموقع الرائد لسلسلة أعقبتها خلال الألفين التاليين من مواقع أشباه المدن. فعدد السكان يقفز هنا من تعداد المواقع النطوفية الذي لم يتجاوز الثلاثمائة بأية حال، إلى الألفي نسمة وربما أكثر، في مساحة تزيد عن خمسة الهكتارات، كما أن البنية المدنية والسياسية والاقتصادية تتطور وتتعقد تاركة إلى الأبد الشكل النطوفي البسيط. فاستمرار هذا الموقع قائما لمدة ألف عام ومسكونا بالثقافة نفسها، إنما يدل على اقتصاد مستقر وثابت، وعلى بنية مدنية وسياسية متطورة. كما أن السور الحجري الذي تم الكشف عن بعض أجزائه، والذي يعتقد أنه يحيط بالمدينة من شتى جهاتها بسماكة ثلاثة أمتار، وارتفاع يزيد عن أربعة، وهو أول سور في التاريخ يبنى حول مدينة، إنما يكشف عن موارد مادية وبشرية ضخمة بمقياس ذلك العصر، وعلى وجود سلطة مركزية متطورة قادرة على القيام بمثل هذا العمل الجماعي الجبار وتوجيهه والإنفاق عليه. فإلى جانب الزراعة، تظهر التجارة كعامل مكمل في دعم اقتصاد أريحا. ويبدو خلال هذه الفترة أن خطوط التجارة قد امتدت إلى مئات الكيلومترات عبر سوريا في اتجاه الشمال لتصل إلى الأناضول؛ فقد عثر في أريحا على أدوات من حجر السبج (الأوبسيدان)، وهو زجاج بركاني استعمله الأقدمون في صنع المرايا والنصال الصلبة الحادة، ولم يكن متوفرا إلا في منطقة واحدة في هضبة الأناضول. كما كانت أريحا تبادل بمواد الأسفلت والكبريت والملح المتوفر من البحر الميت، وبعض المنتجات الحرفية المصنوعة محليا. أما موقع تل المريبط (80كم جنوب شرقي حلب)، فرغم كونه أصغر قليلا من أريحا، إلا أنه يعكس خصائص مشابهة. فهنا توصل الإنسان إلى اكتشاف تقنيات الزراعة منذ مطلع الألف الثامن قبل الميلاد، واستمر في سكن هذه القرية الزراعية الأولى مدة ألف عام كاملة، كما هو الحال في أريحا. وقد تم هجر هذين الموقعين دون سبب واضح في نهاية الألف الثامن، حيث أتت إليهما بعد ذلك أقوام جديدة وحلت فيهما ثقافات أخرى. وهنا يتحول المركز الحضاري كلية من سوريا الجنوبية إلى سوريا الشمالية خلال الألف السابق قبل الميلاد؛ أي في المرحلة الثانية من العصر النيوليتي ما قبل الفخاري.
15
خلال الألف السابع قبل الميلاد، بلغت الثورة النيوليتية غايتها، حيث صارت الزراعة العامل الأساسي في اقتصاد البؤرة الحضارية، بعد أن كانت في شكلها الأولي مجرد عنصر داعم، واكتمل الشكل المدني والسياسي للقرى الكبيرة المستقرة التي تزايد عددها بشكل كثيف من غابات ساحل المتوسط غربا، إلى حوض الفرات شرقا، مرورا بالسهول الداخلية، وما يعرف الآن ببادية الشام، ومن طوروس شمالا إلى أريحا في الجنوب. من هذه القرى ما تم الكشف عنه مؤخرا في رأس شمرا على شاطئ المتوسط الشمالي، وأبو هريرة ويقرص في حوض الفرات، وتل أسود على رافد بليخ، والكوم ومواقع أخرى حول منطقة تدمر، وتل أسود وتل الرماد حول مدينة دمشق. وقد اعتمد الاقتصاد الزراعي لهذه المستوطنات على الزراعة المطرية، إلا أن تقنيات السقاية البدائية قد بدأت بالظهور في أكثر من منطقة. وبالإضافة إلى الزراعة فقد تابع إنسان المنطقة الاعتماد على الصيد، إلا أن تدجين الماشية الذي غدا نشاطا مستقرا قد حل تدريجيا محل الصيد. وقد ارتبطت هذه المستوطنات بعضها ببعض من خلالها شبكة تجارية متطورة، حيث كان تبادل السلع يتم عبر دروب تتراوح من عشرات الكيلومترات إلى مئات الأميال. كما نشطت بشكل كثيف تجارة حجر السبج من الأناضول.كل ذلك جعل من المنطقة السورية وحدة ثقافية متكاملة.
16
وفي أواسط هذه الفترة حوالي 6500ق.م. ظهرت على الوجود مستوطنة شتال حيوك جنوب الأناضول، وهي أكبر مستوطنة نيوليتية تم الكشف عنها حتى الآن، وهي أقرب إلى المدن السومرية الأولى التي ظهرت بعد 3500ق.م. في وادي الرافدين، بمعابدها وكهنتها المتفرغين وعمارتها المتطورة الجدارية وتماثيلها. فكانت هذه المدن جزءا من البؤرة الحضارية الأولى أغنتها واغتنت بها.
17
مع نهاية الألف السابع وبداية الألف السادس قبل الميلاد ينتهي العصر النيوليتي ما قبل الفخاري، ليبدأ عصر الفخار الذي أبدع فيه الإنسان أرقى فنونه التشكيلية. غير أن الألف السادس تميز بالتحول التدريجي لمركز الثقل الحضاري من سوريا باتجاه وادي الرافدين. فعبر الفترة الممتدة من 5500 إلى 4500 قبل الميلاد نشأت في وادي الرافدين الأعلى، وفي القوس الممتد من نهر الخابور الذي يرفد الفرات إلى شواطئ دجلة الوسطى والجنوبية ثلاث حضارات تتابعت وتداخلت فيما بينها زمنيا وثقافيا، وهي حضارات حسونة وسامراء وتل حلف، وجميعها نشأ بتأثيرات شرقية واضحة. ولم تقتصر كل حضارة من هذه الحضارات على الموقع الأساسي الذي أعطاها اسمها ، بل انتشرت شرقا وغربا من المحيط الهندي إلى ساحل المتوسط، على طول الخطوط التجارية البعيدة المدى. وقد تميزت هذه الفترة بنهضة جمالية شاملة تجلت على وجه الخصوص في الفخاريات الرائعة التي تعد من أجمل ما أنتج العصر النيوليتي على الإطلاق، وذلك بخطوطها الجيومترية التي ظهرت لأول مرة في هذه المواقع وألوانها البديعة الغنية والمتنوعة. كما أن فنون وتكنولوجيا العصر النيوليتي من نحت وعمارة وحياكة وتقنيات زراعية، قد وصلت هنا إلى أبعد مدى في التطور. أما التعدين والصناعات المعدنية المتواضعة؛ فقد ازدهرت نسبيا في هذه الفترة تمهيدا لعصور المعادن القادمة.
18
مع انهيار حضارة حلف حوالي 4500ق.م. تنهي الثقافة النيوليتية أشواطها الأخيرة، وتفسح المجال لعصر المدينة الذي كان موقع تل العبيد جنوبي وادي الرافدين مقدمة له، مهيئا المسرح لظهور الحضارة السومرية التي ابتدأ معها تاريخ الإنسان المكتوب. وقد انتشرت تأثيرات حضارة تل العبيد من مواقعها الرئيسية لتغطي كل المناطق التي شملتها تأثيرات الحضارات الآنفة الذكر، ولم يتسن لحضارة بمفردها قبل تل العبيد أن يبلغ تأثيرها في جميع الاتجاهات مبلغ هذه الحضارة.
19
إلا أنه منذ مطلع الألف الرابع قبل الميلاد يبدأ السومريون بالتدفق على وادي الرافدين الجنوبي، آخذين ببناء حضارة جديدة على أنقاض حضارة تل العبيد التي انطفأت مراكزها واحدا إثر الآخر بتأثير الضغط الجديد. ويبدو أن الثقافة السومرية التي ازدهرت فيما بعد مدينة إلى ثقافة تل العبيد بأكثر مما اعتقده المؤرخون قبل أن يتم الكشف الكامل عن أوابد هذه الثقافة.
20
أعطى السومريون كل العناصر الأولى التي قامت عليها حضارة الإنسان المكتوبة. فإلى جانب الكتابة السومرية، وهي أول كتابة في تاريخ البشرية، قدم السومريون العجلة والمحراث وأوجدوا النظام العشري، وقسموا محيط الدائرة إلى 360 درجة، والسنة إلى 365 يوما، ووضعوا أسس الرياضيات ومبادئ الهندسة، وراقبوا الأفلاك، وبنوا المعابد، وأسسوا نظم الحكم والإدارة، وصاغوا الشرائع المكتوبة.
21
وما إن نصل إلى عام 3000 قبل الميلاد، وهو العام الذي تبدأ كتب التاريخ فيه سرد قصة الحضارة، حتى تكون الثورة المدينية قد اكتملت وبدأت بالانتشار خارج البؤرة الحضارية الأولى على الدروب نفسها التي سارت عليها الثورة النيوليتية.
في الوقت الذي عبرت فيه الثقافة النيوليتية من سوريا إلى أرض الرافدين، كانت تنطلق في اتجاهات أخرى وخصوصا نحو الشمال والغرب، وذلك بتأثير الاحتكاك المباشر والتجارة والتحركات الديمغرافية. فباتجاه الشمال اجتازت الأناضول إلى بحر قزوين والبحر الأسود، وباتجاه الغرب وصلت جنوب أوروبا وقطعت البحر إلى قبرص وكريت، حيث نجد الثقافة النيوليتية تظهر فجأة في هاتين الجزيرتين دون مقدمات؛ مما يدل على وصول مهاجرين ذوي ثقافة نيوليتية مكتملة. أما الانطلاق نحو إيران والهند من جهة، ومصر، بوابة أفريقيا، من جهة ثانية؛ فقد تأخر عن موجات الانطلاق السريعة الأولى.
22
وهكذا كانت الثقافة النيوليتية تبتعد عن بؤرتها في حلقات يولد بعضها بعضا، طاردة أمامها الثقافة الباليوليتية حتى بلغت شواطئ المحيط الأطلسي الأوروبية، والمحيط الهادي عند أطراف الصين. وهناك توقفت فترة قبل أن تتمكن من العبور نحو العالم الجديد عن طريق بولونيزيا وميلانيزيا.
23
فعند حدود الأطلسي لا نعثر في تلك الأطراف الأوروبية على دلائل لإنتاج الغذاء قبل عام 4000 ق.م. وكذلك الأمر في الصين. أما في العالم الجديد فيبدو أن الزراعة لم تتوطد تماما بعد فترة التجارب الابتدائية قبل عام 2500ق.م.
24
وعندما كانت الثقافة النيوليتية تجاهد لاكتساب العالم، اكتملت الثورة المدينية في سومر، وانطلقت منها أول ما انطلقت نحو الهند ومصر،
25
فكانت التأثيرات السومرية بمثابة المحرض الأول للنهضة المدينية الأولى مع مطلع عهد الأسرات في مصر عام 2800ق.م. بعد ذلك انطلقت الثورة المدينية نحو كريت غربا والهند شرقا في الوقت نفسه تقريبا عام 2600ق.م. ووصلت الصين عام 1600ق.م. وأخيرا عبرت المحيط الهادي نحو العالم الجديد فوصلت أمريكا الوسطى والجنوبية بين القرن السابع والقرن الرابع قبل الميلاد.
26
وعلى ذلك يمكن القول بحق: إن الحضارة الكونية عبارة عن شجرة واحدة ذات أصل واحد وفروع متعددة.
27
الأسطورة الأولى
إن المقدمة التي سقناها حول أصل الحضارة ونظرية البؤرة الواحدة، كانت ضرورية لتحديد منطلق هذه الدراسة . فإذا كانت البؤرة الحضارية قد قدمت الأسس التقنية والمادية الأولى التي قامت عليها الحضارة من زراعة ، وتدجين ماشية، وعمارة، وفن، وكتابة، ونظم مدينية وما إليها، فإنها بلا شك كانت الرقعة التي نضجت فيها تأملات الإنسان البدئية وتصوراته الدينية وأساطيره. ولذا فإن البحث في هذه العوامل غير المادية للحضارة يجب أن يأخذ نقطة انطلاق له من المكان الأول الذي نشأت فيه هذه العوامل، فيدرسها في بيئتها الأولى ليلاحظ فيما بعد كيفية انتشارها خارج هذه البيئة. أي إن نقطة الانطلاق يجب أن تكون من ديانة الثقافة النيوليتية وأساطير زراع القمح الأول، والشكل اللاحق لهذه الديانة والأساطير في المجتمع المديني الأول؛ ومن ثم دراسة تنوعاتها من خلال عبقريات الحضارات الأخرى ونظمها الدينية والأسطورية. إن المنهج المقارن الذي اعتمد حتى وقت قريب دراسة الثقافات البدائية القائمة أو القريبة منا زمنيا، ثم إسقاطها على الأشكال الأولى لديانات الإنسان وأساطيره، لم يعد مبررا الآن بعد أن صارت بين أيدينا الوثائق الدينية للعصر النيوليتي من تماثيل وعادات دفن وهياكل عبادة وما إليها. إلا أن هذا المنهج المقارن سيبقى مفيدا عندما يتعلق الأمر بملء بعض الفجوات الأساسية التي تعجز هذه الوثائق عن ملئها.
إن نظريتنا في هذا الكتاب تقوم على القول بنشوء ديانة مركزية واحدة وأسطورة أولى في العصر النيوليتي، كانت ذات تأثير مباشر على الأشكال الدينية والأسطورية لدى جميع الثقافات اللاحقة، بدءا من المجتمع المديني الأول في وادي الرافدين وانتهاء بالديانات الكبرى للحضارات اللاحقة. فمع انتشار الأسباب المادية للثقافة النيوليتية من بؤرتها الأولى، انتشرت معها الأفكار المرتبطة بحضارة الاستقرار والزراعة، وقام كل شعب من الشعوب التي تبنت الثقافة الجديدة بابتكار تنويعه الخاص انطلاقا من هذه المعطيات الأولى. وهذا ما يفسر لنا بحق تشابه الأساطير الأساسية لدى شعوب العالم القديم، وهو التشابه الذي سنعمل على كشف كثير من جوانبه عبر فصول هذا الكتاب. ورغم أن جهدنا لن ينصب بالدرجة الأولى على إثبات هذه النظرية في مقابل نظرية النشوء المتوازي المعاكسة؛ إلا أن البرهان سيتكامل من تلقاء ذاته تدريجيا ، وذلك من خلال المجرى الرئيسي لدراستنا وهو: الإلهة الأم.
كيف كانت ديانة الإنسان النيوليتي؟ وعلى أي شكل جاءت أساطيره؟ وما فحوى غيبياته فيما وراء المادة؟ لم يترك العصر النيوليتي لنا نصوصا مكتوبة ولكنه ترك لنا رسوما وتماثيل ومدافن ومعابد، حملها كل ما يمكن أن تحمله الرقم المخطوطة، فوصلت إلينا رسائله عبر فنونه وجمالياته وإبداعاته التشكيلية والمعمارية. ولقد صار لدينا الآن ثروة من نتاجاته كافية لفهم حياته الروحية وتصوراته الدينية وطبيعة طقوسه وعباداته. وفي الحقيقة فقد ورثت الثقافة النيوليتية الزراعية المعطيات الثقافية للعصر الباليوليتي وطورتها في اتجاهات تتلاءم وأسلوب الحياة الجديد، وذلك إضافة لإبداعاتها الخاصة التي أنشأتها من العدم.
وفي المجال الديني ورثت عن آخر حلقات العصر الباليوليتي (30000-10000ق.م.) تصورها للقوة الإلهية في شكل وماهية أنثوية، هي الأم الكبرى للكون. غير أن الإنسان النيوليتي قد بنى حول هذا الشكل الإلهي القديم بنية جديدة من التصورات والاعتقادات والأساطير، ذات فحوى ومضامين تتصل بالزراعة التي غدت جوهر حياته وأساس تنظيمه الاجتماعي والسياسي. فالديانة النيوليتية الأولى والحالة هذه هي ديانة زراعية في اعتقادها وطقسها، والأسطورة الأولى هي أسطورة زراعية تتركز حول إلهة واحدة هي سيدة الطبيعة في شكلها الوحشي، وشكلها المدجن الجديد الذي تشارك يد الإنسان في صنعه.
كانت إلهة العصر الباليوليتي ومطلع العصر النيوليتي وحيدة تتربع على عرش الكون، ولكننا مع نضوج الثقافة النيوليتية واكتمال الشكل الاقتصادي الجديد، وتزايد الدور الاجتماعي للرجل بعد أن كان المجتمع حتى ذلك الوقت أموميا في جوهره، نجد إلى جانب الإلهة الكبرى ابنها الذي دعته عصور الكتابة بتموز أو أدونيس، لا ندري بأي اسم دعاها عبادها الأولون، ولكننا نعثر على تماثيلها في كل موقع من مواقع العصر النيوليتي، هذه التماثيل التي ابتدأت طينية صغيرة على شكل دمى،
28
وانتهت حجرية ضخمة تسكن المعابد الكبرى. وعندما تعلم الإنسان الكتابة أخبرنا بأسمائها، وقدمتها لنا فنونه التشكيلية في صور شتى ترمز كل منها إلى خصيصة من خصائصها أو جانب من جوانبها؛ فنراها في هيئة امرأة حبلى، أو أم تضم إلى صدرها طفلها الصغير، أو عارية الصدر تمسك ثدييها بكفيها في وضع عطاء، أو ترفع بيديها باقة من سنابل القمح، أو باسطة ذراعيها في وضع من يستعد لاحتواء العالم، أو ممسكة بزوج من الأفاعي، أو معتلية ظهور الحيوانات الكاسرة.
ولقد لعبت المكانة الاجتماعية للمرأة في تلك العصور، والصورة المرسومة لها في ضمير الجماعة، دورا كبيرا في رسم التصور الديني والغيبي الأول وفي ولادة الأسطورة الأولى. كانت المرأة بالنسبة لإنسان العصر الباليوليتي موضع حب ورغبة، وموضع خوف ورهبة في آن معا؛ فمن جسدها تنشأ حياة جديدة، ومن صدرها ينبع حليب الحياة، ودورتها الشهرية المنتظمة في ثمانية أو تسعة وعشرين يوما تتبع دورة القمر، وخصبها وما تفيض به على أطفالها هو خصب الطبيعة التي تهب العشب معاشا لقطعان الصيد، وثمار الشجر غذاء للبشر. وعندما تعلم الإنسان الزراعة وجد في الأرض صنوا للمرأة؛ فهي تحبل بالبذور وتطلق من رحمها الزرع الجديد. لقد كانت المرأة سرا أصغر مرتبطا بسر أكبر؛ سر كامن خلف كل التبديات في الطبيعة والأكوان؛ فوراء كل ذلك أنثى كونية عظمى، هي منشأ الأشياء ومردها، عنها تصدر الموجودات، وإلى رحمها يئول كل شيء كما صدر.
غير أن الأنظمة الدينية النيوليتية تتزعزع مع بزوغ عصر الكتابة، وظهور المدن الكبيرة ذات التنظيمات المدنية والسياسية والاقتصادية المعقدة، التي عكست واقعها على الحياة الدينية الجديدة. فمع انتقال السلطة في المجتمع إلى الرجل، وتكوين دولة المدينة ذات النظام المركزي، والهرم السلطوي والطبقي التسلسلي الصارم، الذي قام على أنقاض النظام الزراعي البسيط، يظهر الآلهة الذكور ويتشكل مجمع الآلهة برئاسة الإله الأكبر، ذلك المجتمع الذي يعكس تشعب الاختصاصات وتقسيم العمل في المجتمع الجديد وتمركز السلطة في يد الملك. هنا تجد الإلهة الكبرى للعصر النيوليتي نفسها وقد غدت إحدى آلهة المجمع، بعد أن كانت الإلهة الواحدة لا يشاركها في السطات سوى ابنها، الذي نشأ عنها، وكان مقدمة لظهور بقية الآلهة الذكور. غير أن هذا التحول في مكانة الأم الكبرى، لم يتم إلا على النطاق الرسمي؛ بينما بقيت مكانتها القديمة على حالها في ضمير الناس عامة ممن لم يتوجهوا إلا إليها عند الخوف واليأس وأزمنة الشدة.
ومن ناحية أخرى فإن الكتابة التي ابتكرها الإنسان في مطلع العصر المديني، وراح يدون بها أساطيره الموروثة عن أسلافه البسطاء، قد ساهمت في تظليل صورة الأم الأولى، وإسدال حجب سميكة أمام وجهها. فالكهنة المتفرغون ممن ساعد الرفاه الاقتصادي في المجتمع الجديد على تفرغهم كلية للنشاط الديني، والذين كانوا أول من استعمل الكتابة وحفظ أسرارها المقدسة، قد راحوا يدونون أساطير الأمس بلغة اليوم الشعرية، التي ابتعدت عن أصلها الطبيعي المباشر متجهة أكثر فأكثر نحو المجاز والرمز، وانتشت نفوسهم بهذه الأداة الجديدة، فأخذوا يطلقون على الأم الكبرى أسماء متعددة يشير كل منها لوظيفة من وظائفها أو خصيصة من خصائصها. ثم استقلت الأسماء فصارت ذوات منفصلة بتأثير التوجه الديني الجديد، ولكن دون أن يفقد الإنسان إحساسه بالوحدة الصميمية لهذه الذوات وتطابقها، وبكونها تنبع عن وتصب في ذات واحدة؛ فالفكر الأسطوري لا يهمه أن يعبر عن الحقيقة بطريقة مباشرة كما هو شأن الفكر الفلسفي والعلمي اللاحقين، بل إنه يسعى إلى التعبير بلغة المجاز والخيال والرمز، وإيصال رسالته إلى القلوب والمشاعر لا إلى العقول والأذهان. فالأسطورة، والحالة هذه، ليست عين شكلها وما ترويه من قصص وأحداث، بل هي كالحلم الذي يبدو غامضا متنافر الوقائع؛ ولكنه غني بكل معنى ودلالة. إن منطقها ليس أن: «آ» هو «آ» وليس «ب» كما هو الحال عند أرسطو، بل منطق أن: «آ» هو عين «ب» إذا كان الاثنان يشفان عن حقيقة واحدة، ويظهران كتبد لمبدأ واحد. إن آخر مأرب للأسطورة أن تؤخذ بحرفيتها وشكلها ونصها؛ لأنها إشارة وإيماءة، لا دوغما جامدة.
من الأسماء التي استقرت فصارت ذواتا، نجد في سومر الإلهة «نمو» الإلهة البدئية والمياه الأولى، و«إنانا» إلهة الطبيعة والخصب والدورة الزراعية. وفي بابل نجد «ننخرساج» الأم - الأرض، وعشتار المقابلة لإنانا. وفي كنعان «عناة» و«عشتارت»، وفي مصر «نوت» و«إيزيس» و«هاتور» و«سيخمت»، وعند الإغريق «ديمتر» و«جايا» و«رحيا» و«أرتميس» و «أفروديت». وفي فرجيا بآسيا الصغرى «سيبيل». وفي روما «سيريس» و«ديانا» و«فينوس». وفي جزيرة العرب «اللات » و«العزى» و«مناة»، وفي الهند «كالي»، وفي حضارة السلت الأوروبية «دانو» و«بريجيت». أسماء متنوعة لإلهة كانت واحدة قولا وفعلا في العصر النيوليتي، فصارت متعددة قولا وواحدة فعلا في عصور الكتابة. وإني لأدعوها في هذا الكتاب باسمها البابلي «عشتار»، عيش الأرض.
قد يعجب من تعود قراءة الكتب الأكاديمية في الأسطورة، مما نقول به من تطابق بين إلهات عرفهن كلا على حدة؛ إلا أن أحد أهدافنا الرئيسية في هذا الكتاب هو البحث عن التطابق في التباعد وعن الوحدة في الشتات. ولسوف يتفتح اللغز تدريجيا وبشكل تلقائي عبر الفصول القادمة. وها هي «إيزيس» تقدم لنا منذ البداية بعض المعونة؛ إذ تقول عن نفسها في أحد النصوص من الفترة الرومانية: «أنا أم الأشياء جميعا، سيدة العناصر وبادئة العوالم، حاكمة ما في السماوات من فوق وما في الجحيم من تحت، مركز القوة الربانية. أنا الحقيقة الكامنة وراء الآلهة والإلهات، عندي يجتمعون في شكل واحد وهيئة واحدة، بيدي أقدار أجرام السماء وريح البحر وصمت الجحيم، يعبدني العالم بطرق شتى وتحت أسماء شتى، أما اسمي الحقيقي فهو «إيزيس»، به توجهوا إلي بالدعاء».
29
لا يقتصر لغز عشتار على تعدد الأسماء وتنوع التجليات، بل يتعدى ذلك إلى كل ما يتعلق بها من خصائص ووظائف وطقوس وأساطير وتراتيل. ولعل في لغز عشتار البابلية نموذجا لألغاز شبيهاتها عشتارت الثقافات الأخرى؛ فكل سر من أسرارها يفضي إلى سر آخر، ولا نكاد نمسك بها في صورة حتى تنحل إلى أخرى، أو نقبض عليها في هيئة حتى تنقلب إلى نقيضها. هي ربة الحياة وخصب الطبيعة، وهي الهلاك والدمار وربة الحرب. في الليل عاشقة وفي النهار مقاتلة ترعى المواقع وتغشى المذابح. هي الأم الحانية، راعية الحوامل والمرضعات الحاضرة أبدا قرب سرير الميلاد، وهي البوابة المظلمة الفاغرة لالتهام جثث البشر. هي ربة الجنس وسرير اللذة، وهي من يسلب الرجال ذكورتهم ويخصى تحت قدميها الأبطال. هي القمر المنير ، وهي كوكب الزهرة. هي النور ورمزها الشعلة الأبدية، وهي العتم والظلمة وما يخفى. هي القاتلة، وهي الشافية . هي العذراء الأبدية، وهي الأم المنجية. هي البتول، وهي البغي المقدسة. هي ربة الحكمة، وهي سيدة الجنون. هي الإشراق بالعرفان، وهي غيبوبة الحواس وسباتها. التقت عندها المتناقضات وتصالحت المتنافرات.
إن بحثنا في لغز عشتار هو في الوقت ذاته بحث عن الأسطورة الأولى، والديانة المركزية الأولى والطقوس الأولى. إنه بحث عن أصول الديانات البشرية ومردها، عن مبدأ الحياة الروحية والغايات التي تسعى إليها. عدتنا في هذه المغامرة: أداة ... وخيال. أما الأداة فهي ما تركه لنا الأقدمون من أساطير ونصوص طقسية وصلوات، وما كشفت عنه الحفريات من رسوم ونقوش ومنحوتات. وأما الخيال، فليس خيالا جامحا فوق الحد والقيد، بل هو الخيال اللازم لأي معرفة ومغامرة فكر. سيساعدنا الخيال على تخطي صرامة الفكر الحديث، الذي يحاكم تركه الماضي بأطر العصر ومنطقه وعلومه الوضعية، فنلبس لبوس الإنسان القديم وننظر إلى العالم بعينه، ونفكر بطريقته ومن خلال منطق أسطورته. سننظر إلى الأسطورة من داخلها، ونهبط إلى مستوياتها السرانية الباطنية منحدرين من شكلها الخارجي إلى أعماقها الحقيقية، مما يظن فكرنا المنطقي العلمي الفلسفي أنها تقول إلى ما تريد فعلا أن تقول.
ومن ناحية أخرى فلن يكون منهجنا تاريخيا يعتمد تسلسل المراحل وتتابعها، ولا إثنولوجيا يعتمد دراسة معتقدات كل شعب على حدة ومقارنتها، من ثم، بمعتقدات الشعوب الأخرى؛ بل سنضع أنفسنا في قلب اللغز متتبعين طريقنا في كل الاتجاهات زمنيا وجغرافيا وإثنيا لنصل إلى أطرافه. وستقدم لنا في كثير من الأحيان أعمال الإنسان الفنية التشكيلية معونة أكبر مما تقدمه لنا نصوصه المكتوبة. فالكلمة مخادعة مخاتلة، تزوغ من معنى لتلبسها معان، أما العمل التشكيلي فشاهد صامت، أسهل قراءة في رأينا وأكثر قدرة على الإيصال. غير أن الأداتين ستتعاونان تعاونا فعالا في مسار البحث، فيلقي العمل الفني ضوءا على النص، ويفك لنا النص رموز العمل الفني. إن عملا فنيا من العصر النيوليتي سيلقي ضوءا على آخر من مطلع عصر الكتابة، أو على نص من فترة الحضارات الكبرى. وبالمقابل فإن نصا مكتوبا سيعيننا على فهم عمل فني تركه صاحبه دون رسالة مكتوبة. سوف تتبادل عشتار المعابد الكبرى والتماثيل الرخامية الرائعة أسرارها مع عشتار المزارع الأول الذي صنع لها الدمى بطين حقله معجونا بعرق بدنه، وستتعاون الاثنتان على كشف كثير من جوانب الديانات الكبرى اللاحقة، التي يربطها بأول طقس قام به إنسان المستوطنات الزراعية في سوريا، وهو يزرع سنبلته الأولى، خيط مكين.
عشتار سيدة الأسرار، من يجرؤ على هتك سرها حلت عليه لعنتها المقيمة. تقول عن نفسها بلسان الأم المصرية الكبرى: «أنا ما كان، وما هو كائن، وما سيكون ... وما من إنسان بقادر على رفع برقعي»،
30
ومن حاول رفع الستر عنها لقي مصير الشاب الذي أزاح البرقع عن تمثال لإيزيس في أحد هياكلها؛ فأصابه الخبال لما رأى، وانعقد لسانه بقية حياته. وكذلك مصير الشاب الصياد الوسيم «أكيتون» الذي اقتحم على أرتميس وهي تستحم عارية في مياه البحيرة العالية عند منبع النهر، فمسخته الإلهة أيلا طاردته كلابه فمزقته إربا إربا. هذه القصص لا تشير إلى احتجاب عشتار بجسدها؛ فهي العارية أبدا، التي صور الإنسان جسدها منذ أن تعلم تشكيل المادة بيديه، ولكنها تشير إلى لغزها الكبير وحيرة الألباب في أمرها. ومع ذلك فإننا سوف نبدأ برفع براقعها واحدا تلو آخر، لنكشف عن وجهها الأخاذ؛ وجه الأنثى الخالدة الكامن في ضمير كل منا. سوف أنطلق من المشهد البانورامي لأسطورة الشرق القديم وأساطير الحضارات الكبرى، ثم أرتقي الأحراش الجبلية في طرق ضيقة وعرة نحو البحيرة الصافية حيث تستحم عشتار، وعندما أصل لن يثنيني عن الاقتحام لعناتها المقيمة؛ لأنني لا أكشف عن وجهها كشف هتك بل كشف عشق.
الفصل الثاني
عشتار الأم الكبرى
المجتمع الأمومي - فردوس الأرض
كان الاعتقاد سائدا حتى أواسط القرن التاسع عشر، أن العائلة بشكلها الأبوي القائم اليوم، قديمة قدم المجتمع الإنساني، وأن المجتمعات الأولى قد تشكلت في بداياتها نتيجة لتجمع عدد من هذه العائلات وتزايدها تدريجيا. إلا أن هذه الفرضية قد تهاوت أمام النقد الذي وجهه إليها عدد من رواد الأنثروبولوجيا والعلوم الإنسانية الأخرى، ممن قدموا في دراستهم الأدلة الكافية على وجود شكل أقدم من أشكال العائلة سبق شكلها الأبوي الحديث نسبيا. وهذا الشكل لا يقوم على قيم الذكورة وسلطة الأب، بل على قيم الأنوثة ومكانة الأم.
1
إن التجمع الإنساني الأول لم يؤسس بقيادة الرجل المحارب الصياد، بل تبلور تلقائيا حول الأم التي شدت عواطفها وحدبها ورعايتها الأبناء حولها في أول وحدة إنسانية متكاتفة هي العائلة الأمومية، خلية المجتمع الأمومي الأكبر. ذلك أن عاطفة الأم نحو أولادها وعاطفة الأولاد نحو أمهم، هي العاطفة الأصلية الوحيدة، وكل ما عداها يأتي بالاكتساب والتعلم، لا يستثنى من ذلك عاطفة الأب نحو أبنائه وعاطفة الأبناء نحو أبيهم، التي تأتي بالصقل الاجتماعي ومعرفة الواجب الأخلاقي. لقد عرفت المرأة، قبل أن يتعلم الرجل، كيف توسع دائرة ذاتها بالحب لتشمل ذاتا أخرى ومخلوقا آخر، وكيف توجه كل ما لديها من هبات الطبيعة نحو حفظ تلك الذات الأخرى وتنميتها كنفسها، وكيف تفتح هذه الدائرة بعد ذلك لتشمل أولاد أولادها وأولاد النساء الأخريات؛ لأن كل رحم ينجب إخوة وأخوات للمولودين من رحم آخر. بالولادة تزدوج المرأة جسديا ونفسيا، وتوسع آفاق كيانها الطبيعي والروحي؛ أما الرجل فبالمولود الجديد يشد أزره ويدعم وضعه الاجتماعي، ويحافظ على ممتلكه في مقابل ممتلك الآخرين، ويتمرأى أمام ذاته. فالمبدأ الأمومي يجمع ويوحد، والمبدأ الأبوي يفرق ويضع الحواجز والحدود. المبدأ الأمومي مشاعة وعدالة ومساواة، والمبدأ الأبوي تملك وتسلط وتمييز. الأمومية توحد مع الطبيعة وخضوع لقوانينها، والأبوية خروج عن مسارها وخضوع لقوانين مصنوعة.
2
في المجتمع الأمومي، أسلم الرجل قياده للمرأة، لا لتفوقها الجسدي؛ بل لتقدير أصيل وعميق لخصائصها الإنسانية، وقواها الروحية، وقدراتها الخالقة، وإيقاع جسدها المتوافق مع إيقاع الطبيعة. كانت بشفافية روحها أقدر على التوسط بين عالم البشر وعالم الآلهة، فكانت الكاهنة الأولى والعرافة والساحرة الأولى. بهذه الأسلحة غير الفتاكة، مضى الجنس الأضعف قوة بدنية فتبوأ عرش الجماعة دينيا وسياسيا واجتماعيا، وأمام هذه الأسلحة أسلمت الجماعة قيادتها للأمهات.
3
ولقد عزز الدور الاقتصادي للمرأة مكانتها هذه؛ فلقد كانت المنتج الأول في الجماعة، لكونها المسئولة الأولى عن حياة الأطفال وتأمين سبل العيش لهم. كانت المرأة مسئولة عن تحضير جلود الحيوانات وتحويلها إلى ملابس ومفارش وأغطية، وكانت النساجة الأولى والخياطة، وأول من صنع الأواني الفخارية. وبسبب قضائها وقتا طويلا في البحث عن الجذور والأعشاب الصالحة للأكل تعلمت خصائص الأعشاب السحرية في شفاء الأمراض؛ فكانت الطبيبة الأولى. وكانت من يبني البيت ويصنع أثاثه، وكانت تاجرة تقايض بمنتجاتها الآخرين.
4
ومن وجود شعلة النار المقدسة في معابد الحضارات المتأخرة، وقيام عذراوات المعبد بحراستها والإبقاء عليها مشتعلة، نستطيع الاستنتاج بأن شعلة النار الأولى قد أوقدتها المرأة وكانت أول حارس عليها حافظ لأسرارها. وأخيرا توجت المرأة دورها الاقتصادي الكبير باكتشاف الزراعة، ونقل الإنسان من مجتمع الصيد والالتقاط إلى مجتمع إنتاج الغذاء؛
5
بينما حافظ الرجل طيلة هذه المرحلة على دوره التقليدي في الصيد والتنقل بحثا عن الطرائد الكبيرة.
في ذلك المجتمع القديم المتمركز حول الأم، فاضت طبائع المرأة وصفاتها لتصبغ حياة الجماعة وقيمها وعلاقاتها ونظمها وجمالياتها. فحب المرأة لأطفالها هو العاطفة التي ميزت علاقاتها بالمحيط الأوسع، وهو النموذج الأساسي للعلاقات السائدة بين أفراد ينظرون لبعضهم على أنهم إخوة في أسرة كبيرة تتسع لتشمل المجتمع الأمومي، صغيرا كان أم كبيرا. ومعاملة المرأة لأطفالها دون تمييز قائم على خصائص معينة أو قدرات وقابليات ومنجزات، هي التي أسست لروح العدالة والمساواة الاجتماعية القائمة في الجماعة الأمومية. وابتعاد سيكولوجية المرأة عن كل ميل نحو التسلط والاستبداد، هو الذي أعطى هواء الحرية الذي تنفسته الجماعات الأمومية طيلة عهدها. ونفورها من العنف الجسدي إلا عند الحاجة الحقيقية إليه، قد أشاع السلام بين أفراد الجماعة ذاتها وبين الجماعات الأمومية الأخرى. وفيضها الطبيعي على من حولها دون حساب، كان أساس المشاعة البدائية وعدالة توزيع الثروة ضمنها. مناخ أقرب إلى مناخ فردوس فقده الإنسان بحلول مجتمع الذكر الذي ضيع السلام والدعة، ربما إلى الأبد.
6
ولقد جاءت بينات البحث الأركيولوجي الحديث لتثبت بعض سمات المجتمعات الأمومية القديمة؛ فالمستوطنات المستقرة الأولى في سوريا منذ الألف التاسع إلى الألف السادس قبل الميلاد، كانت تهجر بعد فترات طويلة من سكناها دون بينة على وجود تدمير أو حرائق أو حروب. ولا يشذ عن ذلك مدينة أريحا الشهيرة بسورها الكبير،
7
فرغم تأكيد البعض على الغاية الدفاعية لهذا السور، فإن البينة الموضوعية لم تؤكد ذلك، خصوصا وأن المدينة لم تكشف بكاملها بعد، ولم تظهر طبيعة الأجزاء المدفونة الباقية من ذلك السور الذي ربما كان مجرد تقنية هندسية لدعم المنازل الملاصقة له. يضاف إلى ذلك أن مستوطنات تلك الفترة لم تعرف الأسوار قط.
8
غير أنه يجب ألا يتبادر إلى الذهن أن دور الرجل في الجماعة الأمومية كان دور التابع؛ ذلك أن الرجل قد بوأ المرأة مكانتها احتراما وتقديرا لا خنوعا، ورجال العصر الأمومي كانوا أكثر عزة وأنفة وفروسية من رجال العصر البطريركي؛ فقد نقل إلينا مؤرخو اليونان ممن احتكوا بأقوام كانت تعيش آخر عصور الأمومية، أو سمعوا بأخبارها، أن رجال تلك المجتمعات كانوا من أفضل فرسان عصرهم على الإطلاق، وكانت بطولتهم وتضحيتهم في المعارك مضرب الأمثال.
9
ثم يأتي أرسطو في كتابه «السياسة» فيؤكد هذه الحقيقة ويجعل منها ظاهرة شمولية عندما يقول إن أغلب الشعوب العسكرية الميالة إلى القتال هي شعوب منقادة إلى النساء. ذلك أن المرأة رغم طبيعتها المسالمة، تسلك سلوك اللبوة الكاسرة عندما يتعرض أشبالها للخطر.
مر المجتمع الأمومي عبر تاريخه الطويل بمراحل متعددة، انتهت بالانقلاب الكبير الذي قام به الرجل متسلما دفة القيادة من المرأة ومؤسسا للمجتمع الذكري البطريركي.
ونستطيع تتبع وفهم تلك المراحل، بتتبع أشكال العائلة الأمومية ونمط العلاقة الجنسية في كل شكل. ففي البدايات السحيقة للتجمعات الإنسانية، كانت العلاقات الجنسية حرة تماما دون ضابط أو قانون، حيث كل امرأة لكل رجل، وكل رجل لكل امرأة. وهذا الطور موغل في القدم لدرجة يستحيل معها تقديم القرائن المباشرة على وجوده؛ إلا أن إثباته يتأتى من أطوار لاحقة له منبثقة منه، أطوار حل فيها نوع من التنظيم المتطور. والتنظيم عادة لا يأتي إلا لضبط حالة سابقة من الفوضى وانعدام النظام. ولعل نظام عائلة قرابة الدم هو الشكل الأول الذي ورث وضع الفوضى البدئية . فوفق هذا النظام تنقسم الجماعات الزواجية حسب الأجيال، فنجد جميع الجدود والجدات في نطاق القبيلة أزواجا فيما بينهم، وكذلك الأمر فيما يتعلق بأولادهم؛ أي الآباء والأمهات؛ بينما يشكل أولاد هؤلاء الأخيرين الحلقة الثالثة في حلقة الجماعات الزواجية. وهكذا نجد أن هذا الشكل قد حرم العلاقة الجنسية بين الآباء والأبناء، من دون الإخوة والأخوات. ثم جاءت الخطوة التالية لتحرم العلاقة الجنسية بين الإخوة والأخوات. وهذا ما أدى إلى تفتيت المشاعات القديمة وظهور عائلات زواجية أضيق، حيث كانت مجموعة من الإخوة من أم واحدة تدخل في علاقة زواج مشترك مع عدد معين من النساء لا يوجد بينهن أخوات لهم، والعكس صحيح. عن هذا الشكل الثالث للعائلة القديمة نشأت أشكال فرعية وتنويعات متعددة، وكلها تبيح العلاقة الجنسية بين شريحتين واسعتين من دون الإخوة والأخوات المباشرين، أو عبر خطوط القرابة المنحرفة. وبما أنه في كل هذه الجماعات الزواجية لا يمكن معرفة والد الطفل؛ فقد كان الأولاد ينتسبون لأمهاتهم ويعرف كل واحد بأمه لا بأبيه. وهذا ما أطلق عليه الباحثون اسم «حق الأم»، الذي يشمل انتساب الولد لأمه وما ينشأ عن ذلك من علاقات وحقوق اجتماعية واقتصادية مختلفة. أما الشكل الرابع من أشكال العائلة؛ فهو العائلة الثنائية التي بدأت بالتكون تدريجيا داخل الشكل السابق، حيث كان لكل رجل زوجة رئيسية داخل مجموعة الزوجات، يساكنها فترة تطول وتقصر، وكان بالنسبة إليها الزوج الأساسي في عداد أزواج كثيرين. وقد تحولت هذه المساكنة الطويلة إلى زواج ثنائي وعائلة صغيرة مؤلفة من زوجين وأبنائهما المباشرين. في هذا الزواج الثنائي حافظت المرأة على وضعها المتميز السابق، فكانت حرة في فصل الزواج متى شاءت، فيعود الأولاد إليها لا إلى الزوج الذي يخرج من البيت صفر اليدين. كما بقي الأولاد ينتسبون إلى أمهم وعشيرتهم، لا إلى أبيهم الذي كان ينظر إليه دوما كغريب. وبناء على «حق الأم» لم يكن الأبناء يرثون ثروة آبائهم؛ بل يرثون عن أمهاتهم على قدم المساواة مع بقية أقربائهم بالدم، أما تركة الأب وممتلكاته فكانت تذهب إلى إخوته وأقربائه بالدم. إلا أنه مع تزايد الثروات بتأثير حياة الاستقرار والزراعة، كان مركز الزوج الاقتصادي يتدعم باستمرار على حساب مركز الزوجة، وثرواته وممتلكاته تتزايد، الأمر الذي أدى بجماعة الذكور إلى التفكير جديا بقلب نظام الوراثة القديم لصالح أولادهم. وقد نجحوا في ذلك خلال المرحلة الأخيرة السابقة لظهور المدن الأولى، حيث أفلح الرجل أخيرا في القضاء على «حق الأم» وإحلال «حق الأب»، وظهرت العائلة الأحادية التي تقوم على سيادة الرجل مع الرغبة الصريحة في ولادة أولاد تكون أبوتهم ثابتة لا جدال فيها من أجل تمليكهم وتوريثهم. فكان إسقاط حق الأم هزيمة تاريخية عالمية للجنس النسائي، ابتدأ مع تاريخ استذلال المرأة واستعبادها.
10
إلا أن الجنس النسائي لم يهزم دون مقاومة. ورغم أن التاريخ لم يحفظ لنا آثار ونتائج الصدام المباشر بين الجنسين، والذي حصل ولا شك في زمن ما عند أعتاب التاريخ المكتوب، إلا أن الأسطورة تستطيع تزويدنا بكثير من المعلومات في هذا الصدد. فالأسطورة في بعض جوانبها ذاكرة الإنسانية، فيها تحفظ الأحداث طرية غضة بشكل رمزي لا يتطلب فهمه سوى الإمساك بمفاتيح التفسير. من الأساطير المتعددة التي تشير إلى صراع الجنسين، سنأتي على ذكر أكثرها شهرة، وهي الأسطورة الإغريقية عن «النساء الأمازونيات». فالأمازونيات وفق الرواية الإغريقية كن قبيلة من النساء المحاربات، أتين من شواطئ البحر الأسود وسكن عند تخوم بلاد الإغريق، فأسسن عددا من المدن تحكمها ملكة، وتتعبد للإلهة «أرتميس». وبسبب عداوتهن للرجال كان مجتمع الأمازونيات وقفا على النساء وحدهن، اللواتي إذا أردن الإنجاب أتين بلادا مجاورة فضاجعن رجالها وعدن من حيث أتين، حتى إذا وضعن مواليدهن قتلن الذكور في المهد وأبقين على الإناث، اللواتي تتم تربيتهن منذ الصغر على فنون الحرب وكره الرجال. ويقال إنهن كن يقطعن النهد الأيمن في صدورهن ليستطعن استعمال القوس بسهولة. وتنسب الأساطير إلى هؤلاء بناء عدد من المدن بعيدا عن موطنهن الأصلي؛ منها مدينة إفسوس في آسيا الصغرى ، وبافوس في قبرص. كما يدعي أكثر من بطل أسطوري إغريقي قتالهن منفردا والقضاء على ملكتهن. من هؤلاء هرقل وثيسيوس.
11
إن هذه الأسطورة لتدل على أن المرأة في إحساسها بالوضع المهين الذي أخذت بالانحدار إليه على يد الرجل قد فضلت، في لحظة ما من التاريخ، فصم المجتمع والاستقلال بذاتها؛ سعيا وراء حياة أسمى وأنقى وأكثر حرية وكرامة، وراحت تدافع بضراوة عن مكتسباتها، متحولة ولو بشكل مؤقت عن طبيعتها المسالمة وغريزتها الأمومية، في سبيل نقاء القيم الأنثوية الأصلية ونبالتها. وإن شيوع هذه الأسطورة خارج الثقافة الإغريقية، ووجود شبيهاتها لدى حضارات أخرى، ليدل على حدوث ذلك الصدام في المجتمعات البشرية في زمن ما من تاريخها، وعلى رد الفعل الطبيعي لدى المرأة تجاه المحاولات الأولى لاستعبادها.
12
إن كثيرا من أساطير الشعوب تحتوي عناصر تاريخية واضحة تشير إلى الانقلاب الذكري الكبير، وإحلال حق الأب محل حق الأم. ولسوف نتعرض إلى الكثير منها خلال الفصول القادمة، ولذا سأكتفي هنا بذكر الأسطورة الإغريقية حول أصل مدينة أثينا. ففي صباح أحد الأيام، وقبل أن يطلق على مدينة أثينا اسمها المعروف، أفاق أهل المدينة على حادث عجيب؛ فمن باطن الأرض نبتت في ليلة واحدة شجرة زيتون ضخمة، لم يروا لها شبيها من قبل، وعلى مقربة منها انبثق من جوف الأرض نبع ماء غزير لم يكن هناك البارحة، وقد أدرك الناس أن وراء ذلك سرا إلهيا ورسالة تأتي من الغيب. فأرسل الملك إلى معبد دلفي يستطلع عرافته الأمر ويطلب منها تفسيرا. فجاءه في الجواب أن شجرة الزيتون هي الإلهة أثينا، وأن نبعة الماء هي الإله بوسيدون، وأن الإلهين يخيران أهل المدينة في أي من الاسمين يطلقون على مدينتهم. عند ذلك جمع الملك كل السكان واستفتاهم في الأمر، فصوتت النساء إلى جانب أثينا، وصوت الرجال إلى جانب بوسيدون. ولما كان عدد النساء أكبر من عدد الرجال كانت الغلبة لهن، وتم إطلاق اسم الإلهة أثينا على المدينة. وهنا غضب بوسيدون فأرسل مياهه المالحة العاتية فغطت أراضي أثينا وتراجعت تاركة أملاحها التي حالت دون زراعة التربة وجني المحصول. ولتهدئة خواطر الإله الغاضب، فرض رجال المدينة على نسائها ثلاث عقوبات: أولا لن يتمتعن بحق التصويت العام بعد اليوم. وثانيا لن ينتسب الأولاد إلى أمهاتهم بعد اليوم بل لآبائهم. وثالثا لن تحمل النساء لقب الأثينيات، ويبقى ذلك وقفا على الرجال.
13
إن أي نص تاريخي موثق صحيح الإسناد وفق المنهج التاريخي الصارم، لا يمكن أن يحمل من صدق الخبر ما تحمله هذه الأسطورة التي تؤرخ فعلا لانتزاع حقوق المرأة المدنية والسياسية والاجتماعية عند جذور التاريخ الإغريقي.
إلا أن المجتمع الأمومي لم يندثر تماما بحلول المجتمع الأبوي، بل استمر كثير من قيمه سائدا في بعض المجتمعات الجديدة إلى فترة متأخرة من تاريخها. ففي المجتمع المصري بقيت لمسات الثقافة الأمومية واضحة عليه طيلة تاريخه الطويل الذي استمر قرابة أربعة آلاف سنة. كان كرسي الملك ينتقل عبر سلسلة النسب الأمومي لا النسب الأبوي، وكل أميرة هي وارثة طبيعية للعرش. لذا كان على الفرعون الجديد أن يتزوج من وارثة العرش لتثبيت حقه فيه. والشيء نفسه فيما يتعلق بوراثة الممتلكات المادية لدى جميع طبقات الشعب، فكانت هذه الممتلكات تنتقل إلى البنات لا إلى الأبناء. وهذا ما رسخ زواج الإخوة من أجل الحفاظ على العرش ضمن الأسرة المالكة، والحفاظ على ممتلكات العائلة الواحدة من الخروج إلى أيدي الغرباء. أما دور المرأة ومكانتها في العائلة والمجتمع، فلم تتغير كثيرا عما كانت في العصور الأمومية، وتوضح عقود الزواج التي وصلت إلينا من فترات مختلفة من تاريخ الثقافة المصرية وضع المرأة الحقيقي. ففي أحد صكوك الزواج الذي يعود تاريخه إلى الألف الثالث قبل الميلاد، يقول الزوج موجها كلامه إلى سيدة المستقبل: «منذ اليوم أقر لك بجميع الحقوق الزوجية، ومنذ اليوم لن أفوه بكلمة تعارض هذه الحقوق. لن أقول أمام الناس بأنك زوجة لي؛ بل سأقول بأنني زوج لك. منذ اليوم لن أعارض لك رأيا، وتكونين حرة في غدوك ورواحك دون ممانعة مني. كل ممتلكات بيتك لك وحدك، وكل ما يأتيني أضعه بين يديك ...» وبعد ألفي عام من هذا الصك، نجد المرأة في صك آخر يرجع تاريخه إلى الفترة البطلمية تقول لزوج المستقبل : «إذا تركتك في المستقبل لكرهي لك أو لمحبتي رجلا آخر، فإنني أتعهد أن أدفع لك مكيالين ونصفا من الفضة، وأعيد إليك هدايا الزواج.» في هذه العائلة القائمة على سيادة المرأة كان الأطفال في مصر ينتسبون لأمهاتهم، ويعودون إليها في حال الانفصال؛ لذلك لم يكن مفهوم الطفل غير الشرعي معروفا، ولم يكن هناك فرق بين الطفل المولود ضمن مؤسسة الزواج، وبين الطفل المولود خارجها.
14
وفي جزيرة كريت الموطن التقليدي للثقافة الأمومية، استمرت القيم العشتارية محركا أساسيا للمجتمع، منذ أن هبط إليها المهاجرون الأول قادمين من المراكز النيوليتية في الشرق الأدنى خلال الألف الخامس، وحتى انهيارها أواسط الألف الثاني قبل الميلاد. فالأعمال التشكيلية التي وصلت إلينا من فترة ازدهار الحضارة الكريتية، كانت في غالبيتها تتخذ المرأة موضوعا رئيسيا لها. فبالإضافة إلى رسوم وتماثيل الأم الكبرى التي لم يعبد الكريتيون سواها طيلة تاريخهم، كانت الأعمال التشكيلية الأخرى تصور المرأة في أبهى وضع وحلة؛ فهي إما سيدة قصر، أو أميرة، أو راكبة عربات منطلقة تسوقها نسوة لا رجال. أما الأعمال التي كان الرجال موضوعا لها أو جزءا من موضوعها، فكانت تصور أولئك الرجال كجنود أو موسيقيين أو حصادين، أو سقاة وحملة أكواب، ولم يتم العثور على أعمال تصور الرجال كحكام ومتنفذين وما إلى ذلك من المهن العالية. وفي ذلك دلالة واضحة على ما تمتعت به المرأة من مكانة في ذلك المجتمع الذي استمر فيه «حق الأم» مؤثرا شأن المجتمع المصري. فحبل النسب هنا أيضا كان مرتبطا بالأم لا بالأب، وكانت المرأة مساوية للرجل في جميع الحقوق والواجبات التي ينص عليها عقد الزواج، فإذا انفصم الزواج لرغبة أحد الطرفين عاد للمرأة أولادها وأموالها، ونشأ الأولاد تحت رعايتها وحماية أخيها الذي يلعب، منذ البداية وقبل انفصام الزواج دورا أساسيا في تربيتهم والاهتمام بهم؛ لأن صلة الأخ بأولاد أخته في المجتمع الأمومي لا تقل، إن لم تزد، على صلة الأب .
15
ويقدم لنا المجتمع الإسبارطي في مطلع عهده صورة عن استمرار «حق الأم» في فجر الحضارة اليونانية. فالمرأة الإسبارطية لم تكن مطالبة بالحفاظ على عذريتها قبل الزواج، وكان الأطفال المولودون خارج مؤسسة الزواج يدعون بأطفال «الميلاد العذري»، ويتمتعون بالوضعية الاجتماعية نفسها التي يتمتع بها الأطفال الآخرون. وكانت نساء إسبارطة في مطلع عهدها كما يروي «بلوتارخ»، يعلون على رجالها في كل المجالات العامة والخاصة. أما في المستوطنات الإغريقية التي استقر بها الإغريق خارج موطنهم في وقت مبكر، فإن حق الأم هناك لم يتأثر كثيرا بالتبدلات الحاصلة في الوطن الأصلي، واستمر الأولاد ينتسبون لأمهاتهم، وبقيت المرأة حرة في حياتها الجنسية وفي اختيار زوجها وتركه أنى شاءت.
16
وفي بابل وفينيقيا لم يستطع الرجل وحتى فترات متأخرة من تاريخ المجتمع الذكري هنا، أن يضع تحت وصايته حياة المرأة الجنسية قبل الزواج؛ فكانت بكارة المرأة ملكا للإلهة عشتار، لا لزوجها المقبل. وكانت تهب عذريتها في المعبد، حيث تمارس الجنس المقدس تحت رعاية الإلهة قبل أن تلتزم حياة الزوجية.
17
وفي أوروبا عند الفتح الروماني الذي ساعد على ترسيخ القيم الذكرية، كانت آثار القيم الأمومية باقية هناك. فعند السلت الذين ازدهرت حضارتهم في أيرلندا وبعض أجزاء الجزر البريطانية والبر الأوروبي، كانت المرأة سيدة نفسها تختار زوجها وتترك مؤسسة الزواج أنى شاءت، وكذلك الأمر في بلاد الغال، فإذا أرادت المرأة الغالية الزواج دعت جميع الشبان الراغبين فيها إلى مأدبة عامرة، فإذا أكل الجميع وشربوا قامت بتقديم كأس من الشراب لمن وقع عليه اختيارها.
18
ليست هذه الأمثلة إلا غيضا من فيض. فعند جذور الحضارات جميعا، من اليابان شرقا، وحتى مجتمعات الهنود الحمر غربا، عثر الباحثون على الأساسات الأمومية التي قامت عليها المجتمعات الذكرية الحديثة. وفي الحقيقة فإن فهم الثقافة الأمومية بقيمها ومبادئها وحق الأم السائد فيها، هو نقطة الانطلاق لفهم الإلهة الأم التي كانت بالنسبة لإنسان تلك العصور الإلهة الأولى وربما الوحيدة.
الأم الكبرى
كانت تماثيل عشتار أول عمل فني تشكيلي صاغه الإنسان على شاكلته، مجسدة أول معبوداته. فمنذ أن اعتدل جسد الإنسان منسلخا عن شكله النياندارتالي ذي القامة المنحنية، كانت عشتار - الأم الكبرى له إلها، وطفق يصنع لها تماثيل انتشرت من أقاصي سيبيريا إلى شواطئ المحيط الأطلسي. لم تكن تلك الأعمال الفنية نتاج ولع فني جمالي بمقدار ما كانت نتاج حس ديني، وخبرة أولى مع الحضور الإلهي؛ ذلك أن الأسلوب الذي صنعت به، والمعتمد على تحوير فني مبالغ فيه، يجعلها أبعد ما تكون عن تصوير شخصيات واقعية تنتمي للأجناس التي ظهرت بينها. فهي، كما اتفق الدارسون من شتى الاختصاصات، رموز لكائنات فوق طبيعية كانت محل عبادة الإنسان الأول.
19
تظهر تماثيل الأم الكبرى سمات متشابهة، في جميع مراكز الثقافة الباليوليتية؛ فالرأس عبارة عن كتلة غير متمايزة الملامح ترتكز على الجذع مباشرة أو بواسطة رقبة قصيرة. والكتفان دقيقتان أو منحدرتان بطريقة تبعد الذهن عن أي مفهوم للقوة بمعناها الذكري، والذراعان نحيلتان جدا ترتكزان على الصدر أو البطن، فتوحيان بعدم جدواهما للفعل الإرادي، وقد يقوم الفنان بمجرد الإشارة إليهما دون العناية بإظهارهما كعضو تشريحي كامل. والساقان في جزئهما الأسفل ضعيفتان وقصيرتان وتنتهيان بقدمين صغيرتين. أما المنطقة الأساسية في كل تلك التماثيل، فمنطقة الثديين والبطن والحوض وأعلى الفخذين، التي تشكل معا كتلة ممتلئة عني الفنان بإظهار وتضخيم كل جزء فيها بطريقة تبدو معها بقية الأعضاء وكأنها رسمت لتظهر ما لهذه الكتلة من أهمية قصوى. فالثديان عبارة عن كتلتين هائلتين مستديرتين، والبطن منتفخ في إشارة لحمل أبدي، والردف ثقيل، والوركان قويان بارزان، ومثلث الأنوثة منتفخ يشكل مع أعلى الفخذين وحدة متماسكة. وقد يتدلى الثديان ليشكلا مع البطن والوركين تكوينا واحدا متراصا تتجمع فيه هذه الرموز في بؤرة واحدة هي مستودع الخلق (الشكلان
2-1 ،
2-2 ).
شكل 2-1: عشتار ليسبوغ فرنسا.
في هذه الأشكال يثبت الفنان كل ما له علاقة بالخصب والفيض التلقائي الطبيعي، ويهمل ما له علاقة بالتصميم والتدبير والفعل الإرادي المباشر. وهو بذلك إنما يعطي خلاصة تأملاته في القوة الإلهية التي تصدر عنها الأشياء دون قصد كما تصدر الحياة عن المرأة. فخلف ظواهر الطبيعة المتبدية، هناك سر كلي أعظم هو أصل لها ومبدأ، وروح شمولية هي وراء الزمان والمكان، ومع ذلك تنحل إلى كل شكل في الزمان وفي المكان، قدرة إلهية تبدو كأم وأنثى كونية متطابقة مع نظام الطبيعة لا متعالية عليه فاعلة فيه عن بعد، كما صار شأن الإله الذكر فيما بعد حين تخيل العالم فكرة، ثم نطقه كلمة، ثم سواه وهذبه وشذبه وقبع وراءه منفصلا عنه مسيرا له.
شكل 2-2: عشتار ويلندورف النمسا.
ففي البدء عشتار ولا أحد معها، أمومة تنطوي على المبادئ الأولى، ثم تبدت فخلقت وأعطت. وكما تنقسم الأنثى دون أن تفكر وتدبر، كذلك تحولت أمومة عشتار الكامنة إلى كل شيء حي وجامد، فكان ما صدر عنها جزءا منها غير منفصل ولا مفارق، نتاج جسدها في حركته التلقائية، لا نتاج ذهنها في حركته المجردة، أو نتاج إرادتها المستقلة الفاعلة. وكما تتغذى الحياة التي أطلقتها الأنثى من رحمها وعلى جسدها وفي أحضانها، وكما يعطي هذا الجسد حليبا ينبثق منه بشكل سحري معجز، وكما يهب هذا الجسد طفولة الإنسان دفئا وأمنا وسكنا، كذلك هي الأم الكبرى. عنها انبثقت الحياة على المستوى الشمولي وعليها تتغذى وتستمر.
ولعل مما يدعم القيمة الدينية والرمزية لهذه الأعمال الفنية أن من بين الستين عملا نحتيا التي وصلتنا من العصر الباليوليتي، هناك خمسة وخمسون منها مكرسة لأشباه هذه الأشكال، وخمسة أعمال فقط تمثل أشكالا ذكرية منفذة بشكل سيئ يدل على عدم الاهتمام، وعلى عدم تمثيلها لهيئات إلهية، كما هو حال الأشكال الأنثوية. وهذا يتفق مع حقيقة أن الإله المذكر لم يظهر إلا في الفترات المتأخرة، مبتدئا عهده كابن للأم الكبرى.
20
عندما خفتت نبضات المراكز الثقافية للعصر الباليوليتي، أعطت تلك المراكز طاقتها لنبض واحد قوي مركزه الشرق الأدنى القديم. وانتقلت عشتار إلى مستقرات الإنسان الأولى في سوريا، حيث بدأت تماثيلها الطينية الصغيرة تظهر عند عتبات العصر النيوليتي، عصر الزراعة. فإذا كانت الأم الكبرى للعصر الباليوليتي تمثل الطبيعة البكر بمياهها وأمطارها ومروجها وشجرها وعواصفها وبرقها ورعدها، فإن عشتار العصر النيوليتي ستغدو إلهة الطبيعة المنظمة التي تتعهدها يد الإنسان ويساهم جهده في توجيه غاياتها، دون أن تفقد خصائصها الأولى. إنها الآن سيدة الدورة الزراعية ومركز للديانة الزراعية الأولى التي ستغدو مصدرا للديانات اللاحقة. وكما كانت عشتار سيدة مطلقة للعصر الباليوليتي، كذلك ستغدو سيدة مطلقة للعصر النيوليتي في حقبته الأولى ما قبل الفخارية، خلال الألفين الثامن والسابع قبل الميلاد. ومنذ الألف السادس قبل الميلاد سيبدأ الإله الابن ظهوره معها، وتبدأ الأعمال التشكيلية في رسمهما معا بعد أن كانت وقفا على الأم وحدها.
حافظت تماثيل عشتار في العصر النيوليتي على كثير من خصائص تماثيل عشتار العصر الباليوليتي، وذلك من حيث التركيز على مناطق الخصوبة وإبرازها في مقابل بقية الأعضاء (الأشكال
2-3 ،
2-4 ،
2-5 ). كما ظهرت منذ مطلع الألف الثامن الوضعية التي غدت كلاسيكية فيما بعد، وهي وضعية عشتار الممسكة بثدييها العاريين (الشكل
2-4 )، والتي سنجدها خلال الفترات اللاحقة لدى كل ثقافات الشرق القديم تقريبا كرمز لخصب الإلهة الأم. ولقد أعطتنا التنقيبات الأثرية في مواقع الألف الثامن والألف السابع (وبعضها ما زال جاريا اليوم) الكثير من هذه التماثيل، كما هو الأمر في المنحطة والبيضا في الأردن، وأريحا ووادي فلاح والخيام في فلسطين، وتل أسود وتل رماد وتل المريبط في سوريا، وشتال حيوك وهيجيلار في جنوب الأناضول وغيرها.
شكل 2-3: الأم السورية الكبرى.
تل أسود قرب دمشق.
شكل 2-4: الأم السورية الكبرى.
تل المريبط على الفرات.
وهذا يدل على أن عبادات الشرق القديم في تلك الفترة إنما كانت تنويعات على أرضية مشتركة. هذه الأرضية المشتركة هي ما نعنيه بمصطلح «الديانة المركزية».
وخلال العصر النيوليتي، نضجت في سوريا الرموز التشكيلية الخاصة بالأم الكبرى، وهي الرموز التي انتقلت معها بانتقال ديانتها النيوليتية إلى الأصقاع الأخرى. من تلك الرموز: الصليب المعكوف (السواستيكا) والصليب العادي، اللذان استمرا رمزين مقدسين في الديانات العشتارية والديانات الذكرية على السواء، وصولا إلى السيد المسيح وأمه مريم آخر أم كبرى في الديانات البشرية. وما زال الصليب المعكوف رمزا مقدسا لدى الهندوسية في الهند والبوذية في الشرق الأقصى، كما وجد في نقوش ورسوم الهنود الحمر في أمريكا. وليس صليب النازية إلا إحياء لتقليد قديم من تقاليد القبائل التوتونية التي تحدر منها الألمان . ومن الرموز الأولى الفأس المزدوج، رمز الصاعقة، الذي حفلت به بشكل خاص حضارة تل حلف، والذي سوف نراه في كثير من رسوم الأم الكبرى في حضارة كريت ومطلع الحضارة الإغريقية (الشكل
2-14 ).
شكل 2-5: الأم السورية الكبرى - شتال حيوك جنوب الأناضول.
شكل 2-6: صليب العصر النيوليتي، نقش على جدار جنوب الأناضول، الألف السادس قبل الميلاد.
وقد رسم الفنان النيوليتي مع مطلع الفخار هذه الرموز في وحدات زخرفية تجريدية، وبأسلوب فني ما زالت جماليته وقواعده سارية إلى يومنا هذا. فإذا كان فنان العصر الباليوليتي لم يعن قط بإبراز حيز استاتيكي يجمع في داخله عناصر متباينة في وحدة جمالية مترابطة وإيقاع منتظم، فإن الفنان النيوليتي، وابتداء من حضارة تل حلف وسامراء، قد ابتكر ولأول مرة العمل الفني الجيومتري المتكامل ذا الوحدات التجريدية المترابطة في كل موحد (الشكلان
2-8 ،
2-9 ).
شكل 2-7: صليب عصر الكتابة - من اليسار: بابل، مصر، إيران.
إلى جانب الرموز التجريدية؛ فقد ارتبطت بالأم الكبرى رموز حيوانية لا يخلو عمل تشكيلي من واحد منها؛ أهمها الحمامة، والأفعى، والثور. وسوف نلقي أضواء على هذه الرموز كل في حينه. ولقد انتقلت مجموعة الرموز هذه مع انتقال عبادة الأم النيوليتية إلى الثقافات الأخرى، فانتقلت أولا إلى كريت، ومن هناك نقلتها السفن عبر مضيق جبل طارق شمالا حتى الجزر البريطانية، وجنوبا على طول الشاطئ الأفريقي. ومن كريت أيضا إلى ميسينا وهي أول مدينة متحضرة على الأرض اليونانية. ومن ميسينا تخللت الثقافتين الإغريقية والرومانية. ومن الهلال الخصيب وصلت مجموعة الرموز هذه إلى مصر منذ مطلع الألف الرابع قبل الميلاد، كذلك اتجهت شرقا نحو آسيا وصولا إلى أقصى أصقاع المعمورة جنبا إلى جنب مع الديانة العشتارية.
21
شكل 2-8: نقش على الفخار - تل حلف.
شكل 2-9: نقش على الفخار - إريدو السومرية.
ومنذ أن تعلم الإنسان النيوليتي صناعة الجرار الفخارية، انضم الإناء الفخاري إلى جملة رموز الأم الكبرى؛
22
ذلك أن الجسد الأنثوي هو أشبه بالوعاء السحري الذي يتحول في داخله الدم إلى حليب يتفجر من فوهة الثدي، وبالمستودع الذي تختمر في ظلماته بذور الحياة لتنطلق من بوابة الرحم. وجسد الأنثى الكونية هو الجرة الفخارية التي تحتوي على نعم الحياة وأسبابها ثم تطلقها نحو الخارج. وقد انتقلت تقاليد صناعة الجرار المقدسة من العصور النيوليتية التي حفلت بها إلى عصور الكتابة، وتعددت أنماط صياغتها ومعظمها يعير الجرة المقدسة الأثداء الأنوثية التي هي مركز العطاء في جسد المرأة؛ فقد تصنع الجرة على هيئة جسم كروي ذي عنق قصير، يليه ثديان وسرة واضحة، أو على هيئة كتلة مؤلفة من أربعة أثداء متقابلة، أو جسم تطاول في أعلاه ثديان عند الصدر، تليهما عشرات الأثداء التي تغطي الجسم كله. وقد تزين السرة بصليب عادي أو سواستيكا (صليب معكوف). والسرة هنا ذات قيمة رمزية كبيرة؛ لأن سرة عشتار هي مركز الكون، ومعبدها هو سرة الأرض. وفيما بعد صار لرمز السرة الإلهية هذا شأن في الديانات الذكرية؛ حيث صار كل شعب ينظر إلى معبد إلهه الرئيسي على أنه سرة الأرض. كذلك كان معبد أبولو في دلفي سرة الأرض بالنسبة لليونان، وهيكل سليمان في أورشليم بالنسبة للعبرانيين، والكعبة بالنسبة للعرب. هذا ونجد عشتار نفسها في العديد من رسومها ومنحوتاتها تحمل بيدها جرة فخارية يميل عنقها قليلا نحو الأمام؛ من ذلك التمثال المعروف باسم ربة الينبوع المحفوظ في متحف مدينة حلب، والذي يمثل عشتار مدينة ماري السورية. ويعتبر هذا التمثال أحد أجمل الأعمال الفنية التي تركتها الحضارات القديمة.
شكل 2-10: الجرة المقدسة - طروادة 1200ق.م.
شكل 2-11: الجرة المقدسة - كريت 1300ق.م.
وقد كان للقيمة الرمزية للجرة الفخارية أثر في تكوين بعض عادات الدفن؛ ففي فلسطين تم العثور على جرار فخارية استعملت كتوابيت للموتى منذ الألف الخامس قبل الميلاد، حيث تكورت الهياكل العظمية على نفسها متخذة وضعية الجنين في رحم أمه. فالجرة الفخارية هي الرحم الذي يطلق الإنسان إلى الحياة، والرحم الذي يستعيده إليه ثانية بعد الممات. كما شاعت عادة دفن الموتى أو دفن رمادهم في الجرار، وذلك في مناطق كثيرة خلال العصر البرونزي؛ منها جزر بحر إيجه، وآسيا الصغرى، وإيطاليا، ومناطق متعددة من أوروبا. ونجدها أيضا في أمريكا الجنوبية .
23
كما صار للجرار المقدسة قيمة طقسية كبيرة لدى العديد من ديانات عصور الكتابة. من ذلك مثلا الجرار الفخارية التي كانت تستخدمها عذراوات النار المقدسة في هياكل عشتار، سيدة الشعلة في روما. ومن ذلك الجرة المقدسة التي كان يحفظها العبرانيون داخل تابوت العهد مع لوحي الوصايا اللذين تلقاهما موسى من يهوه، والتي اعتقدوا أنها تحتوي على بعض من المن الذي نزل عليهم من السماء أثناء تيههم في صحراء سيناء،
24
إلا أن مريم العذراء قد أعادت لهذه الجرة العبرانية المقدسة صلتها المباشرة بالأم الكبرى. فبالإضافة إلى كون مريم الوعاء الذي احتوى على الإله الكوني نفسه، فإنها الجرة التي تهب البشر حياة وغذاء؛ حيث نقرأ في بعض مدائحها: «السلام عليك يا جرة تحوي المن المحلي حواس الأنقياء، السلام عليك يا غذاء يقوم بدل المن.»
25
وبعد، إذا كانت الأم الكبرى هي مصدر الأشياء وسند الأحياء، ومالئة الكون بالخصب وأسباب النماء؛ فإن هذه الصورة التجريدية لم تتعارض في ذهن الإنسان القديم مع صور أخرى مشخصة ومعاينة للأم الكبرى. فإذا كان الكون بكليته يشكل تبديا في الزمان والمكان لها، فإن أي جزء من هذا الكون، في حد ذاته، وفي اعتبار ماهيته، هو ... هي. فقبة السماء الزرقاء التي تنشر غطاءها فوق الأرض هي الأم الكبرى، ورداء الليل المعتم الذي يبدو بلا أطراف هو الأم الكبرى، والبحر الذي يصدر عن مياه أزلية لا نهاية لها في الامتداد هو الأم الكبرى. إن ذهن الإنسان القديم قادر على التجسيد قدرته على التجريد. والعالمان عنده متداخلان تتحرك بينهما الحدود وتنمحي السدود؛ لا المادي منفصل عن الإلهي، ولا الإلهي يعلو على المادي، كلاهما يعكس الآخر في مرآته. ولعل أكثر مظاهر الكون تجسيدا للأم الكبرى، كانت الأرض. فالأرض هي الأم الحقيقية للإنسان ولجميع مظاهر الحياة عليها، من بطنها يخرج عشبا وزرعا وشجرا، حياة للإنسان والحيوان، ومن أعماقها تتفجر ينابيع المياه، وعلى سطحها تسيل مجاري الأنهار. يلتصق بها الإنسان في حياته ويعود إلى جوفها في مماته. من هنا كانت تماثيل عشتار توضح صلتها هذه بالأرض، وخصوصا تلك التماثيل التي تظهرها في وضعية الجلوس، حيث يشكل الردف والساقان المطويان تحته أو المنبسطان، تكوينا مندمجا على هيئة قاعدة مستقرة على الأرض، تعطي الناظر إحساسا بالوحدة بين التمثال والأرض، وذوبان الواحد في الآخر (الشكل
2-5 ). وفي تماثيل عشتار الواقفة نجد أن الشكل كله متمركز حول محور ثقله يتجه نحو الأرض. وقد تزود التماثيل تحت الورك مباشرة بقاعدة مستوية مستقرة على الأرض. ولعل هذه التمثيلات التشكيلية هي أصل الإشارة إلى الأم الكبرى على أنها الجبل، ذلك الجزء من الأرض المرتكز فوقها بكل عظمة وجلال، المتصل معها في وحدة عضوية. إن العمل الفني الموضح في (الشكل
2-12 ) لذو دلالة عميقة في هذا المجال، حيث نجد الأم الكريتية وقد ذاب جزؤها الأسفل في الجبل الذي يشكل قاعدة مخروطية لها، بينما يشكل جزؤها الأعلى قمة ذلك الجبل. ومثل الجبل في الدلالة على الأرض: الصخر والحجر المنتزع من الأرض. لذا كان للأم الكبرى في العديد من الثقافات حجر مقدس تعبد من خلاله، كما هو الحال في حجر عستارت الأسود في فينيقيا، وحجر سيبيل في الأناضول، وحجر اللات في الطائف.
شكل 2-12: عشتار الجبل - كريت 1500ق.م.
الأم الكبرى لعصور الكتابة
منذ البدايات الأولى للثورة المدينية تتزايد الأعمال الفنية المخصصة لتمثيل الآلهة الذكور، ويأخذ الفن الديني، الذي كان وقفا على عشتار وحدها، ثم على عشتار وابنها، في معاجلة موضوعات مقدسة أخرى طيلة أربعة آلاف عام، قبل أن يعود فيقتصر على الأم والابن في الأيقونات البيزنطية المسيحية. إلا أن تماثيل الأم الكبرى ورسومها تستمر في خط فني متواصل مع المرحلة النيوليتية، ولكن مع تطويرات استاتيكية استدعتها طبيعة العصر. فجسم الإلهة يغدو أكثر رشاقة وتناسقا، وتختفي المبالغات والتحويرات الرمزية، مع استمرار التأكيد على مناطق الخصوبة، إلا أن هذا التأكيد يتبع أسلوبا مختلفا لا تحوير فيه ولا تضخيم، بحيث تشد هذه المناطق النظر دون أن تبدو في تنافر مع بقية أعضاء الجسم. والتمثال الموضح في الشكل (
2-13 ) هو نموذج على ذلك، فيه نجد عشتار البابلية واقفة بكل جمال الأمومية وجلالها، مسندة ثدييها بكفيها في وضع بذل وعطاء. ويبدو هذا العمل وكأنه بالفعل تطوير لتمثال تل المريبط الموضح في الشكل (
2-4 )، والذي تفصله عنه ستة آلاف عام.
شكل 2-13: عشتار البابلية.
إلا أنه رغم التفتت الذي عانته صورة الأم الكبرى على نطاق الدين الرسمي للدولة؛ فقد حافظت على سماتها القديمة داخل مؤسسة العبادة العشتارية، وفي قلوب الناس العاديين الذين تعبدوا للآلهة السماوية تعبد خوف، وتابعوا تعبدهم للأم الكبرى تعبد محبة. ففي سومر التي شهدت أول مجمع لآلهة الذكور برئاسة إله السماء «آن»، الذي ادعى لنفسه معظم خصائص الأم الأولى الخالقة، بقيت أساطير الأم الكبرى وأناشيدها وصلواتها تشير إلى مقامها الذي لا يعلو عليه أحد.
تقول صلاة مرفوعة إلى «إنانا» ربة الطبيعة وخصب الأرض ودورة الزراعة والتكاثر: «سيدة النواميس الكونية، أيها النور المشع، يا واهبة الحياة وحبيبة البشر، أنت أعظم من كبير الآلهة آن، وأعظم من الأم التي ولدتك. يا مليكة البلاد الحكيمة العارفة، يا مكثرة المخلوقات.»
26
وفي ترتيلة لعشتار البابلية نقرأ: «لك الحمد يا أرهب الإلهات، لك الإجلال يا سيدة البشر وأعظم الآلهة. عشتار ما لها في عظمتها قرين، بيدها مصائر الموجودات جميعا. لها الدعاء واسمها الأول بين الأسماء، نافذة شرائعها سامية محكمة. مقامها هو الأعلى، يسعى الآلهة إليها، ظاهرة فوقهم مطاعة الكلمات، مليكة عليهم نافذة الإرادة.»
27
لم تكن إنانا وعشتار الصورتين الوحيدتين اللتين انحلت إليهما صورة الأم السورية الكبرى في وادي الرافدين. إلا أنهما كانتا الصورتين الرئيسيتين اللتين كان لهما عبادة منظمة ومعابد وكهنوت. أما بقية الصور فبقيت صورا ميثولوجية لا تلعب دورا فعليا في الديانة والأساطير الاعتقادية. ففي سومر بقيت صورة الأم الأولى الخالقة على حالها تقريبا دون أن تمسها الأسطورة الذكرية بالتشويه، بل أبعدتها عن مجال العبادة والهيكل الرسمي لمجمع الآلهة. ففي البدء كانت الإلهة «نمو» أصل الكون وأم الجيل الأول من الآلهة. وقد تخيل السومريون
28
امتدادها البدئي كمياه أولى تملأ حيز المكان قبل بدء الزمان. ثم أنجبت هذه الأم الأولى أول كتلة متمايزة عن الماء، وهي كتلة السماء والأرض ملتصقين في جبل بدئي تغمره المياه من كل جانب. في داخل هذا الجبل ولد الجيل الأول من الآلهة، ثم انقسم الجبل إلى نصفين كما الصدفة، فصار الشق الأعلى سماء وارتفع، وصار الشق الأسفل أرضا واستقر.
إن الجو العام لأسطورة التكوين السومرية هذه، لقريب جدا من جو الأسطورة النيوليتية السابقة عليها، وإنها رغم اجتزائها لتلقي أضواء على جوانب الأسطورة الأصل. إن ما فعله النظام الميثولوجي للمجتمع المديني الأول هو فصل الخصائص الكونية للأم الكبرى عن خصائصها المتعلقة بالخصب وحركة الطبيعة، فترك الأولى لاسمها «نمو» وجعلها إلهة مرحلة تعيش في عالم المجردات بلا ظل ولا معبد ولا ديانة منظمة، وترك الثانية لاسمها «إنانا» التي أدمجها في بانثيون الإله الجديد برئاسة «آن»، وجعل لها نسبا وأما وأبا في شجرة عائلة الآلهة الذكرية.
وفي بابل نجد الشيء نفسه؛ ففي مقابل الإلهة الكونية «نمو» نجد الإلهة الكونية «تعامة» المياه الأولى وأصل الكون وأم الجيل الأول من الآلهة، التي تصفها الأسطورة بخالقة الأشياء جميعا. غير أن الفيض التلقائي الذي رأيناه في الأسطورة السومرية، التي كانت قريبة زمنيا من الأسطورة النيوليتية، يتحول في الأسطورة البابلية إلى انقسام بالإكراه والقتل يمارسه الإله مردوخ، الذكر الأسمى، على الأم الكبرى. ففي البدء كانت الأم تعامة على شكل مياه بلا تخوم ولا حدود؛ في أعماقها ولد الجيل الأول من الآلهة وتناسل، إلى أن خرج جيل جديد من الآلهة الفتية، قرر التمرد على تعامة وإحلال نظام جديد. فعقدوا اللواء لأشجعهم «مردوخ» الذي دخل في صراع مميت مع تعامة فقتلها، ثم قسم جسدها نصفين؛ فمن نصف رفع السماء، ومن نصف ثبت الأرض. ثم أخذ بتنظيم الكون ليخرجه على صورته الحالية.
29
إن إسطورة التكوين البابلية هذه، لتعترف بدور الأم الكبرى في إخراج الكون من حيز الهيولى إلى حيز الوجود، ولكنها تجعل منه دورا سلبيا؛ لأن الأم الكبرى تغدو مادة لفعل الإله الذكر لا مصدرا تلقائيا للإشعاع، ومرحلة يتجاوزها مردوخ ليبني مجمع آلهته الجديد على أشلاء جسدها الذي كان أصلا خميرة الخلق، الخلق بمحبة المرأة لا الخلق بقوة الرجل. ومن ناحية أخرى فإن قتل الأم في هذه الأسطورة ليعكس رغبة الرجل، سيد الحضارة الجديدة، في الخروج من حضن الطبيعة والتحكم فيها، وتوجيهها لمصلحته بعد تاريخ طويل من الاستسلام والعيش في كنفها.
إضافة إلى تعامة التي غدت في الميثولوجيا البابلية إلهة - مرحلة عاشت في الأيام الغابرة، ثم ماتت عند عتبة التاريخ، فإننا نجد في بلاد الرافدين شكلا آخر من أشكال الأم الكبرى، أكثر حضورا يتمثل في الأم - الأرض «نتو» أو «ننخرساج». فلما كان الإله الذكر لا يستطيع الادعاء بقتل الأرض، ولو استطاع لفعل؛ فقد أضعف صورتها الكلية القدرة وجعلها منفعلة لا فاعلة، فخصبها لا يفيض عنها بل يأتي من خارجها، وماؤها الذي ينبع من أعماقها ويسقي تربتها لا ينتمي إلى مملكتها بل إلى مملكة إله آخر هو «إنكي» إله الماء العذب، الذي تجعله بعض الأساطير زوجا لننخرساج، فنراهما يعيشان في جنة وارفة الظلال تفيض بكل شجر وثمر نتيجة لاتحاد الماء إنكي بتربة الأرض ننخرساج. هذه الجنة البدئية هي النموذج الأول لكل أرض مزروعة تعطي أكلها بلقاح الماء للأرض. هذا، وقد احتفظت هذه الأم - الأرض - ببعض خصائص الخلق القديمة، فنراها تلعب دورا أساسيا في خلق الإنسان ولكن بمعونة إنكي. نقرأ في نص بابلي طقسي كان يتلى لتخفيف آلام الحوامل عند الوضع: «أنت عون الآلهة يا مامي الحكيمة، أنت الرحم الأم أيتها الخالقة، اخلقي الإنسان. فقالت ننتو للآلهة الكبار: لن يكون لي أن أنجز ذلك وحدي، ولكن بمعونة إنكي يخلق الإنسان.»
30
وفي سوريا - كنعان وآرام - لم تعطنا الأساطير المعروفة حتى الآن صورة عن الأم الأولى الخالقة، رغم أننا نجد بعض ملامحها في شخصية الإله «عشيرة» زوجة إيل كبير الآلهة ورب السماء السابعة. ويبدو هنا أن زواج إله السماء المبكر من الأم الكبرى قد ساعد على طمس وجهها القديم ونقل خصائص الخلق كاملة إلى الإله المذكر. إلا أن الخصائص المتعلقة بالخصب والتكاثر ودورة الزراعة تبقى في يد وريثات الأم النيوليتية. ففي أوغاريت نجد الإلهة عناة، وفي بيبلوس ودويلات المدن الكنعانية الفينيقية والفلسطينية نجد الإلهة عستارت التي يرد ذكرها في التوراة تحت اسم عشتاروت، ولدى الأنباط وبعدهم التدمريون نجد الأم الكبرى تحت اسم «اللات». هذا وقد نقل الجنود السوريون في الفيالق الرومانية إلى الأرض الإيطالية عبادة هذه الإلهة ذات الأسماء المتعددة، ولكن تحت اسم موحد هو «ديا-سوريا» أي: الإلهة السورية.
31
وفي مصر تظهر لعبة الأسماء بوضوح أكثر من أي مكان آخر؛ ذلك أن الانتقال المستمر لمراكز القوة السياسية من منطقة لأخرى عبر تاريخ مصر الطويل، وأرضها المترامية، كان يعطي الأم الكبرى في كل مرة اسما جديدا. إلا أن دارس الميثولوجيا المصرية يستطيع بسهولة، إذا غاص قليلا تحت القشرة الظاهرية للأساطير المختلفة، أن يدرك أكثر من أي مكان آخر الوحدة الحقيقة لهذه الأسماء. وإن أول ما يلفت انتباهنا في مجموعة تجليات الأم الكبرى في الميثولوجيا المصرية هو الإلهة «نيت». فهذه الإلهة، إن لم تكن بذاتها واسمها الإلهة النيوليتية المصرية، فإنها وريثتها المباشرة. وإلى جانبها نجد الإله «نوت» و«إيزيس» و«هاتور» و«سيخمت».
إن شارة الإلهة «نيت» المؤلفة من سهمين متصالبين مرسومين على جلد أو درع، هي ذاتها شارة قبائل الدلتا النيوليتية. ونجد أن اسمها قد تسمت به أميرتان من الأسرة الأولى عند بداية التاريخ المصري. كانت نيت أم الآلهة، وبالذات أم كبيرهم «رع» الذي أنجبته قبل أن يكون للولادة وجود. وهي البقرة السماوية التي أنجبت السماء كأول مظهر من مظاهر الكون. وهي التي نسجت فيما بعد مادة العالم بمغزلها. وهي صاحبة القول الذي سقناه في الفصل الأول: «أنا ما كان وما هو كائن وما سوف يكون، وما من أحد بقادر أن يرفع عني برقعي.» هذا وتختلط هذه الإلهة بالإلهة إيزيس في الطقوس الأوزيرية.
32
أما الإلهة نوت فلم تلعب دورا في الدين والطقس، بل بقيت إلهة - مرحلة. فهي قبة السماء المحدبة التي يتقوس ظهرها فوق الأرض «جيب» المستلقي تحتها، وهي البقرة السماوية التي أنجبت الشمس التي تشرق من حضنها وإلى حضنها تعود عند المغيب، أما بطنها فسقف الكون الذي تزينه النجوم والكواكب. وبينما تأخذ نوت ونيت خصائص الأم الكونية البدئية، تأخذ إيزيس وهاتور وسيخمت خصائصها الطبيعية الدينامية. وهؤلاء الإلهات الثلاث لسن في حقيقة الأمر إلا واحدة، كما سيجري تبيان ذلك في مواضع قادمة من هذا المؤلف.
فإذا انتقلنا من الشرق الأدنى القديم نحو الغرب، عثرنا في جزيرة كريت على ظاهرة فريدة في تاريخ الديانات القديمة؛ فكريت قد عرفت أول ثورة نيوليتية في أوروبا، وتمت فيها أيضا أول ثورة مدينية هناك؛ وذلك بتأثير الهجرات الأولى النيوليتية من البر السوري والأناضولي، وبتأثير الاحتكاك المباشر الدائم الذي استمر بين الجهتين،
33
إلا أن هذه الحضارة لم تعرف طيلة تاريخها سوى عبادة الأم الكبرى وابنها، وذلك حتى نهايتها على يد البرابرة الإغريق الذين دمروا حضارتها العظيمة حوالي عام 1400ق.م. ويبدو أن نهاية كريت المفاجئة قد تمت قبل أن يتمكن المجتمع الذكري فيها من تحقيق انتصاره الكامل، رغم اكتمال ثورتها المدينية، وإحاطتها من كل جانب بالمجتمعات ذات الثقافة الأبوية. لهذا حفظت الأم الكريتية خصائص الإلهة الكبرى للعصر النيوليتي من خلق وخصب.
بسبب المصاعب التي ما زالت قائمة في قراءة اللغة الكريتية القديمة، وندرة النصوص الأسطورية التي تعود إلى ما قبل فترة دمار الحضارة الكريتية، فإن الاسم الحقيقي للأم الكريتية الكبرى ما زال غير مؤكد، إلا أن النصوص اليونانية تشير إليها باسم «رحيا». كانت رحيا الأم الكونية التي تجتمع عندها كل خصائص الألوهية في تركيب واحد، ويمتد سلطانها فوق كل مظاهر الوجود. فإضافة إلى كونها والدة الكون المتحكمة بأفلاكه ومدرات كواكبه، فإنها سيدة خصب الطبيعة وتكاثر الحيوان والإنسان، وربة الفصول المتعاقبة. كما أنها تحكم مملكة الأموات والعالم الأسفل. وإلى جانبها ظهر فيما بعد ابنها الذي أطلق عليه اليونان اسم «زيوس»، والذي يبدو أحيانا في هيئة بشرية، وأحيانا أخرى في هيئة الثور.
34
وسوف نرى فيما بعد أن ابن الأم الكبرى كان يتخذ منذ العصور النيوليتية في الشرق الأدنى هيئة الثور، ابن البقرة السماوية.
من الأعمال الفنية الجميلة التي تمثل الأم الكريتية، الرسم الموضح في الشكل
2-14 ، حيث نجد الإلهة في وضعية الوقوف ترفع بيديها الاثنتين فأسين مزدوجين، وتيارات من الحليب تنثال من ثدييها العاريين فيسقيان الأرض، وعن يمينها وشمالها زمرتان من العباد في وضعية الصلاة.
في الثقافة الإغريقية، بقيت الأم الأولى لما قبل العصر الهيليني قائمة في شخصية الإلهة «جايا» الأم-الأرض، إلا أن هذه، كمثيلاتها في الثقافات الذكرية الأخرى، قد استمرت شخصية أسطورية بلا ظل ولا عبادة، بينما تقاسمت «ديمتر» و«أرتميس» و«أفروديت» الخصائص الطبيعية للأم القديمة. فكانت «أرتميس» إلهة الغاب والبراري والأرض البكر، «وديمتر» إلهة الأرض المزروعة ودورة الطبيعة، «وأفروديت» إلهة التكاثر والحب الجنسي.
شكل 2-14: الأم الكبرى الكريتية 1500 (ق.م.).
كانت «جايا» الأرض، أول من انبثق من الشواش والعماء الأول. أول مواليدها كان كرونوس، السماء الذي غطاها من جميع جهاتها. بعد ذلك تفرغت لخلق العالم فصنعت الجبال والأنهار والبحار، وبقية مظاهر المادة، ومنها تناسل بقية الآلهة. ويبدو من ترتيلة هوميرية أن هذه الإلهة كانت أول معبودات الإغريق. يقول مطلع الترتيلة: «غنوا لجايا، أم الكون، وأقدم الآلهة.»
35
ولعلنا واجدون في أرتميس مدينة إفسوس الإغريقية في آسيا الصغرى، صورة عن الأم الشرقية الكبرى. فأرتميس هنا لا تبدو كإلهة للطبيعة البكر، بل كأم زراعية كبرى تصورها تماثيل إفسوس في هيئة ممتلئة وقد تزاحم في صدرها عشرات الأثداء (الشكل
2-15 ) تماما كالجرة الفخارية الموضحة في الشكل
2-11 .
شكل 2-15: أرتميس - إفسوس.
غير أن الديانات الذكرية المتطرفة قد حاولت أن تجتث تماما صورة الأم الكبرى من نظامها الأسطوري، كما هو الحال في ديانة العبرانيين بشكلها التوراتي المتأخر. فهنا لا نكاد نجد ما يذكر بالأم الكبرى سوى أثر باهت باق في شخصية حواء التي حولتها الأسطورة التوراتية من مبدأ للكون إلى مجرد أم للجنس البشري. وحتى أمومتها هذه ليست أمومة أصلية؛ لأنها هي نفسها مولودة من الذكر آدم؛ مأخوذة من ضلعه. وبذلك يبلغ تحوير أسطورة الأم الكبرى أبعد غاياته بتجريدها حتى من أمومة البشر، وإعطاء آدم فضل الأبوة والأمومة، الأبوة لإنجابه الجنس البشري بواسطة حواء، والأمومة لإنجابه حواء نفسها.
ولكن التقاليد المسيحية ما تلبث أن تعيد للأم الكبرى سابق مجدها وسلطانها، وتبدأ مريم العذراء رحلتها من أم يهودية تقية، كما تبدو في الأناجيل، إلى أم كونية ووالدة للإله الذي اقترب من البشر بدخوله في تاريخهم وتجسده في عالمهم، ومروره عبر جسد الأم الكبرى طفلا لها. «فمريم العذراء التي ظهرت في فلسطين وعاشت هناك عددا من السنين ليست إلا تجليا في المكان للأم الكبرى مريم الموجودة قبل الزمان وقبل المكان، والتي ستبقى بعد فناء المكان وتوقف جريان الزمان.»
36
نقرأ للقديس كيريليس الإسكندري في شرحه لأمومة مريم الإلهية أمام مجمع إفسوس سنة 431م: «السلام عليك يا مريم، يا أم الله، يا كنزا يمجده العالم، يا نورا ساطعا ويا إكليل البتولية، والصولجان الذي يحمي العقيدة الصحيحة، والهيكل الذي لا ينقض. فيه سكن من لا يستطيع أن يحتويه شيء. أنت التي فيك يتمجد الثالوث ويعبد.»
37
ونقرأ في بعض عظات الكنيسة: «إن من بنى السماوات واحتواها، والذي صنع الكون وما وراء الكون، الذي لا مقر له، قد جعل نفسه فيها طفلا صغيرا، ويجعل منها مقر ألوهيته، الفسيح الذي يملأ كل شيء وحيدا، ولا حد له، تجمع فيها دون أن يتصاغر.»
38
ونقرأ للقديس جرمانوس بطريرك القسطنطينية في القرن الخامس الميلادي في شرحه لعقيدة انتقال مريم إلى السماء: «لقد كان مستحيلا أن يبقى ذلك الجسد الطاهر محجوزا عليه داخل قبر الأموات، ذلك الإناء الذي احتوى الله بالذات، ذلك الهيكل الذي مده بالحياة، الإناء الذي امتلأ بالله، الذي حمل الله. كنت أيتها العذراء المجيدة الجسد الذي استراح فيه هو.»
39
أخيرا إذا انتقلنا من أساطير العالم القديم إلى أساطير الشعوب التي داهمها العصر الحديث قبل أن تحقق ثورتها المدينية، لوجدنا صورة الأم الكبرى النيوليتية ما زالت مطبوعة على نقائها لدى الكثير من تلك الشعوب، ولعل الأنشودة التي سنقدم مقتطفات منها فيما يأتي، والمأخوذة من تراتيل قبيلة الكاجايا الهندية في كولومبيا بأمريكا الجنوبية، تعطي صورة عن استمرار عشتار في ضمير الإنسان عبر العصور: «سيدة الأناشيد والأغاني، أم النسل البشري، حملت بنا منذ البدء، أم الأجناس جميعا وأم القبائل المختلفة، سيدة الرعود والأمطار، أم الأنهار والأشجار، سيدة الصخور والأحجار، أم الحبوب وكل شيء حي، أم الشعوب المجاورة، وأم الأجانب والأغراب، سيدة الرقص والأغاني، ربة المعابد كلها، أم الحيوانات، الواحدة المؤلهة، سيدة المجرة المضيئة ... لا أم لنا إلا هي.»
40
الفصل الثالث
عشتار القمر
مثلما وجد الإنسان القديم في الأرض تجسيدا للأم الكبرى، كذلك وجد في القمر؛ فالاثنان يشفان عن حقيقة واحدة وينتميان لمبدأ واحد، وفي كل مكان نعثر على ثنائية الأرض والقمر وعلى الاعتقاد بصلتهما الخفية.
1
فالقمر هو الأرض السماوية الأكثر شفافية ونقاء.
2
ويسود الاعتقاد لدى كثير من الشعوب بأن القمر قد جبل من أديم الأرض، والإغريق يطلقون عليه فعلا اسم الأرض العليا.
3
ورغم أن الخصائص القمرية للأم الكبرى تبدو واضحة في نصوص وفنون عصر الكتابة، فإن ميثولوجيا الحضارات الكبرى لم تمدنا بأسطورة قمرية متكاملة عن الأم الكبرى. ولذا فإن جهودنا في هذا الفصل ستصب في اتجاهين؛ الأول إعادة بناء الأسطورة القمرية النيوليتية التي نؤمن بوجودها، والاتجاه الثاني إعادة تفسير أساطير عصر الكتابة لإظهار الجوانب القمرية للأم الكبرى، سواء في النصوص المكتوبة أو في الأعمال الفنية التشكيلية. وسنبدأ من تحليل أسطورة سومرية معروفة، هي أسطورة هبوط إنانا إلى العالم الأسفل:
من الأعلى العظيم تاقت إلى الأسفل العظيم،
من الأعلى العظيم، تاقت الربة إلى الأسفل العظيم،
من الأعلى العظيم تاقت «إنانا» إلى الأسفل العظيم،
هجرت سيدتي السماء، وتركت الأرض، «إنانا» هجرت السماء والأرض،
إلى العالم الأسفل قد هبطت.
بهذه الفاتحة الجميلة، يبدأ نص الأسطورة السومرية «هبوط إنانا إلى العالم الأسفل»،
4
وهو النص الذي يعد من أجمل ما أنتجه الأدب المشرقي القديم. تبدو الأم السومرية في هذه الأسطورة تواقة إلى ترك كرسيها السماوي وهجرة الأرض التي ترعاها، في رحلة إلى العالم الأسفل، عالم الظلمات الذي تهبط إليه أرواح الموتى، والذي تحكمه أختها الإلهة «إريشكيجال». وهي إذ تشرع في هبوطها عبر بوابات الموت السبع، توصي تابعها «ننشوبار» أن ينتظر عودتها ثلاثة أيام وثلاث ليال، فإن لم ترجع عليه أن يمضي إلى مجمع الآلهة طلبا لعونهم في استرجاعها إلى العالم الأعلى. تنزل إنانا درجات العالم الأسفل السبع بكامل حللها وزينتها السماوية، ولكن حراس البوابات يطلبون منها أن تخلع عند كل باب جزءا من ثيابها تنفيذا للشرائع المتبعة، إلى أن تعبر البوابة الأخيرة وتمثل عارية تماما أمام ملكة الموت إريشكيجال، التي تأمر بموتها حالا وشد جثتها إلى عمود خشبي. حتى إذا انقضت ثلاثة أيام وثلاث ليال، مضى تابعها ننشوبار إلى الآلهة طالبا عونهم، فيتلكئون إلا «إنكي» إله المياه العذبة الذي يصنع لتوه مخلوقين يزودهما بطعام الحياة وماء الحياة، ويرسلهما في إثرها حيث يفلحان في إعادة الحياة إليها، وتصعد من جديد درجات العالم الأسفل. ولدى صعودها تستعيد ثيابها وحليها حتى تخرج في الهيئة التي دخلت بها.
لقد حار علماء السومريات ممن تصدوا لترجمة هذا النص وحل رموزه اللغوية، في حل رموزه الأسطورية المعقدة. فلماذا اشتاقت ربة السماوات إلى زيارة عالم الظلمات؟ ما الذي دفعها إلى ترك عرشها الإلهي والشروع في رحلة مجهولة العواقب؟ إلام يشير موتها؟ وماذا يعني صعودها وتغلبها على الموت؟ في الحقيقة، إننا لا نستطيع فهم أي نص أسطوري اعتمادا على سطوره ومنطوقه ومكانه وزمانه؛ فالنص الواحد هو جزء من جماع التجربة الأسطورية، ومكانه ساحة العالم كلها، وزمانه تاريخ الإنسان. والأسطورة الواحدة ليست نتاج إبداع فني جمالي لشخص بعينه، بل هي محصلة خبرة بشرية طويلة، وتاريخ طويل يمتد إلى أغوار الماضي السحيق، وتطور بطيء. كل هذا يجعلها لذهننا العصري مثقلة بالرموز الصعبة، حافلة بكل عصي غريب. من هنا، ففهم أي أسطورة يتطلب إعادة بنائها، والكشف عن تاريخها وأشكالها السابقة المتضمنة في شكلها الأخير، وصولا إلى حلتها الأولى وباعثها الأساسي.
إن النص الذي بين أيدينا الآن قد تم تدوينه في أواسط الألف الثالث قبل الميلاد، إلا أن أصوله البعيدة ترجع إلى أعماق العصر الحجري، عندما كان الإنسان يتأمل حائرا في مظاهر الكون العجيبة، محاولا إيجاد التفسير لما يجري من حوله. رفع رأسه إلى السماء منذ أن انتصب على قائمتين، وراقب حركة أجرامها وسير شمسها وقمرها وتتابع ليلها ونهارها، فكان القمر أول ما رمى في نفسه الروع والرهبة بتألقه وسط الليل الغامض، وتعارضه مع القبة المعتمة التي يسبح فيها، وغلبته على جميع الأجرام المنيرة المنتشرة في أرجاء السماء، فكان أول جرم سماوي توجه إليه بالعبادة. كان الإنسان محاطا بالألغاز من كل جانب وكل ما حوله سر مكنون، لا يستطيع التمييز بين أحلامه وواقع يومه. وشعوره لم يتمايز تماما عن لا شعوره، محكوما بغرائزه وملكاته الفطرية لا بعقله، موجها بمشاعره وأحاسيسه لا بمنطقه. كان الليل يطمس له بصره ويتركه في ظلمة ورعب من نفسه ومما حوله، ينتظر القمر سيد الليل المترامي الأطراف والكون الممتد بلا نهاية، وسيد ظلمة النفس وخوافيها.
عظم الإنسان الشمس، ولكنه لم يجد فيها ندا للقمر. لم تثر في نفسه من العجب والتساؤل ما أثاره القمر. الشمس تشرق كل يوم من نفس المكان وتغرب من مكان محدد آخر، في حركة رتيبة منتظمة. أما القمر فكل يوم هو في شأن؛ يشرق اليوم من مكان، وغدا يشرق من مكان آخر، يغرب اليوم في مكان، وغدا يغرب في مكان آخر. في يومه الأول يبدأ هلالا نحيلا ثم يأخذ في الامتلاء والاكتمال والتزايد حتى يستدير محيطه ويتوسط قبة السماء بدرا شعشعا جميلا مهيبا. ولكن اكتماله مؤقت؛ إذ ما يلبث أن يبدأ في الانحدار والتناقص قطعة قطعة، حتى يختفي تماما في آخر الشهر غائصا نحو العالم الأسفل. وفي اليوم الثالث لغيابه، وبعد تسعة وعشرين يوما من شروقه السابق، تظهر قرونه عند الأفق من جديد مبشرا بميلاد آخر. حركة طبيعية كونية، أشبه ما تكون بالحركة الطبيعية الداخلية لجسد الأنثى في دورته الشهرية. فكان القمر بحق أنثى كونية عظمى، وكان هو ذاته الأم الكبرى والدة الكون، والأرض الخصبة وقد ظهرت في تجليها الجديد: القمر.
فكما أن «آ»، وفق المنطق الأسطوري، يمكن أن تكون «ب» أو «ج» في الوقت نفسه، طالما أن الجميع يعكسون مبدأ واحدا، كذلك هي عشتار الآن. إنها تتجلى في القمر الذي يهبط من الأعلى العظيم على درجات ومراحل إلى الأسفل العظيم، القمر الذي يحمل توقا دائما كلما توسط السماء بكامل حلله وزينته، إلى الانحدار عنها والنزول إلى عالم الظلمات، نازعا عنه زينته قطعة قطعة حتى يغيب تماما في اليوم الأول ويظهر في اليوم الثالث. وهو في هبوطه هذا، لا يموت كما يموت الأحياء، وإنما يغادر العالم الأعلى كسيد له، ليلبث أياما في العالم الأسفل سيدا له أيضا. فعشتار الأولى كانت سيدة للسموات والعالم النوراني، وسيدة لعالم الموت وظلمات العالم الأسفل. في أسطورة العصر الحجري، لا تهبط إنانا لتموت في العالم الأسفل ثلاثة أيام، بل لتمارس دورا إلهيا آخر، دور ربة الموت. وفي أسطورة العصر الحجري لا وجود لأختها إريشكيجال؛ لأنها هي بالذات إريشكيجال، الوجه الآخر المعتم للقمر. في طورها الأعلى هي إنانا، وفي طورها الأسفل اسمها إريشكيجال. تهبط وتصعد دون معرفة من إله آخر، وفق حركة طبيعية تلقائية لا تحكم لأحد فيها من خارجها.
لعل أسطورة هبوط عشتار هي أول أسطورة منظمة صاغها خيال الإنسان؛ إلا أن شكلها الأخير الذي دونه قلم الكاتب السومري على الفخار، ليس إلا نتاجا لتطور طويل، يعكس لنا بحق تاريخ الأسطورة وتبدلاتها عبر مراحل تطور المجتمعات الإنسانية. في شكلها الأخير، حافظت الأسطورة على هيكلها الأمومي العام رغم تداخل العناصر الذكرية اللاحقة، ورغم تقطيع أوصال الأم الكبرى وتشظي صورتها الأولى. ولنعد إلى النص من جديد، محاولين فهمه على ضوء ما تقدم.
لا يقدم النص سببا لهبوط عشتار إلى العالم الأسفل؛ لأن هبوطها هو جزء من قانون طبيعي، ولأنها سيدة العالمين تترك الواحد لتنتقل إلى الآخر. وقد كان عباد عشتار وكهنتها ممن حافظوا على أسرارها تحت طغيان الديانات الذكرية يعرفون المعاني الخفية الكامنة وراء زخرف النص، وشكله الخارجي ذي الصيغة الذكرية الواضحة. قبل أن تهبط عشتار لبست ووضعت زينتها:
شدت إلى وسطها ألواح الأقدار السبعة،
وعلى رأسها وضعت تاج السهول،
فمن محياها يشع الألق والبهاء،
بيدها قبضت على الصولجان اللازوردي،
وجيدها قد زينت بعقد أحجار كريمة،
وعلى صدرها ثبتت جواهر متلألئة،
وكفها قد رصعت بخاتم ذهبي،
وجسدها وشحت بأثواب السيادة والسلطان،
ومسحت وجهها بالزيت والطيوب،
ثم مشت إنانا في طريقها إلى العالم الأسفل.
يمثل هذا المقطع اكتمال البدر في منتصف الشهر القمري، وتربعه على عرش السماء بكامل ألقه وبهائه. ولأن القمر لا يكتمل إلا لكي يهبط متناقصا خلال الجزء التالي من دورته، فإن عشتار هنا تتخذ زينتها وتلبس أثواب السيادة والسلطان، وتضع الأحجار الكريمة المتلألئة استعدادا للهبوط إلى العالم الأسفل، يشيعها خلال المرحلة الأولى من الطريق تابعها ورسولها «ننشوبار» الذي صار فيما بعد رسول الآلهة السومرية والبابلية، وانتقل إلى اليونان تحت اسم «هرمز». وقبل أن يغادرها راجعا، تقوم عشتار بإعطائه تعليماتها بأن يمضي إلى الآلهة طالبا عونهم إذا لم تعد من رحلتها في اليوم الثالث، ثم تتابع سيرها حتى تصل بوابة الظلمات الأولى:
افتح يا حارس البوابة، افتح البيت،
افتح الباب يا «نيتي». وحيدة سوف ألج منه، «نيتي» كبير حجاب العالم الأسفل،
أجاب إنانا الطاهرة: - من يا ترى تكونين؟ - أنا ملكة السماء، ذلك المكان الذي تشرق فيه الشمس. - فما الذي أتى بك إذن إلى الأرض التي لا عودة منها؟
وإلى الطريق الذي لا يرجع منه مسافر، كيف حفزك قلبك؟
إن لقب ملكة السماء الذي تدعو به عشتار نفسها في هذا النص، هو من ألقابها الرئيسية التي لازمتها طيلة عهدها وتحت كل أسمائها وتجلياتها، إلى جانب ألقاب وأوصاف أخرى معظمها يشير إلى علاقتها بالقمر. فهي عابرة السماوات، وهي نور السماوات، وهي الساطعة المنيرة، وهي اللامعة. وهذه هي إيزيس تتخذ ألقابا مشابهة؛ فهي سيدة السماوات، وسيدة الشعلة المضيئة، وسيدة النور، والنار الساطعة، وواهبة النور. حتى إذا وصلنا إلى السيدة مريم العذراء وجدناها تحمل نفس الألقاب القمرية. فهي سلطانة السماء،
5
وهي قمر الروح، والقمر الخالد، وقمر الكنيسة. ويشير البابا إنوست الثالث في بعض كتاباته إلى العلاقة بين مريم العذراء والقمر عندما يقول: إلى القمر يجب أن يرفع رأسه ذلك الغارق في الخطايا. لقد غاب عنه النهار، ولم تعد له تشرق الشمس. ولكن ها هو القمر عند الأفق . فليتوجه إلى مريم التي يجد عندها الآلاف في كل يوم طريق الخلاص.
6
وفي البرتغال يدعو الأهالي القمر ب «أم الإله»، وفي فرنسا يدعو الفلاحون في كثير من أنحائها القمر باسم «السيدة العذراء».
7
بعد أن يسمع كبير حجاب العالم الأسفل حديث عشتار، يتركها عند الباب ويهرع إلى سيدته «إريشكيجال» ربة عالم الأموات وأخت سلطانة السماء؛ لينقل إليها خبر الزيارة. تمتعض إريشكيجال لزيارة عشتار وتعطي تعليماتها إلى «نيتي» وقد أضمرت شرا: - أي نيتي، يا كبير حجاب العالم الأسفل اقترب مني،
وأعط أذنا صاغية لما آمرك به،
ارفع مزاليج بوابات العالم الأسفل السبع،
وعند بوابة جانزير، واجهة العالم الأسفل أعلن قوانيننا. (يصدع الحاجب بما أمر، ويمضي إلى عشتار المنتظرة عند البوابة الأولى): - تعالي فادخلي يا إنانا.
ولدى دخولها من البوابة الأولى،
خلع عن رأسها الشوجار، تاج السهول، - ما هذا الذي تفعلون؟ - أي إنانا، لقد صيغت قوانين العالم الأسفل بعناية واكتمال،
فلا تناقشي يا إنانا شعائر العالم الأسفل.
ولدى دخولها من البوابة الثانية،
اقتلع من كفها الصولجان اللازوردي،
وهكذا يستمر عبور عشتار بوابات العالم الأسفل، وعند كل بوابة تفقد جزءا من زينتها وثيابها، حتى تمثل عارية في حضرة إريشكيجال:
إريشكيجال، كانت مستوية على عرشها،
يحيط بها الأنوناكي السبعة الذين يصدرون الأحكام،
ركزوا عليها أنظارهم، أنظار الموت،
وبكلمة منهم، الكلمة التي تعذب الروح،
تحولت المرأة المتعبة إلى جثة،
ثم شدت إلى وتد مغروس،
ثلاثة أيام مرت وثلاث ليال.
يشير هذا المقطع والذي سبقه بوضوح إلى تناقص البدر قطعة قطعة، وانحداره عن وسط السماء تدريجيا في كل ليلة. وليست درجات الموت السبعة التي تخلع عندها إنانا جزءا من زينتها سوى الأيام الأخيرة السبعة من الشهر القمري؛ حيث يفقد القمر بوضوح قطعه الكبيرة، حتى يغيب تماما في الأيام الأخيرة. عند هذه المرحلة من النص، تبدأ المداخلة الذكرية بالظهور. فعشتار لم تعد قادرة كما كان شأنها في الماضي على الصعود من العالم الأسفل وحيدة، معتمدة على قواها الذاتية، بل لا بد من معونة الآلهة الذكور في هذه المهمة . وهنا يأخذ رسولها ننشوبار بالطواف على الآلهة الأخرى في أرجاء السماء، وقد ملأ الكون صراخه وعويله طالبا عونهم على إرجاع سيدته إلى الحياة:
رسولها ننشوبار،
ذو الكلمات الطيبة،
وحامل كلماتها الحقة،
أخذ يملأ السماء صراخا من أجلها،
وبكى عليها في حرم المجمع،
في بيت الآلهة ركض هنا وهناك من أجلها،
ذبلت عيناه وتغير وجهه من أجلها،
وكفقير شريد لبس ثوبا واحدا من أجلها،
وإلى إيكور بيت «إنليل» اتجه وحيدا.
بكى في حضرته قائلا:
أيها الأب إنليل، لا تدع ابنتك تموت في العالم الأسفل،
لا تترك معدنك الثمين يلقى في تراب العالم الأسفل،
لا تترك لازوردك الغالي يكسر كحجارة البنائين،
ولا صندوقك الخشبي يقطع كخشب النجارين،
لا تترك الفتاة إنانا للموت في العالم الأسفل.
فأجاب الأب إنليل ننشوبار قائلا:
ابنتي في الأعلى العظيم سارت بقدميها إلى الأسفل العظيم،
إنانا في الأعلى العظيم سارت بقدميها إلى الأسفل العظيم،
وشرائع العالم الأسفل، أنت تعرف ما شرائع العالم الأسفل،
ومن يا ترى بقادر على الوصول إلى ذلك المكان.
بعد إنليل يطوف ننشوبار على عدد آخر من الآلهة ليلقى نفس الموقف غير المبالي، إلى أن يصل إلى «إنكي» إله الماء العذب الذي يسرع إلى نجدة الإلهة الميتة. يصنع إنكي مخلوقين ويعطيهما طعام الحياة وشراب الحياة، ويزودهما بالتعليمات اللازمة لعبور العالم الأسفل واستعادة إنانا إلى الحياة. يفلح المخلوقان في اقتحام العالم الأسفل:
على الجثة المشدودة إلى وتدها وجها أشعة النار،
ونثرا عليها من ماء الحياة ستين مرة، ومن طعام الحياة ستين،
فنهضت إنانا،
وصعدت من عالم الأموات.
هنا يبدأ ظهور القمر مجددا أول الشهر كخيط رفيع يتزايد يوما بعد يوم؛ لأن عشتار تضع لدى صعودها عند كل بوابة ما خلعته في نزولها:
ولما مر بها عبر البوابة الأولى أعاد إلى ثياب جسدها،
ولما مر بها عبر البوابة الثانية أعاد الأساور إلى يديها وقدميها،
ولما مر بها عبر البوابة الثالثة أعاد إلى وركها تعويذة الولادة،
ولما مر بها عبر البوابة الرابعة أعاد إلى صدرها جميع الحلي،
ولما مر بها عبر البوابة الخامسة أعاد إلى جيدها العقود،
ولما مر بها عبر البوابة السادسة أعاد إلى أذنيها الأقراط،
ولما مر بها عبر البوابة السابعة أعاد إلى رأسها التاج العظيم.
8
وهكذا يتربع القمر من جديد على عرش السماء. إن هذه الأسطورة المدونة منذ مطلع عصر الكتابة، تعود في أصلها إلى أعماق العصور الحجرية المجهولة، كما ألمحنا منذ قليل، ولكنها في شكلها الأخير نتاج عملية تطورية تركيبية. فالإنسان النيوليتي قد ورث الأسطورة القمرية عن العصر الباليوليتي وطورها، ثم ألهمته هذه الأسطورة أسطورة هبوط أخرى تقوم بها عشتار سنويا إلى العالم الأسفل من أجل ضمان دورة الزراعة، وما لبثت الأسطورتان أن أدمجتا في أسطورة واحدة عندما صار الإله الابن بطل الهبوط بدلا من الإلهة الأم في الأسطورة الزراعية. فأخذت عشتار تهبط في كل عام إلى العالم الأسفل لفك أسر تموز المحتجز هناك طيلة فترة الخريف والشتاء، فتغيب في اليوم الأول لتصعد في اليوم الثالث ومعها الابن القتيل، وقد بعث حيا، ولسوف نعمل على توضيح هذه البنية المعقدة والمتشابكة تدريجيا في الفصول القادمة.
تظهر درجات الموت التي يهبطها القمر في بعض الأعمال الفنية على هيئة سلم مؤلف من أربع عشرة درجة؛ كل درجة تمثل يوما من أيام النصف الثاني للشهر القمري؛ من هذه الأعمال: الرسم المصري الموضح في (الشكل
3-1 )، حيث نجد القمر على قمة زهرة اللوتس المقدسة وبين قرنيه عين أوزوريس (أو ابنه حورس) التي ترمز إلى القمر المتناقص أو القمر المتزايد حسب اتجاه فتحة العين في شكلها الجانبي، وأمامه سلم هابط نحو الأسفل هو الطريق الموصل إلى عالم الظلمات.
شكل 3-1: درجات العالم الأسفل - رسم فرعوني.
البقرة السماوية
منذ أن رأى الإنسان في القمر تجسيدا لعشتار ربط في ذهنه رمزيا بين قرون البقر وقرني الهلال، وصور في خياله الأم الكبرى على هيئة بقرة سماوية يرسم قرناها هلالا في السماء، وقد استمرت هذه الصورة الباليوليتية والنيوليتية مرتبطة بالأم الكبرى في عصور الكتابة، فعندما لا تظهر الأم الكبرى في الأعمال التشكيلية على هيئة البقرة الكاملة تظهر برأس البقرة أو بقرون البقر، أو تشير إليها النصوص الميثولوجية والطقسية بلقب البقرة؛ فالإلهة «نوت» المصرية التي هي قبة السماء، كانت تصور في هيئة بقرة كاملة، والأم المصرية «نيت» كانت تدعى بالبقرة السماوية، والإلهة هاتور كانت تظهر دوما برأس بقرة، والإلهة إيزيس إن لم تظهر برأس بقرة ظهرت وعلى رأسها قرنان كبيران غالبا ما يحتويان قرص القمر البدر بين طرفيهما (الشكل
3-2 ). كذلك الأمر فيما يتعلق بعشتار البابلية وعشتار الكنعانية التي تظهر في الرسوم والمنحوتات وعلى رأسها قرنان.
شكل 3-2: الأم القمرية الكبرى إيزيس وفي حضنها الوليد الإلهي.
ولعل من أجمل هذه الأعمال، ذلك المحفوظ في متحف دمشق والذي يمثل الإلهة عشتار المجنحة ترضع من ثدييها العاريين إلهين صغيرين، وعلى رأسها تاج يزينه قرنان، وقد يعمد الفنان إلى إظهار الهلال ذاته بدل القرون فيتوج به رأس الأم الكبرى.
ومن ناحية أخرى فإن بعض ألقاب الأم الكبرى التي عرفت بها في عصور الكتابة، تظهر صلتها بذلك التصور القديم، فهي البقرة وهي العجلة، نقرأ في صلاة سومرية إلى إنانا من عصر صارغون الأول: «أيتها البقرة البرية الجموح، أنت أعظم من كبير الآلهة آن».
9
وفي بعض ألواح أوغاريت نجد الإلهة عناة تحمل لقب العجلة،
10
وفي نصوص بعل وعناة الأوغاريتية نجد الإله بعل يضاجع الإلهة عناة وهي في هيئة العجلة قبل أن يهبط إلى الأسفل.
11
هذا وقد بقي لقب البقرة أو العجلة يطلق على الأم الكبرى وصولا إلى السيدة مريم العذراء. نقرأ في طقوس عيد تقدمة مريم إلى الهيكل: «إن والدة الإله بالجسد لما قدموها للرب عجلة ذات ثلاث سنين، تقبلها زخريا كاهن الله ووضعها في الهيكل.»
12
وأيضا: «فليسر يواكيم الجد، ولتبتهج حنه؛ لأنهما قدما لله السيدة البريئة من كل عيب كمثل عجلة ذات ثلاث سنين.»
13
وفي التراتيل البيزنطية التي تتلى يوم الجمعة الحزينة نقرأ: «لما رأت العجلة ابنها معلقا على الصليب ناحت وأعولت.»
14
وأيضا: «أنت الآن في باطن الأرض أيها المخلص، والقمر الذي أنجبك يتلاشى حسرة لغيابك.»
15
وتدعم الأعمال التشكيلية هذه النصوص الطقسية المتعلقة بالسيدة مريم حين تربطها أيضا بالبدر أو الهلال. من هذه الأعمال لوحة الحبل بلا دنس للفنان موريو من عصر النهضة المحفوظة في متحف مدريد، والتي تظهر السيدة واقفة ويداها مضمومتان إلى صدرها والهلال يتقاطع مع جسمها.
وعندما ظهر الإله الابن أخذ عن أمه صفاتها القمرية والرموز المتعلقة بها، فصار يرمز إليه برأس الثور الوحشي ذي القرنين الكبيرين. وهناك من الأدلة ما يشير إلى أن تقديس الثور كان قائما في المستوطنات الزراعية الأولى في سوريا وخصوصا تل المريبط،
16
حيث يتزامن ظهور الثور مع ظهور الإلهة الأم. ولسوف نجد هذا الثنائي بعد ألفي سنة في شتال حيوك، ثم في حضارة تل حلف شمال سوريا. ففخاريات تل حلف حافلة بالأشكال التزيينية لقرون الثور الوحشي.
17
وخارج منطقة الشرق الأدنى القديم نعثر على هذا الثنائي المقدس في كريت حيث يزين رأس الثور الوحشي جدران القصور والمعابد، كما نعثر عليه في مطلع عهود مدن يونانية كثيرة مثل طيبة ودلفي، وفي مكدونيا، وتراقيا.
18
هذا وربما تلقي أسطورة الميناتور الإغريقية أضواء على عبادة الثور في كريت. فالميناتور، كما تروي الأسطورة،
19
كان مخلوقا عجائبيا نصفه ثور ونصفه الآخر رجل، صنع له ملك كريت مينوس قصرا خاصا على شكل متاهة لا يستطيع الداخل إليها أن يعثر على طريق خروجه منها. وكان الميناتور لا يتغذى إلا بلحوم البشر. وخصوصا لحوم أسرى الحروب. كما كانت له وجبة دورية من أهالي أثينا، التي فرض مينوس على أهلها جزية قوامها سبعة فتيان وسبع فتيات تقدم طعاما للميناتور. وقد استمرت هذه الجزية قائمة حتى تمكن البطل ثيسيوس من دخول قصر التيه وقتل الميناتور، بعد أن تطوع للخروج مع فريق الفدية إلى كريت. إن هذه الأسطورة ليست في الواقع إلا ذكرى لعبادة الثور في كريت، والميناتور الذي تصوره ليس كائنا حيا، بل تمثالا في المعبد تقدم له الأضاحي البشرية التي كانت معروفة في كريت ، وربما كان بين تلك الأضاحي شبان إغريق يجري اصطيادهم لهذه الغاية أو يرسلون بالفعل كجزية.
شكل 3-3: الإله الثور - شتال حيوك الألف السادس ق.م.
وقد بقيت قرون الثور النيوليتي تزين رءوس الآلهة الأبناء حتى العصور المتأخرة، فهذا هو الإله بعل الكنعاني يظهر في رسومه ومنحوتاته بقرون بارزة نحو الأمام، وكذلك أوزوريس المصري الذي تصوره بعض الأعمال الفنية برأس الثور، وهو نفسه الإله سيرابيس الذي انتقل فيما بعد إلى العالم الكلاسيكي، والذي يعني اسمه «الإله الثور».
20
وكان الفرس القدماء يعتقدون أن روح العالم مقيمة في ثور بدئي يسكن السماء.
21
وفي الثقافة الهندية كان الثور تجسيدا لكل من الإله «إندارا» والإله «شيفا».
22
أنوثة القمر وقمرية المرأة
إن الاعتقاد بأنوثة القمر وتمثيله للأم الكبرى، قد ساد الحضارات القديمة وبقيت آثاره في ثقافات الأقوام البدائية في عالمنا الحديث. فبعيدا عن مسرح الحضارات الكبرى في الهلال الخصيب ومصر والعالم اليوناني، التي تخللت عناصر الأسطورة القمرية الأولى أساطيرها ودياناتها، فإن معظم الثقافات البدائية تنظر للقمر باعتباره أنثى وتعتقد بتجسيده لإلهة أنثى. يسود هذا الاعتقاد في ثقافة الهنود الحمر في أمريكا الشمالية والجنوبية، ونجده لدى معظم الثقافات الأفريقية، ولدى أكثر الشعوب البدائية في أستراليا وبولونيزيا وغرينلاند. ويحمل الفلاحون الأوروبيون معتقدا مشابها يتجلى في الفلكلور والحكايا الشعبية.
23
تحدثنا أسطورة من غينيا الجديدة عن القمر الأنثى، الذي يهبط إلى باطن الأرض ثلاثة أيام، ثم يبعث ساطعا من جديد فتقول: «إنه في الأزمان السحيقة، كان القمر فتاة جميلة اسمها «رابية» تعيش على الأرض بين أهلها وقومها. ثم إن الرجل الشمس «نويل» وقع في حبها ولكنها صدت عنه، فقرر الانتقام. قام رجل الشمس بتغييب رابية في الأرض عند جذور شجرة، وباءت كل جهود أهلها في إنقاذها، فلبثوا ينظرون إليها وهي تغيب ببطء في جوف الأرض. عندما تأكدت الفتاة من مصيرها المحتوم وبلغ منها التراب العنق، طلبت من أهلها أن يذبحوا خنزيرا ويقيموا مأدبة على روحها، ولكنها طمأنتهم إلى أنها لن تلبث في باطن الأرض طويلا. ففي مساء اليوم الثالث عليهم أن يراقبوا السماء؛ لأنها ستكون قد انتقلت إلى هناك على شكل جرم سماوي منير.»
24
تحتوي هذه الأسطورة على الكثير من العناصر الرئيسية لأسطورة هبوط إنانا، ولعلها ليست سوى صدى بعيد من أصداء الأسطورة النيوليتية الأولى، حيث اختلطت الأسطورة القمرية بالأسطورة الزراعية. فالفتاة في هذه الأسطورة تغوص عند جذور الشجرة، دلالة على الصلة بين الأنثى الكونية وخصب الأرض، وهي تغيب ثلاثة أيام في العالم الأسفل، وتظهر في الأفق هلالا منيرا، تماما كنموذجها الأول عشتار.
ومن ناحية أخرى فإن حياة المرأة الفيزيولوجية والسيكولوجية ذات طبيعة قمرية وإيقاع قمري، فهي مرتبطة بدورة شهرية معادلة لدورة القمر الذي يبدأ هلالا في أول الشهر ليتلاشى في آخره، بعد أن يمر في فترة تقع في منتصف الشهر عندما يبلغ البدر تمامه. وقد كان سكان بلاد الرافدين
25
يعتبرون تمام البدر يوما تحيض فيه عشتار وتستريح من كل أعمالها. لذا فقد ارتبطت بهذا اليوم مجموعة من المحرمات؛ كالشروع في السفر، وأكل الطعام المطبوخ، وإشعال النار، وهي نفس الأمور التي تستريح منها المرأة الحائض. وقد دعي هذا اليوم بيوم «السباتو» أي يوم الراحة، وكانوا يحتفلون به في كل شهر، ثم مرة في كل ربع من أرباع الشهر القمري، وعنهم أخذ اليهود هذه العادة أيام السبي، فجعلوا يوم السبت يوم راحة للرب فيه استراح من عناء الخلق، ودعوا ذلك اليوم بيوم ال «سبات»، وفرضوا على أنفسهم فيه محرمات مشابهة ما زالت تسيطر على سلوكهم حتى اليوم.
وفي اللغات الحديثة، نجد أثرا للاعتقاد القديم بعلاقة طمث المرأة بدورة القمر؛ ففي اللغة الإنكليزية نجد أن كلمة
menstruation
الدالة على الطمث إذا ما أرجعت إلى أصولها تعني «التغير القمري». وفي الفرنسية من الشائع أن يشار إلى الحيض على أنه «وقت القمر»، وفي ألمانيا يطلق الفلاحون في بعض المناطق على فترة الطمث بشكل مباشر اسم القمر. وفي الكونغو يستعمل الأهالي كلمة واحدة للدلالة على الطمث والقمر، وكذلك في بعض مناطق الهند. وكثير من اللغات البدائية تستعمل تعبير «المرض القمري» للدلالة على الحيض.
26
ولعل اقتران المرأة بالقمر له ما يبرره في نظر الإنسان القديم، فكلاهما ينتميان إلى المبدأ السالب في الطبيعة والكون، ذلك المبدأ الذي أطلق عليه الفكر الصيني اسم ال «ين» ويقابله ال «يانغ» المبدأ الموجب الذي ينتمي إليه كل من الشمس والذكر. من تفاعل هاتين القوتين المتكافئتين تستمر حركة العالم ومكوناته، التي تتداخل فيها القوتان فتتعادلان أحيانا، وتغلب إحداهما أحيانا أخرى، دون أن تلغي الواحدة نظيرتها. ففي قبة السماء يسود اليانغ، وفي الأرض الين. في الماء يسود الين وفي النار يسود اليانغ. في المرأة يسود الين وفي الرجل يسود اليانغ ... إلخ. فالين هو العتم، الظل، الرطوبة، الغموض. واليانغ هو النور الساطع، الحرارة، الجفاف، القوة، الإنجاز، الوضوح.
27
أما الفكر اليوناني فقد أطلق على المبدأ السالب اسم ال «الإيروس»، والمبدأ الموجب اسم «اللوغوس». فالإيروس هو عالم الطبيعة والرغبات والغرائز وخفايا النفس؛ أما اللوغوس فهو التسلط على الطبيعة، والمنطق، والتفكير المنظم البارد. إلى الإيروس تنتمي المرأة وإلى اللوغوس ينتمي الرجل. وفي علم النفس الحديث أطلقت المدرسة اليونغية على الطاقة الموجبة في النفس البشرية اسم «الأنيموس»، والطاقة السالبة اسم «الأنيما». فالأنيما هي الأنثى الكامنة في كل رجل، والأنيموس هو الرجل الكامن في كل امرأة.
كما يحكم إيقاع القمر حياة المرأة، فإن الرجل يحكم حياته إيقاع الشمس؛ فالشمس هي مصدر منتظم للنور والحرارة، تخضع في شروقها وغروبها لنظام وقانون دقيق؛ تشع في النهار وتختفي في الليل لتظهر ثانية في الصباح، ولا أحد يشك في شروقها التالي. أما القمر فنوره متبدل متغير، يشرق في الليل، ولكن شروقه لا يتواقت مع ابتداء الليل مثلما يتواقت شروق الشمس مع ابتداء النهار، بل يبدو أن شروقه تابع لمزاجه الخاص؛ فقد نراه مع المغيب، ثم يغوص نحو الغرب، وقد يطلع من الشرق في أوائل الليل، أو في أوسطه، أو نحو نهايته، أو لا يطلع أبدا تاركا سماءنا في ظلام، أو يظهر، ويا للغرابة، في وسط النهار مؤكدا وجوده سابحا في أرجاء السماء المملوءة بنور الشمس. إنه الأنثى المتقلبة المزاج، الغامضة الأطوار، التي تستلهم في سلوكها خصائصها الطبيعية لا قوانين التنظيمات الاجتماعية المحكمة. أما الشمس فهي الذكر، واضع القوانين وعبدها، يصوغ الغايات والأهداف المتعالية على نظام الطبيعة، ولا يخلص من ربقتها طوال حياته. الرجل نظام المجتمع، ينظر دوما نحو الأعلى، راغبا في مزيد من الإنجاز وتحقيق عظائم الأمور، أما المرأة فهي حكمة الطبيعة، تنظر دوما نحو الأرض، تنشد السعادة التي تحققها حركة الجسد في إيقاعه الطبيعي، لا حركة الذهن في إيقاعه المجرد المتعالي.
يتبع الرجل في حياته منحى ثابتا لا يكاد يتغير، تماما كمنحنى الشمس. أما المرأة فحياتها مليئة بالتغيرات الجذرية التي تبدل كيانها وتهزه، وبالمنعطفات الحاسمة التي تحمل لها تحولات أساسية لا تستطيع لها تبديلا أو عنها رجوعا. إن التغيرات التي تطرأ على جسد المرأة وروحها عند البلوغ لا تقارن، كما ونوعا، بالتغيرات التي تطرأ على الذكر، وفعل الحب الأول في حياة المرأة ليس كفعل الحب الأول في حياة الرجل؛ فهو يجعل من المرأة مخلوقا جديدا من الناحية الجسدية والنفسية، بينما لا يكاد يترك في نفس الرجل أو جسده أثرا أو علامة، يتجاوزه بثبات دون أن ينظر نحو الوراء. والمرأة قبل الحيض هي غيرها أثناءه وغيرها بعده. وهي قبل الحمل غيرها بعد الولادة. ما إن تلد المرأة حتى تغدو أما ... لا يهم إن مات ابنها أو عاش بعد ذلك، لقد صارت أما مرة واحدة وإلى الأبد، وبذرة الحياة دوما هناك، تنبض تحت القلب كما نبضت طوال تسعة أشهر. يقبل الرجل على فعل الجنس كما يقبل على أي نشاط آخر من نشاطات الحياة؛ أما المرأة فهي عذراء قبل الجنس، ولكنها أم بعده، تهب نفسها في كل مرة وكأنها المرة الأولى.
أسبقية عبادة القمر
لقد كان مشهد الليل الجليل وقبة السماء الحالكة بنجومها وشهبها ومذنباتها السابحة، من أكثر المشاهد تأثيرا في نفس الإنسان القديم. فكان الليل بالنسبة إليه هو الأصل والنهار هو الفرع. الليل هو الأزلي، والنهار هو الحادث. عن عتمة الليل القديمة، أخذ الكون بالتمايز، وعن العماء الأول ظهرت الموجودات وترتبت كما تظهر نجوم السماء في كل يوم من جوف الليل، وعن الظلمة الخافية ظهرت المرئيات الواضحة. الخلق فعل سري يسمو على الإفهام، ولذا فإنه يصدر عن الليل والظلمة، لا عن النهار والنور، والعتم هو الرحم البدئي الذي حبل بالكون وأنجبه.
بتأثير هذه النظرة القديمة، تؤكد معظم أساطير الخلق والتكوين على ظهور النشأة الأولى من لجة الظلمة الأزلية؛ ففي أسطورة التكوين البابلية، كانت تعامة هي الرحم المائي المظلم الذي نشأ عنه الكون والآلهة. وفي الأسطورة المصرية نجد «نون» العماء البدئي المظلم والرحم المائي الذي أنجب أول الآلهة «رع». وعند الكنعانيين نجد أنه في البدء لم يكن هناك سوى ريح عاصفة وخواء مظلم.
28
وفي التكوين التوراتي نجد أنه في البدء خلق الرب السماوات والأرض، وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الرب يرف فوق الماء.
29
وفي الأسطورة السومرية، تنبثق الأجرام السماوية من ظلمة العالم الأسفل عندما يهب الإله إنليل سيد مجمع آلهة سومر إلى العالم الأسفل، ويضاجع الإلهة ننليل التي تتبعه إلى هناك عند كل بوابة من بواباته السبع، فكان القمر أو مولود لها من إنليل، ثم إن القمر نفسه صار بعد ذلك أبا للشمس.
30
ومن المثير للتأمل حقا، أن العديد من أساطير التكوين لم يربط بين الشمس والنور، ولم يجعل صلة بينها وبين تتابع الأيام؛ ففي أسطورة التكوين البابلية تظهر دورة الأيام واختلاف الليل والنهار، قبل ظهور الشمس إلى الوجود. وفي التكوين التوراتي، يقوم يهوه بخلق النور وتمييز الليل عن النهار قبل أن يخلق الشمس؛ فخلق النور قد تم في اليوم الأول من أيام التكوين: «وقال الرب ليكن نور فكان نور، ورأى الرب النور أنه حسن وفصل الرب بين النور والظلمة. ودعا الرب النور نهارا والظلمة دعاها ليلا.»
31
أما خلق الشمس فلم يتم إلا في اليوم الرابع من أيام التكوين: «وقال الرب لتكن أنوار في جلد السماء لتفصل بين النهار والليل وتكون لآيات وأوقات وسنين، وتكون أنوار في جلد السماء لتنير على الأرض وكان كذلك. فعمل الرب النورين العظيمين؛ النور الأكبر لحكم النهار، والنور الأصغر لحكم الليل ... وكان مساء وكان صباح يوما رابعا.»
32
إن أولوية الليل على النهار تستدعي أولوية القمر، سيد الليل على الشمس، وأسبقية الديانات القمرية على الديانات الشمسية. ففي جميع الثقافات كانت الميثولوجيا القمرية سابقة على الميثولوجيا الشمسية.
33
ويكاد يجمع دارسو الأسطورة، في يومنا، على هذه الحقيقة، وكذلك علماء الأنثروبولوجيا ممن درسوا الثقافات البدائية المعاصرة التي تسود فيها الديانات القمرية أو أشكال أخرى متطورة عنها.
34
ففي ميلانيزيا بشتى مناطقها، تجمع الأساطير على أن الأم القمرية الكبرى هي خالقة الكون وسيدته، وإلى جانبها يعبد الأهالي ابنيها القمر المتزايد والقمر المتناقص، وليس للشمس في دياناتهم إلا مكانة ثانوية. وفي غينيا الجديدة، يسود اعتقاد مشابه بسيدة القمر وابنيها. وعندما نزل الإسبان في إندونيسيا وجدوا القمر هو المعبود الرئيسي لكثير من قبائلها، وما زالت عبادته قائمة اليوم لدى بعض قبائلها البدائية. وفي بولونيزيا لا تكاد الشمس تلعب دورا مهما في الدين والأسطورة اللذين يتركزان حول القمر. ولدى قبائل الإسكيمو تقوم الشمس مقام الأخت بالنسبة للقمر الذي تدور حوله دياناتهم، ويعتقدون أن نور الشمس وحرارتها قد استمدت منذ القديم من القمر. ويؤمن الهنود الحمر في أمريكا الشمالية بالأم القمرية الكبرى ويدعونها بالمرأة القديمة، والمرأة المتغيرة، والمرأة الأبدية. وفي أمريكا الوسطى والجنوبية، التي يعتبرها البعض الموطن التقليدي للديانات الشمسية، لم تكن هذه الديانات، في حضارات الآزتك والإنكا، إلا من خلق الطبقة الحاكمة الأرستقراطية التي كانت تجبر الناس على بناء هياكل الشمس، أما الطبقات الشعبية فقد بقيت على معتقداتها القمرية السابقة. وفي أفريقيا بقي كثير من القبائل البدائية حتى وقت قريب أمينا للديانات القمرية وسيدتها الكبرى.
مع انهيار الثقافات الأمومية وصعود الثقافات الذكرية، غلبت الشمس القمر، وتوطدت الديانات الشمسية السماوية، وراح آلهة الشمس وآلهة السماء السامية يبنون أمجادهم بعد معارك حاسمة مع سيدة العتم وابنها الثور. فقتل مردوخ الأم تعامة في صورة تنين رهيب، ومثله إندارا في الهند الذي ارتفع على أشلاء تنينه أيضا، وزيوس في الغرب الذي قتل التنين طيفون ابن الأرض، وميترا الفارسي الذي شاعت عبادته في العالم اليوناني الروماني بعد الميلاد والذي قتل الثور السماوي، فأحل نور الشمس محل ضوء القمر. وإلى جانب آلهة الشمس وآلهة السماء السامية، قام الأبطال الشمسيون أنصاف الآلهة بأفعال مشابهة ترمز إلى قيام الطبقات العسكرية الحاكمة الأوليجاركية بإحلال عبادة الشمس محل عبادة القمر عند أعتاب الحضارة. إن أساطير هؤلاء الأبطال بشكلها المزخرف الأخير وبهائها الأدبي لا تخفي أصلها القديم وشكلها الأول الذي صاغه آباء الانقلابات الدينية قبل مطلع عصور الكتابة، وكل أفعالهم تتركز على قهر الرموز القمرية. فهذا جلجامش البابلي حبيب «شمش» إله الشمس، يسير برعاية إلهه وتوجيهه فيقتل مع صديقه أنكيدو تنين غابة عشتار. وتجعل الأسطورة الذكرية من عشتار امرأة لعوبا تقع في حب جلجامش الذي يعرض عنها ويقوم بتحقيرها وتعداد مثالبها، فترسل ضده ثور السماء الذي يقتله جلجامش دون عناء. إن هذه الأسطورة التي دونت مع أسطورة تعامة ومردوخ في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، وهو عصر صعود الملك حمورابي وإرساء دعائم الإمبراطورية البابلية، ليست إلا تردادا لأسطورة شفهية قديمة تظهر الصراع بين البطل الشمسي من جهة والأم الكبرى وابنها الثور من جهة أخرى. ولعلها في الأصل ليست إلا صراعا بين شمش نفسه وعشتار.
ومثل جلجامش هرقل، البطل الإغريقي ابن زيوس من امرأة بشرية، الذي يوجه معظم أعماله الخارقة ضد الرموز القمرية. يقتل هرقل «هيدرا» التنين ذا الرءوس السبعة، ويمرغ أنف الإلهة أرتميس في التراب عندما يقبض على أيلها البري المقدس الذي لم يقدر عليه أحد من قبل، ويقبض على الخنزير البري الشرس، وهو من الرموز التقليدية للأم الكبرى، ويصرع الثور الإلهي المتوحش، ويتغلب على قبيلة النساء الأمازونيات. وبعده يأتي «ثيسيوس» ابن الإله بوسيدون من امرأة بشرية، الذي يقتل الميناتور، الثور الكريتي ساكن قصر التيه. إن أسطورة قتل الميناتور ليست في الحقيقة سوى صياغة أسطورية لواقعة تاريخية تتعلق بهجوم القبائل البطريركية اليونانية على كريت، وتقويض ثقافتها الأمومية وهدم هياكلها القمرية، وتحطيم تماثيل الإله الثور الابن وإحلال عبادة الآلهة الآباء. ومن الشواهد الباقية في الأساطير اليونانية على الصراع القديم بين الآلهة الشمسية والآلهة القمرية، تلك القصص التي تروى عن صراع آلهة الأوليمب مع العمالقة؛ فكل إله أوليمبي كان له معركة مع عملاق أو أكثر، تنتهي بانتصاره المؤزر الذي يعزز مكانته في مجمع الآلهة العلوية. إن المعنى الكامن وراء هذا الصراع ضد العمالقة لا يتضح إلا إذا رجعنا إلى الأصول اللغوية لكلمة العملاق. فالكلمة الدالة على العملاق في اللغة اليونانية واللغات الأوروبية الحديثة هي (giant)
جيانت المستمدة من «جايا» الأم-الأرض. فالعملاق والحالة هذه هو ابن الأرض جايا، التي كانت تصور في بعض المشاهد وقد انبثقت من الأعماق لتحمي ابنها من عدوان الإله الأوليمبي.
35
لقد أخذت الميثولوجيا الشمسية ببناء نفسها على الأسس السابقة للميثولوجيا القمرية، وأخذ الآلهة الشمسيون يتبنون خصائص وصلاحيات الأم القمرية وابنها. كما استطاعت الميثولوجيا الشمسية تحويل بعض الآلهة القمرية إلى آلهة شمسية. فمردوخ-بل، سيد آلهة بابل ليس إلا بعل الكنعاني، الإله القمر بالأصل الذي أتت به سلالة حمورابي السورية. كما أن بعل قد تحول إلى إله شمسي في كثير من مناطق عبادته الأصلية، وذلك كبعلبك وتدمر حيث أقيمت له هياكل الشمس على أنقاض هياكل القمر. وزيوس الإغريقي أعتى الآلهة الذكور وسيد البانثيون الإغريقي، ليس إلا زيوس الثور، ابن الأم الكريتية الكبرى الذي حمله معهم الآخيون إلى أرض اليونان عقب دمار الحضارة المينوية. ولعل التعمق في دراسة شخصية ومنحى تطور بعض الآلهة التي اعتبرت شمسية منذ ظهورها، يوصلنا إلى أصلها القمري القديم. وهذه نقطة لا نستطيع التوسع في بحثها هنا.
القمر والخصوبة
وجد الإنسان القديم علاقة بين القمر وخصب الأرض ونمو الزرع، قبل أن يكتشف العلاقة الفعلية بين الشمس والحياة النباتية. فضوء القمر الأصفر اللين، وطراوة الليل الذي تترك أردانه، قبل أن ينجلي، ندى يمد أوراق النبات بالحياة، ورطوبة تنعش الأرض، كانت في تصور الإنسان أكثر ملاءمة لحياة الزرع من أشعة الشمس الحارقة ونور النهار الساطع. ومن ناحية أخرى؛ فقد لاحظ الإنسان أن تتابع الفصول هو الذي يهيئ الشروط لتستكمل الدورة الزراعية غايتها، وأن تتابع الفصول بدوره نتاج دورة القمر الشهرية التي تضع علامات الزمن. فكان القمر بالنسبة للإنسان خالق الزمن وسيده، ورب الفصول التي تتوج حركتها بفصل الربيع الذي يحيي الأرض بعد سباتها.
وقد عبرت الأعمال التشكيلية للحضارات الأولى في ثقافات الشرق القديم عن علاقة القمر بخصب الأرض ونمو الزرع والشجر، مدفوعة إلى ذلك بالأفكار التي ورثتها عن الثقافات النيوليتية، فنجد في كثير من الرسوم أن القمر والشجرة يندمجان في وحدة تشكيلية جمالية؛ ففي الشكل
3-4 ، يبدو القمر وكأنه جزء عضوي من أجزاء الشجرة التي رسمها الفنان البابلي بأسلوب زخرفي تبسيطي جميل.
شكل 3-4: شجرة القمر - بابل، الألف الثاني ق.م.
وفي الشكل
3-5
يكرر الفنان الآشوري نفس العناصر، متبعا نفس الطريقة الزخرفية، مع إضافة الحيوانات إلى الوحدة التشكيلية؛ لأن القمر مسئول أيضا عن تكثير الحيوانات وعن توالد الإنسان.
شكل 3-5: شجرة القمر - آشور، الألف الأول ق.م.
إن مسئولية القمر عن نفخ الحياة في البذور الجامدة، وإرسال مياه المطر، وتوزيع الندى، وتفجير الينابيع، هي فكرة ميثولوجية شائعة نستطيع تتبعها في كل الثقافات، ولعل دراسة معتقدات الشعوب البدائية الحديثة تعطينا صورة عن بقايا معتقد الإنسان القديم؛ ففي كولومبيا البريطانية يرسم الأهالي صورة القمر، وقد علقت على أطرافه أباريق الماء التي يسكب منها على الأرض. ويعتقد الهنود الحمر في أمريكا الشمالية بأن القمر مسئول عن هطول الأمطار والإنبات ويدعونه بأم الذرة، المحصول الرئيسي لديهم. وفي البرازيل تدعو القبائل القديمة القمر بأم المحاصيل. وفي الهند هو حامل البذور، وأيضا حامل النباتات. وفي الإسكيمو يعتقد الأهالي بأن القمر هو الذي يرسل الثلج.
36
وإضافة إلى خصوبة الأرض، فإن القمر مسئول عن خصوبة النساء؛ ففي غرينلاد يسود الاعتقاد بأن القمر هو الذي ينفخ الحياة في أرحام النساء؛ لذلك فإن المرأة غير الراغبة في الحمل لا تنام على ظهرها ليلا دون أن تغطي منطقتها بإحكام؛ خوفا من تسلل شعاع القمر. وفي نيجيريا يقتصر دور الفعل الجنسي الذي يمارسه الرجل على تسهيل مهمة القمر الذي يعتبر المسئول الحقيقي عن الحمل. ولدى قبائل الماوري في أمريكا الشمالية يسود الاعتقاد بأن القمر هو زوج النساء جميعا. وتعتقد بعض القبائل في منغوليا ومناطق أخرى من العالم بأن القمر قادر وحده أحيانا ودون تدخل الرجل على إخصاب النساء.
37
وتقوم المرأة المتزوجة حديثا، لدى بعض هنود تكساس، بالوقوف عارية في وعاء مملوء بماء تم تعريضه لضوء القمر. وفي بعض روايات ولادة البوذا أنه قد ولد من عذراء لقحها ضوء القمر. ويصف الفرس القمر بأنه حافظ بذور الثور؛ لأن أسطورة قديمة تقول بأن الإله الثور قد أودع بذوره المخصبة في القمر. وفي أنحاء كثيرة من العالم ما زالت النساء ترفع المولود الجديد عاليا نحو القمر ليبارك نموه. وفي أوروبا الوسطى اليوم تحذر الفتيات بعضهن البعض مازحات من الشرب من ماء بركة ينعكس عليه خيال القمر لكيلا تحملن. وفي مقاطعة بريتاني بفرنسا يتندر الناس بالقول: إن على المرأة ألا تكشف جزءها الأسفل تحت ضوء القمر وإلا حملت منه.
38
ومما لا شك فيه أن هذه المعتقدات المتشابهة، إنما ترجع في أصولها إلى الإيمان القديم بالقوة الخالقة للأم القمرية الكبرى، التي تنفخ الحياة في أرحام النساء وتهب الجنسين خصوبتهما، كما تفعل في الطبيعة النباتية.
إلى جانب مسئوليتها عن حمل النساء، فإن الأم القمرية ترعى حياة النساء الحوامل، وتكون حاضرة فوق سرير الولادة لتسهيل عملية الوضع، وكانت نساء بابل يتوجهن بالدعاء إلى عشتار وهن على فراش الوضع. ولا يقتصر الأمر على ذلك؛ لأن الأم الكبرى أيضا، ولدى كل الثقافات، راعية النساء في شتى مراحل حياتهن، وكانت إلهتهن الأولى. نقرأ في ترتيلة بابلية إلى عشتار:
تعين النساء، فتاة أو امرأة أو أمة.
نافذة شرائعها سامية محكمة.
39
لهذا السبب كان أهل حران في سوريا يقولون إن الشعوب التي تعتقد بأنوثة القمر وتعبده في هذه الصفة، تسلم قيادها لنسائها، أما الشعوب التي تعتقد بذكورة القمر وتعبده في هذه الصفة، فإن لرجالها الغلبة على نسائها، ومثل هذه الفكرة كانت شائعة لدى قدماء الأنكلوساكسون الذين اعتقدوا بأن النظر إلى القمر باعتباره أنثى يؤدي إلى غلبة النساء في المجتمع.
40
كل هذه البركات التي يمنحها القمر، قد جعلت من ظهوره في أول الشهر بشرى طيبة يترقبها الناس في كل مكان. وما زال التفاؤل برؤية القمر الجديد قائما إلى يومنا هذا لدى كل الشعوب دون أن يدركوا تفسيرا لذلك. وفي بلادنا يفضل الناس رؤية القمر الجديد مع شخص يحبونه لتحمل لهم أيام الشهر المقبلة حظا طيبا، فيقول أحدهم: لقد رأيت القمر على وجه فلان أو فلانة، فإذا رأوه في صحبة غير محببة تطيروا وتوقعوا حظا عاثرا.
الأطوار الثلاثة للقمر
إذا كانت الشمس تبدد الظلام وتمحوه، فإن القمر يتآلف معه ويتعايش معه جنبا إلى جنب. انظر إلى السماء في ليلة مقمرة، تجد ضوء القمر يلج في العتم ويتشابك معه، والعتم يعشعش في ضوء القمر ويسكن بين أجزائه؛ فالنور والظلام لا يتنافران عند سيدة القمر بل يتجاذبان وعندها يلتقيان. نحو النور تدير وجها، ونحو الظلام تدير وجهها الآخر، وفي دورة حياتها الشهرية تظهر الضدين، وتوحد بينهما من خلال تعاقب أطوارها الثلاثة: الطور المتزايد، والطور الكامل، والطور المتناقص.
يمر القمر في ثلاثة أطوار منذ ظهوره في أول الشهر وحتى اختفائه تماما في آخره؛ الطور الأول هو الفترة التي يقضيها الهلال في التزايد التدريجي والتحول من خيط رفيع إلى قرص مكتمل، والطور الثاني هو فترة القمر البدر الذي يتوسط كبد السماء بكامل استدارته وتألقه، والطور الثالث هو الفترة التي يقضيها القمر في التناقص والميلان عن كبد السماء حتى التلاشي والغوص في أعماق الظلام. وقد اعتقد الأقدمون أن بركة القمر وخصائصه الإيجابية إنما تكمن في طوره المتزايد؛ طور اكتمال النور؛ لذلك كانوا يباشرون تحضير حقولهم للموسم الزراعي، ويقومون بفلاحتها وبذرها خلال أيام القمر المتزايد، ويشرعون في كل عمل يريدون له نجاحا خلال هذه الفترة، فإذا ابتدأ القمر بالتناقص كان ذلك نذيرا بكل سوء محتمل، فكانوا يقلعون عن مباشرة الأعمال الزراعية والشروع في أي نشاط يأملون له فلاحا؛ ذلك أن الأم القمرية الواحدة، مسئولة عن القوى السالبة في الكون مسئوليتها عن القوى الموجبة، وعن الخير مسئوليتها عن الشر، وعن الحياة مسئوليتها عن الموت. وهي في طورها المتناقص قد تأخذ ما أعطته في طورها المتزايد. وعندما تختفي تماما في الأعماق ترسل عفاريت العالم الأسفل لقبض أرواح من وهبتهم الحياة. إن ديانة تؤمن بإله واحد ولا تؤمن معه بوجود إبليس يحمل عنه مسئولية الشرور في العالم، ستتوصل ولا شك إلى إيمان بوحدة النقيضين في تركيب واحد.
لقد عبرت الأعمال التشكيلية القديمة عن هذه الوجوه الثلاثة لعشتار سيدة القمر بأساليب رمزية مختلفة؛ ففي سوريا رمز الفينيقيون إلى أطوار عشتار الثلاثة، بثلاثة أعمدة متفاوتة الطول يعلوها الهلال، أو بثلاثة أعمدة يتخذ كل واحد منها هيئة صليب يعلوه هلال (الشكلان
3-6
و
3-7 ). وقد يرسم القمر على شكل دائرة تحتوي على ثلاثة أهلة، يرمز كل منها لطور من أطواره، كما هو الأمر في بعض النقوش البابلية (الشكل
3-8 ).
شكل 3-6: أطوار القمر الثلاثة - نصب فينيقي.
شكل 3-7: أطوار القمر الثلاثة - نقش فينيقي.
وعندما تحول القمر إلى إله مذكر في بلاد الرافدين تحت اسم «سن»، بقيت الأعمال التشكيلية تعبر عن وجوهه الثلاثة. ففي الشكل رقم
3-9
نجد إله القمر جالسا في الوسط حاملا قرص البدر يحيط به الهلال، وأمامه حيوان مقبل يشير إلى القمر المتزايد ووراءه آخر مدبر يشير إلى القمر المتناقص. إضافة إلى هذه الرموز التشكيلية، فإن الأم القمرية قد صورت أحيانا في هيئة مثلثة، كما هو الحال في الشكل (
7-4 ) الذي يمثل الإلهة الإغريقية أرتميس - هيقات بثلاثة رءوس يلتفت أولها إلى اليمين دلالة القمر المتزايد، والثاني نحو الأمام دلالة القمر التام، والثالث إلى اليسار دلالة القمر المتناقص، ويتعلق بيدها اليسرى كلب الجحيم الضاري واثبا على قائمتيه الخلفيتين. هذا وسوف ندرس مزيدا من الأعمال التشكيلية المعبرة عن ثلاثية الأم القمرية في فصل عشتار السوداء اللاحق.
شكل 3-8: الأطوار الثلاثة للقمر - نقش البابلي.
شكل 3-9: الأطوار الثلاثة للإله سن - ختم بابلي.
وقد يؤدي تثليث سيدة القمر إلى عبادتها في ثلاثة أشكال، كما هو الحال في الأم الكبرى لحضارة السلت «بريجيت». كانت بريجيت أم الآلهة وسيدة الطبيعة، ومن ألقابها «الأم الطيبة». وكانت أيضا أما قمرية تدعى ب «المتألقة » وب «مونا»، وهو الاسم الذي بقي قائما في اللغات الأوروبية للدلالة على القمر. وقد عبدت هذه الإلهة في ثلاث إلهات، اسم كل منهن بريجيت. وفي الفترات المسيحية الأولى اختلطت هذه الإلهة بالسيدة مريم، فدعاها البعض بمريم الغوليين نسبة إلى الغول من سكان فرنسا القدماء، كما دعيت بأم المسيح.
41
وربما كان تثليث الأم الكبرى لجزيرة العرب هو الذي أدى إلى انقسامها إلى ثلاثة من اللات والعزى ومناة، اللواتي كن أعلى آلهة العرب شأنا، وكان اسمهن يذكر أثناء الطواف حول الكعبة. ورغم استقلال كل قبيلة عربية بعبادة واحدة من هذه الإلهات، فإن كل إلهة على حدة كانت تظهر خصائص تثليثية واضحة. ففي كتاب «الأصنام» لابن الكلبي نقرأ عن تثليث الأم العربية الكبرى إن: «العزى قد عبدت مجسمة في ثلاث شجرات من شجر السمار بواد اسمه حراض، وتقول الروايات إن الرسول قد أمر خالد بن الوليد بهدم بيت العزى وقطع سمراتها الثلاث؛ فأتاها فقطع الشجرة الأولى ثم الثانية، وعندما هم بالثالثة خرجت عليه امرأة حبشية عريانة، نافشة شعرها، واضعة يدها على عنقها، تصر بأنيابها، وخلفها سادنها ينشد:
أعزاء شدي شدة لا تكذبي
على خالد ألقي الخمار وشمري
فقال خالد:
يا عز كفرانك لا سبحانك
إني رأيت الله قد أهانك
شكل 3-10: أرتميس المثلثة - رسم إغريقي.
شكل 3-11: المسيح المثلث - أيقونة من بوليفيا.
ثم ضربها ففلق رأسها وقتل السادن وقطع الشجرة، ثم أتى رسول الله فأخبره، فقال: تلك العزى، ولا عزى بعدها للعرب، أما إنها لن تعبد بعد اليوم.»
42
وقد حاول الفن المسيحي اتباع أسلوب التثليث في رسم المسيح، إلا أن الكنيسة كانت ضد هذا الاتجاه في أحيان كثيرة؛ لأنها رأت فيه نوعا من الوثنية المقنعة. وقد قام البابا أوريان الثامن عام 1628 بإزاحة هذا النوع من التماثيل أو التصاوير من كنائس إيطاليا وأمر بإحراقها علنا،
43
إلا أن بعضها قد بقي قائما حتى فترات قريبة جدا كالأيقونة الموضحة في الشكل (
3-11 ).
هذا وقد عبدت الأم القمرية من خلال رمز الكتلة الحجرية؛ فالصخر الذي هو رمز الأرض هو في الوقت نفسه رمز للقمر. وكان لون الحجر الذي تعبد فيه عشتار يعكس طورها المنير أو طورها المظلم؛ فالأم الكبرى لجزيرة العرب كان لها أكثر من حجر مقدس؛ من ذلك الحجر الأسود للإلهة مناة الذي كانت تعظمه العرب وخصوصا الأوس والخزرج، ولم تزل على ذلك حتى خرج الرسول من المدينة عام الفتح وبعث عليا فهدم الحجر.
44
وكان للات حجر مربع أبيض في الطائف هدمه المغيرة بن شعبة.
45
وكان للأم الكبرى لآسيا الصغرى «سيبيل» حجر مقدس أسود في مقر عبادتها الرئيسي في فرجيا نقله الرومان إلى عاصمتهم في احتفال تاريخي مشهود، أرخ لانتقال عبادة سيبيل إلى روما. (وسوف يأتي حديث هذا الحجر بتفصيل أكثر في موضع لاحق). وعشتار الكنعانية كان لها حجر أبيض في بيبلوس ومثله في قبرص.
46
وقد يتحول شكل الكتلة الحجرية إلى عمود متطاول أو مخروطي، يظهر في النصب أو المنحوتات البارزة وقد علاه هلال.
القمر والصليب
شكل 3-12: عشتار في هيئة الصليب - نحت على جدار معبد في شتال حيوك.
يظهر رمز الصليب أكثر ارتباطا بالأم الكبرى في تجليها القمري. فخطا الصليب المتقاطعان ربما يرمزان إلى الامتداد اللانهائي للحضور الإلهي، وإلى شمولية الأم الكبرى. وإذا كان الصليب قد وجد مرسوما على جدران المعابد النيوليتية ومنقوشا على خزفيات تل حلف وسامراء، فإن الأم الكبرى نفسها قد نحتت وصورت في هيئة الصليب، كما هو الأمر في مستوطنة شتال حيوك التي صورت فيها الأم الكبرى بالطريقة الكلاسيكية المعروفة لذلك العصر، وبطريقة تبسيطية رمزية؛ ففي النوع الثاني يشكل جسم الإلهة خط الصليب العمودي، بينما ترسم الذراعان خطه الأفقي، أما الساقان فمبسوطتان على مدهما ومتقاطعتان مع الجسم الذي لا يظهر من تكوينه الواقعي سوى السرة (الشكل
3-12 ).
ومع مطلع عصور الكتابة يتابع الصليب اقترانه بالقمر؛ ففي أهرامات الجيزة عثر على أشكال زخرفية تمثل الأم الكبرى في هيئة الصليب الذي يعلوه الهلال، حيث استبدل الرأس بالهلال (الشكل
3-13 ). وهذه الأشكال استمرار للصلبان الزخرفية التي وجدت على جدران معابد شتال حيوك (الشكل
3-14 ). وفي بلاد الرافدين كانت شارة عشتار البابلية عبارة عن دائرة مكتملة يعلوها صليب. وهذه الشارة بالذات هي التي استعملها الفن الديني المصري للدلالة على الحياة الأبدية، والتي لا يخلو منها رسم أو تمثال. وفي جميع حضارات الشرق الأدنى والبحر المتوسط يقترن الصليب بالهلال، أو يستعمل كرمز تبادلي له؛ فقد يرتكز الهلال على قمة الصليب في النصب المقدسة والنقوش (الشكل
3-15 ). وقد نجد الصليب إلى جانب الهلال أو في وسطه (الشكل
3-16 ). هذا وقد استمدت الرموز المسيحية هذا التكوين؛ حيث نعثر على الهلال الذي يرتكز في وسطه عمود، أو صليب في بعض الكنائس اليونانية الأولى (الشكل
3-17 ).
شكل 3-13
شكل 3-14
شكل 3-15
شكل 3-16
شكل 3-17
لم يقتصر رمز الصليب على الحضارات القديمة، وبعض الديانات العالمية، بل نراه رمزا قائما لدى كثير من الديانات البدائية الحديثة؛ فالهنود الحمر في كاليفورنيا يمثلون الأم الكبرى، وقد امتدت أطرافها الأربعة على هيئة صليب. وتتخذ قبائل هندية أخرى الصليب كرمز للاتجاهات الأربعة وللرياح الأربعة، ويضع أفراد قبائل الماوري الصليب في أعناقهم كرمز للأم القمرية. وفي جزيرة إستير المهجورة في المحيط الهادي والتي لا تحتوي إلا على تماثيل ضخمة لم يعرف صانعوها، نجد الصليب محفورا في مواضع مختلفة من تلك التماثيل، وتسود لدى قبائل بدائية كثيرة عادة رسم الصليب على الأشجار لتحميهم من الأرواح الشريرة، كما يرفعون الصلبان في مكان تقديم ذبائحهم للقمر.
47
لقد رافق صليب الأم السورية الكبرى الإنسان منذ بدايات مغامرته الروحية الكبرى، وما زال قائما بيننا يؤكد وحدة التجربة الروحية للبشرية عبر العصور.
سيدة الموقف، سيدة الأقدار والمصائر
كانت حركة القمر الشهرية بالنسبة للإنسان القديم، هي المؤشر الرئيسي على مرور الزمن، فكان مرور الأيام يحسب بالليالي، ومرور الشهور يحسب بظهور القمر الجديد، وانقضاء العام يحسب بانقضاء اثني عشر قمرا متتاليا. ولم تكن حركة القمر هذه مجرد ساعة كونية ترصد الوقت؛ بل كانت بالفعل هي التي تصنع حركة الزمن؛ فالأم القمرية الكبرى هي التي ابتدأت زمن الكون المنظم بعد أن خرجت به من أزمان الهيولى الأولى، وهي سيدته القيمة على استمراره وتدفقه. ورغم غلبة الآلهة الشمسية على سيدة القمر القديمة، فإنهم لم يستطيعوا السيطرة على الزمن ولم يضعوا تقويمهم وسنتهم الشمسية إلا في وقت متأخر جدا من تاريخ الحضارة، حيث بقي التقويم القمري الأداة الوحيدة التي استخدمها الإنسان لحساب الوقت وترقب حركة الفصول. فها هو مردوخ بعد قتله الأم الكبرى في أسطورة التكوين البابلية، يؤكد سيطرته على القمر ويأمره أن يبقى مقياسا للوقت:
ثم أخرج القمر فسطع بنوره، وأوكله بالليل،
وجعله حلية له وزينة، وليعين الأيام:
أن اطلع كل شهر دون انقطاع مزينا بتاج،
وفي أول الشهر بقرنين يعينان ستة أيام،
وفي اليوم السابع يكتمل نصف تاجك،
وفي المنتصف من كل شهر ستغدو بدرا في كبد السماء.
48
لقد كان البابليون يمثلون شهور السنة القمرية بأبراج السماء الاثني عشر التي أسموها منازل القمر، كما أطلقوا اسم زنار السيدة عشتار على دائرة الأبراج التي يقطعها القمر أثناء عبوره في السماء. ومثلهم في ذلك كل شعوب الحضارات القديمة التي بقيت على تقويمها القمري، إلى أن تم اكتشاف التقويم الشمسي، فتحول البعض إليه وحافظ البعض الآخر على التقويم القمري حتى العصر الحديث، كالشعوب الإسلامية التي ارتبطت الشهور القمرية عندها بالعبادات والمناسبات الدينية؛ نقرأ في القرآن الكريم:
يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج (البقرة: 189)، كما نقرأ أيضا عن وظيفة القمر كمؤشر للوقت:
والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم (يس: 39) عن هذه الآية يقول تفسير ابن كثير: أي جعلناه يسير سيرا يستدل به على مضي الشهور.
وفي اللغات الحديثة نجد آثارا باقية من توقيت القمر، وحساب الأيام بالليالي؛ ففي اللغة الإنكليزية ما زالت (fortnight)
تستعمل للدلالة على أسبوعين. والكلمة اختصار ودمج لكلمتين هما (fourteen)
التي تعني أربعة عشر، و (night)
التي تعني ليلة. وفي كثير من التعابير ما زالت كلمة (moon)
أي قمر تستعمل للدلالة على الشهر؛ من ذلك مثلا كلمة (Honeymoon)
التي تترجم حرفيا إلى قمر العسل، ولكن المعني بها شهر العسل. وفي العربية ما زلنا نقول: سأقضي ليلتين في هذا المكان، بمعنى سأمكث يومين. فإذا عدنا إلى القواميس نستطلع أصل كلمة (الشهر) لوجدناه في ظهور القمر؛ فشهر الشيء إظهاره وإخراجه، وذلك كقولنا شهر سيفه؛ أي أخرجه من غمده، والشهرة هي وضوح الأمر. وفي القرآن الكريم نقرأ:
فمن شهد منكم الشهر فليصمه . إن الشهر كعدد من الأيام لا تمكن مشاهدته، وإنما يشاهد القمر عند ظهوره. وقد استعملت هذه الكلمة هنا بمعنى مزدوج للدلالة على القمر وعلى أيام الشهر القمري.
يستتبع سيطرة عشتار على الزمن، سيطرتها على الأقدار والمصائر والنهايات. في لحظة الميلاد يكتب للإنسان مسار حياته وتحدد ساعة فنائه، وفي نسيج الحياة تغرس الخالقة خيط الموت. في بداية الأزمان ظهرت المادة البدئية، ومن هذه المادة الخام انبثقت مظاهر الكون من الأدنى إلى الأعلى، ومن البسيط إلى المركب نسجت الأم الكبرى مادة الكون في رحمها بإحكام وأطلقتها إلى خارج. ثم تابعت في رحمها الأرضي المظلم وفي رحم وكيلاتها النساء، حبك نسيج التعضي الحي وإظهاره مكتملا. ولكن خيط الحياة مجدول بخيط الموت، وبداية الأشياء تقود إلى نهايتها، وناسجة الحياة هي ناسجة المصائر والنهايات. إن تيار الحياة الدائم الجريان، أشبه بنهر متدفق محكوم بحركته الداخلية التي تحمل مياهه من نبعه إلى مصبه، حيث يتلاشى في خضم المحيط الواسع عائدا إلى رحم المياه البدئية الأولى.
لهذا كانت عشتار، في ميثولوجيا معظم الحضارات، تحمل ألواح الأقدار، وهي الألواح المحفوظة التي نقشت عليها مصائر الأشياء والأحياء، والتي اغتصبها الإله الذكر بعد إنزاله الأم الكبرى عن عرشها السماوي. نقرأ في ملحمة التكوين البابلية، في مشهد استعداد الأم تعامة للقاء مردوخ في ساح المعركة:
ومن الجيل الأول للآلهة في مجلسها،
اختارت كينغو، وجعلته عليا وعظيما،
وضعته أمام جيشها قائدا،
فيشهر السلاح للمعركة ويبدأ الصراع.
ثم أسلمت إليه ألواح الأقدار وزينت بها صدره قائلة:
سيكون أمرك نافذا وكلمتك ماضية.
ولكن النصر يكون أخيرا لمردوخ الذكر، الذي يصرع تعامة في مجابهة ثنائية، ثم ينثني على جيشها فيشتت شمله ويقبض على قائده فيسلبه ألواح الأقدار التي أودعتها الأم بين يديه.
أما كينغو الذي وضع رئيسا عليهم،
فقد كبله وأسلمه إلى إله الموت.
جرده من ألواح الأقدار التي حازها دون حق،
فمهرها بخاتمه وزين بها صدره،
ثم عاد إلى تعامة المقهورة.
وقف على جزئها الخلفي،
وبهراوته العتية فصل رأسها،
وقطع شرايين دمائها،
التي بعثرتها ريح الشمال إلى الأماكن المجهولة.
49
وها هي «إنانا» تشد إلى وسطها ألواح الأقدار قبل أن تهبط إلى العالم الأسفل:
شدت إلى وسطها لوحات الأقدار السبع،
وبقية الأقدار المقدسة جعلتها إلى يدها.
وعندما تبدأ بهبوط درجات العالم الأسفل، وتخلع عند كل درجة جزءا من ثيابها وزينتها. لا يورد النص ذكرا لألواح الأقدار، ولا يشير إلى قيام عشتار بخلعها والتخلي عنها. وفي هذا دلالة على أن ألواح الأقدار ليست ألواحا مادية يمكن حملها باليد أو شدها إلى الوسط فعلا، بل هي رمز إلى خصيصة من خصائص الأم الكبرى، كسيدة للمصائر.
وتشير بعض أسماء الأم الكبرى إلى علاقتها بالقدر والمصير، فلقد رأينا أن الأم الكبرى لجزيرة العرب قد عرفت بأسماء ثلاثة هي اللات والعزى ومناة. عن هذه الأسماء ومعانيها نقرأ في القواميس العربية: إن اسم اللات هو مؤنث لفظ الجلالة الله، والعزى من العزيز،
50
أما مناة فالاسم مشتق من المنية. وقد استعمل العرب كلمة المنية بمعنى الموت، ولكنها في الحقيقة لا تعني الموت بحد ذاته، بل صفة له باعتباره أمرا مقدرا لا مهرب منه.
51
هذه السيطرة على المصائر والأقدار، قد أعطت الأم الكبرى في جميع الحضارات اسم «النساجة»، وأيضا «الغزالة»، فهي التي تحيك نسيج الحياة، وتغزل خيط القدر. وهي إذ تحضر إلى سرير الميلاد كربة للولادة، فإنها في نفس الوقت تحضر كسيدة للمصير، وتكتب لكل مولود أقداره. ولا يقتصر دورها على قيادة مصائر البشر، بل هي التي تغزل أيضا خيط أقدار الكون برمته. وقد مثل الفكر الأسطوري هذا الجانب من جوانب الأم القمرية بربات ثلاث: هن ربات القدر، يظهرن في فن بلاد الرافدين واقفات على تيس ذي قرنين كبيرين، وفوقهن يتوسط الهلال المشهد. وفي الثقافة الإغريقية يظهرن تحت اسم «الموريا» ربات القدر الثلاث المولودات من الليل البدئي، اللواتي يحلقن فوق آلهة الأوليمب. وتبدو أفروديت نفسها في بعض أشكالها ككبرى الموريا الثلاث.
52
والسيدة مريم العذراء تصور في كثير من الأيقونات البيزنطية التي تعالج قصة البشارة، وقد أمسكت بيدها خيطا يمر من وسط جسدها ملفوفا على مغزل، وموضوع البشارة من أحب الموضوعات الدينية إلى قلب صانعي الأيقونات البيزنطية وأكثرها انتشارا؛ نظرا لأهمية سر التجسد في المعتقد المسيحي ونتائجه الخلاصية. ويورد لنا دليل التصوير الأثوسي التقنية التي يترتب على الرسام اتباعها في رسم هذه الأيقونة: «تمثل العذراء جالسة على عرش مواجهة الملاك، أو مديرة ظهرها قليلا ناظرة إليه أو خافضة عينيها تتأمل. تمسك بيدها اليسرى الموضوعة على ركبتها خيط حرير أحمر ملفوفا على مغزل، يمر بين سبابة وإبهام يدها اليمنى الموضوعة على صدرها، وفي أعلى الأيقونة دائرة داكنة تحوم وسطها حمامة بيضاء رمز الروح القدس، وتنحدر منها ثلاثة شعاعات نور على البتول القديسة.»
53
وفي بعض لوحات عصر النهضة، تظهر بوضوح علاقة الخيط الذي تغزله العذراء بخيط القدر؛ ففي إحدى هذه اللوحات وهي من ألمانيا القرن الرابع عشر، تظهر السيدة جالسة إلى مغزل وقد أمسكت بيديها خيطه الذي يتقاطع عند سرتها مع دائرة تحتوي الجنين الإلهي.
تستمر الأسطورة دائما حية في الخيال الشعبي بعد زوال تأثيرها الديني والروحي، من خلال الحكايا الفلكلورية وحكايات الأطفال. فبعد تفكك الأسطورة العشتارية، لم يبق من الأم الكبرى سوى جانبها السالب المعتم الذي ما فتئت الأسطورة الذكرية تكرسه وتفرزه عن بقية الوجوه العشتارية، حتى لم يبق من عشتار سوى جنية الظلام، والغولة والنهالة، والساحرة العجوز. وقد استمر مغزل عشتار متداولا إلى يومنا هذا في حكايات الساحرات الشريرات اللواتي يغزلن به دوما المصائر السوداء. وفي إحدى قصص الأطفال المتداولة حاليا في بلادنا، والمستمدة من الفولكلور الأوروبي، يرزق أحد الملوك بابنة جميلة بعد عقم طويل فيقيم احتفالا كبيرا يدعو إليه نبلاء الدولة وأعيانها. وكان في البلاد اثنتا عشرة ساحرة، كلهن طيبات إلا واحدة كان همها الأذى وتدبير الشر. دعا الملك الساحرات الطيبات إلى الحفل، وأخذت كل واحدة منهن تهب الفتاة نعمة من النعم، فأعطتها إحداهن الجمال والأخرى الصحة ، والثالثة الخلق الحسن ... وهكذا حتى انتهين. عند ذلك هبت على المكان عاصفة قوية، ودخلت الساحرة الشريرة العجوز، فوقفت عند سرير الطفلة مقدمة بدورها هديتها، فقدرت على الفتاة أن تموت بوخزة من إبرة المغزل. أمر الملك بإحراق كل المغازل في الدولة لكيلا تتحقق النبوءة. ولكن الساحرة استطاعت بمكرها وبعد سنوات من الدأب، أن تضع في طريق الصبية مغزلا فأمسكت به وماتت.
إن حضور الساحرات الاثنتي عشرة إلى سرير الميلاد في هذه الحكاية، هو تكرار للحضور العشتاري القديم في لحظة الميلاد كربة للولادة وسيدة للمصير. وما نطقت به الساحرة الشريرة، ليس في الواقع إلا تكملة طبيعية لما نطقت به الساحرات الطيبات. هن رسمن مسار حياتها الأبيض، وعين لها الصفات والخصائص الطبيعية المولودة معها، وهي غرزت خيط مغزل القدر في نسيج الحياة، ورسمت مصيرها الأسود، مصير كل كائن حي. أما حصر عدد الساحرات باثنتي عشرة، فلأن هذا الرقم بالتحديد يمثل الزمن الذي يحمل في طياته وجريانه المصير. إنه عدد شهور السنة، وهو المثلث القمري مضروبا في أربعة، وعدد شهور الفصل الواحد مضروبا بعدد فصول السنة.
عشتار، كوكب الزهرة
توجت الثقافة الذكرية انتصارها بإجلاء عشتار عن القمر، وإعطائها كوكب الزهرة، ثالث الأجرام المنيرة في السماء. وصار القمر تجسيدا لإله مذكر هو الإله «سن» في بلاد الرافدين وأشباهه في الثقافات الأخرى. وفي الثقافات التي بقي القمر فيها تجسيدا لإلهة أنثى، فإن مكانته في العبادات والأساطير قد أنزلت إلى المرتبة الثانية. وبقيت إلهته ثانوية كما هو الأمر في الثقافة الإغريقية التي تركت في القمر وجها عشتاريا باهتا هو الإلهة «سيلين». أطلق البابليون اسم «عشتار» على كوكب الزهرة، ولم يكن يعرف إلا بهذا الاسم. والكنعانيون أطلقوا عليه اسم «عشتارت»، واليونانيون «أفروديت»، والرومان «فينوس»، وأفروديت «أو فينوس» ليست في الحقيقة سوى عشتار الكنعانية التي جاءت إلى قبرص مع الفينيقيين إبان سيادتهم على البحر المتوسط. ويجمع دارسو الميثولوجيا الإغريقية
54
على أن اسم أفروديت يرجع إلى أصول سورية، وأن عبادتها انتقلت من قبرص إلى سائر أنحاء بلاد اليونان والرومان، وأنها كانت في الأصل إلهة الخصب والأرض والطبيعة بكل مظاهرها، ثم اقتصرت وظيفتها على الحب بشتى أنواعه. تحكي الأسطورة مولد أفروديت الكثيرة الزخارف ، عن أصلها القبرصي، فتقول: إن الإله «كرونوس» قد تمرد على أبيه «أورانوس» وقام بمساعدة أمه «جايا» بإخصاء الأب، ورمى بأعضائه التناسلية في البحر، فأخصبت الماء المالح مكونة زبدا أبيض انبثقت منه أفروديت، التي خرجت إلى شاطئ قبرص في أبهى شكل أنثوي وقع عليه بصر إنسان أو إله من قبل.
وعند العرب ارتبط كوكب الزهرة بالأم الكبرى، وكانوا يعبدونه لدى ظهوره ويسمونه «العزى». كما كانوا يتفاءلون لرؤيته ويعتقدون بقدرته على جلب الحظ وإشاعة السرور والسعادة. ونسبوا إليه دوافع العشق والجنس عند البشر، وأسموه كوكب الحسن.
55
وتروي أساطير المنطقة في الفترات المتأخرة، أن كوكب الزهرة كان امرأة جميلة فاتنة تعيش على الأرض، قبل أن تصعد إلى الأجواء العليا وتتحول إلى ذلك الكوكب الأحمر البراق؛ من ذلك مثلا ما نقرؤه في تفسير الطبري
56
عن الملكين هاروت وماروت. ورغم أن القرآن الكريم قد أورد اسم الملكين دون الإشارة إلى أية قصة تتعلق بهما، فإن خيال المفسر قد استمد قصصا كانت شائعة ومتداولة في ذلك العصر، وتعود في أصولها إلى أساطير قديمة؛ فالملائكة، كما أورد الطبري، قد أخذت تشكو فجور البشر وضلالهم بعد آدم، فأراد الله ابتلاء الملائكة فأرسل ملكين من أكثرهم نقاوة، هما هاروت وماروت، وأنزلهما إلى الأرض ليأمرا بالمعروف وينهيا عن المنكر. ولكن امرأة فائقة الحسن والجمال عرضت لهما، فأقبلا عليها وراوداها عن نفسها، فأبت واشترطت عليهما الخروج عن دينهما وعبادة الأوثان فامتنعا. ثم أتياها ثانية فتمنعت واشترطت عليهما ارتكاب إحدى معاص ثلاث: فإما عبادة الأوثان، أو قتل النفس، أو شرب الخمر؛ فاختارا شرب الخمر، فسقتهما حتى لعب برأسيهما فواقعاها! هنا مر بهما رجل فخافا افتضاح أمرهما فقتلاه. ثم إنهما أرادا العودة إلى السماء فما استطاعا، فطلبت منهما المرأة تعليمها الكلام الذي يصعدان به إلى السماء ففعلا، فعرجت ولكنها بقيت معلقة هناك على هيئة كوكب الزهرة. وكما نستطيع أن نلاحظ بسهولة ، فإن شخصية المرأة في الرواية تحتوي على آثار دراسة من بعض جوانب شخصية الإلهة عشتار كإلهة للحب والجنس وككوكب الزهرة.
والأدعية المريمية حافلة بأوصاف السيدة العذراء باعتبارها النجمة، ونجمة البحر، ونجمة الصبح.
57
نقرأ في صلاة للقديس برنردوس بعنوان يا نجمة الصبح: «إن ثارت عليكم رياح التجارب، أو صدمتكم المحن؛ فالتفوا إلى النجمة وادعوا مريم. وإن أحاقت بسفينتكم القلقة أمواج الغيظ أو البخل أو الشهوة، فارفعوا النظر إلى مريم.»
58
لقد لفت نظر الكنعانيين تحول عشتار من نجمة للمساء، تظهر عند مغيب الشمس، إلى نجمة للصبح تسطع بنورها الأحمر قبل طلوع الشمس، فكان ظهورها الصباحي بشارة الميلاد وتجدد الحياة. لذلك كانوا يحتفلون ببعث الإله أدونيس ابن الأم الكنعانية وحبيبها، في اليوم الأول الذي تظهر فيه عشتار كنجمة للصبح في الربيع، وكان ظهورها بشارة بإسراعها لإيقاظ الإله الميت ورفعه من العالم الأسفل.
59
وقد ظهرت هذه النجمة مرة أخرى، وفي نفس الأماكن التي كانت تحتفل بميلاد أدونيس، لتبشر بميلاد السيد المسيح؛ نقرأ في العهد الجديد: «ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في أيام هيرودوس الملك؛ إذ مجوس من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم قائلين: أين هو المولود ملك اليهود؟ فإننا رأينا نجمه في الشرق وأتينا لنسجد له. فلما سمع هيرودوس الملك، اضطرب وجميع أورشليم معه، فجمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب وسألهم: أين يولد المسيح؟ فقالوا في بيت لحم اليهودية؛ لأنه هكذا مكتوب ... حينئذ دعا هيرودوس المجوس سرا وتحقق من زمان النجم الذي ظهر. ثم أرسلهم إلى بيت لحم وقال: اذهبوا وافحصوا بالتدقيق عن الصبي ومتى وجدتموه فأخبروني لكي آتي وأسجد له أيضا. فلما سمعوا من الملك ذهبوا، وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدمهم حتى جاء ووقف فوق حيث كان الصبي، فلما رأوا النجم فرحوا فرحا عظيما وأتوا إلى البيت، ورأوا الصبي مع أمه مريم فخروا وسجدوا له.»
60
لقد كانت بلدة بيت لحم من المراكز الهامة لعبادة أدونيس،
61
وفوق المغارة التي ولد فيها المسيح قام الإمبراطور أدريان بوضع تمثال للإله أدونيس ليمحو ذكر المسيح،
62
ولذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن يظهر في السماء كوكب الأم الكبرى ليرعى الميلادين.
الأم القمرية، أم واحدة
لم يتم بالفعل تحطيم صورة الأم الكبرى وتشتيتها إلى صور مختلفة تحت أسماء متعددة، إلا على النطاق الديني الرسمي؛ لأن صورتها الأولى كأم واحدة للكون والبشر قد استمرت في الضمير الشعبي، واستمرت معتقداتها وطقوسها وعباداتها قائمة إلى جانب العبادات الرسمية. ثم تحولت في الفترات المتأخرة إلى عبادات سرية تمارس في الخفاء، كما سنشرح ذلك مفصلا في فصل لاحق مستقل. وها هو الكاتب الروماني «أبوليوس» الذي دخل في ديانة إيزيس بعد شيوعها في الإمبراطورية الرومانية، وصار أحد كهنتها سنة 200 بعد الميلاد، يعلن في كتابه الكلاسيكي المشهور
The Golden Ass
وحدة التجليات العشتارية جميعا في الأم القمرية الكبرى، الذات الإلهية الواحدة التي تختصر كل الآلهة والإلهات. وفي النص الذي سأنقله فيما يأتي: تظهر عشتار بكل أبهتها وعظمتها للنبيل «لوكيوس» تلبية لدعواته وصلواته، وترفع عنه لعنة السحر الذي حوله إلى حمار سنوات طويلة: «لم يمض وقت طويل، حتى هزني خوف مفاجئ، فتحت عيني ورأيت قمرا بدرا متألقا يطلع من البحر، في هذه الأوقات السحرية تستكمل إلهة القمر، السيدة الوحيدة للجنس البشري قوتها وجلالها. إنها الإلهة المشعشعة التي تسند بقواها المقدسة كل الموجودات الحية والجمادات، التي يحكم مدها وجزرها إيقاع الحياة في كل الأجسام، سواء في الأرض أم في الهواء، أم تحت البحار. كنت أعلم ذلك كله، ولذا فقد انتويت أن ألجأ إلى تجلي الإلهة المرئي، فلعل إلهة الحظ قد قررت أخيرا أنني عانيت من الآلام ما يكفي، وأن فرصتي للخلاص قد لاحت. قفزت من مكاني ونزلت إلى البحر حيث تطهرت سبع مرات، ثم توجهت إلى الإلهة بهذه الصلاة وكلي أمل وفرح، ودموعي تغمر وجهي: «يا ملكة السماء المباركة، بأي اسم تحبين أن أدعوك؟ هل أدعوك «سيريس» أم المحاصيل التي لعثورها على ابنتها «بيرسفوني» أعطت الناس قمحا وخبزا بعد أن كانوا يلتقطون جذور البلوط البسيط طعاما؟ هل أدعوك «فينوس» النورانية، التي منذ بدء الخليقة جمعت بين الذكر والأنثى برباط الجنس والحب؛ فقدرت بذلك استمرار نسل البشر إلى الأبد؟ هل أدعوك «أرتميس» أخت أبولو المنير، مخففة آلام النساء عند المخاض؟ هل أدعوك «بيرسفوني» المخيفة التي يصرخ إليها البوم في المساء، ذات الوجه الثلاثي الذي يرعب الأشباح ويتركهم تحت الأرض؟ أي إلهتي، يا من ترتعين في غاباتك المقدسة، ويتعبدك الناس بطقوس مختلفة متنوعة، يا من ترسلين ضوءك الأنثوي فينير جدران كل مدينة، وشعاعك الرقيق فيغذي البذور تحت التربة، يا من تحكمين مسار الشمس وقوة شعاعها، أتضرع إليك بأي اسم وبأي وجه أو هيئة، وبأية طقوس، رأفة بي وبيأسي، أنعشي آمالي المحطمة وهبيني أمنا وسلاما بعد طول العذاب، أو فهبيني نعمة الموت».»
عندما أنهيت صلاتي وأفرغت ما في صدري المثقل، عدت إلى مكاني حيث عاودني النعاس، وقبل أن أغلق أجفاني، بدأ خيال امرأة يطلع من وسط البحر. كان لها وجه لو رآه معي جميع الآلهة لسجدوا تعبدا لجماله. طلع رأسها أولا، ثم أخذ جسدها اللألاء يظهر تدريجيا حتى انتصبت أمامي بتمامها فوق سطح الماء. إن الكلام البشري ليعجز عن وصف ما رأيت. ولكن لعل الآلهة نفسها تسعف خيالي بنفخة شعرية تكفي لإعطاء ومضة مما شهدت عيناي.
كان شعرها الطويل الغزير ينسدل جدائل مستدقة الأطراف على عنقها الجميل، فوقه إكليل شبكت إليه كل أنواع الورود، وحول الرأس قرص نوراني يسطع كمرآة أو كوجه القمر البهي؛ مما أنبأني عن حقيقتها. وكان أفعوانان ينتصبان من يديها اليمنى واليسرى ليسندا ذلك القرص. على جانبهما تنطلق سنابل القمح، أما ثوبها فمن قطن متعدد الألوان؛ بين أبيض ناصع وزعفراني وأحمر متقد، مزينة حواشيه بأصناف الزهور والفاكهة، تتعلق به وتتأرجح مهتزة مع النسيم، فوق الثوب عباءة ذات سواد لماع، تتقاطع مع جسدها من الورك الأيمن إلى الكتف الأيسر، ذات طيات كثيرة، مطرزة بالنجوم عند الأطراف، وفي الوسط منها يشرق قمر ناري ملتهب، وفي قدميها نعل من ورق النخيل. ابتدأت الإلهة كلامها إلي، ففاحت كل عطور الجزيرة العربية وملأت الجو، قالت: أنا الطبيعة، الأم الكونية وسيدة الموجودات جميعا، ابنة الزمن البدئي وربة كل شيء حي، ملكة الأموات، وملكة أهل الخلود. أنا التجلي الأوحد لكل الآلهة والإلهات، حاكمة السماوات العليا وبحار الأرض، والعالم الأسفل. يعبدني الجميع في وجوه متعددة وتحت أسماء كثيرة، ويتقربون إلي بطقوس مختلفة في جميع أرجاء الأرض. يطلق علي الفريجيون اسم «بيسنيوتيكا» أم الآلهة، والأثينيون «أرتميس». في قبرص أنا «أفروديت»، وفي كريت «ديكتينا»، وفي صقلية «بيرسفوني»، وفي إيلوسيس الإغريق أنا «أم القمح». البعض يدعونني «جونو» والبعض «بيلونا» سيدة المعارك، والبعض «هيقات»، والبعض «هارمونيا». أما الأثيوبيون الذين تشرق الشمس من أرضهم، والمصريون المتفوقون في الحكمة القديمة، فيدعونني باسمي الحقيقي: الملكة «إيزيس»، ويعبدونني بالطقوس اللائقة بي.»
63
الفصل الرابع
عشتار الخضراء
وقف إنسان الكهف سنين طويلة يرقب بوجل، في الليالي العاصفة المدلهمة، ألسنة النيران المتصاعدة من الأشجار التي تضربها الصواعق. لقد رأى في النار قوة إلهية غامضة تنبعث من داخل الشجر، ورأى في لونها القمر المشع نفسه، فكانت النار بالنسبة إليه قبسا من قوة القمر، أودع في الحياة النباتية، به يعيش العشب والشجر، فإذا استلب منه زال وناله الفناء متحولا إلى رماد. ثم تعلم بعد ذلك كيف يستثير تلك القوة من مكمنها، عن طريق دلك غصنين جافين دلكا دءوبا يؤدي إلى انطلاق القوة القمرية الهاجعة فيهما؛ لتعطيه دفئا ونورا بعد أن أعطته ثمرا ... عطية أخرى من عطايا الأم القمرية. وقد استمر أسلوب استثارة النار بالدلك قائما ألوف السنين، ومنه استمد رمز الصليب العشتاري، ربما، أول دلالاته. فالصليب هو ذانك الغصنان الأولان اللذان أطلقا النار لأول مرة، وهو بذلك رمز للقوة الإخصابية الكونية في تصورها الأولي.
تعبر الأعمال التشكيلية عن هذا المعتقد بأبلغ ما يمكن لأي كلام أن يفعل، كما هو الحال في الشكل رقم (
4-1 )، وهو من كريت، المكان التقليدي لعبادة الأم الكبرى وابنها الثور؛ حيث كانت تلقب ب «تلك التي تشع على الجميع» و«السيدة الندية»، وحيث كانت طقوس الندى المخصب تقام لها في كل الهياكل.
1
في هذا الشكل، نجد كاهنة تتعبد أمام مذبح فوقه شجرة زيتون مورقة ، وتحت الشجرة يشرق القمر الهلال، روح الإخصاب التي تمد النبات بقدرة الحياة. فالحياة النباتية، وفق المعتقد العشتاري، لم تظهر بأمر سماوي أعطاها الدفعة الأولى، بل هي قائمة بنسمة من روح الأم القمرية الكبرى، تسكن فيها وتعطيها استمرارها في كل لحظة. والشجرة الدانية القطوف ليست سوى يد عشتار التي تمدها مليئة بخيرات الأرض، مثبتة أمومتها للبشر. وذلك على عكس المعتقدات الذكرية التي تنظر إلى الحياة النباتية، كظاهرة خاضعة للفعل الإلهي المفارق، شأنها في ذلك شأن بقية ظواهر الكون. نقرأ في كتاب التوراة: «وقال الرب: لتنبت الأرض عشبا وبقلا يبزر بزرا وشجرا ذا ثمر ... وكان ذلك.»
2
شكل 4-1: كريت، أواخر الألف الثاني ق.م.
لم تعبد عشتار كروح للخصوبة وربة للحياة النباتية فقط مع اكتشاف الزراعة. فمن زمن بعيد راقب الإنسان التبدلات التي تطرأ على وجه الأرض خلال الفصول، وظهور النبات وخضرة الأشجار في الربيع ثم اختفاءها في الخريف. ولما كان يعتمد في جزء من حياته على التقاط الثمار والنقب عن الجذور، وفي جزئها الآخر على حيوانات الصيد التي تأكل من الأعشاب؛ فقد كان ينظر بقلق إلى جفاف الأرض وغياب مظاهر الخضرة في البراري والغابات، ويلبث طيلة فترة الشتاء ينتظر بفارغ صبر عودة روح الإنبات إلى الظهور، ويقيم الطقوس التي تعينها على ذلك. لم يكن هذا التناوب الدوري مفهوما لديه، فربطه بحركة قوة ماورائية.
إن موت النباتات في الخريف وحياتها في الربيع هو غياب «عشتار» روح الخصوبة الكونية، وعودتها حية قوة متجددة، والاحتجاب الشهري للأم القمرية هو الآن احتجاب سنوي لأم الخصوبة وروح الإنبات. في الخريف تهبط عشتار إلى العالم الأسفل لترقد هناك طيلة فصل الشتاء، ومع الربيع تنتفض من مرقدها ملونة وجه البسيطة بكل أخضر بهيج. هذا التصور الأسطوري البدئي قد نضج وأخذ كامل أبعاده مع اكتشاف الزراعة واعتماد الإنسان في غذائه بشكل أساسي على القمح والحبوب الأخرى، فاكتملت أسطورة هبوط الأم الكبرى إلى العالم الأسفل، وأخذت صيغتها النيوليتية التي نستطيع تلمس آثارها ومعالمها الرئيسية في أساطير عصر الكتابة. وإن بعض الأعمال الفنية التشكيلية اللاحقة لتعطينا صورة حية نابضة عن هذه الأسطورة الزراعية الأولى في شكلها الأصلي، رغم بعد العهد وتكاثف الحجب. ففي الشكل (
4-2 ) وهو رسم على الخزف من فترة نضج الثقافة الإغريقية، نجد عشتار كروح للخصوبة والإنبات تبعث من الأرض في فصل الربيع داخل أكمة صغيرة أشبه بالقبر، ومعها تصحو الأشجار والأغصان المزهرة والأوراق الخضر. وحول الإلهة عدد من أنصاف الآلهة يبتهجون لرجوعها.
شكل 4-2: بعث عشتار - رسم على الخزف، بلاد الإغريق.
تحولت عشتار الصيد والالتقاط والحياة البرية، إلى عشتار العصر النيوليتي، عصر الزراعة والإنتاج المنظم للغذاء، ولكن دون أن تفقد خصائصها القديمة، فصارت إلهة الطبيعة بنوعيها؛ الطبيعة البكر بغاباتها العذراء وبراريها الوحشية وقطعانها البرية، والطبيعة المدجنة بحقولها المحروثة ونتاجها المنظم وحيوانها الأليف، روح الغاب وروح القمح والحبوب. إلا أن هذه الصورة الواحدة قد فقدت تماسكها تدريجيا وانفصمت إلى صورتين: عشتار البراري القديمة ونموذجها أرتميس اليونانية وديانا الرومانية، وعشتار الزراعية ونموذجها عشتار البابلية وديمتر اليونانية.
روح الغاب
إن ستارا كثيفا يحول بيننا وبين عشتار النبع الصافي، حيث كانت تستحم وحيدة في بحيرتها وسط الأدغال محاطة بحورياتها العذراوات، أو تجري في البراري الوحشية على جناح الريح، فيسمع لخطوها فوق الأعشاب الطويلة وسيقان القمح البري وقع خفيف، أو تهدأ في محرابها القائم وسط الأحراش، قبل أن تقام لها المعابد في المدن الكبيرة، وقبل أن يشاركها السلطان ذكور الآلهة. بيد أننا نستطيع اقتفاء آثارها، والبحث عن ملامحها في بعض إلهات الثقافة الذكرية اللواتي حافظن على شيء من صفاء الصورة الأولى. تقدم لنا الإلهة اليونانية «أرتميس» نموذجا حيا عن الأم الكبرى لعصر الصيد والالتقاط، والعصر الذي تلاه وتعايش معه ردحا؛ وأعني به عصر الاستقرار قرب حقول الحبوب البرية، حيث كان الإنسان يحصد ما تجود به الطبيعة دون أن يعرف كيف يعيد إنتاجه.
كانت أرتميس في الثقافة اليونانية ربة الغابات والبحيرات والينابيع والنباتات البرية والحيوانات الطليقة وربة للصيد، تمثلها الأعمال الفنية على هيئة امرأة شابة رشيقة القوام خفيفة الحركة، قاسية الملامح، لا تعرف الابتسام رغم جمالها الفائق ، ترتدي التنورة القصيرة التي كشف عن ركبتيها وتمسك بيدها القوس وتضع على كفتها جعبة السهام، وفي قدميها صندل الصيادين، يرافقها في حلها وترحالها كلابها المتوحشة، ويشب عن يمينها ويسارها الأيائل والغزلان. لا تقام لها المعابد في المدن والأماكن المأهولة، بل في الأحراش حيث تتلقى قرابين عبادها من بكور مواشيهم وبواكير ثمار شجرهم. ومن بعض الأساطير المتأخرة، نستنتج أن القرابين في الماضي كانت تتضمن أيضا أضاحي؛ ففي إلياذة هوميروس، تجعل أرتميس الرياح ساكنة أمام سفن اليونان فلا يستطيعون تقدما حتى يذبح آغاممنون ابنته أفيجينيا قربانا لها. من ألقابها «العذراء» لم تتزوج طيلة حياتها ولم تعرف رجلا. ولم تكن تقبل في خدمتها سوى الفتيات العذراوات اللواتي كن يقمن دوما على حراسة النار المقدسة، وإبقاء شعلتها حية في هياكلها. وكان على هؤلاء الإبقاء على بكارتهن طيلة الحياة، وإلا تعرضن لانتقام الإلهة الرهيب. تروي الأساطير أنها قد وقعت في الحب مرة واحدة، ولكنها قتلت من أحبته خطأ، عندما طلب منها أخوها «أبولو» أن تصوب سهمها نحو نقطة تتحرك في البعيد، ليمتحن دقة رمايتها، وهو عارف بأن تلك النقطة المتحركة لم تكن سوى الرجل الذي أحبت، فكان أن قتلته. وكربة لخصوبة الطبيعة البكر، كانت أرتميس أيضا ربة لخصوبة النساء وإلهة الولادة والأمومة، تستغيث بها الحاملات ساعة الوضع، لتكون حاضرة أمام سرير الميلاد.
3
ولهذا تصورها بعض الأعمال الفنية أحيانا على عكس صورتها الشائعة، ممتلئة الجسم، يبرز من صدرها عشرات الأثداء، وتزين جيدها وثوبها الطويل برءوس حيوانات الغاب المختلفة (الشكل
2-15 ، فصل الأم الكبرى).
هذا وتقدم لنا «ديانا»، روح الغاب عند الرومان، مثالا آخر. فهي إلهة للغاب والبراري الوحشية وحيوان الصيد؛ أقيم هيكلها الرئيسي في غابة «نيمي» تحت أقدام جبال ألبان على شاطئ بحيرة كبيرة تسمى «مرآة ديانا». وما زالت الغابة وبحيراتها قائمة إلى يومنا هذا بكل جمال صورتها السابقة عندما كانت مرتعا للإلهة. وديانا الرومانية، كزميلتها الإغريقية، كانت عذراء، وكانت النار المقدسة في هيكلها مشتعلة ليلا نهارا، تحرسها عذراوات النار المنذورات، كما كانت ربة للولادة تخفف آلام الحاملات عند الوضع. وفي وسط غابة «نيمي» كان هناك شجرة كبيرة وارفة، اعتقد عباد ديانا بأنها تجسيد للإلهة نفسها.
4
هذه العذراء المتوحدة الجميلة الصارمة، هي التي عبدها النساء الأمازونيات؛ لأنها تمثل صورة الأم الكبرى للعصر الأمومي القديم، عندما كانت عشتار ولا أحد معها، بلا زوج، أو ولد، تحكم وحيدة في مركز الطبيعة الخصبة البكر، وحولها كاهناتها العذراوات، اللواتي ما زلن يعشن بين ظهرانينا اليوم في ثياب راهبات السيدة مريم العذراء.
شجرة الحياة
عبد الإنسان الأول روح الغاب ممثلة في الشجرة، ولم تكن عبادته موجهة نحو الشجرة بذاتها؛ بل نحو الروح الكامنة فيها. ثم بدأت عشتار تخرج من الشجرة في شكلها الإنساني الجميل، فحفرت على الجذع وصارت تعبد شجرة وشكلا إنسانيا مصورا، ثم غادرت الشجرة تاركة محراب الغابة الصغير، وحلت في التماثيل الرخامية التي تتصدر معابد المدن الضخمة. ولكن الشجرة لم تفارقها تماما، بل بقيت رفيقتها في كثير من الأعمال الفنية التشكيلية. ففي بلاد الرافدين، تظهر الشجرة مرارا خلف عشتار بشكل يوحي للناظر بالوحدة بين الشكلين وإشارتهما تبادليا للقدرة الإلهية الواحدة. وفي الشكل رقم
4-3
مثال على ذلك. نرى في الرسم عشتار جالسة وعلى رأسها تاج على هيئة قرنين، من خلفها تنتصب شجرة، وفي حضنها تموز الوليد الذي يبدو منطلقا من حجرها إلى الأمام، وكأنه قد انبثق من جذع الشجرة ورحم الأم الكبرى في آن معا. وتؤيد الأسطورة السورية
5
هذا المعنى الكامن في الصورة عندما تقول إن الإله أدونيس قد ولد من شجرة المر التي حملته في جذعها عشرة أشهر، قبل أن تنشق قشورها وتسمح للإله الوليد بالخروج. وقد قامت الأسطورة اليونانية بزخرفة هذه الأسطورة القديمة على طريقتها فقالت إن شجرة المر كانت فتاة جميلة وابنة لملك قبرص، حملت من أبيها سفاحا ثم تحولت إلى شجرة نما في داخلها الإله.
6
هذه الشجرة أم الإله ليست في الحقيقة إلا عشتار نفسها التي عبدها الإنسان القديم في هيئة الشجرة الممثلة لروح الغاب.
وفي الفن الكريتي، والفن الإغريقي القديم إبان مرحلة تأثره بالميثولوجيا الكريتية الأمومية ، نجد الشجرة مرافقة للأم الكبرى في كثير من الرسوم والنقوش؛ ففي الشكل
4-4
نجد عشتار جالسة كجلستها في الشكل البابلي، وراءها شجرة تنوء بثمارها التي تمتد إليها يد فتاة بالقطاف، وفي يدها غصن من الخشخاش، وأمامها عدد من الكاهنات في أيديهن تقدمات من أغصان مورقة ومزهرة. وفي وسط الشكل، الفأس المزدوج رمز الرعد والبرق والصاعقة، وفي أعلاه حزام المجرة والقمر والشمس.
شكل 4-3: عشار والشجرة وابنهما تموز - ختم بابلي.
وقد عبدت الأم الكبرى في جزيرة العرب مجسدة بالشجرة. يحدثنا ابن هشام في روايته للسيرة النبوية أن عرب نجران كانوا يعبدون نخلة طويلة يأتونها كل سنة في يوم معين، فيعلقون عليها الثياب والحلي النسائية ويعكفون عليها طيلة يومهم. وأن أهل قريش كل لهم شجرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط، يأتونها كل سنة، فيعلقون عليها أسلحتهم ويعكفون عليها يوما. وفي رواية عن ابن الحارث بن مالك الليثي: «خرجنا مع الرسول إلى حنين ونحن حديثو العهد بالجاهلية: فرأينا ونحن نسير معه سدرة خضراء عظيمة، فتنادينا من جنبات الطريق: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال الرسول: الله أكبر! قلتم كما قال قوم موسى لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.»
7
وقد رأينا في الفصل السابق كيف عبد العرب أيضا إلهتهم العزى مجسدة في ثلاث شجرات، وهي العزى التي أهداها الرسول (ص) شاة عفراء عندما كان على دين قومه، وفق بعض أخبار السيرة.
شكل 4-4: الأم الكبرى والشجرة - نقش من ميسينا.
وكان جذع الشجرة لدى الكنعانيين ينصب في محراب الأم الكبرى عستارت أو «عشتاروت»، وتقدم له فروض العبادة باعتباره تجسيدا لإلهة الطبيعة. كما كانوا يقيمون طقوسا خاصة تحت الأشجار الخضراء في المرتفعات. وقد ورد ذكر هذا الجذع في كتاب التوراة في معرض الحديث عن الصراع بين الديانة العشتارية الكنعانية والديانة اليهودية، وأطلق مؤلفو التوراة عليه اسم السارية، وجمعها سواري، وقد سار العبرانيون على خطى الكنعانيين في عبادة عشتار وشجرتها، وكان كثير من السامرة ويهوذا على دين السوريين: «كان آحاز ابن عشرين سنة عندما ملك، وملك ست عشرة سنة في أورشليم، ولم يفعل المستقيم في عيني الرب كداود أبيه، بل سار في طريق ملوك إسرائيل، وعمل أيضا تماثيل مسبوكة للبعليم (الإله بعل) وذبح وأوقد على المرتفعات وتحت كل شجرة خضراء.»
8 «وكان منسي ابن اثنتي عشرة سنة حين ملك، وملك خمسا وخمسين سنة في أورشليم، وعمل الشر في عيني الرب. وعاد فبنى المرتفعات التي هدمها حزقيا أبوه وأقام مذابح للبعليم وعمل سواري.»
9 «وعمل آخاب سواري، وزاد آخاب في العمل لإغاظة الرب إله إسرائيل أكثر من جميع الملوك الذين قبله.»
10
إن الاعتقاد بتجسيد الشجرة لروح الخصوبة قد استمر في أشكال مختلفة، وحفظت لنا معتقدات القبائل البدائية في العصر الحديث بعض آثاره؛ ففي بورما جرت العادة لدى بعض القبائل أن يخرج أفرادها عند انحباس المطر إلى الحرش القريب، فينتخبون أكبر الشجرات، ويطلقون عليها اسم إلههم الموكل بالخصب والمطر، ثم يقدمون لها القرابين من خبز وثمار وطيور ويتضرعون إليها قائلين: أيها الإله ارحم عبادك الفانين لا تحبس عنهم المطر، أيها الإله تقبل قرباننا وهبنا مطرا لا يكف ليل نهار. وتعقد بعض القبائل الأفريقية بأن إلهة الإنبات تتجسد في بعض الأشجار الطويلة الضخمة، فتخرج إليها في مواسم معينة، فتصلي وتضرع طالبة محصولا وفيرا وغلة، ثم يرقص النساء والرجال في أزواج حولها، حاملين في أيديهم حزما من القمح. وفي شمال الهند تعتقد بعض القبائل بقدسية شجرة جوز الهند؛ إذ يرون فيها تجسيدا لإلهة الخصوبة والتوالد، فيخرجون إليها ويسكبون فوق جذورها ماء التقدمات المقدس، طالبين إليها مباركة نسل الإنسان والماشية.
11
وفي أوروبا كانت عبادة الشجرة من العبادات الرئيسية عند الفتح الروماني لها. وكانت شجرة البلوط من أكثر الأشجار قدسية وتجسيدا للقدرة الإلهية المخصبة.
12
وإلى يومنا هذا، ما زال أهل الريف في أوروبا يقومون بشعائر لا تخفي طابعها العشتاري القديم. ففي أول شهر أيار (مايو)، يقام في كثير من المناطق الريفية الأوروبية احتفال يبدؤه الفلاحون بالتوجه إلى الغابة، فيقتطعون شجرة يحملونها إلى وسط القرية، حيث ينصبونها في الساحة ويحتفلون حولها . أو يأتي كل منهم من الغابة بغصن فيعلقه على باب بيته لاستمداد البركة من روح الشجرة. وقد تثبت هذه الأغصان على أبواب الحظائر لتكثر من مواليد الماشية وتجري اللبن غزيرا في ضروعها، وقد توضع في حجرة نوم الأزواج الجدد. تبقى شجرة أيار في ساحة القرية، وتبقى أغصانها معلقة على أبواب البيوت والحظائر عاما كاملا؛ فإذا أتى ربيع آخر، آن وقت استبدالها بشجرة أخرى عبقة بعطر الربيع الجديد، شجرة تحمل روح الإنبات وقد تجددت بعد سبات. وفي عيد العنصرة، كان من عادة الفلاحين في روسيا إلى مطلع القرن الماضي الذهاب إلى الغابات وسط الأغاني المرحة والأهازيج، فيقطعون شجرة غضة من شجر البتولا، ويضعون عليها ثيابا نسائية يزينونها بالشرائط الملونة، ثم يعودون بها إلى القرية فيضعونها في أحد البيوت طيلة فترة العيد، حيث يترددون عليها كضيفة شرف. وفي اليوم الأخير يمضون بها إلى نهر فيلقونها فيه.
13
ولقد خلد فن الشرق الأدنى القديم عشتار الشجرة، من خلال معالجته لموضوع شجرة الحياة التي تظهرها الأعمال التشكيلية بشكل زخرفي تبسيطي جميل، وعن يمينها ويسارها مخلوقات خرافية، تحرسها آنا، وتتعهدها بالسقاية والرعاية آنا آخر (الشكل
4-5 ). وشجرة الحياة هذه التي مثلتها في الميثولوجيا اليونانية الرومانية الشجرة الضخمة القائمة وسط غابة ديانا-أرتميس، هي التي تظهر مجددا في مركز الجنة التوراتية التي غرسها يهوه: «وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا، ووضع هناك آدم الذي جبله. وأنبت الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل. وشجرة الحياة في وسط الجنة وشجرة معرفة الخير والشر.» ولكن آدم أكل من شجرة معرفة الخير والشر بعد أن أغوت الحية حواء، وخاف الإله أن تمتد يده إلى شجرة الحياة: «فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل في الأرض التي أخذ منها، فطرد «الرب» الإنسان، وأقام شرقي جنة عدن «ملائكة» الكروبيم، وسيف لهب متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة.»
14
إن الكروبيم الذين أقامهم يهوه لحراسة شجرة الحياة، والذين نعرف من نصوص أخرى أنها مخلوقات مجنحة، هي المخلوقات المجنحة نفسها التي نراها تحف بشجرة الحياة في الرسوم البابلية والسورية.
شكل 4-5: شجرة الحياة - فينيقيا.
تظهر العناصر الرئيسية لقصة آدم وحواء والحية، في الختم السومري الموضح في الشكل (
4-6 )، في وسط الشكل تظهر الشجرة وقد تدلت منها ثمرتان يانعتان، وعن يمينها ويسارها يجلس رجل وامرأة يمدان يديهما لاقتطاف الثمر، ووراء المرأة تنتصب الحية في وضع الهامس الموسوس في أذن المرأة، فهل يحكي هذا العمل قصة سقوط الإنسان قبل ألفي عام من قيام مؤلفي التوراة بتدوينها؟
شكل 4-6: شجرة الحياة - ختم سومري.
وشجرة الحياة التي ولد منها ابن الأم السورية الكبرى عستارت، هي التي ترعى أيضا ميلاد ابن الأم السورية الكبرى مريم:
فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا * فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا * وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا .
15
إنها شجرة الميلاد التي توضع في كل بيت عشية ميلاد المسيح، وتزين بالشموع والأضواء التي ترمز إلى الأجرام السماوية المنيرة؛ ذلك أن شجرة الحياة هي في الوقت نفسه شجرة الكون، وسيدة السماوات المعتمة، التي تتعلق الأجرام المنيرة بصدرها تعلق الشموع بشجرة الميلاد.
روح القمح
عندما اكتشف الإنسان القمح البري وبدأ بالاستقرار النسبي قرب حقوله، يتغذى ببعضها ويخزن البعض الآخر، صار لدورة الطبيعة أهمية أكبر بالنسبة لحياته. لقد دخل الخبز في نظامه الغذائي، وغير من عاداته الاجتماعية، فاستقر في الأرض مودعا حياة الصيد والالتقاط، وتمركزت كل حياته ونظمه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية حول دورة الطبيعة، وتتابع الفصول الذي تعتمد عليه الدورة الزراعية السنوية. عند أعتاب هذه المرحلة تجمعت الأفكار الأسطورية المبعثرة والغائمة، عن غياب الأم الكبرى سيدة الطبيعة في الخريف، وعودتها مع خضرة الربيع، في أسطورة متماسكة تركزت حولها حياة الجماعة الدينية، كما تركزت حياتها الاجتماعية حول إنتاج الخبز.
إن نتائج الحفريات الحديثة في المواقع النطوفية والنيوليتية في سوريا، لتظهر بشكل واضح هذا الارتباط بين تطور البنى الروحية للجماعة، وتطور أسلوبها في تحصيل الغذاء. ففي المستوطنات النطوفية التي كانت تتحول إلى مستوطنات نيوليتية مع نهاية الألف التاسع قبل الميلاد، يتزايد ظهور التماثيل الطينية الصغيرة الممثلة لأشكال أنثوية رمزية، وذلك عند أعتاب التحولات الكبيرة التي ستشهدها المنطقة السورية، والتي ستنقل البشرية من مرحلة الصيد والالتقاط إلى مرحلة إنتاج الغذاء. هذه التماثيل الصغيرة هي النماذج البدئية لما سوف يغدو في المستقبل الأم السورية الكبرى، والتي ستبزغ بكامل أبهتها خلال الألف الثامن قبل الميلاد، وتتابع تحولاتها وتناسخاتها حتى الفترات التاريخية.
16
إن الحبيبات الصغيرة الجافة التي يدفنها الزراع في باطن الأرض، فتظهر في أول الربيع عشبيات خضراء تتحول مع فصل الصيف إلى سنابل ناضجة، لتختزل سر الطبيعة كلها، وسر الحركة الإلهية الكامنة وراءها. فروح الغاب والحياة البرية، هي الآن روح القمح التي تشكل دورة حياتها السنوية خلفية ماورائية لما يجري على مسرح الحقل. وعشتار سيدة الطبيعة التي لا تأمرها من عل، بل تشكل منها اللباب والروح والحركة الداخلية، إنما تمثل بنفسها كل ما يبدو على مستوى الطبيعة، ولأول وهلة، عصيا على الفهم والتفسير. إن دورة حياة القمح، ليست سوى دورة حياة الإلهة التي تقضي جزءا من السنة في العالم الأسفل وجزءا في العالم الأعلى. وجملة الأعمال الزراعية التي يقوم بها الإنسان من حصاد وحرث وبذر وما إليها، ليست أعمالا دنيوية، بل طقوس دينية مقدسة يمارسها على هامش الدرام الإلهي الكوني، مساعدة لروح الطبيعة على إتمام دورتها السنوية، والعودة مجددا في الربيع لتهبه غذاء عام آخر. فإذا كانت روح الطبيعة والإنبات في الماضي تغيب في باطن الأرض، ثم تعود دون تدخل من أحد، فإن روح القمح والحبوب تتطلب مساهمة من الإنسان وتدخلا من خلال عمله المقدس وطقوسه وصلواته. عند الحصاد، يندب الحصادون روح القمح الميتة، ثم يدفنونها في التراب؛ إذ يدفنون حبوب القمح اليابسة، ويقضون فصل الشتاء في الطقوس والصلوات لمساعدتها على صعود درجات العالم الأسفل. فإذا لاحت تباشير الربيع وظهرت رءوس السنابل الصغيرة، عم الجميع فرح طاغ، لقد عادت عشتار من جديد بين طقوس العمل وطقوس الابتهاج. إن الشكل رقم (
4-7 ) ليختصر هذا الدرام دون الحاجة إلى كلمة منطوقة أو مكتوبة واحدة .
شكل 4-7: عودة عشتار من العالم الأسفل - رسم إغريقي على الخزف.
بالنسبة لإنسان المستوطنات الزراعية الأولى، لم يكن هبوط عشتار إلى العالم الأسفل موتا، ولم يكن صعودها منه بعثا؛ لأنها سيدة العالمين معا. تمكث في العالم الأعلى جزءا من السنة لتهبه الخير والبركة والحياة، ثم تهبط إلى العالم الأسفل في جزء السنة الآخر لتحكم مملكة الأموات تاركة عالم الأحياء في جفاف. إننا لا نعرف الشكل الصافي الأول هذه الأسطورة؛ لأن ألوف السنين تفصل ما بينها وبين أول لوح مكتوب خطته يد الإنسان، ولكننا نستطيع رسم خطوطها العريضة اعتمادا على الأساطير اللاحقة والتي بقيت، رغم التطوير والتحوير، تحمل في صميمها نواة الأسطورة الأولى. ولكي نصل إلى هذه النواة يجب ألا يقتنصنا شكل الأسطورة في حلته الأخيرة الزاهية الألوان، بل علينا أن نغادره إلى مستوياته السرية، التي تقودنا عبر سراديب ضيقة شاقة المسالك إلى الأصل والمنبع.
بين الأساطير العشتارية المختلفة، وتنوعاتها في شتى الثقافات، تبدو أسطورة ديمتر وبيرسفوني اليونانية أقرب الأساطير كلها إلى الأسطورة الأم؛ وذلك لمحافظتها على طابع أمومي أصيل، وبقائها في منجاة، إلى حد ما، من المداخلة الذكرية.
كانت ديمتر عند الإغريق إلهة الحبوب بصورة عامة، والقمح بصوة خاصة، وكانت تدعى بالإلهة الشقراء كناية عن سنابل القمح الصفراء الناضجة. تصورها الأعمال الفنية على هيئة امرأة ذات قوام جميل ممتلئ بعض الشيء، ووجه جميل ولكنه قاس وصارم في نفس الوقت، تضع على رأسها إكليلا مضفورا من سنابل القمح، أو تحمل بيدها باقة منه، وقد تحمل مشعلا مضيئا. تعزو إليها الأساطير اكتشاف القمح وتعليم البشر زراعته والاستفادة منه في جميع بقاع الأرض المعمورة. كما تعزو إليها تعليم ملوك البشر الأوائل شتى أنواع العلوم التي يسرت لهم أسباب الحضارة. كانت عازفة عن الزواج وعن الرجال؛ ولكن إله البحار بوسيدون استطاع النيل منها بعد أن فرت من وجهه طويلا، وكذلك نال منها كبير الآلهة زيوس. وعندما أحبت «إياسون» أرسل عليه زيوس صاعقة قتلته.
17
هذه البقية الباقية، في التصورات الأسطورية الذكرية، ما زالت تحمل خطوطا واضحة من صورة عشتار القديمة كروح للقمح والحبوب والإنبات. فروح القمح في هذه التصورات هي إلهة القمح وقد خرجت من الطبيعة لتمارس سيادتها عليها كما يفعل الآلهة الذكور. وليس اكتشاف ديمتر لزراعة القمح ونقلها للبشر إلا إشارة إلى كونها هي نفسها روح القمح القديمة. وشقرة شعر الإلهة هي شقرة السنبلة الأولى التي حلت بها روح القمر وتطابقت معها. أما قيام ديمتر بنقل أسباب العلوم والحضارة إلى الملوك الأوائل، فإنه إقرار تاريخي من جانب الأسطورة بأن زراعة القمح كانت الخطوة الحاسمة نحو الاستقرار والحضارة. ومن ناحية أخرى فإن عزوف ديمتر عن الرجال وبقاءها على الدوام دون زوج، شأنها في ذلك شأن أرتميس، إنما يعكس الصورة القديمة للأم الكبرى المتوحدة. فالشاب الوحيد الذي أحبته قتل في وقت مبكر وقبل أن يتحول إلى زوج؛ وذلك إصرارا من الأسطورة الأمومية على بقاء عشتار إلهة متوحدة. ورغم المداخلات الذكرية في الأسطورة؛ فقد حاولت الانتقاص من قدر ديمتر بأن جعلت آلهة الأوليمب ينالونها واحدا بعد آخر، إلا أن الأسطورة الأمومية الصافية تعود إلى الظهور في رواية ديمتر وابنتها بيرسفوني، حيث نرى الأم الكبرى، مجددا، كسيدة عظمى ذات سطوة وجبروت، يخشاها كل الآلهة بمن فيهم كبيرهم زيوس.
كانت بيرسفوني تجمع الأزهار في البرية، عندما انشقت الأرض وظهرت عربة الإله هاديس إله العالم الأسفل، الذي اختطفها ومضى بها إلى غياهب الظلمات. سمعت ديمتر صرخات الاستغاثة التي ملأت أرجاء الأرض، وهرعت لنجدة ابنتها، ولكن الأرض كانت قد التأمت وضاع كل أثر يدل على الحادث. اتشحت الإلهة بالسواد وراحت تجوب أصقاع الأرض بحثا عن ابنتها وقد أضاءت الكون مشاعلها الملتهبة، ولكن من غير طائل. وعندما نال منها اليأس، أشارت عليها الإلهة هيقات أن تستخير نبوءة الإله هليوس، الذي كشف لها سر اختفاء ابنتها، وأخبرها بأن هاديس قد حملها إلى العالم الأسفل لتكون زوجته وملكة على الأموات. عند ذلك قررت ديمتر الانتقام من الآلهة جميعا لسماحهم بما حدث، فمنعت قواها الإخصابية عن الأرض التي تحولت إلى حقول مالحة لا تنبت ولا تزهر ، وهددت المجاعة كل الأحياء على وجه البسيطة. اضطرب الآلهة لما حصل، وجاءوا إلى ديمتر واحدا إثر آخر بمن فيهم كبيرهم زيوس، يرجونها أن ترفع لعنتها عن الأرض، ولكنها اشترطت أن تعود إليها ابنتها أولا. ولما يئسوا من إقناعها، أمر زيوس الإله هرمز أن يمضي إلى هاديس فيبلغه رغبة كبير الآلهة في رجوع بيرسفوني إلى أمها. نزل هاديس عند رغبة زيوس وأطلق بيرسفوني، ولكنه أعطاها قبل ذهابها طعاما يعيدها إلى العالم الأسفل بعد خروجها. فرحت ديمتر بلقاء بيرسفوني، ولكن فرحتها لم تدم؛ لأنها عرفت بأمر الطعام، وامتنعت عن تنفيذ اتفاقها مع الآلهة، ثم وافق الجميع على أن تقضي بيرسفوني ثلث السنة مع زوجها في العالم الأسفل، وثلثيها مع أمها في العالم الأعلى. عند ذلك أعطت ديمتر أوامرها للطبيعة، فأورقت الأشجار وازدهرت وملأت الخضرة سطح الأرض. إلا أن ذلك لن يدوم طويلا، فما إن يحين موعد عودة بيرسفوني إلى عالم هاديس، حتى تيبس الأشجار مرة أخرى وتصفر النباتات ويكفهر وجه الأرض؛ مشاركة للأم في حزنها الجديد.
18
تبدو ديمتر وفق المنطوق الشكلي لهذه الأسطورة سيدة للحياة الطبيعية، تأمرها فتنصاع لأمرها، تماما كما يفعل آلهة الأوليمب الذكور الذين تحرروا من إسار الطبيعة وارتقوا إلى أعالي السماء. ويجري تفسير دورة الحياة النباتية بحزن الإلهة السنوي على ابنتها الغائبة وفرحها من ثم بلقائها من جديد. إلا أن المستوى الثاني لفهم هذه الأسطورة يقودنا إلى الاعتقاد بأن بيرسفوني هي روح النبات التي تهبط إلى العالم الأسفل جزءا من السنة، وتعود إلى العالم الأعلى في جزء السنة الآخر، فتغيب معها الحياة النباتية عن وجه الأرض ثم تنتعش بعودتها. يجد هذا التفسير دعما له في طقوس ديمتر المشهورة التي كانت تقام في معبدها الرئيسي في إيلوسيس، حيث كانت تتلى وتمثل قصة اختطاف بيرسفوني وعودتها إلى أمها. ففي تلك الطقوس كان المحتفلون يرفعون باقات القمح رمزا للولادة الجديدة للإلهة الغائبة. وهنا نجد أنفسنا أمام لغز محير. فإذا كانت بيرسفوني هي روح الإنبات وأم الطبيعة التي تعكس دورة حياتها السنوية دورة الحياة الزراعية، فمن هي إذن الأم؟ وما علاقتها بالابنة؟
إذا نزلنا إلى المستوى الثالث الأعمق لفهم هذه الأسطورة، لوجدنا أنفسنا وجها لوجه أمام الأسطورة الأصلية الصافية، حيث لا وجود لأم وابنتها، بل لعشتار المتوحدة التي تلعب ديمتر وبيرسفوني دوريها المتناقضين المتكاملين في آن معا؛ فعشتار في دورها الأعلى كروح النبات هي ديمتر، وفي دورها الأسفل كسيدة لعالم الظلمات هي بيرسفوني، زوجة الموت هاديس. تنحل ديمتر إلى بيرسفوني عندما تهبط إلى العالم الأسفل، وتتحول بيرسفوني إلى ديمتر عندما تصعد إلى العالم الأعلى، في جدلية دائمة ما دامت دورة الطبيعة قائمة. وليس أكل بيرسفوني من النبات السحري الذي يعيدها إلى الموت كلما ارتدت إلى الحياة، سوى إشارة من المستوى الأول للتفسير، على الحقيقة الكامنة في المستوى الثالث. فالإلهتان أقنومان في واحد وتجليان لنفس الجوهر. كلما تحولت ديمتر إلى بيرسفوني تحولت بيرسفوني إلى ديمتر، تماما كما يتحول قمح السنة الماضية الذي هبط إلى باطن الأرض إلى قمح السنة الجديدة الذي يخرج من الأرض. إن ديمتر هي قمح السنة الماضية، وبيرسفوني هي قمح السنة الجديدة، الذي سيغدو بدوره قمح السنة الماضية في العالم المقبل.
إن العمل الفني التشكيلي الذي اعتبرناه دوما أصدق من الكلمة المنطوقة أو المكتوبة في شرح المستوى الباطني للأسطورة، يلعب دورا حاسما في دعم تفسيرنا الثالث. ففي كل الرسوم والمنحوتات البارزة التي تظهر ديمتر وبيرسفوني، لا يستطيع الناظر أن يميز بين الأم والابنة المتقابلتين على الدوام، لتطابقهما في كل شيء فيما عدا الشارات المميزة لكل منهما؛ فديمتر في معظم الأعمال التي تجمعها من بيرسفوني تحمل في يدها الفاكهة الناضجة. أما بيرسفوني فتحمل في يدها الأزهار. الموسم القديم والموسم الجديد في مقابل بعضهما البعض. تتحول الزهرة إلى ثمرة، والثمرة تموت للتتحول إلى زهرة. ومن الشارات المميزة لكلتا الإلهتين أيضا باقة القمح والمشعل، حيث تحمل ديمتر باقة القمح وتحمل بيرسفوني المشعل. لكنهما في الأعمال التي تمثلها كل على حدة، قد تتبادلان الشارات، فنرى ديمتر ومعها الشعلة وبيرسفوني ومعها باقة القمح. في الشكل رقم (
4-8 ) تظهر الإلهتان وبينهما الشاب تريبتوليموس الذي عهدت إليه ديمتر بمهمة نشر القمح في جميع أرجاء العالم. تقوم ديمتر بتسليم الشاب باقة القمح الأولى، ومن خلفه تقف بيرسفوني مقابل أمها وقد أمسكت بيديها مشعلين، رمز النار المخصبة.
يظهر موضوع الأم والابنة، قمح السنة الماضية وقمح السنة الجديدة، في عمل فني بابلي من أواسط الألف الثالث قبل الميلاد؛ أي قبل قرابة ألفي سنة من تدوين نص أسطورة ديمتر وبيرسفوني في أشعار هوميروس. ففي الشكل رقم (
4-9 ) نجد عشتار كروح للقمح جالسة على مقعد ملتحم بالأرض ممتزج معها، من كتفيها تنبعث سنابل القمح وعلى رأسها تنتصب حية ذات رأسين على هيئة قرنين، ومن خلفها إلهة أخرى أصغر حجما ولكنها تتطابق معها في كل شيء، تطلع من هوة فوق مرتفع صغير يبدو وكأنه يرتفع بها تدريجيا، وقد انبعثت السنابل من كل أجزاء جسدها. لم يوجد في بلاد الرافدين أي نصب مكتوب يحكي قصة هذا العمل التشكيلي المحمل بالرموز، ولكنه يبدو واضحا كل الوضوح على ضوء تفسيرنا لأسطورة ديمتر وبيرسفوني. فهو بلا شك يحكي أسطورة مشابهة لم تسجل نصوصها بسبب اقتحام الذكر مسرح الأسطورة. والأسطورتان، في تفسيرنا، ترجعان إلى أصل مشترك واحد، إلى الأسطورة النيوليتية الأم.
شكل 4-8: ديمتر وبيرسفوني - رسم إغريقي على الخزف.
شكل 4-9: عشتار روح القمح - ختم بابلي، الألف الثالث ق.م.
إن تفسيرنا لأسطورة ديمتر وبيرسفوني، وللأسطورة المفترضة في العمل التشكيلي البابلي الموضح أعلاه، ليلقي ضوءا على أسطورة سومرية أقدم منهما، وهي أسطورة اختطاف إريشكيجال من قبل إله العالم الأسفل السومري «كور» وجعلها زوجة له وملكة على عالم الموتى. ورغم أن الألواح السومرية المكتشفة لم تورد من هذه الأسطورة سوى مقدمتها، فإننا نستطيع فهم مسارها العام ونهايتها، من معرفتنا لمجمل الميثولوجيا السومرية. تجري أحداث الأسطورة بعد استقرار الكون وترسيخ أركانه وتقسيمه بين الآلهة الذكور:
بعد أن أبعدت السماء عن الأرض،
وفصلت الأرض عن السماء،
وتم خلق الإنسان،
وأخذ آن السماء،
وانفرد إنليل بالأرض،
أخذ الإله كور إريشكيجال غنيمة له،
ولكن الإله إنكي أبحر،
أبحر الأب إنكي إلى كور،
قصد إلى كور مبحرا،
رماه بالحجارة الصغيرة،
كما رماه بالحجارة الكبيرة.
19
لا يوصلنا النص الذي وردت فيه هذه المقدمة إلى نتيجة القصة. ولكن النصوص السومرية والبابلية اللاحقة، تحدثنا عن الإلهة إريشكيجال باعتبارها إلهة للعالم الأسفل، ويختفي ذكر كور كشخصية إلهية، ليبقى اسمه دلالة على العالم الأسفل؛ مما يدل على أن إنكي قد أخفق في مهمة إنقاذ الإلهة، التي بقيت هناك وارثة مملكة الأموات، تماما كالإلهة بيرسفوني.
ولكن من هي هذه الإلهة المخطوفة؟ إن اسم إريشكيجال يعني باللغة السومرية «سيدة العالم الأسفل». فهو والحالة هذه لقب لا اسم. فماذا كان اسمها في العالم الأعلى؟ وهل كانت سوى عشتار نفسها، روح القمح وأم الطبيعة في العصور النيوليتية، التي كان اسمها في العالم العلوي عشتار، واسمها في العالم الأسفل إريشكيجال؟ أليست الفتاة الصاعدة من هوة عالم الأموات في الشكل (
4-9 ) هي إريشكيجال-بيرسفوني، سنابل السنة الجديدة التي سوف تتحول إلى عشتار-ديمتر، السنابل الناضجة التي تموت هابطة إلى الأسفل من جديد؟ إن الأساطير السومرية والبابلية المكتوبة لا تتحدث عن صعود إريشكيجال السنوي من العالم الأسفل، كما هو الحال في الأسطورة الإغريقية، بسبب اقتحام الذكر مسرح الأحداث وحلول الإله تموز، ابن عشتار وحبيبها، محلها في درام الهبوط والصعود، كما سنرى ذلك مفصلا فيما بعد. ولكن فرضيتنا هذه إنما تحاول إعادة بناء الأسطورة النيوليتية الأم، عندما كانت عشتار تجر وراءها، وحيدة، دورة الفصول تحت اسم واحد، ثم اتخذت اسمين؛ اسم لوجهها الأخضر المنير، واسم لوجهها الأسود المعتم، ثم تحول الاسمان إلى ذاتين، ثم جاءت المرحلة الأخيرة عندما حل ابنها محلها كروح للقمح.
لم يبدل اقتحام الذكر أسطورة الأم الكبرى سيدة الطبيعة، شيئا من خصائص عشتار الإخصابية؛ فقد بقيت سيدة للحياة النباتية وربة خصب الأرض، وكان الدور الذي يلعبه ابنها وحبيبها تموز وأشباهه (أدونيس، أوزوريس، آتيس، ديونيسيوس ... إلخ) دورا مكملا لدورها الأساسي، فالأم عشتار هي التي كانت تدفع بتموز إلى العالم الأسفل، حيث يبقى جزءا من السنة هناك، وهي التي تهبط إلى العالم الأسفل لاستعادته إليها، حيث يقضي جزء السنة الآخر معها (وسنبحث هذه العلاقة بين الأم الكبرى وابنها والأساطير المتعلقة بهما في فصل تموز الأخضر). لهذا فقد بقيت في كل الثقافات، الإلهة الخضراء، سيدة الطبيعة النباتية دعاها البابليون بعشتار الخضراء، ودعاها المصريون بإيزيس الخضراء، وسيدة الخبز، وسيدة الجعة، وأم القمح، ودعاها اليونان بسيدة السنابل، وقد خلدت الأعمال الفنية عبر التاريخ هذا الوجه الأخضر للأم الكبرى؛ حيث نراها في معظم الرسوم والمنحوتات وقد أمسكت بيدها سنابل القمح أو الأغصان المورقة أو الثمار الناضجة، من هذه الأعمال الفنية الجميلة، ذلك النحت البارز المحفوظ في المتحف الوطني بدمشق، الذي يمثل عشتار عارية الصدر، ترفع بيديها الاثنتين حزمتين من النبات، وعن يمينها وشمالها يشب زوجان من الماعز. وقد ينوب الإناء الفخاري، وهو الرمز القديم للأم الكبرى، منابها في الأعمال التشكيلية، حيث نجد الجرة الفخارية والسنابل تنبعث من كتفيها، كما هو الأمر في النقش الفينيقي الموضح في الشكل (
4-10 ).
شكل 4-10: عشتار الإناء الفخاري سيدة السنابل - فينيقيا.
هذا وتنحو بعض الأعمال الفنية الممثلة للسيدة مريم العذراء منحى الأعمال العشتارية القديمة؛ إذ تمثل العذراء كسيدة للسنابل وقد زينت سنابل القمح ثوبها ونبتت الأرض تحت قدميها؛ من هذه الأعمال قطعة جميلة من الحفر على الخشب من ألمانيا القرن الخامس عشر (الشكل رقم 43). يقول القديس أمبروزي عن السيدة مريم: «في رحم مريم المقدس زرعت حبة واحدة من الحنطة، ولذا نحن ندعوها ببستان القمح.»
20
شكل 4-11: مريم العذراء سيدة السنابل - حفر على الخشب، ألمانيا القرن الخامس عشر.
إذا كانت الأم الكبرى هي المسئولة عن خصب الأرض ودورة الزراعة، فإن وكيلاتها الأرضيات هن امتداد لخصائصها الإخصابية. إن اكتشاف ديمتر للقمح ونشر زراعته في أنحاء الأرض، ومثلها في ذلك إيزيس التي عهدت إلى أوزوريس تعليم البشر زراعة القمح، ليس إلا إقرارا، على مستوى الأسطورة، بفضل المرأة في اكتشاف الزراعة. لقد كانت مهمة التقاط الثمار والبحث عن الجذور الصالحة للأكل من نشاطات المرأة الأساسية، وهذا ما قادها إلى اكتشاف القمح البري كغذاء، وابتكار أساليب إعداده من طحن وعجن وخبز. ثم أتاحت لها الأوقات الطويلة التي كانت تقضيها في حقل القمح البري، فرصة الملاحظة المتأنية لآلية نشاط الطبيعة، فعرفت أن السنبلة التي تنمو في الربيع، إن هي إلا الحبة الميتة التي تسقط في الخريف، فحاولت تقليد آلهة الطبيعة وتكرارها، وطمرت أول حفنة قمح مبتدئة بذلك تاريخ الحضارة. لقد رأى الإنسان في هذا النشاط الجديد استمرارا لخصوبة المرأة، وفيضا آخر لقواها المبدعة الخلاقة، وعطية من عطايا جسدها المرتبط بالقوى الإلهية العشتارية. فالجسد الذي يهب من ظلماته الحياة ويغذيها ويرعاها، وهو الذي مد سلطانه أيضا إلى التربة ليضرم فيها جذوة الخصوبة. ومنذ استنبات حفنة القمح الأولى، صارت الزراعة من مهام المرأة الرئيسية، وصارت طقوس إحياء الأرض وقفا على النساء من دون الرجال. فإذا كان على الرجل المساهمة في العمل الزراعي، فإن مساهمته تقتصر على المجهود العضلي المتمثل في شق الأرض وتحضيرها، أما وضع البذرة في الأرض فيجب أن تقوم به المرأة التي تنقل للبذرة وللتربة شحنة من خصب جسدها المتوحد مع إيقاع الطبيعة.
إن العادات القائمة في العصر الحديث لدى القبائل البدائية، والتي حفظت في شكلها النيوليتي الصافي تدعم هذا الاستنتاج. فمن الشائع لدى كثير من القبائل أن يقوم الرجل بكل الأعمال التمهيدية السابقة للبذار، ثم تأتي المرأة فتضع البذور في الشقوق التي يسبقها الرجل إلى تحضيرها.
21
كما تسود لدى كثير من القبائل البدائية في أنحاء مختلفة من العالم، أسطورة اكتشاف الزراعة لأول مرة من قبل المرأة، وتقوم النساء في هذه المجتمعات بطقوس استجلاب المطر واستثارة خصوبة الأرض.
22
وفي فترة نضج الحضارة الإغريقية كانت المرأة مسئولة عن استثارة خصوبة التربة وإحياء الأرض، وكانت تقام لهذه الغاية احتفالات خاصة يمارس طقوس الخصب فيها نساء مهيآت لهذه المهمة.
23
مع نمو وتوسع المستوطنات الزراعية البدائية، انتقلت روح القمح إلى المعابد مغادرة محرابها الصغير في الحقل. وعندما تحولت المستوطنة إلى مدينة، تركت عشتار سكنها القديم في السنبلة وجذع الشجرة وحلت في التماثيل الرخامية الجميلة المتقنة الصنع، داخل المعابد الضخمة التي تناطح أبراجها المدرجة السحاب ، وتشبهت بآلهة الذكور فانسلت من الحياة النباتية التي كانت روحا لها، لتغدو سيدتها الآمرة. ولكن زارع الحقل الأول الذي آمن بروح القمح وعبدها وتغذى على جسدها، قد بقي على ولائه القديم، وبقيت روح القمح تسكن في كوخه وتعايشه في حقله. لم يعرف أن عشتار قد انتقلت إلى بابل والأقصر وأثينا وروما، ولم يسمع أساطيرها في حلتها الجديدة بعد أن انطلقت من حقله وصيغت في حلل أدبية منمقة. وعندما آمن، في الفترات المتأخرة بالإله الفادي المخلص الذي يموت ليهب العالم الحياة، لم يدر بخلده أن هذا الإله الجديد ليس إلا إلهه هو، وقد عاد إليه في حلة فلسفية قشيبة، وليس إلا روح القمح القديمة التي كانت تموت في كل عام لتهب له الحياة.
ومن الملفت للنظر أن نجد روح القمح ما زالت تعيش في مواطنها الأولى، حيث حقول القمح إلى العصر الحديث. إلا أننا لا نستطيع تتبع آثارها اليوم في المعتقد الديني والطقس، بل في الفلكلور الشعبي، الذي حفظ لنا على طريقته الهيكل العام لأسطورة زارع القمح الأول وطقوسه.
فإلى وقت متأخر من القرن التاسع عشر، كان الفلاحون في كثير من المناطق الأوروبية، يتحدثون عن «الأم القمح» التي تجوس حقول القمح الناضج في الربيع والصيف، كلما تمايلت السنابل مع هبات الريح، فإذا وصل الحصاد إلى نهايته، ولم يبق في الحقل سوى مجموعة من السنابل قائمة في نهايته، قالوا: إن الأم القمح قد حلت في هذه المجموعة، فإذا أجهز الحصادون على السنابل الأخيرة، جرت العادة في بعض المناطق أن تضم في حزمة واحدة، فتلبس زيا نسائيا، ويطلق عليها اسم الأم القمح، ثم يؤخذ من هذه الحزمة أفضل باقاتها، فيصنع منها إكليل تلبسه أجمل فتاة في القرية. أما الحزمة فتعلق على عمود يحمله شابان، ويسير الجميع وراءه في موكب هازج تتقدمهم الفتاة ذات الإكليل إلى بيت عمدة القرية، الذي يتسلم الإكليل من الفتاة فيعلقه في بيته إلى يوم الأحد، حيث يقوم بتسليمه إلى الكنيسة، فيبقى هناك إلى مساء عيد الفصح من العام المقبل . في ذلك الوقت يتم تسليمه إلى فتاة صغيرة، فتجوس به في الحقل وتفرط حبات السنابل ناثرة إياها فوق القمح الغض الجديد، كما جرت العادة في مناطق أخرى، على أن يربط الشاب الذي حصد الباقة الأخيرة من القمح إلى الحزمة، فيضرب تمثيليا ويدار به في شوارع القرية، ويشار إليه على أنه ابن الأم القمح. وفي بعض المناطق لا تجري هذه الممارسات في الحقل، بل في مكان درس القمح. فروح القمح تهرب أمام الحصادين لتأوي إلى مكان تجميع القمح المحصود، وهناك تقتل تحت ضربات الدارسين أو تهرب إلى الحقل المجاور. وقد يقبض على أول امرأة غريبة تظهر في حقل القمح، فتربط إلى الحزمة الأخيرة، وتؤخذ إلى مكان الدرس، حيث يمثل الحصادون عملية درسها وتذريتها. وقد تحمل المرأة التي قامت بجمع آخر باقات القمح، فتوضع في مكان قريب، ويقوم الحصادون بتمثيل عملية توليدها باعتبارها حاملة بروح القمح التي ستلد منها.
24
سيدة الشعلة
كما كشفت عشتار سر الزراعة للمرأة، فكانت أول من بذر حبة القمح في التراب، كذلك كشفت لها سر النار، تلك القوة القمرية المخصبة، فكانت أول من استخرجها من مكمنها في أغصان الشجرة وحافظ على اتقادها. يدلنا على ذلك كثير من أساطير الشعوب
25
التي تحكي عن شعلة النار الأولى، وكيف جاءت بها إلى الأرض امرأة سرقتها من القمر؟ وكذلك قيام المرأة عبر التاريخ ولدى جميع الشعوب بحراسة النار والإبقاء على اشتعالها في البيوت والمعابد، وذلك كاستمرار لفعلها الخلاق الأول. وفي بعض الأساطير البدائية تنبعث شعلة النار الأولى من قيام إلهة القمر بإمرار يدها بيد ساقيها.
26
وهذا يذكرنا بعمل تشكيلي من الهند يمثل الأم الكبرى وقد باعدت ما بين ساقيها المرفوعتين نحو الأعلى ومن رحمها تنبت الشجرة.
27
فالأنثى الكونية المخصبة التي وهبت الشجر هي التي تهب النار الكامنة فيه، قدرة نماء وطاقة ليبيدية كونية تشد الأحياء إلى بعضهم بعضا لاستمرار الفصائل والأجناس. وعشتار الخضراء روح الغاب وروح القمر، هي الآن سيدة الشعلة الدائمة، رمز النفس الحية المتوقدة للكون.
خشي إنسان العصر الحجري انطفاء النار لصعوبة الحصول عليها وإعادة إشعالها، كما خشي انطفاءها لأنها قبس من الأم الكبرى وبركة، فكان انطفاؤها انقطاعا لما بينه وبينها، وانفصالا للعهد الذي قطعته له بالحفاظ على حياته ورعاية معاشه، لهذا كان للقبيل البدائي شعلته الدائمة التي ترعاها النساء، حولها يجتمع أفراد الجماعة مساء، فتخفف من وحشتهم وتجمع شملهم. فالنار كالأنثى الأم، مركز جذب وعامل تأليف. وعندما توسع القبيل، صار لكل بيت شعلته الدائمة التي لا تنطفئ، رمز لوحدة العائلة واجتماعها حول الأم وحول موقد البيت؛ فإذا أراد أحد أفراد العائلة الزواج وتكوين بيت مستقل، حمل من موقد أهله شعلة وضعها في سكنه الجديد؛ توكيدا على صلته التي لن تنقطع رغم بعده. ومع اكتشاف الزراعة، صارت الشعلة العشتارية عنصرا أساسيا في طقوس الخصب، حيث كان المزارعون يطوفون الحقول ليلا بمشاعلهم المتقدة، لبث روح سيدة الشعلة في الأرض، وتفجير الحياة في البذور الصماء.
وقد استمرت هذه الطقوس قائمة في العصر الحديث لدى القبائل البدائية، كما هو الحال لدى قبائل الهنود الحمر في أمريكا الشمالية وقبائل البازوتو والزوني وغيرهم،
28
مما يدل على أصولها المغرقة في القدم.
عندما انتقلت عشتار من بيت المزارع القديم وحقله إلى معابد المدن، انتقلت معها شعلتها المقدسة الدائمة الاتقاد، وصار للنار العشتارية كاهنات عذراوات متفرغات لحراستها والإبقاء على جذوتها، وإقامة الطقوس الخاصة بها. وأخذت الأعمال التشكيلية تصور الأم الكبرى وبيدها مشعل، كما هو الحال في تماثيل ورسوم ديمتر (شكل رقم
4-14 )، وأرتميس (شكل رقم
4-12 )، وبيرسفوني (شكل رقم
4-8 ) وهيقات وديانا.
شكل 4-12: أرتميس - سيدة الشعلة رسم إغريقي.
يبدو رمز الشعلة أكثر التصاقا بالإلهة الرومانية «ديانا» من غيرها من تجليات الأم الكبرى، فلا تظهر في رسم أو نحت إلا وفي يدها مشعلها المضيء. واسمها نفسه إذا أعيد إلى جذره القديم يعني «المضيئة»،
29
وذلك إشارة إلى خصائصها النارية وطبيعتها القمرية. وفي هيكلها الذي كان قائما وسط غابة نيمي عند أقدام جبال الألب، كانت كاهناتها العذراوات يوقدن نارها المقدسة ويحفظنها مشتعلة ليلا ونهارا على مدار السنة. وكانت النساء يأتين إلى الهيكل ومعهن المصابيح الزيتية التي توضع عند المحراب تقربا، ووسيلة لاستجابة الدعوات. أما في عيد ديانا الكبير يوم الثالث عشر من آب (أغسطس)، فقد كانت غابتها المقدسة تضاء بالمشاعل التي تنعكس أنوارها على صفحة بحيرة نيمي الهادئة، كما كانت طقوس النار في ذلك اليوم تقام في جميع أنحاء إيطاليا حول مواقد البيوت.
30
من ألقاب ديانا القديمة «فيستا»
31
الذي يعني أيضا إذا أعيد إلى جذره القديم: «المضيئة» أو «المشعة». ثم تحول اللقب إلى إلهة مستقلة موكلة بالنار عموما، وبالنار المنزلية ونار الطقوس الدينية خصوصا. كانت فيستا أجمل إلهات الرومان إطلاقا، وعذراء كصنوها ديانا، طاهرة كشعلة النار التي ترمز إليها. وكانت كاهنات النار العذراوات يحرسن شعلتها ويبقينها متقدة على مدار السنة ويقمن طقوسها. وكن ينتقين من أنبل العائلات الرومانية، ويخضعن لتدريب طويل مدته عشر سنوات يبدأ في سن السادسة، ثم ينخرطن في خدمة الإلهة مدة عشر سنوات أخرى، يتفرغن بعدها لتدريب جيل جديد من الكاهنات مدة عشر سنوات أخيرة، فإذا أتممن ثلاثين سنة في خدمة المعبد، سمح لهن بالعودة إلى أهلهن والزواج إذا أردن ذلك. غير أن معظمهن كان يعزف عن الزواج للإبقاء على مركزهن المقدس في المجتمع الروماني الذي كان يكن لهن أعظم تقدير وإجلال.
32
وكما جردت ديانا من نفسها الإلهة فيستا، كذلك جردت أرتميس اليونانية من نفسها الإلهة هستيا. كانت هستيا إلهة النار المنزلية ونار المعابد، وكانت شعلتها الأساسية في معبد دلفي تعتبر الشعلة الكونية؛ لأن معبد دلفي نفسه كان لدى اليونان بمثابة مركز للكون. كما كانت هستيا تجسيدا للنار الباطنية التي تتقد في مركز الأرض. وكرمز قديم للنار المنزلية ونار القرية، كانت هستيا حامية للعائلة وحارسة للمدينة. حاول الزواج منها أبولو وبوسيدون، ولكنها لجأت إلى زيوس الذي وهبها حمايته فحافظت على عذريتها إلى الأبد.
33
هذا وقد ارتبطت النار بعبادة إيزيس المصرية، خصوصا في شكلها القمري الناري تحت اسم «باست»، التي كانت تصور على هيئة سيدة برأس هرة.
34
ولربما كانت هذه التسمية هي أصل اسم «البس» أو «البسينة» الذي يطلق على القطة في كثير من اللهجات العربية المحكية اليوم. وكانت طقوس النار تقام في معابد إيزيس لإيقاظ الإله الميت أوزوريس، حيث يحمل الكهنة مشاعل الأم الكبرى، ويطوفون بها حول تابوت الإله لتشتعل روحه من جديد بالحياة، مستمدة من شعلة الإلهة القمرية واهبة الحياة.
35
كما ارتبطت النار بعبادة الأم الكبرى لحضارة السلت «بريجيت» التي حافظت على وجودها في أيرلندا تحت اسم «القديسة بريجيت» بعد انتشار المسيحية، كما رأينا سابقا. وإلى يومنا هذا تقوم كاهنات الأم القمرية، التي دعاها السلتيون بأم الآلهة، بحراسة نارها المقدسة وهن في لباس راهبات السيدة مريم في دير كيلدر بأيرلندا.
36
وفي يوم 2 شباط يحتفل الأيرلنديون بيوم قداس الشموع، حيث يتم إشعال نار الشموع الجديدة في الكنائس الكاثوليكية وتطفأ نار الشموع القديمة. وهذا اليوم يتوافق في تاريخه مع عيد الإلهة بريجيت القديمة، تماما كما يتوافق يوم المشاعل المخصص للإلهة ديانا مع يوم صعود السيدة مريم في إيطاليا ومناطق كاثوليكية أخرى.
37
وبشكل عام يمكن القول بأن طقوس إشعال الشموع في معابد الديانات الكبرى اللاحقة، كما هو الأمر في الكنائس المسيحية والمعابد البوذية والهندوسية وحول أضرحة الأولياء المسلمين، هي استمرار للطقوس النارية للأم الكبرى القديمة.
وقد بلغ تقديس النار أوجه في الديانة الزرادشتية، التي كان أتباعها يقدسون النار باعتبارها التجلي الحقيقي للإله أهورا مزدا، نور الكون والقدرة الكامنة وراءه. وفي الديانات التي تبدو بعيدة كل البعد عن تقديس النار بصورة مباشرة غالبا ما نجد هذه النار قائمة خلف رموز القداسة والألوهية. فعند اليهود تجلى الرب لموسى أول مرة على هيئة شعلة نارية: «فساق الغنم إلى البرية، وجاء إلى جبل حوريب. وظهر له ملاك الرب بلهيب نار وسط عليقة، فنظر وإذا العليقة تتوقد بالنار، والعليقة لم تكن تحترق. فقال موسى: أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم، لماذا لا تحترق العليقة؟ فلما رأى الرب أنه مال لينظر، ناداه الرب من وسط العليقة وقال: موسى، موسى. فقال: ها أنا ذا. فقال: لا تقترب إلى ها هنا اخلع حذاءك من رجليك؛ لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة.»
38
وهذا المكان من سيناء الذي تجلى عنده الرب لموسى في هيئة نارية، لا يبعد كثيرا عن معبد سيدة التوركواز الذي أقامه السوريون في قفر سيناء للأم الكبرى سيدة الشعلة.
39
وفيما بعد، كان حضور يهوه مرتبطا بالنار، وكانت النار تشتعل ليلا فوق الخيمة التي كانت مسكن الرب ومقر تابوت العهد: «وفي يوم إقامة المسكن، غطت السحابة المسكن خيمة الشهادة. وفي المساء كان على المسكن كمنظر نار إلى الصباح هكذا دائما، السحابة تغطيه ومنظر النار ليلا»
40 ... «وكان جبل سيناء كله يدخن من أجل أن الرب نزل عليه بالنار، وصعد دخانه كدخان الأتون.»
41
وقد انتقل رمز الشجرة الملتهبة، كتجل قدسي، من التوراة إلى التقاليد المسيحية التي وجدت في الشجرة رمزا للسيدة العذراء، وفي النار المتوقدة رمزا للسيد المسيح: «رأى موسى العليقة في جبل حوريب تتوقد بالنار وهي لا تحترق، فتحتفظ بين ألسنة اللهيب بنضارة اخضرارها ورطوبة ماديتها. ومريم حبلت وولدت كلمة الله المتأنس: النار الملتهبة، ومع ذلك لم تثلم البتولية ولم تفض البكارة، فحافظت في أمومتها على ماهية بتوليتها، وجمعت في ذاتها بين ضدين: شرف الأمومة وسناء البتولية. لقد أدرك موسى في العليقة سر ولادتك العظيم، أيتها العذراء القدسية المنزهة عن الفساد.»
42
هذا وقد بقيت طقوس النار القديمة مستمرة حتى الأزمنة الحديثة، رغم أن الناس قد نسوا منشأها وضاعوا عن أصلها؛ ففي أوروبا الحديثة نزولا إلى وقت متأخر من القرن التاسع عشر، كان الفلاحون يقومون بطقوس وشعائر لا تخفي طابعها العشتاري القديم. من ذلك مثلا طقوس نار الصوم الكبير.
43
ففي فرنسا وأجزاء من أوروبا، كانت تشعل الحرائق في أول آحاد الصوم الكبير. وكان البادئ بإشعال الحريقة الأولى رجل وامرأة تزوجا حديثا (لأن الجذوة العشتارية تكون مشتعلة بينهما وفي أوج اتقادها، فيبادلان النار خصبا بخصب، ويمدانها بشحنتهما الخاصة). وعندما ترتفع ألسنة اللهب يقوم الناس بالرقص حول النار، ويأتون بقطعان الماشية يسوقونها بين الحرائق والدخان؛ لتحصينها ضد المرض وضمان تكاثرها، ثم يأتون بالمشاعل فيضرمون نارها من الحرائق ويطوفون بها الحقول وبين الأشجار قائلين : أعطنا ثمرا أكثر من الورق.
وفي ألمانيا والنمسا وسويسرا كان الناس في نفس المناسبة يجمعون القش والحطب، فيهيلونه كتلة ضخمة حول شجرة زان كبيرة، ثم يثبتون عارضة خشبية طويلة على الشجرة بحيث تشكل معها هيئة صليب. بعد ذلك يضرمون في هذه المجموعة النار، فإذا هب دخان الحريق نحو حقول القمح تفاءلوا خيرا بموسم جيد. وفي بعض أجزاء من تلك البلدان، كانوا يصنعون عجلة كبيرة من أغصان وأوراق الشجر اليابس (وفي ذلك رمز للقمر)، ثم يسحبونها إلى أعلى تل قريب، فيضرمون فيها النار ويتركونها تتدحرج مشتعلة نحو القرار، وكلما كان توهج العجلة كبيرا، تطلعوا إلى مواسم وفيرة.
ومن المناسبات الأخرى التي تشعل فيها النار المقدسة في أوروبا، عيد الفصح. ففي السبت تشعل الكنائس الكاثوليكية كل شموعها المطفأة من شمعة كبيرة وسط الكنيسة، هي شمعة الفصح، رمز الأم الكبرى مريم، وقد تشعل النار في فناء الكنيسة الخارجي، ويأتي الناس بأغصان من الزان أو البلوط يشعلونها من نار الفصح، ويأخذونها إلى بيوتهم فيشعلون بها نارا جديدة. أما العصي المطفئة فقد توضع في الحقول لضمان المواسم الجيدة. وفي أنحاء كثيرة من ألمانيا، تشعل الحرائق عشية الفصح على أعالي التلال، وتتبارى القرى المجاورة في إيقاد أكبر الحرائق وأكثرها توهجا وإنارة؛ لأن المسافة التي يمكن أن يرى منها نور حرائق الفصح، ستكون محصنة ضد الجفاف في العام المقبل. وفي بعض المناطق لا تشعل نار الفصح بالوسائل العادية، بل لا بد من إشعالها بحك قطعتين من الخشب، وقد تدفن بقايا الحرائق في الحقول لزيادة خصبها.
ومن المناسبات الأخرى التي تقام فيها طقوس النار المقدسة يوم الأول من أيار، وهو احتفال كبير يقام في طول أوروبا وعرضها. ولعل أوضح مثال على الطابع العشتاري لهذا الاحتفال ما كان يقوم به المزارعون في منطقة ويلز ببريطانيا. ففي عشية أول أيار، يقوم بضعة رجال بالتوجه إلى الغابة القريبة، فيحتطبون كمية من أغصان الأشجار يأتون بها إلى القرية، فيشكلون منها صلبانا صغيرة توضع حول دائرة في الوسط (نفس الدائرة والصليب اللذين رمز بهما إنسان الثقافة النيوليتية في سوريا إلى الأم الكبرى منذ الألف السابع قبل الميلاد) ثم يقوم أحد الرجال بحك قطعتين من خشب البلوط ببعضهما، فإذا اشتعلت فيهما النار، أوقد منها بقية الأغصان، وقام الناس بالرقص حول النار والقفز من فوقها، وجلبوا قطعانهم إليها.
هذا وتتعدد المناسبات التي تقام فيها الاحتفالات المشابهة، فنجد طقوس النار في يوم القديس يوحنا المعمدان في الرابع والعشرين من حزيران، وهو اليوم الذي تصل فيه الشمس أقصى مدى لها في الارتفاع. كما نجدها في عيد جميع القديسين، وفي يوم منتصف الشتاء، وكلها مناسبات لا تخفي طابعها الوثني القديم.
وقد مارس العرب في جاهليتهم طقوسا مشابهة تستهدف حث القوى الإخصابية بواسطة النار، فكانوا إذا احتبس المطر خرجوا لصلاة الاستسقاء، فأشعلوا نارا في أذناب البقر وتركوها تنحدر من قمة جبل وعر؛ اعتقادا منهم بأن تلك النار سوف تستنزل عليهم الغيث. وبينما كانت الأبقار تندفع نحو السفح في خوار وضجيج، كانوا يرفعون أصواتهم بالصلوات والأدعية.
44
وفي سوريا، مهد المسيحية الأول، ما زالت طقوس النار تقام في بعض المناسبات الدينية وخصوصا يوم عيد القديس مارجورجيوس (الذي يشكل مع ولي الله الأخضر، سيدنا الخضر، استمرارا للإله بعل ابن الأم السورية الكبرى) وعيد الصليب، حيث تندلع الحرائق الصغيرة في كل مكان احتفالا بهاتين المناسبتين.
وأخيرا، لا أدري أي رمز استلهم الفنان الفرنسي صانع تمثال الحرية العملاق المنتصب أمام مدينة نيويورك في عرض البحر، ولكن إذا أمعنا النظر إليه، ألا نرى عشتار سيدة الشعلة المقدسة مؤكدة وجودها في قلب أعتى ثقافة ذكرية بطريركية عبر التاريخ؟
عشتار الأفعى
اعتقد الإنسان القديم بأن الحية خالدة لا تموت، وأن تبديلها لجلدها القديم بجلد آخر، هو تجديد لحياتها كلما نال منها الهرم، وربط بينها وبين القمر الذي يجدد حياته في دورة شهرية دائمة، فيسلخ جلده القديم في طوره المتناقص ويلبس جلدا جديدا في طوره المتزايد. فكانت الحية رمزا للإلهة القمرية منذ الأزمنة السحيقة. ومن هنا جاء اسم الأفعى في اللغة العربية على أنه الحية مشتقا من الحياة . وفي وصف بابلي للإلهة عشتار أن جسدها مغطى بحراشف الأفعى،
45
وفي ذلك تعبير رمزي على صلتها بالحية، وتجديدها الدوري لجلدها القمري. وقد اعتقد اليونان أن عدد أضلاع الحية تعادل عدد أيام الشهر القمري،
46
كما عبرت الأعمال التشكيلية للحضارات القديمة عن هذه الوحدة الخفية بين القمر والأفعى بشكل واضح. ففي الشكل رقم (
4-13 )، وهو رسم على الفخار من سوسة في إيران، نجد الأفعى منتصبة وعلى رأسها الهلال وأمامها الصليب؛ ثلاثة رموز عشتارية في تأليف فني واحد.
شكل 4-13: عشتار الأفعى - سوسة، إيران.
هذه التصورات الميثولوجية التي تعود في أصلها إلى العصر النيوليتي، ما زالت مستمرة في التصورات الميثولوجية للشعوب البدائية الحديثة، فلدى كثير من قبائل ميلانيزيا وأستراليا وإندونيسيا وأفريقيا، وهنود أمريكا، تشير الحية إلى القمر ويشير القمر إلى الحية. وما زال رمز الحية التي تحمل الهلال على رأسها قائما لدى بعض هذه القبائل؛ للدلالة على الحياة الأبدية، وتتم الاحتفالات والطقوس الخاصة بالإلهة الأفعى في اليوم الأول لظهور القمر الجديد. ومن علاقة القمر بالأفعى، انتقلت التصورات الميثولوجية إلى الربط بين الأفعى والمرأة؛ فالمرأة في أصلها كانت أفعى، والأفعى كانت امرأة. ففي أسطورة من الكونغو عند الطوفان الكبير: أن الذعر الذي حل بالبشر إبان تلك الكارثة قد أعاد المخلوقات إلى أصولها، فتحول الرجال إلى قرود وتحولت النساء إلى أفاع. وهذه الأسطورة تنسج على منوال خرافات العصور الوسطى في أوروبا التي تؤكد أن النساء خلقن من أرجل الأفعى التي فقدتها لدى تسللها إلى الفردوس.
47
شكل 4-14: ديمتر والأفعى.
تبدو عشتار في كل الثقافات مصحوبة بالأفعى في كثير من الأعمال التشكيلية التي تصورها؛ فعشتار البابلية تلبس على رأسها تاجا على هيئة أفعى ذات رأسين (شكل
4-9 )، وديمتر تعطي تريبتوليموس سنبلة القمح الأولى وراءها تنتصب الأفعى (شكل
4-14 )، والأم الكريتية الكبرى تمسك بيدها الأفاعي أو تلتف حول جسدها (الشكل
4-17 )، وإيزيس ينتصب عن يمينها ويسارها أفعوانان عملاقان، وفي أفق السماء يظهر الهلال في يومه الأول (الشكل
4-15 ).
شكل 4-15: إيزيس والأفعى.
شكل 4-16: الإناء الفخاري والأفعى إسبرطة.
شكل 4-17: رحيا والأفعى.
وقد ينوب عن الأم الكبرى الإناء الفخاري، رمزها القديم، فتلتف عليه الأفعى كما تلتف على جسد الأم الكريتية (الشكل
4-16 )، والنساء الجورجونات في الميثولوجية الإغريقية تنطلق الأفاعي من رءوسهن بدل الشعر، وكذلك الميدوزا التي تحول نظرتها الرجال إلى حجارة. وفي هذا المجال نتذكر نص أبوليوس السالف الذكر عن الأم القمرية الواحدة التي قدم لها صورة أدبية رائعة وهي تطلع من البحر: «كان شعرها الطويل الغزير ينسدل جدائل مستدقة الأطراف على عنقها الجميل. فوقه إكليل شبكت إليه كل أنواع الورود، وحول الرأس قرص نوراني يسطع كمرآة، أو كوجه القمر البهي، مما أنبأني عن حقيقتها. وكان أفعوانان ينتصبان من يديها اليمنى واليسرى، ليسندا ذلك القرص وإلى جانبهما تنطلق سنابل القمح.»
إن حية الأم الكبرى هي رمز معقد ومتشابك، ولكنه في جانبه الأساسي يشير إلى خصائص عشتار القمرية وخصائصها الإخصابية أيضا. ففي الشكل (
4-14 ) نجد الأفعى تنتصب خلف ديمتر في اللحظة التي تسلم فيها سنبلة القمح الأولى إلى الشاب الذي سيوزعها في جميع أنحاء العالم. وفي وصف أبوليوس تنطلق سنابل القمح على جانب الأفعوانين اللذين يسندان قرص القمر. كما اعتبرت الحية بمنزلة روح للشجرة، وحارسة لمياه الينابيع، نجدها في كثير من الأعمال التشكيلية وقد التفت حول الشجرة ومن تحتها تنبثق مياه الينبوع، كما هو الحال في الشكل رقم (
4-18 ) الذي يمدنا أيضا بمثال عن الحية ذات القرون. وهذه العناصر الثلاثة: الشجرة والأفعى والنبع، تتكرر في كثير من الرسوم. وفي بعضها يغلب على المشهد جو فردوسي تنتعش فيه كل أنواع النباتات، مما يشير إلى أن الأفعى هي رمز لخصب الطبيعة بشكل عام، إلى جانب كونها روحا للشجر والغاب. وفي كثير من النقوش والرسوم، سواء في العالم اليوناني الروماني أو في الشرق القديم، تبدو الحية محاطة بكل رموز الخصب، وخصوصا سنابل القمح؛ مما يدل على أنها كانت موضوع عبادة وتقديس باعتبارها تجليا لقوى الخصوبة.
48
شكل 4-18: عشتار الأفعى، روح الشجرة وحارسة المياه - رسم إغريقي.
ففي بلاد اليونان كان معبد دلفي مكرسا للأم - الأرض «جايا» وكانت تحرسه، كما تروي الأساطير المتأخرة، الأفعى العملاقة بيثون، إلى أن جاء الإله أبولو فقتل الأفعى واغتصب المعبد الذي صار منذ ذلك الوقت مكرسا لأبولو.
49
إلا أن كاهنة دلفي التي كانت تصدر النبوءات وتكشف الغيب منذ القديم في معبد جايا، قد بقيت موكلة بالنبوءة في معبد أبولو، وحافظت على اسم الحية بيثون.
50
كما بقيت حيات الأم الكبرى ترتع في بعض معابد أبولو على أنها من نسل أفعى جايا، وكان لها كاهنات مخصصات يخرجنها من مخبئها في مناسبات خاصة، ويقدمن لها الطعام وهن عاريات. فإذا تقدمت الحيات بهدوء وسكينة فالتقطت طعامها دون أن تخيف الكاهنة، كان ذلك بشيرا بمواسم طيبة وسنة خالية من الكوارث والأمراض. أما إذا حدث العكس، كان ذلك نذيرا بشر مستطير قادم،
51
وهذه الطقوس بقية باقية من طقوس أفعى الأم الكبرى. وفي الديانة الديونيسية - الأورفية، كانت الأفعى تعبد باعتبارها الإله ديونيسيوس نفسه، وهناك بعض الأعمال التشكيلية الأورفية تظهر الأفعى المجنحة، ديونيسيوس، ملتفة حول نفسها وحولها عدد من الرجال والنساء عراة في وضع التقديس والتعبد.
52
وقد انتقلت عبادة الأفعى من ديانات الخصب إلى ديانات الخلاص السرية التي انبثقت عنها. ففي الطقوس الخاصة ببعض هذه الديانات، كان المحتفلون يحتفظون بحية في سلة ثم يخرجونها في لحظة معينة من الطقوس لتمثيل اتحاد العابدين بالإله المخلص. وقد تنوب عن الأفعى الحقيقية أفعى مصنوعة من الذهب.
53
هذه الأفعى الذهبية تذكرنا بالحية التي صنعها موسى لقومه في قفر سيناء: «فأرسل الرب على الشعب حيات محرقة فلدغت الشعب، ومات قوم كثيرون من إسرائيل. فأتى الشعب إلى موسى وقالوا: أخطأنا إذ تكلمنا على الرب وعليك، فصل إلى الرب ليرفع عنا الحيات، فصلى موسى لأجل الشعب، فقال الرب لموسى: اصنع حية محرقة وضعها على راية، فكل من لدغ ونظر إلى حية النحاس يحيا.»
54
ومن الغريب فعلا أن يقوم موسى بصنع تمثال نحاسي للحية بعد أن تلقى أمرا من الرب يقول: «لا تصنع لك تمثالا منحوتا ولا صورة ما، مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض.»
55
والتفسير الوحيد لقيام مؤلفي التوراة بإيراد هذه الرواية، هو تبرير عبادة الأفعى التي كانت قائمة لدى اليهود، والتي استمرت حتى زمن طويل بعد موسى بتأثير الديانات السورية المحيطة بهم. فبعد ما ينوف عن الأربعمائة سنة من وفاة موسى، نجد نصوص التوراة ما زالت تتحدث عن عبادة الأفعى؛ فهذا هو الملك حزقيا: «قد عمل المستقيم في عيني الرب حسب كل ما عمل داود أبوه وهو أزال المرتفعات، وكسر التماثيل، وقطع السواري، وسحق حية النحاس التي عملها موسى؛ لأن بني إسرائيل كانوا إلى تلك الأيام يوقدون لها ودعوها نحشتان.»
56
ولعل عبادة الأفعى لدى العبرانيين ترجع في أصولها إلى تاريخ أبعد من موسى. يدلنا ذلك اسم القبيلة التي كانت تمسك بزمام الكهنة في الديانة اليهودية وهي قبيلة اللاويين، أو بني لاوي؛ إذ أن لاوي يشترك في جذره في اللغة العبرانية مع اسم لواياتان؛ أي: الحية.
وكما كان لكل فردوس حيته التي تعبر عن روح الشجر والغاب، كذلك كان فردوس يهوه الذي غرسه شرقي عدن. فبعد أن أينعت الجنة التوراتية، وصنعت حواء من ضلع آدم، تسلل رمز الحية لإكمال المشهد: إن شجرة المعرفة التي زرعها الرب في وسط الجنة، والتي تظهرها الأعمال الفنية منذ القرون الوسطى وقد التفت حولها توسوس في أذن المرأة، لتبدو نسخة تامة الشبه بشجرة الأم الكبرى وحيتها الموضحة في الشكل (
4-18 )، وغيره من الأعمال القديمة التي تعالج الموضوع نفسه. ونحن هنا أمام تبديات للأم الكبرى في مركز الفردوس التوراتي. فحواء هي نموذج إنساني مصغر لعشتار سيدة الحياة، واسمها نفسه يعني الحية أو سيدة الحياة؛ لأن كل الحيوات المقبلة إلى نهاية الزمن مودعة في صلبها، والشجرة هي أيضا عشتار مركز الفردوس النباتي. والحية هي روح الطبيعة التي تطلب من المرأة أن تبقى لصيقة بها ولا تنصاع لشرائع الذكر الذي بدأ بالانفصال عن الطبيعة. وليس الأمر الذي أعطاه الرب لآدم بألا يأكل من الشجرة، إلا تعبيرا عن شرائع الذكر نفسه، التي سنها وعمل على الالتزام بها لتنظيم ارتقائه عن القانون الطبيعي، بلجوئه إلى قانون من صنعه . ولكن شرائع الذكر تسقط أمام إصرار المرأة على الوفاء للطبيعة، فتصغي لنداء عشتار الذي تهمس به الحية وتأكل من الثمرة المحرمة متحدية شرائع الذكر، ثم ينسى الذكر شرائعه ويتحد بالأنثى تحت شجرة عشتار، إلى أن يصحو على صوت الرب الغاضب، صوت ضمير الرجل الذي وضع نصب عينيه الخروج من مملكة الطبيعة. يأخذ الرجل بيد أنثاه ويطرد نفسه من جنة عدن، براءة الإنسان الأولى، ويدخل عالما من صنعه هو؛ عالم البناء والتشييد، عالم التصعيد، عالم حضارة لا تحاكي الطبيعة بل تقف ندا لها.
وقد استمرت عبادة الحية التي عبدها العبرانيون تحت اسم نحشتان قائمة في المذاهب الغنوصية، التي تشكلت نتيجة لقاء عدة روافد من ثقافات الشرق القديم والفلسفة اليونانية والمسيحية الجديدة. يخبر القديس هيبوليتوس عن معتقدات إحدى هذه الفرق في عام 230م فيقول: «كانوا يعبدون فقط الحية «نعاس» أو «نحاش»، ويؤمنون بأن كل معابد الأرض يجب أن تكون مكرسة لها، وكل الطقوس يجب أن تقوم من أجلها وبحضورها داخل المعبد.»
57
ومن الملاحظ أن اسم نحاش ما زال يطلق في اللغة السورية المحكية على الأفعى، مع بعض التعديل في ترتيب الحروف؛ إذ يسميها الناس «حنش». وفي خبر آخر عن معتقدات بعض هذه الفرق أنهم: «كانوا يحتفظون بحية في صندوق إلى يوم الطقوس، ثم يخرجونها ويدعونها تزحف فوق أرغفة من الخبز موضوعة أمامها. بعد ذلك يكسرون الخبر ويوزعونه بينهم، ويقوم كل واحد منهم بتقبيل الحية في فمها؛ ذلك أن الحية قد تم تدجينها بتميمة سحرية، ثم يخضعون أمامها ويصلون، ويرسلون من خلالها ترتيلة للإله الأب الذي في السماوات.»
58
شكل 4-19: الصليب والأفعى في الحمامة - نقش من الفترة المسيحية الأولى.
هذا وقد دخل رمز الأفعى في التفسيرات الماورائية لفرق غنوصية أخرى. عن هذا يخبر القديس هيبوليتوس أيضا: «يتألف الكون بالنسبة لهم من الأب والابن والمادة. يتوسط الابن، وهو اللوغوس، بين الأب والمادة، وهو الأفعى التي تنوس أبدا بينهما، فتأخذ قوى الأب وتطبعها على المادة التي كانت أصلا بلا شكل أو هيئة. ولا يمكن لأحد أن ينجز خلاصه وينهض من عالم الأموات إلى الأبدية بدون الابن، الذي هو الأفعى؛ لأنه هو الذي زود هذا العالم بالصورة والشكل، من الماهية العلوية الكائنة عند الأب، وهو الذي سيرفع معه المستيقظين.»
59
هذه المعتقدات الغنوصية عن الابن - الأفعى، المخلص، لم تتأثر بالعبادات العشتارية وبعبادات الخلاص المتفرعة عنها، بل إنها لتجد سندا لها في العهد الجديد نفسه. نقرأ في إنجيل يوحنا: «وكما رفع موسى الحية في البرية، هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان، لكيلا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية؛ لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكيلا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية.»
60
لقد فتحت هذه الفقرات من إنجيل يوحنا الباب على مصراعيه لدخول رمز الأفعى إلى الفنون التشكيلية المسيحية. ففي الشكل رقم (
4-19 ) نجد الأفعى والصليب وحمامة الروح القدس في تكوين رمزي واحد. أما في الشكل (
4-20 ) فنجد الأفعى مرفوعة على الصليب رمزا للمسيح نفسه.
شكل 4-20: المسيح - الأفعى على الصليب، ألمانيا القرن السادس عشر.
ولقد وجهت الميثولوجيا الذكرية، هنا أيضا، هجوما ضد هذا الرمز العشتاري المرتبط بعبادة الأم الكبرى، ونكاد لا نعثر على إله شمسي أو سماوي لم يدخل في صراع مميت مع أفعى الأم الكبرى. ولعل هذا الصراع يعكس صداما موغلا في القدم تم عند مشارف التاريخ المكتوب، بين الديانات الأمومية القديمة والديانات الذكرية الصاعدة، وانتهى بتدمير معابد الأم الكبرى، وقتل كاهنتها التي ترتدي جلد الأفعى وقناعها، وتحطيم تماثيل الحية المعدنية داخل الحرم. فالإله أبولو، كما تروي الأسطورة الإغريقية،
61
قد تصدى بعد ولادته بأربعة أيام فقط للأفعى «بيثون» أفعى الأم جايا وبنت الأرض. وفي المكان الذي قتلها فيه، بنى معبده الجديد في دلفي. ولكننا نعرف من مصادر إغريقية أخرى أن معبد دلفي قديم العهد جدا، وكان مكرسا للأم - الأرض جايا قبل أن يصبح معبدا لأبولو، الأمر الذي يلقي ضوءا على هذه الأسطورة، ويضعها في سياقها التاريخي الصحيح. فالإله أبولو لم يبن معبدا جديدا، بل اقتحم وراء كهنته معبد الأم جايا ، وقتل حيتها، وجعله معبدا له.
وفي الميثولوجيا الإغريقية أيضا، يصرع زيوس أفعى الأم الكبرى ممثلة بالأفعوان الهائل «طيفون» أصغر أبناء الأرض جايا، الذي تصوره الرسوم على هيئة أفعى مجنحة ذات رأس بشري وذراعين. أما الأساطير، فتخبر في وصفه أن رأسه يناطح النجوم، وذراعيه تمتدان من مشرق الشمس إلى مغربها، ومن كتفه تنبعث مئات من رءوس الأفاعي، التي تمد ألسنة طويلة يخرج منها اللهب الحارق، فإذا زمجر رددت الجبال صدى صوته الرهيب واهتزت مساكن الآلهة في أعالي الأوليمب، وإذا تحرك ارتجت الأرض وأضاء لهب أنفاسه الساخنة سطح بحر الظلمات، وغلت مياه المحيطات فتفرقت أمواجها تلطم الشواطئ. وقد كاد هذا الأفعوان أن يغدو سيد الخليقة، لولا أن تغلب زيوس على خوفه وتقدم لصراعه، فشطره بالصواعق ودفع به إلى العالم الأسفل. ومن هناك بقيت تصدر منه العواصف التي تحرك المحيطات وتغرق السفن وتحطم ما يبنيه البشر على السواحل.
62
وفي بلاد الرافدين تكثر الأعمال التشكيلية التي تظهر صراع الإله مع تنانين أفعوانية. كما نجد في أسطورة الإله مردوخ والأفعوان لابو جوا شبيها بجو أسطورة زيوس وطيفون. فكما كان طيفون ابنا للأم الأولى جايا، كذلك الأفعوان لابو الذي كان ابنا للأم الأولى تعامة، خرج من أعماق البحر البدئي القديم مهددا مجمع آلهة بابل، وكاد يقضي عليهم جميعا لولا أن تصدى له أحد الآلهة (ربما مردوخ) فصرعه بالزوابع والأعاصير، وترك أشلاءه في السماء باقية حتى الآن مشكلة درب المجرة المضيء.
63
وفي الميثولوجيا العبرانية، يقوم يهوه أيضا بالصراع ضد الأفعى «لوياتان» ويقضي عليها: «في ذلك اليوم يعاقب الرب بسيفه القاسي العظيم لوياتان الحية الهاربة، لوياتان الحية الملتوية، ويقتل التنين الذي في البحر.»
64
وأيضا: «أنت شققت البحر بقوتك، كسرت رءوس التنانين على المياه، أنت رضضت رءوس لوياتان جعلته طعاما للشعب.»
65
كما نجد وصفا للوياتان يذكرنا بوصف لابو: «من يفتح مصراعي فمه، دائرة أسنانه مرعبة، عطاسه يبعث نورا وعيناه كهدب الصبح، من فمه يخرج مصابيح، شرار نار تتطاير منه. من منخريه يخرج دخان، عند نهوضه تفزع الأقوياء، يحسب الحديد كالتبن، والنحاس كالعود النخر، يضيء السبيل وراءه.»
66
سيدة الحيوان
إن سيدة الغاب والبراري الوحشية والطبيعة البكر، هي سيدة عالم الحيوان، تظهرها رسوم ومنحوتات العصر النيوليتي في صحبة حيواناتها، أو ممتطية صهواتها، أو حاملة أشبالها على كتفيها. ففي الشكل رقم (
4-21 ) وهو منحوتة من شتال حيوك، نجد الأم الكبرى في شكلها النمطي جالسة على الأرض وعلى كتفيها زوج من الفهود، التي كانت في ميثولوجيا شتال حيوك رمزا للحياة الطبيعية الوحشية، ورمزا لقوة الأم الكبرى وبأسها. وإضافة إلى ظهور هذه الحيوانات إلى جانب الإلهة في تماثيلها ورسومها، فإن أشكالها تزين جدران المعابد، لا باعتبارها موضعا للتقديس والعبادة بذاتها، بل باعتبارها رمزا لسلطة الأم الكبرى على الحياة البرية، وكانت الإلهة نفسها تبدو في بعض الأعمال التشكيلية لشتال حيوك وقد ارتدت جلود الفهد، أو تجلس على عرش تحمله الحيوانات المختلفة.
67
وفي عصور الكتابة اللاحقة تتابع عشتار ظهورها كسيدة للحيوانات في جميع الثقافات؛ رغم الاتجاهات الدينية الجديدة التي تجعل الألوهة المذكرة في صراع مع الحيوانات لا في وئام معها، شأن عشتار. ففي مقارعة الحيوانات الكاسرة رمز لانفصال الرجل عن عالم الطبيعة وترويضه لكل ما هو فطري وغريزي، سواء في داخله أو على المستوى الطبيعي. وفي رعاية عشتار للحيوان رمز لوفاء المرأة لتكوينها الأصيل كجزء من الطبيعة متحد معها لا منفصل ولا متسام عليها. لقد صرع إله الشمس تنانينه ووحوشه الخرافية، وبنى فوق أشلائها عالما من صنعه، تحكمه شرائعه وقوانينه الموضوعة، بينما بقيت الإلهة القمرية مع حيواناتها جزءا من حكمة الطبيعة المتدفقة أزلا وأبدا.
في بلاد الرافدين نجد كثيرا من الأختام الأسطوانية تعالج موضوع سيدة الحيوان؛ إذ نجد إنانا السومرية أو عشتار البابلية في وضع عار أو نصف عار وسط حشد من مختلف أنواع الحيوانات. وفي بعض الأختام السومرية، نجد سيدة الحيوان واقفة فوق تيس، وفي نحت من أوغاريت نجد عناة عارية الصدر تمسك بيدها حزمتين من أوراق النبات، وعن يمينها وشمالها يشب تيسان على أقدامهما الخلفية. وفي نحت أوغاريتي آخر نراها عارية فوق أسد وبيديها الاثنتين ترفع حزمتين من النبات (شكل رقم
4-22 ). وفي كريت تقف على مرتفع وعن يمينها ويسارها أسدان (الشكل رقم
2-12
فصل الأم الكبرى).
شكل 4-21: سيدة الحيوان - شتال حيوك، 6000ق.م.
وفي اليونان لا تكاد أرتميس تظهر في رسم أو نحت دون حيواناتها من أيائل وغزلان وما إليها. والرسم الخزفي الموضح في الشكل رقم (
4-23 ) يظهر سيدة الحيوان واقفة وسط مجموعة متنوعة من الحيوانات، باسطة ذراعيها في وضع من يهب الحماية والرعاية، وقد زخرت أرضية الشكل برمز الصليب المعكوف. وجو العمل الفني هنا يذكرنا بنص هوميري تبدو فيه الإلهة أفروديت كسيدة للحيوان: «من ورائها مشت ذئاب غبراء تتمسح بها، وأسود ذات عيون متوحشة ودببة وفهود ضامرة. وكانت الإلهة فرحة بها جميعا فأهاجت الرغبة في صدرها، فانفردت أزواجا أزواجا تتضاجع في الوديان الظليلة.»
68
ومثل أفروديت تتجلى الحورية العشتارية «سيرسي» في جزيرتها لأوديسيوس (= يوليسيس) الضارب في متاهات البحار: «حول بيتها ترتع الذئاب وأسود الجبال. حيوانات لا تهاجم الرجل بل تشب أمامهم وتتمسح بهم، محركة أذيالها ككلب ينتظر خروج سيده من البيت.»
69
وقد ارتبط بالأم الكبرى عدد من الرموز الحيوانية ذات الدلالة العميقة، التي تشير إلى بعض خصائص الإلهة وسلطتها على مجالات معينة من مجالات النفس الإنسانية والكون الأرحب. ولعل من أهم هذه الرموز، رمز الأفعى الذي أفردنا له جزءا خاصا من هذا الفصل، ورمز السمكة، ورمز الحمامة.
شكل 4-22: سيدة الحيوان - أوغاريت.
شكل 4-23: سيدة الحيوان - اليونان.
إن السمكة السابحة في أعماق البحار المظلمة، كالقمر السابح في السماء المعتمة، هي الرمز الأكثر تعبيرا عن الدوافع والغرائز الطبيعية الخافية للنفس. ومن ناحية أخرى، فإن في رمز السمكة إشارة إلى المياه التي تشكل ثالث العوالم الكبرى التي تقع تحت سيطرة الأم الكبرى، بعد عالم السماء والأرض. فالأم الكبرى هي المياه البدئية الأولى التي تحرك المطلق في أعماقها من حالة السكون إلى دينامية الخلق. وعلى المستوى الطبيعي، هي مصدر المياه التي تتفجر ينابيعها وتجري أنهارا تملأ البحيرات العذبة والبحار والمحيطات المالحة. لذا فقد بقي رمز السمكة مرتبطا بالأم الكبرى رغم إعطاء عالم المياه للآلهة الذكور في ميثولوجيا عصور الكتابة. فنرى السمكة مرسومة على رداء السيدة، كما هو الحال في تمثال عشتار مدينة ماري السورية المعروف باسم ربة الينبوع، حيث نراها في وضعية الوقوف ممسكة بجرة تميل فوهتها نحو الأمام وقد اصطفت الأسماك على طول ثوبها الذي يلامس الأرض. وكما هو الحال في الرسم الإغريقي الموضح سابقا في الشكل رقم (
4-23 ). ففي هذا الشكل يتخذ جسد الأم الكبرى كله هيئة جرة فخارية ينثال الماء من وسطها تيارا نحو الأرض، وفي داخلها سمكة ترمز للمياه الباطنية التي تولدها الجرة - الأرض جسد الأم الكبرى، وتطلقها إلى الخارج. وفي سوريا كانت عشتار أحيانا تظهر في الأعمال التشكيلية في هيئة امرأة نصفها الأسفل سمكة، وتدعى بعشتار - ديركيتو.
70
وهذا التجلي العشتاري السمكي هو الذي أمد الأساطير والخرافات الشعبية بعنصر حوريات البحر. وإلى جانب الأعمال التشكيلية، نجد في بعض ألقاب الأم الكبرى توكيدا على خصائصها المائية البحرية؛ فعشتاروت الكنعانيين كانت تدعى بسيدة البحار، وكذلك إيزيس. وفيما بعد، رفع البحارة السيدة مريم العذراء راعية للمحيطات وحافظة للملاحين تحت اسم «نجمة البحر».
71
يقوم الطائر كرمز لرحلة عشتار عبر السماوات من مشارق الأرض إلى مغاربها. وعشتار المجنحة، هي القمر السابح في الأعالي في رحلته اليومية. يمثلها الفن الكنعاني في نحت بارز محفوظ في متحف دمشق، وقد نشرت جناحيها اللذين يملآن الصورة، وعن يمينها ويسارها إلهان أقصر منها قامة، يتطاولان ويشرئب عنقاهما ليرضعا من ثدييها العاريين، ومثلها في ذلك الإلهة إيزيس التي غالبا ما يعيرها الفن الفرعوني جناحين كبيرين، والتي تتحدث عنها النصوص الطقسية والأسطورية بهذه الصفة:
إيزيس صاحبة السلطان وروح العدل، حمت أخاها،
بحثت عنه بلا كلل ولا أقعدها عناء،
ظللت جسده بريشها ورفت فوقه بجناحيها.
72
وعندما لا تبدو الأم الكبرى في هيئة الطائر، فإن الطيور تظهر إلى جانبها في الأعمال التشكيلية، وقد تدخل هذه الطيور في صلب طقوسها وعباداتها كما كان الأمر في ثقافة شتال حيوك النيوليتية. فطائر النسر كان رمزا للأم الكبرى لشتال حيوك، نجده في جميع معابدها وقد ملأ جناحاه جدار المعبد المقابل لتمثال الآلهة.
73
وهناك من الأدلة ما يشير إلى أن كاهناتها كن يلبسن أردية من ريش النسور، ويضعن أقنعة على هيئة رءوس النسر خلال الطقوس وتقديم القرابين.
74
هذا وقد بقي النسر رمزا للأم الكبرى في بعض ثقافات عصور الكتابة، كما هو الحال في مصر، حيث أظهرت الأعمال التشكيلية أحيانا الأم الكبرى برأس النسر. كما اعتقد المصريون قديما بأن النسور كلها من جنس الإناث وأنها تحبل بواسطة الريح.
75
وفي الأعمال التشكيلية الإغريقية تظهر الطيور مرافقة لأرتميس كما هو الحال في الشكل (
4-12 ) الموضح آنفا. إلا أنها تظهر على وجه الخصوص مرافقة للإلهة أفروديت المشهورة بحماماتها التي تنتشر حولها أو تهدأ بين يديها. ومع أفروديت يتخذ رمز الطائر دلالة إضافية، فهي إلهة الحب الذي يجعل أفئدة البشر تخفق كخفق أجنحة الحمام عندما تضطرم الجنبات بالعواطف. وابنها الإله كيوبيد هو الإله الحمامة، الذي يطير دوما بجناحين أبيضين فيرمي بسهامه قلوب البشر ليزرع فيها الحب والعشق.
وفي الأيقونات المسيحية منذ العصر البيزنطي، تبدو الحمامة كرمز للألوهة، وللروح القدس الذي يهبط على السيدة مريم ليهبها غلاما. وفي هذا النوع من الأيقونات التي تدعى بأيقونات البشارة، نجد العذراء والملاك الذي يأتيها بالبشارة، ثم حمامة الروح القدس البيضاء ترف داخل دائرة في الأعلى، تنحدر منها ثلاث حزم من نور على البتول.
76
وهذه الأيقونات تعتمد حادثة البشارة الواردة في العهد الجديد موضوعا لها، عندما هبط الملاك يبشر مريم بمولودها: «فقالت مريم للملاك: كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلا؟ فأجاب الملاك وقال لها: الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك؛ فلذلك أيضا القدوس المولود منك يدعى ابن الله.»
77
إن حمل مريم بابنها بعد هبوط الروح القدس عليها في هيئة حمامة، هو استمرار (على المستوى السراني للحدث الأسطوري) لفكرة الأم الكبرى المخصبة ذاتيا، والتي تلد ابنها دون معونة من ذكر، بل بواسطة قواها الإخصابية المعكوسة نحو الخارج، والمستردة إليها من ثم، وأم الإله هنا إنما تلتقي برمزها الخارجي الذي يستقطب قواها الإخصابية ذاتها. ولسوف نعمل على توضيح هذه النقطة الدقيقة في فصل «تموز الخضر» في هذا الكتاب.
وقد اعتمد رسامو الأيقونات البيزنطية على نصوص العهد الجديد ذاتها، في إظهار الروح القدس، ثالث الأقانيم الثلاثة، في هيئة الحمامة. نقرأ في إنجيل متى: «فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء، وإذا السماوات قد انفتحت له فرأى روح الله نازلا مثل حمامة وآتيا عليه، وصوت من السماوات قائلا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت.»
78
وفي إنجيل يوحنا: «وشهد يوحنا قائلا: إنني قد رأيت الروح نازلا عليه مثل حمامة من السماء فاستقر عليه.»
79
وفي إنجيل لوقا: «وإذا كان يصلي انفتحت السماء ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة، وكان صوت من السماء قائلا: أنت ابني الحبيب الذي به سررت.»
80
وفي إنجيل مرقس: «وفي تلك الأيام جاء يسوع من ناصرة الجليل واعتمد من يوحنا في الأردن، وللوقت وهو صاعد من الماء رأى السماوات قد انشقت والروح مثل حمامة نازلا عليه.»
81
والروح القدس، الحمامة، هو أيضا رمز للحب في اللاهوت المسيحي، لا للحب بمعناه الأرضي والأفروديتي، وإنما للحب البدئي الإلهي الكامن خلف تبديات الكون: «فقبل الخلق والتكوين كان الإله - الثالوث مؤلفا من الإله الأب، والإله الابن الذي هو الكلمة أو اللوغوس قبل أن يتجسد فيما بعد على الأرض، والروح القدس، ومنذ الأزل كان الابن موضع حب الأب ومسرته، وكان الروح القدس (= الحمامة) هو الحب الساري بينهما.»
82
وفي كتاب التوراة تظهر الحمامة كرمز للبشارة الكبرى بالحياة الجديدة فوق كوكب الأرض. فبعد أن هدأ الطوفان الكبير الذي غمر الأرض وقضى على مظاهر الحياة فيها إلا ما حمل نوح معه في السفينة الكبرى، أطلق نوح حمامته لاستطلاع الأرض. فعادت وفي منقارها غصن زيتون أخضر، دلالة على انخفاض مستوى المياه وظهور رءوس الجبال الخضراء.
83
وما تزال حمامة عشتار هذه، التي بشرت بنجاة الحياة فوق الأرض، رمزا للبشارة بنجاة العالم من الحروب وابتداء عصر سلام بين الشعوب يعيد أدوار العهود الأمومية القديمة.
وفي الفلكلور والمعتقد الشعبي الإسلامي، ما زالت حمامة عشتار مقدسة في شكل الحمامة المعروفة باسم «الستيتية» أي: حمامة الست. وهذه الحماة تعامل بكثير من الاحترام والإكرام ويكره صيدها وأكلها. فهي التي عزا إليها كتاب السيرة النبوية حماية الرسول وصاحبه أبي بكر، عندما تواريا عن أنظار المشركين الذين طاردوهما في هجرتهما إلى المدينة، فاختبآ في غار ثور، وجاءت الستيتية فاستقرت عند باب الغار مطمئنة فوق بيضها؛ ما أبعد عن أذهان المشركين، لما وصلوا المكان، فكرة وجود أحد داخله، كما ساعد على إنقاذ المتوارين في الغار، نسيج القدر الذي تعزو نفس المصادر إلى العنكب بناءه فوق مدخل غار ثور.
وأخيرا لا تزال حمامات عشتار جزءا من مملكة السماء في التقاليد الدينية التي تصور الملائكة في هيئة مخلوقات نورانية، تخفق بأجنحة الحمام.
سيدة الشفاء
خلال تجوالها الطويل في البرية بحثا عن الجذور والأعشاب الصالحة للأكل، اكتسبت المرأة معرفة بفصائل الأعشاب وأنواعها وطرق الإفادة منها، ثم قادتها الخبرات في هذا المجال إلى اكتشاف الخواص الشافية لبعض الأعشاب، والخواص السامة المميتة لبعضها الآخر، فاستحلبتها وصنعت منها الأكاسير، مضيفة بذلك نشاطا جديدا إلى نشاطاتها التحويلية الخلاقة، ومتحكمة بسر آخر من أسرار الطبيعة، به تشفي وبه تميت، سر أودعته عشتار الخضراء في نباتاتها ولم تكشف عنه إلا لوكيلاتها على الأرض. إن سيدة الحياة هي من يستعيد المريض إلى الحياة، وسيدة النبات التي أخرجت الحب والمرعى، فجعلته طعاما للبشر والحيوان، هي من وضعت فيه سرا آخر من أسرار الحفاظ على الحياة.
تظهر عشتار البابلية كسيدة للشفاء في التراتيل والصلوات التي تركتها لنا ثقافة بلاد الرافدين، كما نستطيع متابعة هذه الخصيصة لدى معظم تجليات الأم الكبرى في شتى الثقافات. إلا أن إيزيس المصرية تقدم لنا أوضح مثال عن الأم الكبرى الشافية؛ فإيزيس
84
هي التي اكتشفت الأدوية الشافية الأولى، وكانت حاذقة في فنون الطب، تمد يد العون لكل جسد عليل يطلب رحمتها، وغالبا ما كانت تظهر في أحلام المرضى لتعطيهم الراحة وتدلهم على سبيل الشفاء، ويقال إن الأعمى كان يبصر والكسيح يمشي بتأثير لمستها الشافية. وقد وصلت قدراتها الشافية حد إقامة الموتى من مضجعهم. ومن بعدها برع ابنها حورس في هذا المجال، فاكتسب منها أسرار الشفاء، وقدم للبشر خدمات جلى.
أما السيدة مريم العذراء فقد حافظت على لقب «سيدة الصحة»،
85
وتدعوها الصلوات المريمية بشافية أسقام النفس وأوجاع الجسد. ويؤمن الناس إلى اليوم بالقدرة الشافية لبعض تماثيل العذراء، كما يروون عن معجزات ظهورها في الحلم لبعض المرضى الميئوس منهم، وشفائها لهم عن طريق اللمس. لمسة الشفاء هذه، يعزوها المعتقد الشعبي الإسلامي إلى السيد «الخضر» فيقولون عن الدواء الشافي الفعال بأنه يشبه لمسة الخضر. واسم الخضر، بفتح الخاء وكسر الضاد، يعني الأخضر، وهي صفة قديمة للإله تموز البابلي ابن الأم الكبرى عشتار، الذي كان من بعدها تجسيدا لروح النبات. وليس الخضر في الواقع إلا استمرارا في الخيال الشعبي لذلك الإله الزراعي، الذي يجدد حياته في كل عام بالموت والبعث، وهو مثله السيد الحي في كل زمان ومكان.
كما كانت الحية رمزا لعشتار الخضراء، روح الإنبات والخصوبة؛ فقد كانت أيضا رمزا لعشتار الشافية؛ ففي سومر يظهر رمز الأفعوانين المتقابلين الملتفين على عصا (الشكل
4-24 ) كرمز لإله الشفاء ننجزيدا (وهو أحد أشكال الإله تموز)؛ وذلك منذ أواسط الألف الثالث قبل الميلاد، وقد انتشر هذا الرمز نحو الهند شرقا منذ زمن مبكر جدا، وقبل اجتياح القبائل الهندو أوروبية، وما زال قائما إلى اليوم في التقاليد الفلكلورية لوسط جنوب الهند وبشكله السومري القديم؛ إذ يعتقد الهنود بقدرة هذا الرمز على إعطاء الخصوبة للنساء العاقرات، فينحت على حجر يغمر مدة ستة أشهر بماء البحيرة لإكسابه قوة الحياة، ثم يخرج فينصب تحت إحدى الأشجار. كما انتشر الرمز غربا نحو اليونان وصار رمزا لإله الطب «أسكليبيوس»،
86
وعند الرومان ارتبط بسنابل القمح كرمز للخصب،
87
الشكل (
4-25 ).
شكل 4-24: الكاديكيوس السومري.
شكل 4-25: الكاديكيوس اليوناني الروماني.
وقد دعي هذا الرمز لدى اليونان والرومان بالكاديكيوس. ونستطيع ملاحظة وجود واستمرار هذا الرمز حيا في الشرق القديم، من حكاية حية النحاس التي رفعها موسى في القفر لشفاء العبرانيين، فتلك الحية لم تكن سوى أفعوان ملتف على عصا.
عن أسكليبيوس إله الطب، تقول الأسطورة الإغريقية: إنه كان ابنا لأبولو، علمه السنتور (وهو مخلوق نصفه حصان ونصفه إنسان) الطب فنشأ بارعا فيه لدرجة أنه كان قادرا على إحياء الموتى ، كما كان مدينا ببراعته للأفعى التي علمته أسرار النبات وخصائصه. ولكن كبير الآلهة زيوس قضى على إله الصحة والشفاء بصواعقه المميتة؛ لأنه كان يهدد سلطان العالم الأسفل بإنقاصه عدد الموتى. إلا أن أسكليبيوس قد تابع مهمته في شفاء الناس بعد موته، فكان يظهر في أحلامهم ويدلهم على سبل الشفاء. تمثله الأعمال التشكيلية على هيئة رجل حكيم في أواسط العمر، يتوكأ على عصا تلتف عليها أفعى. وقد تظهر الأفعى وحدها باعتبارها إله الشفاء نفسه. ترك أسكليبيوس وراءه ابنته هيجيا التي صارت من بعده إلهة للصحة.
88
إلى جانب الأفعى التي علمت إله الطب أسرار النباتات والأعشاب الشافية، نجد في الميثولوجيا الإغريقية، أفعى أخرى أعطته بعد موتها دمها الذي يشفي والذي يميت. وهي المرأة الأفعى ميدوزا، التي قتلها البطل نصف الإله بيرسيوس في جملة أعماله البطولية الخارقة. وقد أعطى دمها لأسكليبيوس الذي جمع دماء أوردتها اليمنى في إناء آخر، فكان بدم الجهة اليمنى يشفي وبدم الجهة اليسرى يعطي السم القاتل.
89
ومن الملفت للنظر حقا أن نجد العناصر الرئيسية لهذه الأسطورة تتكرر في حكايات ألف ليلة وليلة. فالأسطورة عندما تتدهور وتفقد سيطرتها وتأثيرها، تتشظى إلى خرافات مبعثرة في الفلكلور والحكايات الشعبية، إلا أن رموزها مع ذلك تبقى حية متوهجة رغم الرماد المتراكم فوقها. ففي حكاية حاسب الدين نجد الميدوزا، الأفعى العشتارية، في شخصية ملكة الحيات التي تقتل ويؤخذ من جسدها مستحضر يشفي ومستحضر يميت وثالث يهب الحكمة:
شكل 4-26: الأفعى وإناء عشتار - كريت.
يجد حاسب الدين نفسه في بئر مهجورة مظلمة بعد أن خانه زملاؤه وتركوه ليموت هناك، ولكنه يفلح في ثقب جدار البئر بحثا عن مخرج، فينفتح أمامه ممر طويل يسلكه ليصل إلى باب ذي مقبض ذهبي، يفتح حاسب الدين الباب فيجد نفسه أمام حديقة عظيمة يضيئها نور باهر، وتتوسطها بحيرة ماء في مركزها تل من الزبرجد الأخضر، عليه سرير منصوب من الذهب حوله اثنا عشر كرسيا. يتجول حاسب الدين ممتعا أنظاره بمشهد الحديقة، ثم يصعد إلى السرير حيث يغفو زمنا ليفيق على صوت فحيح وصفير، ويرى على الكراسي حيات عظيمة، طول كل منها مائة ذراع، والماء من حوله قد امتلأ بحيات صغيرة لا يعلم عددها إلا الله. ثم تقبل على المكان حية عظيمة على ظهرها طبق من ذهب في وسطه حية تضيء مثل البلور ووجهها كوجه إنسان تتكلم بلسان فصيح، فيعلم أنها ملكة الحيات، تطمئنه وتعطيه الأمان، ولكنها تخبره بأن في خروجه إلى سطح الأرض خطرا على حياتها؛ لأنه مكتوب منذ القدم أن نهايتها ستكون على يد رجل يعرف مكانها ويدل عليها، ولذا فإن عليه أن يبقى ضيفا عليها وينسى إلى الأبد حياته السابقة. يمر عامان كاملان وحاسب الدين في أسر وضيافة ملكة الحيات، لا ينقصه شيء سوى الحرية في العودة إلى بيته وبلده. وكان لا يكف عن الشكوى إليها والتوسل من أجل إطلاق سراحه، واعدا إياها بحفظ سرها كما حفظت حياته. تلين الملكة أخيرا وتقرر الإفراج عن حاسب الدين تحت شرط واحد؛ هو ألا يدخل أحد حمامات المدينة طيلة حياته، فيتعهد بحفظ الوصية، ويجد نفسه عند فوهة البئر الذي تركه فيه رفاقه. بعد مدة من الزمن يضطر حاسب الدين تحت ظروف قاهرة إلى دخول الحمام العام، وما إن يسكب الماء على جسمه، حتى تظهر على بطنه بقعة زرقاء كبيرة، تلفت نظر جواسيس الوزير، الذين بثهم في كل حمامات المدينة منذ زمن طويل؛ بحثا عن رجل تظهر على بطنه مثل هذه البقعة؛ لأنه مكتوب منذ القديم أن مثل هذا الرجل يعرف مكان ملكة الحيات التي لا شفاء للملك من دائه العضال إلا بأكل لحمها. يأتي العسكر بعد قليل فيقتادون حاسب الدين إلى ديوان الوزير، هناك وتحت الضغط والإرهاب، يفشي حاسب الدين بمكان ملكة الحيات ويمضي مع الوزير إلى البئر التي نزل فيها، حيث يتم استخراج الملكة عن طريق التمائم السحرية. في الطريق إلى المدينة يعتذر حاسب الدين للأفعى عن خيانته للعهد، ويشرح لها الظروف التي أكرهته على ذلك؛ ولكن الأفعى تطمئنه بأنها لا تكن له أي حقد أو ضغينة، وأنها تسلم أمرها للقدر المكتوب الذي لم يكن حاسب الدين إلا أداة له ومطية. ثم تكشف له عن سر خطير وهو أن جزءا من جسدها يشفي ويحيي، وجزءا يميت، وثالثا يهب الحكمة. وتطلب منه أن يشرف بنفسه على عملية ذبحها وتوزيع لحمها، فيعطي الملك الجزء الذي يشفي، والوزير الجزء الذي يميت انتقاما منه على اقتيادها إلى حتفها، ويأخذ لنفسه الجزء الذي يهب الحكمة. يفعل حاسب الدين حسب مشيئة الحية؛ فيشفى الملك ويموت الوزير. أما هو فقد انفتحت له أبواب السماء ورأى السماوات السبع وما فيهن إلى سدرة المنتهى، وصار أكثر أهل عصره حكمة ومعرفة.
90
إن الأفعى في هذه الحكايا ما زالت محافظة على ثلاث خصائص للأم الكبرى كإلهة للحياة والشفاء، وإلهة للحكمة، وقد درسنا إلهة الحياة في هذا الفصل، وسنأتي إلى دراسة إلهة الموت وإلهة الحكمة في فصول قادمة.
أخيرا، إن أفعى عشتار الشافية ما زالت قائمة بيننا اليوم ورمز الكاديكيوس السومري، شارة الطب والشفاء، ما زال إلى الآن رمزا للطب في جميع أنحاء العالم، نجده مطبوعا على الوصفات الطبية وعبوات الأدوية، من دون أن نتساءل عن معنى ذلك الشكل المؤلف من أفعوانين ملتفين بشكل متقابل على عمود. كما أننا لا نتساءل عن معنى رمز طبي آخر، نراه مرسوما على أبواب الصيدليات ولافتاتها، وهو الكأس التي تلتف حولها أفعى واضعة رأسها عند الفوهة. إن الكأس هنا هو الإناء الفخاري، جسد الأم الكبرى، والحية حيتها وقوتها الإحيائية وقدراتها الشافية. وهذا الرمز الطبي الثاني، قديم قدم الرمز الأول، وعالجته الأعمال التشكيلية في الشرق القديم وكريت واليونان. (شكل رقم
4-26 ).
الفصل الخامس
عشتار العذراء
يوم أحيل إلى فناء كل ما قد خلقت،
ستعود الأرض محيطا بلا نهاية كما في البدء.
وحدي، أنا، أبقى،
فأستحيل إلى أفعى كما كنت،
خفية عن الإفهام.
1
هذا ما تحدثت به عن نفسها الأم المصرية الكبرى، مختصرة مبدأ الأشياء وحالها ونهايتها، فقبل البدء كان العماء، الظلمة الأزلية، الأوقيانوس المائي بلا سطح أو قرار، التماثل الساكن قبل أن تخرج منه الأشكال، الواحد قبل أن يتولد منه الكثير، التركيب المطلق قبل نشوء المتناقضات، النقطة التي تملأ كل فراغ، الرحم المظلم الخصيب بكل الممكنات، الأم الأزلية عشتار العذراء، الأفعى الكونية التي تستدير على نفسها فتعض على ذيلها واصلة مبتدأها بمنتهاها.
هذه الحالة الأولى التي تتداخل فيها الظلمة والمياه والسكون، هي الهيولى البدئية والمدار الأعظم الذي رمزت إليه ميثولوجيا الشعوب بشكل الحية التي تعض على ذيلها (الشكل
5-1 ) دلالة الاكتمال الأزلي للمطلق قبل أن ينحل إلى مظاهر الكون المختلفة. فعشتار كانت ولا شيء معها، قيومة بذاتها، مكتملة بنفسها، غنية عن العالمين. وكانت عذراء لأنها ابتدأت الكون، فيما بعد، من خصبها الذاتي دون معونة من مبدأ ذكري مشارك لها في أزلها، فتولدت عنها الموجودات كما يتولد النور من مصدر الاحتراق، وإليها تعود الموجودات في نهاية الأزمان لتفنى فيها، وتبقى وحدها لتلتف على نفسها، كما كانت، دائرة مكتملة، بعد أن يهدأ صخب الوجود وتسكن حركة السالب والموجب وتتصالح المتناقضات.
شكل 5-1: الأوروبورس - الأفعى الكونية.
خرجت الدارة الأولى عن سكونها واكتمالها الأزلي لكي تظهر الكون إلى الوجود، فتحركت على محورها ونتج عن حركتها السالب والموجب، اللذان نجم عن تناوبهما وتناقضهما كل الموجودات تباعا، بدءا من أول نقيضين هما السماء والأرض؛ السماء الموجبة والأرض السالبة؛ ففي الأسطورة السومرية كانت الأم «نمو» محيطا بلا بداية أو نهاية أو قرار، ثم إن هذه الإلهة أنجبت في أعماقها المظلمة كتلة هي جبل السماء والأرض. من لقاح السماء للأرض ولد الهواء الذي تمدد فباعد بين أبويه، وهكذا ظهرت معالم الكون الأولى.
2
هذه الحركة الأمومية التلقائية التي خرج بها المطلق المؤنث عن سكونه وانحل إلى الكون المادي، تكررها أسطورة التكوين البابلية إبان نضج الثقافة الذكرية، بشكل مختلف يتفق مع معطيات الثقافة الجديدة. فخروج الأم الأولى من حالة العماء والهيولى الأولى لا يتم إلا كرها، حيث يشن عليها أولادها الذكور، الذين ولدتهم في أعماق رحمها المائي ، حربا شعواء بقيادة كبيرهم مردوخ الذي يقتلها ويشطر جسدها إلى قسمين؛ واحد يرفعه فيجعله سماء وثان يبسطه أرضا وبحارا. ولكن الحبكة الذكرية للأسطورة لا تخفي أصلها الأمومي القديم الذي أعطتنا الأسطورة السومرية صورة قريبة منه، حيث يتم الخروج من حالة الأوروبوروس المغلق إلى حالة الكون المتحرك طوعا ورغبة من الأم الأولى في إنجاب العالم.
تشير أسطورة التكوين البابلية إلى الأم تعامة باسم الأم «هابور» خالقة الأشياء جميعا. ونفهم من سياق النص أنها كانت على هيئة تنين أو أفعى، وفي نفس الوقت يقدمها مطلع الأسطورة على أنها المياه البدئية:
عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء.
وفي الأسفل لم يكن هناك أرض،
لم يكن سوى آبسو أبوهم،
وممو وتعامة التي حملت بهم جميعا،
يمزجون أمواههم معا.
3
يقدم لنا هذا المقطع المكثف صورة كاملة عن حالة الأقيانوس المائي البدئي المنكفئ على نفسه في صمت وسكون أزلي. فالأم الأولى تعامة قد أنجبت في داخلها «آبسو» وتزوجته، وعنهما نتج «ممو»، إلا أن هذين الاثنين لم يكونا إلا من ذات طبيعتها، ووجودهما كان مكملا لوجودها. ولم تبدأ الحركة ويخرج الأوروبوروس عن تمامه إلا مع الجيل الثاني والثالث من الآلهة الذين بدءوا يهزون جوف تعامة ويملئون بطنها صخبا وضجيجا.
وتجمع الصحب المؤلهون،
أزعجوا بحركتهم جوف تعامة،
يروحون جيئة وذهابا في مسكنهم المقدس.
هنا تحصل المواجهة بين السكون الأزلي والحركة التي تريد كسر الدارة والخروج إلى حالة جديدة:
فتح آبسو فمه قائلا لتعامة بصوت مرتفع:
لقد غدا سلوكهم مؤلما لي،
في النهار لا أستطيع راحة وفي الليل لا يحلو لي رقاد،
لأدمرنهم وأضع حدا لفعالهم،
فيخيم الصمت ونخلد بعدها للنوم.
ولكن آبسو يخسر المعركة فيقتله الإله «إنكي» ويأسر ابنه ممو. وتجد تعامة نفسها أمام المعركة الفاصلة التي يتوجب عليها دخولها كارهة ضد أبنائها الآلهة بقيادة الإله الشمسي مردوخ:
الابن الشمسي، وشمس السماوات،
مثل نوره كنور عشرة آلهة معا. جبار عتي، (ولكنها تخسر المعركة ويجهز عليها مردوخ بعد معركة مهولة):
نشر الرب شبكته واحتواها في داخلها،
وفي وجهها أفلت الرياح الشيطانية التي تهب وراءه،
وعندما فتحت فمها لابتلاعه،
دفع في فمها الرياح الشيطانية فلم تقدر له إطباقا،
وامتلأ جوفها بالرياح الصاخبة،
فبطنها منتفخ وفمها فاغر على اتساعه،
ثم أطلق الرب من سهامه واحدا مزق أعماقها،
تغلغل في الحشا وشطر منها القلب،
فلما تهاوت أمامه أجهز على حياتها،
طرح جثتها أرضا واعتلى عليها، ...
وقف على جزئها الخلفي،
وبهراوته العتية فصل رأسها،
وقطع شرايين دمائها،
التي بعثرتها ريح الشمال إلى الأماكن المجهولة.
بعد ذلك يشطر جسدها فيصنع منهما السماء والأرض ويتابع، من ثم، بقية أعمال الخلق.
إن هذه الملحمة المليئة بالزخرف والتهويل لا تعدو أن تكون بناء مصطنعا فوق الأساس البسيط الذي رأيناه في أسطورة الأم السومرية «نمو». فإذا نحينا جانبا المداخلة الذكرية التي أقحمت الذكر الأسمى مردوخ على سياق الأسطورة الأصلية، موكلة إليه مهمة الخلق وإخراج الكون من العماء بالعنف والقتل، لوجدنا أنفسنا أمام نفس العناصر: الأم العذراء المكتملة، حركة في داخلها تنتج السالب والموجب، انحلالها إلى السماء والأرض وبقية الموجودات. إن فكرة القتل الواردة في هذه الملحمة ليست إلا تحويرا بلغة العقلية الذكرية لفكرة تجاوز المطلق حالته الساكنة وتحرك الأقطاب في داخله، وانتقاله إلى حالة دينامية جديدة تنطلق منها المادة غير المتشكلة التي ما تلبث أن تتشكل وتتكون. إن الكون بعد الخلق ليس إلا العماء البدئي، وقد خرج من حالة إلى حالة دون أن يفقد جوهره الأصلي، الذي يبقى قائما في منطقة ثابتة يدور حولها الوجود، كما تدور العجلة على المحور الساكن.
في شرحه لنظرية التكوين الفينيقية المنسوبة لكاهن كنعاني غامض عاش في القرن الرابع عشر ق.م. اسمه «سانخو نياتن»، حاول الفيلسوف السوري «فيلو» في القرن الأول الميلادي تقديم ملخص عن أفكار الفينيقيين في التكوين فقال: «في البدء لم يكن هناك سوى ريح وعماء وظلمة، ثم إن هذه الريح وقعت في حب مبادئها الخاصة وتمازجت. ذلك التمازج كان الرغبة. هكذا كان مبدأ خلق الأشياء جميعا، ولم يكن للريح معرفة بما فعلت. نتج عن تمازج الريح «موت» الذي كان عبارة عن كتلة من الطين أو مجموعة من العناصر المائية المتخمرة، وكان بذرة الخلق.»
4
في هذه النظرية المصاغة بطريقة فلسفية، نعثر على نفس العناصر التي وجدناها في الأسطورة السومرية والبابلية. فهناك العماء البدئي المظلم الذي ولدت في أعماقه «الرغبة». بالرغبة تحركت الأقطاب الساكنة، فتمازجت الريح وواقعت نفسها بعد أن انفصلت إلى سالب وموجب، فأنجبت الكتلة الأولى البيضة الشبيهة بجبل السماء والأرض التي أنجبتها الأم السومرية الأولى «نمو»، عن هذه البيضة الكونية صدرت كل الأشياء.
فإذا عدنا إلى الميثولوجيا المصرية، وجدنا التقاليد الذكرية تطلق على العماء البدئي اسم «نون» وهو الأوقيانوس الذي كان قبل السماء والأرض. في أعماق هذا الأوقيانوس كانت تحوم روح بلا شكل أو هوية. ثم تركزت في داخلها تدريجيا كل ممكنات الوجود، وصار اسمها «آتوم» الذي يعني العدم وأيضا «الاكتمال»، وهو الإله الذي تجلى ذات يوم تحت اسم آتوم-رع، وأخرج إلى الوجود الآلهة والبشر وكل شيء حي. وفي نص آخر نجد أن إله الشمس «رع» كان كامنا في حضن المياه الأولى «نون» تحت اسم «آتوم». ولخوفه على بريقه من الانطفاء انطوى داخل برعم اللوتس الذي ظل هائما على غير هدى في الأعماق المائية، إلى أن جاء يوم سئم فيه من حالته الشبيهة بالعدم، فانبثق بإرادته وتجلى تحت اسم «رع»، ثم أنجب الهواء «شو» وتوأمه الإلهة «تفنوت»، اللذين أنجبا بدورهما الأرض «جيب» والسماء «نوت».
5
إن برعم اللوتس في هذه الأسطورة هو جبل السماء والأرض، البيضة الكونية التي تنطوي في داخلها على ممكنات الوجود، والكتلة الأولى المولدة من الأوروبوروس الكوني التي انقسمت إلى السماء والأرض وبقية مظاهر الكون. ونحن ما زلنا حتى الآن ضمن العناصر الأسطورية الأولى التي وضعها النص السومري ومن بعده البابلي. ولسوف نتابع هذه العناصر في ميثولوجيا شعوب أخرى.
تقتفي أسطورة التكوين التوراتية أثر أسطورة التكوين البابلية، فتعزو شق المياه الأولى وتكوين السماء والأرض من مادتها إلى الإله يهوه، الذي قام من قبله مردوخ بالمهمة ذاتها. نقرأ: «في البدء خلق الرب السماوات والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الرب يرف على وجه المياه. وقال الرب: ليكن نور؛ فكان نور. ورأى الرب أنه حسن، وفصل الرب بين النور والظلمة، ودعا الرب النور نهارا والظلمة دعاها ليلا. وكان مساء وكان صباح يوما واحدا. وقال الرب: ليكن جلد في وسط المياه، وليكن فاصلا بين مياه ومياه. فعمل الرب الجلد وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد، وكان كذلك. ودعا الرب الجلد سماء. وكان مساء وكان صباح يوما ثانيا. وقال الرب: لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد، ولتظهر اليابسة وكان كذلك، ودعا الرب اليابسة أرضا ومجتمع المياه دعاه بحارا.» إذا تغاضينا عن التناقض الواضح في هذا النص، والذي يرجع في أصله إلى إدماج روايتين بعضهما ببعض، وجدنا حالة السكون الأولى والعماء البدئي ممثلة بالمياه والظلمة وروح الرب الذي يرف فوق سطح الماء، في تموج أبدي دونما هدف أو غاية. ومطلع الأسطورة يتشابه في جوهره العام وإيحاءاته مع مطلع التكوين البابلي عندما كان آبسو وتعامة وممو يمزجون أمواههم معا في سكون مطلق وتناغم أزلي. كما أن روح الرب الذي يرف فوق سطح الماء يشبه تلك الروح التي كانت تحوم دون شكل أو قصد داخل الأوقيانوس البدئي في الأسطورة المصرية، كما يشبه برعم اللوتس الذي يرحل في أعماق المياه في حالة أشبه بالعدم. وكما جاء وقت سئم فيه الإله رع من كمونه فأظهر نفسه بإرادته الخاصة، كذلك يفعل يهوه الذي أظهر الضدين الأولين وهما النور في مقابل الظلام، وأتبعهما بالمذكر والمؤنث فشق المياه الأولى مكونا من شقيها السماء والأرض، كما شق مردوخ جسد تعامة.
وفي بلاد اليونان تقوم أسطورة التكوين الإغريقية، وفقا لهزيود: «إنه في البدء كان العماء، ظلمة وامتدادا بلا نهاية، ومن العماء ظهرت الأرض «جايا»، ثم الحب والرغبة «إيروس». وبعدها أنجبت جايا، دونما زوج، بكرها السماء «أورانوس» الذي غطاها من كل جهاتها، ثم خلقت الجبال والمحيط بأمواجه المتناغمة. وكانت الأرض خالية من كل حياة، فتزوجت جايا ابنها أورانوس وأنجبت منه الجيل الأول من الآلهة ثم الجيل الثاني، وهم الآلهة «التيتان».»
6
ويبدو أن الإلهة جايا كانت المعبود الأول للإغريق القدماء قبل فترة نضج الحضارة الإغريقية وظهور آلهة الأوليمب. فهي الأم الكبرى التي تهب الخصب للأرض والإنسان والحيوان، وهي خالقة الكون والآلهة والبشر، وكان آلهة الأوليمب يقسمون باسمها.
7
تقدم لنا نظرية التكوين الأورفية تقليدا إغريقيا آخر. ففي البدء كان الزمن الذي أنجب البيضة الكونية الفضية. من هذه البيضة خرج الإله فانيس-ديونيسيوس المضيء، وكان إلها مؤنثا ومذكرا في آن معا، له رأس ثور وجناحان. في داخله انطوى على بذور الوجود جميعا، خلق السماوات والأرض والشمس والنجوم وأنجب الآلهة. كانت «نيكس» أي الليل ابنته الأولى، وبعدها أنجبت «جايا» و«أورانوس» ثم «كرونوس».
8
أطلق الأورفيون على فانيس أسماء متعددة: منها «إيروس»، ومنها «زاغروس»، ومنها «زيوس». وزيوس الأورفي لا علاقة له بزيوس كبير آلهة الأوليمب كما تصوره ميثولوجيا هزيود وهوميروس. نقرأ في ترتيلة أورفية مرفوعة لفانيس-ديونيسيوس تحت اسم زيوس:
زيوس هو الأول والآخر، المشع بنور البرق،
زيوس هو الرأس، هو الوسط، هو اكتمالات الأشياء،
زيوس هو عماد الأرض والسماء ذات النجوم،
زيوس كان ذكرا، وكان عذراء إلهية،
زيوس روح الكون، وشعلة لا تنطفئ،
زيوس بداءة البحر وهو الشمس وهو القمر،
زيوس هو الملك، القاهر فوق الجميع،
في داخله أوجد الأشياء كلها وأطلقها نحو النور المبارك،
من صميم قلبه المقدس أظهر فعالا باهرة.
9
من الواضح أن كل ما يعزوه الفكر الأسطوري الأورفي إلى فانيس-ديونيسيوس كان في أصله للأم الكبرى؛ خصوصا وأن الأورفية قد تفرعت عن ديانة الخصب الديونيسية، شأنها في ذلك شأن ديانات الخلاص السرية التي نشأت في صميم ديانة الأم الكبرى ثم استقلت عنها. فالبيضة الكونية الفضية هي كتلة السماء والأرض، والإله الذي تقول الأسطورة إنه انبثق من البيضة بطبيعة مؤنثة ومذكرة، هو الأم الأولى، الأفعى الكونية، وقد أنجبت السالب والموجب، المذكر والمؤنث؛ فالليل والنهار؛ فالسماء والأرض. إن فانيس المذكر والمؤنث هو رمز لتحرك المتناقضات في أعماق الأم الأولى العذراء المكتملة. والمضاجعة النرجسية بين شقيه هي إذابة لحالة التكامل الأولى وتجاوزها إلى وضع دينامي جديد. هذه المضاجعة التي تذيب الوحدة الأصلية لتذكرنا بالمضاجعة التي تمت بين آدم وحواء . فآدم في الأسطورة الذكرية هو المخلوق الأول في جنة التكامل والسكينة الأبدية. ورغم أنه كان ذكرا إلا أنه كان يحتوي في داخله على بذور الأنوثة الكامنة التي تحققت عندما استلت منه حواء، فحصل انقسام المخلوق الأول وولدت المتناقضات، وحدثت المضاجعة التي أفقدت الذكر والأنثى وحدتهما الأولى وتكاملهما، وقذفت بهما إلى عالم الخير والشر، عالم المتعارضات هذا. ورغم أن الأسطورة الأورفية، الآنفة الذكر، لا تشير إلى ولادة البيضة الفضية من الأفعى الكونية، فإن الأعمال التشكيلية الأورفية تظهر البيضة التي انطلق منها فانيس فيما بعد، وقد التفت عليها الأفعى في حركة لولبية. وهذه الحركة اللولبية تعادل في مدلول الرمز حركة الأفعى المنغلقة التي تعض على ذيلها.
في المعتقد المسيحي نجد فكرة الأوروبوروس البدئي والدارة المغلقة في الحالة التي كان عليها المطلق قبل خلق العالم. فكما رأينا في الفصل السابق: «كان المطلق قبل الأزمان ثلاثة: الإله الأب والإله الابن والروح القدس. وكان الابن موضوع حب الأب، أما الروح القدس فكان الحب الساري بينهما، وهو الذي كان وراء خلق العالم وهو الذي ميز علاقة الله بالكون.
10
فالحب هنا، هو الذي يغلق المدار الأعظم البدئي، منتقلا من الأب إلى الابن، ومن الابن إلى الأب في حركة أبدية تكرس السكون التام للمطلق المكتفي بذاته، اكتفاء الأقانيم الثلاثة: تعامة وآبسو وممو في الأسطورة البابلية. ولكن الحب الذي يغلق هذه الدارة هو الذي يكسرها فتنفتح لتشمل الكون الذي يتم خلقه بواسطة الإله الابن. وهنا يلعب الحب نفس الدور الذي لعبه في تكوين سانخونياتن عندما «وقعت الريح في حب مبادئها الخاصة وتمازجت، هذا التمازج كان الرغبة»، ونفس الدور الذي لعبه في التكوين الإغريقي عندما خرج إيروس من العماء الأول بعد جايا، وكذلك في التكوين الأورفي عندما كان إيروس أول من خرج من بيضة الأوروبوروس.
بدافع الحب خرج الإله الابن من الدارة المطمئنة والعلاقة النرجسية الأزلية ، فرسم على سطح المياه التي كان روح الثالوث يرف فوقها قبل التكوين، دائرة الكون، البيضة الأولى. وهذا هو معنى الترتيلة التي ما زلنا نسمعها يوم الجمعة الحزينة: «اليوم علق على خشبة، الذي علق الكون على المياه.» وإلى هذا العمل الأول من أعمال الخلق، تشير بعض اللوحات الفنية التي تصور الإله الابن وقد أمسك بيده فرجارا يرسم به كرة فوق سطح المياه الأولى، تحتوي بداخلها مادة الكون في شكلها الأولي. ولكن ما طبيعة هذه المياه الأولى التي أنجبت كرة الكون بمعونة الإله الابن، هذه المادة التي كان الثالوث المقدس يرف فوقها في انسجام مطلق، والمشاركة له في أزليته؟
إن كل هذه الرموز الأسطورية الخاصة بالسيدة مريم العذراء على غناها وتعقدها، لتشير بشكل سراني إلى أنها المادة الأولى العذراء، التي شقها الخالق لاستخراج مظاهر الكون من رحمها البدئي، فهي «النبع المختوم» و«الرحم المقدس»، وهي مياه الغمر الأولى، وهي البيضة البدئية التي كورها اللوغوس فوق المحيط، وهي زهرة العالم التي يفيض الوجود من مركزها. تصورها بعض الأعمال التشكيلية وقد خرجت من زهرة كونية تنفتح كما يتفتح الرحم عند الولادة (الشكل رقم
5-2 )، وليس تجليها في الزمن تحت اسم مريم ابنة حنة ويواكيم، إلا مقدمة لدخول المطلق في التاريخ، من أجل تحقيق خلاص البشر. وفي القداسات الخاصة بالسيدة مريم، وخصوصا يوم صعودها إلى السماء تتلى الصلوات والتراتيل المأخوذة من العهد القديم، مع إسباغ معان جديدة عليها تنطبق على السيدة مريم باعتبارها الأم التي كانت قبل العالم، والتي ستستمر بعد فنائه.
11
ونشير في هذا المجال خصوصا إلى ذلك المقطع من سفر الأمثال الذي يتحدث عن حكمة الرب: «الرب قناني أول طريقه، من قبل أعماله منذ القدم، منذ الأزل مسحت، منذ البدء منذ أوائل الأرض؛ إذ لم يكن غمر أبدئت؛ إذ لم تكن ينابيع كثيرة المياه. من قبل أن تقررت الجبال، قبل التلال أبدئت إذ لم يكن قد صنع الأرض ولا البراري ولا أول أعفار المسكونة. لما ثبت السماوات كنت هناك أنا، لما رسم دائرة على وجه الغمر.»
12
يظهر رمز الدائرة العذراء والأوروبوروس في بعض الأعمال التشكيلية المسيحية. ففي الشكل (
5-3 ) نجد البيضة الكونية تحيط بها الأفعى، ومنها ينبت الصليب. ربما أراد الفنان في هذه اللوحة أن يقول: إن العالم قبل هبوط الإله الابن كان مسرحا للموت وللشيطان الذي تمثله الأفعى، وأن موت المسيح على الصليب قد خلص البشر من ربقة الموت ومن سطوة الشيطان. ولكن الرمز لا يستأذن عالم الشعور الفردي قبل أن ينبثق؛ لأنه يسير عبر السيكولوجيا الإنسانية من جيل إلى جيل متبعا مسالك اللاشعور الجمعي.
شكل 5-2: الأوروبوروس وشجرة الصليب - حفر على الخشب، فرنسا 1830.
شكل 5-3: السيدة العذراء زهرة الكون - حفر على الخشب، ألمانيا القرن 16.
لعل أجمل تعبير عن المدار الأعظم الذي تجاوز نفسه، فأنتج الكون بعد أن تحركت في صميمه المتناقضات، قد أنتجته الحكمة التاوية في الصين، تلك الحكمة التي تخللت الثقافة الصينية منذ القرن الخامس قبل الميلاد، وسيطرت على الحياة الروحية في الشرق الأقصى. نقرأ للحكيم لاو تسو واضع أسس التاوية في كتابه: تاو تي تشينغ الذي يعتبر إنجيل المذهب التاوي، النص الآتي:
شيء ما لا شكل له،
موجود قبل السماوات والأرض،
صامت وخاو،
قائم وحده لا ينتابه تغيير،
يدور على نفسه ولا يبلى،
إنه بحق أم هذا الكون،
لا أعرف اسمه، فأدعوه ال «تاو»،
لا أستطيع وصفه، فأقول: العظيم،
عظمته امتداد في المكان،
الامتداد في المكان، يعني امتدادا بلا نهاية،
الامتداد بلا نهاية يعني العودة إلى نقطة البدء.
13
هذا المطلق القديم الساكن الصامت، الذي يمتد في المكان امتدادا لا نهائيا فيعود إلى مبدئه، كأنه في حركة ولكنه ثابت مستقر، قد عبر عنه التصوف الإسلامي بلسان ابن عربي عندما قال: «ولهذا يرجع فخذ البركار في فتح الدائرة عند الوصول إلى غاية وجودها إلى نقطة البداية، فارتبط آخر الأمر بأوله وانعطف أبده على أزله، فليس إلا وجودا مستمرا، وشهودا ثابتا مستقرا.»
14
ولكن هذه الدارة الفارغة التي رمز إليها الفكر التاوي بدائرة كاملة، قد أنتجت في داخلها القوتين الكونيتين العظيمتين: قوة «يانج» الموجبة، وقوة «ين» السالبة . وراحت أعماقها تضطرب بحركة هاتين القوتين، وتناوبهما الذي نشأت عنه كل الموجودات. وتحولت دائرة التاو الفارغة إلى دائرة اليانج-ين المؤلفة من مساحتين متداخلتين في حالة دورانية (الشكل
5-4 ) وكأنهما سمكتان ملتفتان على بعضهما؛ واحدة بيضاء ترمز لليانج الموجب المذكر، والأخرى سوداء ترمز للين السالب المؤنث. وفي كل مساحة توجد دائرة صغيرة بلون المساحة المقابلة تأخذ شكل العين من السمكة للدلالة على تداخل القوتين، ووجود بذرة كل منهما في الأخرى. ففي كل مظهر من مظاهر الكون المادي والحيوي، هناك مقدار من اليانج ومقدار من الين يتفاعلان دون أن يلغي أحدهما الآخر.
شكل 5-4: دائرة اليانج-ين.
تعود بنا دائرة اليانج-ين إلى شكل الصليب الذي يأخذ الآن معنى جديدا، وهو تقاطع القوتين العظميين في الوجود عند نقطة المحور، وإلى شكل السواستيكا (الصليب المعقوف) الذي يمثل هاتين القوتين في حركتهما الدورانية. إن ذراعي صليب عشتار المعقوف في وضع الحركة ضمن الدائرة، لهما دلالة مشابهة لدلالة اليانج-ين في مدار التاو. فهما النقيضان المولودان عن الدائرة العذراء. وهما ما حدث عنه التصوف الإسلامي بلسان الشيخ عبد الكريم الجيلي إذ قال: «واعلم أن الوجود والعدم متقابلان وفلك الألوهية محيط بهما؛ لأن الألوهية تجمع الضدين من القديم والحديث، والحق والخلق والوجود والعدم، فيظهر فيها الواجب مستحيلا بعد ظهوره واجبا، ويظهر المستحيل واجبا بعد ظهوره فيها مستحيلا.»
15
ولذا فقد كان الصليب المعقوف رمزا لرحلة البوذا الروحية في الفكر الشرقي؛ لأن السعي الروحي نحو المطلق هو خروج من المتناقضات ودخول في الأبدية الكاملة؛ خروج من دورة السالب والموجب ورحيل نحو المدار المنغلق الساكن، أو نحو مركزه الثابت الذي يدور حوله الوجود المتحرك، وحركة السواستيكا التي أظهرت المكان والزمان والعوالم المادية هي التي تحمل العارف بحركتها العكسية إلى ما وراء المكان والزمان والمادة.
شكل 5-5: سواستيكا وماندالا من الفن البوذي.
شكل 5-6: صليب وماندالا من الفن المسيحي.
يظهر الشكل (
5-5 ) وهو عمل تشكيلي من الفن البوذي، «ماندالا» وفي مركزها سواستيكا. أما الشكل (
5-6 )، وهو عمل تشكيلي من الفن المسيحي، فيظهر «ماندالا» وفي وسطها دائرة فارغة وصليب. ويكاد العملان يتشابهان في كل عنصر من عناصر التكوين الفني فيهما. إن ما يريد هذان العملان أن يفضيا به، قد أفضى به إنسان الثقافة النيوليتية في سوريا منذ الألف الخامس قبل الميلاد، عندما ابتكر لأول مرة الشكل الزخرفي الذي عرف فيما بعد باسم الماندالا، وهو دائرة تنقسم إلى أجزاء متناظرة تشد كلها نحو المركز، أو تشع عنه في تكوين جمالي متماسك. وقد استعملت الماندالا على الدوام، ولدى جميع الثقافات فيما بعد، في الرسوم الدينية، وما زال حكماء الشرق الأقصى إلى اليوم يستغرقون في تأملاتهم أمامها. ففي الشكل (
5-7 ) الذي تظهر فيه ماندالا من تل حلف، نجد صليبا يقسم الدائرة إلى أربعة أقسام متناظرة متساوية، بينما يتألف محيط الدائرة الخارجي من خط يرسم تموجات صغيرة كأنها أمواج البحر. أما الشكل (
5-8 )، وهو ماندالا من سامراء على نهر الدجلة، فنجد الصليب الساكن والصليب الدائر/السواستيكا (الذي يوحي بالدوران) وقد تطابقا في تكوين واحد ضمن دائرة الأوروبوروس الكلي.
شكل 5-7: ماندالا وصليب ساكن - أريدو، بلاد النهرين، الألف الرابع ق.م.
شكل 5-8: ماندلا وسواستيكا - سامراء، الألف الرابع ق.م.
لم يترك لنا إنسان العصر النيوليتي نصوصا تأملية تشرح لنا رموز الماندالا الأولى ودلالتها، ولكنها في رأينا أول محاولة تأملية للإنسان في المطلق الساكن القديم، الذي أنجب القوتين العظميين اللتين تناوبتا لإظهار الكون المادي. إن سواستيكا سامراء ودائرة اليانج-ين الصينية، ليستا إلا تبديان لرمز واحد. يدعم وجهة نظرنا هذه أن الصليب والسواستيكا ما زالا مرتبطين إلى اليوم بأفكار الخلق والتكوين عند بعض الثقافات، التي كانت إلى عهد قريب تعيش في المرحلة الشبيهة بالنيوليتية.
16
ففي الشكل (
5-9 ) نجد تكوينا يرمز به الهنود الحمر في أوكلاهوما إلى خلق العالم. في مركز الشكل سواستيكا صغير ضمن دائرة وحوله سواستيكا أكبر تأخذ أذرعه شكل رءوس الطير. وفي الشكل (
5-10 ) الذي يعتبر من الرموز المقدسة لدى هنود أوكلاهوما أيضا، نجد في وسط التكوين صليبا ضمن دائرة صغيرة يحدد خطاه المتقاطعان مركز المدار، وحول الدائرة الصغيرة تلتف أربع أفاع في حركة دورانية سواستيكية.
شكل 5-9: سواستيكا خلق العالم عند الهنود الحمر.
شكل 5-10: الأفعى السواستيكا عند الهنود الحمر.
هذا وقد ارتبطت فكرة المطلق لدى متصوفة المسلمين برمز المدار المغلق الأعظم، نقرأ للشيخ عبد الكريم الجيلي من القرن السابع الهجري: «واعلم أن أبده عين أزله، وأزله عين أبده. وهما وضعان لله أظهرتهما الإضافة الزمانية لتعقل وجوب وجوده، وإلا فلا أزل ولا أبد. كان الله ولا شيء معه. فلا وقت له سوى الأزل الذي هو الأبد، الذي هو حكم وجوده باعتبار مرور الزمن عليه، وانقطاع حكم الزمن دون التطاول إلى مسايرة بقائه، فبقاؤه الذي ينقطع الزمان دون مسايرته هو الأبد، فافهم ...»
17
إن أزل المطلق الذي يمتد بلا نهاية، وفق هذا النص، ليتحول إلى أبد راجعا إلى نقطة مبتدئه. ودارته هذه هي دارة التاو الذي حدثنا عنها لاوتسو عندما قال: «الامتداد بلا نهاية يعني العودة إلى نقطة البدء.» فهي دارة تنقل الأبد إلى الأزل إلى الأبد، وهي في الوقت نفسه مجرد نقطة؛ لأن هذه الحركة اللانهائية بين الأزل والأبد تجعلهما متطابقين، ويصير مركز الدائرة منها المحيط والمحيط منها المركز، لهذا يعبر العقل العربي عن مفهوم الصفر بنقطة، ويعبر عنه العقل الغربي بدائرة فارغة.
عن النقطة المطلقة التي صدر - فيما بعد - عنها الوجود، نقرأ للجيلي أيضا: «واعلم أن النون عبارة عن انتقاش صور المخلوقات بأحوالها وأوصافها، كما هي عليه جملة واحدة. وذلك الانتقاش عبارة عن كلمة الله تعالى لها: كن؛ فهي تكون حسبما جرى به القلم في اللوح المحفوظ. فلهذا قلنا: إن النون مظهر كلام الله تعالى. واعلم أن النقطة التي فوق النون هي إشارة إلى ذات الله تعالى الظاهرة بصورة المخلوقات. فأول ما يظهر من المخلوقات ذاته، ثم يظهر المخلوق؛ لأن نون ذاته أعلى وأظهر من نون المخلوق ... فإذا علمت أن النقطة إشارة إلى ذات الله تعالى، فاعلم أن دائرة النون إشارة إلى المخلوقات»، وأيضا: «فاستدارة رأس الهاء إشارة إلى دوران رحى الوجود الحقي والخلقي على الإنسان. فهو في عالم المثل كالدائرة التي أشار إليها الهاء. فقل ما شئت؛ إن شئت قلت الدائرة حق وجوفها خلق، وإن شئت قلت الدائرة خلق وجوفها حق؛ فهو حق وهو خلق.»
18
ولمحيي الدين ابن عربي عن دائرة الحق والخلق نقرأ: «دائرة الوجود أولها حب وافتراق، وآخرها حب وتلاق. ومحورها الحق ومحيطها ما لا يحصى من مجالي الوجود. الكل يخرج من المركز والكل يعود إليه.»
19
فالحب أول ما خرج من دائرة العماء المغلقة، وبه تم خلق العالم وافتراقه عن المدار الأعظم، وبالحب تعود الموجودات لتلتحم بمصدرها وتذوب فيه:
كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام
قرآن كريم.
20
لقد لخص الرقص الديني لدى بعض فرق المتصوفة المسلمين، هذا السعي الروحي للوصول إلى المطلق بإدراك سر الدائرة وسر الحركة الدورانية للسواتيكا. ففي طقوس فرقة «المولوية» التي أسسها جلال الدين الرومي في القرن السابع الهجري، وما زالت حية إلى اليوم في تركيا وسوريا، يقوم الراقص على إيقاع الدفوف بالدوران على قدم واحدة، باسطا ذراعيه اللذين يرسمان حوله دائرة يضع نفسه في مركزها. وبتسارع الحركة يرحل من محيط الدائرة إلى مركزها، من الظاهر نحو الباطن، من محيط الخلق إلى مركز الحق. إن ما يقوم به الصوفي بالدوران حول مركز الحق الذي يتلمسه في داخله، إنما يقوم به كل مسلم يؤدي فريضة الحج عندما يدور حول الكعبة؛ مركز الحق الذي يتلمسه أهل الظاهر في الخارج.
ليس طقس المولوية بالجديد في تاريخ الطقوس الدينية؛ فالرقص الدائري كان شائعا في ديانات الأسرار الشرقية، وازدهر لدى بعض الفرق الغنوصية، وقد قام السيد المسيح برقصة دائرية مع أصحابه قبل أن يقاد إلى الصليب وفقا لكتاب «أعمال يوحنا»، وهو جزء من أعمال الرسل رفضته الكنيسة واعتبرته من الأعمال المنحولة. يعود هذا الكتاب بتاريخه إلى مطلع القرن الثالث الميلادي، وهي الفترة التي اتخذت فيها الأناجيل شكلها الأخير. فيه يتحدث يوحنا الإنجيلي عن سيرة المسيح بطريقة أقرب إلى الفكر الغنوصي منها إلى النمط الإنجيلي المعروف، وفيه نقرأ أن السيد المسيح قبل أن يسلم نفسه، قد جمع حوارييه الاثني عشر لرفع صلاة للإله الأب، وتأدية رقصة دورانية كان هو قائدها. من كلماته في تلك الصلاة: «دأب الألوهة الدوران ... سأنفخ في المزمار لترقصوا كلكم دورانا. من تقاعس عن الرقص فاته سر هذا الاجتماع»، وبعد الانتهاء يمضي السيد إلى المحاكمة والصلب ويتفرق الحواريون. أما يوحنا فيأوي إلى كهف في جبل الزيتون يبكي. وفي الساعة السادسة للصلب يخيم الظلام على الأرض كلها، ولكن المسيح يتجلى ليوحنا فيضيء الكهف، ويتوجه إليه بالكلام قائلا: «بالنسبة للحشود المجتمعة هناك، أنا مصلوب وأوخز بالرماح وأتجرع الخل والمرار ... ولكن الصليب الذي ستراه وأنت هابط ليس هو الصليب ... ولست أنا من تراه معلقا على الخشبة.»
21
النبع المختوم
تتجلى الأم الكبرى باعتبارها الطبيعة الكلية بعد أن تجلت باعتبارها العماء البدئي. وكما أنتجت من دارتها العذراء المكتملة الكون، كذلك ينتج اكتمالها على المستوى الطبيعي كل ما يحفظ الكون ويديم استمراره، فتعطي دون أن تنقص وتهب دون أن تنفد، كنبع مختوم أو كإناء فخاري مغلق، تخرج مياهه دون أن يكشف غطاؤه. فهي خصب الأرض وكل ما يخرج منها، وهي مياه الأمطار العلوية ومياه الأعماق الباطنية التي تتفجر أنهارا وعيونا، وهي نبعة الحياة والطاقة الكامنة خلف كل متحرك. وكل ما يصدر عنها هو فيض ذاتي متولد عنها دون علة خارجة عنها فاعلة فيها. وهذا هو مدلول عذرية الأم الكبرى على المستوى الطبيعي.
وعندما أخذت الثقافة الذكرية توطد أركانها، وبدأ الرجل بالصعود ليشارك المرأة سلطانها في حياة الجماعة، ولدت العذراء ابنا دونما نكاح، بقواها الذاتية، وخصبها الذي يحتوي في صميمه بذور الأنوثة والذكورة معا. وكما كانت عشتار عذراء قبل الولادة، كذلك هي عند الولادة؛ لأن عذريتها رمز اكتمالها وغناها عمن سواها، ورمز لأسبقية المبدأ الأنثوي على المبدأ الذكري. وأختام عشتار لم تفض لزرع بذرة الإله الابن، ولم تفض لخروجه، ولن تفض بعد ذلك بالممارسة الجنسية؛ لأن أختامها رمز اكتمالها وغناها واغتنائها، ورمز لسيطرتها على جسدها الذي لا ينقص منه الجماع، ولا يترك فيه ذكر علامة. لذا فقد حملت إلهات الطبيعة لقب العذراء. فهذه إنانا السومرية في أكثر من نص تخاطب بالعذراء، أو تتحدث عن نفسها كعذراء؛ ففي حوارية بينها وبين أوتو إله الشمس حول زواج الإلهة المرتقب نقرأ: «أي أختاه عليك بالراعي الكثير الأنعام، إنانا أيتها العذراء لماذا تعرضين عن الراعي ...؟ أنا العذراء سأتزوج المزارع، الفلاح الذي يزرع النباتات ويعطي الغلال الوفيرة.»
22
في نصوص بعل وعناة الأوغاريتية نقرأ عن لقاء الإلهين الحبيبين: «في توق شديد أمسك بفرجها، في توق شديد أمسكت بقضيبه، عليان بعل قام بفعل الحب آلاف المرات مع العذراء عناة.»
23
إن آلاف المرات من المضاجعة بين بعل وعناة لا تذهب ببكارة الإلهة المتجددة؛ لأن بكارتها رمز للدافع الجنسي الكوني الذي يدفع الكائنات الحية بعضها إلى بعض، ويساهم في استمرارها وبقائها. ومن أسماء الأم الكريتية الكبرى «بريتوماريتس» أي: العذراء العذبة.
24
وهي التي تبدو في معظم رسومها، وعلى حضنها أو ذراعها ابنها الصغير الذي لم يبلغ مبلغ الرجولة والاستقلال عن الأم طيلة فترة الحضارة المينوية. وفي معابد الخصب الكنعانية كان ميلاد الإله الابن يعلن بصرخة ابتهاج عالية عند منتصف الليل: «ها هي العذراء تلد ابنا والنور ينتشر»، وذلك عند منتصف ليلة الخامس والعشرين من كانون الأول (ديسمبر)
25
وهي الليلة التي ولد فيها يسوع الناصري فيما بعد؛ تحقيقا لبشارة الملاك ليوسف النجار: «لا تخف أن تأخذ امرأتك مريم؛ لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع؛ لأنه يخلص شعبه من خطاياهم. وهذا كله لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: هو ذا العذراء تحبل وتلد ابنا، ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا.»
26
وعندما ولدت عشتار ابنها، شقها الذكري الكامن فيها منذ الأزل، تزوجته لتخصب نفسها به فتستعيد إلى نفسها قوتها الإخصابية الذاتية التي أطلقتها نحو الخارج. ولذلك كان الإله الابن ابنا للأم الكبرى، وزوجا أو حبيبا في نفس الوقت. هذا هو شأن تموز ابن عشتار البابلية، وأدونيس ابن عشتار الكنعانية، وأوزوريس في شكل حورس ابن إيزيس المصرية، وآتيس ابن سبيل وزيوس ابن رحيا الكريتية. وبعيدا عن الشرق القديم والعالم الهيليني نجد الأم العذراء وابنها قد وصلا إلى شواطئ العالم الجديد مع وصول الزراعة إليها. ففي ثقافة الأزتيك
27
نجد الأم العذراء إلهة الطبيعة والخصب وقد حملت بابنها دون نكاح، ثم أسلمته للموت من أجل استمرار دورة الزراعة، فكان يموت مع بذار الذرة وينتعش مع ظهور عيدانها الجديدة. وفي الطقوس الخاصة بهذا الإله، كان عباده يصنعون تماثيل صغيرة له من عجين ممزوج بدماء الضحايا فيأكلونها على أنها جسد الإله ودمه. وفي أسطورة صينية
28
كانت الإلهة الأم تجلس وحيدة على عرش الكون، وهي التي وطدت النظام ويسرت أسباب الحضارة بعد الطوفان الكبير الذي اجتاح الأرض، مبتدئة بذلك تاريخ الثقافة الصينية. ثم إن هذه الأم العذراء أنجبت ابنا وتزوجته، ولكن أبناءها استطاعوا فيما بعد إقصاءها ومشاركتها في سلطاتها.
إن تفسيرنا لمفهوم الميلاد العذري، وعلاقة الابن-الحبيب بين عشتار وابنها، ليجد دعما له في المكتشفات الأثرية الجديدة التي قدمت لنا أعمالا فنية من العصر النيوليتي تظهر الإله الابن تارة بين ذراعي أمه كطفل، وتارة أخرى في وضع جنسي شبقي معها، راجع الشكل (
9-3 ) والشكل (
9-4 )، فصل تموز الخضر.
عند هذا الحد نستطيع مراجعة المعاني والمستويات المتعددة لعذرية عشتار، فهي عذراء على المستوى البدئي؛ لأنها الأوروبوروس المغلق الذي انحل إلى عالم المادة المتنوع، وهي عذراء على المستوى الطبيعي يفيض خصبها على العالم دون مؤثر خارجي، وهي العذراء التي أنجبت لأول مرة دون إخصاب من ذكر، وهي العذراء السيدة التي تبقى بكارتها رمزا لسلطانها على نفسها وجسدها، ولا يقوم إلى جانبها زوج يساويها أو يعلو عليها، أو ينقص من اكتمالها. وعند جميع هذه المستويات، لا علاقة للعذرية العشتارية بمفهوم التبتل الجنسي.
الفصل السادس
عشتار البغي المقدسة
يربط الفكر الأسطوري دوما حركة الحياة والمادة بحركة الآلهة التي تشكل أرضية ماورائية لكل ما يجري على مسرح الكون. لا يشذ عن هذه القاعدة حياة الإنسان، وكل ما يتعلق به من غرائز وعواطف ودوافع تجد أصلها ومنشأها أيضا في فعالية إلهية كونية، وعلى رأسها الدافع الجنسي.
قدس الإنسان الدافع الجنسي واعتبره قبسا إلهيا يربطه بالمستوى النوراني الأسمى؛ ففي الفعل الجنسي، يتجاوز الإنسان شرطه الزماني والمكاني ليدخل في حال هو أقرب ما يكون إلى الآن الأبدي، فينطلق من ذاته المعزولة ليتحد بقوة كونية تسري في الوجود الحي. يفتح مخزون الطاقة الحبيسة لترجع إلى مصدرها الذي منه شعت، وفي أجساد الأحياء أودعت. لم يكن الفعل الجنسي متعة فردية ونشاطا شخصيا معزولا، بل طقسا يربط الإنسان المتناهي بالملكوت اللامتناهي، عبادة يكرر فيها الفرد على المستوى الأصغر، ما قامت به القدرة الخالقة على المستوى الأكبر. ففي البدء تحرك السالب والموجب في رحم الأوروبوروس الأعظم وتناكحا فأنجبا، وفي البدء ولد من رحم المياه الأولى جبل السماء والأرض، وسرت بين قطبيه الرغبة فاتحدا وتباعدا ونشأ عنهما الكون. وفي البدء وقعت الريح في حب مبادئها، فكانت كتلة المادة الأولى، وفي البدء كان روح الإله المذكر يرف فوق المياه المؤنثة. وفي الأزمان الأولى خلقت عشتار من نفسها زوجها واتحدت به، وبقي نشاطها الجنسي الدائم يولد الطاقة التي لا غنى عنها لاستمرار شتى أشكال الحياة وتكاثرها.
تظهر الأعمال الفنية التشكيلية منذ العصور الحجرية قدسية الدافع الجنسي والقيمة الدينية للممارسة الجنسية؛ فمن العصر النطوفي الذي يعتبر مقدمة للعصر الحجري الحديث في سوريا الجنوبية، وصلتنا تماثيل صغيرة تعود للألف التاسع قبل الميلاد تمثل أزواجا متعانقة في أوضاع جنسية، وفي هذه التماثيل تعبير عن قيم جنسية دينية مرتبطة بمعتقدات ذلك العصر.
1
راجع الشكل (
6-1 ).
شكل 6-1: تماثيل جنسية من العصر النطوفي، 9000ق.م.
كما تظهر المعابد المكرسة للأم السورية الكبرى نظرة الإنسان القديم للجنس باعتباره فعلا دينيا مقدسا. فبعض هذه المعابد قد صمم بطريقة توحي بالعضو الجنسي للمرأة (الشكل
6-2 )، كما هو الحال في معابد تل العبيد وخفاجة وأوقير.
شكل 6-2: معابد الجنس في بلاد الرافدين.
وهذه المعابد الثلاثة، كغيرها من معابد بلاد الرافدين الأخرى التي بنيت عند أعتاب عصر الكتابة، كانت مكرسة للإلهة إنانا أو للإلهة ننخرساج، وهما من الأشكال الأولى للأم الكبرى للعصور التاريخية. وقد انتقل هذا التصميم الجنسي إلى الهند مع انتقال الزراعة إليها في وقت متأخر جدا عن اكتشافها في سوريا؛ حيث نجد الحرم الداخلي لهيكل الأم الكبرى على هيئة عضو التأنيث.
2
وإلى اليوم لا نزال نستمع إلى تراتيل ننخرساج تتلى في معابد الأم الهندية الكبرى: «أنت الوجود الأول، أنت أم العالم ومبدؤه، أنت أم المخلوقات كلها، أنت خالقة الآلهة، الخالق براهما والحافظ فيشنو والمدمر شيفا كلهم من صنعك، أنت مسرة العالمين.» وإلى اليوم ما تزال طائفة هندية مجهولة الأصل تعبد الأم الكبرى تحت اسم «تورغوش»، ولكنها تكرر في صلواتها كلمة غامضة دون أن تعرف معناها هي كلمة «ننكورشاج»
3
المحورة عن اسم الأم الكبرى لحضارة الرافدين «ننخرساخ». هذا ويلخص التصميم التشكيلي المعروف باسم «اللينغوم-يوني» القيمة الدينية للفعل الجنسي في العبادات الهندوسية اليوم. وهو عبارة عن عضو الأنوثة منظورا إليه من الداخل، وقد اخترقه عضو الذكورة (الشكل
6-3 ). إن هذا الرمز ليلقي ضوءا جديدا على الصليب العشتاري الذي يحمل إشارة إلى الفعل الجنسي.
شكل 6-3: اللينغوم-يوني.
لم ير الإنسان القديم في الدافع الجنسي نتاجا لحركة التعضي الحي، بل رأى فيه نشاطا صادرا عن قوة جنسية شاملة متمثلة في عشتار، تودعها في الأجساد ثم تستثيرها فتطلقها. ولم ير في الفعل الجنسي استجابة لغرض دنيوي وتحقيقا لمتعة فردية، بل استجابة لنداء مبدأ كوني شامل؛ لذلك ارتبط الجنس بالطقس والعبادة، وكان الاحتفال الديني في بعض جوانبه مناسبة يظهر فيها البشر انسجامهم مع ذلك المبدأ وتحقيقهم لأهدافه وأغراضه، وذلك بالممارسات الجنسية التي تشكل جزءا من الطقوس المقدسة، حيث يتلقون الطاقة من مصدرها ويعيدون شحن ذلك المصدر بطاقة معاكسة في حركة تناوبية؛ فالفعل الجنسي على المستوى الإنساني هو مدد من القوة الجنسية الكونية، ودعم لها في آن واحد. تماما كما هو الأمر في الطقوس الدينية الأخرى التي تهدف إلى عون القوى الإلهية ومساعدتها على إتمام دورها. فكهنة المصريين القدماء كانوا يصلون طوال الليل لمعونة الشمس على الخروج من رحلتها في باطن الأرض والشروق من جديد. وكان البابليون يعتقدون بالقوة السحرية لاحتفالات رأس السنة الجديدة التي تعين الإله مردوخ على مقاومة قوى العماء، وتجديد الكون الذي يبلى في نهاية العام. وكان الكنعانيون يؤمنون بأن البكاء على أدونيس وتمثيل عذاباته وموته، سوف يعينه على فك قيوده والصعود من عالم الموتى؛ ذلك أن العلاقة بين الإنسان القديم وآلهته لم تكن علاقة اعتماد من طرف واحد، بل كانت علاقة اعتماد متبادل.
على ضوء ذلك نستطيع فهم معنى البغاء المقدس الذي كان شائعا في حضارات الشرق القديم؛ فالبغاء المقدس هو ممارسة الجنس بين أطراف لا يجمعهم رابط شخصي، ولا تحركهم دوافع محددة تتعلق بالتوق الفردي لشخص بعينه، أو تتعلق بالإنجاب وتكوين الأسرة، هو ممارسة جنسية مكرسة لمنبع الطاقة الكونية مستسلمة له، منفعلة به، ذائبة فيه، كالأنهار التي تصدر من المحيط وإلى المحيط تعود. وكانت عشتار هي البغي المقدسة الأولى؛ لأنها مركز الطاقة الجنسية الشاملة التي لا ترتبط بموضوع محدد. وليس انغماسها في الفعل الجنسي الدائم إلا تعبيرا، على مستوى الأسطورة، عن نشاط تلك الطاقة الذي لا يهدأ؛ لأن في سكونه همودا لعالم الحياة. تقول عشتار البابلية عن نفسها: «أنا العاهرة الحنون»،
4
و«أنا من يدفع الرجل إلى المرأة، ويدفع المرأة إلى الرجل.»
5
وفي نص هبوط عشتار إلى العالم الأسفل نقرأ:
بعد أن هبطت السيدة عشتار إلى أرض اللاعودة،
اضطجع الرجل وحيدا في غرفته،
ونامت المرأة على جنبها وحيدة.
6
وفي ترتيلة بابلية إلى عشتار من القرن السادس ق.م. نقرأ عن سيدة الحب والدافع الجنسي:
لك الحمد يا أرهب الإلهات جميعا،
لك الإجلال يا سيدة البشر وأعظم الآلهة،
موشحة بالحب والمتعة،
تفيض طاقة وسحرا وشهوة.
شفاهها عذبة وفي فمها الحياة،
ظهورها ينشر الفرح والابتهاج،
بيدها مصائر الأشياء جميعا،
نظراتها فيها الفرح،
وفيها القوة والعظمة،
إلهة حامية وروح حارسة.
7
يظهر هذا النص كل خصائص جمال عشتار وجلالها؛ فهي المرأة العذبة الفاتنة التي يضطرم جسدها بالحب والشهوة، وهي كذلك السيدة القوية المسيطرة، ربة نفسها وربة جسدها. إنها صورة المرأة في الثقافة الأمومية، عذبة ورقيقة ولكنها قوية متماسكة، يأتي جمالها مكملا لخصائصها الأخرى لا حاجبا لها، كما هو الحال في الثقافة الذكرية عندما صارت المرأة حبيسة جسدها وجمالها.
أما الأسطورة الذكرية فتحدثنا عن جنسانية عشتار بطريقة مختلفة تنسجم وروح الثقافة البطريركية؛ ففي ملحمة جلجامش تقع الإلهة في حب البطل نصف الإله العائد من معركته المظفرة مع وحش غابة الأرز وتعرض عليه وصالها:
تعال يا جلجامش وكن حبيبي،
هبني ثمارك هدية،
كن زوجا وأنا زوج لك، (ولكن جلجامش يدير ظهرا لحب الإلهة، ويأخذ في تعداد مثالبها وتهتكها):
أي حبيب أخلصت له الحب إلى الأبد؟
وأي راع لك أفلح يرضيك على مر الأزمان؟
تعالي أفضح لك حكايا عشاقك:
على تموز زوجك الشاب،
قضيت بالبكاء عاما إثر عام،
8
أحببت طائر الشقراق الملون،
ولكنك ضربته فكسرت له الجناح،
وها هو في الغيضات ينادي: وا جناحي،
أحببت الأسد، الكامل القوة،
ولكنك حفرت له مصائد سبعا،
أحببت الحصان السباق في المعارك،
ولكنك قدرت عليه السوط والمهماز والأحزمة،
أحببت راعي القطيع،
ولكنك ضربته فمسخته ذئبا،
يلاحقه أبناء جلدته،
وتعض كلابه ساقيه،
أحببت إيشولاتو بستاني نخيل أبيك،
فضربته فمسخته خلدا،
فإن أحببتني، ألا يكون نصيبي منك كهؤلاء؟
9
هذا الانهماك الدائم في الجنس الذي تأخذه الأسطورة الذكرية على عشتار هو عين فضيلتها؛ ذلك أن الألوهة في المفهوم العشتاري ليست تحريكا للكون عن بعد، بل هي عين حركته. وعشتار ليست آمرا للدافع الجنسي، بل هي الدافع الجنسي ذاته في ديناميكيته الكونية الدائبة. ورغم الأخلاقية الجنسية البطريركية التي توجتها في الشرق القديم الشرائع اليهودية، بقيت الأخلاقية الجنسية العشتارية حية في الثقافة الأمومية الصغرى التي تركزت حول العبادات العشتارية في قلب الديانات البطريركية السائدة، وبقيت طقوس الجنس المقدسة قائمة في معابد الخصب وفي أعياد الربيع السنوية.
تبدو الأم الكبرى كسيدة للدافع الجنسي في الأعمال التشكيلية منذ مطلع العصر الحجري الحديث. فإلى جانب الدمى والتماثيل الصغيرة التي تؤكد على خصائص الأمومة، وذلك بالتأكيد على الثديين والبطن والوركين، هناك تماثيل تؤكد بصورة رئيسية على مثلث الأنوثة الذي يبدو مركزا للعمل الفني والبؤرة الوحيدة التي تشد النظر. من هذه التماثيل ما تمدنا به مواقع المستوطنات الزراعية الأولى؛ مثل تل المريبط، وتل أسود، وتل الرماد (الشكل رقم
6-4 ). وقد استمر هذا التقليد النيوليتي قائما إلى عصور حضارة الكتابة في سوريا وبلاد الرافدين، حيث تبدو عشتار عارية أو نصف عارية مع التأكيد على مثلث الأنوثة، وفي بعض الأختام الأسطوانية والمنحوتات البارزة تبدو نصف مكتسية، وقد أزاحت عباءتها بإحدى يديها عن منطقتها الجنسية. وفي أحد الأختام الأسطوانية من موقع أور بأرض الرافدين، نجد عشتار وقد باعدت بين فخذيها لتظهر منطقتها الجنسية بشكل واضح، وفتحت ذراعيها في وضع من يتأهب للاحتضان (الشكل
6-5 ).
شكل 6-4: سيدة الجنس - تل المريبط 8000ق.م.
وفي عمل مشابه، تبدو إيزيس وقد جلست في وضع مماثل فوق خنزير بري، وأمسكت بيدها سلما ترتكز قاعدته السفلى على الخاصرة (الشكل
6-6 )، وربما كان في رمز السلم إشارة إلى الصعود عن طريق الجنس إلى الملكوت العشتاري الأسمى، وإشارة إلى ذلك الإحساس الخاطف الذي يختبره الإنسان لحظة انطلاق الطاقة العشتارية من جسده لتذوب في تيار الطاقة الكونية فتشحنه وتنشحن به.
شكل 6-5: سيدة الجنس - ختم أسطواني من أور.
بعيدا عن منطقة الشرق القديم، نجد التقاليد الفنية في كل الثقافات وقد نحت منحى الفنون الشرقية في تمثيل الأم الكبرى كسيدة للدافع الجنسي، وذلك بالتأكيد على عريها ومنطقتها الجنسية. ويبلغ جمال العري الأنثوي قمته العليا في تماثيل أفروديت اليونانية، إلهة الحب الجنسي في ثقافة الإغريق، التي كانت تثير ضرام الشبق في أجساد البشر والآلهة على السواء، عن طريق ابنها ورسولها إيروس (الشبق أو الرغبة) الذي لا تخطئ سهامه أهدافها أبدا.
وفي الفن الإسلامي الفارسي، حيث لا مجال لتصوير العري، تظهر الرسوم كوكب الزهرة على هيئة حسناء فاتنة تعزف على العود. وكوكب الزهرة هذا، قد ارتبط منذ الجاهلية العربية بالإلهة العزى. وكان العرب يعتقدون بإثارته للحب وإضرامه لنار العشق الجنسي بين الرجل والمرأة،
10
وهو الكوكب الذي لعنه رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) في أحد أحاديثه وأسماه بالحميراء. وفي ذلك إشارة واضحة إلى العزى؛ فيروى عن الصحابي عبد الله بن عمر: أنه كان يقول كلما رأى شروق كوكب الزهرة: طلعت الحميراء فلا مرحبا ولا أهلا، فعقب أحدهم بقوله: سبحان الله، نجم مسخر سميع مطيع، فأجابه ابن عمر: ما قلت إلا ما سمعت عن رسول الله.
11
شكل 6-6: إيزيس سيدة الدافع الجنسي - مصر، العصر الهيلينستي.
كان الإنسان القديم يلبي نداء الطاقة العشتارية ويرفدها بفعله الجنسي الخاص من خلال ثلاثة أشكال من الممارسات الجنسية: الشكل الأول: هو الممارسة الجنسية الفردية بين شريكين يربطهما رباط مؤقت أو دائم، والشكل الثاني: طقوس الجنس الجماعي في المناسبات والاحتفالات الدينية، والشكل الثالث: هو البغاء المقدس الذي كان يمارس بصورة شبه دائمة في معابد الأم الكبرى. وسنبحث فيما يأتي كل شكل من هذه الأشكال على حدة.
الممارسة الجنسية الفردية:
احتوت الثقافة الذكرية هذا النوع من الممارسة الجنسية ضمن إطار الزواج الأحادي ومؤسسته التي يسود فيها الرجل، وفرضت على الشريكين رباطا دائما يهدف إلى تكوين الأسرة وإنجاب الأولاد، وتحول الفعل الجنسي إلى ممارسة دنيوية بعد أن كان طقسا مقدسا وعبادة وتواصلا مع القوى الإلهية. أما في الثقافة الأمومية واستطالاتها في عبادات الخصب، فقد كانت الممارسة الجنسية مع الشريك المختار إرضاء للنوازع الجنسية من جهة، ورفدا لقوى الخصوبة الكونية المنبثة في الحياة الإنسانية والحيوانية والنباتية، من جهة أخرى. وهنا لا يكون الفعل الجنسي مجرد إسكات لدافع متمرد، بل تمتعا بمنة إلهية، وتفتيحا للجسد المبارك الذي وهبته السماء، لا لجما للجسد الخاطئ الذي لعنته السماء. إن الأفعال الجنسية التي يمارسها الناس أزواجا، لتتجمع في رافد واحد يصب في بحر الطاقة الجنسية الكونية.
تقدم لنا الممارسات الشائعة لدى الشعوب البدائية اليوم صورة عن معتقد الإنسان القديم في قدرة الفعل الجنسي البشري على شحن الطاقة الإخصابية الكونية. ففي بعض مناطق جزيرة جاوا يمضي الرجل وزوجته إلى حقل الأرز عند ابتداء نضج الشتلات، فيمارسان الجنس هناك في العراء للإسراع في نمو النبات وزيادة المحصول.
12
ولدى قبائل البيبيليز في أمريكا الوسطى، جرت العادة أن يمتنع الأزواج عن مقاربة أزواجهم فترة لا بأس بها من الزمن قبل موسم البذار، ثم يأتونهن قبل البذار فيباشرونهن بتوق ورغبة، ويشع عن لقائهم طاقة تشحن الحقل المستعد لاستقبال البذار. وهذا اللقاء واجب ديني لا تصح مباشرة البذار بدونه. كما أن أزواجا معينين كانوا يخصصون لممارسة الجنس في الحقل لحظة وضع البذار في الأرض.
13
ولدى قبائل البانجادا في أفريقيا الوسطى يقوم الزوجان اللذان أنجبا توأمين بممارسة الجنس في حقلهم وحقل الأقارب والأصدقاء، لشحنها بطاقاتهم الإخصابية الفياضة.
14
مثل هذه الممارسات كانت قائمة إلى عهد قريب في أوروبا القرن التاسع عشر؛ ففي يوم القديس سان جورج كان أهل أوكرانيا يأتون بالأزواج الجدد، ويخرجون بهم إلى الحقول المحروثة فيتدحرجون عليها لشحنها بطاقاتهم الجنسية الإخصابية التي ما زالت في أوجها.
15
هذا ورغم التركيب المدني والاقتصادي لرابط الزوجية في الثقافة البطريركية، فإن هذا الرابط قد حافظ على قدسيته الدينية عبر التاريخ ولدى جميع الشعوب، وبقي الزواج أمرا دينيا يعقد لإرضاء الآلهة وتحت رعاية رجال الدين، ولم تستطع حتى الآن سوى ثقافات قليلة التخلص من الزواج الديني والتحول إلى الزواج المدني البحت. ولعل الدين الإسلامي من أكثر الديانات العالمية الكبرى القائمة اليوم اهتماما بتنظيم الأمور الجنسية للإنسان تحت مظلة الزواج، وإضفاء الطابع الديني عليها. وفي حديث صحيح عن النبي
صلى الله عليه وسلم
نقرأ: «عن أبي ذر رضي الله عنه: أن أناسا قالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور
16
بالأجور؛ يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم. قال: أوليس قد جعل الله لكم ما تتصدقون به؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع
17
أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر.»
18
طقوس الجنس الجماعي:
كانت هذه الطقوس تتم بصورة خاصة في أعياد الربيع عندما كان الناس يحتفلون بصعود روح الخصوبة الغائبة في عالم الأموات، وعودة عشتار، أو ابنها، إلى الحياة حاملة معها كل نتاج الأرض من باطن التربة، فكانت الممارسات الجنسية في هذه الأعياد مدادا للقوة الإخصابية النائمة التي بدأت تستعيد نشاطها، ودفعا لها لتعود سيرتها الأولى. وقد ارتبط هذا النوع من الممارسات الجنسية بعبادة الأم الكبرى وابنها في جميع أنحاء آسيا الغربية وقبرص وكريت، وانتقل إلى العالم اليوناني الروماني حيث ارتبطت طقوس سيبيل وديمتر وديونيسيوس بالبغاء الجماعي، سواء في الأعياد العشتارية السنوية أو في الاحتفالات الطقوسية السرية. ولعل العبادة الديونيسية كانت أكثر عبادات العالم القديم تركيزا على الطقس الجنسي باعتباره وسيلة اتصال بالقوى الإلهية؛ فبالخمرة والممارسة الجنسية يتوصل التصوف الديونيسي إلى الاتحاد بديونيسيوس، روح الخصوبة الكونية المنبثة في العالم ومخلوقاته. «إن انطلاق الديونيسية من المادي والحسي إلى المستويات الروحانية العليا قد لاءم الطبيعة الأنثوية، فكانت النساء في العالم اليوناني الروماني عماد هذه العبادة، وسندا لها حتى النهاية، وكان ديونيسيوس بحق سيد النساء، لهن يدين بانتصار عبادته المؤزر على الديانة الأبولونية الأوليمبية.»
19
مثل هذه الطقوس الجنسية ما زال قائما لدى كثير من الثقافات البدائية الحديثة. ففي بعض الجزر الواقعة غربي غينيا الجديدة وأجزاء من شمال أستراليا، يعتقد الأهالي بأن إله الشمس المذكر يهبط من عليائه مرة في كل سنة ليحضن إلهة الأرض المؤنثة، وذلك قبل بدء موسم الأمطار، فيجتمعون رجالا ونساء تحت شجرة التين؛ حيث يعتقدون أن الجماع الإلهي يتم هناك، ويمارسون الجنس الجماعي الذي من شأنه حث الطبيعة على إطلاق خيراتها الكامنة، فيهطل المطر وتنبت الأرض وتتكاثر الماشية وتخصب أرحام النساء. ويجري الطقس في جو ديني رصين لا يوحي برغبة المشاركين في إرضاء نوازعهم الجنسية الفردية.
20
استمرت طقوس الجنس الجماعي قائمة بعد انتشار المسيحية في الشرق الأدنى والعالم الهيليني تحت أشكال مختلفة ومضامين متنوعة. وقد وصلتنا تفاصيل عن هذه الطقوس لا يمكن الركون إليها تماما؛ لأن ناقليها قدموها دفاعا عن العقيدة المسيحية وتسفيها للمذاهب المنافسة التي نازعتها السيادة فترة طويلة قبل أن تندحر أمامها. يروي القديس أبيفانيوس ما شاهده بأم عينه من طقوس إحدى فرق المسيحية الغنوصية السورية، عندما انتمى إليها وهو شاب خلال تقلبه بين العقائد السائدة في زمانه بحثا عن الحقيقة، قبل تحوله للعقيدة القويمة؛ فقد زين له تلك الفرقة عدد من النساء الفائقات الفتنة والجمال، اللواتي اكتشف فيما بعد أنهن لسن إلا أداة في يد الشيطان. يجتمع أفراد هذه الفرقة رجالا ونساء في مكان معين فيصافحون بعضهم بعضا بطريقة خاصة يتعارفون بها؛ لاكتشاف أي غريب أو فضولي لا علاقة له بالمذهب. فإذا اطمأنوا بسطوا مائدة عارمة باللحوم والخمور فأكلوا وشربوا، ثم قاموا فافترق الأزواج عن زوجاتهم، وقال كل رجل لامرأته: هيا إلى مأدبة الحب مع أحد إخوانك. ثم يختلط الحابل بالنابل ويتضاجع الرجال والنساء، فإذا انتهوا أخذوا ما يسكبه الرجال خارج أرحام النساء في أيدهم وتظاهروا برميه من أكفهم وراء ظهورهم في حركة ابتهالية توحي بنكران المتعة الشخصية، ثم لا يتورعون عن رفع أيديهم النجسة بالصلاة إلى الإله الأب مبدأ الأشياء، مقدمين له ما في أكفهم قائلين: لك نقدم هذا القربان الذي هو عين جسد المسيح، ثم يضعونه في أفواههم، ويفعلون الشيء نفسه بدم النساء الحائضات قائلين إنه دم المسيح، وذلك تفسير خاص منهم لما ورد في (سفر رؤيا يوحنا الإصحاح 2: 22) «وأراني نهرا صافيا من ماء حياة، لامعا كبلور خارجا من عرش الله. وعلى النهر هنا وهناك شجرة حياة تضع اثنتي عشرة ثمرة، وتعطي كل شهر ثمرها وورق الشجر لشفاء الأمم.» وهم إذ يمنعون بذورهم عن الأرحام إنما يتفادون إنجاب الأطفال، مكرسين فسقهم لإرضاء شبقهم.
21
وفي أوروبا المسيحية استمرت طقوس الجنس الجماعي إلى مطلع العصور الحديثة، من خلال عبادة سرية لا نعرف عنها شيئا حتى الآن، كانت تعرف في العصور الوسطى بعبادة الشيطان، التي انتشرت محافلها السرية في طول أوروبا وعرضها. وكان عباد الشيطان يجتمعون في ليالي القمر الكامل ويمارسون الجنس الجماعي.
22
ولكن محاكم التفتيش المسيحية كانت لهم بالمرصاد، وكانت تلاحق وتحرك كاهنات هذه العبادات بتهمة ممارسة السحر، فهل كان أتباع هذه الديانة المجهولة يعبدون الشيطان فعلا، أم أن ديانتهم كانت استمرارا لمعتقدات الخصب القديمة؟ إن الشيطان في الكتابات والأعمال الفنية المسيحية يبدو على هيئة إنسان مكسو بشعر الماعز، له ساقا تيس وقرنان صغيران وأذنان مدببتان. هذه الملامح العامة للشيطان المسيحي هي ذاتها ملامح الإله «بان » وفصيلة الآلهة الثانوية المعروفة باسم الساتيرز. كان الساتيرز في الميثولوجيا الإغريقية أشبه بجن الغابات يمثلون الروح البدائية للأحراش والجبال، وكانوا يحبون الطرب والرقص والموسيقى وحياة العبث واللهو، يقضون أوقاتهم في مطاردة وإغواء الحوريات، كما كانوا من أتباع الإله ديونيسيوس، يرافقونه ويلعبون دورا في طقوس الجنس الجماعي أثناء الاحتفالات الديونيسيوسية. وتروي الأساطير أن أكبرهم وحكيمهم «سيلينيوس» كان مرشدا لديونيسيوس ومعلما له.
23
أما الإله «بان» فكان ابنا لهرمس من إحدى الحوريات، وكان إلها للطبيعة البرية والأحراش والرعاة، كما كان من آلهة الموسيقى، وهو الذي ابتكر مزمار الرعاة المعروف حتى اليوم باسم بان-فلوت. وقد تغلب في إحدى المباريات الموسيقية على أبولو إله الموسيقى الأول. تجعله الأساطير أبا للساتير سيلينيوس معلم ديونيسيوس.
24
وفي تفسيري، فإن ديانة السحر والشيطان التي كانت سائدة في أوروبا في القرون الوسطي ليست إلا امتدادا، تحت ظروف الضغط والإرهاب، للعبادة الديونيسية، وليس الشيطان الذي كانت محاكم التفتيش تلاحقه وتحرق كاهناته، سوى ذلك الساتير الظريف الذي كان يشارك أتباع تلك العبادات السرية طقوس الجنس الجماعي التي تقام لإخصاب الأرض الطبيعية. وربما كان حضور بان والساتير بين المحتفلين يمثل بأفراد يلبسون جلد الماعز، ويضعون قرون التيس وأذنيه.
البغاء المقدس:
في مطلع العصور الزراعية التي ظهرت فيها، كما رأينا سابقا، الأسرة الثنائية والعلاقة المديدة بين شريكين في ظل حق الأم. كان هذا الاختصاص الجنسي الذي قد يدوم العمر كله، أمرا مخالفا لطبيعة عشتار. فالمرأة لم تعط كل جمالها وفتنتها لتبلغ أرذل العمر في أحضان رجل واحد، فكان لا بد من التسوية بين النظامين واسترضاء الإلهة بإعطاء الحرية الجنسية للفتيات قبل الزواج، وفرض الإخلاص الزوجي عليهن بعده. وقد تم تقليص هذه الحرية تدريجيا حتى تحولت فعلا إلى نوع من الكفارة الدينية التي تقدمها المرأة لقاء اختصاصها برجل واحد. وصارت هذه الكفارة تقدم مرة واحدة في العمر في معابد الأم الكبرى كشرط لصحة الزواج، وبعد ذلك أعفيت عامة النساء من تقديم هذه الكفارة، وصار البغاء المقدس في المعابد وقفا على البغايا المقدسات اللواتي كن يمارسن الجنس نيابة عن كل النساء، وأخذت المرأة تقدم في المعبد شعرها بدل جسدها لإلهة الدافع الجنسي.
25
هذا وقد وصف مؤرخو اليونان من أمثال هيرودوتس وسترابو، في فترة نضج المجتمع الذكري الإغريقي، بعض عادات الشعوب غير المتحضرة التي احتكوا بها، والتي كانت أشكال مختلفة من الكفارة الجنسية ما زالت شائعة بينهم. من ذلك مثلا: أن العروس في ليلة زفافها كانت تضاجع كل من يجلب إليها هدية زواج، أو كانت تضاجع أقارب العريس واحدا واحدا مبتدئة بأكثرهم قرابة، فإذا انتهى الأقارب جاء دور الأصدقاء، وأخيرا يأتيها عريسها لأول مرة وتصبح صالحة للإخلاص الزوجي.
26
كانت طقوس البغاء المقدس شائعة في جميع أرجاء الشرق القديم؛ ففي قبرص التي يروي المؤرخ الإغريقي هيرودوتس أن الفينيقيين كانوا أول من أوجد فيها معابد أفروديت، كان على كل فتاة أن تخدم في معبد أفروديت كبغي مقدسة تعطي جسدها للغرباء فترة من الزمن قبل أن تتزوج، حيث كان الجنس يمارس بكل أبهة الطقس الديني وجديته بعيدا عن أي مظهر من مظاهر الدعارة الرخيصة أو إرضاء الميل الشخصي. ويروى أن سيزينياس الفينيقي ملك قبرص الأسطوري هو الذي أوجد هذه الطقوس، وكانت بناته من بين بغايا المعبد. وفي بابل كان على كل امرأة أن تستسلم في معبد عشتار لأول غريب يطلبها، وتأخذ منه أجرا رمزيا غير محدد تسلمه إلى الهيكل هبة منها لإلهة الحب، وتوكيدا على انعدام الأهداف الفردية لفعلها الجنسي. ولم تكن المرأة بقادرة على العودة إلى بيتها قبل أن يمر بها ذلك الغريب. لذا كان فناء المعبد مليئا على الدوام بنسوة في الانتظار، ولربما قضى بعضهن سنوات قبل أن يقع عليهن اختيار أحد. وفي بعلبك وبيبلوس وغيرها من مراكز الثقافة السورية، سادت عادات مشابهة في معابد الإلهة عستارت، وبقيت قائمة إلى ما بعد انتشار المسيحية. وتروي الأخبار أن الإمبراطور البيزنطي قسطنطين هو الذي ألغى البغاء المقدس في بعلبك، وهدم معبد عستارت فبنى فوقه كنيسة. وفي أرمينيا، كانت العائلات النبيلة تقدم بناتها للخدمة كبغايا مقدسات في معبد أنايتيس إلهة الخصب، حيث يمكثن هناك فترة لا بأس بها قبل الزواج، وعند انتهاء خدمتهن كن يمضين إلى بيوتهن ويتقدم لخطبتهن أكابر القوم.
27
يقول المؤرخ الإغريقي هيرودوتس إن كل الشعوب القديمة ما عدا الإغريق والمصريين، كانت تمارس الجنس المقدس في المعابد. وهذا القول مقارب للحقيقة في جزئه الأول ومجافيا لها في جزئه الثاني. فالإسبارطيون قد ألحقوا بمعبد ديونيسيوس بيتا خاصا للدعارة.
28
وأفروديت في بعض أشكالها كانت تدعى بأفروديت-بورني؛ أي العاهرة، وكانت حامية للبغاء من كل صنف ونوع. وفي مدينة كورنثة، كانت عاهرات المدينة يعتبرن بمثابة بغاياها المقدسات.
29
وفي ليديا المتأثرة بالثقافة الإغريقية بقي البغاء قائما حتى القرن الثاني الميلادي.
30
إلى جانب هذا النوع من البغاء المقدس الذي كانت تقوم به كل النساء لمرة واحدة، أو لفترة قد تطول أو تقصر من حياتهن، كان في معابد عشتار كاهناتها الدائمات المكرسات على الدوام لإبقاء جذوة الجنس متقدة لا يخبو لها أوار، تماما كشعلة النار التي كانت دائمة الاتقاد في هياكلها. وكن يحظين باحترام المجتمع وتقديره. فها هو الملك الأكادي العظيم «صارغون» مؤسس أول إمبراطورية سامية امتدت من حدود إيران إلى شواطئ المتوسط في أوساط الألف الثالث قبل الميلاد يفخر بأنه ابن بغي مقدسة: «أمي كانت بغيا مقدسة، ولم أعرف لي أبا، وضعتني في سلة وأحكمت غطاءها، ثم أسلمتني للنهر الذي حملني، التقطني آكي، ناظر ماء القرابين وتبناني. رباني حتى شببت فصرت أعنى ببستانه. هناك رأتني عشتار، فأحبتني وجعلتني ملكا.»
31
عشتار في التوراة
تسللت سيدة الحب الجنسي إلى كتاب التوراة العبرانية، وشغلت سفرا كاملا من أجمل أسفاره، ألا وهو نشيد الأنشاد المنسوب للملك سليمان الذي كان طيلة حياته من عبدة الآلهة السورية، وخصوصا عشتاروت (عشتار) وبعليم (بعل). فالسفر بكامله أنشودة حب وعشق دنيوي متقد، مرفوعة إلى عشتار مهما حاول اللاهوتيون إقحام تفسيراتهم الروحية ورموزهم الدينية عليه. إنه واحة عذبة في جدب الشرائع والقوانين البطريركية التي يطفح بها الكتاب. وفي تفسيري، يشكل السفر تردادا لأنشودة خصب عشتارية قديمة تصف لقاء عستارت وأدونيس بعد انقضاء فصل الشتاء وحلول الربيع، خصوصا وأن مشاهد العشق فيها تترافق مع مشهد حياة الأرض بعد انقضاء موسم الأمطار. وهذه منتخبات منه: «كالسوسنة بين الشوك، حبيبتي بين البنات، كالتفاح بين شجر الوعر، كذلك حبيبي بين البنين، تحت ظله اشتهيت أن أجلس، وثمرته حلوة في حلقي. أدخلني إلى بيت الخمر وعلمه فوقي محبة. أسندوني بأقراص الزبيب، أنعشوني بالتفاح فإنني مريضة حبا. يساره تحت رأسي ويمينه تعانقني، أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقول ألا توقظن الحبيب حتى يشاء ... صوت حبيبي هو ذا آت، طافرا على الجبال قافزا على التلال. حبيبي شبيه بالظبي أو بغفر الأيائل، هو ذا واقف وراء حائطنا: قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي؛ لأن الشتاء قد مضى والمطر مر وزال، الزهور ظهرت في الأرض، بلغ أوان القضب، وصوت اليمامة سمع في أرضنا. قومي يا جميلتي، وتعالي يا حمامتي أريني وجهك، أسمعيني صوتك؛ لأن صوتك لطيف ووجهك جميل ... ها أنت جميلة يا حبيبتي، ها أنت جميلة، عيناك حمامتان من تحت نقابك، شعرك كقطيع معز رابض على جبل جلعاد، أسنانك كقطيع الجزائر الصادرة من الغسل، كل واحد متئم وليس فيهن عقيم، شفتاك كسلسلة من القرمز وفمك حلو، خدك كفلقة رمانة تحت نقابك. عنقك كبرج داود المبني للأسلحة، ثدياك كخشفتي ظبية، توأمين يرعيان بين السوسن ... شفتاك يا عروس تقطران شهدا، تحت لسانك عسل ولبن، ورائحة ثيابك كرائحة اللبان. أختي العروس جنة مغلقة، عين مقفلة، نبع مختوم، أغراسك فردوس رمان مع أثمار نفيسة، ينبوع جنات، بئر مياه حية، وسيول من لبنان. استيقظي يا ريح الشمال، وتعالي يا ريح الجنوب، هبي على جنتي فتقطر أطيابها، ليأت حبيبي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس. دوائر فخذيك مثل الحلي، صنعته يدا صناع، سرتك كأس مدورة لا يعوزها شراب ممزوج، بطنك صبرة حنطة مسيجة بالسوسن، ثدياك كخشفتين، توأمي ظبية، عنقك كبرج لبنان الناظر نحو دمشق. ما أجملك وما أحلاك أيتها الحبيبة باللذات، قامتك هذه شبيهة بالنخلة، وثدياك بالعناقيد، قلت: إني أصعد إلى النخلة وأمسك بعذوقها، ويكون ثدياك كعناقيد الكرم .»
هذا ما جرى به لسان باني هيكل الرب في أورشليم، الذي أعطاه الرب ما لم يعطه لغيره من ملوك الأرض: «أعطيتك قلبا حكيما ومميزا حتى إنه لم يكن مثلك قبلك ولا يقوم بعدك نظير، وقد أعطيتك أيضا ما لم تسأله غنى وكرامة، حتى إنه لا يكون رجل مثلك في كل الملوك كل أيامك» (سفر الملك الأول 3: 12-13). هذه الحكمة نفسها هي التي فتحت عين سليمان الداخلية على حكمة الأفعى وسر عشتار: «فذهب سليمان وراء عشتروت إلهة الصيدونين» (سفر الملوك الأول 11: 5).
الفصل السابع
عشتار السوداء
تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي ، قرآن كريم.
1
إن ما تقصد إلى قوله هذه الآية الكريمة، بعيدا عن التفسيرات التقليدية، هو
2
أن الكون المادي ليس وجودا ساكنا، بل كينونة تتحرك بين قطبين إلى نهاية الأزمان، وطاقتين متناوبتين تنشأ كل واحدة عن ضدها وتقوم به. الطاقة الأولى سوداء سالبة تحمل الموت، والثانية بيضاء موجبة فيها الحياة، فلا حياة بلا موت، ولا موت بلا حياة، ولا نهار بلا ليل، ولا ليل بلا نهار، ولا خير بلا شر، ولا شر بلا خير. نقرأ في آيات كريمة أخرى أيضا:
وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار ،
3
وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون ،
4
وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ،
5
ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها .
6
ويدور تعليم السيد المسيح حول نفس الفكرة: «الحق، الحق أقول لكم: إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتموت فإنها تبقى وحدها. ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير. من يحب نفسه يهلكها.»
7
لأن في صميم الحياة تكمن خميرة الموت، وفي غياهب الموت تكمن بذرة الحياة. والموت ليس نفيا للحياة بل نقيضا مكملا لا قيام لها بدونه، تماما كالقطب الكهرومغناطيسي السالب الذي بدونه يتلاشى القطب الموجب ، وهذان النقيضان هما خيطان ينسجان مادة الوجود. في كل لحظة تتحرك دفقات جديدة من الحياة لتسير في طريقها المرسوم نحو المحيط اللانهائي حيث تتلاشى، مفسحة الطريق أمام دفقات جديدة تتبعها. وتحت قناع الكون الساكن أمام البصر، حركة لا تهدأ من موت وحياة.
ولقد صورت الأسطورة هذه الحركة الدائبة بين النقيضين المتعاونين بلغتها الخاصة، فخلقت صراعا بين إله الموت وإله الحياة، وبين القوة التي تهدم والقوة التي تبني. ولعل أسطورة بعل وموت الأوغاريتية، تقدم لنا أكثر أشكال هذا الصراع وضوحا ودرامية. ففي هذه الأسطورة، يبدأ الصراع بين إله الحياة والدورة الزراعية بعل وإله الموت والعالم الأسفل موت، عقب انتصار بعل على العماء الأول المتمثل بالإله يم، المياه البدئية، وتوطيد أركان مملكته الجديدة؛ إذ ينبري موت من عالمه السفلي صائحا:
أنا وحدي من سيحكم فوق جميع الآلهة،
أنا وحدي من سيأمر الناس والآلهة،
ويسيطر على كل من في الأرض.
8
فيبعث إليه بعل برسله طالبا منه التعايش بسلام، ولكن موت يرفض عروض بعل، ويسلط عليه التنين الهائل لوتان ذا الرءوس السبعة، فيسحقه بعل مسجلا بذلك انتصارا كونيا ثانيا على قوى الفوضى. هنا يثور موت ثورة عارمة ويطلب إلى بعل تسليم نفسه والهبوط إلى العالم الأسفل، فيقبل بعل وهو في قمة سلطانه وجبروته الاستسلام للموت، والنزول إلى عالم الظلمات من فم الإله موت الفاغر لابتلاعه:
فشفة في الأرض وشفة في السماء،
واللسان بين النجوم،
ليدخل بعل إلى أعماقه هابطا عبر فمه،
فتجف أشجار الزيتون ومنتجات الأرض وثمار الشجر.
خاف علينا بعل، فزع راكب الغيوم،
وأرسل إلى موت معلنا استسلامه:
اذهبا وقولا للإله موت،
تحية لك أيها الإله موت،
عبدك أنا سأكون،
عبد لك إلى الأبد.
وهكذا يقدم بعل نفسه طواعية للموت في استسلام يذكرنا باستسلام إنانا في الأسطورة السومرية. وبعد موت بعل تقضي حبيبته الإلهة عناة فترة حزن وحداد عليه، ثم تمضي في محاولة يائسة إلى الإله موت طالبة استعادة بعل إلى الحياة ولكن عبثا. وبعد تكرار المحاولة وتكرار الرفض، قررت التصدي بنفسها للإله موت، فدخلت معه في صراع حاسم ودحرته:
كقلب البقرة على عجلها وكقلب الشاة على حملها،
كذلك هو قلب عناة على بعل،
لقد أمسكت بالإله موت،
بالسيف تقطعه وبالمذارة تذريه،
وبالنار تشويه، وبالطاحونة تطحنه،
وفي الحقل تدفنه فلا تأكل لحمه الطيور ولا تنهشه الجوارح.
فيعود بعل إلى الحياة، ويلتقي الحبيبان على سطح الأرض حيث يرتقي بعل عرشه من جديد فوق قمة جبل الأقرع، بينما كانت السماوات تقطر زيتا والوديان تجري بالعسل، ابتهاجا بعودة سيد الطبيعة إلى الحياة. ولكن موت لا يغيب إلى الأبد، والأمور لا تستقيم لبعل على الدوام:
وهكذا، من أيام إلى شهور،
ومن شهور إلى سنين.
ولكن في السنة السابعة،
نهض موت معلنا نفسه لعليان بعل، (وتعود القوتان الكونيتان للصراع من جديد).
إلا أن هذا الصراع الذي يطفو على سطح الأسطورة، ليس في حقيقته وغاياته إلا تعاونا بين القوتين من أجل حفظ الوجود، ومنعه من العودة إلى هاوية السكون والعدم. وهذا ما تعبر عنه المستويات السرانية للأسطورة. ففي النص الآنف الذكر نجد في مشهد قتال عناة وموت، أن عناة تقوم بقتل موت وتقطيعه بالسيف وتذريته بالمذارة وشيه بالنار وطحنه بالطاحون، وطمر أجزائه تحت التراب في الحقول لكيلا تأكلها العصافير. وفي ذلك كله إشارة إلى مراحل عملية حصد القمح بالمنجل ثم تذريته بالمذارة فطحنه فخبزه وتوفير بعضه لدفنه تحت التراب من أجل زراعة الموسم القادم الجديد. وما تريد الأسطورة هنا أن تقوله، هو أن الإله موت هو حبوب القمح اليابسة التي تهاوت تحت مناجل الحصادين؛ فقدمت غذاء للبشر ودفن بعضها من أجل إعطاء الحياة الجديدة، في فصل الربيع القادم، وإن الإله موت ليس إلا الوجه الآخر للإله بعل الذي يمثل السنابل الخضراء، فموت هو بعل الميت، وبعل هو موت الحي. من هنا رأينا في نظرية تكوين سانخونياتن التي نسبها فيلو للفينيقيين، أن الإله موت هو الخميرة الأولى وبذرة الخلق.
شكل 7-1: سيت-حورس.
ونجد الشيء نفسه في الأسطورة المصرية؛ فالإله أوزوريس رب الخصب ودورة الطبيعة يدخل في صراع مع أخيه «سيت » الذي يمثل البوار والصحراء والشر. وعندما يتحول أوزوريس من إله للطبيعة إلى إله للعالم الأسفل، يستمر الصراع بين ابنه «حورس» و«سيت»، فجولة لهذا وأخرى لذاك دون غلبة لأحدهما على الآخر. وقد عبرت الأعمال التشكيلية عن المستوى السراني لأسطورة حورس وسيت؛ إذ رسمتها في جسد واحد ذي رأسين (الشكل رقم
7-1 )، واحد لحورس وهو رأس الصقر وآخر ليست وهو رأس الحمار.
9
وفي الميثولوجيا الإغريقية نجد وحدة الحياة والموت في الإلهة بيرسفوني، التي تمثل روح العالم الأسفل وأيضا روح القمح الذي ينبعث من باطن الأرض في الربيع. أما زوجها هاديس فهو الذي يعزى إليه دفع المزروعات للخروج إلى وجه الأرض، وارتبطت عبادته أحيانا بعبادة ديمتر، أم القمح.
10
ومما له دلالة موحية في هذا المجال أن اسمه الآخر «بلوتو»؛ يعني «واهب الخيرات».
11
فإذا انتقلنا من أساطير الخصب إلى أساطير التكوين، وجدنا وحدة الحياة والموت تتجلى على المستوى البدئي. فالكون المنظم ومبادئ الحياة الأولى قد ظهرت من أشلاء إله قتيل أعطى حياته القديمة من أجل الحياة الجديدة، كما هو الأمر في أسطورة التكوين البابلية التي حللناها سابقا، وأساطير أخرى كثيرة منها القديم ومنها البدائي الحديث؛ ففي أسطورة إسكندنافية يقوم الإله الشاب «أودين» بقتل الإله البدئي والعملاق الكوني «يمر»، ومن جسده تنشأ شجرة الكون.
12
من لحم «يمر» جبلت الأرض وشكلت،
من عرقه المتصبب تجمعت البحار،
من عظامه تكونت الصخور،
من شعره نبتت الأشجار،
من نخاعه تصاعدت الغيوم.
13
وفي أسطورة من تراث أمريكا الوسطى، كانت الإلهة البدئية «تياتيولتي» تهيم وحيدة فوق المياه الأولى. ثم ظهر الإلهان «كويتز الكوت» و«تيزكا نليكبو» اللذان قررا الانقضاض على الإلهة وقتلها لخلق العالم من أشلائها. ولم تكن مهمتهما بالمهمة السهلة؛ لأن تلك الإلهة لم تكن بالفتاة الغضة، بل كانت أشبه بالتنانين، كلها عيون لترى في جميع الاتجاهات وكلها أفواه بارزة الأنياب تنهش كالكواسر، ولكن الإلهين أفلحا بعد معركة مهولة فصرعاها وشقا جسدها نصفين وصنعا من أشلائها الأرض والسماء والآلهة الأخرى. ثم قررت الآلهة جميعا، من أجل ترضيتها، أن يصنعوا منها أيضا كل مظاهر الحياة على الأرض. وهكذا صنعوا من شعرها الأشجار والأزهار والأعشاب، وصنعوا من عيونها الينابيع، ومن أفواهها الأنهار والكهوف الكبيرة، ومن أنفها الوديان، ومن كتفيها الجبال. إلا أن الإلهة كانت تبكي طوال الليل؛ لأن بها توقا لالتهام قلوب البشر، فلم تهدأ إلا بها، ولم تكن تحمل الثمار إلا إذا سقيت الدماء.
14
وبعد خلق الكون يأتي خلق الإنسان الذي تنشأ حياته أيضا من الموت؛ ففي الأسطورة الإغريقية يخلق زيوس الإنسان من رماد آلهة التيتان الذين ضربهم بصواعقه. وفي أسطورة التكوين البابلية يأمر الإله مردوخ بعد قتله تعامة، أن يصنع الإنسان من دماء زوجها كينغو الأسير:
فلما انتهى مردوخ من سماع حديث الآلهة،
حفزه قلبه لخلق مبدع:
سأخلق دماء وعظاما،
منها أصنع «لالو» وسيكون اسمه الإنسان. (ثم يطلب أن يحضر أمامه كينغو، ويطلب إلى الإله «إيا» أن يتعهد خلق البشر من دمائه):
ثم قيدوه ووضعوه أمام إيا،
أنزلوا به العقاب فقطعوا شرايين دمائه،
ومن دمائه تم خلق البشر.
وفي أسطورة بابلية أخرى عن خلق الإنسان، نجد الآلهة وقد كلت من عناء العمل اليومي، تأتي إلى الأم الكبرى طالبة منها خلق الإنسان ليحمل عبء العمل؛ فتفعل ذلك مستخدمة دم إله قتيل:
أنت عون الآلهة، «مامي» أيتها الحكيمة،
أنت الرحم الأم.
اخلقي الإنسان فيحمل العبء،
ويأخذ عن الآلهة عناء العمل.
فتحت «ننتو» فمها وقالت للآلهة الكبار:
لن يكون لي أن أنجز ذلك وحدي،
ولكن بمعونة «إنكي» سوف يخلق الإنسان،
الذي سوف يخشى الآلهة، ويعبدها،
فليعطني إنكي طينا أعجنه.
فتح إنكي فمه قائلا للآلهة الكبيرة:
في الأول والسابع والخامس عشر من الشهر،
سأجهز مكانا طهورا،
وسيذبح هناك أحد الآلهة،
وبلحمه ودمائه ستقوم ننتو بعجن الطين،
إله وإنسان معا،
سيتحدان في الطين أبدا.
15
وفي أسطورة بابلية ثالثة، نجد الآلهة وقد اجتمعوا بعد انتهاء خلق العالم للتشاور فيما يمكن لهم فعله بعد ذلك:
ماذا نستطيع بعد أن نخلق؟
لنذبح بعض آلهة «اللامجا»،
ومن دمائهم فلنصنع الإنسان،
فنوكله بخدمة الآلهة،
على مر الأزمان.
16
وتتجلى وحدة الحياة والموت في الفكر الأسطوري، في زمرة الأساطير التي تحكي عن ظهور نباتات الغذاء التي تعلم الإنسان فيما بعد زراعتها. وسوف نسوق أمثلتنا من ميثولوجيا الشعوب البدائية الحديثة. تتحدث أسطورة من هاواي عن ظهور نبتة الخبز (وهي نوع من البطاطا) من زراعة جثة رجل قتيل. ففي الأزمنة السحيقة، وقبل أن يتعلم الناس الزراعة، اجتاحت الجزيرة مجاعة عامة، وضعت الناس على حافة الموت. وكان هناك رجل حكيم اسمه «أولو»، يقصد المعبد كل يوم، فيتضرع للآلهة من أجل إنقاذ ابنه الصغير الذي هزل جسمه وصار من الموت قاب قوسين أو أدنى. وقد استجاب لدعائه الآلهة وأطلعوه على الحل، الذي يقتضي منه تقديم حياته لإنقاذ ابنه وبقية سكان الجزيرة، فعاد إلى زوجته وطلب منها أن تنفذ فيه تعليمات الآلهة بحذافيرها. فعند غياب الشمس سوف تفارقه الروح، وعليها عند ذلك أن تدفن أجزاء جسده في حفر متفرقة من الأرض؛ فالرأس عند نبعة الماء والقلب قرب باب المنزل، وذراعاه وساقاه في أماكن أخرى قريبة، ثم تضطجع في سريرهما ولا تفارقه حتى الصباح، فإذا سمعت من مكانها صوت حفيف أوراق وتساقط ثمار على الأرض، فمعنى ذلك أن الآلهة قد وفت بما وعدت. حزنت الزوجة لفراق زوجها، ولكنها قامت تماما بما طلب منها. وفي الصباح كانت نبتة الخبز قد طلعت من المكان الذي دفنت فيه رأس زوجها، وشجرة الموز من المكان الذي دفنت فيه قلبه، وفيما بينهما نمت شجيرات الكرمة ونباتات متنوعة أخرى، فقطفت من الشجر وأطعمت ابنها ودعت بقية الناس للأكل.
17
وفي جزيرة كوك بالمحيط الهادي، تحكي الأسطورة عن فتاة اسمها «إينا» كانت تستحم في إحدى البحيرات عندما أتتها أفعى مائية كبيرة، ما لبثت أن نضت عنها ثوبها ليظهر تحته الفتى الوسيم «تونا». وقع الاثنان في حب بعضهما وتكررت لقاءاتهما عند البحيرة، إلى أن جاء يوم قرر الفتى فيه وداع صديقته ومغادرتها دون رجعة. هنا قررت إينا الانتقام من تونا فقتلته في لقائهما الأخير، واجتثت رأسه فدفنته في التراب، وراحت تزوره في كل يوم. وبعد مدة من الزمن لاحظت الفتاة أن نبتة صغيرة قد بدأت تزيح التراب عن رأس الفتى المدفون. ويوما بعد يوم أخذت تلك النبتة تتطاول حتى غدت شجرة كبيرة هي أول شجرة جوز هند في العالم، وكانت ثمارها العجيبة، وما تزال تحمل عيني الفتى وبعض ملامح وجهه.
18
وفي كولومبيا بأمريكا الجنوبية تحكي أساطير السكان الأصليين عن فتى عذب الصوت كان الناس يتقاطرون إليه من كل فج عميق لسماع أغانيه الشجية. وحدث ذات يوم، لسوء حظ الفتى، أن الناس بعد انصرافهم عنه أصابهم داء غريب قضى على كثيرين منهم، فجاءوا إلى الفتى وقد حملوه مسئولية ما حدث، فقتلوه، وأحرقوه ودفنوا رماده تحت التراب. وبعد قليل نبتت فوق قبره شتلة صغيرة ما لبثت أن تحولت إلى أول نخلة في العالم.
19
هذا ويضيق المجال عن ذكر أمثلة أخرى مشابهة؛ لأن شيوعها يعادل شيوع أساطير الطوفان الكبير، وأساطير خلق الزوجين البشريين الأولين من الطين، وأساطير خلق العالم من المياه البدئية الأولى.
لقد ظهر الوجود من لجة العماء بالقتل، وظهرت مظاهر الحياة الأولى بالقتل، وبدأت حياة الإنسان بالقتل. ثم لاحظ الإنسان أن استمرار بقائه يعتمد على القتل، فكان اقتطاع الشجرة بالنسبة إليه قتلا، وصيد الحيوانات قتلا، وحصد القمح قتلا، وصيد الحيوانات قتلا. الحياة تستمر بالقتل، تتغذى على الموت، والموت فاغر فاه يتغذى على الحياة. من الجثث المتفسخة تنطلق ديدان حية نشطة، وفوق القبور وبقايا النباتات تنبت أعشاب وسيقان خضر. لهذا عمل الإنسان القديم على رفد الحياة بالموت، ورفد الموت بالحياة، من خلال طقس القرابين البشرية والحيوانية. فما نشأ عن الموت لا يستمر إلا بالموت، وحياة الجماعة لم تكن لتقوم إلا بتقديم بعض أفرادها لقمة للموت، ومزروعاتها لم تكن لتنتعش من باطن الأرض إلا بدم الأحياء الذي يراق فوق التربة حاملا أرواح الضحايا إلى العالم الأسفل. لذلك كانت الأضاحي البشرية تذبح في الحقول، وتؤخذ أجزاؤها فتدفن تحت التراب بين البذور المزروعة، وتؤخذ دماؤها فترش فوق الوريقات الصغيرة الخضراء. ورغم أن القربان البشري قد تم استبداله بالقربان الحيواني لدى كثير من الثقافات في أزمنة مختلفة من تاريخها، إلا أن هذا الطقس قد استمر قائما إلى مطلع القرن العشرين لدى بعض الثقافات التي هي أبعد ما تكون عن البدائية، كما هو حال الثقافة الهندوسية في شبه القارة الهندية.
وفي الرواية التوراتية عن الفرودس وسقوط الإنسان، التي استلهمت روايات دينية أقدم، نجد أن الموت يظهر إلى الوجود في نفس الوقت الذي يكتشف فيه الإنسان الفعل الجنسي الذي بواسطته يبتكر الحياة. ومع اكتمال هذين الضدين المتعاونين، يدخل الإنسان في الزمن المادي، ويهبط إلى الأرض ليبتدئ الحضارة. لقد جلب آدم وحواء على نفسيهما الموت بعد أكلهما من ثمرة الجنس المحرمة، ولكنهما قد اختارا لذريتهما من الجنس البشري نوعا آخر من الخلود، هو خلود النوع الناجم عن دينامية المتناقضات، لا خلود الفردوس الساكن الذي يشبه العدم. وبعد هبوطهما إلى الأرض، كان في مصرع ابنهما هابيل على يد أخيه قابيل، أول تجسيد لقوة الموت في الحياة الأرضية التي ابتدأت لتوها. وتم استهلال تاريخ البشرية بجريمة قتل: «وحدث إذ كانا في الحقل أن قابيل قام على هابيل أخيه وقتله، فقال الرب لقابيل: أين هابيل أخوك؟ فقال: لا أعلم، أحارس أنا لأخي؟! فقال: ماذا فعلت؟ صوت أخيك صارخ إلي من الأرض؛ فالآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يديك.»
20
هذه الأرض التي فتحت فاها لتتلقف جسد هابيل هي التي جبل منها جسد أبيه آدم، وهي التي سوف تتلقف جثث الموتى إلى نهاية الأزمان. إنها الأم الكبرى التي تأخذ باليسار ما أعطته باليمين. سيدة القوتين الكونيتين. قوة الحياة النشطة وقوة الموت الساكنة، قوة النور وقوة الظلام، قوة الخير وقوة الشر، اليانج والين في دورانهما الأبدي. وذراعا الصليب المعقوف في تناوبهما السرمدي.
الأم الكبرى سيدة الموت
إن الإله الكوني الشمولي، عندما لا يجرد من نفسه ظلا له يحمله مسئولية الموت وشرور الحياة، لا بد له من الإمساك بخيوط القوتين الكونيتين بذراعيه الاثنتين، فباليمنى يمسك قوة الحياة والخير، وباليسرى قوة الموت والشر. وهنا تغدو مسألة استرضاء وجه الإله الأبيض، واتقاء غضب وجهه الأسود، الموضوع الأساسي للعبادة والطقوس. من هنا نستطيع أن نفهم الخصيصتين المتناقضتين للأم الكبرى للعصر الحجري، أول إله شمولي عبده الإنسان . كما نستطيع أن نفهم استمرار هاتين الخصيصتين في وريثات الأم الكبرى.
تدل الاكتشافات الأركيولوجية الحديثة من منطقة الشرق الأدنى، على أن الأم الكبرى للعصر النيوليتي قد عبدت كسيدة للموت كما عبدت كسيدة للحياة.
21
وتدل طقوس الدفن التي مارسها سكان المستوطنات الزراعية النيوليتية، على أن الموت لم يكن بالنسبة إليهم سوى معبر للعودة إلى أحضان سيدة الموت التي كانت في نفس الوقت سيدة للحياة. ففي مستوطنة شتال حيوك، كان النسر، ذلك الطائر الذي يعيش على جثث الموتى، رمزا للأم الكبرى في وجهها الأسود. وكانت معابد المستوطنة ملأى بالرسوم الجدارية التي تمثل نسورا عملاقة منقضة على جثث الموتى (شكل رقم
7-2 ). ويستدل علماء الآثار، اعتمادا على هذه الرسوم، وعلى دراسة بقايا الهياكل العظمية لسكان تلك المستوطنة، على أن الموتى كانوا يوضعون على مصاطب عالية في أماكن بعيدة خاصة، تأتيها النسور فتلتهم لحم الجثث وتترك الهيكل العظمي سليما. وكانت المصاطب العالية تحمي الجثث من الكلاب والضباع وما إليها من الحيوانات القمامة، وتتركها وقفا على طيور الأم الكبرى. فإذا انتهت النسور من عملها حملت الهياكل العظمية إلى مستودعات خاصة تترك فيها إلى فصل الربيع، حيث تأخذ كل عائلة موتاها فتدفنهم في منزلها تحت مصاطب النوم والجلوس. كما كانت أرضيات المعابد تستخدم لدفن الموتى من ذوي المكانة الخاصة.
22
شكل 7-2: نسر الأم الكبرى، رسم على جدار معبد في شتال حيوك 6000ق.م.
ورغم أن فريقا آخر من علماء الآثار يطرح تفسيرا مغايرا لمشاهد النسور في الرسوم الجدارية، فإن كلا الفريقين متفق على أن النسر هو رمز للأم الكبرى لشتال حيوك باعتبارها سيدة للموت؛ ذلك أن الفريق الثاني يرى أن تلك المشاهد ليست تمثيلا لطقس، بل تمثيل لأسطورة تتعلق بعالم ما بعد الموت، وأن نسور الأم الكبرى هي التي تتلقى الموتى بعد عبورهم إلى العالم الآخر.
23
هذا وقد وجد المنقبون في شتال حيوك أن مناقير النسور كانت مدفونة في الأثداء الأنثوية المشكلة من الصلصال، التي كانت تزين بعض جدران معابد المدينة. وفي ذلك إشارة بليغة إلى سلطة الأم الكبرى على عالمي الموت والحياة في آن معا.
24
إن عادة دفن الموتى تحت أرضيات بيوت الأحياء لم تكن وقفا على موقع شتال حيوك، بل يبدو أنها كانت عادة شائعة في معظم أنحاء الشرق القديم خلال العصر النيوليتي. ولنا في عادات الدفن في موقع تل المريبط، وموقع أبي هريرة على نهر الفرات وغيرهما أمثلة على ذلك.
25
كما كان من عادات الدفن في بعض المواقع (ونموذجها موقع أريحا) أن تؤخذ جماجم الموتى بعد تحلل الهيكل العظمي، فيعاد تشكيل ملامح أصحابها بواسطة الجص، وتوضع الأصداف في محاجر العيون، ثم تنصب في أمكنة بارزة في البيوت،
26
وهذه الممارسات إنما تدل على إحساس إنسان العصور الحجرية العميق بوحدة الحياة والموت. فالموت لم يكن أمرا بغيضا يتناساه الإنسان ما عاش، ثم يلقاه فجأة إذا ما بلغت روحه الحلقوم، بل هو حقيقة قائمة وحضور دائم، هنا والآن. والخط الفاصل بين العالمين وهم سراب.
ولعلنا واجدون في المعتقدات القمرية القديمة منبعا أساسيا من منابع الاعتقاد بوجهي عشتار المتناقضين والمتعاونين؛ ففي طوره الأول، عندما يرتفع الهلال فوق الأفق الشرقي آخذا بالتزايد حتى الاكتمال، تدير عشتار نحو العالم وجهها المضيء؛ وجه الحياة والخصب والحب. وفي طوره الآخر، عندما يأخذ البدر بالتناقص منحدرا نحو الأفق الغربي، تدير عشتار وجهها الأغبر، فترسل الأمراض والأوبئة الفتاكة والعواصف المدمرة، وتعتلي مركبتها الحربية لتقود المعارك. فإذا ابتلعت القمر بوابة الغرب، انتصبت عشتار السوداء خلفا لعشتار البيضاء فتقبض إليها باليد اليسرى ما أطلقته يدها اليمنى، وتتحول العذراء الطروب الأنثى الجميلة الرقيقة، الأم الواهبة المعطاء، إلى شيطانة مولعة بالقتل، ترسل بأحبابها إلى الموت حيث يحل القبر محل سرير اللذة. في طورها المنير هي التي أنشدت أعذب أغاني الحب: «في الليلة الفاتنة، أنا الملكة، كنت ألتمع في كبد السماء. كنت أرتع في أرجاء السماء وأغني عندما التقاني دوموزي. السيد دموزي التقاني فوضع يده في يدي وعانقني.»
27
وفي طورها المظلم هي التي رمت دوموزي بنظرات الموت، مهيبة بعفاريت العالم الأسفل أن تحمله إلى العالم الأسفل: «فانقضت عليه العفاريت وجرته من ساقيه، فانقطع الراعي عن نفخ نايه ومزماره. ثم ركزت إنانا عليه أنظارها، ركزت عليه أنظار الموت، ونطقت ضده بالكلمة التي تعذب الروح وصرخت في وجهه قائلة: أما هذا فخذوه. وبذلك أسلمت إنانا الطاهرة دوموزي الراعي إلى أيديهم.»
28
في نص سومري آخر نقرأ:
أيها الابن الملكي، يا أخي ذا الوجه الأجمل بين الوجوه،
نهايتك باتت قريبة، وقدر عليك مصير بائس،
أيها الحبيب، الرجل الذي يسكن القلب،
لقد قدرت عليك مصيرا بائسا يا ذا الوجه الأجمل بين الوجوه.
29
وقد عبر إنسان العصر الحجري الحديث عن وجهي عشتار المظلم والمنير بأن مثلها في هيئة مزدوجة؛ ففي معابد شتال حيوك نجد الأم الكبرى في بعض المنحوتات الجدارية وقد ازدوجت في شكلين اثنين متطابقين يولد منهما الإله الابن-الثور (الشكل رقم
7-3 ). وهذان الشكلان ليسا تعبيرا عن إلهتين منفصلتين، بل هما تعبير عن الإلهة الواحدة للعصر النيوليتي ذات الوجهين؛ وجه تديره نحو الحياة وآخر نحو الموت، وهي التي سوف تستمر فيما بعد في شخصية أم القمح الإغريقية ذات الوجهين: ديمتر وبيرسفوني.
30
وفي ميثولوجيا الشعوب البدائية، بقي مفهوم عشتار المزدوجة قائما إلى العصر الحديث؛ فالأم القمرية ما زالت حية لدى كثير من القبائل البدائية تحت أسماء شتى. فهي «المرأة الخالدة» و«المرأة المتغيرة» و«المرأة التي تبدل جلدها» و«المرأة المضيئة». وهذه الأم القمرية تلد توأمين؛ الابن الأبيض، والابن الأسود، الأول سيد الحياة والثاني سيد الموت، وهما في صراع دائم لا ينتهي. فما إن يخر أحدهما صريعا حتى يستجمع قواه وينهض من جديد.
شكل 7-3: عشتار المزدوجة - شتال حيوك 6000ق.م.
وفي بعض هذه الأساطير تزدوج الأم القمرية نفسها متحولة إلى إلهين؛ إله الخير والحياة، وإله الشر والموت،
31
وهذا يذكرنا بصراع بعل وموت في الأسطورة السورية، وأوزوريس وأخيه سيت في الأسطورة المصرية، وأهورا مازادا ونقيضه أهريمان في الأسطورة الفارسية الزرادشتية. كما تلقي هذه الأساطير ضوءا على ظهور فكرة الشيطان لدى كثير من الديانات. فصورة الإله الأسود قد بدأت تزداد قتامة وتنفصل عن صورة الإله الأبيض، حتى زالت عنها صفة الألوهة متحولة إلى نقيضها؛ ذلك أن التركيز المتزايد على الوجه المضيء للقوة الإلهية واستبعاد وجهها الأسود، قد أدى بالضرورة إلى ظهور الشيطان مرافقا للرحمن، وقام كل إله أبيض بابتكار شيطانه الأسود، فحمله شرور العالم. ففي التقليد المسيحي (والإسلامي أيضا مع اختلاف في التفاصيل) كان الشيطان من الملائكة المقربين الذين يعكسون مجد الله وعظمته، قبل أن تحل عليه اللعنة ويهبط من السماء إلى عالم الظلمات، ومعه آلاف الملائكة الذين وقفوا في صفه وتحولوا إلى شياطين. وكان اسم الشيطان قبل الهبوط «لوسيفر» الذي يعني «حامل الضياء».
32
وفي خرافة هنغارية تعتمد تقاليد أسطورة موغلة في القدم أن الإله كان يتمشى وحيدا في أحد الأيام عندما رأى ظله يتبعه، فالتفت إليه قائلا: قم إلي أيها الصديق. فنهض الشيطان من ظل الإله وتقدم طالبا أن يقسم العالم فيما بينهما، فيأخذ إليه الأرض ويترك السماء للإله. فكان أن وافق الاثنان على تلك القسمة ووقعا اتفاقا بذلك.
33
وهذه الفكرة تتكرر في أسطورة من أواسط آسيا تقول: إن الإله كان يجلس وحيدا على صخرة عندما حدث نفسه قائلا: لو كان عندي أخ لتعاونت معه على خلق العالم. وما إن أنهى كلامه حتى بصق على وجه البحر، ومن بصاقه ظهر جبل من وسط الماء، فقام إليه وشقه بسيف فخرج منه الشيطان الذي تقدم من الإله قائلا: يجب أن نصبح أخوين. فقال الإله: لا بل سنكون رفيقين. وهنا شرعا معا في خلق العالم.
34
رغم تشظي صورة الأم الكبرى للعصر النيوليتي، وتحول أسمائها وصفاتها إلى ذوات منفصلة ظاهريا متطابقة باطنيا، فإن كل اسم من أسمائها، وكل تجل من تجلياتها قد حافظ على خصائص وجهها الأسود. فعشتار البابلية
35
كانت تدعو نفسها في بعض النصوص «بسيدة الليل» و«سيدة النواح». تظهرها الأساطير تارة ابنة لسن إله القمر، وتارة ابنة لآنو إله السماء. فكابنة لآنو، كانت عشتار إلهة للدمار وسيدة للحروب والمعارك. من ألقابها «نجمة العويل» التي تختطف الأصحاب وتفرق بين الأحباب، ومن ألقابها «سيدة المعارك». تمثلها الأعمال الفنية في عدة الحرب الكاملة، تعتلي مركبة تجرها سبعة أسود وفي يدها قوسها المشدود. وكانت تعين أختها إريشكيجال إلهة العالم الأسفل على ملء جهنم من الناس أجمعين. وفي بعض النصوص تبدو ذات سلطة على العالم الأسفل تعادل سلطة أختها إريشكيجال نفسها، الأمر الذي يؤكد تفسيراتنا السابقة حول الوحدة السرانية للإلهتين، وتحدرهما معا من أصل مشترك لم تكن الأسطورة قد نسيته في تلك الأيام. ففي ملحمة جلجامش، تطلب عشتار من أبيها آنو أن يعطيها ثور السماء لتهلك به جلجامش الذي أهانها، وتهدد بأن تفتح بوابات العالم الأسفل، فتطلق كل من ماتوا منذ بدء الخليقة ليأكلوا ويشربوا مع الأحياء، لتعم المجاعة ويشرف الكل على الهلاك:
أبتاه اخلق لي ثور السماء أهلك به جلجامش،
فإن لم تخلق لي ثور السماء،
أحطم بوابات العالم الأسفل، أنزع رتاجها،
أترك أبوابه مفتوحة على مصاريعها،
فيصعد الأموات ليأكلوا مثل الأحياء،
وسيربو عدد الأموات على عدد الأحياء.
36
وفي ترتيلة بابلية إلى عشتار، نجد وجهها الأغبر كسيدة للدمار والمعارك مختلط مع وجهها الأبيض الذي يمنح البركة للبشر:
لك أرفع صلاتي، يا سيدة السيدات، يا إلهة الإلهات.
أي عشتار، يا مليكة كل الشعوب وحاكمة البشر.
أي «إرنيني» العالية، سيدة أرواح السماء.
أنت الجليلة القاهرة، واسمك الأعلى بين الأسماء.
أنت نور السماوات والأرض، أيتها الباسلة يا ابنة إله القمر.
أنت ربة كل سلاح، ولك الأمر الفصل في المعارك.
أنت مستنة الشرائع، وعلى رأسك تاج السلطان.
أي سيدتي، إن قدرك العظيم ليسمو فوق كل الآلهة.
أنت سبب العويل والنواح، تزرعين العداوة وتفرقين بين الإخوة.
أي «جوتبرا» أنت متمنطقة بالمعارك، متشحة بالرعب والهول.
لذكر اسمك تهتز السماوات والأرض.
يرتجف الآلهة وتترنح أرواح البشر.
37
وفي صلاة إلى «إنانا» من أواسط الألف الثالث قبل الميلاد، تبدو إلهة الخصب السومرية في أعتى أشكالها كسيدة للغضب والدمار والهلاك:
سيدة النواميس الكونية، أيها النور المشع،
واهبة الحياة، صفية الإله «آن» وحبيبة الشعب.
لقد ملأت الأرض بالسم كما التنين.
احتبس الزرع لصوتك الراعد كصوت أشكور (إله العاصفة).
أسلت مياه الطوفان من علالي الجبال،
أمطرت الأرض حمما من نار.
أعطاك «آن» النواميس يا ممتطية الوحوش الكاسرة،
فمن يسبر غور طقوسك العظيمة.
أمدمرة البلاد العاصية، لقد وهبت العاصفة جناحا.
صفية «إنليل» لقد سلطت الرياح على الأصقاع،
وحملت مشيئة آن.
مليكتي، إن البلاد العاصية لترتعد من صيحتك.
يرتفع إليك صراخ البشر،
هلعا من رياح الجنوب العاتية.
يعولون أمامك وينتحبون في الطرقات،
وفي غمار الوغى، كل شيء يكون حطاما عندك.
مليكتي، أيتها الملتهمة الشرسة،
لقد تابعت هجومك كعاصفة زاعقة،
تهدرين برعد فاق صوت أشكور،
تعولين بأعلى من صوت الرياح الشيطانية.
مليكتي، إن الآلهة الكبار،
فرت أمام وجهك الغضوب،
لم ترفع نظرا إلى جبينك المهوب،
فما من سبيل لتهدئة جنانك الثائر،
مليكتي، أنت الجذلى الطروب،
ولكن، يا ابنة سن، غضب قلبك بلا حدود.
مليكتي، سيدة البلاد، من يستطيع إعطاء طاعتك حقها؟
أنت من يمنع الزرع والإنبات عن أراضي العصاة،
تسحقين بواباتها المنيعة،
تجرين أنهارها دماء فلا يجدون ما يشربون،
وتملئين مرابع لهوها نكبات.
تحجبين عنها كلماتك الطيبة،
فتبتعد المرأة عن زوجها،
لا تسمعه في الليل كلام الحب،
ولا تفضي له بسريرة قلبها.
أيتها البقرة البرية الجموح،
أنت أعظم من كبير الآلهة آن،
وأعظم من الأم التي ولدتك.
فيا مليكة البلاد الحكيمة العارفة،
يا مكثرة المخلوقات والناس،
هذه أغنيتي أرفعها بحمدك.
38
إلى جانب تجلي القوة الإلهية الأنثوية المدمرة في الوجه الأسود لكل من عشتار البابلية وإنانا السومرية، فإننا نعثر في بلاد الرافدين على إلهة ثالثة تلعب دورا هاما في عالم الشر والظلام والعالم الأسفل هي الإلهة «ليليث» عفريتة وشيطانة القفار المظلمة. تصورها الأعمال الفنية التشكيلية على هيئة امرأة مجنحة عارية، جميلة الجسد مكتنزة الصدر، تقف فوق لبوتين، وتنتهي ساقاها بمخالب الطيور الكاسرة عوضا عن القدمين، وعن يمينها ويسارها بومتان. وهكذا تقوم رموز الأم الكبرى المضيئة بدور معاكس عندما تدير عشتار وجهها المعتم. فالأجنحة التي كانت رمزا لسماوية الأم، هي الآن رمز لعالمها المظلم. وحمامات عستارت وأفروديت، التي مثلت خفق القلوب بالعواطف، هي بومات وغربان تمثل خفق القلوب بالرعب، وتبشر بالفراق والشقاق والموت. ففي بلاد الرافدين نعثر على زمرة من الرموز المتعلقة بالأجنحة والطيور، وقد عكس مدلولها لتغدو رمزا للطاقة السالبة في الكون بعد أن كانت رمزا للطاقة الموجبة. فمن الألف الثالث قبل الميلاد، وصلتنا مجموعة من الأختام الأسطوانية التي تمثل بوابة مجنحة يحملها على ظهره ثور راكع أمام الأم الكبرى الجالسة على عرشها، وفي يدها كوب فوقه الهلال في يومه الأول. هذه البوابة المجنحة هي رحم الأم الكبرى الذي يطلق إلى العالم شتى مظاهر الحياة مع إشراق الهلال الجديد، وهي بوابة الغرب التي يدلف منها الموتى إلى عالم الظلمات، مع هبوط القمر درجات الموت السبعة. وفي الأساطير المتعلقة بالعالم الأسفل، نجد عفريت الموت قابض الأرواح على هيئة طائر، كما نجد الموتى هناك وقد تغيرت أشكالهم واستعاروا بعضا من هيئة الطيور وملامحها. ففي ملحمة جلجامش، على سبيل المثال، نقرأ على لسان إنكيدو:
ظهر أمامي إله معتم الوجه.
ملامحه كوجه طائر الزو،
ومخالبه كمخالب العقاب،
وثب علي، فتمكن مني، ثم غاص بي،
قام بتحويل شكلي،
فغدت ذراعاي مكسوتين بالريش.
ثم قادني إلى بيت الظلام، إلى مسكن إرجالا،
إلى دار لا يرجع منها داخل إليها،
إلى مكان لا يرى أهله نورا،
فالتراب طعام لهم والطين معاش،
لباسهم كالطير، أجنحة من ريش،
لا يرون نورا وفي ظلمة يعمهون.
39
وفي الميثولوجيا والطقوس السورية، لا تبدو الإلهة «عستارت» أقل تعطشا للدماء، من صنوها عشتار البابلية. فحول الحجر المقدس الذي يمثل عستارت في معابد الكنعانيين، ثم العثور على عشرات الهياكل العظمية لأطفال تم تقديمهم قربانا للإلهة.
40
وفي قرطاجة الكنعانية، ارتبطت عبادة الإله الثور ابن الأم الكبرى بالتضحية البشرية، فكان الأطفال يرمون إلى داخل تمثال برونزي مجوف هائل الحجم له رأس الثور، تتأجج في داخله النيران. وهذا التمثال يمثل الإله مولوخ، صنو الإله بعل.
41
وفي أوغاريت الكنعانية، تكشف إلهة الخصب عناة عن وجهها الأسود في أحد نصوص أسطورة بعل وعناة:
هي ذي عناة تقاتل بضراوة.
إنها تذبح أبناء المدينتين،
إنها تصارع أبناء شاطئ البحر،
وتبيد أبناء مشرق الشمس.
تحتها الرءوس تتطاير كالنسور،
وفوقها تتناثر الأذرع كالجراد.
إنها تخوض في دماء الأبطال حتى الركب.
إنها تغوص في دماء الناس حتى العنق.
كبدها يتفجر سرورا،
وقلبها يمتلئ حبورا.
تغسل يديها في دماء الجنود،
وأصابعها في دماء البشر.
42
فإذا انتقلنا إلى الميثولوجيا المصرية، التي لقيت فيها صورة الأم الكبرى من التشظي ما لم تلقه في ميثولوجيا الثقافات الأخرى، لوجدنا الوجه الأسود للأم الكبرى الأولى وقد تجلى في كل صورها المبعثرة اللاحقة. وفي الحقيقة فإن هذا التشظي في صورة الأم المصرية، إن هو إلا ظاهرة سطحية ساعد على توضيحها للعقل الحديث دارسو الأسطورة الأكاديميون، ممن لم يلمحوا الرابطة السرانية بين جميع تجليات الأم المصرية وأسمائها، وهي رابطة قدمت لنا الأسطورة مفاتيحها بطريقة لا تخفى على البصيرة، وإن خفيت على البصر الكليل. وسوف نجد أن كل تجل من تجليات الأم الكبرى يفضي إلى الآخر، وكلها تصب أخيرا في الإلهة الواحدة للعصر النيوليتي، سيدة الحياة والموت.
نقرأ في كتاب الموتى المصري، فصل البوابات السرية، وهي بوابات العالم الأسفل السبع، عن الأم الكبرى ذات الوجهين: «سيدة الرعدة، عشيقة الدمار، حاكمة السماوات، سيدة العوالم، ملتهمة بنارها متسلطة بحد السيف، سيدة الشعلة، سيدة النور، لا يعرف لها امتداد، وليس كمثلها شيء منذ البداية. نار موقدة لا يخمد أوارها، ألسنتها تطال القاصي. مهلكة لا يقف في وجهها شيء، ولا يدرك الإنسان برشده وعقله سر أذاها، راعدة الصوت مدمرة، سيدة البوابات لها ترفع الابتهالات يوم الظلمة، ملتهمة أجساد الموتى، سيدة القتل والمذابح حاصدة الرءوس واسمها قاطع كحد السكين.»
43
من التجليات القديمة لهذه الإلهة الأم، الإلهة «نيخبت» وهي إلهة الأسر الفرعونية الأولى. كان النسر رمزا لها، كما صورتها الأعمال التشكيلية على هيئة امرأة برأس نسر. كانت نيخبت إلهة الميلاد، وفي نفس الوقت كانت طائر الموت الذي يمزق الجثث ويلتهمها. وفي العالم الأسفل كانت راعية الموتى.
44
وبعد أن أفل نجم هذه الإلهة، نجدها تنبعث في إلهة أخرى تحت اسم «مت» الذي يعني «الأم». وقد صورتها الأعمال التشكيلية على هيئة امرأة تضع على رأسها تاجا مصنوعا على هيئة رأس النسر. كما صورت على هيئة بقرة سماوية، هي البقرة التي ارتقى ظهرها إله الشمس الأكبر عندما ولد من البيضة الكونية، وخرج من أعماق الأوقيانوس المائي الأول، صاعدا نحو قبة السماء، وصورت أيضا على هيئة هرة وهيئة لبؤة.
45
وهذه الهيئات جميعا، سوف تتكرر في تجليات الألوهية المؤنثة اللاحقة في الميثولوجيا المصرية. فالإلهة «نيت» والتي تنافس في القدم الإلهة «نيخبت» كانت البقرة السماوية من قبل أن توجد الأشياء، وهي أم الآلهة جميعا التي أنجبت إله الشمس «رع»، ثم أتبعته بقية الآلهة. وإلى جانب هذا الدور الكوني، تظهرها النصوص والأعمال التشكيلية كإلهة للحروب وراعية للأموات في العالم الأسفل تقدم لهم الخبز والماء عند وصولهم. كما تظهر في وضع الإلهة النساجة التي تغزل خيوط القدر وتحيك مادة الكون. وفي الدرام الأوزوريسي نجدها أحيانا وقد حلت محل الإلهة إيزيس كحبيبة للإله أوزوريس القتيل.
46
وفي ذلك توكيد على أن قدماء المصريين كانوا يطابقون بين الإلهة القديمة «نيت» والإلهة الجديدة «إيزيس»، رغم اختلاف الأسماء الذي فرضته عوامل الصراع الدينية والسياسية عبر حياة الحضارة المصرية المديدة.
تظهر «إيزيس» غالبا وعلى رأسها قرنا بقرة، وفي أحيان قليلة برأس بقرة، أما الإلهة «هاتور» وهي أحد أشكال الإلهة «إيزيس» فتحمل غالبا رأس البقرة، وتبدو في أحيان قليلة برأس بشري يحمل قرني بقرة. وكانت هاتور تدعى في بعض النصوص «بأم حوروس» وهو لقب إيزيس نفسها. ونجدها في النصوص والأعمال التشكيلية على هيئة بقرة سماوية أنجبت الشمس والكون، وهي مرضعة كل الأحياء من لبنها، وأيضا راعية كل الأموات. فتحت اسم «سيدة المغارب» تظهرها الرسوم وقد نهضت من أطراف الصحاري القاصية عند حدود الغرب حيث تغيب الشمس، لتستقبل الأموات وتقدم لهم الخبز والماء، ثم تحملهم على ظهرها إلى العالم الأسفل. وهي تمسك بسلم الصعود إلى السماء، الذي يتسلقه كل من مروا بسلام عبر امتحانات العالم الأسفل القاسية.
47
وربما كان هذا السلم هو الذي رأينا إيزيس العارية ممسكة به في الشكل رقم (
6-6 ) من فصل البغي المقدسة. ومن ألقاب هاتور لقب «سيخمت» الذي يعني الجبارة، وقد تحول هذا اللقب إلى إلهة مستقلة تحمل اسم «سيخمت»، وتحت هذا الاسم تبدو الأم المصرية الكبرى في أقسى أشكالها كإلهة للحروب والمذابح الجماعية. نراها في أحد النصوص وقد باشرت حملة إبادة ضد الجنس البشري انتقاما للإله رع الذي تنكر له الناس. ولكن الإله رع يخشى فناء البشرية فيتدخل لدى الإلهة، لتوقف حملتها دون أن يلقى منها أذنا صاغية؛ إذ تجيبه وهي سكرى بالدماء بأن قلبها ينشرح للذبح وسفك الدم. عند ذلك يأتي بسبعة آلاف برميل من شراب مسكر أحمر اللون مصنوع من مزيج الجعة وعصير الرمان، فيسكبها في ساح المعمعة، فتشربها «سيخمت» عن آخرها، معتقدة أنها تشرب من دماء البشر المسفوحة، وهنا تبدأ قواها بالتخاذل وتعجز عن إكمال المجزرة.
48
هذا وقد اختلطت بهذه الإلهة إلهة أخرى اسمها «باست» التي تبدو على شكل هرة، أو على شكل امرأة برأس هرة. وكانت في أصلها كزميلتها «سيخمت» لبؤة أو امرأة برأس لبؤة.
49
وفي الجزيرة العربية، نجد في أسماء الأم الكبرى المثلثة، ما يشير إلى وجهها الأسود. فاسمها «اللات» هو اشتقاق من اسمها السوري «إيلات» مؤنث «إيل»، واسمها «العزى» يعني في العربية القوية المرهوبة الجانب، ويعادل اسم «سيخمت» الجبارة عند المصريين. أما اسمها «مناة» فمشتق من المنية؛ أي الموت. وقد رأينا في رواية سابقة عن قتل خالد بن الوليد للعزى صورة باهتة قدمها الإخباريون المسلمون عن وجه الإلهة الأسود (راجع فصل عشتار القمر). وكان العرب يحملون صورة العزى قائلين: ألا لنا العزى ولا عزى لكم. فيجيب المسلمون: الله مولانا ولا مولى لكم. وكانوا يقدمون لها القرابين البشرية؛ فقد ذكر مؤرخ سرياني قديم أن الملك المنذر قد ضحى للعزى بابن الحارث ملك غسان وقد وقع بيده أسيرا، كما ضحى لها ببعض الراهبات المتنسكات في بعض أديرة العراق.
50
وجاء في أخبار أحد المؤرخين عام 400ق.م. عن طقوس القرابين البشرية للعزى بين عرب الشمال: أنهم كانوا يكرمون كوكب الصبح ويخرون له ساجدين، ويضحون له بأجود أسراهم الذين أخذوهم في الغزوات. وهم يفضلون لذلك الشباب إذا كانوا في عز الصبا وصبيحي الوجوه، فيعدون لهذه الغاية مذبحا من الحجارة والصخور التي يكومونها في انتظار الفجر، حتى إذا لاح كوكب الصبح ضربوا ضحاياهم بالسيوف.
51
فإذا انتقلنا من الشرق القديم نحو ثقافات الغرب، وجدنا أول تجل لوجه الأم الكبرى الأسود في الإلهة رحيا، الأم الكريتية الكبرى التي رأيناها أما للكون وسيدة للفصول وخصب الأرض وجميع مظاهر الطبيعة. فهي «بريتومارتيس» أي: العذراء العذبة، ومع ذلك كانت سيدة الموت وحاكمة العالم الأسفل،
52
وقد نسج الإغريق على منوالها إلهتهم «جايا» الأم ذات الأثداء، والأرض التي ترضع كل الأحياء، أم الآلهة وأم البشر. ورغم بقاء هذه الإلهة في الميثولوجيا الإغريقية كصورة باهتة بلا عبادة، عقب انتصار آلهة الأوليمب على الديانة الأمومية الأقدم، فإن تجلياتها المختلفة قد بقيت عكس وجهيها القديمين؛ وجه الحياة الأبيض ووجه الموت الأسود.
لعل الإلهة «ديمتر» أكثر إلهات الإغريق في عصور الكتابة قربا إلى الصورة الأولى للأم النيوليتية. فهي الأم-الأرض، سيدة المحاصيل وربة خصب الطبيعة. وفي عهودها الأولى، وقبل ظهور أسطورة ابنتها بيرسفوني، كانت سلطتها تمتد إلى العالم الأسفل.
53
من ألقابها كأم بيضاء «الأم العظمى» و«الأم الجبل» و«أم الآلهة». ومن ألقابها كأم سوداء «الغضوبة» و«السوداء».
54
إلا أن وجهها الأسود قد انفصل فيما بعد عن وجهها الأبيض متمثلا في ابنتها بيرسفوني التي غدت إلهة للعالم الأسفل وزوجة للموت هاديس. وباختطاف بيرسفوني ونزولها إلى العالم الأسفل يظهر القمح إلى الوجود؛ ذلك أن الموت في الأسطورة العشتارية ليس قدرا مظلما تفرضه قوى عمياء، بل هو بذرة كامنة في صميم كل حياة، والحياة بذرة كامنة في أعماق كل موت.
أما أرتميس إلهة الصيد والغابات والبراري الوحشية؛ فقد عبدت في بعض المدن اليونانية خارج أرض اليونان على أنها الأرض الأم. في مدينة إفسوس الإغريقية بآسيا الصغرى نجد أرتميس العذراء الرشيقة القد، وقد صورت في هيئة سيدة ممتلئة يندفع من صدرها عشرات الأثداء. وكانت تماثيلها تدهن باللون الأبيض وباللون الأسود آنا آخر (راجع الشكل رقم
2-15
فصل الأم الكبرى ). منذ ولادتها أسرعت أرتميس إلى أبيها زيوس طالبة تزويدها بقوس وجعبة سهام وصندل يساعدها على الجري في الغابات. ثم انطلقت تجوس الأحراش وتطوف البراري بصحبة كلابها المتوحشة. من ألقابها: «المدمرة» و«سيدة الموت المفاجئ»، تطلق سهامها فتصيب وتقتل وترسل الأمراض الفتاكة فتفني المواشي والسكان. وكانت تسر بالأضاحي البشرية؛ ففي إلياذة هوميروس نجد «آغاممنون» يذبح ابنته «أفيجينيا» قربانا لأرتميس السوداء لتقوم بتحريك الريح أمام سفن الإغريق في طريقهم إلى طروادة. وفي رواية أخرى للحادثة نفسها، أن الإلهة قد أنقذت «أفيجينيا» في اللحظة الأخيرة من الذبح وحملتها إلى منطقة تاوروس، حيث جعلت منها كاهنتها الأولى المشرفة على الأضاحي البشرية التي تقدم هناك لأرتميس ... ومنطقة تاوروس هذه كانت معروفة بالأضاحي البشرية التي يتقرب بها العابد لأرتميس السوداء الشرهة للدماء، حيث كان الغرباء ممن قضى حظهم العاثر الاقتراب من تلك الشواطئ يقدمون على مذبح الإلهة. وفي مناطق أخرى جرت العادة في فترات قديمة من تاريخ الإغريق على تقديم عدد من الفتيان قربانا لأرتميس كل خمس سنوات، ثم استبدل طقس القرابين بطقس الجلد بالسياط أمام تمثال الإلهة، فكان الشبان يساقون في مناسبات معينة إلى معبد أرتميس حيث يتم جلدهم بقسوة أمام تمثال الإلهة المحمول من قبل كاهناتها على محفة خاصة. وكان وزن التمثال، كما تروي الأخبار، يزداد ثقلا إذا توانى المكلفون بالجلد عن أداء مهمتهم على الوجه الأكمل.
55
إن الوجه الأسود لأرتميس لا يتجلى بشكله الكامل إلا تحت اسمها الذي استقطب كل خصائصها السوداء، وهو أرتميس-هيقات سيدة الموت والظلام وعالم السحر والأشباح. تشترك هيقات مع الإلهة بيرسفوني باسم الأب «بيرسيس». كما تظهر في النصوص والطقوس السرية الديمترية مرتبطة بالإلهة ديمتر؛
56
مما يشير إلى كونها شكلا من أشكال الإلهة بيرسفوني نفسها.
57
من ألقابها: «القهارة» و«بريتانيا» سيدة الموت التي ترسل عفاريتها إلى الأرض لتعذيب الرجال. وتظهر في الليل بموكب مرعب مصحوبة بحشد من شيطاناتها وكلابها المتوحشة، فتجوس المناطق المحيطة بالمقابر، وتظهر عند تقاطع دروب السفر، حيث كان الإغريق والرومان ينصبون صورتها المثلثة، ويقدمون لها الأضاحي لاسترضائها وكف غضبها. من شاراتها المفتاح الذي يرمز للتكاثر والتناسل؛ لأنها إلهة للميلاد ولغروب الحياة في آن معا.
58
ولما كانت هيقات إلهة قمرية، فإن الأعمال التشكيلية قد مثلتها في هيئة مثلثة (الشكل رقم
7-4 ). هذا وقد بقي اسم هيقات مرتبطا بالسحر وطقوس الظلام في الفلكلور والأدب الأوروبي إلى فترات متأخرة من العصور الحديثة. نقرأ في مسرحية ماكبث لشكسبير على سبيل المثال: «... في هذه الساعة، تهدأ الطبيعة في شطر من شطري هذه الكرة هدوء الموت، وينخدع النيام بأحلام سيئة تخامرهم في مضاجعهم. في هذه الساعة تقدم الساحرات للهرة الصفراء الجنية هيقات قربان الظلام.»
59
وقد كان للإلهة أفروديت التي احتفظت لنفسها بمعظم الخصائص اللينة للأم الكبرى، وجهها الأسود أيضا. فأداتها التي تزرع بواسطتها الحب في قلوب البشر هي نفس السهام التي تؤدي إلى التهلكة. وقد عبدت في إسبرطة وقبرص كإلهة للحرب والمعارك، وصورت في عدة الحرب الكاملة.
60
كما عبدت كإلهة للموت تحت اسم «أفروديت المقابر».
61
ويجب أن نلاحظ فيما يتعلق بأفروديت أيضا أن كل خصائصها الدنيوية كإلهة للحب ومتع الجسد لم تحجب ذكراها القديمة كأم كونية. وها هي تقول عن نفسها في أسطورة إيروس وسايكي، كما رواها «أبوليوس»: أنا الأم الكونية ومصدر العناصر الخمسة ...
62
شكل 7-4: هيقات الثلاثية.
إلى جانب هذه الأشكال الرئيسية لتجليات الأم الكبرى السوداء، فإن الميثولوجيا الإغريقية زاخرة بأشكال إلهية ثانوية تنتمي إلى ذات الطاقة الأنثوية التدميرية. من هذه الأشكال: الإلهة البحرية المرعبة «سكيلا» ذات الرءوس السبعة والأسنان الحادة، التي كانت تكمن عند الشاطئ بين سلاسل الصخور البحرية، فإذا مرت بها سفينة مدت أعناقها الطويلة والتهمت بكل رأس بحارا. وقد فقد أوديسيوس بعض رجاله عند مروره قرب شواطئها.
63
وصورتها الأعمال الفنية الرومانية بطريقة مختلفة، فنراها على هيئة امرأة جميلة لها ثلاث سيقان على شكل كلاب ضارية، ويتعلق بوركيها أفعوانان بحريان خرافيان، وترفع بيدها سلاحا ماضيا فتاكا (الشكل رقم
7-5 ). ومثل «سكيلا» أيضا الإلهة «كاربيديس» ابنة الأرض جايا والبحر بوسيدون. كانت «كاربيديس» سيدة الدوامات المائية التي تسحب السفن نحو الأعماق، كما كانت سيدة الأمواج تقبع في أعماق المحيط وتبتلع الماء في جرعات هائلة ثلاث مرات في اليوم، ثم تعيده ثانية من جوفها، مسببة الأمواج العاتية التي تضرب شواطئ اليابسة.
64
شكل 7-5: الإلهة سكيلا - نقش روماني.
وإلى ذات الطبيعة الأنثوية المائية ينتمي «السيرينيات»، وهن جنيات متعطشات للدماء كن يسكن جزرا اسمها «سيرين». صورتهن الأساطير والأعمال التشكيلية على هيئة نساء برأس آدمي وجسد طائر، أو على هيئة نصفها آدمي ونصفها الآخر سمكي. وكن ذوات صوت عذب وأغان ساحرة ينشدنها على أنغام القيثار والفلوت، فتجذب إليها السفن العابرة، وينقاد الرجال نحوهن دون وعي أو إرادة ليلقوا مصيرهم الأسود، ويتحولوا إلى عظام نخرة تتجمع أكواما على شواطئ الجزيرة.
65
وقصة أوديسيسوس في الأوديسة مع السيرينيات معروفة، عندما سد آذان بحارته بالشمع، وطلب منهم ربطه إلى سارية السفينة، ليستطيع سماع السيرينيات دون أن يكون قادرا على الفكاك والانقياد لسحرهن.
كما تبدو القوة العشتارية المدمرة في هيئة إلهات ثلاث، هن استمرار للأم القمرية المثلثة. وقد عرفت الميثولوجيا الإغريقية عددا من هذه الثواليث؛ منها الإيرينيات الثلاث، ربات الانتقام اللواتي ولدن من الأرض جايا بعد أن أخصبتها دماء أورانوس الذي خصاه ابنه كرونوس وارتقى مكانه عرش الأوليمب. من ألقابهن: «كلبات الجحيم» و«بنات الليل الأبدي». وكن إذا وقعت جريمة تواجدن في مكانها بلمح البصر وقد تحول شعرهن إلى أفاع وتسلحن بالمشاعل والسياط، فيطاردن المجرم حتى يطلنه ويرسلنه إلى الجحيم، حيث يتابعن مهمة تعذيبه هناك.
66
وفي الحقيقة، يبدو أن الإيرينيات لسن إلا تجريدا لبعض خصائص الإلهة ديمتر، يدلنا على ذلك نشوء أسطورتهن الأولى في أركاديا حيث كانت ديمتر تعبد تحت اسم ديمتر إيريني، ومنه اشتق اسم الإيرينيات.
67
وتظهرهن بعض الأساطير كمساعدات لبيرسفوني إلهة العالم الأسفل، لا يمكن لإله أو بشر قهرهن طالما بقيت على الأرض جريمة تستحق العقاب.
68
وإلى جانب ذلك كانت الإيرينيات بنات الظلمة التحتية، والقوة الباطنية التي تولد الحياة من أعماق الأرض وتعطي الغذاء. فهن كأمهن الأرض جايا، يتحركن بين القطبين الناظمين لحركة الوجود؛ قطب الميلاد وقطب الفناء.
69
ومن الثواليث المرعبة الجورجونات الثلاث: «ستينو، وإيريالا، والميدوزا»، الأخوات اللواتي تنبت الأفاعي من رءوسهن بدل الشعر، ويتدلى لسانهن الطويل خارج فم ذي أنياب حادة، ولهن أذرع من معدن البرونز، وأجنحة من الذهب. كانت نظرتهن تحول كل حركة إلى سكون، وإذا وقعت أبصارهن على بشر صار حجرا جامدا لا حياة فيه. وقد قام البطل الأسطوري «بيرسيوس» بقتل الميدوزا كبيرتهن، واجتث رأسها في صراع دام تفادى خلاله نظراتها بأن جابهها وهو ينظر إلى انعكاس صورتها على ترسه اللامع.
70
وكان للجورجونات أخوات ثلاث أيضا اسمهن: الخوف والرعب والهلع، يعشن على شاطئ الغرب الأقصى عند حدود الليل ومملكة الموت.
71
إن نظرة الجورجون التي تحول الرجال إلى حجارة هي نظرة الموت التي توقف جريان الحياة فتعيده إلى سكون الفناء، وتذكرنا بنظرة الموت التي ركزتها إنانا السومرية على تموز فأرسلت به إلى درك الجحيم. أما لسان الجورجون الممتد خارج الفم؛ فهو رمز لدينامية طاقة الفناء المقابلة لطاقة الحياة عند الأم الكبرى؛ فهو دائم الحركة لالتهام مظاهر الحياة، وإعادتها إلى أعماق الصمت والسكون عبر الأسنان الحادة التي تحيل المادة الحية إلى مادة متحللة.
يقدم لنا الفن الإغريقي حشدا من الرسوم والمنحوتات التي تمثل الجورجون في أوضاع ومشاهد مستوحاة من الأسطورة. في إحدى المنحوتات البارزة، نراها جالسة على الأرض تحيط بها أفعى هائلة، وقد فتحت ذراعيها اللتين يتعلق بكل منهما أسد يشب على قائمتيه الخلفيتين، وباعدت ما بين ساقيها. وهذه الجلسة تذكرنا بجلسة عشتار البغي المقدسة التي رأيناها في الشكل رقم (
6-5 ) والشكل رقم (
6-6 ) من فصل البغي المقدسة؛ فكل ما في وضعية الجورجون هنا يقابل وضعية عشتار، ولكنه نقيض له في الوقت نفسه؛ فالعينان متسعتان جاحظتان، والفم مفتوح يتدلى منه اللسان الطويل، والنهدان متدليان حتى البطن دلالة العقم والجفاف. أما الذراعان اللتان تفتحهما عشتار البغي المقدسة للعناق، فإن الجورجون تفتحهما من أجل الخنق والقتل ، ويتعلق بهما الأسدان إشارة للطاقة الافتراسية العمياء، والساقان اللتان تباعدهما عشتار مبرزة عضوها الجنسي المرسوم بدقة رمزا لطاقة الحياة دافع الجنس، فإن الجورجون تباعدهما عن مساحة سوداء غير متمايزة وهوة لا قرار لها، رمزا للطاقة المعكوسة التي تسترد إلى الرحم كل ما صدر عنه من حياة.
إن هذا الرمز الجنسي للوجه الالتهامي للأم الكبرى لتعبر عن أساطير الأقوام البدائية الحديثة بطريقة أكثر مباشرة؛ ففي بعض التماثيل الأنثوية الأفريقية نجد فرج المرأة وقد افتر عن أسنان قاطعة. وهذا التمثيل كان معروفا في حضارة الأزتيك في أمريكا الوسطى فيما يتعلق بالأم الكبرى السوداء. وفي بعض أساطير الهنود الحمر في أمريكا الشمالية، نجد أن سمكة مقدسة شرسة تسكن فرج الأم السوداء.
72
ولدى قبائل الهنود الحمر في نيو مكسيكو، تقول الأسطورة: إن أول نساء ظهرن إلى الوجود كن أربع نساء كل واحدة منهن على شكل فرج ذي أسنان قاطعة، له رأس وأطراف. وعندما سمع الرجال بوجودهن جذبهم إليهن الدافع الجنسي فتقاطروا إلى بيتهن. غير أن الداخل إلى ذلك البيت لم يكن يرجع منه إلى صحبه؛ لأنهن كن يعانقن الرجال ثم يلتهمنهم في غمرة الفعل الجنسي، الأمر الذي أثار حيرة الرجال وخوفهم دون أن يستطيعوا منع أنفسهم عن قصد ذلك البيت. إلى أن أتى يوم تصدى فيه شاب جريء لكشف لغز السنوة، فدخل عليهن، واقتلع الأسنان من فروجهن فحولهن إلى نساء عاديات.
73
وعندما نتحدث عن القوة الأنثوية المدمرة في الميثولوجيا الإغريقية لا ننسى «باندورا» المرأة التي لعبت في الأسطورة اليونانية دورا مشابها لدور حواء في الرواية التوراتية. فعندما عهد الإله زيوس إلى الإلهين بروميثيوس وأخيه أبيميثيوس بخلق الحيوان والإنسان، قام أبيميثيوس بوهب الحيوان كل ما وهبه برميثيوس للإنسان. وهنا أعطى بروميثيوس النار للبشر إعلاء لشأنهم، ولكن زيوس سحبها منهم؛ مما دفع بروميثيوس إلى اقتحام السماء وسرقة شعلة من النار لإعطائها للبشر ثانية. وهنا قرر زيوس الانتقام من بروميثيوس ووضع حد لطموح البشر، فطلب من الإله هفستوس أن يصنع امرأة من طين، وطلب من بقية الآلهة أن يهدوها صفات وخصائص متميزة؛ فخرجت آية في الجمال والروعة. ثم إن زيوس أعطاها صندوقا لتحتفظ به شريطة ألا تفتحه أبدا، وقدمها هدية لبروميثيوس وأخيه. رفض بروميثيوس قبول باندورا ، أما أخوه فرحب بها وتزوجها. وعندها تاقت باندورا إلى فتح الصندوق، وما إن رفعت غطاءه حتى انطلقت منه كل شرور العالم، من أوبئة وأمراض وكوارث وما إليها مما ابتليت به البشرية إلى يومنا هذا. وعندما أفلحت باندورا في إغلاق الصندوق، لم يكن قد بقي فيه إلا شيء واحد هو: الأمل. وقد تابع زيوس انتقامه من بروميثيوس بأن ربطه إلى قمة جبل وسلط عليه صقرا ينهش كبده كل يوم، وبقي على هذه الحال حتى قام هرقل بفك قيده وتخليصه من لعنة كبير الآلهة.
74
فإذا تابعنا رحلة الأم الكبرى غربا حتى شواطئ الأطلسي في العالم القديم، إلى مواطن الثقافة السلتية في جنوب بريطانيا وفرنسا وإسبانيا، وفي أيرلندا التي تتحدث أساطيرها عن قدوم السلت من الشرق الأدنى القديم عبر إسبانيا،
75
التقينا بالوجه الأسود للأم الكبرى، متمثلا في الإلهة الثلاثية «بريجيت»، التي عرفنا وجهها الأبيض كأم قمرية وأم الآلهة وسيدة الخصب والنار. فكانت بريجيت في طورها الأسود تدعى ب «آنو السوداء» ملتهمة البشر التي تضرب الرجال بالجنون، وكانت الأضاحي البشرية تقدم على مذبحها باستمرار.
76
إذا انتقلنا من الشرق الأدنى القديم إلى القارة الهندية التي ازدهرت فيها ثقافة العصر البرونزي، فيما بين أواسط الألف الثالث وأواسط الألف الثاني قبل الميلاد، وفي توقيت متزامن مع ازدهار الثقافة البرونزية في كريت وبحر إيجة، بتأثير النبضات الحضارية الأولى في سوريا وبلاد الرافدين،
77
نجد عشتار السوداء في أبهى تجلياتها تحت اسم «كالي» الأم الهندية الكبرى ذات الأسماء المتعددة. فتحت اسم «برافاتي» نجدها امرأة شابة فاتنة تطارح زوجها «شيفا» الغرام. وتحت اسم «دورجا» نجدها إلهة للحرب على هيئة امرأة ذات وجه هادئ وأذرع عشر، تحمل بكل ذراع منها سلاحا فتاكا. وقد تصدت تحت هذا الاسم لعملاق خرافي هدد كل الآلهة فتغلبت عليه وحدها. وتحت اسم «كالي-ما» أي: الأم السوداء، تصدت لجيش العفاريت وأبادته عن آخره عدا قائده الذي كانت كل قطرة تسيل منه تتحول إلى ألف عفريت جديد، فما كان منها إلا أن شربت دماءه كلها ورمته جثة جامدة ، وراحت ترقص بجنون حتى زلزلت الأرض تحت قدميها، وكادت تميد بالبشر والآلهة. وعندما حاول زوجها شيفا التدخل لتهدئتها لم تستطع تمييزه في نشوتها الدموية، فألقته بين جثث العفاريت ووطئت جسده بقدميها. من أسمائها أيضا «ساختي» ذات الجبروت و«بهارافي» المرعبة و«أمبيكا» الخلاقة و«ساتي» الزوجة الطيبة، و«ساتي» المتألقة و«دورجا» التي لا يمكن الاقتراب منها.
78
يعتبر معبد كالي من أكثر المعابد دموية عبر التاريخ؛ فمنذ أواسط القرن التاسع عشر بدأت طقوس القرابين البشرية للإلهة كالي بالاختفاء تدريجيا حتى زالت اليوم. إلا أن كمية القرابين الحيوانية التي كانت تقدم لها، تجعل من معبدها مكانا أقرب إلى بيت لذبح الماشية منه إلى معبد. ففي عيدها السنوي في كلكتا، يذبح الحجاج تحت قدميها ما يقارب الثمانمائة رأس من الماشية، واهبين دماءها للإلهة التي وهبت كل حي دمه، ويكومون الرءوس في أهرامات عالية أمام تمثال الإلهة، ثم يعود كل منهم ببقية الذبيحة إلى بيته ليقيم الوليمة المقدسة. وقد جرت العادة في الماضي القريب أن يقام المذبح وسط باحة رملية عميقة، حتى إذا تشبعت الرمال بالدماء، رفعت وملئت الباحة برمال جديدة، وكانت عملية تبديل الرمال تتم مرتين في كل يوم من أيام عيدها السنوي، وتؤخذ الرمال الدامية إلى الحقول حيث تمزج بالتربة من أجل إخصاب الأرض وزيادة المحصول.
79
تظهر تماثيل الإلهة كالي خصائصها الدموية ووجهها الأسود بطريقة لا يمكن لأي نص مكتوب أن يعبر عنها. تبدو في إحدى المنحوتات البارزة بوجه مفزع أقرب إلى وجوه الجثث، بعيون جاحظة وفم مشدود متقلص ينفتح عن فجوة مظلمة، وتضع في أذنيها قرطا من جثث الموتى، وفي عنقها طوقا من الأفاعي الملتفة، وفي وسطها حزاما من الجماجم. وفي منحوتة أخرى نراها في هيئة مشابهة وقد جلست القرفصاء فوق جثة مفتوحة البطن تأكل من أمعائها. وفي الثالثة يتدلى لسانها الطويل خارج فمها ليصل إلى بطنها في هيئة تذكرنا بالجورجون الإغريقية. وفي أحد التماثيل، تبدو منتصبة فوق جسد شيفا المسجى على الأرض، في هيئة امرأة سوداء داكنة البشرة، مكتنزة الجسم ناهدة الصدر، تكشر عن قواطع حيوانية تبرز خارج فمها، وتزين عنقها بإكليل من رءوس الرجال المقطوعة، ووسطها بحزام من أذرع بشرية. أما أذرعها الأربعة فبواحدة ترفع سيفا هائلا وبأخرى وعاء تشرب به الدماء، وتضم إليها قبضة الثالثة إظهارا للقوة، وتبسط الرابعة لتلقي صلوات البشر.
يقدم لنا نص من أواخر القرن التاسع عشر مكتوب بيد كاهن كالي الأكبر، صورة حية عن الوجوه المتعددة لهذه الأم الكبرى: «كالي هي الزمن الجليل، كالي هي الزمن السرمدي، كالي هي الإلهة السوداء. قبل الوجود وقبل الشمس والقمر والنجوم والأرض، عندما كان وراء الظلام ظلام، وحدها كانت كالي. واهبة العطايا والخيرات هي، ومصدر الخوف والرعب هي. هي الإلهة الحامية في أزمان الشدائد والمصائب وكوارث الزلازل والطوفان والأوبئة، وهي القوية ذات البأس سيدة الدمار. مسكنها عند محارق الموتى تحيط بها الأشباح الأنثوية المخيفة. من فمها يفيض تيار من الدم، ومن عنقها يتدلى عقد من الرءوس، وفي وسطها حزام من الأيدي البشرية. بعد خراب العالم في نهاية الدورة الكونية العظمى، تقوم الأم كالي بزرع بذور الحياة من جديد، وتخرج إلى الوجود عالم المظاهر المتنوعة. هل هي سوداء إلهتي كالي؟ إنها سوداء، عن بعد، ولكنها بيضاء لمن عرفها عن قرب. وبها يجد البشر خلاصهم.»
80
وهكذا تربط كالي، العشتار القائمة في عالم اليوم، ديانة العصر النيوليتي بإحدى أكبر ديانات العصر الحديث.
إذا عبرنا المحيط نحو العالم الجديد وجدنا أنفسنا مرة أخرى على أرض مألوفة، حيث الأم الكبرى الكونية ذات الوجهين الأبيض والأسود، تحكم السماء والأرض في ميثولوجيا حضارة الآزتيك تحت أسماء وتجليات متعددة، كما هو شأنها في ميثولوجيا شعوب العالم القديم. ففي المكسيك، نجد الأم الكبرى تحت اسم «أم الفتح» و«قلب الأرض» و«أم الآلهة». وكإلهة كونية نشأت عنها مظاهر الوجود المختلفة نجدها تحت اسم «الأم القديمة». كانت إلهة للمتع الجسدية وإلهة للخلق المتجدد وخصب الطبيعة. وكانت أيضا القمر وكانت الأرض. وفي شكلها كإلهة للغرب، كانت سيدة للموت وللعالم الأسفل، لباطن الأرض المظلم الذي يصرخ دوما من أجل مزيد من الدماء وقلوب الضحايا، ليستطيع الاستمرار في دفع الخيرات نحو ظاهر الأرض. لم تكن تكتفي بجثث الأحياء، بل كانت تبتلع أيضا الشمس كلما مالت نحو بوابة الغروب، والنجوم عندما تأفل. يرافقها ويعينها حشد من أرواح الظلام الأنثوية التي تتوسط بين قوى الغرب البدئية والعالم القائم، وتجمع في تركيبها بين جوهر الميلاد وجوهر الفناء. وفي منتصف النهار، تصعد هذه الأرواح إلى خط السمت فتجذب الشمس إلى مقرها عند بوابة الأفول. وفي اليوم الأخير عندما تدنو نهاية العالم تنتشر لالتهام الجنس البشري.
81
تمثل الأعمال الفنية التشكيلية إلهة الآزتيك في طورها الأسود، وقد ارتدت عباءة من جلود الأفاعي، تقبض على خنجر من حجر الصوان المقدس وقد نبتت من أصابعها مخالب النمر، وبرزت أسنان فكيها العلوي والسفلي نحو الخارج من فمها المفتوح. ومثلها الأم الكبرى لحضارة المايا في الجنوب «أكشيل» التي كان من أسمائها «امرأة القمر» و«امرأة البحر» و«سيدة الظلمتين»: ظلمة السماء المعتمة، وظلمة أعماق المحيطات. رمزها الجرة الفخارية المقلوبة التي تشير إلى الهلاك والدمار، بعكس الجرة الفخارية المستوية التي تشير في يد الأم الكبرى إلى الخلق والعطاء. نراها في طورها الأسود (الشكل رقم
7-6 ) على هيئة عجوز شمطاء تمسك جرتها المقلوبة، وعلى رأسها أفعى هائلة فاغرة فاها.
82
شكل 7-6: الأم السوداء لحضارة المايا.
وأخيرا، تشكل حواء في التوراة بديلا عن الأم الكبرى السوداء سيدة الموت، فهي التي ابتدأت الموت في الوجود، وبغلطتها الأولى جرت كل ذريتها إلى باطن الأرض وظلمة العالم الأسفل، ولذلك تدعى في اللاهوت المسيحي ب «أم الموتى». ولم ترفع اللعنة التي جرتها خطيئتها على البشر إلا بظهور السيدة مريم، حواء الثانية، التي قدمت للبشر خلاصا من الموت. نقرأ للقديس غزيناوس: «أن البشرية المحكوم عليها بالموت بسبب عذراء، قد خلصت بعذراء أخرى ...»
83
كما نقرأ للقديس أوغسطينوس: «كانت حواء الأولى أم الأموات فصارت حواء الجديدة أم الأحياء. خاطب ملاك الظلمة حواء الأولى ولكن مريم خاطبها ملاك النور. دعا ملاك الظلمة حواء إلى الثورة على الله، ولكن ملاك النور دعا مريم إلى طاعته. حواء الأولى قدمت لنا الثمرة المميتة، أما مريم حواء الجديدة فمنحتنا ثمرة أحشائها يسوع المسيح رب القيامة والحياة.»
84
وللقديس الشهيد يوستينوس نقرأ: «نحن ندرك أن المسيح صار إنسانا عن طريق عذراء حتى ينتهي التمرد الذي دفعت إليه الحية بالطريقة نفسها التي بدأ بها. والحقيقة أن حواء العذراء إذ حبلت بكلام الحية ولدت التمرد والموت، أما العذراء مريم فقد حملت إيمانا وفرحا، حين بشرها الملاك جبريل بأن روح الرب يحل عليها وقوة العلي تظللها، حتى إن المولود منها يكون ابن الله.»
85
ورغم أن السيدة مريم العذراء، تبدو في كل النصوص المسيحية أما بيضاء، فإن الخيال الشعبي الذي رفعها أما كبرى قد أعطاها وجها أسود، شأنها في ذلك شأن كل أم كبرى عبدها البشر. ففي أوروبا نعثر على كثير من تماثيل العذراء وقد صنعت من مادة سوداء، أو طليت باللون الأسود تماما، وتدعى هذه التماثيل بماري السوداء، وتلقى من التقدير ما لا تلقاه تماثيل ماري البيضاء، حيث يسود الاعتقاد بالقوة الغامضة لماري السوداء وقدرتها العجيبة على إتيان المعجزات. من أشهر هذه التماثيل التمثال الموجود في كنيسة نوتردام دي لاكورنس بأورليانز، والذي يحمله الناس في أوقات الشدائد والمصائب ويطوفون به الشوارع. والتمثال الموجود في كنيسة نوتردام دي مونسيرات الذي يصور العذراء وابنها وقد طليا باللون الأسود. هذا ويربو عدد مزارات ماري السوداء في أوروبا عن المائتي مزار.
86
تنسج تماثيل ماري السوداء على منوال تماثيل إيزيس السوداء وابنها حورس، والتي كانت معروفة في مصر وفي روما بعد انتقال عبادتها إلى هناك. ولربما نشأت مزارات ماري السوداء في الأصل حول مزارات أقدم منها كانت مخصصة لإيزيس.
87
عندما انهارت الديانات العشتارية وارتفع على أنقاضها آلهة الشمس الذكور، فاحتكروا وجه الألوهة الأبيض ورموا بوجهها الأسود للأبالسة والشياطين، تحللت صورة عشتار السوداء الجليلة، وتفتتت إلى صور مبعثرة مبتذلة يلوكها الخيال الشعبي، ويعجنها على طريقة الحكايا الفولكلورية. ففي الغرب هي الساحرة العجوز الشمطاء التي تركب عصا المقشة طائرة في الهواء. وفي بلادنا هي «النهالة» مصاصة الدماء، وهي «السماوية » خاطفة الأطفال، وهي «الغولة» آكلة البشر التي احتفظت بلقب «الأم» حيث يشير إليها الناس دوما على أنها أمنا الغولة.
التدمير الذاتي
لم تكن عشتار السوداء فقط سيدة الهلاك الذي يعترض سير الحياة فيداهمها من الخارج، بل كانت أيضا سيدة النزعة التدميرية التي تداهم سير الحياة من الداخل، من أعماق النفس الإنسانية التي تحتوي في تركيبها على نزوع نحو الحياة ونزوع نحو الموت في آن معا؛ النزوع الأول واع يهدف إلى حفظ التعضي الحي، واكتساب المتعة واجتناب الألم، والنزوع الثاني غير واع يسعى نحو الألم وتعذيب النفس، والانحدار إلى هاوية السكون المطلق. إن جنوح الإنسان إلى الحرب منذ بداية تشكيل المجموعات البشرية إلى يومنا هذا، هو أوضح تجليات النزعة التدميرية الذاتية. فبصرف النظر عن كل التسويغات العقلانية وبراقع البطولة الرومانسية، ليست الحرب إلا اندفاعا لا شعوريا نحو الموت وتلبية لنداء داخلي بإيقاف الحياة، نداء يصدر عن عشتار السوداء التي رفعها الإنسان إلهة للحرب، وأسقط عليها ميوله التدميرية الكامنة.
وعندما لا تصل النزعة التدميرية حدها الأقصى ببلوغ الموت وإهلاك النفس، فإنها تقف به عند الألم ونفي اللذة، وهو أقصى ما يمكن للتعضي أن يعارض به جريان الحياة الحر من دون أن يتسبب في إيقافه كليا، وهنا تتحول نزعة الموت إلى نوزع مازوكي، يسعى الإنسان من خلاله إلى تعذيب نفسه وإيذائها وإيقاف بعض فاعليات الحياة في جسده. وكما سار الإنسان وراء نزعة الموت إلى الحرب تحت راية عشتار السوداء؛ فقد مارس أيضا أقسى أفعاله المازوكية تحت رايتها ومن أجل إرضائها، وذلك من خلال الطقوس الدموية التي تتم في أعيادها السنوية، تلك الطقوس التي تبلغ قمة عنفها ومعارضتها لمبدأ الحياة، بفعل الخصاء الذي يقوم به الرجال على مذبح الإلهة، واهبينها ذكورتهم وكل حياة ممكنة سوف تنشأ عنهم. إن القربان البشري هو تغذية للموت بإنسان حي ، أما الخصاء فإنه تغذية للموت بنسل لم يولد بعد، ولن يولد، إنه تعطيل لوظيفة الحياة ذاتها بتعطيل وسائلها وأسبابها. هذا ويمكننا متابعة هذه الطقوس المازوكية في أعياد الأم الكبرى في أمكنة وثقافات متعددة.
ففي بلاد الرافدين كانت أعياد عشتار السنوية تقام في الربيع احتفالا بعودة ابن الأرض، الإله تموز من العالم الأسفل، وانتعاش الطبيعة الخضراء التي ماتت بموته في الخريف، وكان اليوم الأول من الاحتفال مخصصا لندب الإله تموز الميت الغائب في العالم الأسفل، والنواح على روح النبات الهاجعة في أعماق الظلمات. ثم يتحول النحيب الهادئ إلى تفجع مأساوي وهستيريا جماعية، ويباشر المحتفلون لطم خدودهم وضرب أنفسهم وإيذاء أجسامهم بما تصل إليه أيديهم من أدوات جرح وتقطيع، وتمزيق ثيابهم وحثو التراب على رءوسهم. وفي سوريا، كانت تقام في المناسبة نفسها أعياد مشابهة احتفالا ببعث الإله أدونيس الميت، ابن الإله عستارت وحبيبها، تبدأ طقوس الدم عندما يأخذ كهان عستارت الخصيان بتجريح أجسامهم بالسكاكين الحادة، على صوت الطبول والزمور والصنوج التي تعزف إيقاعا عنيفا مجنونا، ثم تنتقل الحمى إلى بقية المحتفلين الذين يصل ببعضهم مرأى الدم وصوت الموسيقى إلى حالة من الهيجان يغدو معها مهيئا لمباشرة طقس الخصاء، الذي يشكل جزءا هاما من طقوس عستارت المشهودة في ذلك اليوم، وهنا يندفع الشباب واحدا إثر آخر إلى مكان مخصص فيه سيوف مغروسة فيستلونها ويخصون أنفسهم بأيديهم، ثم يركض أحدهم في شوارع المدينة لا يلوي على شيء، يسوقه ألمه المجنون، حاملا أجزاءه المفصولة في قبضته، إلى أن يرميها أمام أحد البيوت في نهاية جريه الأعمى، وهنا يتوجب على صاحب الدار أن يدخله ويعتني به، ويقدم له من ثم ثوبا نسائيا يرتديه بقية حياته.
88
وعندما يهدأ صخب الاحتفال، وتسكن أصوات الطبول والصنوج، تمضي السكرة ويصحو الشاب ليكتشف أن عشتار قد سلبته رجولته إلى الأبد، وألحقته بجيش الخصيان الذين يعج بهم معبدها وأطرافه. فعن معبد عشتار وخصيانه، نقرأ في أسطورة إله الطاعون البابلية وصفا لمدينة عشتار «أوروك» بأنها: مدينة البغايا المقدسة والغلمان والخصيان، وفي وسطها معبد عشتار الذي يعج بالمخنثين ممن نالت الإلهة من رجولتهم.
89
وإلى عهد قريب كانت هذه الإلهة تنال من رجولة الذكور لدى بعض القبائل البدائية، فقبائل الوينباغو الهندية في أمريكا، كانت تعتقد أن القمر هو إلهة أنثى، وأن ظهورها في حلم الرجل هو تعبير عن رغبتها في أن يقدم لها ذكورته قربانا. فإذا استفاق النائم من مثل هذا الحلم، كان عليه أن ينفذ أمر الإلهة، فينزع ثياب الرجال ويرتدي حلل النساء وينضم إلى زمرة الكينيدي، وهم فريق من الرجال قد سبقوه إلى هذا المصير فتخلوا عن عالم الرجال ولزموا بيوت النساء.
90
في روما كانت أعياد الأم الكبرى سيبيل وابنها أو حبيبها آتيس تسير على نمط مشابه للأعياد العشتارية في سوريا وبابل؛ فالإلهة سيبيل إلهة شرقية انتشرت عبادتها في روما انتشار النار في الهشيم، بعد أن تأسست عبادتها رسميا عام 204 قبل الميلاد، عقب نقل حجرها الأسود المقدس من مقره في فرجيا بآسيا الصغرى إلى عاصمة الإمبراطورية الرومانية. وقد كان لحلول الحجر الأسود في مقره الجديد تأثير مباشر على محصول تلك السنة، كما تروي المصادر الرومانية؛ إذ لم تشهد البلاد غلالا وفيرة فاضت بها الأرض كما شهدته في تلك السنة، وبالإضافة إلى ذلك فإن تلك السنة جاءت بحدث هام من أهم أحداث التاريخ الروماني، ألا وهو تراجع جيوش هانيبعل الفينيقية عن حصار روما وعودتها نحو قرطاجة، وهو حدث عزاه الرومان إلى نصرة الإلهة سيبيل. إلا أن هانيبعل وهو يلقي نظرته الأخيرة على السهول الإيطالية في لحظة وداع لحلم كبير، لم يخطر بباله أن روما المنتصرة قد استسلمت في نفس السنة إلى غزو من نوع آخر، غزو سيقيض له، خلال القرنين القادمين، أن يحقق ما لم تستطع الجيوش الفينيقية أن تفعله، إنه غزو الديانات الشرقية.
91
في اليوم الثاني لأعياد سيبيل الربيعية التي تقوم احتفالا ببعث الإله آتيس، وهو اليوم المعروف بيوم الدم، تبدأ طقوس الدم، فيستهل كبير الكهان الخصيان الطقس بأن يحدث جرحا كبيرا في ذراعه تجعل الدم ينبثق منه كالنافورة، ثم يتبعه بقية الكهان الذين يسقون بما يفيض من دمائهم جذع الشجرة المنصوب الذي يمثل إلهة الطبيعة، الأم سيبيل، وفيما تعزف الموسيقى ألحانها المجنونة التي تدفع الكهان والمحتفلين إلى رقص وحشي ينسون فيه أنفسهم وإحساسهم بأجسادهم، يتقدم الكهنة الجدد، ممن التحقوا بخدمة الإلهة حديثا، وهم في هيجان النشوة والوجد، فيضحون بذكورتهم أمام تمثال الآلهة، ويرمون بأجزائهم المفصولة تحت قدميها. وبعد انتهاء الاحتفال، تؤخذ الأجزاء فتدفن في غرفة مقدسة سفلية تقع تحت المعبد.
92
هذه الأجزاء المفصولة هي التي تزين عنق أرتميس وديانا في بعض تماثيلها، حيث تظهران وقد لبستا عقدا مصنوعا من الغلفات أو القضبان المقطوعة.
93
إن طقوس الخصاء لتضعنا مرة أخرى أمام عشتار سيدة التناقضات. فكهان عشتار خصيان متبتلون نذروا للإلهة طهارة جنسية كاملة؛ أما كاهناتها فبغايا مقدسات لا ينقطعن عن ممارسة الجنس، موهوبات لكل الرجال. داخل حرم الآلهة يخصى الرجال، وحول معبدها تستمر الدعارة المقدسة في كل الأوقات. تركيب محير لا يمكن فهمه إلا على ضوء الصراع والتعاون القائم بين القوتين العظميين المتجسدتين في الأم الكبرى؛ قوة الموت وقوة الحياة. ففي إطلاق جنسانية الأنثى توكيد على مبدأ الحياة، وفي كف جنسانية الرجل توكيد على مبدأ الموت. ومن ناحية أخرى فإن الخصاء الذي يقوم به الكهان وبعض خاصة العباد، هو نوع من التوحد الصوفي بالروح الأنثوية الكونية، وتوكيد على أولية الأنوثة وتبعية الذكورة ضمن المؤسسة الدينية العشتارية، التي تشكل جزيرة أمومية في بحر الثقافة الذكرية. إن الخصيان إنما يكررون أمام الأم الكبرى دور الإله تموز الذي كان جميلا غضا مؤنث الصفات، خاضعا لعشتار مسلما لها قياده، ودور آتيس الذي خصى نفسه تحت شجرة التين التي ترمز إلى سيبيل، ودور أوزوريس الذي قام أخوه سيت بقتله وتقطيع جسده أربع عشرة قطعة، وجدتها إيزيس وجمعتها فبعثت فيها الحياة عدا عضو الذكورة الذي ضاع إلى الأبد.
وأخيرا، فإن نظام كهانة الأم الكبرى القائم على الخصاء، قد لا يبدو كثير الغرابة إذا قارناه بنظام الرهبنة والكهانة القائم على خصاء رمزي في الديانة المسيحية، حيث يحرم رجال الدين على أنفسهم كل زواج وممارسة جنسية مدى الحياة، وهو نظام مبني على تعاليم السيد المسيح نفسه. نقرأ في إنجيل متى: «إن موسى من أجل قساوة قلوبكم، قد أذن لكم أن تطلقوا نساءكم، ولكن من البدء لم يكن هكذا. وأقول لكم: إن من طلق امرأته إلا بسبب الزنى وتزوج بأخرى يزني، والذي يتزوج بمطلقة يزني، قال له تلاميذه: إن كان هكذا أمر الرجل مع المرأة فلا يوافق أن يتزوج. فقال لهم: ليس الجميع يقبلون هذا الكلام بل الذين أعطي لهم؛ لأنه يوجد خصيان ولدوا من بطون أمهاتهم، ويوجد خصيان خصاهم الناس، ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات، من استطاع أن يقبل فليقبل.»
94
الفصل الثامن
عشتار سيدة الأسرار
لعبت المرأة دور المعلم الأول في تاريخ الحضارة؛ فالمرأة أكثر حسا بالخفي والماورائي من الرجل، وأكثر منه تدينا وإيمانا بالقوة الإلهية، وأكثر شفافية روحية. فبينما يتجه عقل الرجل للتعامل مع ظواهر المادة، تتجه نفس المرأة إلى تحسس العوالم الروحانية وتلمس القوى الباطنية؛ مما جعلها الكاهنة الأولى والعرافة الأولى وناطقة الوحي الأولى، في المجتمع الأمومي القديم القائم على حق الأم وسيادة المرأة الاجتماعية وسلطان عشتار الكونية. لذلك تأنست المرأة قبل الرجل وقادته بيده من إيقاع المادة الرتيب إلى ملكوت الروح الإنسانية الرحيب. إن العلاقة بين إنكيدو رجل البراري المتوحش في ملحمة جلجامش، والمرأة التي روضته، هي نموذج أسطوري لما تم بالفعل عند جذور التاريخ والممارسة الجنسية التي تمت بينهما، والتي كشفت بصيرة إنكيدو فجعلته حكيما عارفا، وأبعدت عنه رفاق الأمس من الحيوان، لم تكن باللعبة الجنسية التي يمارسها الإنسان كل يوم، بل كانت رمزا للكدح الذي بذلته المرأة من أجل أن تكشف للرجل العوالم التي اكتشفتها قبله، وجذبه من دارة الجوع والشبع المغلقة، التي يشترك فيها مع الحيوان، إلى دارة الجمال المفتوحة على الأبدية.
كانت الديانات النيوليتية في المستوطنات الزراعية الأولى من خلق النساء، وكانت المرأة كاهنة الأم الكبرى وقيمة على طقوسها وشعائرها. وتشير البينات الأركيولوجية إلى أن وظيفة الكهانة كانت وقفا على النساء، رغم عدم إمكاننا أن ننفي تماما وجود كهنة من الذكور.
1
ويغلب الظن، أن بعض الذكور كانوا يلعبون دورا مساعدا لا دورا رئيسيا في المؤسسة الدينية النيوليتية. وقد كان لمكانة المرأة الدينية أثر كبير في دعم مكانتها ونفوذها في المجتمع، وتعزيز موقفها أمام الرجل الذي بقي خاضعا لها ما دامت ممسكة بمفاتيح قوة الغيب، وجعلها لآجال طويلة في موقف المتفوق على قوة الرجل الجسدية، المروض لها.
2
ورغم تمكن الرجل، بعد صراع طويل، من السيطرة على المؤسسة الدينية، ورفع آلهته الذكور الذين أعطوه وظيفة الكهانة، فإن هذه الوظيفة قد استمرت وقفا على النساء في بعض الديانات العشتارية، كما هو الحال في عبادة أرتميس، وديانا، وهستا-فيستا. أما في العبادات العشتارية التي شارك الرجل في مهام كهنوتها فإن شرائعها كانت تقضي بأن يلغي الكاهن ذكورته ويخصي نفسه تشبها بالكاهنات اللواتي احتكرن خدمة الآلهة منذ فجر الديانات. كما كان على الكهان أن يلبسوا ملابس النساء التي تنقل لهم قوى وخصائص الجنس الآخر. هذا وما زالت عادة ارتداء ملابس النساء قائمة لدى الكثير من كهان وعرافي القبائل البدائية الحديثة، الذين يعتقدون بقدرة هذه الملابس على خلق مناخ ملائم للاتصال مع القوى الخفية.
3
وإلى جانب الملابس، احتفظ الكهان الذكور بأسماء نسائية أيضا تشير إلى سيطرة النساء القديمة على الحياة الروحية؛ فلدى بعض القبائل الأفريقية يحمل كبير الكهنة اسم «المرأة القديمة»، ويشار إليه بضمير المؤنث هي.
4
وفي ثقافة الآزتيك في أمريكا الوسطى، نجد إلى جانب الملك مساعدا يحمل اسم «المرأة الأفعى»، وهو موكل بالشئون الدينية.
5
لقد كانت سيطرة المرأة على الحياة الدينية سيطرة على عالم يموج بالأسرار والخفايا. فإلى جانب المستوى الطبيعي للديانة العشتارية، الذي تعطي عشتار عنده ثمار الأرض، وخيرات الطبيعة، هناك المستوى السراني الذي تعطي عنده الأم القمرية، راعية الليل، ثمار الروح. في المستوى الأول، هي أم القمح تهب أهل الظاهر قوت يومهم، وفي المستوى الثاني هي أم الخمر التي تهب أهل الباطن قوت قلوبهم، وتفتح بصائرهم على حكمة الليل. فعند الخمر والمستحضرات المخدرة المستخلصة من النباتات، ينقلب الطبيعي والمادي إلى روحاني علوي، وتضع عشتار سرها كسيدة لعالم الضوء وعالم العتم في آن معا؛ عالم الطبيعة وعالم الروح. وقد كشفت سرها هذا للمرأة في مراحل الحضارة البشرية الأولى، عندما كانت المرأة تخزن الثمار وتبحث عن الجذور والأعشاب، وتم على يديها لأول مرة تحويل نتاج الأرض إلى وسط ناقل إلى مستويات الروح. ففي نشوة الخمر وتهويم المخدر، نموذج لكل ما ستنتزعه المرأة من أعماق الظلام؛ من شعر وفن وعرفان وإلهام ومعراج واستنارة.
ولكن انطلاق الروحاني من المادي، ليس قطيعة عن الطبيعة وذوبانا في نيرفانا إلهية تنكر كل رابط أرضي؛ لأن روحانية المرأة، على عكس روحانية الرجل، تنطلق من المادي وتبقى مخلصة له. إن كل تصعيد لديها يبدأ من حركة الجسد الدينامي، لا من حركة الذهن المجرد، والعقل التأملي البارد. وكل ارتقاء نحو الأعلى يبدأ في نزول نحو عتمة النفس، عن طريق الرقص والموسيقى والمسكر والمخدر والجنس. ولعلنا واجدون في العبادات والطقوس الديونيسية، التي شكل النساء سواد أتباعها، أوضح تعبير عن هذا الاتجاه الذي يتوسل إلى الروحي بالمادي، وإلى سكون النفس بصخب الجسد. لذا كان ديونيسيوس، بحق، إلها للنساء، قدم لهن في فترات الضياع المتأخرة إطارا دينيا استوعب تصوف الجنس الأنثوي، فأعاد إليه حرارة الأيام القديمة. فهو إذ يحرض طاقة الجسد الحبيسة، ويجلو حسية الأعضاء واضعا الكيان العضوي في مساره الصحيح كظاهرة طبيعية، إنما يدفع في نفس الوقت إلى تجاوز حركة الجسد الظاهرة نحو أسرار الطبيعة الخافية التي لا يستطيع العقل إلا أن يمس أطرافها. ففي البدء لم يخرج الكون من لجة العماء بواسطة العقل، بل بحركة الجسد. وعشتار لم تخلق مظاهر الطبيعة بكلمتها، بل بتحول جسدها الذي نشأت عنه السماوات والأرض. إن حركة الطبيعة، جسد الأم الكبرى، لتستوعبها حركة الجسد الإنساني لا سكونية العقل. وما يقوم به دراويش المتصوفة اليوم من رقص دوراني على إيقاع الموسيقى، ليصلنا بالتصوف العشتاري القديم، حيث يستنير الجسد بأنوار الرحمن وهو في ذروة أفراحه الأرضية.
سيدة الحكمة
تدعو الشمس إلى التفكير المنطقي الصاحي، أما القمر فهو سيد الإلهام الذي يهبط دون تصميم أو تدبير. لذلك يتلمس الرجل طريقه للمعرفة بالتأمل العقلي المنطقي، أما المرأة فتتلمس طريق الإحساس الباطني والغريزة والكشف القلبي . طريقان لفاعلية العقل، أطلق عليهما التصوف الإسلامي اسم المعرفة للأول والعرفان للثاني. تسير المعرفة بخطى بطيئة من المقدمات إلى نتائجها؛ أما العرفان فيضيء النفس في ومضات تشتعل وتنطفئ، كأنما تصدر عن تماس مع قوة خفية إلهية عبر قناة صافية مباشرة؛ قوة رآها الأقدمون في عشتار الحكمة الأنثوية الخالدة.
عشتار هي أصل الكون، مبدأ الأشياء، عماد الحياة. هذا ما يعرفه عنها العموم، وعند هذا الحد يتوقف سعيهم. السير وراء هذا التخم دخول في منطقة محرمة موصودة في وجه الكثرة، مغلقة أمام الباحثين بالعقل عن الأصول ونظام الأشياء؛ لأن مثل هذا السير رحلة عرفانية يطرح الشارع فيها خلفه كل المعارف السابقة وأدوات الفهم المبذولة للجميع. يغتسل من صحو النهار ويقظة العقل، ليدخل في ملكوت الليل فيهبط مدارج النفس التي تقود إلى مركز السر الأعظم، فإذا آب المريد من رحلته سالما غانما، دخل في ثلة العارفين، وإلا بقي مع العابدين المحجوبين.
في شكلها كإلهة للحكمية الأنثوية، تتخذ عشتار ألقابا شتى؛ فهي «آنتيا» أي سيدة الرؤى، وهو لقب عرفت به كل من سيبيل، وأرتميس-هيقات،
6
الإلهة المرعبة السوداء وسيدة الظلام وواهبة الحكمة للبشر.
7
وهي «معات» أي: سيدة الحقيقة عند المصريين.
8
وهي سيدة النبوءة التي تتحدث بلسان عشتار البابلية فتقول: «بكل اكتمالي أتجلى فأعطي النبوءات للبشر.»
9
وعند الإغريق هي «صوفيا» ومنها جاءت كلمة (فيلو-صوفيا) أي: حب الحكمة التي أطلقت على الفلسفة بمعناها المعروف فيما بعد. يصور عمل فني من العصور الوسطى «صوفيا» جالسة على رأسها تاج على هيئة ثلاث رءوس أنثوية؛ واحد يتجه نحو الأمام، وآخر نحو اليسار، وثالث نحو اليمين، رمز التثليث العشتاري القديم، وحولها الفنانون والأدباء والشعراء والفلاسفة يستمدون منها وحيهم. وفي عمل آخر نراها في هيئة سيدة جليلة القدر كاملة اللباس، تخرج ثدييها فترضع منهما رجلين جاثيين حليب الحكمة. وفي عمل ثالث نراها على هيئة امرأة متوجة تمسك بيدها اليسرى صولجانا وباليمين كتابا مفتوحا، ومن قلبها يتفجر تيار من الماء يتلقفه تحتها بأفواههم موسيقيون وعلماء وفلاسفة وجنود. وهكذا يتحول حليب الأم الكبرى الذي رأيناه في أشكال سابقة ينبثق من ثدييها ليسقي الأرض ويعطي البشر غذاءهم الأرضي، إلى حليب الحكمة الذي يهبهم غذاءهم الروحي.
تظهر علاقة الحكمة بعالم الليل والظلام، في أسطورة تيريسياس حكيم الإغريق المشهور، الذي لم تخب له نبوءة قط، والذي تنبأ لأوديب الملك بمصيره الفاجع في الأسطورة والتراجيديا المعروفة. كان تيريسياس يتجول في الغابة عندما رأى حيتين تتجامعان فضربهما بعصاه. عند ذلك تحول تيريسياس بتأثير سحر غامض إلى امرأة، وعاش في حالته الأنثوية سبع سنوات. وفي السنة الثامنة كان يتجول في نفس الغابة عندما رأى نفس الحيتين تتجامعان فضربهما مرة ثانية لعل السحر يزول عنه، وكان كذلك؛ إذ عاد تيريسياس إلى حالته الذكرية. وكان بعد مدة، أن وقع جدال بين كبير الآلهة زيوس وزوجته هيرا، حول موضوع المتعة الجنسية، وأي الجنسين أكثر استمتاعا بالجماع من الآخر. فاستدعى زيوس تيريسياس للفصل في هذه المسألة؛ لأنه أكثر الناس مقدرة على الحكم في ذلك، لكونه قد عاش الحياة الجنسية بشكليها الذكري والأنثوي. حكم تيريسياس إلى جانب زيوس وقرر أن المرأة أكثر استمتاعا من الرجل بالعملية الجنسية. وهنا ثار غضب هيرا، وضربت تيريسياس بالعمى، ولكن زيوس تعويضا له عما فقد من بصر، وهبه الحكمة وقدرة على النبوءة ومعرفة الغيب.
10
لقد كف بصر تيريسياس عن نور الشمس ولكن بصيرته الداخلية فتحت على حكمة الظلام؛ إذ لا حكمة دون الانكفاء على عالم الأم القمرية المعتم.
إلا أن زيوس الذي وهب تيريسياس الحكمة، لم يكن هو نفسه يملك حكمة أصيلة؛ فحكمته كانت مكتسبة من أحد الأشكال العشتارية السابقة على تاريخ الإغريق المكتوب. تحكي الأسطورة الإغريقية:
11
أن إلهة الحكمة القديمة «ميتيس» ابنة الزوجين المائيين «أوقيانوس» و«ثيتيس»، كانت أولى زوجات زيوس، وهي التي وصفها هزيود صاحب كتاب «أصول الآلهة» بأن لها من الحكمة أكثر مما لكل الآلهة مجتمعين . وعندما حملت ميتيس من زيوس، جاءته نبوءة مفادها أن زوجته ستضع له أطفالا يفوقونه قوة ويتحدون سلطانه. عند ذلك قام زيوس بابتلاع ميتيس قبل أن تضع له مولودها. وعندما جاء ميتيس المخاض وهي في أعماق زيوس، انتابه صداع أليم لم يهدأ حتى عمد الإله هيفستوس إلى شج رأسه بفأس، ومن الشق العميق ولدت «أثينا» منبثقة بكامل عدتها الحربية، أما أمها ميتيس فقد بقيت في جوف كبير الآلهة تمده بفيض حكمتها وإلهامها.
تمدنا هذه الأسطورة بفيض من الدلالات والمعاني؛ فكبير الآلهة زيوس، رغم اعتلائه عرش الأوليمب، وسلطانه المطلق على عالم البشر والآلهة، كانت تنقصه حكمة الإلهة الأنثى التي جرها عن عرشها، ولم يكن أمامه لاكتساب تلك الحكمة سوى أن يستوعب الإلهة القديمة بابتلاعها وامتصاص قواها. كما أنه، وهو الذكر الأسمى، ما زال يشعر بالحسد تجاه وظيفة الولادة التي تتمتع بها المرأة، وهو حسد ميز موقف الرجل من المرأة طيلة تاريخه؛ لأن في الحمل والولادة صلة بالقوى الكونية الخلاقة، وانتماء إلى عالم الألوهية. وإذا كان هذا الحسد قد زال من عقل الرجل الواعي في العصور التاريخية، فلأنه قد وضع جل همه في التقليل من قيمة هذه الوظيفة. إن علم النفس الفرويدي الحديث ليعزو إلى المرأة إحساسا بالنقص والحسد تجاه الرجل لامتلاكه القضيب، وهو لا يعلم، أو يتجاهل، أن دهورا طويلة قد مرت على الرجل وهو يشعر بالنقص تجاه وظائف المرأة الخلاقة. لقد أرادت أسطورة ميتيس أن تعزو لكبير الآلهة القدرة على الولادة، شأنها في ذلك شأن الرواية التوراتية التي عزت الشيء نفسه إلى آدم الذي أخرج حواء من جسده. فعانى زيوس آلام المخاض في رأسه؛ لأنه لا يستطيع معاناتها في مكان آخر؛ فهو الرجل المفكر لا المرأة المتحدة مع إيقاع الطبيعة، التي تشعر آلام المخاض في بطنها وتلد بالعناء وفيض الدماء طفلها المتعلق بها بحبل السرة. وعندما انفتح رحم زيوس العلوي، انطلقت منه أثينا كإلهة للذكاء، وحكمة الشمس، في مقابل حكمة الظلام التي بقيت في داخل زيوس تمده بفيضها الأنثوي، لا كأفكار تنبثق من الرأس كما انبثقت أثينا، بل كعرفان ينير النفس.
ومثل ميتيس، حكمة الآلهة، كذلك «ديوتيما» حكمة الفلاسفة التي نصبها سقراط أبو الفلسفة اليونانية معلمة له في محاورة المأدبة ، وعزا إليها تعليمه فلسفة الحب، وكيف ينتقل الإنسان من معاينة الجمال المادي الطبيعي إلى معاينة الجمال الأعلى السرمدي. فديوتيما هذه، لم تكن كائنا بشريا موجودا في زمن سقراط، كما يفهم من ظاهر النص، بل قناعا لحكمة الأم الكبرى؛ حكمة الأنثى التي بقيت تمد قلوب الرجال حتى في عصر الفلسفة وتراجع سطوة الأسطورة.
وحكمة الأنثى التي أدبت سقراط، هي التي نقلت من قبل إنكيدو من مستوى الحيوان إلى مستوى الإنسان، كما ألمحنا منذ قليل. فالبغي المقدسة التي أرسلها جلجامش لتلين من عريكته وتقوده إلى المدينة، ليست إلا رسولة عشتار ووكيلة حكمتها:
ستة أيام وسبع ليال قضاها إنكيدو مع فتاة اللذة.
روى نفسه من مفاتنها،
ثم غادرها نحو رفاقه من الحيوان،
فولت لرؤيته الغزلان هاربة،
حيوانات الفلاة فرت أمامه،
جعلته في حيرة من أمره. ثقيلا كان جسده،
خائرة كانت ركبتاه، ورفاقه ولوا بعيدا.
تعثر إنكيدو في جريه، صار غير ما كان،
لكنه غدا عارفا، واسع الفهم عميقه.
قفل عائدا إلى المرأة، جلس عند قدميها،
رافعا بصره إليها،
كله آذان لما تنطق به.
12
هذه الجلسة التي جلسها إنكيدو يستمع إلى حكمة المرأة، هي ما يجب أن تتعلمه أخيرا حضارة اليوم، فلقد أمضينا آلاف السنين نعلم المرأة، وآن الأوان اليوم كي نستمع إليها قليلا، فلديها الكثير لتقوله لنا، ولعل في بعضها خلاصنا من الطريق المسدود الذي وصل إليه سعي حضارة الرجل.
وكما فتحت رسولة عشتار عين إنكيدو على عالم المعرفة، كذلك فتحت رسولة عشتار، في هيئة الأفعى، عين آدم وحواء على المعرفة، فأعطتهما ثمار شجرة المعرفة القائمة في وسط الجنة ونقلتهما من عالم يعيشان فيه شبحين بلا ظل، إلى عالم الطبيعة الحافل بأفراح الجسد، وجيشان الروح التي لا تدرك ماهيتها إلا بولادتها في الجسد، وذلك مثل عين كانت مفتوحة على الفراغ اللانهائي، ثم وضع أمامها فجأة قوس قزح.
وشجرة المعرفة هذه، هي شجرة الأم الكبرى التي جلس تحتها البوذا وأقسم ألا يبرح مكانه حتى تأتيه الاستنارة، وتفتح بصيرته على الحقيقة: «هنا، وفي هذا المكان ، سأجلس حتى يبلى جسدي ويجف جلدي أو أصل إلى المعرفة. هذا ما قاله البوذا، وهو يأخذ مكانه تحت شجرة الاستنارة، والأرض اهتزت ست مرات ... وما إن حل المساء حتى بدأ قلب البوذا بالاستنارة الكاملة كزهرة كونية تتفتح.»
13
وفي حكاية ألف ليلة وليلة، حاسب الدين وملكة الحيات، التي لخصتها في فصل عشتار الخضراء، نجد الأفعى رمز عشتار كواهبة للحياة والموت، وكواهبة للحكمة في الوقت نفسه. فبعد أن أعطى حاسب الدين جزء الأفعى الذي يقتل للوزير، وجزأها الذي يحيي للملك، أخذ لنفسه جزأها الثالث الذي يهب الحكمة «ففجر الله في قلبه ينابيع الحكمة، ورأى السماوات السبع وما فيهن إلى سدرة المنتهى.»
14
هذا وترتبط حكمة الأم الكبرى بالعرافة وكشف حجب المستقبل. فكانت كاهنات عشتار أول العرافات وأول من رجم بالغيب، وبقيت هذه المهمة محصورة بهن إلى وقت متأخر من تاريخ العالم القديم. ولنا في معبد دلفي الإغريقي وعرافته المشهورة، التي بقيت تتنبأ لليونانيين وغيرهم من الأقوام حتى الفترات المتأخرة من التاريخ الكلاسيكي، أوضح مثال على ذلك. ورغم أن معبد دلفي صار فيما بعد مكرسا للإله أبولو بعد أن اغتصبه من إلهة الأرض «جايا» وقتل حيتها العملاقة هناك، فإن عرافتها وناطقة وحيها قد استمرت عرافة لأبولو، ولكنها بقيت مخلصة لتقاليد الأرض القديمة، فكانت تنطق بالنبوءات وهي جالسة على صخرة فوق الأرض تمضغ ورق الغار، وتتنشق من كفيها حفنة من تراب الأرض.
15
ولما كان التنبؤ مرتبطا بتدفق الزمن وبأقدار الناس ومصائرهم، فإن عرافات الأم الكبرى كن يستمددن قدرتهن على كشف الغيب من عشتار القمرية، بادئة الوقت وسيدة الزمن وحاكمة الأقدار التي تقر لكل مصيره، أو كن يستمددن هذه القدرة من تجلياتها المثلثة التي تعكس أطوارها القمرية، وذلك كالموريات الثلاث والهوريات الثلاث والكاريتس الثلاث. وكلهن من إلهات القدر في الميثولوجيا اليونانية، والرومانية.
16
ويقابلهن عند المصريين الهاتوريات نسبة إلى هاتور-إيزيس، اللواتي كن يظهرن في عدد من أضعاف الثلاثة، وهو التسعة، عند سرير الطفل لحظة الميلاد، فيتنبأن له ويكشفن مستقبل أيامه.
17
وتبدو الإلهة أفروديت نفسها أحيانا كأم للكاريتيس الثلاث،
18
وأحيانا كالأخت الكبرى بين الموريات الثلاث،
19
أما في بلاد الرافدين فنرى نجمة عشتار تتوسط إلهات القدر الثلاث وهن يعتلين صهوة الثور.
20
وفي كل ذلك إشارة إلى أن هذا النوع من التثليث الأنثوي لا يشكل ذواتا مستقلة لها كيانها الألوهي الخاص، بل هو تجسيد لخصائص عشتار المثلثة، فهن لا يظهرن إلا معا ولا يعملن إلا معا، ولا تملك أي منهن شخصية واضحة وسيرة منفصلة.
شكل 8-1: الموريات الثلاث - نقش روماني.
وكسيدة للحكمة الليلية الخافية، كانت عشتار أيضا سيدة للإلهام الذي ينير نفوس الشعراء والفنانين، فكانت راعية للفنون والآداب والشعر؛ ذلك أن الفنون بشتى ألوانها تمنح من مصادر الحكمة الليلية، لا من مصادر الحكمة الشمسية التي تصدر عنها العلوم. والفنان المبدع إنما يغلق بوابات الصحو ويفتح بوابات المحو، فيسلم نفسه للرؤى والخيالات النابعة من دخيلته المعتمة، لا من رشده النقدي اليقظ. وهنا يظهر الحضور العشتاري مرة أخرى على هيئة إلهات ثلاث، هن مصدر الإلهام ومنبع الإبداع الفني والأدبي بشتى صوره وأشكاله، حكمة الأنثى المتدفقة من نبع الأم الكبرى الصاعد من أعماق اللاشعور. من هذه الثواليث العشتارية النعم الثلاث (=
Graces ) والميوز الثلاث. كانت النعم الثلاث مرافقات لأفروديت وهن اللواتي كن يشرفن على زينتها كلما أرادت أن تبدو في أكثر أشكالها بهاء وإغراء، كما كن مسئولات عن تفتح الأزهار والبراعم في الربيع ونضج الثمار في الصيف. اسم الأولى أجلايا، أي المتألقة، والثانية تالايا، واهبة الأزهار، والثالثة أفروزينا، مسرة القلوب. تصورهن الأعمال التشكيلية عرايا تضع كل منهن يدها على كتف الأخرى.
21
أما الميوز الثلاث فهن عرائس الشعر والموسيقى، وربات للينابيع والذاكرة، يظهرن في الأساطير الإغريقية أحيانا كثلاث في العد، وأحيانا كتسعة. وتظهرهن الأعمال التشكيلية على هيئة حسان لابسات أردية طويلة، مبتسمات أو مستغرقات في التأمل. وتشير أسماؤهن التسعة إلى توزيع الاختصاصات بينهن؛ فواحدة للتاريخ، وثانية لآلة الفلوت الموسيقية، وثالثة لأشعار الحب، والرابعة للتنجيم ...
22
وفي الميثولوجيا الفيدية في الهند كان القمر صوما الذي ولد من زبد الأوقيانوس الهائج، هو الثور السماوي سيد مملكة النبات وحاكم حركة المياه في الطبيعة. وكان في الوقت نفسه أميرا للشعر وسيدا للإلهام والإبداع والخلق الفني.
23
كما كانت إلهة السلت بريجيت التي التقينا بها مرارا عبر صفحات هذا الكتاب كأم قمرية مثلثة، إلهة للشعر والحكمة والمعارف.
24
وعند العرب كانت جنيات وادي عبقر بمنزلة عرائس للشعر، منها يستمد الشعراء إلهامهم، وإليها يعزى كل أمر معجز. ومن وادي عبقر جاءت كلمة عبقري، وعبقرية.
فإذا انتقلنا إلى التقليد المسيحي وجدنا آباء الكنيسة وقد طابقوا بين السيدة مريم العذراء، وبين الحكمة الموجودة مع الرب منذ الأزل. ورأوا في بعض نصوص العهد القديم التي تتحدث عن الحكمة الإلهية، إشارة إلى السيدة العذراء، وخصوصا سفر الأمثال، من الإصحاح الأول إلى الإصحاح التاسع.
25
نقرأ في سفر الأمثال: «طوبى للإنسان الذي يجد الحكمة وللرجل الذي ينال الفهم، هي أثمن من اللآلئ وكل جواهرك لا تساويها. في يمينها طول أيامك وفي يسارها الغنى والمجد. طرقها طرق نعم وكل مسالكها سلام. هي شجرة الحياة لممسكيها والمتمسك بها مغبوط. الرب بالحكمة أسس الأرض، أثبت السماوات بالفهم. بعلمه انشقت اللجج وتقطر السحاب ندى» ... «أنا الحكمة، أسكن الذكاء وأجد معرفة التدابير. أنا مخافة الرب بغض الشر. أبغضت الكبرياء والتعظيم وطريق الشر وفم الأكاذيب. لي المشورة والرأي، أنا الفهم لي القدرة. بي تملك الملوك وتقضي العظماء عدلا» ... «الرب حازني في أول طريقه قبل ما عمله منذ البدء. منذ الأزل مسحت من الأول قبل أن كانت الأرض. ولدت حين لم تكن الغمار والينابيع الغزيرة. من وجدني وجد الحياة ونال مرضاة الرب» ... «الحكمة بنت بيتها، نحتت أعمدتها السبعة. ذبحت ذبحها، مزجت خمرها، أيضا رتبت مائدتها. أرسلت جواريها تنادي على ظهور أعالي المدينة، من هو جاهل فليمل إلى هنا، والناقص الفهم قالت له: هلموا كلوا من طعامي واشربوا من الخمر التي مزجتها.»
26
فالسيدة العذراء هي صوفيا، حكمة الرب التي صاغها اللوغوس منذ الأزل، فكانت معه قبل تجسيدها في الزمان والمكان، وعادت إلى السماوات بعد فناء جسدها الأرضي لتأخذ مكانها إلى جانب الثالوث المقدس،
27
من ألقابها «مقر الحكمة»،
28
ومنها استمد القديسون حكمتهم. يروي القديس يوحنا الفم الذهبي أن انكشاف بصيرته قد تم بخارقة من خوارق السيدة العذراء. فبينما كان أمام تمثالها يوما يصلي وهو ما زال طفلا، فإذا بالحياة تدب في التمثال وتخاطبه العذراء قائلة: يوحنا، تعال قبل شفتي ولسوف تحل عليك بعد ذلك المعرفة. فتقدم منها بعد تردد، ثم طبع على شفتيها قبلة كانت كافية لأن تملأ كيانه حكمة ومعرفة.
29
سيدة الجنون «خذوا الحكمة من أفواه المجانين» قول عربي مأثور، يصل عالم الحكمة بعالم الجنون، ويلخص نظرة الثقافات القديمة إلى بعض أنواع الجنون، التي ليست في حقيقتها سوى شكل من أشكال الحكمة العشتارية. إن حكمة الليل التي تدير وجه صاحبها عن صحو النهار ومنطق الشمس، هي انفصال عن الواقع وإيغال في عوامل الباطن حيث يخفت تدريجيا إيقاع الزمن الأرضي، وتخبو تكتكات الدقائق والساعات، لينفتح عالم الصمت وتزحف استطالات الزمن الراكد. حيث المعرفة غير المنطوقة، ولذاذات الروح التي لم تكن لذاذات الجسد إلا مقدمة لها وبشارة. حيث المهابط، التي تشد السالك إلى مركز السر الأعظم، معارج للصعود نحو الملكوت الأعلى؛ حيث اللحظة الزمنية، آنا بلا نهاية في أعماق جسد عشتار الليلي.
حكمة الشمس زاد لواقع اليوم، تدبير لشئونه، وحكمة القمر زاد للغد الآتي حيث يحجب الموت نور الشمس فاتحا بوابة الظلمة المديدة. حكمة الشمس ترويض للعقل وحكمة القمر ترويض للروح، تهيئة في هذا العالم لما سيأتي وراءه. في حكمة الشمس إضعاف للروح، وفي حكمة القمر إضعاف للعقل. وتناوس السالك بين عالم النور وطوايا الظلام قد يتوقف ليختار الفرد عالم الظلام، ويغلق على نفسه تماما في رحلة لا عودة منها، رحلة يسميها الناس جنونا، ويختبرها أهلها انجذابا وكشفا. ولنا في مجاذيب التصوف خير مثال على هذه الخبرة، وفي كلمة «مجذوب» أفضل دليل على أصل الجنون المقدس الذي يعانيه أصحابه «انجذابا» نحو قوة داخلية علوية في آن معا.
تقول الأم المصرية قديما عن نفسها: «أنا ما كان، وما هو كائن، وما سوف يكون، وما من بشر قادر أن يرفع عني برقعي.»
30
ذلك أن معارف عشتار وحكمتها لا يمكن كشفها بالفهم العقلي وقواعد المنطق. بل بالذوبان فيها والفناء بها، والدخول تحت حجابها دون رفعه، إن الاستنارة التي تتحدث عنها حكمة البوذا، والكشف الذي يحكي عن مذاقه المتصوفة، ليسا إزاحة لبرقع الحقائق الربانية بالجهد العقلي المنظم، بل كدح روحي يدخل صاحبه مملكة الظلام خلف برقع إيزيس، لتنكشف له أنوار عالم آخر عند مركز السر أو سدرة المنتهى. عند ذلك يغادر عالم الدورة الشمسية التي تحدد الأيام وزمن الأرض، ويدخل دارة مفتوحة على الأوقيانوس الكلي.
تظهر خاصية الأم الكبرى كسيدة للجنون في أوضح أشكالها لدى كل من إلهة السلت بريجيت، وهيقات، وسيبيل. فبريجيت التي رأيناها إلهة قمرية مثلثة ووالدة للآلهة جميعا وسيدة لخصب الأرض وملتهمة للرجال، هي أيضا من يضرب العقل بالجنون.
31
ومثلها هيقات سيدة الرؤى،
32
وكذلك سيبيل التي ضربت ابنها وحبيبها آتيس بالجنون، فخصى نفسه تحت شجرة التين ونزف حتى الموت.
33
إن في أسطورة سيبيل وآتيس رمزا لثلاثة معابر أو برازخ يمر بها الذكر في علاقته بالروح الأنثوية الكونية. فالجنون برزخ لتحصيل الحقائق الخفية، تخل عن الصحو، ودخول في مملكة السكرة. والخصاء تكريس لحكمة الليل وتوحد صوفي مع المبدأ الأنثوي. والموت برزخ أخير يجتازه من أجل البعث في عالم جديد، وهو بعث يتم أيضا تحت جناح الأم الكبرى، كما سنرى في فصل عشتار المخلصة.
إن ارتباط الجنون بالأم القمرية قديما، قد ترك آثاره اللاحقة في معظم الثقافات التي تربط بين القمر وحالات الجنون. وما زلنا في العالم العربي نعتقد بتأثير البدر على حالات معينة من الجنون التي تشتد في ليالي القمر الكامل. كما وأننا نجد آثار هذا الاعتقاد باقية في بعض اللغات. فمن الكلمات الدالة على الجنون في اللغة الإنكليزية كلمة
Lunacy ، وهي مشتقة من كلمة
Luna
اللاتينية الدالة على القمر. فالجنون وفق هذا الاشتقاق هو المرض القمري، وهو المرض الذي أصاب رواد مركبة أبولو التي حطت على سطح القمر، بعد عودتهم إلى الأرض، دون أن يتم شفاء بعضهم كاملا حتى الآن.
سيدة الغيبوبة
تدعو حكمة الشمس إلى تركيز الحواس وشحذها للتعامل مع الواقع بأعلى كفاية ممكنة، أما حكمة القمر فتدعو إلى بلبلة الحواس الخارجية من أجل تفتيح الحواس الداخلية. تدعو حكمة الشمس إلى بناء الجسد وتوجيهه لأداء وظائفه العلمية، أما حكمة القمر فتدعو الجسد إلى اللعب الحر، إلى الرقص الذي يجعل الجسد موضوعا لنفسه، ويعكس طاقته نحو نفسها، محولا الحركة المادية إلى نشوة روحية ووجد صوفي. فالإنسان في الديانة العتشارية لا يعرف الصلاة، بل يعرف الرقص. وفي المناسبات الداعية للصلاة في الديانة الشمسية، نجد الإنسان العشتاري يرقص. وهو في رقصه لا يعبد إلها بعيدا منفصلا، بل يعيش إلهه ويتلمسه في أعماق نفسه. وفي قمة النشوة، عندما يتحقق للراقص الانفصال التام عن مبدأ الواقع، ويشعر أن حركته تتلاشى عند نقطة ثابتة في مركز ذاته، يتوقف الزمن في ومضة عند شاطئ الأبدية، ثم تشع الحركة من جديد وتفيض نحو المحيط الذي منه انطلقت. رحيل من محيط الذات إلى مركزها الذي يتطابق مع مركز السر الأعظم ... «فمن عرف نفسه عرف ربه» - حديث شريف.
ويساعد الخمر المستحلب من الثمار، والمخدر المستخلص من الأعشاب المقدسة، على ولوج عالم الليل والتحرر من عالم النهار. فكما أعطت عشتار حبوبا ونباتا، معاشا للإنسان، كذلك أودعت في نتاج الأرض سرا من أسرار الألوهة ونذرا من جنات الخلد. فالمخدر يهب المريد مركبة سحرية تجتاز به تخوم الصحو نحو العوالم المقدسة، يحرره من كثافة المادة وشروط الواقع ليضعه على مشارف الإلهي وتخوم الحرية، في بارقة مؤقتة هي قبس من ملكوت آت. لذلك كانت نبتة الخشخاش
34
التي يستخلص منها أقوى أنواع المخدرات، رمزا من رموز الأم الكبرى في ثقافات المتوسط وفي ثقافات بعيدة تماما كثقافة الآزتيك في أمريكا الوسطى. فنجد الإلهة ديمتر في بعض الأعمال التشكيلية تحمل بيديها باقتين من سنابل القمح ونبت الخشخاش، رمزا لسلطتها على عالم الغذاء المادي والغذاء الروحي في آن معا. وفي الشكل رقم (
4-4 ) الموضح في فصل عشتار الخضراء، نجد الأم الكريتية الكبرى جالسة تحت شجرة الكرمة التي تتدلى عناقيدها، وقد حملت بيدها باقة من نباتات الخشخاش.
ولقد أعطت عشتار أول ما أعطت سر المخدر إلى المرأة؛ فالمرأة التي اكتشفت كل أسرار مملكة النبات، فصنعت الغذاء واستحضرت الدواء واستخلصت السموم، قد اكتشفت أيضا نباتات المخدر وعرفت خصائصها واستعمالاتها المختلفة. وما زالت نساء القبائل البدائية حتى يومنا هذا، موكلات بتحضير الأكاسير المخدرة، حافظات لأسرارها. وهناك من الأدلة ما يشير إلى أن نبات الخشخاش قد تم استخدامه منذ العصر الحجري إبان العصر الجليدي.
35
ومنذ ذلك الوقت استمر تناول المخدرات باعتباره طقسا أساسيا من طقوس ديانات الخصب في الشرق الأدنى القديم وثقافات المتوسط؛ ففي سومر كان كهنة ديانة الخصب يبحثون عن أنواع معينة من الفطر المخدر الذي اعتبر ابنا للسماء، وذلك بسبب نموه السريع تحت جنح الليل بعد المطر المصحوب بالرعد والبرق. وكانوا يصنعون منه أكاسير تجعل شاربها يمضي في رحلة روحية يرى خلالها جنات النعيم ثم يعود إلى الأرض.
36
وقد استمرت هذه الطقوس قائمة بشكل سرى في أنحاء مختلفة من الشرق القديم، ويقال: (ولسنا متأكدين من ذلك) إنها ظهرت لدى إحدى الفرق الدينية الإسلامية المعروفة باسم الفرقة الحشيشية، وهي الفرقة التي بدأت دعوتها في إيران ثم انتقلت إلى بقاع أخرى في فترة خريف الخلافة العباسية. والحشيشية اسم أطلقه العامة على هذه الفرقة، وهو مستمد من نبات الحشيش، المخدر المعروف في معظم بقاع الشرق، وذلك ظنا منهم أن أتباع هذه الفرقة إنما يتناولون الحشيش في طقوسهم واحتفالاتهم. إلا أن كل البينات تشير إلى أن المادة المخدرة التي يستعملها هؤلاء كمحرض على النشوة الصوفية، هي مادة أقوى بكثير من الحشيش. وأغلب الظن أنها المادة التي نقل السومريون أسرارها كمحرض على النشوة الصوفية إلى أجيال الفرق الباطنية اللاحقة.
إلى جانب المواد المخدرة لعب الخمر دورا كبيرا في طقوس واحتفالات الديانات العشتارية، وكانت إنانا السومرية تدعى ب «الأم النورانية إلهة الخمر».
37
وقد بلغت طقوس السكرة العشتارية قمتها في عبادات ديونيسيوس، إله الخمر في العالم الكلاسيكي؛ ذلك الإله الغريب عن البانثيون الإغريقي، والذي أتى بلاد اليونان من «تراقيا» في مواكب معربدة صدمت لأول مرة ذوق اليونانيين الأبولوني. ولكن هذا الإله الجديد ما لبث أن أخذ مكانه بين آلهة الأوليمب، وتحولت إليه الاتجاهات الباطنية اليونانية.
38
وبقي اسمه إلى يومنا هذا علما لاتجاه السكرة في مقابل اتجاه الصحو، كتيارين موجهين لسلوك الإنسان ونتاجاته.
سكر ومخدر وموسيقى ورقص، تلك هي عدة الغيبوبة العشتارية التي تعبر بالمريد من جفاف الشمس إلى نداوة القمر. عدة كانت عبر تاريخ الثقافة الذكرية، وسيلة للتمرد والحلم، تمرد على النظم العقلانية المسيطرة التي تجعل من الفرد عبدا مسخرا للقوى الاجتماعية الطاغية وديانتها البطريركية، وحلم بعالم أمومي جديد وفردوس عشتاري أرضي يعيد للجسد الإنساني قدرته على اللعب الحر، ولروحه طاقاتها غير المتناهية. ولنا في حركة «الهيبي» التي اجتاحت العالم الغربي إبان ستينيات القرن العشرين، خير مثال على ذلك.
سيدة السحر
كواهبة لجرعة الحليب الأولى التي تسلم الطفل إلى أولى لحظات الحياة، كانت المرأة تجسيدا على مستوى الواقع لمبدأ الحياة الكلي. ومنذ عصر قبيل الصيادين البدائي إلى عصر المستوطنات الزراعية المستقرة، كانت المرأة مركزا للناشطات الرامية إلى حفظ البقاء، مستعينة بقدراتها الخفية على تحويل المادة وتغيير خصائصها؛ فقد رأينا المرأة مسئولة عن التقاط الثمار وخزنها واستخلاص أكاسير الأعشاب وعصير الكرمة، ورأيناها موكلة بالاستفادة من منتجات الحيوان، والغزل والنسيج والحياكة، وبإبقاء النار التي اكتشفتها مشتعلة، واستخدامها في تحويل الطين إلى فخار وخزف، وتحويل الطعام النيئ إلى غذاء شهي، والعجين الفظ إلى خبز ناضج. إن هذه النشاطات وغيرها، مما تحول فيما بعد إلى أعمال دنيوية يومية عادية، لم تكن في الماضي كذلك؛ ذلك أن الشروط البيئية والمناخية الصعبة، والصراع المستميت الذي دخله الإنسان ضد أنواع الحياة الأخرى من أجل البقاء، قد جعل من نشاطات حفظ الحياة مهمة مستحيلة دون عون الأم الكونية الذي تبذله عن طريق وكيلتها على الأرض. لذلك كانت المرأة تمارس كل نشاطات حفظ الحياة وتأمين الغذاء والمأوى والكساء، باعتبارها طقوسا تحويلية مقدسة لا تتم إلا بمعونة جسدها الخلاق، وكان التحويل نوعا من السحر.
ومن التحويل الأصغر المتمثل في نشاطات المعاش ، إلى التحويل الأكبر المتمثل في السلطة على عالم المادة والطبيعة، كانت المرأة مسئولة عن الاتصال بالعوالم السرية عن طريق السحر. إن الأنثى بواقع تكوينها الجسدي والنفسي أكثر قدرة، كما أسلفنا، على تحقيق مثل هذه الصلة. فنفسها أكثر شفافية ورقة من نفس الرجل الصلبة، وإحساسها الباطني دوما لا يخيب، وأحلامها نبوءة وكشف، أما جسدها فمستودع الأسرار العشتارية، يعمل بطريقة هي أقرب لفعل السحر منها للفعل الطبيعي. لذلك كانت المرأة الساحرة الأولى، وبسحرها كانت تمارس سيطرتها على الرجل وتعزز مكانتها ضمن الجماعة. فليس من المستغرب أن يبدأ الرجل أولى خطواته في التحرر من سلطة المرأة باغتصاب صلاحيات السحر.
لقد كان من الإنجازات الأولى لجماعة الرجال التي حققت الانقلاب التاريخي ضد سلطة المرأة، قيامهم بالسيطرة على نشاطات السحر، وتجريد المرأة من أحد أسلحتها الأساسية،
39
وما زالت ذكرى هذه الانتفاضة محفورة في بعض أساطير القبائل البدائية في العصر الحديث، والتي حققت انقلاباتها الذكرية في أزمنة متأخرة؛ ففي أمريكا الجنوبية، تروي قبائل «أونا» أسطورة مفادها: أنه في الأيام القديمة كانت فنون السحر وقفا على النساء اللواتي كن يجتمعن في محافل سرية خاصة، لا يجرؤ الرجال على الدنو منها. وكانت البنات الصغيرات يلقن أسرار السحر عندما يقتربن من سن النضج، ويتعلمن كيف يجلبن الأذى والمرض وربما الموت لكل من يسيء إليهن، ثم سرعان ما يلتحقن بالمحافل ليرثن إدارتها عن متقدماتهن. أما الرجال فكانوا يعيشون في خضوع كامل للنساء، وخوف مما يمكن لسحرهن أن يجلب عليهم من كوارث. لقد كان في حوزتهم الأقواس والسهام والرماح يصطادون بها الطرائد من أجل غذاء الجماعة، ولكن سلاحهم لم يكن ينفع في مواجهة قوى السحر. إلى أن كان يوم أجمع فيه الرجال على التخلص من النساء بقتلهن جميعا، فخططوا لمذبحة كبيرة وقاموا بتنفيذها، فقتلوا كل امرأة وكل فتاة، ولم يبقوا إلا على البنات الصغيرات في أعوامهن الأولى، ممن لم تتح لهن بعد أية فرصة للاطلاع على فنون السحر ومعرفة ما يجري في محافل النساء. ثم قاموا بعد ذلك بتشكيل محافلهم الخاصة المحظورة على الإناث، وبدءوا بتحضير جيل جديد من النساء غير قادر على التواصل من جديد مع قوى السحر المخيفة، قابل لسلطة الرجال خاضع لهم.
40
هذا وتتحدث أساطير أخرى من أمريكا الجنوبية أيضا عن انقلاب ذكري ضد سلطة النساء اللواتي كن يحكمن بالسحر، دون أن يكون لهذا الانقلاب نفس الطابع العنيف. كما أن شيوع هذا النوع من الأساطير في أنحاء متفرقة من العالم ليشير بكل وضوح إلى مرحلة حقيقية من مراحل التاريخ البشري.
41
ولربما كان توكيد المرأة على نشاط السحر في المراحل المتأخرة من حياة المجتمعات الأمومية، هو نوع من الدفاع الأخير عن النفس، أمام تصاعد قوة الذكور واستعدادهم للانقضاض الحاسم. تقدم لنا مكتشفات العصر الحجري بينات واضحة على نشاط السحر الذي كانت تقوم به المرأة، والدور العملي الذي كان هذا النشاط يلعبه في حياة الجماعة. ففي نقش على الحجر من العصر الباليوليتي (الشكل رقم
8-2 )، نجد مشهدين جمعهما الفنان في حيز واحد. الأول مشهد يظهر الرجل في حقل الصيد، وسط مجموعة من الطرائد الكبيرة، مستعدا لإطلاق سهمه. والثاني مشهد يظهر المرأة في كهف تمارس طقسا سحريا من شأنه إمداد الرجل بالقوة والتأثير على الحيوان. تبدو المرأة في المشهد رافعة ذراعيها نحو الأعلى؛ لاستمداد الطاقة العشتارية الخفية وتمثلها في داخل جسدها، وإطلاقها من ثم عبر بوابة رحمها في قناة خفية، تتصل بالمنطقة الجنسية للرجل الضارب في البراري، فتسري فيه وتعطيه الغلبة على الطرائد الشرسة. وقد قام الفنان بإظهار المرأة أكبر حجما من الرجل ومن حيوانات الصيد؛ وذلك للدلالة على قيمتها وعلو مكانتها، تماما كما يقوم أطفال اليوم بإظهار الأب في رسومهم أكبر حجما من كل المحيطين به.
شكل 8-2: ساحرة العصر الحجري - العصر الباليوتي - شمال أفريقيا.
ويتكرر مشهد الصيد الممتزج بمشهد نشاطات السحر الأنثوية في عدد آخر من الأعمال الفنية للعصر الحجري، وصولا إلى عتبات عصور الكتابة. ففي رسم على الفخار من مصر يعود إلى الألف الرابع قبل الميلاد (الشكل رقم
8-3 ). نعثر على مشهد مماثل لمشهد العصر الحجري الآنف الذكر، رغم ألوف السنين الفاصلة بينهما. فهناك حقل واسع يرتع فيه عدد كبير من الطرائد، وأربعة رجال متأهبين بأسلحتهم؛ بينهم ثلاث نساء يمارسن نشاط السحر برفع الذراعين نحو الأعلى. ورغم تداخل أشكال النساء مع عناصر المشهد، فإن حيز الرسم يجمع بين مكانين متباعدين: هما حقل الصيد ومكان إقامة الطقوس. تبدو المرأة هنا أيضا أكبر حجما من الرجل ومن الحيوانات على حد سواء، مع التركيز على منطقة الحوض جريا على التقاليد الفنية للعصر الحجري السابق.
شكل 8-3: الساحرات والصيد - مصر، الألف الرابع ق.م.
هذا وتقدم لنا الفترة التاريخية نفسها عددا كبيرا من الأشكال الأنثوية في أوضاع مشابهة، وهي أشكال تمثل الأم الكبرى في حالة ممارسة السحر، أو كاهناتها. كما تتضح القيمة السحرية لذراعي المرأة المرفوعتين في عدد من الأشكال الأنثوية الفخارية التي تعود إلى عصر تل العمارنة (أواسط الألف الثاني ق.م.) في مصر. وفي أحد هذه الأشكال، وهو محفوظ في متحف بروكلين، نجد رجلين يقومان بإسناد ذراعي المرأة المرفوعتين؛ وذلك لإطالة مدة وقوفها على هذه الهيئة وإدامة فترة تأثيرها السحري. وقد حفظ لنا كتاب التوراة ممارسة سحرية مشابهة قام بها موسى الذي لم يكن قد مضى على مغادرته مصر وقت طويل عندما واجه شعب العماليق. وإذا كانت ممارسات موسى السحرية في مصر أمام الفرعون قد تمت بعون الرب، فإن ممارسته خلال حرب العماليق كانت ممارسة سحرية بحتة، لا تعتمد القوى الإلهة. نقرأ في سفر الخروج: «وأتى عماليق وحارب إسرائيل في رفديم. فقال موسى ليشوع: انتخب لنا رجالا واخرج حارب عماليق، وغدا أقف أنا على رأس تلة وعصا الرب في يدي. ففعل يشوع كما قال له موسى ليحارب عماليق. وأما موسى وهارون وحور فصعدوا على رأس التلة. وكان إذا رفع موسى يده أن إسرائيل يغلب، وإذا خفض يده أن عماليق يغلب. فلما صارت يدا موسى ثقيلتين ، أخذا حجرا ووضعاه تحته فجلس عليه، ودعم هارون وحور يديه الواحد من هنا والآخر من هناك، فكانت يداه ثابتتين إلى غروب الشمس، فهزم يشوع عماليق وقومه بحد السيف.»
42
إن ما كانت تقوم به نساء العصر الحجري من طقوس سحرية لمدد الرجال بالقوة في حقول صيدهم، قد استمر في عادات وطقوس القبائل البدائية الحديثة؛ ففي جزيرة مدغشقر إلى عهد ليس بالبعيد، كانت نساء القبيلة إذا توجه رجالهن إلى الحرب، يبدأن رقصا طقوسيا لا يهدأ ليل نهار؛ اعتقادا منهن أن مثل هذا الرقص الطقوسي يهب الرجال في ساح المعركة البأس والشجاعة والحظ الحسن. وفي ساحل العاج ومناطق أخرى من أفريقيا الغربية، إذا خرج الرجال إلى القتال قامت النساء بدهن أجسامهن باللون الأبيض، وزين أنفسهن بالريش وقرون الثور وأشياء غريبة أخرى، وشرعن بحركات طقوسية سحرية. وفي كولومبيا كانت نساء الهنود الحمر في المناسبات المشابهة يرقصن وفي أيديهن نصال مشحوذة يمثلن بها عملية قتل الأعداء، ليتجلى فعلهن السحري على أرض القتال حقيقة، ويقتل رجالهن أعداءهم. وفي كاليفورنيا كانت نساء قبائل اليوكي يقمن حلقة رقص دائري لا تهدأ طالما كان رجالهن غائبين في الحرب؛ لأن فتور حركة الرقص يضعف همة الرجال في القتال، بينما يشدها استمراره وحرارته.
43
في كل مكان وفي كل ثقافة عزا الناس إلى النساء استعدادا فطريا للسحر وقدرة على ممارسته.
44
وإذا كانت الثقافة الذكرية التي بلغت قمتها في المجتمعات الرأسمالية الحديثة، قد طمست كل ما يذكر بخصائص القوة عند المرأة، فإن القبائل البدائية الحديثة ما زالت رغم طابعها الذكري الغالب تعزو للمرأة السيطرة على القوى الخفية ومن بينها السحر، وتربط بين قدرة النساء على السحر وعلاقتهن الغامضة بالقمر. فهنود أمريكا الشمالية وشعوب الإسكيمو على حد سواء يعتقدون بأن القمر هو مصدر لكل قوة سحرية.
45
وتعتقد قبائل التتار في آسيا الوسطى، أن النساء لا يستطعن ممارسة السحر إلا مرة في كل شهر، حين يكون القمر هلالا في يومه الأول. وفي ساحل العاج يستعمل القوم كلمة واحدة للدلالة على السحر وعلى القمر. ويجري الاعتقاد لدى قبائل كثيرة وفي أماكن متباعدة من العالم أن القمر هو الذي يهب للمرأة قدرتها على إتيان السحر، ولذلك تستلقي النساء الساحرات تحت القمر ساعات طويلة لامتصاص قوى القمر .
46
وفي أوروبا القرون الوسطى كانت تهمة السحر لا تلصق إلا بالنساء، وحتى القرن السابع عشر نجد بعض المؤلفات الدينية مهتمة بتفسير ظاهرة استعداد النساء الفطري لممارسة السحر من دون الرجال.
47
هذا القمر الذي يمد النساء بقدراتهن الخفية هو الأم الكبرى سيدة الأسرار وربة القوى الغامضة، التي تتجلى في أبهى أشكالها تحت اسم هيقات وإيزيس؛ ففي ثقافة اليونان استقطبت الربة القمرية هيقات خصائص الأم الكبرى الساحرة؛ فهي سيدة السحر بشتى أشكاله وأنواعه،
48
وكل عمل سحري يجري بمعونتها واستلهام قوى الظلام التي تسيطر عليها.
49
وفي مصر، تبقى على مر العصور اسما يبعث في النفس رهبة الغوامض والخفايا والعوالم السرانية. تقص أسطورة مصرية كيف حصلت إيزيس على سلطتها المطلقة من يد الإله الأكبر رع، بواسطة قواها السحرية الخارقة. فالإله رع قد كبر وغدا طاعنا في السن، حتى إن لعابه صار يسيل خارج فمه المتدلي. ولكنه بقي سيدا للسموات والأرض بقوة اسمه السري الذي لا يعرفه أحد. وكانت إيزيس تتوق إلى الصعود إلى مرتبة السيد الأكبر رع كحاكمة للكون وسيدة للآلهة، فأحكمت خطة تجبر الإله رع على إفشاء سره لها. قامت إيزيس بمزج لعاب الإله رع بتراب الأرض، فصنعت حية من طين نفخت فيها الحياة وأرسلتها في طريقه، فعضته في ساقه ودفعت سمها في جسده. سرى السم في جسد الإله، فدعا كل آلهة الأرض والسماء لشفائه دون جدوى. ثم حضرت إليه إيزيس التي تعبق أنفاسها بنسمة الحياة، وتطرد تعاويذها كل الآلام، فعرضت على كبير الآلهة شفاءه مقابل أن يفشي لها باسمه السري. ولكنه تهرب من ذلك قائلا: أنا من خلق السماوات والأرض، من رفع الجبال وملأ البحار وأسدل الأفقين. أفتح عيني فأصنع نهارا وأغلقهما فأصنع ليلا، وبأمري يرتفع ماء النيل ثم ينحسر. في الصباح اسمي خيبيرا، وفي الظهيرة اسمي رع، وفي المساء اسمي توم. ولكن إيزيس تقول له: إن أيا من هذه الأسماء ليس هو اسمه السري، وتمتنع عن علاجه. وعندما تصل آلام الإله حدا لا يطاق، يرضخ لمشيئة إيزيس، ولكنه لا ينطق باسمه السري، بل يجعله ينتقل من قبله إلى قلب إيزيس دون كلام؛ كيلا يسمع به أحد غيرها. وهنا تقوم إيزيس باستخدام تعاويذها السحرية لطرد السم من جسد رع، وتحوز بذلك على جميع قوى الإله الأكبر بانتقال اسمه السري إليها.
50
الفصل التاسع
تموز الخضر
كانت عشتار، كما أشرنا في مواضع أخرى سابقة، أول قوة إلهية توجه إليها الإنسان بالعبادة، وكانت تماثيلها أول صورة مقدسة نحتها. وقد استمرت عبادة القوة الإلهية في شكلها الأنثوي خلال العصر النيوليتي، الذي شهد منذ مطلعه ازدهارا لصور الأم الكبرى، مترافقا مع ظهور المستوطنات الزراعية الأولى. إلا أنه خلال الألف السابع ق.م. تبدأ التماثيل الذكرية المقدسة بالظهور على نطاق ضيق جدا، وبشكل مترافق مع التماثيل الأنثوية التي بقيت سائدة. وبذلك يبدأ التمهيد تدريجيا لظهور الثنائي الإلهي: الأم الكبرى وابنها، الذي سيأخذ أولى صوره الواضحة مع مطلع الألف السادس ق.م. في ثقافة شتال حيوك جنوب الأناضول. ففي شتال حيوك التي أخذت أبعادها كشبه مدينة مع مطلع الألف السادس قبل الميلاد، تبدأ ملحمة الإله الذكر في تاريخ المعتقد الديني الإنساني. فرغم بقاء الأم الكبرى المركز الأساسي لديانة هذه المستوطنة، فإن بعض صورها تبدأ بإظهار الإله الذكر إلى جانبها. وهذا الإله الذكر هو ابن الأم الكبرى وزوجها في آن معا.
1
تمثله المنحوتات الجدارية على هيئة ثور يولد من رحم الأم الكبرى، كما هو الحال في الشكل رقم (
3-12 ) من فصل عشتار القمر الذي يمثل الأم الكبرى في شكل تبسيطي تلد الإله الثور. وفي الشكل رقم (
7-3 ) من فصل عشتار السوداء الذي يمثل بنفس الأسلوب التبسيطي، الأم الكبرى المزدوجة في نفس الوضع، وفي الشكل رقم (
9-1 ) الموضح أدناه، حيث يبلغ الأسلوب التبسيطي مداه الأقصى، وتتحول الإلهة المزدوجة إلى عمل فني أشبه بأعمال النحت الحديث. أما في الشكل رقم (
9-2 ) فإن الإلهة تعود إلى شكلها المألوف الذي عهدناه في تماثيلها التقليدية التي تبالغ في التوكيد على مناطق الخصوبة وإظهارها. فنراها جالسة على عرش تحمله الحيوانات، وهي تضع مولودها الذي يبرز رأسه بين ساقيها لحظة الميلاد . وقد يظهر الإله الذكر في بعض منحوتات شتال حيوك في هيئة الرجل الناضج، ولكن دون أن يعطي انطباعا برهبة الألوهة؛ مما يدل على أن الفنان قد أراد التوكيد على الدور الثانوي للإله الذكر وتبعيته للإلهة الأم.
شكل 9-1: الأم المزدوجة وابنها الثور - شتال حيوك.
شكل 9-2: الأم الكبرى تضع طفلها - شتال حيوك.
هذه العائلة المقدسة لديانة شتال حيوك، لا تتألف من أربعة آلهة، كما يبدو للناظر لأول وهلة؛ إذ يعتقد أنه أمام أم وابنة، وأب وابن، بل تتألف في الواقع من إلهين وأربعة تجليات؛ فهناك الأم الكبرى في وجهيها، وهي الأم التي ستظهر فيما بعد في حضارة كريت تحت اسم «السيدتين»، وفي اليونان تحت اسم ديمتر/بيرسفوني، وهناك الابن الذي يلعب في الوقت نفسه دور الزوج المخصب.
2
ولقد بحثنا بالتفصيل دلالة ازدواج الإلهة الأم في فصول سابقة، أما ازدواج الإله الابن، وقيامه بدور الوليد الإلهي والزوج المخصب، فيجد تفسيره في معتقد الإلهة الواحدة للعصر الحجري. فوفق هذا المعتقد، لا يمكن أن يظهر إلى جانب الأم الكبرى إله آخر، إلا إذا كان ناشئا عنها مولودا من رحمها. وعندما وصل التطور داخل المجتمع النيوليتي والديانة النيوليتية حدا كان لا بد معه من ظهور إله مذكر، لم يكن هذا الإله إلا ابنا للأم الكبرى، أنجبته لتخصب به نفسها. وقد بقيت هذه العلاقة قائمة بين الأم الابن في الديانات العشتارية اللاحقة، رغم ما أصابها من تطور وتغير. ولعل هذه الفكرة ستغدو للقارئ أقل تجريدا، إذا نحن دعمناها بمزيد من الأمثلة المأخوذة من الأعمال التشكيلية. ففي الشكل رقم (
9-3 ) وهو تمثال للأم الكبرى وابنها من مستوطنة هيجيلار بجنوب الأناضول، التي تنتمي للثقافة السورية النيوليتية الشمالية، نجد الأم الكبرى في وضعية الجلوس، وقد احتضنت إلى صدرها ابنها، الوليد الإلهي الصغير. أما في الشكل رقم (
9-4 ) وهو تمثال من نفس الموقع، فنجد الأم والابن في وضع المجامعة الجنسية الواضحة. وفي كلا الدورين اللذين يلعبهما الإله الابن، في هذين العملين التشكيليين المعبرين، يبدو الإله الذكر طفلا أبديا للأم الكبرى، ودوره الجنسي كحبيب مخصب للإلهة، لا يعطيه ميزة عليها بل على العكس من ذلك؛ لأن سيطرة المرأة في العملية الجنسية تبدو واضحة تماما، ويظهر العمل الفني اسيتعابها للعاشق الذي يلعب حتى في الفعل الجنسي دور الابن التابع المعتمد على أمه اعتمادا مطلقا.
شكل 9-3: الإله الذكر في دور الابن - جنوب الأناضول، الألف السادس ق.م.
شكل 9-4: الإله الذكر في دور الحبيب - جنوب الأناضول، الألف السادس ق.م.
لم يكن انشطار عشتار إلى ذكر وأنثى بالفكرة الجديدة تماما على المعتقد الديني النيوليتي، فعشتار في طورها الأوروبوري البدئي كدارة مغلقة مكتملة، كانت تحتوي في صميمها على بذرة السالب والموجب، اللذين نشأ عن حركتهما الكون المتولد عن الأم الكبرى. وفي تجليها الثاني كأم للطبيعة المادية بشتى مظاهرها، بقيت عشتار تحمل في جوهرها بذرة الذكورة والأنوثة؛ لأن كمال الألوهة في جمع الضدين. فكانت الإلهة الواحدة أنثى كونية، وكانت في الوقت نفسه تنطوي في داخلها على بذرة الذكورة التي انفصلت فيما بعد، وأعطت الإله الابن الذي لم يكن في الواقع إلا القوة الإخصابية الذاتية للأم الكبرى معكوسة نحو الخارج. لذلك نجد إنسان الثقافة النيوليتية في الشرق القديم، يرسم إلهته الأم أحيانا في هيئة مؤنثة ومذكرة في آن معا. ففي الشكل رقم (
9-5 ) نجد تمثالا من موقع «تيب سراب» في سفوح زاغروس، شرقي بلاد الرافدين، يمثل الأم الكبرى في وضعية الجلوس وقد استعاضت عن ساقيها بقضيب ذكري كامل. أما الشكل رقم (
9-6 ) فنجد تمثالا للأم الكبرى من موقع تل الرماد بسوريا، يمثلها في هيئة ثنائية الجنس.
شكل 9-5: الأم الكبرى المخنثة - زاغروس، الألف السادس ق.م.
شكل 9-6: الأم الكبرى المخنثة - سوريا، تل الرماد، الألف السادس ق.م.
هذه العلاقة بين الأم العذراء التي ولدت ابنها دون نكاح، ثم تزوجته لتستعيد إلى ذاتها قوتها الإخصابية التي غدت مشخصة في الخارج، هي التي تفسر إشارة النصوص الأسطورية والطقسية فيما بعد إلى الإله الابن؛ ابن الأم الكبرى أحيانا، وزوجها أو حبيبها أحيانا أخرى. ورغم أن كل الآلهة الذكور في الثقافة الذكرية قد نشئوا عن الإله الابن ، ثم اتخذوا لأنفسهم شخصيات مستقلة، وارتفعوا نحو السماء ناكرين أصلهم الأرضي، إلا أن هذا الإله قد بقي ابنا لعشتار، محافظا على وضعه القديم كظل للأم الكبرى، مكمل لها، حامل جزءا من صفاتها وصلاحياتها. فهو «دوموزي» في سومر، و«تموز» في بابل، و«أدونيس» في سوريا، و«أوزوريس» في مصر، و«آتيس» في فرجيا وروما، و«ديونيسيوس» عند الإغريق. وكل هؤلاء يلعبون دورهم المزدوج كأبناء وأزواج. ففي نصوص بلاد الرافدين على سبيل المثال، نقرأ على لسان إنانا عددا من المزامير الموجهة لدوموزي الحبيب. تقول له في إحداها: «الحبيب التقى بي، فقضى مني وطرا وقضيت. وجاء بي إلى بيته فأضجعني على سرير العسل وقام بفعل الحب خمسين مرة ...»
3
في نصوص أخرى يشار إلى تموز على أنه الزوج، كما هو الحال في نص هبوط عشتار إلى العالم الأسفل، حيث نقرأ في آخر النص على لسان إريشكيجال: «أما زوجها الشاب، فخذوه واغسلوه بماء طهور وضمخوه بالعطور الطيبة ...» وفي ملحمة جلجامش كذلك، حيث نقرأ في خطاب جلجامش لعشتار: «على تموز زوجك الشاب قضيت بالبكاء عاما إثر عام ...» أما في بكائيات عشتار على تموز القتيل فيظهر تموز على أنه الإله الابن، حيث تصرخ عشتار ومعها الندابات: «ويلي يا دامو ... ويلي عليك يا بني ...»
4
وفي نص سومري عن إنانا النائحة على دموزي نقرأ:
ناحت إنانا على عريسها الفتى:
لقد مضى زوجي الحبيب،
لقد مضى ابني الحبيب.
5
ولقد بقي في علاقة السيد المسيح بأمه العذراء أثر من هذا التقليد القديم، بعد أن ارتقت العلاقة المزدوجة إلى مستويات روحانية سامية. نقرأ للقديس مار فرام السرياني في إحدى أناشيد الميلاد على لسان السيدة العذراء:
كيف أدعوك أيها الغريب عنا والذي صار منا؟
هل أدعوك ابنا؟ هل أدعوك أخا؟ هل أدعوك خطيبا؟
هل أدعوك ربا؟
أنا أخت من بيت داود،
وأنا أم من أجل الحبل بك،
وأنا خطيبة من أجل قدسك.
6
وفي بعض صلوات الطقس البيزنطي نقرأ: «أيتها السيدة عروس الله. العذراء النقية الطاهرة التي لا عيب فيها ولا فساد ولا دنس. يا من بولادتها العجيبة وحدت الإله-الكلمة، والبشر.»
7
وفي بعض المدائح المريمية نقرأ: «السلام عليك أيتها العذراء عروس الله يا منعشة آدم ومميتة الجحيم. السلام عليك يا منزهة من كل عيب، يا بلاطا للملك الأوحد. يا عرشا ناريا للقدير ...»
8
منذ الألف السادس قبل الميلاد، يبدأ هذا الزوج الإلهي بالانتشار في البؤرة الحضارية الأولى، ثم يجتازها تدريجيا في جميع الاتجاهات حتى يصل شواطئ العالم الجديد بعد عدة آلاف من السنين. إن موضوع العذراء والطفل، الذي يعالجه الشكل رقم (
4-3 ) من فصل عشتار الخضراء، والذي يمثل عشتار البابلية في وضعية الجلوس وفي حضنها الوليد الإلهي، هو استمرار لموضوع العذراء والطفل، رغم ثلاثة الآلاف عام الفاصلة بينهما. ولسوف يتكرر هذا الموضوع في جميع ثقافات الشرق القديم وبحر إيجة وقبرص. وتكاد بعض الأعمال التشكيلية التي تعالجه، تكون نسخة طبق الأصل من بعضها، رغم الفاصل الزمني والتباعد المكاني، كما هو الحال في الشكلين رقم (
9-7 ) ورقم (
9-8 ) الذي يبدو أحدهما وكأنه نسخة معدلة عن الآخر رغم الفارق الزمني الذي يصل إلى ألفين من السنين.
شكل 9-7: العذراء الكونية وابنها - نقش معدني، كريت 1500ق.م.
شكل 9-8: الرعاة يقدسون المسيح ليلة الميلاد، إيطاليا 600 بعد الميلاد.
يبدو الإله الابن في ثقافة كريت وبحر إيجة، أكثر أقرانه قربا للإله الابن في المستوطنات النيوليتية. ويرجع ذلك، كما أشرنا مرارا، إلى احتفاظ الثقافة الكريتية بطابعها الأمومي القديم، وإلى انهيارها المفاجئ على يد الفاتحين القادمين من البر اليوناني، قبل اكتمال الانقلاب الديني الذكري فيها. فمنذ بداية هذه الثقافة وحتى تدميرها لم تعبد سوى الأم الكبرى وابنها، الذي يبدو في الأعمال التشكيلية، أحيانا كطفل صغير، وأحيانا أخرى كشاب يافع.
9
وكما هو الأمر على البر الأسيوي المقابل، فإن الثور كان منذ البدء رمزا لهذا الإله الابن، ولعب دورا كبيرا في الديانة الكريتية وطقوسها، التي لا نعرف عنها الكثير بسبب وصولها إلينا محورة من خلال الأساطير الإغريقية.
10
ولعل في أسطورة الميناتور الكريتي ساكن قصر التيه، التي ليست إلا ذكرى باهتة لطقوس عبادة الثور في كريت، مثالا على هذا التحوير . على أن الأمر الأكيد حول ديانة كريت، هو استمرار الإله الذكر ابنا للأم الكبرى الواحدة لتلك الديانة، وعدم تحويله إلى شخصية إلهية مستقلة تبتدئ معها التقاليد الدينية الذكرية بالترسخ، كما حدث في الثقافات الأخرى، التي أتاح لها الوقت تحقيق انقلاباتها الكاملة. وإذا كان لهذا الإله الكريتي أن يحقق استقلاله الذكري وبناء شخصيته البطريركية، فإن ذلك سوف يحدث على البر اليوناني الذي ارتحل إليه جموع الفاتحين من أشباه البرابرة، الذين عادوا به إلى موطنهم عقب تدمير الحضارة الكريتية العظيمة، أواسط الألف الثاني ق.م.
إن دراسة متأنية لأساطير الأصول الإغريقية، من شأنها أن تكشف لنا عن كيفية نشوء آلهة الأوليمب الذكور، عن الإله الابن للمجتمع الأمومي السابق. ففي البدء،
11
ظهرت الإلهة الأم، الأرض جايا، من العماء الأول، وأنجبت ابنها الأول أورانوس الذي جعلته ندا لها، فكان السماء التي تغطيها من كل جوانبها. ثم إن جايا اقترنت بابنها وأنجبت الجيل الأول من الآلهة. ولكن أورانوس كان يخشى تزايد قوة أولاده في المستقبل وتهديدهم لسلطته، فكان كلما ولد له ابن سجنه في أعماق الأرض، دون أن تجدي معه توسلات جايا ودموعها من أجل أولادها. وبمرور الوقت وتزايد عدد الأولاد المسجونين، قررت وضع حد لطغيان أورانوس، فرسمت خطة بالتعاون مع ابنها الجريء «كرونوس» للتمرد على الأب. زودت جايا ابنها بمنجل حاد من صنعها وجعلته يكمن قرب مخدعها، وعندما جاء أورانوس ساحبا وراءه ستار الليل لينام في مخدع زوجته، قام إليه ابنه فخصاه بالمنجل ورمى بأعضائه التناسلية إلى البحر، ورفع نفسه سيدا للكون. ولكن الحكاية ذاتها تتكرر في الجيل التالي من الآلهة. فكرونوس يتزوج من الإلهة «رحيا» (وهي شكل آخر من أشكال الأرض جايا) وتأخذ زوجته بالإنجاب. ولكنه كان يبتلع أولاده حال ولادتهم مدفوعا بنفس الخوف الذي لاحق والده من قبله. ويستمر الحال على ذلك ، إلى أن تلد رحيا ابنها الأخير «زيوس» فتهرب به إلى كريت حيث تخبئه هناك، بعد أن تدفع إلى زوجها بحجر ملفوف في قماط فيبتلعه على أنه الوليد الجديد. وعندما يكبر زيوس، يرجع إلى أبيه فيجره عن عرش السماوات دافعا به إلى ما وراء المحيطات ويعتلي عرشه.
إن بعض جوانب قصة الانقلاب الديني الذكري تكمن خلف الشكل المزخرف لهذه الأسطورة الإغريقية. فأورانوس إله السماء الأعلى الذي أنجبته الإلهة الأم ثم تزوجته، لم يكن في أصله إلا تموز ديانة المجتمع الأمومي الأسبق، ابن الأم وحبيبها المخصب. ثم جاءت جماعة الذكور المنتصرة فرفعته أبا مستبدا، وحلت سلطة الأب وسيطرته محل حنو الأم، وغابت صورة الأم التي تحضن طفلها لتظهر صورة الأب الذي يسجن أولاده أو يبتلعهم. ولم يكن الصراع بين الابن وأبيه في كل جيل، سوى انعكاس للصراع بين العناصر الأمومية والعناصر الذكرية في ثقافة لم تصل بعد مرحلة الاستقرار. ولكن الصراع كان يميل دوما لمصلحة الاتجاه الذكري؛ لأن الإله الابن الذي تحاول الأم إنقاذه، يتحول بدوره إلى طاغية يكرر دور أبيه. ومن الجدير بالذكر أن زيوس الإغريقي الذي يمثل الجيل الثالث من الآلهة، وأمه رحيا، هما بالذات الأم الكريتية رحيا وابنها زيوس، اللذان تركزت حولهما ديانة كريت وبحر إيجة، التي لم تندحر أمام المد الديني البطريركي، إلا بعد اجتثاثها من أرضها وحملها إلى بلاد الإغريق.
وكما ارتفع آلهة الإغريق الذكور، فسكنوا السماء مبتعدين عن أمهم الأرض، كذلك فعل من قبلهم آلهة السماوات العلى في الشرق الأدنى القديم منذ مطلع عصور الكتابة. ففي سومر، نجد الإله «آن» والإله «إنليل»، وفي بابل نجد «آنو» و«مردوخ»، وفي آشور نجد «آشور»، وفي سوريا نجد «إيل»، وفي مصر نجد «رع». إلا أن طغيان الديانات البطريركية لم يقض على ديانة الأم العذراء ووليدها الإلهي التي بقيت تستقطب العاطفة الشعبية الدينية، وبقي الناس يقدمون الولاء لآلهة السلطة، ويكنون الحب لعشتار وابنها. وعندما انتصرت المسيحية أخيرا وقامت فوق بحر من العبادات المتناحرة، حققت التسوية النهائية بين الإله الأب سيد السماء، والإله الابن ربيب الأرض. فهبط الإله الأب من عليائه، وصار جنينا في رحم العذراء الأرضية، ثم ولد وعاش بين الناس، ومات ثم بعث راجعا إلى سمائه.
ما هي الملامح العامة لهذا الإله الابن؟ وكيف نشأت وتطورت صلاحياته واختصاصاته؟ إن الوثائق الفنية لعصور ما قبل الكتابة، لتقدم الدليل الواضح على أن هذا الإله لم يكن موضع عبادة بمعزل عن أمه. لقد عاش حياته كلها ظلا للأم الكبرى، يمارس قسما من صلاحياتها واختصاصاتها التي انفردت بها قبله، ولكن تحت رعايتها وبمعونتها. فهو وجهها الآخر، وشقها الذكري الذي كان كامنا فيها منذ الأزل، ثم انفصل عنها شكلا ولكنه بقي جزءا منها فعلا. وإذا كانت الأم الكبرى قبل ظهور الابن تحمل في بعض صورها التركيب الأنثوي والذكري معا، فإن ابنها بدوره سوف يحمل ذات التركيبين، ويعيش حياته «ابن أمه»، الفتى الرقيق الحميل ذا الملامح الأنثوية والجسد الطري الغض. فعشتار وتموز هما في الحقيقة أقنومان لا إلهان مستقلان؛ اثنان في واحد، وواحد في اثنين.
أخذ الإله الابن عن أمه خصائصها القمرية؛ فهو الآن الثور السماوي ابن القبة المعتمة، الذي تظهر قرونه عند الأفق ليلة ميلاد القمر الجديد، ثم يبدأ بالصعود لينهي دورة حياة مقدارها ثمانية وعشرون يوما، فيموت ويبعث في اليوم الثالث من بين الأموات. ورغم قيام الميثولوجيا الذكرية برفع آلهة مذكرة جديدة للقمر، كالإله «نانا» في سومر والإله «سن» في بابل، فإن الخصائص القمرية القديمة للإله الابن بقيت تدل على نفسها عن طريق الإشارة والرمز. فقرون الثور النيوليتي بقيت تزين رءوس أبناء الأم الكبرى حتى العصور المتأخرة، ونجدها على وجه الخصوص في تماثيل الإله الكنعاني بعل. أما الإله دوموزي أو تموز فتطلق عليه النصوص لقب الثور الوحشي. فها هي «إنانا» تناجيه بهذا الاسم في أحد مزامير العشق: «أطلق سراحي أيها الثور الوحشي لأعود إلى بيتي ... ماذا عساني أقول لأمي؟» وعندما يلقنها دوموزي ما عليها أن تقول لأمها يدعوها للبقاء قائلا: «هذا ما تقولينه لأمك، بينما نمرح في حضن الهوى ... تعالي، سأهيئ لك سريرا رخصا حيث نقضي أعذب الأوقات.»
12
وفي مصر القديمة نجد اسم الإله الابن «أوزوريس» إذا أعيد إلى جذوره القديمة فإنه يعني سيد القمر،
13
وكان من ألقابه «آزر-آه» الذي يعني أوزوريس القمر. ولعلنا واجدون في أسطورة هذا الإله ودورة حياته ما يشير إلى خصائصه القمرية. فهو قد عاش ثمانية وعشرين عاما فقط، وفي ذلك إشارة إلى دورة القمر الشهرية المؤلفة من ثمانية وعشرين يوما. وعندما قتله أخوه «سيت» قطع جسده إلى أربع عشرة قطعة، بعثرها في أماكن متفرقة، ثم جاءت زوجته إيزيس فبحثت عن القطع وجمعتها إلى بعضها ونفخت فيها الحياة. وفي ذلك إشارة إلى أجزاء القمر التي يفقدها يوما فيوم، أثناء هبوطه إلى العالم الأسفل، خلال فترة التناقص المؤلفة من أربعة عشرة يوما، ثم استعادته لتلك الأجزاء خلال فترة التزايد. وقد كان المصريون يحتفلون في اليوم الأول من الشهر القمري يوم ظهور الهلال، وفي اليوم الخامس عشر منه وهو يوم ابتداء فترة القمر المتناقص. إضافة إلى ذلك، فإن الرمز القمري لأوزوريس يتجسد في ثوره المقدس «آبيس»، الذي يعتبر روح أوزوريس الحية على الأرض، والذي ولد من بقرة أخصبها شعاع القمر. وكان هذا الثور المقدس يعامل خلال حياته على أنه الإله نفسه، وتقدم له فروض العبادة والتقديس بما يليق بوضعه هذا.
14
فإذا مات حلت روحه الخالدة في ثور آخر، وقام الناس في طول البلاد وعرضها بالبحث عنه مسترشدين بعلامات فارقة تميزه. فهو أسود اللون تماما لا شية فيه، على جبهته مثلث أبيض، وعلى خاصرته صورة الهلال. فإذا تم العثور على مثل هذا الثور، تم اقتياده إلى معبده الخاص في مدينة ممفيس.
15
وفي آخر أشكاله كان أوزوريس، إبان حكم البطالمة في مصر، يدعى «سير ابيس». والاسم مؤلف من مقطعين؛ الأول «سير» أو «زير»، المختصر عن أوزوريس، والثاني: «ابيس» الثور. وتحت هذا الاسم انتشرت عبادته في الإمبراطورية الرومانية.
16
عبرت الأعمال التشكيلية عن الرموز القمرية للإله الابن بطرق شتى، ففي الشكل (
9-9 ) نجد أوزوريس القمر في نهاية سلم مؤلف من أربع عشرة درجة، هي درجات صعود القمر وهبوطه، وهي في الوقت نفسه أجزاء أوزوريس التي تفقد ثم يتم جمعها في كل شهر. وفي الشكل رقم (
9-10 ) نجد أوزوريس يجلس على عرشه داخل قرص القمر البدر وأمامه الإله حورس. وفي أعلى الصورة نرى الهلال في يومه الثاني، وأمامه اثنتا عشرة نجمة تشير إلى المراحل الباقية التي توصل إلى القمر الكامل. وعلى اليسار إيزيس، وفي الأسفل الإله التمساح «سيبيك» يحمل على ظهره مومياء الإله القتيل. أما الفن الإغريقي؛ فقد رسم الإله ديونيسيوس في كثير من الأحوال في هيئة ثور كامل، كما هو الحال في الشكل رقم (
9-11 ) حيث نرى الثور ديونيسيوس والنعم الثلاث ترقص بين قرنيه، وفوقه تصطف سبعة نجوم تشير إلى الرقم القمري المقدس.
شكل 9-9: درجات القمر الأربع عشرة، أو أجزاء أوزوريس المفقود.
شكل 9-10: أوزوريس القمر - نحت بارز.
وقد واصل الإله الثور رحلته غربا من الشرق الأدنى القديم، إلى أن حط الرحال عند حواف العالم القديم وشواطئه، حيث حافظ على اسمه السامي «ثو». ففي الثقافة الإسكندنافية القديمة، كان الإله «ثور» ابنا للأم-الأرض، وربا للرعد والعاصفة والأمطار ونظام الطبيعة، نراه في الأساطير والرسوم متمنطقا بمطرقة هائلة يحطم بها جليد الشتاء، ليطلق الربيع من أعماق الأرض في كل عام، ويركب عربة تجرها التيوس الجامحة التي ينحرها كلما جاع ليتغذى بلحومها، ثم ما يلبث أن يعيدها إلى الحياة من جديد. من مآثره التصدي للمردة التي كانت تهدد نظام الكون، وصراعه مع أفعى البحر الهائلة «مجدادا». وكان يوم الخميس لدى الإسكندنافيين القدماء، يوما مقدسا للإله «ثور»، فيه تعقد الزيجات، وقد بقي اسم ذلك الإله يطلق على يوم الخميس في نص اللغات الأوروبية، كما هو الحال في اللغة الإنكليزية، التي تطلق على يوم الخميس اسم
Thursday
المحور عن
Thur’s day
أي: يوم الثور. ويقابل الإله ثور لدى الجرمان، الإله «دونار» الذي يتمتع بنفس الوظائف والخصائص، وأطلق اسمه على يوم الخميس المعروف باسم «دونر-ستيج».
17
شكل 9-11: ديونيسيوس الثور - رسم إغريقي.
إضافة إلى خصائصه القمرية التي استمدها من أمه، فإن الإله الابن قد بدأ تدريجيا منذ ظهوره ، بمشاركتها أيضا خصائصها كربة للإنبات ودورة الزراعة. ورغم أننا لا نعرف الكثير عن الأسطورة النيوليتية المتعلقة بالإله الابن، فإن بمقدورنا أن نتلمس خطوطها العريضة؛ اعتمادا على الأساطير المدونة لعصور الكتابة الأولى؛ ذلك أن النصوص التي سارع الإنسان إلى تدوينها عقب اكتشاف الكتابة الأولى، لم تكن إلا استمرارا لتقاليد شفهية موغلة في القدم، حافظت على عناصرها الأساسية، رغم ما اقتضته مراحل التطور المتعاقبة من تعديل في الشكل والصياغة. فتموز، الثور القمري، قد غدا مثل عشتار الخضراء إلها للنبات ودورة الزراعة؛ فهو تموز الخضر (الأخضر)، رب الإنبات والدورة الزراعية، الإله الحي الميت، والميت الحي، الذي يهبط إلى باطن الأرض في الخريف، ويبعث من عالم الظلمات مع قدوم الربيع، ساحبا وراءه خيرات الأعماق وبركات الرحم المظلم الذي خرج منه. ولكن مهمته هذه لا تنجز بقواه الذاتية بل لا بد من معونة عشتار له. فعشتار التي كانت تهبط درجات العالم الأسفل وحيدة وتصعد وحيدة، هي الآن من يدفع بتموز إلى العالم الأسفل لابتداء دورة الزراعة، وهي من يستعيده إلى الحياة لإكمال هذه الدورة. إن الدور الذي يلعبه هذان الإلهان في أساطير الخصب منذ أن أنجبت عشتار ابنها، هو دور واحد متكامل؛ لأنهما في الأصل وفي المستويات السرانية للأسطورة ليسا إلا وجهين لقدرة إلهية واحدة. فإلى جانب الأعمال التشكيلية التي أظهرت لنا انبعاث عشتار من باطن الأرض وحيدة في الربيع (الشكل رقم
4-2
والشكل رقم
4-7 ، فصل عشتار الخضراء)، تظهر لنا أعمال تشكيلية أخرى أن الإله الابن هو الذي ينبعث من باطن الأرض في الربيع ومعه أولى سيقان الزرع الخضراء. ففي الشكل رقم (
9-12 ) أدناه، وهو رسم إغريقي على الخزف، نجد إله الخصب يخرج من الأرض عبر تلة مرتفعة، ترفرف إلى جانبه ربة الانتصار المجنحة «فيكتوريا» رمز انتصاره على الموت، ومن جانب التلة تنمو أول نبتة مورقة. وفي رسوم أخرى، نجد رأس الأم والابن معا يطلان من باطن الأرض ويصعدان جنبا إلى جنب.
شكل 9-12: بعث الإله الابن - رسم إغريقي على الخزف.
هذا الدور المتكامل للأم والابن، قد عبرت عنه الأسطورة بأكثر من شكل وطريقة. فالأم ديمتر في الأسطورة الإغريقية، هي التي اكتشفت زراعة القمح ولكن ربيبها الشاب تريبتليموس، هو الذي قام بنشره في شتى أنحاء العالم بتوجيهها ومساعدتها ؛ فقد عمدت ديمتر إلى تجهيز عربة تجرها التنانين المجنحة، وأسلمت تريبتليموس أول حزم القمح، ولقنته كيفية زراعتها وحصادها وصنع الخبز منها، ثم طلبت منه أن يطير في الاتجاهات الأربعة لنشر فنون الزراعة وتحضير البشر.
18
ومثل تريبتليموس في نشر خيرات الأم الكبرى في جميع أنحاء العالم، إله الخصب المصري أوزوريس. فهذا الإله هو الذي نقل المصريين، كما تقول الأسطورة، من مستوى الوحوش البرية إلى مستوى البشر، وذلك عن طريق تعليمهم زراعة القمح وأكل الخبز. بعد أن بنى أوزوريس المدن في مصر وسن الشرائع والقوانين ووضع أسس العبادات المنظمة، تركها في مهمة مشابهة لمهمة رسول ديمتر، لكي ينشر الحضارة في كل مكان على الأرض.
19
إن مثل هذه الأساطير لتحفظ لنا بشكل صاف ذكرى القفزة الحضارية الكبرى التي حققها الإنسان باكتشافه القمح وأكله الخبز، فلقد كان الرغيف برزخ العبور من مرحلة الهمجية إلى مرحة الحضارة. وفي ملحمة جلجامش، كان أول عمل قامت به المرأة التي قادت بيد إنكيدو من حياة البرية إلى حياة المدنية، أن جعلته يتذوق الخبز الذي غدا بعد أكله بشرا سويا: «وضعوا أمامه خبزا فارتبك. فإنكيدو لا يعرف شيئا عن أكل الخبز وشرب الشراب القوي، ففتحت المحظية فمها قائلة لإنكيدو: كل الخبز يا إنكيدو، عماد الحياة هو. وخذ الشراب القوي فهو عادة أهل البلاد ...»
20
لذلك كان الإله الابن في أسطورته النيوليتية إلها للقمح بشكل خاص، بل كان القمح جسده، وكان هو للقمح روحه. فقبل أن ترتفع الآلهة إلى السماء لتتحكم في مظاهر الطبيعة عن بعد، كانت جزءا لا يتجزأ من مظاهر الطبيعة، وكل ما في الطبيعة كان إلهيا مقدسا، ودنيويا ماديا، في آن معا.
إن أول صرخة تضرع أطلقها الإنسان للقوى الإلهية لم تكن صرخة عابد يطلب خلاص الروح، بل صرخة جائع يطلب حفظ الحياة في الجسد. وكان حقل القمح الأول هو المسرح البدائي الطبيعي، الذي جرت عليه أسطورة الإله الميت الحي، الحي الميت، الذي دخل في إسار الدورة الزراعية السنوية مقدما للبشر خلاصا من الجوع.
القمح القتيل
تقدم لنا إحدى أساطير الهنود الحمر في أمريكا الشمالية، مدخلا لرسم الملامح العامة لأسطورة الإله الابن النيوليتية. فهذه الأسطورة وأمثالها من أساطير الثقافات البدائية الحديثة قد حفظت لنا الكثير من العناصر الأصلية لأساطير العصور الزراعية الأولى؛ تقول الأسطورة: «إنه في سالف الأيام كان الهنود الحمر يعيشون على صيد الحيوانات البرية والاغتذاء بلحومها، دون أن يعرفوا الزراعة وأكل الخبز. ثم جاء وقت تناقصت فيه حيوانات الصيد وعز الحصول عليها، الأمر الذي دفع بالناس إلى حافة المجاعة. وكان لسيد إحدى القبائل ابن شاب في ريعان الصبا، دائم التفكير في «الروح الكبرى» التي تتحكم في مجرى حياة البشر وتدير حركة الكون، وفي حكمتها الخافية عن إدراك الناس، وكان يعمل ذهنه ليل نهار في البحث عن حل ينقذ به شعبه من الهلاك. وما لبث الفتى طويلا حتى بلغ السن الذي ينذر فيه فتيان القبيلة للروح الكبرى صوما مقداره سبعة أيام، فينتجعون مكانا قصيا يقضون الوقت في العبادة والتأمل. فآلى الفتى على نفسه أن تكون فترة صومه مناسبة لتوطيد صلته بالروح الكبرى، ولمزيد من التفكير في طريقة لتلافي الكارثة المحدقة. كان يخرج كل يوم من معتكفه عند أطراف القرية، فيجوس البراري والغابات متأملا مختلف أنواع الأعشاب والأشجار، متفكرا في سر نموها وتجددها. وفي اليوم الثالث لصومه وتجواله هبط عليه من السماء شاب غض الإهاب، وسيم الطلعة، يرتدي عدة أثواب طباقا، متدرجة ألوانها بين الأصفر الفاتح في الخارج، والأخضر الغامق في الداخل، ويضع على رأسه قبعة على شكل حزمة من الريش. وقف أمامه وأعلمه عن هويته قائلا بأنه رسول من عند «الروح الكبرى» بعثت به لغوث البشر، وتعليمهم أساليب جديدة في تحصيل القوت، تغنيهم عن حياة الصيد ولحوم الحيوانات، وإنه مكلف بإطلاعه على السر الكبير بعد فترة تحضيرية محددة، ثم طلب منه أن يتقدم لمصارعته في منافسة ثنائية ، وذلك كمقدمة للاختبار الذي سوف يستمر بضعة أيام. تحامل الفتى الذي أنهكه الصيام على نفسه، ودخل في صراع مع الرسول استمر ساعات طويلة دون أن يتغلب أحدهما على الآخر، ثم توقف الرسول معلنا انتهاء فاصل اليوم، وغادر صاحبه على أن يأتيه في اليوم التالي. وهكذا تكرر لقاء الاثنين وصراعهما حتى اليوم السابع من أيام صيام الفتى، عندما جاءه الرسول قائلا: إن صراع اليوم هو الأخير، وإنه سوف يموت في نهايته، وأن على الفتى أن ينظف قطعة صغيرة من الأرض، فينتزع منها الجذور والأشواك، ثم يحفر فيها حفرة يدفنه فيها ويردم التراب الناعم ويدعه في سلام. ثم يتردد عليه بعد ذلك مرة في كل شهر، فيزيح من فوق تربته الأعشاب ويمزجها بتربة جديدة، وذلك إلى عدة شهور يعود بعدها إلى الحياة، ويعرف الفتى السر الذي أرادت الروح الكبرى نقله إلى البشر. وهكذا انتهى الصراع فعلا بموت الرسول، فقام الفتى بتنفيذ تعليماته حرفيا، فدفنه بالطريقة التي أوصى بها، وراح يزوره في كل شهر ويعتني بتربة قبره، وذلك حتى أواخر الصيف؛ حيث أخذت تزيح التراب من باطن الأرض نبتة صغيرة، تطاولت شيئا فشيئا حتى صلب عودها، وحملت أكواز الذرة الذهبية التي يشبه كل واحد منها ذلك الرسول السماوي القتيل، لابس الأثواب المتعددة التي تتدرج في ألوانها من الأصفر إلى الأخضر، والقبعة ذات الأرياش الطويلة.
21
لا تختلف هذه الأسطورة في هيكلها العام وبواعثها ومراميها عن أسطورة الإله الابن في العصور النيوليتية. فاكتشاف الزراعة بالنسبة لإنسان العصر الحجري، لم يكن نتيجة فعل بشري، بل نتيجة عون سماوي. وسنبلة القمح الأولى التي زرعها، لم تكن إلا جسد الإله الابن القتيل الذي أرسلت به الأم الكبرى إلى العالم الأسفل، من أجل ابتداء دورة الزراعة والحفاظ على استمرارها؛ فهو الإله الحي؛ الميت الحي الذي يهبط إلى باطن الأرض في الخريف، ثم يعود ساحبا وراءه خضرة الربيع، مكملا دورة حياته السنوية التي تركزت حولها حياة المستوطنات الأولى ودياناتها وطقوسها. هذه الأسطورة بشكلها البدائي البسيط المختلط بالطقس، هي الأساس الذي بنيت عليه فيما بعد أساطير إله الخصب الميت ابن الأم الكبرى، بشتى أشكالها وتنوعاتها، بعد انتقال عشتار وابنها من حقول قمح المستوطنات الزراعية الأولى، إلى المدن الكبيرة التي بدأت بالتوطد مع بدايات عصور الكتابة. إلا أن زارع القمح قد بقي وفيا لطقوسه وممارساته القديمة بعيدا عن سفسطة كهان المعابد، وتعقيد الحياة الدينية، وجنوح أساطيرها نحو الكلمة المنمقة والرمز المثقل. فحتى وقت متأخر من تاريخ الحضارات في الشرق القديم، كان زارعو القمح يمارسون طقوسا شبيهة بطقوس المزارع النيوليتي، عندما كان يندب في الصيف روح القمح القتيل الذي قضى تحت مناجل الحصادين، ثم يحتفل بعودته إلى الحياة في الربيع. فإذا كان النواح على تموز في معابد المدن الكبرى قد اتخذ أشكالا ومضامين دينية مختلفة، فإنه في حقل القمح قد حافظ على أصله القديم كنواح على سنابل القمح الجافة، جسد الإله، الذي يقدم نفسه طائعا للموت.
تروي المصادر الإغريقية أن المسافرين اليونان عبر الحقول السورية إبان الحصاد، كانوا يسمعون صرخات تفجع عالية، يطلقها الحصادون وهم يرددون، وفق إيقاع، كلمة آيلينوس ... وفي تفسير معنى كلمة آيلينوس، تذهب تلك المصادر إلى القول بأن آيلينوس كان فتى غضا رباه أحد الرعاة، ولكنه ما لبث أن مات ميتة قاسية؛ إذ انقضت عليه كلابه ومزقته إربا؛ فالمزارعون يندبونه منذ ذلك الحين. إلا أن تحليل الكلمة اعتمادا على اللغات السامية يشير إلى أنها مؤلفة من مقطعين هما آي - لانو، وتعني «وا أسفا علينا»
22
أو الويل لنا. وتشبه إلى حد بعيد صرخة الفجيعة التي تطلقها الندابات في سوريا اليوم وهي «ولي علينا». إن الرواية الإغريقية ليست إلا محاولة لتفسير طقس الندب في حقل الحصاد. وليست أسطورة الفتى آيلينوس إلا زخرفة، على الطريقة الإغريقية، لأسطورة إله القمح القتيل الذي يلقى مصرعه تحت وقع المناجل، وتبريرا لطقوس التفجع التي كان الحصادون السوريون يمارسونها، بنفس الطريقة التي مارسها من قبل حصادو العصر النيوليتي، والذين ما زلنا إلى اليوم نستعمل صرختهم ذاتها. إن صرخة «ولي علينا ... ولي ...» التي يسمعها المار من قرب منزل حلت به مصيبة في أي حي شعبي في سوريا، هي من أكثر الصرخات في كل اللغات تعبيرا عن حس الفجيعة الصادر من الأعماق. وكلما ارتفعت بها حناجر الندابات، في نغمها المأساوي الممدود، تلتقي أصداؤها عند آخر مدى للصوت، بأصداء أخرى زاحفة من أعماق التاريخ فوق كل مواسم القمح: آيلينو ... آيلنيو ... آي.
وفي مصر كما يروي المؤرخ الإغريقي هيرودوتس، كانت صرخة التفجع ذات الإيقاع المأساوي الحزين التي كان الحصادون يرددونها إبان الحصاد، من أقدم الألحان التي يمكن للمصريين تذكرها، ولربما كانت أول أغنية غنوها. وفي مقابل كلمة آيلينوس التي كانت تسمع في سوريا وفي قبرص أيضا، كان الحصادون المصريون يرددون كلمة «مانيروس» التي فسرها المؤرخ بقوله: إن مانيروس كان أول ملوك مصر، وهو الذي اكتشف الزراعة وعلمها للمصريين، ولكنه مات وهو في ريعان الصبا؛ فالناس يتذكرونه وينوحون عليه في كل موسم حصاد. إلا أن كلمة «مانيروس» إذا حللت إلى مقاطعها المكونة في اللغة الهيروغليفية وهي: «ما-ني-هرا» فإنها تعني: عد إلى بيتك.
23
والحصادون إنما يندبون الإله نفسه الابن القتيل، روح القمح، الذي تحول فيما بعد إلى أوزوريس أو تموز أو آتيس، الإله اليافع الذي مات في زهوة الشباب، ويطلبون منه أن يعود إلى بيته ويصحو من موته في الربيع.
وفي فرجيا بآسيا الصغرى، الموطن التقليدي للأم الكبرى سيبيل وابنها آتيس، كانت صرخة الحصادين المشابهة لمثيلاتها في سوريا وقبرص هي «ليتريسيس»، وهنا تكرر الروايات اليونانية قصة الميتة القاسية للفتى اليافع أو الملك الشاب. فليتريسيس كان ابن الملك ميداس، ملك فرجيا، وقد لقي مصرعه على يد هرقل الذي قطع رأسه بالمنجل ورمى بجثته إلى النهر. وتفصيل الأسطورة: أن ابن الملك كان شابا ذا قوة هائلة وبأس عظيم، وكان حصادا ماهرا لا يجاريه في سرعة الحصاد أحد. فإذا مر بحقله أحد الغرباء أدخله فقدم له الطعام والشراب، ثم خرج به وأجبره على الدخول معه في منافسة لحصد القمح، فكان إذا سبقه، وهذا ما كان يحدث على الدوام، قام إليه فأدرجه داخل حزمة من سيقان القمح وقطع رأسه بمنجل الحصاد، ثم بسط جسده في الحقل مدة، يلقي به بعدها إلى مياه النهر. وقد قضى ليتريسيس على عدد كبير من الرجال بهذه الطريقة، إلى أن مر بحقله هرقل، ودخل معه في منافسة هزمه فيها، وقتله بنفس الطريقة التي كان يقتل بها ضحاياه.
24
سنتوقف قليلا عند هذه الأسطورة الأخيرة؛ لأننا سوف نبني عليها هيكلا متماسكا من التفسيرات، يلقي ضوءا على طقوس القمح القتيل، ومفهوم القربان البشري في ديانات الخصب القديمة. ففي أسطورة ليتريسيس عناصر جديدة لم نصادفها فيما سبق من شبيهاتها. فإذا كان تفسيرنا السابق عن الشاب القتيل في ريعان الصبا صحيحا، فإن ما نضيف إليه هنا، هو أن الرواية اليونانية قد فهمت الأسطورة والطقس في فرجيا بشكل معكوس؛ ذلك أن ليتريسيس لم يكن هو الذي مات ميتة ضحاياه السابقين؛ بل إن الضحايا في حقل القمح هم من كان يموت ميتة الإله الابن، روح القمح الذي قضى تحت مناجل الحصادين. والأسطورة تحتوي على أثر من طقس موغل في القدم، كانت بموجبه القرابين البشرية تقدم في حقل القمح، وتقتل بنفس الطريقة التي مات بها الإله الابن؛ فروح القمح التي رأيناها في فصل عشتار الخضراء، تتحرك في حقل القمح أمام الحصادين، إلى أن تلقى مصرعها في حزمة القمح الأخيرة التي حلت فيها، هي التي تقتل طقسيا في شخص القربان البشري الذي يلف داخل حزمة القمح، ويقطع رأسه بالمنجل، ثم يبسط في الحقل لإخصابه، وأخيرا يرمى إلى الماء للإيحاء بمواسم ممطرة قادمة. إن إعادة بناء هذا الطقس القديم انطلاقا من أسطورة ليتريسيس لا تبدو مجرد افتراض تخيلي، إذا نحن قدمنا للقارئ بعض العادات الشعبية والألعاب الفلكلورية التي كانت موجودة لدى الحصادين في أوروبا إلى عهد قريب جدا. فطقوس القمح القتيل الموغلة في القدم، قد أخذت تتلاشى بمرور الزمن لتحل محلها ممارسات رمزية تشير إلى أصولها السابقة، ثم تلاشت هذه بدورها لتغدو فلكلورا شعبيا يتخذ طابع اللعب والمرح، وترويحا عن النفس خلال موسم الحصاد المضني. إن مسابقات الحصاد في أسطورة ليتريسيس والقبض على الغريب وقتله ورميه في الماء، كلها عناصر سوف تظهر في الفلكلور الشعبي بشكل ملفت للنظر. وسنعمد فيما يأتي إلى إغناء الأمثلة التي أوردناها في فصل عشتار الخضراء حول هذا الموضوع.
في فرنسا، وإلى عهد قريب، كان الحصادون يأخذون حزمة القمح الأخيرة، فيجعلونها على شكل امرأة يرقصون حولها وينادون باسم «سيريس» (التي هي ديمتر). فإذا انتهوا قتلوا الدمية بأن أضرموا النار فيها، وراحوا يدعون إلى الأم-القمح أن تعطيهم غلالا وفيرة. وفي مناطق أخرى من الريف الأوروبي كان الحصادون يأخذون حزمة القمح الأخيرة فيجعلونها على شكل كتلة كبيرة يضعون في داخلها حجرا يجعلها أكثر ثقلا، وذلك إيحاء بمواسم وفيرة للعام المقبل، وكانوا يدعون هذه الكتلة بالأم الكبرى. فإذا انتهوا من رقصهم ومرحهم مع انتهاء الحصاد، أضرموا النار في الكتلة. وقد يربط حاصد الحزمة الأخيرة إلى تلك الحزمة، ويشار إليه على أنه روح القمح. وفي ذلك تمثيل نباتي وإنساني مزدوج لروح القمح التي تم الإمساك بها في ملجئها الأخير، وهنا يعامل الحصادون زميلهم الموثق إلى الحزمة معاملة قاسية قد تصل إلى حد الإيذاء أحيانا. وقد ترمى الحزمة إلى الماء لاستجلاب المطر أو تحرق ويذر رمادها فوق الحقول لإخصابها. وفي ممارسات أخرى يتم القبض على روح القمح بعيدا عن الحقل في مكان الدرس، حيث التجأت بعد هربها من عصف المناجل واختبأت في مكان تجميع الحصاد. وهناك تقتل تحت ضربات الدراسين. وهنا يؤخذ صاحب الضربة الأخيرة في عملية الدرس، فيربط إلى آخر حزم القش ويطوف به زملاؤه في طرقات المدينة وسط تهكم الناس وضحكاتهم.
25
من أجل ذلك كان الحصادون يتسابقون في الحقل ومكان الدرس، وكل واحد يحاول ألا يأتي آخر الحصادين أو الداسين؛ لأن روح القمح إذ ذاك سوف تحل فيه، وعندها يلقى من زملائه معاملة تختلف باختلاف الأمكنة وتنوع العادات؛ فقد يطاف به في عربة مكشوفة تطوف طرقات القرية، وقد يربط إلى حزمة القمح ليعاني اللكز والوخز، وقد يرش بالماء، أو يرمى به إلى مياه النهر، أو يلقى كل هذه الصنوف مجتمعة. ففي بعض المناطق كان حاصد الحزمة الأخيرة يدرج بداخلها فلا يبدو منه رأس أو قدم، ثم يحمل على الظهور فيطاف به بين تهليل رفاقه وصراخهم، وقد يحمل الأخير في الحصاد، في آخر عربة راجعة إلى القرية على أنغام الموسيقى، وهنا يقوم رفاقه بدحرجته على الأرض حول مخزن الحبوب، ويقوم آخرون خلال ذلك برشه بالماء. وقد تخضع المرأة التي تضم الحزمة الأخيرة من حزم القمح، إلى معاملة لا تختلف عن معاملة الرجال المتخلفين في حصاد الحزمة، حيث تلقى صنوفا من اللكز والوخز، ثم تربط إلى الحزمة وتدعى بدمية القمح.
26
ومن الممارسات ما هو أقرب إلى تمثيل قتل روح القمح التي تحل في حزمة القمح الأخيرة أو فيمن يحصدها؛ ففي بعض مناطق ألمانيا كانت حزمة القمح الأخيرة تربط وتترك قائمة في الحقل، ثم يتقدم إليها حصاد شاب فيشحذ منجله ويصرعها بضربة قوية فتتهاوى وتتبعثر. وفي مناطق أخرى، يصنع الحصادون دمية من عيدان القمح، ويأخذونها معهم إلى مكان الدرس، حيث توضع تحت آخر كومة قمح معدة للدرس وهي الكومة التي تتلقى ضربة الدراس الأخيرة، الذي يعتبره زملاؤه قاتل روح القمح. وقد تجمع زوجة صاحب الأرض إلى الحزمة الأخيرة في مكان الدرس، وتجري عملية درسها ثم توضع في المذراة، ويجري تمثيل عملية تذريتها باعتبارها ممثلة لروح القمح.
27
هذا وقد يجري تمثيل القبض على روح القمح باعتبارها حالة في غريب عابر يمر قرب حقل القمح، أو في زائر أو في سيد الأرض نفسه لدى دخوله حقل الحصاد لأول مرة. ومثل هذه الممارسات كانت شائعة في جميع أنحاء ألمانيا، وفي بعض مناطق النروج وفرنسا. فكان الغريب يقاد إلى حقل الحصاد أو إلى مكان الدرس، حيث تربط إليه عيدان القمح ويشد وثاقه حتى يوافق على دفع فدية نقدية. وفي هذه الأثناء يقوم الآسرون بشحذ مناجلهم والتلويح بها في وجهه كمن يستعد لقطع عنقه. وقد يردد الحصادون حول الضحية أهازيج تتصل بالطقس القديم عندما كان الغريب يضحى به فعلا في حقل القمح؛ من ذلك قولهم: «الرجال جاهزون والمناجل مسنونة. القمح طويل وقصير، والسيد يجب أن يحصد رأسه.»
28
إن هذه العادات التي كانت شائعة لدى حصادي العصر الحديث عند أواخر القرن التاسع عشر، لتظهر مشابهة ملفتة للنظر من أسطورة ليتريسيس. فهناك مباريات الحصاد، وربط الخاسر في المنافسة إلى حزمة القمح أو إدراجه فيها، ورشه بالماء أو رميه إلى النهر، والقبض على الغريب المار بقرب الحقل وتمثيل عملية قتله. كل ذلك يشير إلى أمرين، الأول: إن ممارسات الحصادين الحديثة هي استمرار لممارسات مزارعي العصر النيوليتي، بعيدا عن خط التطور المديني. والثاني: أن أسطورة ليتريسيس هي تفسير على الطريقة الإغريقية، لطقس كان قائما في ذلك الوقت في حقول الحصاد في الشرق الأدنى القديم. ورغم أن تقديم الأضاحي البشرية، كان قد توقف منذ زمن بعيد عندما وضع الإغريق روايتهم، فإن ما كان يجري في الحقل فعلا هو طقس يقدم دراما تمثل مقتل الإله الابن، روح القمح الذي حلت روحه في حاصد الحزمة الأخيرة، أو في غريب عابر. وهذه الدراما كانت في الأزمنة الأسبق، فعلا حقيقيا لا تمثيليا؛ إذ كان الحصادون يقدمون قربانا بشريا حقيقيا، يموت من خلاله الإله الابن، على المستوى العياني، موتا يجسد موته على المستوى الماورائي غير المنظور، فالإله الابن في المعتقد والطقس السابق لعصور الكتابة، كان يموت على ثلاثة مستويات متطابقة، يظهر بعضها بعضا. المستوى الأول: غيبي؛ حيث يتم موت الإله في المجال المقدس غير المنظور. المستوى الثاني: طبيعي؛ حيث يمثل القمح جسد الإله القتيل، وحيث ترفرف روحه في حزمة القمح الأخيرة. المستوى الثالث: إنساني؛ حيث يموت الإله من خلال جسد بشري من لحم ودم حلت فيه الروح المقدسة المستعدة للهبوط إلى العالم الأسفل، وحيث يتم تمثيل ما يجري على المستويين الأوليين بشكل واقعي يستقطب كل الشحنات الانفعالية، من حزن على الإله ورأفة بجسده الذي بذله لخلاص الجميع، وأمل في عودته التي يتوقف عليها معاش البشر. وأخيرا تنتهي التراجيديا التموزية بنزول السكينة على قلوب العباد، فجسد القربان البشري الذي مثل موت الإله سيتحول إلى أوكسير ينعش الأرض، ودمه سيصير أمطارا تروي التراب. أما الإله الميت فسوف يعود إلى بيته كما عودهم دائما «ماني-هرا»، وسوف يبعث من مرقده حقا وصدقا. لذلك كان إله الخصب الميت «زيبي» في حضارة الآزتيك بأمريكا الوسطى، ما زال ينشد عند اقتحام الأوروبيين للعالم الجديد:
ربما سأموت، أتلاشى وأغيب،
أنا عود القمح الطري،
ولكن قلبي جوهرة خضراء،
لذا سأعود أخضر، كما كنت،
ولسوف يولد البطل مرة أخرى.
29
وقبل ذلك في بلاد الرافدين كانت الأنشودة البابلية تنادي تموز، الذي سيمضي مختارا إلى عالم الظلمات من أجل ظهور سنابل القمح مرة أخرى:
انهض أيها البطل وامض إلى عالم الظلمات،
ها هو يغيب، ها هو يغيب في حضن الأرض،
سيغمر عالم الأموات بالخيرات العميمة،
امض إلى الأرض البعيدة خلف مدى الأبصار.
30
فرغم أن الأساطير المدونة لعصر الكتابة تظهر أحيانا، أن الإله الابن قد هبط إلى العالم الأسفل مرغما، كما هو حال بيرسفوني التي اختطفها هاديس، ودوموزي الذي اختطفته عفاريت العالم الأسفل، إلا أن جوهر الاختيار يكمن عند المستويات السرانية للأسطورة، ويعبر عن نفسه في النصوص الطقسية التي لم يمسها كبير تحوير، كالنص الذي أوردته أعلاه. وها هو السيد المسيح، آخر إله ابن في سلسلة الآلهة المتناسلة من الابن-القمح، للعصر النيوليتي، يقدم في ميتته أنبل مثال عن الموت الاختياري من أجل خلاص البشر، ذلك الخلاص الذي بدأ خلاصا ماديا من الجوع، وانتهى خلاصا روحيا ودخولا في الأبدية. ورغم ألوف السنين الفاصلة بين القمح القتيل ابن الأم العذراء للعصر النيوليتي، وابن الأم العذراء لعالم اليوم، فإن الملايين من البشر حول المسكونة يرددون كل يوم مقاطع من الإنجيل تعيد ذكرى الصلوات النيوليتية الأولى. نقرأ في إنجيل يوحنا: «أنا هو خبز الحياة، من يقبل إلي لا يجوع، ومن يؤمن بي فلا يعطش أبدا ...» «أنا هو خبز الحياة. آباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا. هذا هو الخبز النازل من السماء؛ لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت. أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم.»
31
إن رغيف القمح النيوليتي ما زال قائما على مائدة البشرية الروحية.
لم يكن القربان البشري إذا، في بداية عهده، تقربا من الآلهة وطلبا لرضائها ومعونتها، بل كان تمثيلا لموت الإله نفسه. والقربان ما إن يختار ويخص لغاية التضحية، حتى يفقد صفته البشرية وتحل به الروح المقدسة المستعدة للموت. وهو إذ يتعذب ويموت، لا يلاقي مصيرا فرديا بائسا، بل إنه يشارك الروح الإلهية موتها وعذاباتها. ورغم تعقد الطقوس الزراعية فيما بعد، وابتعادها عن حقل القمح، فإن طقس القربان البشري، حيثما استمر في ديانات الخصب، لم يبتعد عن جوهره القديم. ولعل تحليل عدد من الأمثلة المأخوذة من ثقافات متباينة مكانيا وزمانيا، سوف يلقي ضوءا على هذه الفكرة.
في العالم الجديد، بقيت طقوس الخصب تقدم القربان البشري في المكسيك إلى ما بعد الفتح الإسباني بقليل. وتروي المصادر الإسبانية أن الآزتيك كانوا يحتفلون بعيد الخصب السنوي المكرس لآلهة الذرة في شهر أيلول (سبتمبر) من كل عام. وكانوا في ذلك العيد يختارون فتاة صغيرة في غاية الجمال يلبسونها زي إلهة الذرة، ويزرعون في شعرها باقة من الريش الملون، تشبيها بحزمة الليف التي تنبث في رأس كوز الذرة (قارن مع أسطورة رسول الروح الكبرى التي أوردتها في مطلع هذا الفصل)، ويحيطون عنقها بعقد أكواز الذرة، ويضعون على رأسها تاجا. بعد ذلك يضعونها على محفة مملوءة بحبات الذرة والبذور من كل الأنواع، ومزركشة حواشيها بأكواز الذرة وأوراقها، ثم يحملونها في موكب حافل إلى المعبد. هناك تنزل الفتاة، فيأتي النبلاء والنبيلات في صف واحد، وقد حمل كل واحد وعاء فيه دم مفصود من جسمه، فيسكبون ما في الوعاء تحت قدميها. ثم يردد الجميع وراء كبير الكهنة أدعية وصلوات وهم يبكون وينوحون ويندبون. فإذا انتهوا بسطوا جسد الفتاة على كومة من حبات الذرة والبذور الأخرى، وتقدم كبير الكهنة فقطع رأسها، وقام برش دمها على التمثال القائم لإلهة الذرة وعلى الحبوب والبذور. بعد ذلك يتم سلخ الجثة ، ويعطى جلدها إلى أحد الكهنة الذي يحاول إدخال نفسه فيه قدر المستطاع، ثم يأتونه بملابس الفتاة وكامل زينتها فيضعها عليه ويأخذونه فيسيرون به خارج المعبد في موكب صاخب على أنغام الطبول.
32
وهكذا يبدو الطقس بكامله تمثيلا لموت وبعث إلهة الذرة التي تموت من خلال الفتاة، وتبعث من خلال الكاهن الذي يلبس جلد الفتاة ويضع على نفسه زينتها من باقة الريش وعقد الأكواز وما إليها. ورغم أن طابع الدراما يغلب على الطقس، غير أن المشاركين فيه كانوا إذا بلغ الاحتفال أوجه واجتث رأس الفتاة، يرون في موتها فعلا موتا لربة الخصب، وفي تمثيل بعثها أملا في عودة حبيبات الذرة إلى الحياة كرة أخرى. إن الفرق بين هذا الطقس وأشباهه لدى الثقافات الأخرى وبين الطقس النيوليتي الأصيل، يكمن في أن الطقس النيوليتي كان خلوا من عنصر الدراما، وأن القائمين عليه كانوا يرون في إزهاق روح القربان البشري إزهاقا لروح الإله الذي تهاوى جسده تحت المناجل.
وتقدم لنا القارة الهندية كثيرا من الأمثلة على القربان البشري المقدس؛ ففي مناطق البنغال، وحتى وقت متأخر من القرن التاسع عشر، كان القربان البشري يقدم كل عام في عيد إلهة الأرض، فكانت الضحايا تشترى، من كلا الجنسين، من العائلات الفقيرة في سن صغيرة وتهيأ لهذا المصير. وعندما كان الشاري يستلم الضحية من أهلها كان يقول لهم: لقد قدمتم ابنكم للموت لكي يعيش العالم. ثم يؤخذ الطفل فيعتنى به عدة سنوات عناية كبيرة ويعتبر كائنا مقدسا. فإذا دنت الساعة، اقتيد القربان إلى غابة عذراء، لم تنل من أشجارها فأس من قبل، وهناك يربط إلى عمود خشبي ويضمخ بالعطور ويكسى بأفخر الحلل، وذلك على مرأى من الحشود المجتمعة التي تتدافع للتبرك بجسده المقدس. ثم يأتي الكاهن الأكبر فيجرح الضحية بفأس دون أن يقتلها، ويتقدم وراءه ممثلو المناطق، فينهالون عليها بسكاكينهم يقتطعون من جسدها قطعا، يحملونها معهم إلى قراهم حيث يقسمونها بالتساوي بين العائلات، لتدفن في الحقل أو تعلق في الهواء فوق مجرى الماء الذي يسقي الحقل، أما ما تبقى فيحرق ويذر رماده في الحقول.
33
لقد تحول جسد القربان، من جسد بشري عادي إلى جسد مقدس تنطلق منه قوى إخصابية إلهية، وهذا التحول لم يتم لأن الجسد البشري قد قدم لمرضاة الإلهة؛ بل لأن الإلهة نفسها في الطقس الأصلي هي التي حلت فيه وماتت من خلاله.
وفي أمريكا الشمالية، كانت بعض قبائل الهنود الحمر تقوم بتقديم قربان بشري من أحد الأسرى في العيد المخصص لكوكب الزهرة، فكان الأسير المنتخب يغذى بأفضل طعام مدة لا بأس بها، فإذا حل الوقت جاءوا به فألبسوه خير لباس وشدوا وثاقه إلى صليب خشبي، ثم قتلوه رميا بالسهام. بعد ذلك يتقدم الكاهن فيشق صدر الضحية وينتزع منها القلب ويلتهمه، ثم يقطع جسدها وهو ما زال دافئا إلى قطع صغيرة، توزع في سلال صغيرة على الأسر التي تأخذها لإخصاب حقولها، وهناك يقوم رب الأسرة بعصر قطع اللحم الطرية فوق حفنة من القمح لإخصابها قبل دفنها في التراب. ولدى هنود المكسيك، يتم قتل الضحية بين حجري الطاحونة في عيد الحصاد، وتدفن أشلاؤها في الحقل. ولدى بعض قبائل أفريقيا يجري استعمال أدوات زراعية أخرى كالمعازق والمجارف.
34
إن قيام الكاهن بالتهام قلب الضحية بعد قتلها، ليس بأية حال بقية من طقس سابق يتعلق بأكل لحوم البشر؛ لأن مثل هذه الطقوس لم تعرف قط عند الهنود الحمر، ولكنه طقس يهدف إلى التوحد بالإله عن طريق أكل الجزء النابض من جسده، الذي يمثله الآن جسد القربان. ولسوف نرى مثل هذا الطقس شائعا بأشكاله المتنوعة لدى كثير من الثقافات. أما قتل الضحية بين حجري الطاحونة، أو باستخدام الأدوات الزراعية؛ ففيه إشارة واضحة إلى أن القتيل ليس إلا ممثلا لروح القمح القتيل، التي حلت في الجسد البشري وماتت من خلاله.
إن بربرية هذه الطقوس، بمفهومنا العصري، يجب ألا تحجب عن أعيننا ما وراءها من رمز عميق. فالقربان البشري يمثل نقطة اللقاء بين الإنساني والإلهي، حيث يموت الإله في جسد بشري، ويموت الإنسان ميتة الإله. هذا الرمز قد يبدو أقل تعقيدا وبعدا عن المألوف ، إذا تلمسناه في تعبيره الأبهى، من خلال سيرة السيد المسيح؛ الإله الابن الذي استعار جسد الإنسان، ومات في شكل الإنسان من أجل خلاص العالم، مجسدا سعي الإنسان للالتقاء بالإلهي عبر تاريخ الحياة الروحية للبشر.
والآن كيف تطور معتقد هذا الابن، القمح القتيل، وكيف تحولت وتناسخت أسطورته الأولى خلال الأزمنة وعبر الأمكنة. هذا ما سنتعرض له بالتفصيل فيما يأتي من هذا الفصل.
عشتار وتموز
لم تحرر الألوهة نفسها من إسار الطبيعة دفعة واحدة، بل لقد حققت ذلك إثر عملية طويلة وبطيئة، استطاعت بعدها أن تنتقل من روح محركة للطبيعة من داخلها، متحدة معها، إلى قوة منفصلة عنها متعالية عليها متحكمة بها عن بعد، وذلك بتأثير القيم الذكرية التي بدأت تفرض نفسها تدريجيا داخل الثقافة. ففي شكلها الأقدم كانت عشتار روحا للنبات، تقضي جزءا من السنة في باطن الأرض، وجزأها الآخر في نسغ الحياة النباتية، إلهة مزدوجة تمثل العالمين، وتنتقل بينهما دون أن تفقد بانتقالها إلى واحد تأثيرها على الآخر. وعندما أخذت بالخروج من مملكة الطبيعة والتحول تدريجيا إلى سيدة لها، بدأت صورتها المزدوجة بالانقسام وظهرت بدلا عنها صورة الأم والابنة، حيث تابعت الأم مسيرتها نحو الأعلى لتأخذ مكانها أخيرا بين آلهة السماء، وتركت ابنتها حبيسة الحياة الطبيعة ودورة الإنبات السنوية. إلا أن هذا الانقسام لم يتم تكريسه نهائيا، وبقيت الأم ديمتر والابنة بيرسفوني في المستويات السرانية للأسطورة اثنتين في واحدة وواحدة في اثنتين. أما في الميثولوجيا التي لم يقيض لها أن تتابع خط تطورها الأمومي؛ فقد تحول شق عشتار الآخر إلى ابن أسلمته إلى دورة الطبيعة وتابعت مسيرتها مع آلهة الذكور نحو الأعلى، إلا أنها هنا أيضا قد بقيت متحدة معه عند المستويات السرانية للأسطورة، وبقي تموز شقها الآخر، وجانبها الذكري الكامن معكوسا نحو الخارج.
عند هذه النقطة من البحث أعتقد بأننا قد حللنا لغزا كبيرا من ألغاز الأساطير وديانات الخصب، وذلك بتوضيح العلاقة بين الإلهين الرئيسيين في دراما الخصب الكوني، هذين الإلهين اللذين بقيت خصائصهما ووظائفهما مختلطة، حتى في أذهان أصحاب الطريقة الأكاديمية في دراسة الأسطورة ممن يشيرون إليهما، وبكثير من الحرية، على أنهما إله وإلهة الخصب. إن إلهة الخصب وسيدة الطبيعة هي عشتار، وعشتار وحدها. أما تموز فإنه روح النبات التي تموت وتحيا في دورة مستمرة باقية، بمعونة روح الخصوبة الكونية التي يتوقف عليها إنعاش الابن القتيل واستعادته من العالم الأسفل.
إن أول نص مكتوب خطه الإنسان عن الأم الكبرى وابنها القتيل، هو نص الأسطورة السومرية المعروف بهبوط إنانا إلى العالم الأسفل. من هنا يمكننا اعتبار هذا النص تدوينا للأسطورة النيوليتية في شكلها الأخير الذي اتخذته عند أعتاب عصور الكتابة. ومن هنا أيضا يمكننا اعتبار العناصر الأساسية لهذه الأسطورة بمثابة النمط الذي ستنهج عليه الأساطير الموازية لبقية الثقافات. فالأم الكبرى ترسل بابنها (أو حبيبها) إلى العالم الأسفل، ثم تقضي الأيام في ندبه وبكاء روحه الغائبة. وعندما لا يجدي البكاء فتيلا، تتهيأ للشروع في رحلة طويلة للبحث عنه، وتخاطر بالنزول إلى العالم الأسفل لاستعادته وتحريره من قبضة سيدة الموت، فتفلح في مهمتها وتستعيده إلى الحياة من جديد. إلا أن عهده بالحياة في العالم الأرضي لا يدوم طويلا، ويهبط إلى العالم الأسفل من جديد مبتدئا دورة أخرى. هذه العناصر الأساسية المستمدة من نص الأسطورة، ومن الطقوس المرتبطة بها. ومجمل الإشارات إلى موضوعها في نصوص أخرى، ستظهر فيما بعد في أساطير متباعدة زمانيا ومكانيا؛ بعضها سيظهر بشكل واضح، وبعضها الآخر بشكل رمز وإشارة، فمسئولية إنانا المباشرة عن هبوط دوموزي إلى العالم الأسفل، قد لا تظهر في الأساطير الأخرى إلا تحت ستار كثيف من الرموز، مما سيجري الحديث عنه في حينه.
لدى تقديمنا مقاطع من أسطورة هبوط إنانا إلى العالم الأسفل في فصل سابق، توقفنا عند خروج الإلهة منتصرة على الموت وصعودها درجات العالم الأسفل. أما القسم الثاني من الأسطورة، فيصف طواف إنانا في البلاد بحثا عمن ينوب منابها في العالم الأسفل، وهو الشرط الذي وضعته إريشكيجال ربة الظلمات، لإطلاق سراحها وإعتاقها من الموت. فإذا كان الشرط في الماضي ينص على عودة الإلهة ذاتها بعد قضائها جزءا من السنة على سطح الأرض، وهو ما رأيناه في أسطورة ديمتر وبيرسفوني التي تنتسب مع أسطورة إنانا ودوموزي إلى أصل واحد، فإن الشرط الآن هو عودة البديل، الذي سوف يلعب من الآن فصاعدا دور روح النبات. ولضمان تنفيذ الشرط، ترسل إريشكيجال مع إنانا المتحررة، عفاريت لا تعرف الشفقة لجر البديل إلى عالم الظلام:
الذين تقدموها،
الذين تقدموا إنانا،
مخلوقات لا تعرف الطعام ولا تعرف الشراب،
ولا تأكل خبز التقدمات،
ولا تشرب من خمر القرابين.
تخطف الزوجة من حضن زوجها،
وتنتزع الطفل من صدر أمه الرءوم.
هكذا صعدت إنانا من العالم الأسفل.
يسير الموكب في طريقه إلى مدينة إنانا، وكانت العفاريت كلما التقت بواحد من حاشية الإلهة، عرضت عليها خطفه فداء لها، فكانت تجد لكل منهم صنيعا يشفع له، إلى أن وصلوا إلى مدينة كولاب مقر دوموزي:
في كولاب، وضع دوموزي عليه حلة فاخرة، واعتلى عرشه،
فانقضت عليه العفاريت وجرته من ساقيه.
انقضت عليه العفاريت كما تفعل مع الرجل العليل.
فانقطع الراعي (دوموزي) عن نفخ نايه.
ثم ركزت إنانا عليه أنظارها، ركزت أنظار الموت.
ونطقت ضده بالكلمة، نطقت بالكلمة التي تعذب الروح.
وصرخت في وجهه صرخة الاتهام:
أما هذا ... فخذوه.
وبذلك أسلمت إنانا الطاهرة دوموزي إلى أيديهم.
35
لقد حير موقف إنانا في هذه الأسطورة المفسرين والدارسين، فلماذا وقع اختيار الإلهة على زوجها وحبيبها الذي قضت معه أحلى أوقات الحب وأنشدته أعذب مزامير الهوى؟ ... إن التفسير ليغدو سهلا إذا رجعنا إلى أسطورة وطقس الأم الكبرى وابنها القمح القتيل؛ فالإله الابن لم يولد إلا ليسلم إلى الموت من أجل حياة البشر. وقد بقي هذا شأنه حتى آخر تجلياته وأعظمها. نقرأ في إنجيل يوحنا: «إذا كان قيافا رئيسا للكهنة في تلك السنة. تنبأ أن يسوع مزمع أن يموت عن الأمة، وليس عن الأمة فقط، بل ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد.»
36
وفي أسطورة مخصصة لوصف عذابات وموت الإله الابن، نجد دوموزي يهرب من عفاريت العالم الأسفل مختبئا بين الأعشاب الطويلة والقصيرة، هروبا يذكرنا بهروب روح القمح واختبائها بين السنابل، وها هو يتحدث إلى أخته قائلا:
أي صفيتي، سأختبئ بين الأعشاب،
فلا تخبري أحدا بمكمني.
سأختبئ بين الأعشاب القصيرة،
سأختبئ بين الأعشاب الطويلة،
سأختبئ بين القنوات والترع،
فلا تخبري أحدا بمكمني.
ولكن العفاريت تأتي إلى بيت أخته وتبدأ استجوابها عن مكانه، فيخشى دوموزي أن يصيب أخته شر على يد العفاريت، فيعود من تلقاء ذاته ويسلم نفسه إليهم، حيث ينقضون عليه ويوثقونه من يديه وقدميه، ويوسعونه ضربا بالعصي والسياط ويهيئونه للرحيل معهم. وهنا يتجه بالدعاء إلى أوتو إله الشمس، طالبا معونته، فيستجيب له ويحول يديه ورجليه إلى قوائم غزال فيفر هاربا مرة أخرى:
أي أوتو، أنت أخو زوجتي وأنا زوج أختك،
أنا الذي يحمل الطعام إلى معبد إنانا.
في مدينة إيريك قد أتممت زواجي.
فأنا من قبل الشفاه الطاهرة،
وعانق الجسد المقدس جسد إنانا،
فحول يدي إلى يدي غزال،
وحول قدمي إلى قدمي غزال،
حتى لا تطالني أيدي عفاريت الجالا.
ولكن العفاريت تلقي عليه القبض مختبئا في بيت إحدى الإلهات، وهناك تعاود ضرب وتعذيب الإله المنكود مجددا. ولكنه يهرب بمساعدة أوتو إلى حظيرة أخته وهناك كانت نهايته:
دخل الحظيرة العفريت الأول،
وضرب خدود دوموزي بمسمار طويل نفاذ.
وتبعه إلى الحظيرة العفريت الثاني،
فراح يضرب وجه دوموزي بعصا الراعي.
ثم دخل إلى الحظيرة العفريت الثالث،
وأزال ما في الممخضة ورماها خاوية.
وتبعه إلى الحظيرة العفريت الرابع،
فرمى الكوكب المقدس عن مشجب تعليقه.
ثم دخل إلى لحظيرة العفريت الخامس،
فحطم الممخضة الخاوية من اللبن،
وكسر الكوب، فدوموزي لم يعد من الأحياء،
وحظيرته قد راحت نهبا للرياح.
37
هذه العذابات والآلام، وهذه الميتة القاسية التي ماتها دوموزي، هي التي كان الحصادون وصولا إلى العصر الحديث، يمثلونها في حقول القمح، مع فارق أساسي وهو أن دراما الحصادين ليست مستمدة من أسطورة دوموزي أو أية أسطورة اتخذت شكلها في المدينة وبين جدران المعابد، بل هي مستمدة من الطقس الأول والأسطورة الأولى التي قامت عليها أسطورة دوموزي ذاتها.
إضافة إلى أسطورة هبوط إنانا، تتعدد الإشارات في النصوص الأخرى إلى مسئولية إنانا، أو عشتار، عن إرسال دوموزي أو تموز إلى العالم الأسفل. ففي ملحمة جلجامش، عندما يقف البطل الشمسي بكل عنجهيته الذكرية متحديا عشتار، يذكرها بمسئوليتها عن مصير تموز:
أي حبيب أخلصت له الحب إلى الأبد،
وأي راع أفلح في إرضائك على مر الأزمان؟
على تموز، زوجك الشاب،
قضيت بالبكاء عاما إثر عام.
في هذا النص إشارة إلى إرسال عشتار لزوجها إلى العالم الأسفل، كما أن فيه إشارة إلى الطقوس المعروفة عن بكاء عباد عشتار على تموز القتيل في كل عام، وهو البكاء الذي تشارك فيه عشتار نفسها، أو بالأحرى، الذي تبدأه عشتار نفسها وتشاركها فيه جموع الندابين. نقرأ في بكائية سومرية لإنانا:
لقد بكت السيدة بمرارة على زوجها،
لقد ناحت إنانا بمرارة على زوجها:
قضى زوجي بين سيقان النبات الأمامية،
قضى بين سيقان النبات الخلفية،
ذهب يبحث عن طعام فتحول إلى طعام،
38
وذهب يبحث عن ماء فأسلم إلى الماء.
39
غير أن البكاء وحده لا يعيد الإله الميت، ولا بد من قيام الإلهة نفسها بتخليصه من ربقة الموت، وذلك بالهبوط إلى العالم الأسفل واستعادته من إريشكيجال. هذا الهبوط تحدثنا عنه الأسطورة البابلية، التي تكرر أحداث أسطورة إنانا في معظم تفاصيلها، مع الفارق الأساسي وهو أن عشتار لا تحقق بنفسها انتصارا على الموت لكي ترسل تموز بديلا عنها، بل إنها تحقق لنفسها ولتموز، الذي هبطت من أجله، بعثا جديدا. نقرأ في ختام الأسطورة:
ثم التفتت (إريشكيجال) إلى وزيرها نمتار:
امض يا نمتار واقرع باب الإيجالينا،
زين العتبة بحجر الإيريتو.
استدع الأنوناكي، ودعهم يجلسون على عروشهم الذهبية،
ثم انضح عشتار بماء الحياة وخذها بعيدا، ...
أما تموز زوجها الشاب،
فخذوه واغسلوه بماء طهور وضمخوه بالعطور الطيبة،
ألبسوه عباءة ودعوه يعزف نايه اللازوردي،
ولتحط به كاهنات عشتار يهدئن من خواطره.
40
وبصعود روح النبات من العالم الأسفل، تتفجر الخضرة من أعماق الأرض، وتنبث المزروعات من كل لون وصنف، وتزهر أغصان الشجر اليابس، ويكتمل عيد الربيع في يومه الثالث، حيث يتحول بكاء العباد وعويلهم فرحا. لقد اطمأنوا الآن إلى الموسم الطيب وما عليهم سوى انتظار موسم الحصاد ليرسلوا بتموز مرة أخرى إلى أعماق الجحيم.
يشكل عيد الربيع السنوي البابلي، اختصارا لعيدين قديمين تم دمجهما في عيد واحد؛ هما عيد الحصاد الذي كان يتم في شهر يوليو، وهو الشهر الذي ما زال المشرق العربي يطلق عليه اسم تموز، حيث كانت تقام طقوس ندب تموز القتيل روح القمح، وعيد الربيع الذي كان يتم مع الانقلاب الربيعي، حيث كانت تقام طقوس الاحتفالات بعودة روح القمح القتيل إلى الحياة. ثم جرى تأخير الاحتفال الربيعي ليستقر حول الخامس والعشرين من نيسان (إبريل) ملخصا الاحتفالين معا في عيد مدته ثلاثة أيام؛ حيث يتم في اليوم الأول بكاء تموز الميت وتمثيل عذاباته وآلامه، بشكل يدفع جمهرة المحتفلين إلى هستريا جماعية، يتخللها إلى جانب النحيب والعويل، لطم الخدود وتمزيق الثياب وما إلى ذلك. وفي اليوم الثالث، عندما يعلن الكهنة قيام السيد من بين الأموات، ينقلب المأتم إلى عرس، وتبدأ احتفالات العيد الحقيقية، التي يتخللها السكر والمجون والرقص والموسيقى والممارسات الجنسية. إن مدة العيد المؤلف من ثلاثة أيام، لا تعكس فترة موت تموز واحتجازه في العالم الأسفل، فطقوس العيد ليست سوى دراما يستعيد فيها المحتفلون قصة عشتار وتموز، وهي بقية من طقس قمري قديم كان يتم في كل شهر، لمساعدة القمر على الظهور ثانية عند أفق المشرق، ثم صار يتم في كل عام لمساعدة روح النبات على قهر الموت. أما موعد العيد السنوي، حوالي الخامس والعشرين من نيسان؛ فقد بقي موعدا تجمعت حوله معظم أعياد أبناء الأم الكبرى، وصولا إلى عيد الفصح المجيد، ذكرى موت السيد المسيح وقيامه من بين الأموات.
وقد استمرت طقوس البكاء على تموز إلى وقت متأخر في الشرق الأدنى. ونجد ذكرا لها في التوراة، باعتبارها من الطقوس التي كان يمارسها اليهود في هيكل الرب، تقليدا لجيرانهم السوريين: «وقال ادخل وانظر الرجاسات الشريرة التي هم عاملوها هنا. فدخلت ونظرت، وإذا كل شكل دبابات وحيوان نجس وكل أصنام بيت إسرائيل مرسومة على الحائط على دائرة، وواقف قدامها سبعون رجلا من شيوخ بني إسرائيل، وكل واحد مجمرته في يده ... وجاء بي إلى مدخل بيت الرب الذي في جهة الشمال، وإذا هناك نسوة جالسات يبكين على تموز.»
41
وفي مدينة حران بسوريا، وهي المدينة التي حافظت على تقاليدها السابقة إلى ما بعد الفتح الإسلامي بفترة طويلة، كانت طقوس تموز ما زالت حية إلى القرن العاشر الميلادي، فبعض المصادر الإسلامية تذكر أن بعض الفرق الدينية في حران، كانت في شهر تموز تقيم عيد «البغاث»، وهو عيد النساء الندابات اللواتي كن يبكين الإله «تاعوز». وتمضي تلك المصادر في تفسير معنى الطقس فتقول: إن تاعوز كان شابا يافعا قتله سيده ثم طحن جسده بين حجري الطاحون وذرا أجزاءه في الهواء، ولذلك كانت النساء خلال العيد لا تأكل قمحا مطحونا، بل يقتصرن على الأطعمة النباتية.
42
وهكذا نجد المصادر التاريخية تقع في الخطأ نفسه، وتروي بعد ما ينوف عن الألف عام، القصة التبريرية نفسها عن الفتى الشاب الذي يموت ميتة قاسية في عز شبابه. إن تاعوز هنا ليس سوى تموز القمح القتيل، وليس امتناع النساء عن أكل القمح المطحون سوى امتناع عن أكل جسد الإله في عيده السنوي.
عستارت وأدونيس
لقد تزوج الإله الابن الأم الكبرى في وجهيها الأبيض والأسود، فعاش في أحضان عشتار جزءا من السنة، وفي كنف إريشكيجال جزء السنة الآخر. وإذا كانت أسطورة عشتار وتموز لا تظهر هذه الفكرة بشكلها الصريح؛ إذ يبدو تموز في العالم الأسفل رهينا لإريشكيجال ينتظر فك أسره، فإن عنصر زواج تموز من الإلهتين وتنافسهما من أجله يبدو واضحا في أسطورة عستارت وأدونيس الكنعانية.
إذا استثنينا الأساطير الأوغاريتية التي وصلت إلينا محفورة على ألواحها الطينة في حالة سليمة نسبيا، فإن معرفتنا المباشرة بأساطير الكنعانيين قليلة جدا. فجل ما نعرفه عنها منقول عن المصادر الإغريقية أو على لسان مؤلفين سوريين هلنستيين من الفترات المتأخرة؛ لذلك يجب أن نكون منتبهين للعناصر الإغريقية التي تبدو واضحة في بعض الأساطير، ومنها أسطورة عستارت وأدونيس. خصوصا وأن الإلهة عستارت الفينيقية هي التي غدت أفروديت الإغريقية، بعد أن أخذ اليونان عبادتها عن طريق جزيرة قبرص التي أنشأ السوريون أول حواضرها ، وأسسوا فيها عبادة عستارت، التي كان معبدها في مدينة «بافوس» يعتبر من المعابد المشهورة في العالم القديم، عندما كانت هذه المدينة مرتبطة مباشرة بملك بيبلوس الكنعانية.
تقول الرواية الإغريقية للأسطورة: إن أم الإله أدونيس قد حولت نفسها إلى شجرة عندما حملت به، ثم ولدته وهي في هذه الحال، فأتى طفلا ذا جمال لا حد له، فأحبته الإلهة أفروديت وهو طفل صغير فأخذته إليها. وفيما هي تستعد لغياب طويل، وضعت أدونيس في صندوق أحكمت إغلاقه خوفا على الصغير، ثم أودعت الصندوق لدى بيرسفوني إلهة العالم الأسفل، وغادرتها معتقدة أن بيرسفوني سوف تحافظ على الصندوق دون أن يدفعها فضولها إلى فتحه ومعرفة ما بداخله. وعندما عادت أفروديت من غيبتها، وجدت أن بيرسفوني قد فتحت الصندوق وبهرها جمال الطفل فقررت الاحتفاظ به لنفسها. هنا ينشأ نزاع بين الإلهتين حول الاستئثار بأدونيس الصغير، ينتهي بأن تحتكما إلى كبير الآلهة الذي يحكم بأن تتقاسم الإلهتان أدونيس، وذلك بأن يقضي نصف السنة في العالم الأسفل بصحبة بيرسفوني، ونصف السنة الآخر بصحبة أفروديت.
43
وفي رواية أخرى لأسطورة أدونيس، نجده شابا يافعا مولعا بالصيد والقنص، تقع في حبه أفروديت وتقضي وقتها في قلق عليه من مخاطر هوايته تلك، محاولة دفعه للإقلاع عنها. إلى أن جاء يوم صرعه فيه خنزير بري في جبل لبنان، قرب منبع النهر الذي سمي فيما بعد باسمه، ففاض دمه ملونا مياه النهر بالأحمر القاني، وانبثقت من قطرات دمه المتساقطة على التراب أزهار شقائق النعمان الحمراء. وفي كل عام يأتي أدونيس إلى المكان نفسه في الربيع ليلقى الميتة نفسها وتفيض دماؤه فتصبغ المياه نفسها المتدفقة من بين الصخور الجبلية.
44
هذا وما زالت بقايا معبد عستارت العظيم الذي أقيم عند نبع أدونيس، الذي هو نهر إبراهيم اليوم، قائمة قرب قرية أفقا اللبنانية. وما زال هناك نصب صخري يصور مصرع أدونيس، حيث نرى الإله الشاب وبيده حربة منتظرا انقضاض الوحش، وعلى مقربة تبدو عستارت جالسة في وضع الحزن والحداد. والمشهد كله لا يصف لنا لحظة صراع بقدر ما يصف لحظة استسلام للموت. فحربة أدونيس ليست في وضع الاستعداد والتأهب، وإنما مسترخية في وضع الراحة، أما عستارت فلا تبدو في وضع من يحاول الدفاع أو المساعدة، ولا حتى في هيئة القلقة على الحدث الجلل الذي يوشك أن يقع، وإنما في وضع المستسلمة للمصير المقدر.
رغم الشكل المزخرف لهذه الأسطورة، في روايتيها، فإنها تطرح تشابها واضحا مع أسطورة عشتار وتموز البابلية، وتشف في الوقت نفسه عن العناصر الأساسية للأسطورة النيوليتية الأولى. (1) فالشجرة التي ولد منها الإله هي عستارت نفسها، أو عشتاروت كما يدعوها كتاب التوراة؛ إذ إن الكنعانيين كانوا يرمزون لها بجذع شجرة يضعونه في محرابها. وقد أشار التوراة في أماكن متعددة من أسفاره إلى هذه الجذوع الممثلة للإلهة، باسم السواري جمع سارية. ولربما كان أصل حكاية الميلاد من شجرة، أن الكنعانيين كانوا يمثلون دراما ميلاد أدونيس في المعبد أمام جذع الشجرة-العشتاروت. (2) يلعب أدونيس في هذه الأسطورة دور الابن ودور العشيق أمام الإلهتين. فالصغير الذي وضع في الصندوق هو الابن، أما الشاب الجميل الذي تتناوله أحضانهما، فهو الحبيب الذي يتزوج الأم الكبرى في وجهيها الأبيض والأسود. (3) أفروديت وبيرسفوني، هما عشتار وإريشكيجال. وأدونيس الذي يقضي ستة أشهر في عالم بيرسفوني المظلم، وستة أشهر أخرى في عالم أفروديت، هو تموز الذي يموت في الأسطورة البابلية ستة أشهر ثم يبعث إلى الحياة ستة أشهر أخرى. (4) إن قيام عشتار بتسليم تموز إلى الموت، يبدو في أسطورة أدونيس وعشتاروت في قيام أفروديت بوضع الطفل في صندوق وإيداعه لدى بيرسفوني. أما هبوط عشتار إلى العالم الأسفل لاستعادة تموز، فيعكسه رجوع أفروديت إلى بيرسفوني طالبة استعادة الصندوق. (5) كما أن قيام عستارت بتسليم أدونيس إلى الموت يبدو في المستويات السرانية لفهم رواية الخنزير البري. فالخنزير البري كان رمزا من رموز الإلهة عستارت، وليس قيامه بقتل أدونيس إلا إشارة إلى قيام عستارت بإرسال حبيبها إلى العالم الأسفل. وفي إحدى روايات الميلاد من شجرة، نجد الخنزير البري ينطح بقرنه الشجرة الحبلى فتنشق ويخرج منها الوليد الإلهي، وبذلك يساهم الخنزير في ولادة الإله، ثم يرسله فيما بعد إلى العالم الأسفل. وفي كل ذلك رمز وإشارة إلى أن الأم الكبرى التي وهبت أدونيس الحياة هي التي سلبت منه الحياة. (6) يظهر عنصر الاستسلام الإرادي للموت في المشهد الذي يقدمه النصب الصخري. فأدونيس يقف مستسلما في انتظار مصيره المقرر سلفا، وعستارت تشرع في حدادها تاركة خنزيرها ينقض على زوجها الشاب. (7) تطرح هذه الأسطورة تشابها واضحا أيضا مع أسطورة ديمتر وبيرسفوني. ففي كلا الأسطورتين إله شاب أو إلهة شابة يختطفها الموت، فنزاع بين إله علوي وإله سفلي، ينتهي بتسوية تجعل الإله المخطوف أو الإلهة المخطوفة، يقسمان وقتهما بين العالم العلوي والعالم السفلي.
فإذا أرجعنا كل هذه البنية الأسطورية المعقدة والمثقلة بالرموز إلى عناصرها الأولية البسيطة، لوجدنا أنفسنا مرة أخرى وجها لوجه أمام قصة الإله الابن، روح القمح، الذي تحول فيما بعد إلى روح للنبات بشكل عام. تموز الخضر، وتحت قناع أدونيس، يظهر هنا وجه «آيلينوس»، الشاب الغض الذي كان الحصادون السوريون يندبون موته، وهم يهوون بمناجلهم على سيقان القمح الجافة. هذه العلاقة بين أدونيس وآيلينوس لم تكن غائبة تماما. فهذه «سافو» الإغريقية، شاعرة جزيرة ليسبوس التي أنشدت بكائيات أدونيس:
أدونيس الرقيق يموت يا «كيثيريا»، فما نحن فاعلات؟
اضربن على صدوركن أيتها الفتيات ومزقن أرديتكن.
45
هذه الشاعرة المشهورة، هي التي أنشدت أيضا بكائيات آيلينوس.
46
ويبدو أنها بالفعل كانت تطابق بين الشخصيتين، وتندب شخصا واحدا تحت اسمين؛
47
ذلك أن روح القمح القديمة الممثلة في إله لا نعرف اسمه، بل نعرف صرخة التفجع عليه، تلك الصرخة التي صارت بتقادم الأزمان اسما له، قد خضعت لتطور بطيء وطويل. ومع هذا التطور اكتسب الإله أسماء متعددة وكلها تشير إلى الإله الابن الأخضر. فهو البعل وهو حدد آدون الذي حوله الإغريق إلى أدونيس وهو النعمان.
إن اسم النعمان ما زال قائما إلى يومنا هذا في اللغة العربية، وبعض اللغات الأوروبية؛ إذ نراه متضمنا في اسم تلك الوردة البرية القانية اللون، التي تندفع من باطن الأرض في كل مكان من سهول الشرق القديم مع بشائر الربيع الأولى. يدعوها العرب شقائق النعمان؛ أي جراح النعمان-أدونيس. وتدعى في اللغة الإنكليزية «أنيمون» (Anemone)
المشتقة من النعمان. وفي هذا بقية من المعتقد القديم، بأن هذه الوردة قد نبتت من دم أدونيس القتيل بعد تخضيبه لتربة الأرض، فهي تحمل لون دمه إلى الأبد.
48
كما أن لكلمة النعمان ذاتها علاقة بمعاني الخضرة وعالم النبات. ففي القواميس العربية نجد كلمة نعم، بفتح النون وكسر العين وفتح الميم، بمعنى نضر واخضوضر.
49
ومنها كلمة الناعمة، التي تعني الروضة أو الحديقة.
50
وبذلك يكون اسم أو لقب النعمان الذي لقب به أدونيس مقابلا للقب «الأخضر»، وهو اللقب المميز للإله الابن.
تظهر شخصية أدونيس، على وجه الخصوص، ذلك الجانب الأنثوي من شخصية الإله الابن؛ فهو الشق الذكري للأم الكبرى، وجزؤها الذي لم يستقل عنها، بل بقي مرآة لصفاتها وخصائصها. فأدونيس هو أفروديت المذكرة، وأفروديت هي أدونيس المؤنث. إن كل النصوص المتعلقة بهذا الإله، وكل الأعمال التشكيلية لتؤكد على هذا الجانب. فهو الإله الجميل الرقيق، الغض الناعم. وفي الرسوم التي تمثله يؤكد الفنانون على ليونة جسد الأنثى ويستبعدون التفاصيل الحادة لجسد الذكر. ولعل بعض تماثيله القديمة التي لم تصلنا والتي نفترض أنها تجمع في تركيب واحد بين أعضاء الذكورة والأنوثة، هي الباعث على ظهور أسطورة تبريرية لاحقة في الميثولوجيا الإغريقية، هي أسطورة الإله «هرمافروديت» ابن أفروديت من الإله هرمس، الذي يجمع في جسده خصائص الجنسين معا، والذي يتألف اسمه من مقطعين مندمجين الأول «هرم» المأخوذ من هرمس، والثاني: من اسم أمه ذاتها. فالإله هرمس هو إله القضيب، وكان في بعض مراحله يمثل على هيئة قضيب فقط.
51
أما أفروديت فإن لاسمها جذورا تعود إلى السومريين، وهو يعني الرحم الخصب: آ-بورو-داتي.
52
هكذا فهرمافروديت ليس إلا القضيب-الفرج، وهو الإله الابن ذاته، وليست أسطورته التي سنرويها فيما يأتي إلا صياغة أدبية لأفكار وتصورات قديمة، ألقي أمامها ستار كثيف من الرموز؛ فقد أنجبت أفروديت ابنها من هرمس وعهدت به عقب ولادته مباشرة إلى حوريات جبل إيدا في كريت، اللواتي ربينه في الأحراش الجبلية، فنشأ فتى بريا لا يجد متعة إلا في الصيد والقنص ومطاردة الوحوش في الغابات. وفي أحد الأيام أتى بحيرة صافية ونضى عنه ثيابه فاستحم فيها، فرأته حورية البحيرة «سلماسيس» وبهرها جماله الفتان فوقعت في حبه. ولما راودته عن نفسه، انتهرها الشاب الخجول وأعرض عنها محاولا إبعادها عنه. وهنا صاحت الحورية بصوت عال: «عبثا تحاول مني فككا ... أيتها الآلهة جمعاء، أدعو إليكم ألا تتركوا شيئا يفرق بيني وبينه.» وللحال، استجيبت دعوة الحورية، فالتصق الجسدان ببعضهما إلى الأبد، وامتزجت خصائصهما الذكرية والأنثوية، وتحول هرمافروديت إلى مخلوق ثنائي الجنس.
53
إن قصة هرمافورديت هذه، تعيد إلى الأذهان لمحات من حياة وخصائص بعض الآلهة الأبناء؛ فنشأته في جبل إيدا هي نشأة ديونيسيوس وزيوس الكريتي ابن الأم الكبرى للحضارة المينوية اللذين ترعرعا في نفس الجبل المقدس. وولعه بالصيد والقنص هو تكرار لولع أدونيس صياد جبل لبنان. وهو في خنوثته يعادل أتيس وأوزوريس المخصيين. والأعمال التشكيلية التي تمثله تذكرنا ببعض تماثيل ديونيسيوس التي تظهره بأثداء كاملة، وتماثيل ورسوم كل الآلهة الأبناء التي تؤكد على ليونة الجسد ورقته، لا على قوته وصلابته. ولا تشذ عن ذلك تماثيل ورسوم السيد المسيح التي أبدعها عصر النهضة في أوروبا. إن هرمافروديت، في تفسيرنا، هو أدونيس نفسه. ولعل في تمثال أفروديت ذات اللحية الذي كان موضع عبادة وتقديس كبيرين في قبرص
54
توكيدا لتفسيرنا هذا. ففي هذا التمثال يندمج أدونيس وأفروديت في شخصية واحدة، ويتجلى الأقنومان في هيئة واحدة تجمع خصائص الذكورة والأنوثة.
طقوس أدونيس
كانت طقوس أدونيس الرئيسية تقام في عيده السنوي، الذي اختلف توقيته من مكان إلى آخر؛ فبعض المناطق السورية كانت تحتفل به في الصيف، وأخرى في الربيع. أما في مصر واليونان، فكانت احتفالات «الآدوينا»، وهي التسمية الإغريقية لأعياد أدونيس تقام في الصيف. يشير هذان التوقيتان إلى أصل الإله أدونيس كروح للقمح القتيل، وإلى تطوره اللاحق كروح للإنبات بشكل عام؛ ففي فينيقيا كانت النساء تصنع دمى من شمع أو طين مشوي تمثل الإله القتيل، فتضعها عند مداخل البيوت وتتحلق حولها بثياب الحداد، فتبكي وتندب وتضرب صدورها، وتنشد أغاني حزينة على أنغام الناي. كما كانت صور أدونيس تحمل في مواكب جنائزية في شوارع المدن وخلفها رجال يعزفون ونساء تنوح.
55
أما في الإسكندرية أيام البطالمة التي وصلتها عبادة أدونيس وعستارت، فكان تمثال الفتى اليافع أدونيس يسجى على محفة ويغطى بوشاح أرجواني، إلى جانبه يوضع تمثال آخر لفينوس-عستارت. ثم تضمخ المحفة بأطيب العطور وتزين بكل أنواع الفواكه وأغصان الأشجار المثمرة، وتعلق عليها سلال صغيرة تدعى بحدائق أدونيس. وهذه الحدائق تعدها النساء قبل الاحتفال بوقت قصير، حيث يضعن في سلال أو أوعية وأكواب قليلة العمق قليلا من تراب الأرض، وينثرن فوقها حبوبا مختلفة كالقمح والشعير والشمرة، ثم يعرضنها لأشعة الشمس ويتعهدنها بالسقاية فتنتش الحبوب وتظهر سيقانها الصغيرة بسرعة كبيرة. بعد ذلك تحمل المحفة ويسير وراءها المحتفلون في مواكب الحداد، حتى إذا انتهى الاحتفال قامت النساء برمي حدائق أدونيس مع دمى صغيرة تمثله إلى ماء البحر.
56
وفي بلاد اليونان، تشير بعض الدلائل التاريخية إلى وقوع احتفالات الآدونيا في منتصف الصيف، فعندما أقلع أكبر أسطول حربي يوناني لقتال سيراكوزه في عز الصيف، كانت الآدونيا، كما تنقل الأخبار، في أوجها، وكان الجنود وهم يجتازون الشوارع هبوطا نحو الميناء يسمعون عويل النساء على أدونيس، ويصادفون صوره معلقة عند كل باب.
57
تمثل حدائق أدونيس التي ارتبطت بالآدونيا في كل من سوريا ومصر، حياة الإله القصيرة وميتته المفاجئة. فالسيقان الخضراء القصيرة التي اندفعت بسرعة من تحت التراب بدون جذور حقيقية، لا تستطيع العيش طويلا، وما تلبث أن تذوي وتموت. أما تعليق هذه الحدائق على محفة الإله الميت وحملها مع مواكب الدمى والصور التي تمثله؛ فهو نوع من التمثيل المزدوج للإله في شكله النباتي والإنساني. وليس رمي الحدائق والدمى إلى مياه البحر أو النهر إلا إيحاء للطبيعة بمواسم طيبة ومطر غزير؛ مما يذكرنا بالممارسات الباقية لدى فلاحي العصر الحديث، ممن رأيناهم يربطون ممثل روح القمح إلى آخر حزمة حصاد ويلقونها في الماء . هذا وقد بقيت طقوس حدائق أدونيس، وبعض عناصر احتفالات الآدونيا قائمة إلى يومنا هذا في طقوس المسيحية.
ففي عيد الفصح، الذي يتطابق توقيته السنوي تقريبا مع توقيت الآدونيا الربيعي في فينيقيا، يتم الاحتفال بموت السيد المسيح في اليوم الأول يوم الجمعة الحزينة، وبعثه في اليوم الثالث يوم أحد الفصح، وتقوم النساء في جزيرة صقلية، وفي مناطق أخرى من إيطاليا قبل عيد الفصح، بإعداد حدائق أدونيس بنفس الطريقة التي اتبعتها نسوة كنعان قبل ألوف السنين. فإذا حل الفصح وانتشت البذور المزروعة، حملن أطباقهن وقد ربطت سيقان القمح القصيرة إلى بعضها بشرائط حمراء، ومضين إلى الكنيسة حيث توضع قرب صور وتماثيل السيد المسيح. وطيلة يوم الجمعة الحزينة تعرض في الكنيسة صورة شمعية للسيد المسيح، ويتقدم الناس لتقبيلها، بينما تقرع أجراس الكنيسة إيقاعات حزينة حتى حلول المساء. وفي وقت متأخر من الليل، تحمل صورة المسيح فوق نعش مزين بأغصان الليمون والأزهار من مختلف الأنواع، فيطاف بها في شوارع المدينة في موكب وئيد الخطا على ضوء الشموع الطويلة، وسط نحيب المشيعين وعبق البخور الذي تحرقه النسوة على طرفي الطريق عند أبواب البيوت. فإذا انتهت جنازة المسيح أعيدت الصورة إلى مكانها في الكنيسة، والتزم المشيعون صوما يستمر طيلة السبت ومعظم ليلة الأحد. فإذا دقت الساعة الثانية عشرة، خرج الأسقف ليعلن الخبر السار: «لقد قام المسيح»، فيرد خلفه الحشد الساهر: «لقد قام حقا وصدقا»، ثم تبدأ المدينة احتفالاتها الفرحة، وتهيم مجموعات الشباب تشعل الحرائق الصغيرة في الشوارع والساحات.
58
هذا ويمكن مشاهدة مثل هذا الطقس في كثير من المناطق الكاثوليكية، وخصوصا في إسبانيا.
كما يمكن مشاهدته بشكل أقل درامية في بعض الكنائس السورية واللبنانية؛ حيث يقتصر موكب جنازة المسيح على باحة الكنيسة. ففي صباح الجمعة الحزينة يتوجه الناس بلباس الحداد إلى الكنيسة، حيث يقام جناز كامل تتلى خلالها قصة موت المسيح، ويبكي المجتمعون بحرارة وهم يستمعون إلى ترتيلة: «اليوم علق على شجرة الذي علق الكون على المياه.» ثم يحمل رجال الدين تابوتا مغطى بالورود والأزهار فيطوفون في موكب صغير حول الكنيسة وفي باحتها.
وفي كلمات أقرب ما تكون إلى كلمات عشتار في ندبها تموز عندما قالت: «ويلي عليك يا بني، ويلي عليك يا دامو ...» نجد السيدة مريم في الطقس البيزنطي تندب ابنها المسيح:
ويحي يا ولدي الإلهي. ويلي يا نور العالم،
لماذا غبت عن مقلتي يا نور الله؟
وحدي دون سائر النساء قد ولدتك يا بني من دون ألم،
وأنا الآن أقاسي ما لا يحتمل،
يا ضياء عيني يا ولدي كيف حجبت في القبر.
59
لم تورد الأناجيل الأربعة شيئا عن مراثي مريم. وانفرد إنجيل يوحنا بالإشارة إلى وجود مريم عند الصليب عندما أسلم المسيح الروح (يوحنا 19: 25-27). إلا أن مراثي العذراء قد بدأت تدخل في الطقس المسيحي مع ظهور الكنيسة السورية، ومنها انتقلت إلى الكنيسة اليونانية. ومعظم هذه المراثي تنسج على منوال المراثي الأدونيسية القديمة؛ مما يشير إلى بقاء المراثي الأدونيسية حية في الأذهان، وانبعاثها مجددا في طقوس الديانة الجديدة.
60
نقرأ في الطقس اليوناني:
وا حسرتاه، وا حسرتاه يا أجمل الأبناء،
يا نور عيني، يا ملك كل الأشياء،
وا حسرتاه، وا حسرتاه، كيف أحتمل رؤياك على الصليب،
61
وفي الطقس البيزنطي نقرأ أيضا:
هو ذا أجمل المخلوقات قد صار جثة،
من أعطى رونق الطبيعة وجمال الكون.
كيف لي أن أطبق عينيك الحلوتين أيها الكلمة ...
يا ربيعي الحلو، يا طفلي الأجمل، أين مضى حسنك؟
أيتها الجبال والوديان، وأنتم أيها الناس ابكوا معي،
كل الأشياء تبكي معي. أنا أم الإله.
62
وبعد المسيحية، تسللت مراثي الإله الميت إلى الإسلام في طقوس عاشوراء؛ ذكرى مقتل سيدنا الحسين بن علي. وتبدو طقوس كربلاء لناظرها اليوم مشهدا لم تغير منه مئات السنين شيئا. وبينما يقوم المحتفلون بلطم خدودهم وشد شعورهم وضرب أنفسهم بسلاسل الحديد حزنا على الحسين الشهيد، تلتقي صرخة التفجع التي يطلقونها في عنان السماء «يا فتى يا حسين» بصرخة عشتار النائحة المحفوظة في طبقات الأثير العليا، وصرخة العذراء الثكلى، ونكاد نستمع إلى مرثاة واحدة تمثل وحدة العاطفة الإنسانية عبر تاريخ البشرية.
آيلينوس ... مانيروس ،
ويلي عليك يا بني ... ويلي عليك يا دامو،
ويحي يا ولدي ... ويحي يا نور العالم ...
كيف تراك مقلتي معلقا على الصليب،
كل الأشياء تبكي معي ...
يا فتى يا حسين.
أخيرا، بقيت ذكرى أعياد الربيع الأدونيسية - التموزية - الأوزيرية، حية في أعياد ربيعية فولكلورية قائمة إلى يومنا هذا في الشرق الأدنى الحديث؛ وذلك كعيد النيروز، وعيد شم النسيم، وأعياد محلية صغيرة في سوريا، كيوم خميس المشايخ الذي بقي سكان المناطق الوسطى يحتفلون به إلى أوائل الستينات. ولا أزال أذكر شخصيا ركضنا الفرح ونحن أطفال وراء موكب المشايخ المهيب، الذي ينطلق في العشرين من نيسان من قرية «بابا عمرو» التي تبعد خمسة كيلومترات عن مدينة حمص غربا، ثم يخترق المدينة طائفا شوارعها الرئيسية. كان الموكب يتألف من رجال دين توارثوا مهمة إحياء العيد جيلا عن جيل. بعضهم يسير في الموكب فارسا وآخر راجلا، عليهم عمائم وعباءات لا تلبس إلا في تلك المناسبة، وبعضهم يضع على وجهه لثاما. يتقدم كل فارس (سنجق) خاص تتوارثه العائلة ويخرج به الابن في الموكب بعد وفاة أبيه، فوق رءوسهم رايات كبيرة ملونة كتبت عليها آيات قرآنية، وخيولهم مجللة بالأقمشة ومزينة غررها بالأرياش. وفي مقدمة الموكب يسير الموسيقيون الذين يضربون الطبول والصنوج في إيقاع جليل يسمع من مسافات بعيدة، ولا يمكن لمن سمعه قط أن ينساه ... حتى إذا وصلوا إلى نقطة معينة، ألقى الناس بأنفسهم تحت سنابك الخيل التي تدوسهم دون أن يمسهم أذى، وهذه من كرامات بعض المشايخ المباركين في ذلك اليوم، يضاف إليها كرامات أخرى يظهرها بعض المشايخ السيارة؛ إذ يطعنون أنفسهم بالشيش (سيف مسنون الرأس لا حد له) فيدخل البطن نافذا من الظهر دون أن يمسهم أذى.
وهكذا بقي موكب الربيع يسير متعرجا في سهول حمص منذ ألوف السنين، إلا أن تابوت الإله قد انزلق من أيدي المشيعين مع وصول الإسلام، وسقط في ثنايا التاريخ.
عناة وبعل
سادت عبادة الإله الابن في كنعان تحت اسم بعل خلال الألف الثاني قبل الميلاد، وتحت اسم حدد (أو هدد ) في آرام خلال الألف الأول قبل الميلاد. تحت هذين الاسمين يخطو الإله الابن خطا أبعد نحو الاستقلال عن الأم الكبرى، وبناء شخصيته الخاصة المستقلة ذات الطابع المسيطر القوي. هنا ترك الإله الابن شخصيته القديمة كروح للإنبات، وأسير لدورة القمح والزراعة، وارتفع فوق الظواهر الطبيعية مقلدا آلهة الثقافة الذكرية الصاعدة، دون أن يقطع تماما حبل السرة الذي يربطه بحركة الطبيعة ودورة الزراعة. إنه الآن سيد لعوامل الخصب الفاعلة. فهو راكب السحاب الذي يرسل الأمطار من أعالي السماء، وسيد البرق والصاعقة. صوته كالرعد المجلجل وسلاحه العاصفة والطوفان. يروض المياه البدئية الأولى كالإله مردوخ البابلي، ويقتل التنين ذا الرءوس السبعة ويصارع الوحوش الخرافية العجيبة. صورة سوف تبلغ شكلها الأكمل في شخصية زيوس كبير آلهة الأوليمب الذي قطع، فيما بعد، كل الجسور التي كانت تصله بأصوله القديمة في كريت كإله ابن قتيل. وفي علاقته بالأم الكبرى، يلعب بعل-حدد دور الشريك الند المكافئ، لا دور التابع الخاضع، وترجح في شخصيته خصائص الذكورة في مقابل خصائص الأنوثة التي ميزت أدونيس. إلا أن العنصر الأساسي في دراما الإله الميت يبقى هنا ثابتا، وهو استسلام الإله الابن للموت استسلاما إراديا، وقيام الأم الكبرى، من ثم بانتشاله من العالم الأسفل وإعادته للحياة.
إن مصدرنا الأساسي عن أساطير الإله بعل هو ألواح مدينة أوغاريت، التي يعود تاريخها إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، والتي تقدم لنا أكمل النصوص الأدبية الكنعانية؛ ففي الألواح التي اصطلح على تسميتها بألواح بعل وعناة، نجد الإله بعل وقد بدأ بتوطيد مملكته وبسط سلطانه، على طريقة الآلهة البطريركية التي تثبت جدارتها في مستهل حياتها بالتغلب على قوى إلهية كونية خارقة، تنتمي لعالم الديانات الأمومية الأسبق. فكانت أولى معارك بعل معركته ضد المياه الأولى ممثلة الإله «يم» أو «نهر» الذي صرعه بعل دون صعوبة. وبعده ينتصر على التنين «لوتان» ذي الرءوس السبعة. ثم يجنح إلى الراحة، فيبني بيتا له يستقر فيه إسوة ببقية آلهة البانثيون الكنعاني، تساعده في ذلك حبيبته الإلهة عناة، التي تستخدم دالتها على كبير الآلهة «إيل» ليسمح ببناء ذلك البيت. غير أن الوضع الجديد لبعل لا يدوم طويلا؛ لأن إله العالم الأسفل «موت» (بالكنعانية مت) ينبري له ويتقدم إلى مجمع الآلهة طالبا تسليمه بعل. وهنا لا يبدأ بعل استعداده لمعركة، كما فعل عندما تصدى له الإله يم، بل نراه ينزل من عليائه مختارا دونما عراك، ومعه غيومه وأمطاره، وعواصفه وبقية رموز سلطته، ويستسلم طائعا لإله الموت، الذي يفتح فمه الفاغر لابتلاعه، فشفته الواحدة في الأرض والأخرى تطال السماء ولسانه بين النجوم (على حد تعبير النص). وعندما يهبط بعل إلى جوفه، تجف لغيابه أشجار الزيتون ومنتجات الأرض وثمارها. أما عناة فتهيم على وجهها نادبة حبيبها الغائب في صرخات تردد صداها الجبال والوديان، حتى هدها التعب والإعياء، ثم تمضي إلى الإله موت طالبة منه إعادة بعل إليها، فيردها خائبة متفاخرا أمامها بما فعل. ولكن عناة لا تيئس وتعود إليه مرارا وتكرارا بنفس الطلب لتلقى منه نفس الموقف المتعنت. فتقرر مجابهته واسترداد بعل بالقوة، تدخل معه في معركة فاصلة تنتهي بانتصارها المؤزر؛ إذ تمسك بالإله موت فتقطعه بالسيف وتذريه بالمذراة، وتشويه بالنار وتطحنه بالطاحون وتدفنه في الحقل، ثم تسترد إليها بعل، الذي تعود معه الحياة إلى شتى مظاهر الطبيعة، فيورق الشجر وينضج الثمر وتنتعش سويقات القمح. غير أن الإله موت يسترد قوته بعد سبع سنين فينبري مجددا للإله بعل:
وهكذا من أيام إلى شهور،
ومن شهور إلى سنين ...
ولكن في السنة السابعة،
نهض موت معلنا نفسه لعليان بعل.
رفع صوته وصاح:
أي بعل، بسببك أنت جللني العار.
بسببك أنت ذقت السيف.
بسببك أنت وردت النار.
بسببك أنت عرفت حجر الطاحون.
بسببك أنت دفنت في الحقول.
63 (وتعود القوتان الكونيتان إلى الصراع وتتكرر دورة حياة بعل).
إن ما يميز دورة حياة الإله بعل عن أشباهه من آلهة الطبيعة في ميثولوجيا الشرق القديم والعالم اليوناني، هو أن دورة حياة هذا الإله ليست دورة سنوية، بل دورة تتبع نظاما خاصا يعيش بموجبه سبع سنوات، ثم يموت ليبعث من جديد إلى سبع سنوات أخر. وعليه فإن التفسيرات المتعجلة التي تطابق بين بعل وبقية الآلهة كتموز وأدونيس وغيرهما، فتجعله تجسيدا لروح النبات التي تموت وتحيا في كل عام، لا تصمد أمام النقد. كما أن التفسيرات الأخرى التي تفسر أسطورة بعل بوجود دورة مناخية في سوريا القديمة، كانت تتسبب في حصول جفاف الأرض وندرة المطر في كل سبع سنوات هي تفسيرات ضعيفة؛ رغم أننا لا نستبعدها تماما. والحقيقة في رأينا هي أن تفسير هذه الأسطورة يجب أن ينطلق من فكرة التجديد الدوري للقوة الإلهية، وهي فكرة قائمة في ميثولوجيا وطقوس المنطقة المشرقية ولدى بعض الثقافات البدائية الحديثة، وثقافات أخرى موغلة في القدم.
لم تكن القوة الإلهية، بالنسبة للإنسان القديم، قوة مطلقة لا ينتابها وهن أو قصور، بل كانت في بعض جوانبها، كقوة الإنسان، تطلب سندا ومددا دوريا لتجدد نفسها كلما آنست ضعفا، وتبدأ دورة نشيطة أخرى. فأعياد رأس السنة البابلية لم تكن، كما رأينا، سوى طقوس تهدف إلى شحن الطاقة الإلهية التي تسند الكون المنظم، بقوة جديدة في مواجهة قوى العماء الأولى التي تحاول إعادة الكون إلى سكونه القديم. وفي أسطورة إيرا إله الأوبئة الفتاكة (البابلية)، نجد كبير الآلهة يمضي للاستجمام في مكان تجدد ناره المطهرة قواه بعد ضعف ووهن:
إلى بابل، مدينة ملك الآلهة، شد إيرا رحاله،
دخل «الإيزاجيلا» قصر السماوات والأرض، ومثل أمام مردوخ،
فتح فمه وقال مخاطبا ملك الآلهة:
أيها الرب، إن الهالة النورانية رمز ألوهتك،
المشعة أبدا كنجم سماوي،
قد خبا لونها،
وتاج سيادتك قد مال عن رأسك،
اترك مكان سكنك وانطلق،
ونحو الدار التي ستظهر نارها عباءتك، شد الرحال.
64
غير أن التجديد الحقيقي للقدرة الإلهية لا يتم إلا بالموت الفعلي الحقيقي الكامل الذي يليه البعث، حيث يزيل الموت ما بلي، ويعطي البعض كل جديد. ففي النظم الميثولوجية التي لا وجود فيها لمعتقد الموت السنوي لآلهة الطبيعة، نجد هناك معتقد الموت الدوري، حيث يموت الإله عند استكمال دورة زمنية تقدر بعدد من السنين، يختلف من ثقافة إلى أخرى؛ فآلهة الخصب هي أكثر الآلهة حاجة إلى تجديد قواها؛ لأن أي بادرة ضعف تنتابها، سيكون لها تأثير مباشر على توازن الطبيعة وحياة الكائنات. لذا كان على الإله أن يقدم نفسه للموت وهو في عز الشباب، فيجدد نفسه، ويبعث ثانية قبل أن تنال منه السنون. ولكن كيف يموت الإله، وكيف يتابع البشر دورة حياته ويساعدونه على إتمامها؟
في معتقد موت الإله السنوي، رأينا أن الروح الإلهية تحل مؤقتا في جسد القربان البشري وتموت من خلاله، أما في معتقد الموت الدوري، فإن الروح الإلهية تتجسد في كائن بشري حي مدة أطول من الزمن، وتحافظ على نشاطها وحيويتها ما دام هذا الكائن البشري متمتعا بالحياة النشطة الشابة. وغالبا ما يكون هذا الكائن شخصية ملكية مقدسة تعتبر ظلا حيا للقوة الإلهية الخفية، وممثلة له على الأرض. فإذا وصل منحى حياة الشاب أوجه، كان على ممثل الإله أن يموت قبل أن تضعف قواه ويتخاذل؛ لأن في ضعفه تخاذلا للقوة الإلهية التي تعبر عن نفسها من خلاله. وبموت ممثل الإله، يموت الإله أيضا، ليبعث من جديد في الخلف الفتي للملك المقتول، ويبدأ معه دورة حياة جديدة. ونستطيع العثور على مثل هذا الاعتقاد والطقس، لدى الكثير من الثقافات التي تعتبر الملك تجسيدا لألوهة الخصب ومركزا لنظام الطبيعة، يتوقف عليه هطول المطر وخصب الأرض وتكاثر الحيوان وتتابع الفصول.
فإلى عهد قريب، كان من عادة قبائل الشايلوك، التي تسكن ضفاف النيل الأزرق في أفريقيا، أن يقتلوا ملوكهم بعد فترة زمنية مقدارها سبع سنين من توليهم الحكم. وقد تختصر هذه الفترة، ويقتل الملك قبل أوانه، إذا أجدبت الأرض وساءت المواسم. وخلال حياته القصيرة، كان ملك الشايلوك يخضع في كل مناحي حياته إلى نظام حديدي مفروض من قبل الكهنة، مليء بمختلف أنواع القيود والتحريمات (التابو). فشخص الملك مقدس لا يمكن إلا للنبلاء رؤيته، والدخول عليه محرم حتى على أولاده. فإذا خرج في موكب رسمي، أحاط به سادة القوم من كل جهة وأخلي السبيل أمامه من المارة، وهرع الناس إلى بيوتهم فأغلقوا أبوابها ونوافذها حتى يبتعد الركب الملكي. وعندما يحل الموعد المحدد لموت الملك، كان الكاهن الكبير يدعو جميع النبلاء إلى احتفال سري، يتم خلالها قتل الملك ودفنه، وكانوا يدفنون إلى جانبه فتاة عذراء وهي حية. ويجب أن يتم هذا الطقس في إحدى الليالي المظلمة الواقعة بين غياب القمر القديم وظهور القمر الجديد، خلال فترة الجفاف السابقة لموسم الأمطار، وقبل أن تزرع البذور في الحقول. وبعد مرور عام كامل يتم تعيين الملك الجديد الشاب.
65
وفي مناطق أخرى من أفريقيا نعثر على معتقدات وطقوس مشابهة؛ ففي موزمبيق وأنغولا وروديسيا، كان الملك يعتبر تجسيدا للإله الأكبر، وكان يدعى بالقمر وزوجته تدعى بكوكب الزهرة. وكان الاثنان يقتلان في نهاية فترة محددة من حكم الملك على يد الكهنة، ويدفنان في قبر واحد على أحد المرتفعات.
66
وتقص حكاية شعبية من جنوب السودان عن عادة قتل الملوك التي كانت سائدة في تلك المناطق فتقول: إن مملكة كوردفان كانت من أغنى الممالك الأفريقية، وكان ملكها من أغنى ملوك الأرض؛ إلا أنه كان أتعس الملوك؛ لأن مدة حكمة وحياته كانت محددة بفترة زمنية، تتحكم فيها دورة فلكية لا يعرف أسرارها سوى الكهنة، الذي كانوا يتابعون تحركات النجوم في السماء لمعرفة الوقت الذي يتوجب فيه قتل الملك. فإذا حل موعد الموت أجبر الكهنة الملك على الموت، ومعه عدد من أفراد عائلته وبعض المقربين ممن اختارهم شخصيا لهذه المهمة عند صعوده إلى الحكم في بداية الدورة الفلكية. وقد سارت الأمور على هذا المنوال أجيالا طوالا، إلى أن اعتلى العرش فتى في ريعان الصبا اسمه «أقف»، وتم اختيار مرافقيه في رحلة الموت وعلى رأسهم مملوك اسمه «فارليماس»، وأخت الملك الشابة واسمها «سالي» التي تم تعيينها في منصب كاهنة النار المقدسة التي تبقى مشتعلة ما دام الملك حيا، حتى إذا جاء أجله الموعود، أطفئت النار وقتلت كاهنتها وأشعلت نار جديدة ترعاها كاهنة أخرى. وكان المملوك فارليماس معروفا برواية الحكايا الساحرة، فآنس إليه الملك وقربه، وأخذ يستمع إلى حكاياه في كل يوم، ومعه المقربون من أفراد حاشيته. فكان إذا ابتدأ فارليماس حكايته الجديدة، كان الملك وضيوفه يغفلون عن طعامهم وشرابهم، ويغفل الخدم عن خدمتهم، ويبقى الجميع مشدودين إلى فم فارليماس حتى آخر الليل وظهور تباشير الصباح، كأن في كلماته سحرا، أو أن فيها مخدرا قويا. إلى أن جاء يوم انتابت فيه الملك صحوة، فأحس أن كل يوم يمر إنما يقربه من أجله، فأخذ يفكر في طريقة يتفادى بها ما يعتقده الجميع قدرا محتوما. وكان مثله في ذلك فارليماس وسالي اللذين وقعا في حب بعضهما، وتاقا إلى اعتصار العمر حتى أيام الشيخوخة الأخيرة. وأخيرا اهتدت سالي إلى طريقة تصرف بها نظر الكهنة عن مراقبة النجوم ومتابعة الدورة الفلكية؛ إذ استطاعت إقناع كبير الكهنة ومعه بعض أتباعه، بالحضور إلى بلاط الملك للاستماع إلى حكايا فارليماس. فأتوا بعد أن أذن لهم الملك، يدفعهم الفضول في الليلة الأولى، وبدافع الشوق في الليلة الثانية، ثم تعودوا إتيان حلقة فارليماس في كل ليلة، يشدهم إليها نداء سحري لا يستطيعون عنه صدا. وفي إحدى الليالي، وبعد أن انتهت حكاية فارليماس، اكتشف الكهنة أن أحدا منهم لم يبق لمراقبة النجوم، وتأكدوا من أنهم قد فقدوا أثر الدورة الفلكية التي كادت تقارب نهايتها؛ فثارت ثائرتهم وقرروا قتل فارليماس، إلا أن الملك التمس له ليلة أخيرة يقص فيها آخر حكاياته، فكان له ما أراد. في تلك الليلة، هب الناس من كل حدب وصوب، إلى ساحة كبيرة نصب فيها عرش الملك وكرسي لفارليماس، الذي ابتدأ حكايته على مسمع من الناس جميعا. وعندما جاء الصباح وانتهت الحكاية، تنبه الناس من خدرهم فوجدوا أن الكهنة جميعا قد ماتوا، فعاش الملك حتى بلغ الشيخوخة، وأبطلت من بعده عادة قتل الملوك.
67
وفي جنوب الهند في مقاطعة ملابر، كان على الملك أن يضحي بنفسه في نهاية دورة زمنية فلكية مقدارها اثنا عشر عاما، وهي الفترة اللازمة لدوران كوكب جوبيتر حول الشمس، وعودته مرة ثانية إلى برج السرطان. فإذا حل الموعد المضروب، جاء الكهنة الذين أمضوا وقتهم في مراقبة الأفلاك، إلى الملك وأبلغوه بانتهاء أجله، ثم نصبوا له منصة خشبية يعتليها أمام حشد كبير من الناس، حيث يبدأ طقس القربان. هنا يعطي الملك سكينا مسنونة قاطعة، ويبدأ بتقطيع أجزاء جسده مبتدئا بالأنف فالأذنين فالشفتين، ثم ينتقل إلى يديه وساقيه، وكلما قطع عضوا رماه إلى خارج المنصة أمام الجمهور، حتى إذا خارت قواه وقارب الانهيار عمد إلى قطع حنجرته.
68
ومن الممارسات والطقوس الحديثة نعود القهقرى إلى ممارسات وطقوس الحضارات القديمة. فالمصادر الرومانية الموغلة في القدم تروي أن ريمولوس أول ملوك روما قد قتل على يد أعيان المدينة، وأن أجزاء جسده قد دفنت في أماكن متفرقة من الأرض. كما تنقل الروايات اليونانية: أن بعض ملوك طيبة وتراقيا قد قتلوا ومزقوا إربا إربا، ودفنت أجزاؤهم في الأرض بسبب تجديفهم على الإله ديونيسيوس. ويغلب الظن أن هذه الروايات ليست إلا بقية من طقس قديم كان الملك بموجبه يقتل باعتباره ممثلا للإله ديونيسيوس نفسه، الذي مات ميتة مشابهة عندما مزقه التيتان إربا.
69
وفي الثقافة الإسكندنافية القديمة كانت فترة حكم الملك تستمر تسعة أعوام يتوجب قتله بعدها. ويحكى أن أحد ملوك السويد قد عكف، قبل حلول أجله، على الصلاة وتقديم القرابين للآلهة لتجنبه المصير المحتوم، فسمحت له الآلهة بالعيش، إن استطاع فداء نفسه بأحد أبنائه كل تسعة أعوام. وقد ضحى ذلك الملك بتسعة من أبنائه، وعاش حتى بلغ الشيخوخة. وعندما كان يستعد للتضحية بابنه العاشر قام عليه الناس وقتلوه.
70
وهناك من الدلائل والإشارات ما يدفع للاعتقاد، بأن بعض ملوك اليونان في التاريخ السحيق، كانوا يقتلون في دورة مقدارها ثماني سنوات؛ ففي الفترات التاريخية، كان القضاة الخمسة الذي يشكلون المجلس الأعلى المسيطر على الملك، يختارون في كل ثماني سنوات، ليلة صافية السماء مظلمة لا قمر ينيرها، فيجلسون لمراقبة النجوم في صمت إلى طلوع الصباح، فإذا لاح لهم شهاب مارق، كان في ذلك إشارة لهم بأن الملك قد اقترف إثما بحق الآلهة. عند ذلك يأمر المجلس بلزوم الملك بيته وكف يده عن الحكم، حتى تفصل في أمره نبوءة عرافة معبد دلفي ، فإما أن يعاد إلى منصبه، أو يرفع إلى العرش ملك جديد. وفي جزيرة كريت، كان على الملك، بعد مرور ثماني سنوات من حكمه، أن يلجأ إلى أحد الكهوف في جبل إيدا المقدس (حيث ولد ابن العذراء زيوس)، فيخلد إلى الراحة والتأمل، ويتلقى توجيهات الإله التي تعينه على مواجهة أعباء الحكم في السنوات الثماني القادمة، ويستمد منه قوة تجدد نشاطه الروحي والجسدي. هذه الدورة الزمنية المؤلفة من ثماني سنوات التي حددت في كل من كريت واليونان توقيت تجديد الروح الإلهية-الملكية، بالقتل أو بالوسائل البديلة التي حلت محله، ربما كانت دورة فلكية مرتبطة بحركة الشمس والقمر في مداريهما. ففي كل ثماني سنوات يصادف وقوع ليلة البدر الكامل في أطول أيام السنة أو أقصرها، وقد رأى الأقدمون في هذا التوافق نوعا من الانسجام بين النظامين الفلكيين الرئيسيين، اللذين يحددان نوعين في التقويم الزمني، هما التقويم الشمسي والتقويم القمري. بعد أن يلتقي النظامان والتقويمان، تبدأ في السماء دورة أخرى، وسباق جديد بين الجرمين الكبيرين ... لذا وفي هذه الليلة بالذات يتوجب تجديد القوة الإلهية الملكية.
71
وفي أحد الأعياد البابلية الذي يطلع عليه البابليون اسم «السقاية»، نجد أثرا باقيا من عادة موغلة في القدم، تتعلق بقتل الملوك؛ ففي هذا العيد المليء بالمرح وغرائب العادات، يتبادل السادة والعبيد أدوارهم، فيقوم السادة على خدمة عبيدهم، ويلعب العبيد دور السادة. وفي اليوم الأول للعيد يؤتى بأحد السجناء المحكومين بالإعدام، فيكسى بملابس الملك ويوضع على العرش ويسمح له بإصدار الأوامر. كما يترك على سجيته فيأكل ويشرب ويمتع نفسه بكل وسيلة ممكنة، حتى إنه ينام مع سرايا الملك ومحظياته، وذلك إلى اليوم الخامس، وهو آخر أيام العيد. عند ذلك تنزع عنه الثياب الملكية ثم يقتل. إن استمتاع الملك البديل بكل حقوق الملك الأصلي بما فيها النوم مع نسائه، وجلوسه على عرشه ولبسه ثيابه وإصداره الأوامر المطاعة، هي محاولة لإسباغ الشخصية الملكية عليه ليكون بديلا حقيقيا عن الملك في طقس القربان المقدس. ولا شك أن هذه العادة التي تحولت في الفترات الأخيرة إلى لهو ولعب، قد كانت في يوم من الأيام طقسا جديا، يموت بموجبه أحد الأفراد بديلا عن الملك، الذي كان هو نفسه موضع القربان في فترات أبعد.
72
بعد هذه الجولة خلال المعتقدات والطقوس المتعلقة بالتجديد الدوري للقوة الإلهية، قديمها وحديثها، نعود إلى ما تقدمنا به من تفسير لدورة حياة الإله بعل، بعد أن توفرت لنا الأرضية اللازمة لدعم هذا التفسير. فإله الخصوبة في المعتقد الكنعاني الأوغاريتي، يجدد قواه عن طريق الموت والبعث من جديد في دورة مقدارها سبع سنوات. أما عن عدد سنوات هذه الدورة فنتقدم بتفسيرين. فإذا كان عدد سنوات الدورة هو فعلا سبع سنوات، فإن اختياره راجع إلى قدسيته باعتباره رقما قمريا يدخل في صميم أسرار العبادات القمرية القديمة. ولكن هناك من الأسباب ما يدعونا إلى الاعتقاد بأن عدد سنوات الدورة البعلية هو ثماني سنوات لا سبع؛ فالإله موت يصحو في السنة السابعة لتحدي بعل؛ ولكن بعل لا يموت إلا في الثامنة بعد انتهاء الصراع. يدعم هذا الاعتقاد نص في ملحمة «دانيال» الأوغاريتية، التي يعود تاريخ تدوينها إلى نفس تاريخ تدوين نصوص بعل وعناة. فهذا هو الملك دانيال يلعن الأرض التي ذبح فوقها ابنه «أقهات»:
فليبتليك بعل بسبع سنين،
ليبتليك راكب الغيوم بثماني سنين،
ليمنع عنك الندى،
لتنحبس عنك الأمطار،
لينقطع دفق الأنهار،
وتحتجب خيرات صوت بعل.
73
وفي هذه الحالة، فإن دورة حياة بعل المؤلفة من ثماني سنوات، هي نفسها الدورة اللازمة لوقع ليلة القمر الكامل، في أطول يوم أو أقصر يوم من أيام السنة الشمسية، وتوافق التقويمين القمري والشمسي، وقد رأينا منذ قليل كيف كانت هذه الدورة تتحكم في حياة الملوك من ممثلي الآلهة في كريت واليونان.
إيزيس وأوزوريس
تتجلى الأم المصرية الكبرى، في شكلها الأبهى كسيدة للطبيعة، تحت اسم إيزيس التي تصفها النصوص الميثولوجية والطقسية بالإلهة المتعددة الأسماء. فهي سيدة القمح وأول من اكتشف زراعته. من ألقابها: «خالقة كل نبت أخضر» و«حقل القمح». وقد قرنها الإغريق والرومان بكل من «ديمتر» و«سيريس»، ووصفتها بعض النصوص الإغريقية ب «والدة ثمار الأرض» و«أم حزم القمح». ولذا نراها في الأعمال التشكيلية الإغريقية والرومانية وقد رفعت بيديها الاثنتين باقتين من سيقان القمح أو زينت رأسها بسنابله. وقد انتشرت عبادتها في العالم الكلاسيكي انتشار النار في الهشيم، منذ فتح الإسكندر الكبير، وملأت تماثيلها المقدسة أصقاع الإمبراطورية الرومانية، وخصوصا تلك التي تمثلها جالسة وفي حضنها الوليد الإلهي، والتي بقي بعضها يعبد من قبل المسيحيين على أنه تمثال السيدة مريم وابنها يسوع.
74
ومنذ الأزمنة المبكرة، يظهر الإله أوزوريس إلى جانب إيزيس أخا أو زوجا أو ابنا، وشريكا في خصائص الخصب، وإلها أسيرا لدورة القمح والإنبات.
فبعد أن اكتشفت إيزيس القمح، أعطت باقاته الأولى لأوزوريس الذي قام بتعليم البشر زراعتها.
75
وقد ابتدأ أوزوريس مهمته في أرض مصر فأبطل العادات الهمجية القديمة، وعلم الناس كيفية صناعة الأدوات الزراعية واستعمالها في استنبات القمح والشعير، وعلمهم أكل الخبز وشرب النبيذ والجعة وبناء البيوت. وهو الذي أسس الديانة الأولى وعلم البشر عبادة الآلهة، واستخدام الآلات الموسيقية. وبعد أن قام بنشر الحضارة في مصر غادرها إلى آسيا وبقية أنحاء المعمورة، متابعا مهمته في نشر الحضارة مستميلا إليه الناس باللين والمحبة والموسيقى، ثم عاد إلى مصر ليحكمها بالعدل، ولكن إلى حين. ففي السنة الثامنة والعشرين من حكمه، قام ضده أخوه الشرير «سيت» الذي نام على حسده وغيرته وضغائنه فترة طويلة، فقتله غيلة ووضع جسده في صندوق خشبي أغلقه بإحكام ورماه في النيل. حملت مياه النيل الصندوق إلى البحر، فطاف على غير هدى حتى استقر عند شواطئ كنعان أمام مدينة بيبلوس، حيث أمسكت به أغصان شجرة الطرفاء النحيلة، التي ما لبثت أن نمت بشكل غير مألوف بعد أن لامسها التابوت المقدس، واحتوته بكامله داخل جذعها. فلما رآها ملك بيبلوس، أعجب بها أشد العجب وأمر بأن تقطع لاستعمالها كعمود يزين قصره ويدعم به سقفه. وما إن نصبت الشجرة عمودا حتى أخذت تتضوع طيبا نفاذا ذاع صيته في كل البلاد، ووصل إلى أسماع إيزيس في مصر، التي كانت في حداد مقيم منذ غياب زوجها. فعرفت ببصيرتها سر الشجرة، وطارت لتوها إلى بيبلوس، حيث تنكرت في هيئة امرأة عادية، ودخلت القصر الملكي كضيفة على الملكة «عستارت»، وصارت مربية لابنها. ثم ما لبثت أن أعلنت عن نفسها وطالبت باستعادة أوزوريس من الشجرة، فكان لها ما أرادت. شقت إيزيس الشجرة وأخرجت الصندوق ففتحته وبكت ما شاء لها البكاء فوق جثة زوجها المسجاة، ثم حملته وطارت به إلى مصر حيث خبأته مؤقتا في مستنقعات الدلتا؛ خوفا من أن يعثر عليه أخوه «سيت». ولكن سيت يجد الصندوق فيفتحه ويمزق جسد أوزوريس إلى أربع عشرة قطعة، يوزعها في طول البلاد وعرضها. غير أن هذا لا يفت في عضد إيزيس التي تعود للبحث عن أوزوريس وتذرع الأرض منقبة عن أجزائه المبعثرة، فتعثر عليها قطعة بعد قطعة، ما عدا عضو الذكورة، ثم تجمع فتنفخ فيها الحياة مستعيدة حبيبها من عالم الموتى. ولكن أوزوريس بعد بعثه، لا يفضل قضاء حياته على الأرض، وإنما يهبط إلى العالم الأسفل ليغدو سيدا له، حاكما وقاضيا في مملكة الموتى، بينما يتابع ابنه من إيزيس «حورس»، مقارعة عمه سيت، ويستمر صراع القوتين: قوة النور والخير، وقوة الظلام والشر.
76
وصلت هذه الأسطورة إلينا عن طريق المصادر الإغريقية، وهي النص الوحيد المعتمد نظرا لعدم وجود نص مصري متكامل يروي قصة إيزيس وأوزوريس. ولا شك أن الإغريق قد استلهموا روايات شفهية كانت سائدة في القرون القليلة السابقة للميلاد، وخصوصا إبان عصر البطالمة، فجاء النص تعبيرا عن الأسطورة في شكلها المتأخر، مضافا إليه تزيين إغريقي واضح. ولكننا رغم ذلك نستطيع أن نكتشف فيها آثارا تدل على أشكال الأسطورة الأقدم. فالمراحل الأولى للأسطورة القمرية تظهر في تقطيع أوزوريس إلى أربعة عشر جزءا، ثم إعادة تجميعها ونفخ الحياة فيها. وقد أشرنا إلى ذلك مفصلا في مكان آخر من هذا الفصل . أما الأسطورة النيوليتية الأولى، فتظهر في قيام الإله بنشر زراعة القمح والحبوب في مصر وبقية أنحاء العالم، ونقل البشر من طور البداءة إلى طور الحضارة. فأوزوريس هنا هو القمح الذي كان لاكتشاف زراعته الأثر الحاسم في بداية التاريخ البشري، وليس موته، وقيام إيزيس بإعادته إلى الحياة، إلا تكرارا لأسطورة القمح القتيل ودورة حياته السنوية. ونستطيع التأكيد على أن أسطورته كانت نسخة مطابقة لأسطورة تموز وأسطورة أدونيس، قبل أن تحوله الاتجاهات المتأخرة إلى إله للعالم الأسفل. ولربما كان تحوله إلى إله للعالم الأسفل، قد مر بمرحلة انتقالية كان فيها إلها لذلك العالم، خلال نصف السنة التي يغيب فيها القمح في باطن الأرض، كما هو حال بيرسفوني التي كانت تقضي نصف السنة ملكة على الموتى، ونصفها الآخر ملكة نورانية في العالم الأعلى. أما توزيع أجزاء أوزوريس الأربعة عشر في أنحاء متفرقة من الأرض، فيذكرنا بالأمثلة العديدة التي أوردناها في هذا الفصل، وبعض الفصول السابقة، عن دفن أجزاء جسد القربان البشرية الممثل لإله الخصب القتيل في الأرض لإخصابها. ولربما كان ملوك مصر الأوائل، الذين بقوا حتى آخر أيام الحضارة المصرية يحملون قبسا من روح الإله الأكبر، وتقدم لهم فروض العبادة كالآلهة، ربما كانوا في الأيام السالفة يقتلون باعتبارهم ممثلين للإله أوزوريس نفسه، وتوزع أجزاؤهم في الحقول لإخصابها.
هذا وتشف بعض عناصر الأسطورة عن صلتها الوثيقة بأسطورة أدونيس الكنعانية، فأوزوريس يولد ولادة ثانية من الشجرة، كما ولد أدونيس. وهذه الولادة تحصل في مدينة جبيل الفينيقية، المركز الرئيسي لعبادة أدونيس. وكما خبأت عستارت أدونيس في صندوق وضعته في عهدة بيرسفوني، ثم عادت إلى العالم الأسفل تحاول استرجاعه، كذلك هو حال أوزوريس الذي وضع جسده القتيل في صندوق راحت إيزيس تبحث عنه حتى وجدته في قصر ملكة بيبلوس، التي تطلق عليها الأسطورة اسم «عستارت». وهذا التطابق بين اسم الملكة واسم الإلهة ليس من قبيل الصدف، بل هو بقية باقية من أسطورة أدونيس، التي ارتحلت في تاريخ مبكر من شواطئ كنعان إلى شواطئ مصر حيث يبدأ حياته الجديدة في أحضان الأم المصرية الكبرى. ويذكرنا الصراع بين أوزوريس الأخضر وسيت، الذي يمثل الجفاف والصحراء التي تحاول التوسع دوما على حساب الأراضي الخصبة حول ضفاف النيل، بالصراع بين بعل وموت. وبشكل عام نلاحظ أن شخصية أوزوريس تتطابق في ملامحها مع شخصية تموز وأدونيس، وخصوصا في علاقته بإيزيس، التي تبدو في النصوص المصرية ظلا حاميا للإله الابن، لا حياة له بدونها. نقرأ في نص يعود إلى المملكة المتوسطة:
أخته من قدم الرعاية له وبسط عليه الحماية.
دفعت عنه الأعداء وجنبته مهاوي حظه العاثر.
دحرت خصومه بتمتمات السحر رتلتها شفتاها،
وتحرك بها لسانها المجرب، وفمها الذي لا تنفد كلماته.
إيزيس، صاحبة السلطان وروح العدل، حمت أخاها.
بحثت عنه بلا كلل، ولا أقعدها عناء.
بدموع جارية طافت كل البلاد فما استراحت قبل لقياه.
ظللت جسده بريشها ورفت فوقه بجناحها.
نعم، إيزيس التي شدت أزر أخيها،
ونفخت في جسده المتلاشي العزيمة.
إيزيس التي تلقت بذوره في بطنها،
وحملت بوارثه فأرضعته في مأمن.
77
طقوس أوزوريس
تختلف مواعيد الدورة الزراعية في مصر عن بقية بلدان الشرق الأدنى اختلافا بينا؛ وذلك لندرة الأمطار والاعتماد على فيضان النيل السنوي. يبدأ منسوب مياه النيل بالارتفاع اعتبارا من شهر حزيران (يونيو)، ليبلغ حده الأعلى نحو نهاية شهر أيلول (سبتمبر) فيغمر الشريط الخصب الممتد حول شواطئ النهر. ولمدة شهر تقريبا تبقى مياه النهر ثابتة عند منسوبها، ثم تبدأ بالانخفاض ليعود النهر إلى سريره الطبيعي نحو شهر كانون الأول (ديسمبر)، مخلفا في الأرض التي تركها تربة جديدة خصبة، جرفها معه عبر مساره الطويل. لذلك يختلف موسم دفن الحبوب في التراب وموسم حصاد الحبوب عن بقية المواسم في المنطقة. فزراعة الحبوب تبدأ في نوفمبر (تشرين الثاني) وتنتهي في ديسمبر (كانون الأول)، وذلك تبعا لجغرافية المنطقة ووضعها من النهر. أما الحصاد فيبدأ في الربيع وينتهي في أيار (مايو). وفي الفترة الفاصلة بين انتهاء الحصاد وبداية ارتفاع النيل تبدو سهول مصر في حالة كئيبة، تهب عليها الرياح الساخنة وتلفحها شمس حزيران الحارقة. ولقد أثر هذا الطابع الخاص للدورة الزراعية في مصر على الطقوس والأعياد الأوزيرية، وعلى مواعيدها السنوية.
يمكن تتبع نوعين من الطقوس الأوزيرية في تاريخ مصر القديم؛ النوع الأول: هو الطقوس الشعبية البدائية التي مارسها زارعو القمح منذ القديم، وبقوا على ولائهم لها حتى الفترات المتأخرة. وقد ارتبطت هذه الطقوس بمواعيد الدورة الزراعية النيلية، فبقيت ثابتة عبر آلاف السنين، تقام كل عام في الموعد المحدد نفسه. أما النوع الثاني: فالطقوس الرسمية التي كان الكهنة يقيمونها في المعابد. وهذه الطقوس رغم انبثاقها عن طقوس المزارع القديم؛ فقد انفصلت عن مواعيد الدورة الزراعية؛ نظرا لابتكار الكهنة تقويما لا يتطابق تماما مع السنة الشمسية، ولا يجري تعديله دوريا لتحقيق مثل هذا التطابق. لذلك راحت مواعيد الطقوس الأوزيرية الرسمية، عبر فترة طويلة من الزمن، تدور عبر الفصول من الصيف إلى الخريف فالشتاء فالربيع، راجعة مرة أخرى إلى الصيف، وذلك حتى جرى تبني التقويم الشمسي الحقيقي، وهو التقويم الإسكندري، عام 30ق.م.
78
تتشابه الطقوس الشعبية الأوزيرية في جوهرها وكثير من شكلياتها، مع طقوس المزارعين السوريين التي سلف الحديث عنها؛ ففي أوقات الحصاد كان الحصادون لدى قطعهم حزم القمح الأولى، يندبون الإله القتيل الذي تهاوى تحت مناجلهم المسنونة، ويرفعون أدعية خاصة إلى الإلهة إيزيس (مما يدل على أن النواح في أصله كان نواحا على إيزيس لا على أوزوريس). وكان نواح الحصادين يتخذ إيقاعا موسيقيا مع ترديد بعض الكلمات، التي ميز الرواة اليونانيون منها كلمة مانيروس، والتي تعني: عد إلى بيتك، مما جرى الحديث عنه في مكان آخر من هذا الفصل. وبعد انتهاء الحصاد وابتداء موسم الفيضان، يقام احتفال آخر مكرس لإيزيس؛ فقد رأى المصريون في فيضان النهر دموع الإلهة التي تبكي زوجها الميت، فتنثال دموعها سواقي ترفع مياه النيل. ولما كان ابتداء الفيض يترافق مع ظهور نجم الشعري اليمانية (سيريوس) أكثر النجوم الثابتة لمعانا في السماء؛ فقد نسب المصريون هذا النجم لإيزيس. وكانوا يرون في ظهوره قبل الفجر، خلال الأيام القليلة السابقة للانقلاب الصيفي، إيزيس نفسها وقد أتت لتبكي أوزوريس الفقيد. أما بعد تراجع الفيضان وبدء موسم البذار، فكان للمزارعين طقوس حداد ثانية على الإله القتيل الذي يوارى الثرى. وقد وصف الكاتب اليوناني «بلوتارخ» هذه الطقوس ودعا قارئه إلى عدم العجب منها؛ لأنها تشابه في جوهرها طقوس الحداد الديمترية.
79
أما الطقوس الرسمية فكانت تقام في معابد المدن بعيدا عن حقل القمح الذي نشأت فيه. وهناك من الدلائل ما يشير إلى أن عيدا واحدا لأوزوريس كان يقام مرة في السنة في شهر تشرين الثاني (نوفمبر)، وأن هذا العيد قد بقي ثابتا في توقيته منذ تبني التقويم الشمسي الإسكندري. تستمر طقوس الندب على أوزوريس القتيل في عيده السنوي مدة أربعة أيام، تمثل خلالها دراما حياته القصيرة وعذاباته وبعثه، وتتشابه هذه الطقوس مع غيرها من طقوس الإله الابن القتيل، حيث يقود الكهنة جموع الندابين، فيقرعون صدورهم ويلطمون وجوههم وينكئون جراحهم القديمة، ويقومون بالبحث عن أوزوريس الفقيد حتى يجدوه، فيعلنون عودة الإله إلى الحياة وتبدأ الأفراح. وقد تمثل عودة أوزوريس إلى الحياة بطفل صغير يرفعه كاهن يمثل الإله أنوبيس، الذي ساعد إيزيس في البحث والعثور على زوجها. وفي ذلك إشارة خفية إلى كون أوزوريس هو الأخ والزوج والابن في آن معا. وطيلة أيام الطقوس ينصب في المكان تمثال خشبي لبقرة متشحة بالسواد يرمز للإلهة إيزيس، وقد يحمل تمثال البقرة هذا ويطاف به، لتمثيل طواف إيزيس الطويل في رحلة البحث عن أوزوريس.
80
أما أوزوريس فيمثل أحيانا في هذه الطقوس بعمود معروف في النصوص والأعمال التشكيلية باسم عمود ال «دجد». وكان هذا العمود في هذه المناسبات وغيرها موضع تقديس وعبادة، وينوب مناب تمثال الإله نفسه.
81
وفي أصله لم يكن ال «دجد» سوى جذع شجرة من فصيلة الأشجار دائمة الخضرة، ثم تحول إلى عمود ذي تاج رباعي،
82
وفي ذلك إشارة إلى أوزوريس باعتباره روحا للشجرة والإنبات بشكل عام. ومما يرويه المؤرخ الإغريقي هيرودوتس عن هذه الاحتفالات التي شاهدها بأم عينه، قيام فريقين من المشاركين في الطقوس بتمثيل الصراع بين أوزوريس وأخيه، عن طريق الاشتباك الفعلي في قتال دام، تستعمل فيه الهراوات الخشبية سلاحا، ويسقط في نهايته عدد كبير من الجرحى وربما بعض القتلى أيضا.
83
هذا، وقد عثر على برديات مصرية قديمة تحتوي على نصوص شبه درامية، وضعت لتوجيه الكهنة ومساعدتهم في الإخراج الدرامي لأسطورة أوزوريس. وقد تم في هذه النصوص تقسيم الأحداث إلى مشاهد منفصلة، وقدمت التعليمات إلى الممثلين كل حسب دوره في الاعتماد على الحركة والأفعال الرمزية، أكثر من الكلمة المنطوقة.
84
وهذا يذكرنا بنصوص بعل وعناة الأوغاريتية التي احتوت بين سطورها إشارات موجهة للمثلين.
85
مما يؤكد المنشأ الديني للدراما في شكلها المتطور اللاحق، وولادة المسرح من طقوس الخصب القديمة.
سيميلي وديونيسيوس
بعد أدونيس، كان ديونيسيوس ثاني أبناء الأم الكبرى الذين اقتحمت عبادتهم الديانة الإغريقية، وقد جاء هذا الإله، ذو الأصول الشرقية الواضحة، من منطقة تراقيا المتاخمة لآسيا الصغرى من جهة الشمال والمتأثرة بها ثقافيا وحضاريا، وابتدأ حياته إلها ثانويا إلى جانب آلهة اليونان القدامى، ولكنه ما لبث أن صعد إلى الأوليمب، وصار أكثر الآلهة شعبية خلال القرون القليلة السابقة للميلاد.
جاء ديونيسيوس إلى اليونان مع أمه «سيميلي» الأم-الأرض التراقية، ولكنه ما لبث أن انفصل عنها تدريجيا، وخضعت أسطورته إلى تحويرات الثقافة الذكرية، حتى خلت ديانته تماما من عبادة الإله الأم، وبقي الإله الابن يلعب وحده الدور الأساسي في الطقس والأسطورة. بعد سيميلي، جعلت منه الأساطير الإغريقية المتعددة والمختلفة، ابنا لعدد من أشكال الإلهة الأم؛ فهو ابن لبيرسفوني أو لديمتر أو لسيبيل. وهذا التنوع في الروايات المتعلقة بنسب ديونيسيوس، يشير إلى تراجع دور الأم في الأسطورة الديونيسية، وظهور الابن كممثل وحيد على مسرح الطبيعة. غير أن هذا التراجع في دور الأم لم يؤثر على جوهر الديانة الديونيسية، التي بقيت أمومية في صميمها وغاياتها. ورغم تحوله في شكله الأخير إلى إله للخمر والكرمة والأشجار المثمرة؛ فقد بقي ديونيسيوس يحمل ملامح واضحة قوية من شكله القديم كإله للقمح والحبوب، وشكله الأقدم كإله قمري وثور سماوي.
فقد جاء ديونيسيوس كمولود ذي قرون، وتشير إليه بعض النصوص على أنه «المولود من بقرة» و«ذو القرنين». وكان يظهر لأتباعه في بعض المناسبات في هيئة الثور الكاملة. وقد استلهمت الأعمال التشكيلية هذه الألقاب والصفات، فاستعارت له بعض ملامح الثور وأعضائه، ومثلته في هيئة الثور، فنراه أحيانا في هيئة فتى ذي قرنين، وأحيانا يرتدي جلد الثور الذي يتعلق به الرأس والذيل والأطراف، وأحيانا كطفل له رأس عجل يجلس في حضن امرأة.
أما عن أصوله كإله للقمح، فيحكي عن مولده أن أول سرير وضعته أمه فيه كان مذراة للقمح. وقد غدت هذه المذراة رمزا من رموزه، وأشارت إليه بعض النصوص على أنه «ذو المذراة»، كما أنه أول من ربط الثيران إلى المحراث ومارس حراثة الأرض بهذه الطريقة. وكان النور يشع من بعض معابده عشية عيده السنوي ليبشر بمواسم حصاد طيبة. ومن إله للقمح، تحول ديونيسيوس إلى إله للإنبات بشكل عام، وإله للشجر المثمر بشكل خاص. فهو الذي اكتشف زراعة الشجر، من ألقابه «ديونيسيوس الشجر» و«ساكن الشجر». من هنا كان الكهنة ينصبون في معابده جذع شجرة ينوب مناب تمثاله، وكذلك زارعو الشجر الذين كانوا ينصبون في مزارعهم جذاعا مقدسا مماثلا، ويشيرون إلى ديونيسيوس بألقاب منها «المزهر» و«منبت الثمر» و«ذو الثمار اليانعة». وكان شجر الصنوبر من أشجار الإله المقدسة، ومنه صنعت بعض تماثيله، التي يظهر في بعضها وقد حمل في يده صولجانا ينتهي بثمرة الصنوبر. وكذلك الأمر فيما يتعلق بشجرة التين التي ارتبطت وثيقا بعبادة ديونيسيوس، فكان وجهه في بعض التماثيل يصنع من خشب هذا الشجر. إلا أن شجرته الرئيسية كانت شجرة الكرمة التي ارتبطت بخمرها طقوس هذا الإله وديانته.
86
أما عن أسطورة ديونيسيوس فإن الرواية الرئيسية لها تجري على النحو الآتي:
عندما جاءت الإلهة ديمتر من كريت ومعها ابنتها بيرسفوني، قامت بإخفاء ابنتها في كهف أمين قرب أحد الينابيع، وأوكلت بحراستها الثعبانين الهائلين اللذين يجران عادة عربتها. وفي ذلك الكهف مكثت بيرسفوني تنسج وشاحا صوفيا لترسم عليه صورة بديعة للكون (قارن ما ورد في فصل القمر، عن عشتار كناسجة للقدر). ولكن الإله زيوس يتمكن من دخول الكهف في هيئة ثعبان، ويضاجع بيرسفوني التي تحمل وتضع في المغارة ابنها ديونيسيوس، الذي تتعهده بالرعاية في نفس المكان. إلا أن زوجة زيوس الغيور هيرا تحرض التيتان على قتل الإله الصغير، فيأتون في هيئة تنكرية، وقد طلوا وجوههم وأجسامهم بالجبس الأبيض، فينقضون على الطفل الذي أظهر شجاعة وفطنة في التخلص منهم، حيث حول نفسه إلى أسد، فحصان، فأفعى ذات قرون فنمر. وأخيرا أمسكوا به وهو في هيئة الثور، وقطعوه إلى سبع قطع والتهموه نيئا، ومن قطرات دمه التي تساقطت على الأرض نبتت أزهار الرمان. إلا أن الإلهة أثينا، التي كانت على مقربة من الحادث، استطاعت إنقاذ قلب الإله وسلمته إلى أبيه زيوس الذي أسرع إلى المكان، فقضى على التيتان ببرقه وصواعقه، وأخذ قلب الصغير فأعطاه إلى جدته «رحيا» التي أعادت ديونيسيوس إلى الحياة. وفي رواية أخرى أن أثينا قد وضعت القلب في قالب من الجبس ثم نفخت فيه الحياة.
87
في شكل آخر للأسطورة، نجد ديونيسيوس ابنا لسيميلي، وهي إلهة الأرض في فرجيا وتراقيا،
88
وإلهة للقمر أيضا. وكانت عابدات القمر في احتفال ال «لينايا» الذي يطلق عليه اسم احتفال النساء المتوحشات، يضحين لها بثور يقطعونه إلى تسع قطع يلتهمنها نيئة،
89
ولكن الأسطورة المتأخرة تجعل من سيميلي زوجة للملك قدموس ملك طيبة، التي يأتيها زيوس في هيئة بشرية ويضاجعها خفية عن زوجها، فتحمل منه بالإله ديونيسيوس، وتستمر علاقتهما إلى أن يبلغ الجنين في بطنها الشهر السادس. عندها تعرف زوجة زيوس الغيور هيرا بالأمر، فتأتي إلى سيميلي في هيئة جارة عجوز وتنصحها بأن تطلب من زيوس أن يظهر أمامها في هيئته الحقيقية، كإله للبرق والصواعق؛ لتتأكد من شخصيته الإلهية. وعندما يأتي زيوس مساء لينام معها، تتمنع سيميلي طالبة منه أن يتبدى أمامها في شكله الإلهي فيرضخ لطلبها، إلا أن صواعقه تحرقها فتهبط لتوها إلى العالم الأسفل، ولكن زيوس يفلح في إنقاذ الجنين من أحشائها بمعونة الإله هرمز، ويقوم بشق ساقه ووضع الجنين فيه ليتم فترة حمله. وفي الشهر التاسع يفتح ساقه، ويستولد منها ديونيسيوس
90
الذي يتسلق وهو طفل عرش أبيه ويلعب بصواعقه بيديه الصغيرتين مقلدا كبير الآلهة.
إلا أن زيوس الذي يعرف أن حقد هيرا لن يقف عند هذا الحد، قد أخذ ابنه الصغير وأسلمه أمانة للملك «آتماس» وزوجته «أنيو»، لينشئاه بعيدا عن عيون هيرا. فأخذاه وربياه في جناح الحريم وألبساه ثياب البنات، زيادة منهما في التمويه. ولكن هيرا تكتشف الأمر، وتعاقب الملك وزوجته فتضربهما بالجنون. فيعمد زيوس إلى نقل ديونيسيوس إلى عهدة حوريات جبل «نيسا» حيث يكبر ويشتد ساعده، ويكتشف في مخبئه ذاك زراعة الكرمة ويصنع منها الخمر. ورغم وصوله مرحلة الشباب واكتسابه هيئة أنثوية، نتيجة للتربية الخاصة التي خضع لها، فإن هيرا تتعرف فيه على ملامح الابن غير الشرعي لزيوس، فتضربه بالجنون فيهيم على وجهه في البراري دون هدى فترة طويلة. وعندما يصحو يقرر الطواف في جميع أنحاء العالم ومعه معلمه الساتير «سيلنوس»، وحشد كبير من الساتير الآخرين الذين ساروا وراءه في موكب حافل. زار ديونيسيوس مصر وسوريا والهند وبقاعا أخرى كثيرة، فنشر فيها زراعة الكرمة ووطد فيها الشرائع والقوانين، وبنى المدن الكبيرة، وأسس لعبادته فيها. ثم قفل عائدا إلى جبل الأوليمب حيث ارتقى سدة الرئاسة إلى يمين أبيه كبير الآلهة. غير أن ديونيسيوس لم ينس أمه سيميلي التي ماتت قبل أن تلده. فقرر الهبوط إلى العالم الأسفل لاسترجاعها إلى الحياة، وهناك استطاع استرضاء بيرسفوني ببعض الهدايا، ففكت إسار سيميلي من الموت، وصعدت مع ابنها إلى السماء وانضمت إلى آلهة الأوليمب.
91
هذه هي أسطورة ديونيسيوس في خطوطها العامة، وقد لعب فيها الخيال الإغريقي بحرية كبيرة، وتناولتها الاتجاهات الدينية المختلفة كل على هواه. ومع ذلك، فإنها لا تخفي الهيكل الأصلي لأسطورة الإله الابن، شأنها في ذلك شأن بقية أساطيره المتأخرة، على ما نبينه في المقارنات التالية: (1)
فالقطع السبع التي مزقه إليها التيتان والتهموها، ثم أعيد بعثها في جسد جديد، هي درجات الموت السبع التي هبطتها إنانا السومرية وعشتار البابلية، والقطع الرئيسية التي يفقدها القمر في طريقه للاحتجاب في العالم الأسفل. وهي أيضا نصف العدد 14، الذي قسم إليه جسد أوزوريس من قبل أخيه سيت، والتي أعادت إيزيس جمعها ونفخت فيه الحياة. (2)
رغم أن الأسطورة في شكلها الأخير لا تشير صراحة إلى موت وبعث ديونيسيوس باعتباره موتا وبعثا سنويا، إلا أن هذا الفكرة متضمنة في طقوسه السنوية التي سنتطرق إليها بعد قليل. ولا شك أن إسقاط الأسطورة لعنصر الموت السنوي، قد جاء نتاجا لتذكير الأسطورة ومحاولة الابتعاد بها عن حلتها الأمومية، ورفع ديونيسيوس من أسير لدورة الطبيعة إلى إله أوليمبي، يجلس عن يمين كبير الأرباب في الأعالي، لا في الأسفل حيث حضن الأرض. (3)
لعلنا واجدون في انقضاض التيتان على ديونيسيوس وتمزيقه في هيئة الثور، وهي آخر هيئة تحول إليها، تكرارا لمشهد مصرع دوموزي في الأسطورة السومرية، حيث تنقض عليه عفاريت العالم الأسفل محاولة جره معها، فيطلب إلى الإله «أوتو» تحويله تارة إلى غزال وتارة إلى حية. نقرأ في نص هبوط إنانا إلى العالم الأسفل:
فبكى دوموزي حتى ازرق وجهه،
ورفع يديه إلى السماء نحو أوتو قائلا:
حول يدي إلى حية وقدمي إلى حية،
أنقذني من العفاريت ولا تدعهم يأخذونني.
92 (وفي نص آخر عن موت دوموزي، نجده يدعو أن يتحول إلى غزال):
فتلقى أوتو دموعه قربانا،
وكإله رحمة واسعة أراه من رحمته.
حول يديه إلى يدي غزال،
فلم تطله عفاريت الجالا،
ونجى بنفسه إلى شوبيريلا.
93
ولكن العفاريت تنقض في النهاية على دموزي وتمزقه، كما مزق التيتان من بعده ديونيسيوس رغم تحولاته المتعددة إلى أسد فحصان فأفعى. (4)
إن رحلة ديونيسيوس الطويلة في أنحاء المسكونة وتعليم أهلها أصول الحضارة وإعطاءهم الشرائع والقوانين وبناء المدن الكبيرة، تكاد تكون نسخة مكررة عن رحلة أوزوريس، مع فارق واحد يتعلق بالنبات الذي حمله كل إله إلى بني البشر. فبينما حمل أوزوريس القمح وعلم الناس أكل الخبز، حمل ديونيسيوس الكرمة وعلم الناس شرب الخمر. وفي الحقيقة لم يكن النبات الذي حمله ديونيسيوس في شكله القديم إلا القمح، ولم يعلم الناس إلا أكل الخبز؛ لأن الشرائع والقوانين التي مد بها ديونيسيوس البشر، والمدن الكبيرة التي بناها، لتدل على انتشار زراعة القمح، والاستقرار في الأرض وبناء المستوطنات الثابتة، أكثر مما يدل على انتشار زراعة الكرمة وتخمير الشراب المسكر. (5)
تبرر الأسطورة ، بطريقة مبسطة، التكوين الأنثوي للإله الابن، فتعزوه إلى تربيته في جناح الحريم تربية نسائية، ولبسه لفترة طويلة ملابس النساء اختفاء عن عيون هيرا، التي كانت تترصده في كل مكان. وبذلك لا يشذ ديونيسيوس عن بقية الآلهة الأبناء في التكوين الأنثوي الذي يميز شكله وشخصيته، بل لعله في ذلك قد بز جميع أقرانه. وتفسير ذلك في رأينا راجع إلى غياب صورة الإلهة الأم من الديانة الديونيسية، واستقطاب الإله الابن كل الميول العاطفية التي كانت تستقطبها عبادة الأنثى. يضاف إلى ذلك، أن الديونيسية كانت بشكل أساسي ديانة للنساء، كما ألمحنا إلى ذلك في فصل سابق، ولا نستطيع أن نستبعد أثرهن على تشكيل الصورة العامة لإله تلك الديانة.
هذا ونستطيع أن نعثر على مساهمتين أساسيتين للميثولوجيا الذكرية، في إضفاء طابع بطريركي على هذه الأسطورة: (1)
لم تسمح الأسطورة للإلهة الأم بأن تستكمل مهمة ولادة ابنها ديونيسيوس، بل لقد شاركها في ذلك الإله الأب نفسه، فحمل عنها نصف المهمة والأهم؛ إذ قام زيوس الذي تسبب بوفاة سيميلي، بإنقاذ الجنين وزرعه داخل جسمه ليطلقه إلى الحياة كائنا مكتملا في ولادة حقيقية. وهذه هي المرة الثانية التي يلد فيها كبير آلهة الأوليمب. فقبلها قام بولادة ابنته أثينا من جبهته بعد أن ابتلع أمها «ميتس» وهي حامل بها. وربما كان في هذه الرواية أثر من حدث تاريخي قديم، عندما اجتاحت القبائل البطريركية المجتمع الأمومي، أو ثارت جماعة الذكور من الداخل، فقضت على عبادة الأم الكبرى وقتلت كاهنتها، بينما أبقت على عبادة الإله الابن وحاولت إدماجه في نظامها الديني الأبوي. (2)
في الشكل المتأخر لأسطورة ديونيسيوس، يخضع أحد العناصر الأساسية لأسطورة الإله الابن، إلى أكبر عملية تحوير وعكس للأدوار بين الأم الكبرى وابنها الوليد الإله المحكوم بالهبوط إلى العالم الأسفل. ففي الشكل الأصلي للأسطورة يهبط الابن ميتا إلى العالم الأسفل، وتقوم الأم باستعادته إلى الحياة. أما في الأسطورة الذكرية، فإن الأم هي التي تهبط ميتة إلى العالم الأسفل، بينما يهرع الابن إلى استعادتها وبعثها من الموت.
طقوس ديونيسيوس
لدينا من الدلائل ما يشير إلى أن طقوس ديونيسيوس الرئيسية كانت تقام في عيده السنوي الذي يصادف وقوعه في فصل الربيع، حيث يجر الإله الصاعد من العالم الأسفل فصل الخضرة والإنبات وراءه. في ذلك العيد كانت دراما الإله الميت تمثل وتنشد بكامل تفاصيلها، مع التأكيد على اللحظات الأخيرة التي عانى فيها ديونيسيوس العذاب والآلام ثم ذاق الموت، حتى إن جوقة الصنوج والفلوت كانت تعبر بألحان تثير كل أشجان النفس، عن حشرجات الإله وهو يسلم أنفاسه الأخيرة. وبعد ذلك كانت الدراما تنتقل إلى نهايتها المعروفة، حيث يتم بعث الإله وعودته إلى عرشه السماوي من جديد. وخلال الطقوس كان المشتركون يأتون بثور يمثل الإله ديونيسيوس نفسه، فيمزقونه حيا ويأكلون لحمه نيئا ويشربون دمه، ثم يهيمون بين الأحراش حاملين معهم سلة يفترض أن بها قلب الإله القتيل. وفي مناطق أخرى كان الطقس يركز على قصة هبوط ديونيسيوس إلى العالم الأسفل لاستعادة أمه سيميلي، ثم عودته ظافرا من العالم الأسفل. فكانت الدراما تمثل سنويا عند شاطئ بحيرة، كان يعتقد أن الإله قد هبط منها إلى العالم الأسفل، وأنه من ذات البحيرة سوف يبعث من جديد.
94
وبذلك يعود الطقس إلى شكله المألوف الذي عهدناه في طقوس بقية الآلهة الأبناء، ويبدو ديونيسيوس على حقيقته كروح للإنبات التي تموت وتحيا في كل عام.
وفي مناطق أخرى كان المحتفلون يأتون بتيس يمزقونه حيا ويأكلونه بدل الثور، وذلك انطلاقا من معتقد آخر يربط ديونيسيوس بالماعز لا بالبقر. فمن ألقاب ديونيسيوس الكثيرة أيضا «الذي يلبس جلد التيس»، وكان يظهر في بعض المناسبات على هذه الهيئة،
95
وهذا ما يجعله أول الساتير، وهم جنس من الآلهة الثانوية التي تصورها الأسطورة والأعمال التشكيلية في هيئة البشر وهيئة الماعز، وكانوا يعيشون في الغاب ويكرسون حياتهم للشرب وللهو والجنس، وشكلوا عصبة تسير وراء الإله ديونيسيوس وتشارك في طقوسه، وقد قدمنا تفصيلات عنهم في مكان آخر من هذا الكتاب. كما جرت العادة في بعض المناطق على تقديم قربان بشري بدل التيس أو الثور في طقوس ديونيسيوس، فكان هذا القربان يقتل ويمزق بنفس الطريقة التي كان يتم بها قتل وتمزيق التيس أو الثور. وقد استبدل طقس القربان الحيواني بهذا الطقس فيما بعد. وهذا ما يعود بنا إلى الممارسات القديمة المتعلقة بقتل الإله ممثلا في القربان البشري. ولعل في الروايات المتوارثة عن قتل وتمزيق اثنين من ملوك اليونان القدماء، وهما «بنثيوس» و«ليكورغوس» لتجديفهما على الإله ديونيسيوس، إشارة إلى ممارسة قديمة تتعلق بقتل الملوك ممن كانوا يمثلون الإله ديونيسيوس نفسه.
96
وبعد، لقد بعثت الديونيسية التقاليد الأمومية في المجتمع الإغريقي بعد نوم طويل، وقام زيوس أخيرا بتسليم العرش إلى ديونيسيوس، ابن الأم الكبرى وسليل النسب القمري، لا إلى أبولو إله الشمس وسليل آلهة الذكور الأعلين. كما مهد انتصار الديونيسية المؤزر الطريق أمام غزو الديانات الأمومية الشرقية، التي بدأت منذ فتوحات الإسكندر بالتغلغل في العالم الكلاسيكي، حيث شاعت عبادة إيزيس، وعبادة «ديا-سيريا» أي الإلهة السورية التي هي عشتار أو عستارت، وعبادة سيبيل الأم الكبرى لآسيا الصغرى. كما عمد بعض الأباطرة ذوو الأصل السوري على جعل الآلهة السورية آلهة رسمية للدولة، مثلما فعل الإمبراطور أليجابالوس (أليجا - بعلوس)، عندما حاول رفع الإله بعل إلها أكبر للإمبراطورية. وقد بدا لفترة، أن الشرق الذي أخفق في اجتياح الغرب عسكريا منذ الألف الخامس قبل الميلاد، قد صار مهيئا لاجتياحه روحيا وثقافيا. وفي هذا الصدد يقول «باخوفن»، وهو أحد رواد دراسة الأسطورة في القرن التاسع عشر الذي تركت آراؤه بصمات واضحة على علم الأسطورة في الغرب: «لقرون عديدة بدت إيطاليا وكأنها ستبقى أبدا معتمدة على آسيا، بعد أن تمكنت الديانات الشرقية من كل ركن من أركانها. كما بدا أنها لن تستطيع تجاوز الثقافات الشرقية، التي أقامت عليها روما صرح حضارتها في الأرض الإيطالية، وبزغت من رحمها. إلا أن الرومان قد أخذوا تدريجيا يعون بوضوح التناقض فيما بينهم وبين الثقافات الغريبة المحيطة بهم، ويدركون دورهم التاريخي؛ ذلك أن القضاء على العناصر الآسيوية داخل جسم الحضارة الرومانية، كان شرطا للوجود بالدرجة الأولى، وشرطا لمجد روما بالدرجة الثانية. من هنا جاء تحرك الروح الرومانية للقضاء على مصادر التهديد في الداخل والخارج. فبعد أن تم القضاء على مراكز الثقافة الشرقية في الأرض الإيطالية، تفرغت روما لحربها الفاصلة مع قوى الشرق، ممثلة في قرطاجة وقائدها هانيبعل. فكان تدمير قرطاجة الفينيقية أهم نقطة تحول في تاريخ الإنسانية؛ لأنه نقل السيطرة على العالم من الشرق إلى الغرب. لقد كان تدمير قرطاجة، بلا شك، خسارة كبرى في المعارف والخبرات الإنسانية، ولكننا غير نادمين على ذلك؛ لأن المبادئ الروحية الغربية قد انتصرت وقضت على التركة الشرقية إلى الأبد.»
97
على أن ما غفل عنه باخوفن في تحليله هذا هو أن الرومان في قمة صراعهم مع هانيبعل، عندما كان القائد السوري يقرع الأبواب، لم يستنجدوا إلا بالأم الشرقية الكبرى، حيث بعثوا رسلا رسميين إلى فرجيا بآسيا الصغرى؛ لجلب حجر الإلهة «سيبيل» الأسود، ونصبه في روما لاستجلاب بركتها. (1) سيبيل وآتيس
دخلت سيبيل روما تحت اسم «ماجنا-ماتر» أي: الأم الكبرى، وذلك عام 204 قبل الميلاد، عندما كانت الجيوش الفينيقية تتقدم نحو روما لحسم المعركة على الأرض الإيطالية. وكان ذلك إثر نبوءة لإحدى العرافات جاء فيها أن نصر روما سيتحقق بوجود الأم الكبرى بينهم. وقد أوفد مجلس الشيوخ رسلا رسميين إلى فرجيا، فجاءوا بحجر الإلهة سيبيل الأسود، الذي يعتبره الفرجيون عرش الإلهة المقدس، ونصبوه في احتفال رسمي وشعبي كبير فوق قمة البالنتين حيث معبد النصر. وبعد ذلك بأقل من عامين انسحب هانيبعل من إيطاليا، فبنى الرومان لسيبيل معبدا خاصا، وانتشرت عبادتها مع حبيبها آتيس في جميع أنحاء البلاد مع مطلع العصر الإمبراطوري.
98
وقد لمس الرومان بركة الأم الكبرى منذ العام الأول لإقامتها بينهم؛ إذ فاضت مواسم ذلك العام بخيرات لم تشهد لها البلاد مثيلا منذ زمن بعيد. أما القائد القرطاجي المتراجع فقد وقف على الشاطئ الإيطالي، قبل صعوده في آخر سفينة مغادرة، ليلقي نظرة أخيرة على الأرض التي كانت مسرحا لأحلامه، وهو لا يدري أن روما العظيمة، التي دحرت المد الشرقي العسكري، قد فتحت أبوابها لغزو شرقي من نوع آخر، غزو ديني اكتسبها دون قتال،
99
ابتدأ بالأم الكبرى سيبيل وابنها آتيس القتيل، وانتهى بانتصار آخر مؤزر للشرق على الغرب، على يد الأم الكبرى مريم العذراء وابنها يسوع المسيح بعد بضع مئات من السنين.
يبدو آتيس في الأسطورة ابنا لسيبيل تارة، وحبيبها تارة أخرى. وتحكي رواية مولده أن أمه العذراء قد حملت به بعد أن احتضنت غصنا من أغصان شجر اللوز أو شجر الرمان. وعندما شب الإله الصغير وصار فتى وسيم الطلعة، لم يستمتع بشبابه طويلا؛ إذ إن حياته قد انقضت بميتة عنيفة، عندما خصى نفسه تحت شجرة الصنوبر ونزف حتى الموت، ومن دمائه التي سقت التربة نبتت أزهار البنفسج. ويقال إن الإله بعد ذلك تحول إلى شجرة صنوبر، وفي رواية أخرى: يموت آتيس نفس الميتة التي سبقه إليها أدونيس؛ إذ يفترسه الخنزير البري. ولذلك يمتنع عباد آتيس، شأنهم في ذلك شأن عباد أدونيس، عن أكل لحم الخنزير. أما عن طقوس آتيس فكانت تقام في عيده السنوي يوم الثاني والعشرين من آذار. تبدأ الاحتفالات في اليوم الأول بأن يمضي إلى الغابة فريق من المحتفلين، فيقتطع شجرة صنوبر يلفها بالقماش الأبيض كما تلف الجثة، ويزينها بأزهار البنفسج التي انبعثت من جراح الإله القتيل، ثم تعلق إلى وسطها صورة لآتيس الشاب، وتحمل إلى معبد سيبيل حيث تنصب هناك. وفي اليوم الثاني تنطلق الأبواق من معبد الإلهة ومن شتى أنحاء المدينة، تعزف الأنغام الحزينة التي تنعي موت الإله. أما انفجار الحزن في شكله الدرامي العنيف فيتم في اليوم الثالث الذي يدعى بيوم الدم، حيث يبدأ كبير الكهنة بإحداث جرح كبير في ذراعه يندفع منه الدم على شكل نافورة غزيرة، ثم يندفع بقية الكهنة إلى الحلبة في رقص مجنون على أنغام آلات النفخ المختلفة، إلى أن يتوصلوا إلى حالة من الوجد يفقدون معها الإحساس، فيأخذون بتجريح أنفسهم بقطع من الزجاج والخزف أو الموسى، ويغسلون بدمائهم مذبح الإلهة وصورة الإله القتيل. بعد ذلك تبدأ طقوس الخصاء حيث يتقدم الكهنة الجدد لتقديم ذكورتهم على مذبح سيبيل، مما تحدثنا عنه في مكان سابق من هذا الكتاب. وفي مساء هذا اليوم يتحول حزن العباد إلى فرح غامر، فلقد فتح غطاء القبر وبعث آتيس من بين الأموات. وفي اليوم الرابع للاحتفال، الذي كان يعتبر موعدا للانقلاب الربيعي، ينهي العباد صومهم عن الخبز الذي بدءوه في اليوم الأول؛ اقتداء بسيبيل التي صامت عنه حزنا على زوجها الغائب. وتشهد المدينة احتفالات وكرنفالات بهيجة يشترك فيها أهل روما من كل الطبقات ويبيحون لأنفسهم كل ممنوع. وينتهي العيد بأن يحمل الكهنة على عربة خاصة تمثالا للإلهة، مصنوعا من فضة ورأسه من حجر أسود، فيسيرون به في موكب يتقدمه نبلاء القوم حفاة الأقدام، فيصلون إلى النهر ويغسلون العربة والتمثال بالماء، ثم يعودون بالعربة وقد زينوها بكل نوع من أزهار الربيع.
100
لا تقدم لنا أسطورة آتيس وطقوسه كثيرا من الأشياء الجديدة على الأرضية التي صارت مألوفة لدينا تماما. فالعذراء تحمل بقواها الإخصابية الخاصة دون معونة من ذكر، وليست الإشارة إلى احتضانها غصنا من شجر الرمان إلا تعبيرا، باللغة السرية للأسطورة، عن إخصاب الأم نفسها بنفسها باحتضان رمز من رموزها. وكهنة سيبيل الخصيان وطقوس الخصاء في أعيادها، تذكرنا بكهنة عستارت الكنعانية وطقوس الخصاء في معابدها. ومن الملفت للنظر أن نجد ذكرا لعستارت وكهنتها الخصيان وطقوسها، في كتاب مشهور لكاتب روماني عاش في أواخر القرن الثاني بعد الميلاد، وهي الفترة التي ثبتت فيها المسيحية أقدامها في كل من سوريا وروما. والكتاب لا يشير إلى الإلهة بالاسم، وإنما يدعوها باسم «الإلهة السورية» ففي كتابه
The Golden Ass
يقدم الكاتب الروماني
Apuleius
في فصل «الكهنة الخصيان» الوصف الحي التالي لجماعة من خصيان الإلهة السورية وقد خرجت في موكب طقوسي وراء تمثال الإلهة المحمول: «كانت ملابسهم متعددة الألوان، وقد صبغوا وجوههم بالأحمر، يضعون على رءوسهم قلنسوات زعفرانية اللون، ويرتدون جلابيب وأحزمة حريرية، ويلبسون في أرجلهم أحذية صفراء. أما الإلهة فقد غطوها بعباءة حريرية خاصة. بدأ عازفو الهورن موسيقاهم العالية، وأخذ الكهان يلوحون بسيوفهم الضخمة وهراواتهم الشوكية، وهم يتقافزون كأن بهم مسا وأذرعهم عارية حتى الأكتاف. وبعد أن مررنا بعدة قرى توقف الموكب أمام بيت ريفي كبير، وعاد الكهنة إلى الرقص فكانوا يحركون رءوسهم نحو الأمام بقوة تجعل شعرهم الطويل يغطي وجوههم، ثم يهزونها بحركة دورانية سريعة، تجعل شعرهم الطويل يتطوح في دائرة واسعة حول الرأس. وبين حين وآخر كانوا يعضون أنفسهم بوحشية، فإذا بلغوا الذروة أخذوا بتجريح أذرعهم بسكاكين حادة يحملونها. وكان فيهم واحد فاضت به النشوة، فكان يطلق تنهدات من أعماق صدره وكأنه امتلأ بروح الإلهة، فبدا كمن به جنة، ثم راح يدلي باعترافاته عن آثام ارتكبها، ويدعو يداه لإيقاع العقاب به. وبعد أن انتهى استل سوطا وأخذ يجلد به نفسه حتى سال دمه، وهو يتحمل الألم بثبات يثير الدهشة. أما أنا فلم أكن في راحة من أمري، وخطر لي أن هذه الإلهة السورية ربما كانت متعطشة لدمي أيضا ...»
101
أما آتيس فلا يختلف في شيء عن التجليات الأخرى للإله الابن؛ فالتاج الهلالي الذي يلبسه على رأسه في بعض تمثيلاته التشكيلية ينبي عن أصوله القمرية،
102
واسمه نفسه إنما يعني «التيس»، وهو ذكر الماعز ذو القرون. وبذلك يلتقي آتيس مع ديونيسيوس الذي كان التيس رمزه الثاني بعد الثور، كما يلتقي الإلهان عند رمز آخر وهو شجرة الرمان. فغصن الرمان الذي حملت بواسطته أم آتيس هو الذي نبت من دماء ديونيسيوس القتيل. أما الصنوبرة التي مات تحتها آتيس والتي كانت صورته ترفع عليها في احتفاله السنوي، فهي الشجرة المقدسة في الديانة الديونيسية التي صنعت منها تماثيل ديونيسيوس، والتي حافظت على قداستها وصولا إلى الديانة المسيحية، حيث ما زالت في نصف المعمورة اليوم تنصب شجيراتها الصغيرة في عيد الميلاد. وموته بواسطة الخنزير البري يجعل منه نسخة مستعادة لأدوينس، ودمه الذي نبتت منه أزهار البنفسج هو دم أدونيس الذي نبتت منه شقائق النعمان، ودم ديونيسيوس الذي نبتت منه أزهار الرمان.
وآتيس هو روح القمح التي تموت في الخريف وتحيا مع الربيع. فمن ألقابه «باقة القمح»، وليس صيام عباده عن الخبز خلال أيام العيد إلا صياما عن أكل جسد الإله، وهو ما يذكرنا بعادة أهل حران في سوريا، الذين كانوا يمتنعون عن كل طعام يمر تحت حجر الطاحون خلال فترة حزنهم على الإله تموز. وهو روح الإنبات بشكل عام، يمثله نحت محفوظ في أحد متاحف روما، وقد أمسك بيديه باقة من القمح وأنواعا مختلفة من الفاكهة، ووضع على رأسه إكليلا من ثمار الصنوبر، وزهرة البنفسج. وهو أيضا روح الشجر والغاب، وليست إشارة الأسطورة إلى أن آتيس قد بعث من موته في شجرة صنوبر إلا توكيدا على ذلك. كما أن في تعليق صورة آتيس على شجرة الصنوبر وحملها معا في مواكب الاحتفال، تمثيلا مزدوجا للإله في شكله النباتي والإنساني. وربما كانت العادة في الماضي أن تعلق إلى شجرة الصنوبر أضحية بشرية تمثل الإله القتيل، ثم استبدلت صورته بها فيما بعد.
هذا ويذكرنا تحول آتيس إلى شجرة وحمله في هيئة بشرية على شجرة، بأوزوريس الذي انفتحت شجرة الطرفاء لتحتويه، وبأدونيس الذي ولد من شجرة. كما تذكرنا شجرة الصنوبر التي تلف بالأكفان البيضاء بأوزوريس الذي يبدو في معظم الأعمال التشكيلية ملفوفا بالأكفان من رأسه إلى قدميه، لا يظهر منه خارجا إلا الرأس واليدين.
ولعلنا واجدون في تعليق آتيس على الشجرة استباقا وتمهيدا لتعليق السيد المسيح على خشبة الصليب؛ فخشب الصليب ليس خشبا عاديا بالنسبة للأسطورة المسيحية، بل هو مصنوع من شجرة مقدسة هي شجرة المعرفة القائمة في جنة عدن، والتي أكل منها آدم وحواء. من هنا تطابق النصوص الطقسية والترانيم الدينية بين الصليب والشجرة.
103
يوسف الجميل
عندما تكبت الرموز السارية في ثقافة ما بفعل سلطة روحية أو سياسية طاغية، فإن هذه الرموز لا تخمد ولا تموت؛ بل تحاول التعبير عن نفسها بطرق باطنية سرية شتى، فتتبدى في أشكال جديدة هي أبعد ما تكون عن أشكالها الأصلية القديمة، مع محافظتها على طاقتها الإيحائية المتدفقة . ولعل حكاية يوسف بن يعقوب التوراتية، هي خير مثال على ذلك. فبعد قرون طويلة من كفاح كهنة يهوه ضد عبادات الخصب الشائعة لدى العبرانيين وجيرانهم الكنعانيين، نجد أسطورة الإله الميت تتسلل إلى التوراة بشكل رمزي جميل، لا تخفى على البصيرة أصولها.
ففي قصة يوسف، تعود إلى الظهور العناصر الأساسية للأسطورة التموزية،
104
وذلك في تبطين حذق لا ندري معه هل جاء تسلل الرمز نتيجة تضمين واع، أم نتيجة تدفق لا شعوري عبر ذاكرة الثقافة. كان يوسف راعيا شابا، غض الإهاب، حسن الصورة، فائق الجمال، رقيق التكوين، ولد ليعقوب في شيخوخته من زوجته الثانية راحيل. فكان الأثير إلى قلب أبيه المفضل على إخوته جميعا. صنع له قميصا ملونا وألبسه إياه، وقد أثار تفضيل الأب ليوسف حقد إخوته وغيرتهم. كما زاد من كرههم له حلم قصه عليهم يتنبأ له بمستقبل عظيم وبتفوقه على إخوته، فقرروا مجتمعين التخلص منه. وبينما هم يرعون الغنم بعيدا عن أرضهم رموا أخاهم في بئر مهجورة بعد أن نزعوا عنه قميصه الملون، وعادوا به إلى أبيهم وعليه دم تيس ذبحوه عند البئر، فأوهموه أن وحشا ضاريا قد افترس يوسف. ولكن قافلة عابرة في طريقها إلى مصر تنتشل يوسف وتحمله معها؛ حيث تبيعه إلى فوطيفار رئيس شرطة الفرعون. وهناك يلقى حظوة عند سيده الذي الذي يأمن له ويسلمه أمور بيته ورزقه؛ لأن الرب كان يأخذ بيد يوسف في كل أمر من أموره.
لم يكن حقد الإخوة، في الواقع، نابعا فقط من تفضيل الأب ليوسف، بل لقد لعب ثوب يوسف الملون دورا هاما في زرع النفور في نفوسهم؛ ذلك أن الأثواب الملونة كانت في التقاليد العبرانية وقفا على النساء من دون الرجال، فكان ثوب يوسف تأسيسا للقيم الأمومية بين الجماعة البطريركية الذكرية من ناحية، وقبولا للجانب الأنثوي في شخصية إله الخصب. هذا وتشير مصادر يهودية أخرى إلى أن الثوب الذي لبسه يوسف، لم يكن سوى الثوب الذي لبسته أمه راحيل يوم عرسها. وبذلك يعود بنا زي يوسف النسائي إلى ثياب الإله ديونيسيوس النسائية، التي تحدثنا عنها في مكان آخر من هذا الفصل، وإلى تربيته في جناح الحريم. فيوسف الذي ولد ليعقوب في شيخوخته من زوجته الثانية، كان ابنا للأم في بيت مليء بأبناء الأب. وإضافة إلى زيه النسائي، فإن ملامح شخصيته العامة ترسم صورة الإله الابن، فتظهر خطوطها متقطعة تحت القناع التوراتي الجامد. ومن ناحية أخرى، ليس هبوط يوسف إلى الجب وصعوده منه، سوى موت رمزي وانبعاث، ويعادل هبوط تموز أو أدونيس إلى العالم الأسفل. ويقدم لنا دم التيس الذي لطخ به قميص يوسف عنصرا هاما. فإذا كان يوسف قد مات في الجب رمزيا، فإن التيس الذي هو رمز من رموز إله الخصب، قد ذبح فعليا وفاضت دماؤه على ثياب يوسف.
في بيت فوطيفار، تقع الزوجة في حب يوسف وتعرض عليه وصالها فيعرض عنها ولاء لسيده، فتتهمه بإغوائها، ويلقى به في السجن سنوات طوال. وهناك يشتهر بتفسيراته الصائبة للأحلام، ومنها تفسيره لحلمين رآهما ساقي فرعون وخبازه اللذان أذنبا إلى سيدهما فألقى بهما في السجن، فكان تفسيره لحلم الخباز أنه سوف يقتل بعد ثلاثة أيام، ولحلم الساقي أنه سوف يعود إلى مكانته وعمله بعد ثلاثة أيام. وقد وقع بعد ثلاثة أيام ما أكد صحة تفسير يوسف؛ إذ تم إعدم الخباز، وإطلاق سراح الساقي. وحدث بعد سنتين من ذلك أن الفرعون قد رأى حلمين أقضا عليه مضجعه فراح يبحث عن تفسير لهما عند حاشيته والمقربين إليه. وهنا يتذكر الساقي زميل سجنه، يوسف مفسر الأحلام، فيؤتى به على عجل، ويقص عليه الفرعون حلميه؛ في الحلم الأول رأى سبع بقرات طالعات من النهر مكتنزات، تتبعهن سبع بقرات هزيلات قميئات، فتأكل البقرات الهزيلات البقرات السمينات. وفي الحلم الثاني يرى سبع سنابل طالعات في ساق واحدة ممتلئة حسنة، وراءها سبع سنابل رقيقة ملفوحة بالريح الشرقية، فتبلع السنابل الرقيقة السنابل الممتلئة. بعد تأمل قصير قال يوسف للفرعون: إن الحلمين في الواقع ليسا إلا حلما واحدا. وتفسيره أنه سوف يأتي على مصر سبع سنين خيرة تعم فيها المواسم الطيبة ، تتلوها سبع سنين عجاف يعم فيها القحط والجفاف. وهنا يؤمن الفرعون بتفسير يوسف، ويطلقه من السجن ليسلمه مباشرة إدارة موارد الدولة. أخذ يوسف يخزن القمح في سنوات الخصب التي ما لبثت أن توالت سبعا تباعا. حتى إذا لاحت بوادر السبع العجاف، أخذ يوزع ما ادخر أيام الوفرة مجنبا البلاد كارثة كانت محققة. ويبدو أن الجفاف لم يضرب أرض مصر فقط في تلك الأيام، بل امتدت آثاره لتشمل جزءا كبيرا من البلاد المجاورة أيضا. لذلك تحدثنا بقية القصة عن إرسال يعقوب لأولاده إلى مصر لشراء الحبوب منها، وعن استقرارهم فيما بعد إلى جانب أخيهم في أرض مصر.
إن إلقاء يوسف في غياهب السجن ثم خروجه منه هو موته الرمزي وبعثه. وكما كان خروجه الأول من الجب بركة وخيرا على فوطيفار، كذلك كان خروجه الثاني من السجن بركة وخيرا على مصر والبلدان لمجاورة. تماما كالإله الابن الذي يشكل موته وبعثه شرطا لاستمرار دورة الطبيعة. ويوسف في تنظيمه لنتاج دورتي الخصب والجدب المؤلفة كل منهما من سبع سنوات، إنما يعيد تمثيل دور الإله بعل الذي تتحكم حياته في إيقاع دورة الخصب المؤلفة من سبع سنوات. كما أن علاقة يوسف بسيدته، زوجة فوطيفار، تحمل إشارة خفية إلى عنصر الخصاء عند الإله الابن، وإلى عنصر الأسطورة المتعلق بإرسال عشتار بحبيبها إلى العالم الأسفل.
مارجورجيوس الأخضر - سيدنا الخضر
تقدم شخصية مارجورجيوس في التراث الشعبي المسيحي، وشخصية الخضر (= الأخضر) في التراث الشعبي الإسلامي نموذجا عن الخيال الشعبي الذي يعطي الرموز القديمة على الدوام شحنة عاطفية تجعلها مستمرة عبر الشروط المتبدلة. فبينما تحاول السلطة الكهنوتية لكل دين تحويل التاريخ الروحي للبشرية إلى قطع منفصلة ينسخ بعضها بعضا، يقوم الخيال الشعبي بدور خيط المسبحة الذي يجمع الثقافة الإنسانية بعضها إلى بعض في تتابع وتداخل ملون بديع. وهكذا استمر تموز الأخضر حيا في الثقافة المسيحية والإسلامية إلى يومنا هذا من خلال مارجورجيوس والخضر.
ففي أوروبا يحتفل الريفيون بيوم القديس مارجورجيوس، الذي يدعونه بالقديس جورج الأخضر، وذلك في الثالث والعشرين من نيسان، وهو نفس التاريخ الذي دارت حوله معظم أعياد الخصب القديمة. ففي العديد من المناطق يؤتى صباح الاحتفال بجذع شجرة، فيزين بأنواع الأزهار والأوراق الخضراء والأكاليل، ثم يحمل في موكب مرح ، وإلى جانبه يمشي شاب غض الإهاب، غطى جسمه كله بأغصان الشجر وأوراقه. حتى إذا وصل الموكب بين غناء ورقص وموسيقى إلى ضفة النهر، حمل المحتفلون الشاب ورموه إلى الماء. وفي مناطق أخرى يقطع جذع شجرة عشية يوم القديس جورج، فيزين بالطريقة السابقة نفسها ويفرش تحته ثوبان. حتى إذا جاء الصباح أتى الناس إليه، فإذا رأوا بعض الأوراق قد تساقطت على الثوبين كان في ذلك بشرى بمواسم طيبة. ثم يأتون بشاب يغطونه من قمة رأسه حتى أسفل قدميه بالأوراق والبراعم، ويأتون بقطعانهم فينثر فوقها قبضات من العشب الطري الجديد لتزداد وتتكاثر. ثم يسير الجميع إلى النهر حيث يرمى الشاب إلى الماء، أو ترمى دمية تمثل القديس جورج الأخضر. وفي بعض مناطق روسيا كانت العادة أن يخرج الكاهن مع جمهرة من الناس صبيحة يوم القديس جورج الأخضر إلى الحقول فيباركها ويتلو الدعوات من أجل مواسم طيبة. ثم يتقدم بعض الشبان والشابات ممن تزوجوا حديثا فيتدحرجون على الأرض ليمدوها بخصبهم. هذا وتكشف الأناشيد والأغاني التي يترنم بها الناس في ذلك اليوم عن جوهر القديس جورج كروح للنبات والإخصاب. تقول إحداها: أتينا ومعنا جورج الأخضر. أتينا. وإلى جانبنا جورج الأخضر. فليهبنا علفا لمواشينا، فإن لم يفعل ألقينا به إلى الماء.
105
وفي سوريا (بلاد الشام) اليوم، يحتفل الناس بعيد مارجورجيوس خصوصا في المناطق التي حافظت على طابعها الآرامي القديم كبلدة صيدنايا التي يقام فيها كل عام احتفال مشهور يتقاطر الناس للمشاركة فيه من شتى أنحاء البلاد.
إلى جانب وظائف الخصب التي تعزى إلى القديس جورج، فإن الخيال الشعبي قد حفظ في هذه الشخصية جوانب أخرى لآلهة الخصب السورية القديمة، لا سيما الإله بعل في شكله المعروف كقاهر للتنين ذي الرءوس السبعة. فالأيقونات الشرقية التي ما تزال تزين جدران البيوت في بلادنا، وجدران المتاحف في أوروبا، تظهر القديس ممتطيا جواده يخوض صراعا مميتا مع التنين متعدد الرءوس. وإلى جانب المشهد تبدو امرأة جميلة تنظر بهدوء واثق نتيجة الصراع، هي في الأصل عناة الأوغاريتية، ولكنها في رمز الأيقونة، الكنيسة التي يقاتل من أجلها القديس.
ومارجورجيوس، هو نفسه «الخضر» في التراث الشعبي الإسلامي. وكل مسلم ومسيحي يطابق بين الشخصيتين دون أن يعرف الأساس الذي تبنى عليه مثل هذه المطابقة. واسم «الخضر» بفتح الخاء وكسر الضاد، يعني الأخضر، وهو نبي حي في كل زمان ومكان، محجوب عن الأبصار إلى يوم القيامة. نراه في القصص الشعبي وروايات الإخباريين جالسا على طنفسة خضراء على وجه الماء، متشحا بثوب أخضر، ينبت العشب تحت قدميه أينما حل.
الفصل العاشر
عشتار المخلصة
لم يمر على الإنسان وقت لم يكن فيه مأخوذا بفكرة خلود الروح، والخلاص من عالم المادة إلى عالم آخر ذي طبيعة مغايرة. فقبل ظهور «الإنسان العاقل» الذي تعتبر البشرية اليوم استمرارا له، كان الإنسان النياتدرتالي الشبيه بالقرد يدفن موتاه وفق طقوس خاصة، ويضع في قبورهم بعض الطعام والشراب؛ مما يدل على اعتقاده بأن الموت ليس إلا معبرا من حالة إلى حالة ومن عالم إلى عالم. كما تقدم لنا حفريات العصور الحجرية القديمة بينات كثيرة على طقوس واعتقاد مماثل.
ويبدو أن القمر كان منذ فجر الإنسانية مركزا لمعتقد وطقس الخلود والخلاص. فالقمر الذي يجدد نفسه كل شهر في حركة دائمة، وينبعث من العالم الأسفل جديدا كلما هبط إليه، إنما يضع أمام الناس مثالا، ويهبه أملا غامضا في السير على منواله، والبعث بعد الهبوط إلى باطن الأرض. ولعلنا واجدون في معتقدات الشعوب البدائية للعصر الحديث بقية من معتقد الإنسان القديم ونظرته للقمر.
ففي الملايو، تعتقد بعض القبائل بأن انبعاث القمر الشهري هو الذي يحفظ حياة البشر على الأرض، ولذلك كانوا يقيمون الطقوس التي من شأنها مساعدته على الظهور ثانية، بعد الليلة الظلماء التي يغيب فيها في أعماق الأرض. وعندما يقوم الهنود الحمر برقصاتهم الطقسية في ليالي القمر ينشدون: كما يموت القمر ثم ينهض للحياة من جديد، كذلك نحن نموت ولكن الحياة الجديدة في انتظارنا. ويشيع لدى قبائل أخرى دعاء موجه للقمر يقول: هل لي أن أجدد حياتي كما تجدد أنت حياتك. وفي مدغشقر تقول الأسطورة إن البشر لما خلقوا أول مرة خيروا في أن يتجددوا كما يتجدد القمر فيخلدوا بذواتهم، أو أن يتجددوا كما تتجدد شجرة الموز؛ أي بتخليد نوعهم عن طريق بذورهم، فاختاروا النوع الثاني من الخلود، مفضلين الحياة الجنسية التي تهب البنين على جنة لا تربط المرأة والرجل برباط الجنس، تماما كما هو حال الرواية التوراتية عن آدم وحواء؛ اللذين خسرا الخلود الفردي مقابل الفعل الجنسي الذي يخلد النوع. وفي ميلانيزيا تقول الأسطورة: إن إلهة القمر الكامل أرادت أن تسبغ نعمة التجدد والخلود على البشر، ولكن أختها إلهة القمر الهلال قد حولت تلك النعمة إلى جنس الأفاعي (قارن مع ملحمة جلجامش). وفي أستراليا اعتقد السكان الأصليون أن البشر في مطلع عهدهم، كانوا يتجددون كما القمر فيبعثون في اليوم الثالث لموتهم.
1
لقد رأى إنسان العصر الحجري في القمر إلهة خالدة قادرة على تجديد نفسها أبدا، وقادرة على منح الخلود لعبادها، وعندما صارت إلهة القمر الخالدة إلهة للدورة الزراعية، تموت وتبعث سنويا لضمان دورة الفصول، بقي بعث عشتار أملا للإنسان ببعث مماثل. فالإلهة التي هبطت إلى العالم الأسفل لتنتزع حياة النبات من غياهب الموت، فتهب البشر معاشا في هذه الحياة، قد ذاقت الموت أيضا لتهب البشر خلاصا من الموت وبعثا إلى عالم أفضل. إلا أن نعمة الخلود لم تكن مبذولة للجميع، كما لم تكن جزاء يناله كل من أدى فريضة العبادة وطقوسها، وسار في خط الأخلاق القويم؛ بل كانت وقفا على الخاصة ممن استطاعوا في هذه الحياة، ومن خلال رياضات روحية شاقة وطقوس سرية متاحة للقلة، أن ينتشلوا جوهر الروح من حمأة المادة، ويحققوا لقاء المتناهي باللامتناهي، الإنساني بالإلهي، في أعماق النفس الإنسانية، في تجربة تجعل من الوعد الآتي خبرة معاشة الآن والساعة.
ففي الديانات الرسمية لمعظم حضارات الشرق الأدنى وحوض المتوسط، لا نعثر منذ بدايات عصور الكتابة على اعتقاد واضح في وجود حياة ثانية وخلاص إلى عالم أفضل. فالموت كان نهاية الحياة الفردية، وأرواح البشر دون تمييز تذهب إلى العالم الأسفل، لتبقى هناك في حالة من الوجود الممض الثقيل، في جو مظلم مغبر ساكن، وزمن راكد لا جريان فيه ولا تغيير. هذه كانت حال العالم الأسفل في بلاد الرافدين، الذي أطلق عليه السومريون والبابليون اسم «كور» والإغريق اسم «هاديس». ولم يشذ عن ذلك العالم الأسفل التوراتي الذي أطلق عليه العبرانيون اسم «شيئول» أو «الهاوية» في الترجمات العربية. فالعبرانيون قد ساروا في تصوراتهم الأخروية على نسق التصورات السومرية والبابلية، وبقيت فكرة الخلود والعالم الآخر غامضة لديهم حتى ظهور المسيح الذي حرر الموتى وفتح أمام البشرية بوابة السماء؛
2
ففي الفلكلور المسيحي الذي اعتمد إنجيلا منحولا اسمه إنجيل «نيوكوديموس» يهبط المسيح بعد موته إلى العالم الأسفل؛ ليحرر الموتى وجميع الأنبياء المحتجزين هناك منذ زمن إبراهيم. وقبل ظهور نور المسيح في عالم الظلمات يشعر الموت بأن أمرا ما سوف يحدث، فيلتفت إلى الشيطان يحدثه قائلا: إنني لأشعر بمن ابتلعتهم منذ الخليقة يضطربون في جوفي، فبطني اليوم يؤلمني. وما إن أتم كلامه حتى بزغ من غياهب الظلمة نور أكثر سطوعا من نور الشمس أضاء العالم الأسفل كله، وجلجل صوت كقصف الرعد قائلا: افتح أبوابك الأبدية ليدخل إليك ملك المجد. فاضطرب الشيطان وأعوانه محاولين تدعيم بوابات العالم الأسفل، متسائلين: ومن هو ملك المجد هذا؟ فأجابهم الأنبياء، وخصوصا إشعيا والملك داود: إنه الرب الجليل الذي سيحطم بوابات النحاس ويكسر قضبان الحديد ليحرر المأسورين، وينير شعاب الموت المظلمة. ولكن يد المسيح تمتد إلى الشيطان قبل أن يستطيع صد البوابات في وجهه، ويسلمه إلى الملائكة الذين قيدوه وأطبقوا فمه، ثم يقوم بتحرير آدم والأنبياء والقديسين ويرفعهم معه إلى السماء.
3
إلى جانب هذا المعتقد الرسمي المرتبط بعبادة الآلهة الشمسية نجد معتقدات الخلاص والنشور إلى عالم آخر، قائمة في قلب الديانات العشتارية ذات الأصول القمرية. وقد بقيت هذه المعتقدات جزءا من ديانات الخصب ، تحافظ عليها وتمارس طقوسها ضمن حلقات ضيقة داخل الديانة نفسها، إلى أن استقلت هذه الحلقات مشكلة عبادات سرية خاصة بها، وهي عبادات الأسرار التي شاعت في الشرق القديم والعالم اليوناني-الروماني ، خلال القرون القليلة السابقة لميلاد السيد المسيح. ورغم أن هذه العبادات قد تركزت حول آلهة الخصب ذاتها، إلا أنها قد جعلت من فكرة الخلاص مركزا لمعتقدها وطقسها، مبتعدة عن معتقد الخصب الذي نشأت عنه، وتحول إله الخصب إلى مخلص للبشر من عالم المادة الفاني إلى عالم الروح الباقي. وتحولت طقوس الخصب السنوية إلى طقوس سرية مقتصرة على فئة قليلة، تهدف إلى تخليص أتباعها من الموت عن طريق التوحد بالإله الذي عرف الموت وانتصر عليه. ففي الوقت الذي كان يحتفل فيه أتباع ديانات الخصب ببعث روح الخصوبة لتدفع عنهم جوع عام آخر؛ كان أتباع ديانات الخلاص يحتفلون ببعث المخلص الذي يفتح لهم بوابة الأبدية. ورغم أن الفريقين كانا يحتفلان بنفس الدرام الإلهي القائم على دورة حياة إله الخصب، إلا أن أحداث هذا الدرام كانت تتخذ معاني سرية خاصة عند أتباع الأسرار، حتى إذا وصل الدرام نهايته، رفع ممثلو درام الخصب باقة طرية من سنابل القمح الذهبية، رمزا لولادة إلهة الخصب من ظلام العالم الأسفل، ورفع ممثلو درام الخلاص نفس الباقة، رمزا لولادة جوهر الروح الذهبي الذي لا يفنى.
إن ما نعرفه عن عبادات الأسرار قليل جدا مقارنة بأهمية تلك العبادات في الحياة الروحية للحضارات الكبرى وشيوعها الواسع، وذلك يعود إلى طبيعتها السرية والتكتم الشديد الذي فرضته على نفسها. فهي رغم كونها قد نشأت أصلا في منطقة شرق المتوسط، ومنها انتشرت إلى العالم اليوناني-الروماني،
4
فإن جل معلوماتنا عنها مستقى من أشكالها الغربية. ولعل أهم ما تميزت به هو طقوس العبور
initiation
المفروضة على المريد الجديد الذي يستعد للانضمام إلى حلقة الجماعة الناجية، وهذه الطقوس تبدأ بنوع من التطهير المادي الذي يعكس استعداد المريد إلى تطهير روحه من كل ما علق بها في مراحل حياته السابقة، وتجهيزها للمرحلة الجديدة. يلي ذلك طقس الموت الرمزي والبعث، حيث يتم تمثيل موت المريد ثم إفاقته من الموت، وذلك كناية عن فناء نفسه القديمة وانتعاش نفسه الجديدة المستعدة لتقبل الخلاص. وهنا تنتهي مرحلة العبور الأولى إلى أسرار الخلاص. ولكن مراحل أخرى في انتظار المريد قبل أن يصل إلى مرتبة العارف، ولكل مرحلة طقوسها الخاصة التي تؤمن عبوره إلى المرحلة التي تليها، وتعطيه معرفة جديدة وتفتح قلبه وروحه على عوالم نورانية جديدة. والمعرفة هنا ليست ذلك النوع من المعارف العقلية التي تقدمها المدارس الفلسفية لتلاميذها، بل هي عرفان نابع من الداخل، وخبرة روحية ليس لها معادل من كلمات مرصوفة، خبرة يحصلها المريد بجهده وكدحه وتوجيه من سبقوه في الطريق. فالأسرار ليست تعاليم دينية وعبادات، وطقوسها ليست هدفا بحد ذاتها بل أدوات.
تقدم لنا الأسرار الإليوسية (نسبة إلى إيليوسيس، المقر الرئيسي لعبادة الإلهة ديمتر في اليونان) نموذجا عن الأسرار العشتارية القديمة الصافية. وقد انحدرت الأسرار الديمترية من فترات موغلة في القدم سابقة على الحضارة الإغريقية، وورد أول ذكر مكتوب لها في ترتيلة هيوميرية تقول: إن الأسرار الديمترية قد أسست من قبل الإلهة نفسها، وأن المشاركين في تلك الأسرار هم المباركون الذين تفتح هذه الطقوس أمامهم بوابة الخلود.
5
وفي نص من مطلع القرن الرابع ق.م. نقرأ: لقد وهبت الإلهة ديمتر للبشرية شيئين عندما حلت في إيليوسيس؛ الأول نتاج الحقل الذي حول الإنسان عن حال الحيوان، والثاني طقوس الأسرار التي جعلتنا ننظر بأمل إلى نهاية الحياة.
6
إن معجزة نمو النبات من باطن الأرض وتناوب الدورة الزراعية بين الموت والحياة ليس إلا نموذجا للمعجزة المقبلة؛ معجزة بعث الأرواح بعد الموت ورفعها إلى العوالم النورانية. لقد أخذ الإنسان ثمار الأرض من يد الموت، من هاديس إله العالم الأسفل الذي أشرنا سابقا إلى أن اسمه يعني «واهب الخيرات»، ومن يد زوجته بيرسفوني التي ليست إلا ديمتر في وجهها الأسود الآخر. ومن يد الموت أيضا سوف تعطي له ديمتر الحياة، عن طريق الطقوس السرية والخبرة التي يمر بها المشاركون في تلك الطقوس.
عرفت بلاد الإغريق نوعين من الطقوس الديمترية هما: الطقوس الصغرى والطقوس الكبرى. كانت الطقوس الصغرى تقام في كل عام احتفالا بعثور ديمتر على ابنتها وصعود بيرسفوني من العالم الأسفل، وكان يغلب على هذه الطقوس طابع احتفالات الخصب. أما الطقوس الكبرى فكانت تتم مرة كل خمسة أعوام وهي مخصصة لديمتر المخلصة وأسرارها الإليوسية. فكان موكب المشاركين في الطقوس الكبرى ممن تم اختيارهم لدخول أسرارها والعبور إلى حلقة خاصة عبادها، ينطلق من أثينا مشيا على الأقدام في طريق طويل إلى إيليوسيس. وعند المرور قرب البحر كان المشاركون ينزلون في الماء لتطهير أنفسهم رمزيا من حياتهم السابقة، والاستعداد للحياة الجديدة التي تنتظرهم، كما كانوا يطهرون بالماء خنازير جاءوا بها معهم فيقدمونها قربانا للإلهة. وفي إيليوسيس تبدأ طقوس العبور بعدد من الطقوس التمهيدية؛ منها تناول شراب خاص، وأكل نوع من الكعك المصنوع من الدقيق، وتمثيل دراما اختطاف بيرسفوني وعودتها ثانية. أما ما تبقى من الأسرار فقد بقي أمرا غامضا إلى يومنا هذا؛ لأن المشاركين فيها قد حاذروا دوما من البوح بحقيقة ما كان يجري هناك،
7
ولكنهم بلا شك قد خبروا تجربة فريدة هزت كيانهم وبدلت حياتهم المادية والروحية. تقول إحدى التراتيل الديمترية عن طقوس العبور الكبرى: «لقد رأى النعمة الإلهية من شهد هذه الأسرار، وعاش في الضلالة من لم يشارك بها وسد في وجهه الطريق. تعيسا يهبط إلى غياهب الظلمة والديجور.»
8
وتضع الأسطورة على لسان البطل هرقل، الذي مر بأسرار إيليوسيس قبل نزوله إلى العالم الأسفل، قوله: «لقد نجحت لأني قد رأيت ما رأيت في إيليوسيس.»
9
إن تمثيل الدراما الإلهية في طقوس الأسرار أو تلاوتها من قبل المنشدين، إنما يتخذ في هذه الطقوس دورا مركزيا أساسيا في التحضير لتلقي الحقائق الكامنة وراء كل عمل من أعمال الإلهة الممثلة في الدراما. وإن ما تحاول الأسرار أن تنقله للمريد المشارك، هو أن الأسطورة رغم شكلها الخارجي كتتابع لأحداث إلهية تروى في صيغة الماضي، فإنها حقيقة أزلية وحاضر مستمر حي لا يتحول أبدا إلى ماض ميت، وأن أحداثها تلك ليست إلا تعبيرا عن حقائق جوهرية من حقائق النفس والروح والوجود الكلي. هنا فقط تستطيع الأسطورة أن تمارس دورها الفعلي كمعلم روحي، لا كقصة تصف أحداثا تعاقبت في زمن ما ، لا تربطنا به رابطة. وهنا فقط يشعر المريد في الأسرار الديمترية أن الإلهتين حاضرتان معه الآن والساعة، وأنهما جزء لا يتجزأ من كيانه؛ لأنهما وحدة الحياة والموت في جسده وروحه، وتحول كل منهما إلى الآخر في حركة دائبة. لقد حاولت الأسرار الديمترية أن تعيد الوحدة القديمة بين الإله والإنسان، في زمن بدأت فيه الأسطورة بالتحول إلى لاهوت وتعاليم، إلى جثة هامدة لا بهاء فيها ولا ألق.
الابن المخلص
بعدما حل الإله الابن محل الأم الكبرى كبطل رئيسي في درام الخصب السنوي، حل محلها أيضا كبطل رئيس في درام الخلاص، وصار الإله الذي دفعت به إنانا إلى العالم الأسفل من أجل ضمان استمرار الدورة الزراعية، إلها مخلصا للبشر من ربقة الموت. لقد بذلت عشتار ابنها الوحيد من أجل خلاص العالم، ولسوف يستمر المعنى السري لهذه الأسطورة حيا في عبادات الأسرار، ويدخل عنصرا أساسيا في المسيحية التي يتركز معتقدها وطقسها على هذه الفكرة. نقرأ في إنجيل يوحنا: «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد؛ لكيلا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية.»
10
وقد أخذ الإله الابن بالاستقلال تدريجيا عن الأم الكبرى في عبادات الخلاص، حتى صار في بعضها البطل الوحيد، يقود ملحمة الخلاص دون أم كبرى. وقد حصل هذا التطور في عبادتين رئيسيتين من عبادات الخلاص التي شاعت في العالم اليوناني-الروماني بين سنة 200ق.م. وسنة 200 ميلادية، وهما عبادة ميترا المخلص الشمسي الذي غزا الإمبراطورية الرومانية قادما من فارس (والذي قارعت عبادته السرية الديانة المسيحية الناشئة مدة قرنين من الزمن قبل أن تتراجع أمامها)، والعبادة الأورفية التي نشأت في قلب عبادة الخصب الديونيسية، ثم استقلت عنها وحولت إلهها ديونيسيوس من إله للخصب والكرمة والخمر إلى إله مخلص.
تنتسب النحلة الأورفية إلى «أورفيوس» نبي الإله ديونيسيوس المخلص، ومؤسس أسراره. تجعله بعض الروايات ابنا للحورية «كاليوبي» دون أن تحفل بذكر الأب. ويغلب الظن أن أورفيوس كان شخصية دينية عاشت في مطلع القرن السادس قبل الميلاد، ثم رفعته الفرقة الدينية التي أسسها إلى مصاف الآلهة.
11
وتصور الأساطير الأورفية النبي الإله أورفيوس شابا جميلا حالما ينشد أغانيه في البراري على ألحان قيثارته السحرية، فيأسر غناؤه كل المخلوقات، وتجتمع حوله الحيوانات من شتى الفصائل، والأشجار لتستمع إلى ألحانه التي كانت أيضا تحرك الأحجار والصخور. أحب الحورية «أوريديس» التي كانت الأنثى الوحيدة في حياته، ولكنها ماتت قبل الأوان، فمضى أورفيوس يملأ الأرض أنغاما حزينة، حتى رق له قلب إله وإلهة العالم الأسفل اللذين أخذا بسحر ألحانه، فسمحا له بالهبوط إلى عالم الموتى واستعادة حبيبته من هناك تحت شرط واحد، هو أن يقودها خارجا بها دون أن ينظر إليها حتى وصولهما إلى العالم الأرضي. عثر أورفيوس على حبيبته ومشى بها عبر بوابات الجحيم، ولكن صبره نفد عند البوابة الأخيرة فالتفت إليها، وحالا سحبتها قوى الموت نحو الأعماق من جديد، فصعد أورفيوس وحيدا ونذر على نفسه عفة فما اقترب من امرأة، إلى أن قتلته نساء تراقيا غيرة وحسدا ومزقنه إربا، وألقين به وقيثارته إلى مياه النهر.
12
وبذلك يلقى نبي ديونيسيوس نفس الميتة التي ماتها إلهه من قبله عندما مزق التيتان جسده إربا، وتبقى عذاباته موضوعا دائما لتفجع أتباع الأورفية، الذين بقوا يسترجعون ذكراها ويعيشونها في احتفالاتهم.
لكي نفهم فكرة الخلاص لدى الفرقة الأورفية، يتوجب علينا أن نفهم نظرية التكوين الأورفية في خلق العالم وظهور الآلهة والبشر؛ لأنها تقدم مفتاحا للولوج إلى عالم الأورفية السري وتصوراتها الكونية والأخروية. تقسم الأسطورة الأورفية تاريخ الكون إلى ثلاثة أدوار تتطابق مع المراحل الثلاث التي مر بها الإله ديونيسيوس منذ العماء البدئي، إلى حادث موته وارتفاعه مخلصا للبشرية. ففي البدء، كانت البيضة الكونية التي انشقت ليخرج منها ديونيسيوس-فانيس، أي ديونيسيوس المضيء أو حامل الضياء، الذي كان ذكرا وأنثى في آن معا، وله رأس الثور وجناحان من ذهب ، وفي داخله بذور الآلهة، وجميع مظاهر الكون التي ما لبثت أن انبثقت عنه. من أسمائه في هذه المرحلة «إيروس»، ومن أسمائه «ميتيس»، وكانت الإلهة «نيكس» أي الليل أول ذريته، فكان أباها وأمها في نفس الوقت. ثم أنجبت «نيكس» الأرض «جايا»، والسماء «أورانوس»، ثم «كرونوس». وهنا ينتهي الدور الكوني الأول ليبدأ الدور الثاني الذي يحكمه ديونيسيوس أيضا تحت اسم زيوس. كان زيوس أعظم أحفاد ديونيسيوس-فانيس؛ ولكنه لم يتوصل إلى السلطان إلا بعد ابتلاعه للإله البدئي فانيس نفسه. لم يكن هذا الابتلاع بمثابة فعل همجي يمارسه حفيد صغير للاستيلاء على عرش الجد الأكبر، بل كان فعلا طبيعيا ضم الوجود الاستاتيكي السكوني للإله فانيس، إلى الوجود الديناميكي الحركي للإله زيوس في كل موحد. فبعد هذا الابتلاع تبدأ معالم الوجود المادي المنظم بالظهور والتشكل. ثم يضاجع زيوس ابنته بيرسفوني وينجب منها ديونيسيوس-زاغروس. وقبل أن يشب زاغروس عن الطوق يعهد إليه أبوه بحكم العالم الأعلى والعالم الأسفل معا؛ الأمر الذي أثار غيرة التيتان فانقضوا على الطفل فمزقوه إربا والتهموه. ولكن زيوس عاجلهم بصواعقه فأحالهم إلى رماد، ومن رمادهم خرج الجنس البشري الذي ينطوي في جبلته على شر متأصل ورثه عن التيتان، وعلى قبس من روح الألوهة ورثه عن ديونيسيوس الذي التهمه التيتان. وهنا ينتهي الدور الكوني الثاني ليبدأ الدور الثالث، دور ديونيسيوس-زاغروس المخلص. فالإلهة أثينا التي كانت على مقربة من مسرح الجريمة، قد استطاعت إنقاذ قلب الإله قبل أن يأتي عليه التيتان مع بقية الأعضاء، فحملته إلى زيوس الذي شق فخذه وحضنه فيه حتى اكتمل جنينا، ثم أخرجه إلى العالم مرة أخرى. فكانت ولادة ديونيسيوس-ليسيوس مخلص البشرية ومحرر الأرواح، فمع ديونيسيوس الثالث ترجع الكثرة إلى أصلها في الواحد الإلهي الأزلي.
وكما عاش ثلاث مرات في ثلاث مراحل، كذلك هي روح الإنسان التي تعيش ثلاث مرات أيضا متقمصة ثلاثة أجساد؛ منها الحيواني ومنها البشري، قبل أن تتحرر من كثافة المادة وتترك الجسد راجعة إلى مصدرها في العوالم العلوية، بمعونة ديونيسيوس المخلص الذي تصفه النصوص الأورفية بأنه صياد الأرواح، الذي يخرج أرواح البشر من سجن المادة إلى حرية الأبدية.
13
وهي نفس المهمة التي قام بها السيد المسيح فيما بعد عندما خاطب الصيادين بطرس وأندراوس قائلا : هلما ورائي فأجعلكما صيادين للناس.
14
إلى جانب الديمترية والديونيسية كانت عبادة الإلهة سيبيل وابنها آتيس، ثالث أكبر عبادات الخصب في العالم اليوناني-الروماني. وفي هذه العبادة أيضا نشأت حلقات سرية لمعتقد الخلاص، عاشت داخل الديانة الأم دون أن تستقل عنها، وكان أتباع هذه الحلقات يمارسون طقوسهم واحتفالاتهم الخاصة في المواعيد المخصصة لاحتفالات عبادة الخصب السيبيلية نفسها. ورغم قلة ما نعرفه عن معتقدات تلك الجماعات وطقوسها، فإن نتفا مبعثرة من أخبارهم تدل على أن إله الخصب آتيس قد تحول في معتقدهم إلى إله مخلص، وأن غاية الطقوس السرية الآتيسية كانت التوحد مع ذلك الإله، وخصوصا عن طريق طقس العشاء السري، الذي يتناول خلاله الأتباع جسد الإله ويشربون دمه. ويسبق طقس العشاء السري فترة صوم قاسية، يطهر المريدون الجدد خلالها أجسادهم من آثار الغذاء الأرضي، ويستعدون لتلقي جسد المخلص. وفي نهاية الصيام يؤتى لهم بطعام في أوعية تشبه الطبول، وشراب في أوعية تشبه الصنوج، وذلك على غرار الأداتين الموسيقيتين اللتين تستعملان في احتفالات آتيس الصاخبة المملوءة بالعنف ومشاهد الدم. وإلى جانب العشاء السري، كان من أبرز طقوس العبور إلى الأسرار الآتيسية، طقس العماد بالدم، حيث يؤتى بالمريد الجديد وينزل به إلى حفرة تغلق فوهتها بألواح من خشب، ثم يؤتى بثور فينحر فوق الفوهة المغطاة، ويترك دمه ينسال من شقوق الألواح فيتلقاه المريد مخضبا به جسده، ثم يخرج وقد غطاه الدم بين تهليل أقرانه وصلواتهم. فلقد غسل بدم الثور خطاياه الماضيات وولد من جديد بعد موته الرمزي، وبعث حيا في آتيس. يبدو أن هذه الطقوس كانت تقام في روما في معبد الإلهة سيبيل الرئيسي الذي كان قائما على تلة الفاتيكان، وفي نفس المكان الذي شيدت فيه كنيسة القديس بطرس؛ فقد تم العثور عام 1608 خلال أعمال توسيع كنيسة الفاتيكان على مخطوطات تتعلق بطقوس آتيس المخلص.
15
إذا انتقلنا إلى الشرق الأدنى القديم وجدنا في الديانة الأوزيرية المصرية أوضح مثال على معتقدات الخلاص الشرقية. فهنا تطور الإله أوزوريس، كغيره من آلهة الخصب، من إله قمري إلى إله للدورة الزراعية، وأخيرا إلى إله مخلص يحكم العالم الأسفل ويتلقى الموتى، فيحاسبهم على ما قدمت أيديهم في الحياة الدنيا، ويزن حسناتهم وسيئاتهم فيرسل بالمحسنين إلى النعيم وبالمفسدين إلى الجحيم. وفي شكله الأخير هذا، صار أوزوريس أكثر الآلهة شعبية في مصر خلال الألف الأول قبل الميلاد، وطغت عبادته تدريجيا على عبادة الآلهة الرسمية.
في بداية التاريخ المصري كان الخلاص وقفا على الملك الذي يعتبر تجسيدا بشريا لأوزوريس، وكانت قصة حياة الإله القصيرة وآلامه وموته وبعثه، تتلى من قبل الملك شخصيا لضمان خلاصه وخلوده من دون بقية البشر. وما لبث بعض الأفراد من الأسرة الملكية ومن علية القوم أن شاركوا في ذلك الطقس، فاتسعت دائرة الناجين وتأسست عبادة أوزوريس السرية التي بقيت في توسع مستمر، حتى شملت أخيرا كل عابد صادق راغب في خلاص نفسه.
16
وكان المحظوظ بين الناس من يجد له قطعة صغيرة من الأرض يحفرها قبرا له في الأرض المقدسة التي تضم قبر الإله وهيكله المقدس، فيشارك الإله بعثه وخلوده.
17
هذا وتشير عادات الدفن إلى الأمل الذي يعقده الميت على أوزوريس الذي سيبعثه كما انبعث هو في سنابل القمح الجديدة. ففي كثير من القبور تم العثور على دمى مصنوعة من القماش، محشوة بحبوب القمح موضوعة في تابوت خشبي أو فخاري قرب تابوت المتوفى، كما عثر على نوع آخر من الدمى، مصنوع وجهها من الشمع الأخضر المحشو بحبوب القمح. وقد توضع بين ساقي المومياء دمى من طين زرعت فيها حبوب قمح قد انتشت وبرزت سيقانها الصغيرة.
18
وإلى جانب عادات الدفن هذه، تزودنا الصلوات والأدعية الأوزيرية من كتاب الموتى المصري، بفكرة عن أصول معتقد الخلاص الأوزيري نقرأ في إحداها: «أي أوزوريس، يا أبي المقدس، احفظ أعضاء جسدي فلا أفنى. لم أفعل في حياتي أمرا تكرهه، فلا تجعلني أصير إلى الديدان، خلصني كما خلصت نفسك، ولا تتركني إلى الفساد كبقية الأحياء؛ أي أوزوريس يا أبي المقدس، جسدك لم يتحلل، لم يدركه الهلاك، فاجعلني مثلك، دعني أحيا، دعني أستيقظ في سلام.»
19
ورغم أن عبادة الخلاص الأوزيرية قد صارت مفتوحة أخيرا أمام الجميع، فإن هناك من الأدلة على أن الأسرار القديمة قد حافظت على استمرارها ضمن تيار الأوزيرية العام؛ ذلك أن الخلاص الذي تقدمه طقوس الأسرار يقود أصحابه نحو درجات أعلى من مجرد الاستمرار في حياة ما بعد القبر. والأسرار الأوزيرية في ذلك، إنما تشبه طرائق التصوف التي تقدم لأتباعها مفتاحا لعوالم لا يصل إليها المتعبد العادي الذي يقصد بعبادته مجرد شراء مكان له في الجنة السماوية. وهكذا يحدثنا شاهد عيان هو المؤرخ الإغريقي «هيرودوتس» عن الطقوس السرية الأوزيرية المحجوبة عن العامة، فيقول باقتضاب: «على تلك البحيرة أمام المعبد في الدلتا، يقيم المصريون طقوسهم المكرسة لإلههم الذي لن أنطق اسمه. ورغم شهودي لكل مأتم في ذلك المكان، فإنني لن أزيد في القول عنه شيئا، وأمسك لساني كما أمسكته عن البوح بما رأيت في طقوس الإلهة ديمتر في إيليوسيس؛ ولكني أستطيع القول فقط، دون أن أقع في التجديف، إن بنات دانيوس هن من أتى بهذه الطقوس من مصر ودربن نساء بيلاسيان عليها.»
20
وعندما انتقلت عبادة إيزيس وأوزيريس إلى العالم اليوناني-الروماني عقب فتوح الإسكندر، لعبت دورا كبيرا في الحياة الروحية هناك، وبقي تأثيرهما قائما إلى ما بعد القرن الثاني الميلادي، وكان لكل من إيزيس وأوزوريس أسراره الخاصة ومعابده وعباده، وقد وصلنا من القرن الثاني للميلاد، وصف حي لطقوس العبور في ديانة إيزيس المخلصة، بقلم الكاتب الروماني «أبوليوس» الذي يعتبر من كبار مثقفي تلك الفترة الحافلة بتمازج الثقافات والديانات، والذي تحول فيما بعد إلى كاهن لإيزيس عقب مروره بأسرارها. نقرأ في كتابه المعروف بعنوان (The Golden Ass)
عن تجربته الشخصية ما يلي: «في الصباح، قادني الكاهن الأعظم من يدي إلى المعبد الكبير، وعندما فتح أبوابه قام بأداء شعائر الصباح المعروفة، ثم مضى إلى الحرم وأحضر معه كتبا مكتوبة بخط غير مألوف، لمحت في بعضها كتابة على شكل رسوم لحيوانات وما إليها، وفي بعضها الآخر كتابة بخط عادي جرى وصل حروفه بعضها ببعض، ودوائر من شأنها إخفاء مدلولها على غير الخبير بها، ثم قرأ علي تعليمات تتعلق بما يلزم التزود به من ثياب وحاجيات أخرى لازمة لطقس العبور المقبل، فمضيت لتوي وحصلت عليها كما أشار. وعندما حل الموعد المحدد جاءني الكاهن الأعلى فقادني إلى الحمام ومعه كهنة آخرون كانوا يحفون بي طيلة الطريق، وهناك أتممت غسلي المعتاد، ثم قام الكاهن نفسه بسكب ماء مقدس خاص على جسدي وهو يتلو صلوات وأدعية خاصة. فلما انتهينا أعادني إلى المعبد وأجلسني عند قدمي تمثال الإلهة، وأعطاني تعليمات مقدسة لا أجرؤ الآن حتى على الهمس بها، ثم ألزمني صياما خاصا فلا أقرب اللحم والخمر عشرة أيام، أقتصر خلالها على الطعام البسيط اللازم لسد الرمق، ففعلت ذلك كله. وعندما حل مساء اليوم الأخير وأنا في موضعي، رأيت الكهان يتقاطرون علي من كل زوايا المعبد، وفي يد كل منهم هدية تهنئة، على ما تقتضيه العادة القديمة. ثم جاء الكاهن الأعظم فأمر بانصراف كل من لم يمر بطقوس العبور، ثم ألبسني عباءة قطنية، وقادوني إلى قدس أقداس المعبد. لا أشك في هذه اللحظة أن قارئ كلماتي هذه قد أخذه الشوق ليعرف ما جرى لي هناك، ولكني لو سمحت للساني بالنطق، وسمحت أنت لأذنك بالسمع، فإن لساني سيلقى جزاء بما نطق، وأذنك جزاء بما سمعت. ومع ذلك فإني أستطيع الإفضاء لك بما هو مسموح لي أن أفضي، شريطة أن تكون مستعدا لتصديق كل كلمة فيه. فاستمع إلي: لقد دنوت من حافة الموت الفعلي ووضعت قدمي على عتبة بيرسفوني، ثم سمح لي أن أعود القهقرى سابحا عبر العناصر كلها. في منتصف الليل شهدت الشمس ساطعة كوقت الهاجرة. مثلت في حضرة آلهة العالم الأسفل، وكان آلهة العالم الأعلى يقدمون لهم فروض الولاء. هكذا كان، وعندما انتهى الطقس الجليل، خرجت من قدس القداس وعلي اثنا عشر ثوبا، فأمرني الكاهن أن أصعد إلى المنبر القائم في وسط المعبد أمام تمثال الآلهة، وأمسكني مشعلا باليد اليمني، ووضع على رأسي إكليلا من أغصان النخيل، ثم رفعت الستارة التي تحجب المنبر من أمامي لتقع علي عيون الجمع المحتشد ...»
21
أما الإله أوزوريس فقد رحل إلى العام اليوناني-الروماني تحت اسمه الجديد «سيرابيس» المأخوذ عن الاسم المصري أوزوريس-آبيس. (والاسم آبيس، كما مر معنا سابقا، هو اسم الثور المقدس الذي يمثل أوزوريس). وقد أسس عبادته أول ملوك البطالمة في الإسكندرية، ومنها انتقل إلى روما منذ عام 300ق.م. واستمرت عبادته قائمة حتى عام 300م. وفي روما حاول أتباع سيرابيس رفعه إلها كونيا شموليا، نقرأ في أحد النصوص عن لسان سيرابيس: «السماء رأسي والبحر بطني، والأرض قدمي، والشمس عيني.» كما طمحت عبادته لأن تكون ديانة أممية عالمية، فاستعارت لإلهها ملامح وخصائص آلهة متعددة من مصر وسوريا وإيطاليا، الأمر الذي نشر عبادته على أوسع نطاق ممكن، فكانت صوره تعلق في أعناق الرومانيين وتماثيله تنصب في المرافئ، وكان عدد من الأباطرة الرومان ميالين لعبادته، مشجعين على انتشارها، مثل كاليجولا وتيتوس وفسبازيان. ويروى أن الأخير كان يشفي العميان والمرضى بقوة إلهه سيرابيس.
22
لم تكن ديانة سيرابيس المخلص الوحيدة التي تسعى نحو الشمولية والأممية، فإلى مثل هذه الشمولية والأممية كان طموح الديانة الأورفية أيضا. فكانت هذه بمظاهرها البسيطة وتجنبها بناء المعابد، وإقامة صلواتها وطقوسها في البيوت العادية، نموذجا لحركة المسيحيين الأوائل. فإذا أضفنا إلى ذلك حشد الآلهة المخلصين الذين امتلأت بهم ثقافات الشرق القديم والبحر المتوسط، اكتملت أمام أعيننا صورة المشهد الذي شكل أرضية لملحمة انتصار ديانة الخلاص الجديدة المتركزة حول آخر المخلصين، يسوع المسيح، الذي ما زال وعده قائما على الأرض.
يسوع المخلص
لكي نفهم معتقد الخلاص الذي قدمه يسوع للبشرية، لا بد لنا من الرجوع إلى نظرية التكوين المسيحية كما بناها آباء الكنيسة الأوائل انطلاقا من العهد القديم، وسيرة يسوع وأقواله، وأعمال الرسل وخاصة بولص، وفكر أولئك الآباء المتأثر بحصيلة الثقافة المتوسطية في تلك الفترة الخصبة.
فقبل ظهور المكان وجريان الزمان، ومنذ الأزل، كان هناك الإله الأب والإله الابن والروح القدس، ثلاثة في واحد. في أزمان ما قبل الأزمان تلك، وقبل أن يتجسد الابن في هيئة بشرية ليغدو يسوع الناصري، وقبل أن يهبط الروح القدس في هيئة حمامة نارية مبشرا مريم، كان الإله الابن الكلمة-اللوغوس، المولود الوحيد للإله الأب، يصدر عنه منذ الأزل ومنذ الأزل كان الروح القدس ينبثق منهما معا ويغلق الدارة بينهما. ثلاثة في واحد إله قديم غير مخلوق، لم يظهر أقنوم من أقانيمه قبل ظهور الآخر، ولم يمر وقت لم يكن فيه الثلاثة معا في واحد. دارة حب مغلقة مكتملة مكتفية، فاض بها العطاء فأرادت أن تخلق، لا عن حاجة إلى الخلق وإنما عن حرية مطلقة، وهكذا، وبأمر من الكلمة، تم خلق أولى الكائنات المفارقة للطبيعة الإلهية وهم الملائكة؛ مخلوقات نورانية أحاطت بالنور الأعظم في هالات، هالة بعد هالة، كل هالة تحتوي على رتبة من رتب الملائكة، أعلاها رتبة الكيروبيم، يليها السيرافيم، وصولا إلى الملائكة العاديين.
23
بين هذه المخلوقات النورانية التي تحيط بالإله وتسبح بحمده، كان هناك ملاك من المرتبة الأولى اسمه لوسيفر، أي الوضاء، وكان فائق الجمال، مكتمل الصنعة الملائكية، معجبا أشد العجب بما وهبه الله من عظمة، واعيا أشد الوعي لها، معتقدا أنه من الصعب على الخالق أن يصنع ما هو أعظم منه؛ لأنه مثال على معجزة الخلق. وقد كان لوسيفر دائم التحديق إلى مركز النور الأعظم، حتى إنه أخذ يشاركه في رؤى المستقبل. فكان أن عرف أن الإله يعد لإيجاد مرتبة أعلى من مرتبة الكيروبيم والسيرافيم، يضع فيها مخلوقات فظة وجلفة من لحم ودم يكسو جلدها الشعر، وأن امرأة من هؤلاء ستغدو في المستقبل ملكة عليه. كما عرف، ويا للعجب، أن الابن نفسه سوف يغدو إنسانا منهم ويلبس جسدا آدميا.
وهنا، وانطلاقا من إرادته الحرة، فضل أن يلتزم مجده الملائكي الذي وهبه له الرب، فيقدمه على القصد الإلهي ويظهر تمرده على الله؛ رغم علمه الكامل بما سيجر عليه هذا التمرد من لعنة أبدية مقيمة. وهكذا كان؛ إذ أدار لوسيفر ظهره لنور الخالق، وتبعه في ذلك عدد كبير من الملائكة الآخرين، ممن أثار فيهم موقفه مشاعر مماثلة، فتطوح الجميع في مهاوي الظلام الخارجي، وتحول لوسيفر إلى إبليس ومن تبعه إلى شياطين، وصار حاكما لمملكة الظلام عدوا للخالق، آخذا على عاتقه إحباط صنائع الله، وإفساد البشر الذين أعدت لهم تلك المكانة العالية.
24
بعد ذلك تأتي مرحلة خلق الكون؛ فكان أول ما ظهر المادة البدئية الهيولية التي هي المياه الأولى بلا شكل ولا حدود، والرحم المظلم الذي كان روح الأب يرف فوقه على غير هدى. ثم أخذت الكلمة تخلق الكون انطلاقا من تلك المادة الأولى، فاكتمل في ستة أيام. وكان اليوم السادس يوم خلق الحيوانات الدابة على سطح الأرض وخلق الإنسان الأول كذلك. جبل الإله آدم من تراب الأرض فسواه على صورته ونفخ في أنفه نسمة الحياة، فجاء في صورة مادية كاملة وروح خالدة، ثم صنع له جنة في مركز الكون أسكنه فيها. وكان في وسط الجنة شجرة الحياة، وشجرة المعرفة. وقال الله لآدم أن يأكل من كل شجر الجنة عدا شجرة المعرفة؛ لأن الأكل من ثمرها سيجلب عليه الموت. ثم وهبه المرأة حواء التي صنعها من ضلعه وهو نائم، وتركهما يرتعان في أرجاء الجنة التي سخر لهما كل ما فيها، فعاشا فيها بعيدا عن كل هم أو ألم أو حاجة إلى كدح وعمل، عاريين لا يخجلان من عريهما. إلى أن تسلل لوسيفر إلى الجنة في هيئة الأفعى، والتف حول شجرة المعرفة منتظرا مرور المرأة حواء. فلما مرت من قرب الشجرة لفت نظرها وجود الأفعى، فاقتربت منها، فقالت الأفعى: أصحيح أن الرب قد منعكما عن ثمار الجنة؟ فقالت المرأة: بل نستطيع أن نأكل من كل شجر الجنة عدا هذه الشجرة؛ لأن الرب قد أمرنا ألا نأكل منها أو نلمسها كيلا نموت. فقالت الأفعى: لن تموتا، بل ستنفتح أعينكما إن أكلتما منها، وتصبحان كالآلهة فتعرفان الخير والشر. وهكذا رأت حواء أن الشجرة صالحة للأكل وممتعة للنظر، فمدت يدها وأكلت ثم نادت آدم وأطعمته كذلك. وما إن أكلا حتى انفتحت عيونهما وانتبها لعريهما فراحا يخصفان عليهما من ورق شجرة التين القريبة. وهنا مر الإله وعرف فعلتهما فقال لآدم الذي اختبأ وامرأته من وجهه: هل أكلت من الشجرة التي أمرتك ألا تأكل منها؟ فقال آدم: إن المرأة التي أعطيتني هي التي جعلتني آكل. فقال الإله للمرأة: أي فعل اقترفت؟ فقالت: الأفعى أغوتني فأكلت. وهنا ثار غضب الرب وصب لعنته على آدم وحواء، تلك اللعنة التي انسحبت على عالم الطبيعة برمته؛ لأن آدم كان رأس ذلك العالم وسيده. وقدر الرب على حواء ومن يليها من نساء البشر أن يلدن أولادهن بالوجع والآلام، وأن يكن تبعا لأزواجهن. أما آدم فقد لعن الرب من أجله الأرض، فجعلها لا تنبت إلا بعمل الإنسان وكده وتعبه، وجعلها تنبت مع الزرع شوكا وحسكا، ثم قدر عليهما معا الموت، وطردهما من الجنة إلى الأرض التي جبلا منها فيكدحان عليها وذريتهما. منذ ذلك الوقت ظهر الموت إلى الوجود، وظهر الألم، وظهر الشر مخالطا لنسيج الوجود المادي. وافترق الإنسان عن أصله الإلهي وسقط من عوالمه العلوية.
25
منذ البداية، كان الرب عارفا بما ستجره حرية الاختيار التي وهبها للوسيفر الملاك وآدم الإنسان من فساد للكون، وكان عليه الآن أن يقدم الدواء للعالم الغارق في الظلمة الحقيقية والخطيئة والموت، وذلك بالحلول في عالم الخلق ودخوله هو نفسه في دورة الحياة والموت، من أجل رفع لعنة الموت وحمل خطايا البشرية؛ فهو الوحيد القادر على تقديم القربان الكامل الذي من شأنه تحرير الخليقة من لعنتها البدائية وخطيئتها الأصلية الأولى. وهكذا هبط الابن من عليائه وعاش بين الناس ردحا قصيرا، ثم مات على الصليب مقدما لمن آمن به حياة أبدية. فإذا كان بآدم الأول يموت الكل، فإنه بآدم الثاني يسوع المسيح الكل يحيا، وإذا كانت حواء الأولى قد قدمت ثمرة الموت، فإن حواء الثانية التي هي السيدة مريم قد حملت بثمرة الحياة.
نقرأ للقديس مار أفرام السرياني: «إن البتول دعتني لأرنم سر بتوليتها العجيب، فأعطني يا ابن الله منك معجزة، ومن عطيتك هذه أغني على كنارتي فأرسم صورة والدتك بهيبة ... البتول مريم ولدت ابنها بالقداسة وأرضعت حليبها مرضع البرايا، وحملت ركبتاها حامل الكون. وهي بتول وهي أم ... فلتفرح بمريم جميع أجواق العذارى لأن واحدة منهن قد أنجبت ووضعت الجبار الحامل البرايا، وبه البشرية المستعبدة حررت. فليفرح بمريم آدم الأول الذي لسعته الحية، فمريم أعطته نبتة إن أكل منها سحق الحية، وبها يشفى من لسعة الحية القاتلة، فليفرح الكهنة بالمباركة التي انحنت، ووضعت الكاهن العظيم الذي صار ذبيحة وعفاهم من سائر الذبائح، وهو بإرادته صار ذبيحة وأرضى أباه.»
26
فآدم يرمز إلى المسيح وحواء إلى مريم، والمسيح هو آدم الجديد، منقذ البشرية ومعيدها إلى حالها الأول، ومريم هي حواء الجديدة، شريكة آدم الجديدة في إعطاء الحياة الفائقة الطبيعة. وصورة آدم وحواء المستقلين عن الله بالثورة والابتعاد عنه، قد محتها وبدلتها صورة المسيح والعذراء المرتبطين بالله. فالمسيح تخلى عن ذاته والتصقت حياته وإرادته بحياة الله وإرادته، فانتصر على الخطيئة وجاز الموت. وبموته وقيامه أقام معه البشرية كلها.
27
نقرأ في العهد الجديد: «من آمن بي وإن مات فسيحيا، وكل من كان حيا وآمن فلن يموت إلى الأبد»
28 ... «الآن دينونة هذا العالم، الآن يطرح رئيس هذا العالم خارجا. وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب الجميع إلي.»
29
وفي رسائل بولص الرسول نقرأ: «حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الرب، هكذا نسلك نحن أيضا في جدة الحياة؛ لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته، نصير أيضا بقيامته، عالمين أن إنساننا العتيق قد صلب معه ليبطل جسد الخطيئة، كي لا نعود نستعبد أيضا للخطيئة؛ لأن الذي مات قد تبرأ من الخطيئة، فإن كنا قد متنا مع المسيح نؤمن أننا سنحيا أيضا معه.»
30
ولبولص الرسول نقرأ أيضا: «مع المسيح صلبت فأحيا، لا أنا بل المسيح يحيا في، فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان؛ إيمان ابن الله الذي أحبني وسلم نفسه لأجلي.»
31
وهكذا تم التحول من شريعة موسى الحديدية التي تهدف إلى اتقاء غضب الإله الرب، إلى الإيمان بالإله الابن وبحقيقة تجسده في المسيح. وهذا الإيمان هو الذي يهب الإنسان الخلاص ويجعله واحدا مع المسيح الذي مات من أجل الإنسان، وقهر الموت لأجل خلاصه. كما تم التحول من أخلاق العهد القديم، إلى النموذج الخلقي الذي تطرحه سيرة السيد المسيح من أقوال وأفعال وسلوك.
وفي الحقيقة، فإن معتقد التجسد في جوهره الرمزي يتجاوز في غاياته الكبرى مفهوم اللاهوت الرسمي، الذي ينظر بالدرجة الأولى إلى حادثة التجسد باعتبارها واقعة تاريخية زمنية حصلت ليسوع المسيح وحده، جاعلا منها ماضيا ميتا لا آنا حيا متجددا؛ ذلك أن التجسد لا يقدم للبشرية، على مستوى الرمز، حقيقة تاريخية، بل حقيقة زمنية ماثلة أبدا هنا والآن، إنه وحدة الإلهي والإنساني؛ فالإله الابن عندما تجسد في هيئة بشرية، قد امتزجت خصائصه الإلهية بخصائصه البشرية فرفع البشر إلى مستوى الألوهة، وهبط بالألوهة إلى مستوى البشر. وهو بحلوله في جسد بشري واحد هو جسد يسوع، قد حل في كل الأجساد البشرية مرة واحدة وإلى الأبد، فمن أدرك سر هذا المعنى أدرك سر الخلاص الذي قدمه يسوع.
خمر جديد في زقاق قديمة
في قول للسيد المسيح من إنجيل لوقا نقرأ: «ليس أحد يجعل خمرا جديدة في زقاق عتيقة؛ لئلا تشق الخمر الجديدة الزقاق، فهي تهرق والزقاق تتلف. بل يجعلون خمرا جديدا في زقاق جديدة فتحفظ جميعا.»
32
والزقاق جمع زق، وهو قربة جلدية كبيرة تحفظ فيها السوائل. والخمر الجديد هنا هو تعاليم يسوع، أما الزقاق القديمة فهي تعاليم التوراة. والمقصود هنا هو أن ما جاء به يسوع ليس صيغة جديدة عن التعاليم التوراتية، ولا يمكن فهمه من خلالها. ولكن المسيحية في تطورها اللاحق قد وضعت في صيغ قديمة فعلا، كانت معروفة في عبادات الأسرار ومعتقدات الخلاص السائدة في ذلك الوقت، وهذه المعتقدات هي التي هيأت المسرح لمشهد انتصار معتقد يسوع المخلص، الذي جاء تتويجا لها، وخاتمة لذلك المخاض الديني الروحي الطويل. يقول كليمنت الإسكندري، وهو أحد الدعاة الأوائل: «تعال إلي لأريك أسرار اللوغوس، وأشرحها لك من خلال صور مألوفة ومعروفة عندك.»
33
ولعل هذا القول يقدم لنا مفتاحا ذهبيا لفهم معادلة الخمر الجديد والزقاق القديمة في تكوين المسيحية الناشئة.
تطرح دورة حياة يسوع المخلص، في خطوطها العامة، تشابها واضحا مع دورة حياة الآلهة الأبناء المخلصين. ورغم أن موت يسوع وبعثه لا يتخذ طابعا دوريا سنويا، كما هو شأن آلهة الخصب، فإن الاحتفال بتجسيده وميلاده وموته ثم بعثه عبر السنة الطقسية المسيحية، يجعل من دورة حياته سلسلة من الأحداث الحاضرة أبدا، المتكررة إلى يوم الدينونة؛ ذلك أن الاحتفال بهذه الأحداث ليس إحياء لذكرى وقائع ماضيات، بل هو عيش لوقائع تحدث الآن والساعة، والسيد المسيح في مولده وموته وبعثه، إنما يجمع إلى شخصه خصائص المخلص الشمسي والمخلص القمري في آن معا، فميلاده شمسي، أما بعثه فقمري.
لم يرد في الأناجيل الأربعة ما يشير إلى تاريخ مولد المخلص يسوع، ولم تحتفل به الكنيسة في مطلع عهدها. ولكن المسيحيين في مصر بدءوا يحتفلون بعيد الميلاد في يوم السادس من كانون الثاني (يناير)، وعنهم أخذت الكنائس الشرقية هذا التقليد. حتى إذا حل القرن الرابع الميلادي تبنت الكنيسة الغربية، التي لم تحتفل من قبل بعيد الميلاد، يوم الخامس والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) كتاريخ رسمي لميلاد السيد المسيح. وكان لهذا التاريخ في ذلك الوقت دلالات دينية في العالم اليوناني-الروماني، وفي الشرق الأدنى القديم على حد سواء. فيوم الخامس والعشرين من كانون الأول هو يوم الانقلاب الشتوي حسب التقويم الجولياني، فيه تصل الشمس آخر مدى لها في الميلان عن كبد السماء، ويبلغ النهار أقصره، ولذا فقد اعتبر يوم ميلاد للشمس ولآلهة الشمس؛ لأن اليوم الذي يليه هو يوم صعود الشمس من جديد نحو كبد السماء، واستطالة النهار على حساب الليل. فكان أتباع المخلص الشمسي «ميترا» يحتفلون بميلاد مخلصهم في ذلك التاريخ، وكذلك السوريون الذين تحول مخلصهم إلى إله شمسي في الفترات المتأخرة، وفي المناطق التي تأثرت بالثقافة الرومانية مثل بعلبك. ففي ليلة الخامس والعشرين من شهر كانون الأول، عند منتصف الليل، كانت صرخة الميلاد تنطلق من حجرات قدس الأقداس معلنة ميلاد المخلص: «ها هي العذراء تلد ابنا والنور ينتشر»،
34
والعذراء المعنية هنا هي الأم الكبرى عستارت، سيدة السماوات . وفي الأناجيل هناك عدد من الإشارات والرموز السرية القديمة التي تربط الابن المخلص بالشمس وميلاده بميلادها. ومنها حادثة اعتماد السيد المسيح بمياه الأردن.
فعماد السيد المسيح هو ميلاده الثاني، وكل مسيحي يجب أن يولد ثانية بعد التعميد بالماء: «الحق، الحق أقول لك. إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله.»
35
أما عن حادثة الاعتماد فنقرأ «حينئذ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليعتمد منه، ولكن يوحنا منعه قائلا: أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إلي؟ فأجاب يسوع وقال له اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر، حينئذ سمح له. فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء، وإذا السماوات قد انفتحت له، فرأى روح الله نازلا مثل حمامة وآتيا عليه، وصوت من السماوات قائلا: هذا هو ابني الحبيب الذي سررت به.»
36
وفي الحقيقة فإن طقس الاعتماد الذي كان معروفا في الديانات السرية، يرجع في أصله إلى عبادة إله الماء السومري-البابلي «إيا» الذي يعني اسمه إله بيت الماء، وكانت طقوس الاعتماد بالماء تتم في معبده، بيت الماء ذاك، وكان البابليون يرمزون للإله إيا بحيوان خرافي، نصفه الأعلى لجدي ونصفه الأسفل لسمكة، كما كانوا يرمزون لبرج إنكي السماوي بنفس الحيوان، وهذا البرج ما زال معروفا إلى يومنا هذا ببرج الجدي، وهو البرج الذي لاحظ البابليون القدماء أن الشمس تدخله وقت الانقلاب الشتوي، لتجتازه بعد ذلك صاعدة في دورتها الجديدة نحو منتصف السماء. فإذا علمنا أن الاسم الذي عرف به الإله إنكي في الفترات المتأخرة هو «أوانيس» الذي يلفظ باليونانية «يوانيس»، وباللاتينية «يوحانيس»، وبالعبرية «يوحنان»، لأدركنا العلاقة السرانية بين إله الماء إنكي ويوحنا المعمدان في الإنجيل.
37
وهذه العلاقة إنما تربط في الوقت نفسه بين يوحنا المعمدان الذي يعمد بالماء، وبرج إنكي الذي تمر فيه الشمس قبل ولادتها الجديدة في السماء. وتجعل من حادثة اعتماد السيد المسيح انعكاسا للحدث الفلكي. فالسيد المسيح بعد اعتماده بماء الأردن على يد يوحنا وولادته الجديدة، يصعد من الماء ويجتازه ليهبط عليه الروح القدس، ويكرسه ابنا للإله وقاهرا برسالته للظلام، تماما كما تلد الشمس في يوم الخامس والعشرين من ديسمبر مجتازة برج الماء في ميلادها السنوي الجديد.
أما بعث السيد المسيح فقمري، وتسير حادثة موته وقيامته على خطا موت وبعث الآلهة القمرية القديمة، التي تغيب في اليوم الأول وتظهر في يومها الثالث. وكما كان الآلهة القمريون آلهة للخصب ودورة الزراعة أيضا، يبعثون إلى الحياة مع الانقلاب الربيعي، كذلك هو السيد المسيح الذي يبعث في يوم الفصح الربيعي. ففي البلدان الناطقة باللاتينية حيث شاعت عبادة الإله آتيس ابن الأم الكبرى سيبيل، جرت العادة على الاحتفال بيوم آلام المسيح وموته في الخامس والعشرين من آذار (مارس) المصادف ليوم الانقلاب الربيعي حسب التقويم الجولياني، وبقيامته في يوم الفصح الموافق للسابع والعشرين من آذار. وهذه التواريخ مقاربة لتواريخ احتفالات آتيس، حيث يصادف يوم الثاني والعشرين من آذار يوم الاحتفال بموت آتيس والخامس والعشرين منه يوم بعثه، وقد كان هذا التطابق بين المناسبتين مدعاة لجدل طويل بين أتباع الديانتين، فبينما اتهم أتباع آتيس المسيحيين بالتقليد، لجأ المسيحيون إلى اتهام الشيطان الذي يقلب موازين الأمور ويغطي الحق بالباطل ليزيغ به القلوب.
38
أما اليوم فيتم الاحتفال بعيد الفصح في الكنائس الشرقية في أول يوم أحد يلي القمر البدر، عقب الانقلاب الربيعي مباشرة. وبذلك يجمع الفصح إلى نفسه البعثين؛ بعث القمر وبعث الطبيعة.
وكما تحول أبناء الأم الكبرى، من آلهة قمح يهبون جسدهم لدفع غائلة الجوع عن البشر، إلى آلهة خلاص يهبون نفس الجسد القديم لخلاص الروح، كذلك السيد المسيح، فجسده الذي وهبه من أجل البشر هو قمح الحياة الأبدية: «أنا هو خبز الحياة، من يقبل إلي فلا يجوع، ومن يؤمن بي فلا يعطش أبدا»
39 ... «أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد، والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم.»
40
وجسد المسيح أيضا هو ثمر الأرض الذي صار ثمر الخلاص: «أنا الكرمة الحقيقية وأبي الكرام.»
41
على أن الإيمان بتجسيد الإله الابن وظهوره على الأرض في هيئة يسوع الناصري، والإيمان بدورة حياته التي انتهت بالموت على الصليب والقيامة من بين الأموات، واتباع مثاله الخلقي في الحياة، كل ذلك لا يكفي لجعل المؤمن واحدا مع المسيح ونيل الخلاص. فهناك عدد من الأسرار التي لا بد من المرور بها، وطقوس عبور لازمة لكل راغب في التحول للمسيحية. من ذلك سر التناول وسر العماد وسر المسحة وغيرها. وسنقوم فيما يأتي بعرض سريع لسر التناول باعتباره السر الأساسي المركزي في الطقس المسيحي. فمن بين سلسلة أحداث حياة المسيح التي تتابعت لتحقيق الخلاص، كان العشاء الأخير من أكثرها إثارة لعواطف المؤمنين، ووعدا قائما بالخلاص عن طريق التوحد مع الفادي. نقرأ في إنجيل متى: «وفيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبز وبارك وكسر وأعطى التلاميذ وقال: خذوا هذا هو جسدي، وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلا: اشربوا منها كلكم؛ لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يسفك من أجل الكثيرين لمغفرة الخطايا.»
42
وفي إنجيل لوقا: «ثم تناول كأسا وشكر وقال خذوا هذه واقتسموها بينكم؛ لأني أقول لكم: إني لا أشرب من نتاج الكرمة حتى يأتي ملكوت الله. وأخذ خبزا وشكر وكسر وأعطاهم قائلا: هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم، اصنعوا هذا لذكري، وكذلك الكأس أيضا بعد العشاء قائلا هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يسفك عنكم.»
43
وفي رسائل بولص الرسول: «إن الرب يسوع في الليلة التي أسلم فيها أخذ خبزا وشكر فكسر وقال: خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم. اصنعوا هذا لذكري، كذلك الكأس أيضا بعدما تعشوا قائلا: هذا الكأس هي العهد الجديد بدمي. اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري، فإنكم إن أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء .»
44
إن طقس التناول ليس استعادة لذكرى فداء المسيح، بل هو إعادة. فالسيد المسيح لم يبذل جسده ودمه في لحظة معينة من التاريخ، بل إنه يبذلهما من أجل البشر في كل مرة يجتمعون من أجل المناولة إلى فناء الأكوان، والخبز والخمر اللذان يتناولهما المجتمعون، هما خبز وخمر من النوع العادي الذي يألفونه في حياتهم اليومية، إلا أن إيمانهم بسر الفداء يعطي لهذه المادة العادية رمزا كبيرا ويحولها إلى فكرة؛ ذلك أن أكل جسد المسيح في شكل خبز القربان المقدس، وشرب دمه في شكل خمرة الكرمة، ليس توحدا مع المسيح في الجسد، بل توحد معه في الجوهر من طريق الإيمان، وتثبيت للإلهي في الروح البشرية. نقرأ في إنجيل يوحنا: «اثبتوا في وأنا فيكم. كما أن الغصن لا يقدر أن يأتي بثمر من ذاته إن لم يثبت في الكرمة، كذلك أنتم أيضا، إن لم تثبتوا في. أنا الكرمة وأنتم الأغصان. الذي يثبت في وأنا فيه، هذا يأتي بثمر كثير.»
45
إن اللحظة التي يتناول فيها المجتمعون الخبز والخمر في إيمان كامل بأن ما يأخذونه إليهم هو جسد الفادي ودمه، لتضعهم خارج الزمان وخارج المكان في ومضة خاطفة، وتفتح لهم بوابة على الأبدية، وتجدد العهد ما بينهم وبين المخلص.
إن تفرد سر التناول المسيحي، في مضمونه وغاياته، لا ينفي اعتماده على الأسرار السابقة والمعاصرة له إبان تشكله، وعلى طقوس دينية أخرى موغلة في القدم. ففي الفصل السابق رأينا كيف أن القربان البشري لم يكن إلا تمثيلا للقربان الإلهي. كما رأينا أن التضحية بالملك الذي حلت فيه روح الإله، أو في ابنه، أو في أي قربان بشري آخر يقوم مقامه، ليست إلا حدثا يجري في تزامن وتواقت مع موت الإله نفسه. لذلك كان لجسد القربان البشري طابع القداسة، فما إن يتم تنصيب الملك الجديد الذي سيقتل بعد مدة محددة، أو يتم تخصيص شخص ما ليكون موضوعا للقربان، حتى يفقد الشخص المهيأ للموت مع الإله خصائصه البشرية، ويغدو جزءا من الإله نفسه. من هنا كان أكل جزء من جسد القربان عقب قتله، هو أكل لجسد الإله نفسه في سعي للتوحد معه. والشيء نفسه ينطبق على القربان الحيواني الذي يقتل كممثل للإله، ثم يؤكل لحمه طقسيا لاكتساب القداسة التي حلت فيه. وفي هذا المجال نذكر بطقوس ديونيسيوس التي كان عباده خلالها يأتون بثور حي يمثل الإله فيمزقونه إربا ويأكلونه. كما كان عباد أدونيس في سوريا يذبحون في عيده الخنزير، وهو رمز الإله نفسه، ويأكلونه في وليمة طقسية رغم أن لحمه كان محرما عليهم في الأوقات العادية، وخارج هذه المناسبة.
على أن التضحية الفعلية بإنسان أو حيوان، لم تكن دوما عنصرا أساسيا في طقوس التناول؛ ففي بعض ديانات الخلاص كان يكتفى بصنع نوع خاص مقدس من الخبز يمثل جسد الإله، يتم أكله في الاحتفال الديني، كما هو الأمر في طقوس ديمتر أم القمح، التي أشرنا إليها في مكان آخر من هذا الفصل، وفي طقوس ميترا حيث تظهر بعض الرسوم القائمين بالطقس، وقد وضعوا أمامهم على المائدة أرغفة رسم عليها شكل الصليب.
46
وبعيدا عن حضارات العالم القديم، فإن ثقافات القارة الأمريكية تمدنا بأمثلة عدة عن طقوس أكل جسد الإله. ففي ثقافة الآزتيك في المكسيك، كانت طقوس العشاء المقدس تتم مرتين، الأولى في كانون الأول (ديسمبر)، والأخرى: في أيار (مايو)، حيث يصنع المحتفلون في كل مرة دمية من عجين مصنوع من دقيق عدد متنوع من الحبوب، تمثل الإله الأكبر، ثم توضع الدمية على المذبح الرئيسي في المعبد ليلة الاحتفال، ويحرق حولها البخور طيلة الليل، ويقيم أمامها الكهنة طقوسا خاصة، حتى إذا جاء الصباح حملت إلى قاعة كبيرة يحتشد فيها النساء، ويأتي الكاهن الأكبر فيرمي صدر الدمية بسهم ويتقدم فينتزع قلبها ويقدمه للملك، ثم يقسم بقية الجسد إلى قطع صغيرة يوزعها على بقية الموجودين فيأكلونها في حزن وخشوع، ويصلون قائلين: إنهم يأكلون جسد الإله وعظامه.
47
وقد بقي من طقوس أكل جسد الأم الكبرى ديمتر في هيئة خبز القربان بقية في عادات مزارعي القمح في أوروبا حتى العصر الحديث. فإلى وقت قريب كان المزارعون يقيمون بعد الحصاد وليمة تدعى بعشاء الحصاد، حيث يقوم رب الأسرة بعجن رغيف كبير مأخوذ من آخر حزمة قمح (وهي الحزمة التي رأينا سابقا أن روح القمح تسكن فيها)، ثم يجعله على هيئة دمية نسائية، ويخبزه في النار، ثم يجلس وأسرته إلى عشاء الحصاد حيث يأكلون الدمية. وفي بعض المناطق تصنع دمية من العجين تعلق على غصن شجرة مقطوع، ثم تنقل في آخر عربة حصاد راجعة من الحقل، فتؤخذ إلى بيت عمدة القرية، الذي يقسمها بين الناس المجتمعين في بيته لهذه المناسبة. وفي بعض المناطق التي لا تصنع دمى خاصة لعشاء الحصاد، تقوم عائلة المزارع بصنع خبز خاص لهذه المناسبة، يأكله الجميع في خشوع وهم يرفعون أدعية موجهة لله وللأرض الخصيبة في آن معا.
48
ننتقل الآن إلى الجانب الآخر لمعتقد الخلاص المسيحي، والمتمثل في الإيمان بيسوع المسيح كحامل لخطايا البشر ومحرر لهم من الذنوب الماضيات. نقرأ في رسائل بولص الرسول: «وأما الآن فقد ظهر بر الله بدون الناموس مشهودا له من الناموس والأنبياء. بر الله بيسوع المسيح وإلى كل وعلى كل الذين يؤمنون؛ لأنه لا فرق؛ إذ الجميع أخطئوا وأعوزهم مجد الله. متبررين مجانا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح، الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه، لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله.»
49
وأيضا: «مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي باركنا بكل بركة روحية في المسيح ... الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا.»
50
وفي رسائل يوحنا الرسول نقرأ: «يا أولادي أكتب لكم هذا لكيلا تخطئوا، وإن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الأب، يسوع المسيح البار الذي هو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا بل لخطايا كل العالم أيضا.»
51
وفي رؤيا يوحنا اللاهوتي نقرأ: «... يسوع المسيح الشاهد الأمين البكر من الأموات، ورئيس ملوك الأرض الذي أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه، وجعلنا ملوكا وكهنة لله أبيه، له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين آمين ...»
52
وفي إنجيل يوحنا نقرأ: «وفي الغد نظر يوحنا يسوع مقبلا إليه فقال: هو ذا حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم.»
53
وفي إنجيل يوحنا أيضا: «... فقال لهم واحد منهم وهو قياف، وكان رئيسا للكهنة في تلك السنة: أنتم لستم تعرفون شيئا، ولا تفكرون أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة بأسرها. ولم يقل هذا من نفسه، بل إذ كان رئيسا للكهنة في تلك السنة تنبأ أن يسوع مزمع أن يموت عن الأمة، وليس عن الأمة فقط، بل لجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد.»
54
إن فكرة الإله القتيل حامل الخطايا هنا، رغم تفردها في المضمون والغايات، فإنها تحمل أيضا تاريخا طويلا من معتقد الإنسان وطقسه. وسنقوم فيما يأتي برسم صورة عن الزقاق القديمة التي صب فيها هذا المعتقد الجديد.
اعتقد الإنسان القديم بإمكانية التخلص من آلامه وأحزانه وآثامه وسوء طالعه وما إلى ذلك، عن طريق تحويلها إلى موضوع خارجي قد يكون إنسانا، أو جمادا، أو حيوانا، وذلك كما ينقل الواحد ثقلا ماديا ليضعه على كاهل الآخر. ونستطيع متابعة هذا الاعتقاد في ممارسات الإنسان وطقوسه عبر أزمنة وأمكنه مختلفة. ففي بعض أجزاء جنوب الهند يتم نقل خطايا الميت إلى عجل صغير يؤتى به ليقف عند رأس جسد المسجى، ثم يقوم كبير القبيلة بتلاوة لائحة الآثام التي ارتكبها بطريقة ترتيلية قائلا: لقد ارتكب كذا وكذا ... وإنها لخطيئة. فيردد الجمع المتحلق حول المتوفى: إنها لخطيئة. ثم يضع يده على رأس العجل فتنتقل الخطيئة من الميت إلى الحيوان، ثم يتابع ترتيله ويتابع الآخرون الترداد وراءه، حتى ينتهي من تلاوة الاعترافات نيابة عن الميت، فإذا انتهى أحنى رأس العجل، ووضع كفي الميت عليه ليتطهر من بقايا ذنوبه، ثم يقول بصوت عال: تستطيع الآن أن تلجأ إلى قدمي ربك الطاهرتين. أما العجل فيطلق ليهيم على وجهه في البراري بعد أن ترسم عليه علامة معينة، ويمنع على من يلتقي به أن يستخدمه لأي غرض دنيوي؛ لأنه قد غدا مقدسا. وهم يعتقدون أنه لن يلبث طويلا حتى يختفي ويتلاشى. وفي أجزاء أخرى من الهند، كان المهراجا وزوجته يتخلصان من آثامهما بنقلها إلى أحد المجرمين المحكومين، الذي كان يشتري حريته بالتطوع لهذه المهمة. وكان طقس نقل الخطايا يتم على الوجه الآتي: تنصب للشخصيتين الملكيتين منصة خشبية يوضع المتطوع تحتها، ثم يصعد إليها المهراجا وزوجته وهما في أبهى حلة وأفخر ثياب، فيسكب فوقهما ماء يغسلهما، ويتسرب من بين شقوق المنصة ليبلل المجرم القابع تحتها، ناقلا بذلك خطاياهما إليه. وفي طقس آخر يتطوع أحد رجال البراهما الصالحين ليحمل خطايا المهراجا وهو في نزعه الأخير، فيأتي إلى سريره ويعانقه قائلا: إنني أحمل عنك أيها الملك كل خطاياك وآثامك. فإذا أسلم الروح تم إبعاد حامل خطاياه إلى ما وراء حدود المملكة، ولا يسمح له بالعودة بعد ذلك.
55
وجرت العادة لدى بعض قبائل النيل الأبيض في أفريقيا، على أن تقوم بعض العائلات باقتناء بقرة مقدسة تحتفظ بها إلى أوقات الأزمات العامة، فإذا حلت بالقبيلة شدة أو انتشر وباء، قام زعيم القبيلة باختيار إحدى هذه البقرات لتحمل عن القرية آلامها، عند ذلك تأتي نساء القرية بالبقرة المقدسة فيسقنها بين بيوت القرية بيتا بيتا، ثم يدفعنها عبر النهر إلى الشاطئ الآخر، حيث تترك نهبا للوحوش الضارية، حاملة معها المصائب والرزايا. ولدى بعض قبائل أفريقيا الشرقية، إلى وقت متأخر من القرن التاسع عشر، كانت تسود عادة التضحية بكبش فداء بشري يحمل عن القبيلة خطاياها. فكانوا يحتفظون بالرجل المفرد للقربان مدة من الزمن يجري خلالها تغذيته والعناية به على أكمل وجه، حتى إذا حل الموعد المضروب، سيق في طرقات القرية وقد أخفيت ملامحه بطبقة من الأصباغ، فيتزاحم الجميع حوله واضعين أيديهم عليه، لينقلوا إليه آثامهم وأمراضهم وسوء طالعهم. ثم يؤخذ إلى المعبد حيث يذبح، فإذا تصاعدت أناته وحشرجاته ارتفعت أصوات المجتمعين، خارجا بصرخات الفرح والتهليل؛ لأن موت القربان البشري سيعطيهم راحة الضمير وسكينة النفس.
56
وفي التيبت، كان نقل الخطايا إلى كبش فداء بشري، يتم دوريا مع مطلع كل سنة جديدة، حيث يلقي الناس عن كاهلهم شرور السنة القديمة، ويتقون مجهول السنة القادمة. فكانوا في عيد رأس السنة يأتون بالرجل المخصص للفداء ، فيدهن وجه بالأبيض والأسود، ويلبس ثوبا من جلد ويطلق عليه اسم «ملك السنة». ثم يأخذونه إلى أزقة المدينة وأسواقها، حيث يسير بين الناس وبيده ذيل ثور أسود يهزه فوق رءوس المتقاطرين إليه من كل مكان، فيأخذ إليه خطاياهم وحظوظهم العاثرة. بعد ذلك يوضع على حصان أبيض وينطلقون به إلى جبال جرداء قريبة، بين صراخ الناس وشتائمهم وطلقات البنادق والسهام الموجهة نحو الأعلى، هناك يوضع الرجل في كهف مهجور، ويمنع من مغادرة المنطقة حتى موعد رأس السنة القادمة، حيث يأتون إليه مرة أخرى، فإن وجدوه ميتا اختاروا شخصا جديدا كملك للسنة، وإن وجدوه حيا اقتادوه لتمثيل الدور نفسه.
57
وهنا يستوقفنا لقب «ملك السنة» الذي يطلق على كبش الفداء في الطقس التيبتي، ويحضر في ذاكرتنا طقوس قتل الملوك الذين تتجسد فيهم روح إله الطبيعة المستعد للموت من أجل تجديد دورة الطبيعة. ولعلنا نستطيع الافتراض ببعض الثقة أن ملك السنة كان في بداية ظهور الطقس بديلا للدالاي لاما كاهن التيبت وملكها، وأن الملك نفسه كان في الفترات الأقدم عهدا هو موضوع القربان حامل الخطايا ومجدد روح الطبيعة في آن معا.
وفي ثقافة الإغريق نجد حشدا من الأمثلة على الكبش البشري؛ فعلى سبيل المثال كان الأثينيون يحتفظون بعدد من الأرقاء عديمي الفائدة والقيمة العملية لأوقات الأزمات، حتى إذا أرادوا صد شر وباء أو كارثة محدقة، أخرجوا اثنين من هؤلاء وضحوا بهما فداء عن الجميع. وفي بعض الأوقات، كانت هذه التضحية تتم دوريا في كل سنة حيث تقاد الضحيتان خارج أسوار المدينة وترجمان بالحجارة حتى الموت. وفي تراقيا القريبة من بلاد اليونان، كانت مدينة إبديرا تطهر نفسها سنويا بقتل كبش فداء بشري رجما حتى الموت، وقبل قتل الضحية كان يعلن أمامها وعلى مسمع من الجميع أنها تموت لكي تحمل وحدها خطايا الناس جميعا.
58
وفي روما القديمة كان طقس الفداء البشري يقام في أول ليلة قمر كامل تعقب رأس السنة الرومانية، التي تبدأ في الأول من شهر آذار (مارس). ففي تلك الليلة كان يتم اقتياد رجل يرتدي الملابس الجلدية في موكب يخترق شوارع المدينة، وخلال المسيرة يقوم أفراد الموكب بضرب الرجل بعصي طويلة بيضاء حتى يصلوا به أطراف المدينة، حيث يلقون به خارجا ويطلقون عليه اسم «مارس القديم».
59
ومارس هو اسم لأول شهور الربيع، وبنفس الوقت اسم للإله الروماني المعروف بإله الحرب. ولعل إلقاء مزيد من الضوء على شخصية هذا الإله يساعدنا على فهم خفايا هذا الطقس الروماني وأصوله البعيدة. فالإله مارس لم يكن في مطلع عهده إلها للحرب؛ بل إلها للخصب وفصل الربيع وتكاثر القطعان، وكانت عبادته مقدمة على عبادة جوبيتر الذي صار فيما بعد رئيسا للبانثيون الروماني. وتروي الأسطورة أن أمه قد أنجبته دون لقاح من ذكر، بل من لقاء بينها وبين زهرة خرافية، ولم يتحول مارس إلى إله للحرب إلا في الفترات الرومانية المتأخرة، حيث نزعت عنه خصائص الخصب وأعطيت إلى آلهة أخرى، ولكن اسمه بقي مع ذلك يطلق على أول شهور الربيع.
60
من هنا نستنتج أن كبش الفداء الروماني الذي يضرب في شوارع المدينة تحت اسم مارس القديم، ثم يرمى به خارجا، لم يكن في بداية عهده سوى ممثل لإله الخصب الذي يموت في كل عام لضمان دورة الزراعة. كما نستطيع أن نستنتج أن إله الخصب كان يلعب في الوقت نفسه دور كبش الفداء حامل الخطايا، فعنده قد اجتمع الطقسان المستقلان في طقس واحد، فإذا كان لا بد من موت إله الخصب، فلماذا لا يتم تحميله في الوقت نفسه كل آثام الجماعة وشرورها وخطاياها ليخلصهم منها في كل عام. هذا الدور المزدوج لإله الخصب، رغم عدم وضوحه في ديانات الخصب في شكلها المتأخر وديانات الخلاص المتفرعة عنها، إلا أنه متضمن في الموقف النفسي للمشتركين في الاحتفالات الدينية السنوية. فالبكاء الحقيقي الصادر من أعماق القلب والتفجع، ليس فقط حزنا على الإله الميت وندبا لموته، بل ينطوي على أبعد من ذلك، إنه نوع من الإحساس بالخطيئة والاعتراف بها، والندم عليها، وتحويلها إلى الإله ليحملها معه ويريحهم منها.
أخيرا، يكتمل إرث الشكل والقالب القديم لمعتقد الخلاص الجديد، إذا عرفنا أن يسوع المخلص إنما يموت في صفة الملك. نقرأ في إنجيل يوحنا: «فقال له بيلاطس: أفأنت إذن ملك؟ أجاب يسوع: أنت تقول إني ملك؛ لهذا قد ولدت أنا ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق. كل من هو من الحق يسمع صوتي. قال له بيلاطس: ما هو الحق؟ ولما قال هذا خرج أيضا إلى اليهود وقال لهم: أنا لست أجد فيه علة واحدة. ولكم عادة أن أطلق لكم واحدا في الفصح. أفتريدون أن أطلق لكم ملك اليهود؟ فصرخوا جميعهم قائلين: ليس هذا، بل باراباس. وكان باراباس لصا» ... «وكان استعداد للفصح، ونحو الساعة السادسة، فقال لليهود: هو ذا ملككم، فصرخوا: خذه ... خذه اصلبه» ... «وكتب بيلاطس عنوانا ووضعه على الصليب، وكان مكتوبا: يسوع الناصري ملك اليهود.»
61
وفي نجيل متى نقرأ أن يسوع قد لقب منذ مولده بملك اليهود: «ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في أيام هيرودوس الملك، إذا مجوس من الشرق قد أتوا إلى أورشليم قائلين: أين هو المولود ملك اليهود؟»
62
وهو تحت لقب ملك اليهود يصلب ويموت: «فأخذ عسكر الوالي يسوع على دار الولاية، وجعلوا عليه كل الكتيبة فعروه وألبسوه رداء قرمزيا، وضفروا إكليلا من شوك ووضعوه على رأسه وقصبة على يمينه. وكانوا يجثون قدامه ويستهزئون به قائلين السلام يا ملك اليهود.»
63
ومن ناحية أخرى فإن نصوص العهد الجديد تشير إلى النسب الملكي ليسوع الناصري وتربطه بأسرة الملك داود. فرسائل بولص الرسول توضح أن المسيح بحسب الجسد هو من ذرية داود.
64
وفي إنجيل لوقا نجد أن الملاك يبشر مريم بابن يرث كرسي ملك أبيه «لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدت نعمة عند الله. وها أنت ستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع، هذا يكون عظيما وابن العلي يدعى. ويعطيه الرب كرسي داود أبيه.»
65
شكل 10-1: أورفيوس على الصليب وفوق رأسه الهلال والكواكب السبعة - 300 بعد الميلاد.
على أنه لا بد من القول: إن معتقد الخلاص الجديد قد مارس بدوره تأثيرا قويا على معتقدات الخلاص التي نافسته ردحا من الزمن قبل أن تنهزم أمامه إلى الأبد، فبعض معتقدات الخلاص الغنوصية التي نشأت في الشرق القديم، وامتدت إلى العالم اليوناني الروماني خلال القرون الثلاثة التالية للميلاد، قد جعلت من السيد المسيح نفسه مركزا لطقسها ومعتقدها. كما قامت المعتقدات الأقدم بانتحال بعض خصائص المخلص الجديد ونسبها إلى آلهتها. فأتباع الأورفية مثلا قد أخذوا يصورون في أعمالهم التشكيلية أورفيوس معلقا على الصليب (الشكل رقم
10-1 )؛ مما يدل على أن كل ديانة كانت تحاول استمالة أتباع الديانة الأخرى، عن طريق الاستعارة منها، وصب رسالتها في قوالب مفهومة لديهم ومقدسة عندهم.
وبعد، لعل الزقاق القديمة، كما رأينا، لم تفسد الخمر الجديدة، والخمر الجديدة لم تشقق الزقاق القديمة، بل لقد حفظت الزقاق خمرها جاهزة في كل آن للمؤمنين بجوهر الإلهي لا بحرفية اللاهوت وطرائق الكهنوت.
مريم المخلصة
لا تمدنا الأناجيل الأربعة الرسمية بمعلومات كافية عن السيدة مريم، التي تبدو شخصيتها غامضة وغير واضحة المعالم عبر سيرة السيد المسيح. فبشارة الملاك لمريم بالمولود الإلهي لا ترد إلا في إنجيل لوقا. وفي القليل الذي أورده إنجيل متى عن طفولة المسيح، لا تتضح العلاقة بين الأم والابن، ولا دور الأم في تربية وتنشئة ابنها. وعندما تريد المشيئة الإلهية إنقاذ العائلة المقدسة من بطش الملك هيرودوس يهبط الوحي على يوسف النجار ليأمره بالهرب إلى مصر هو وأسرته، وعندما يموت هيرودوس يهبط عليه ثانية ليأمره بالعودة. وفي كلا الإنجيلين تنتقل بنا الأحداث بسرعة عبر طفولة المسيح الغامضة، لنجد أنفسنا فجأة أمام يسوع الرجل يعتمد بماء الأردن. أما إنجيلا مرقس ويوحنا فيبتدئان بحادث الاعتماد، وما يليه من بدايات التبشير دون أي ذكر لميلاد يسوع وطفولته وحداثته.
وعبر حياة السيد المسيح التبشيرية القصيرة، لا نستطيع أن نتبين للسيدة مريم دورا خاصا. وفي المواقف التي تجمع يسوع بأمه، لا نجد أصحاب الأناجيل يصرفون الأذهان إلى مريم، بل يبقى الابن في مركز الصورة وبؤرتها. نقرأ في إنجيل مرقس على سبيل المثال: «فجاء حينئذ إخوته وأمه ووقفوا خارجا وأرسلوا إليه يدعونه، وكان الجميع جالسا من حوله ، فقالوا له: هو ذا أمك وإخوتك خارجا يطلبونك، فأجابهم قائلا: من أمي وإخوتي؟ ثم نظر حوله إلى الجالسين وقال: ها أمي وإخوتي ... لأن من يصنع مشيئة الله هو أخي وأختي وأمي.»
66
وفي إنجيل لوقا نقرأ: «وفيما هو يتكلم بهذا، رفعت امرأة صوتها من الجمع وقالت له: طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين أرضعاك. أما هو فقال: بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه.»
67
وعندما يتكلم الابن والأم مع بعضهما البعض، لا تنبي طريقة تخاطبهما بعلاقة خاصة، بل العكس؛ إذ يسود جو من الموضوعية بينهما. ولعل في حادثة عرس قانا، الذي دعيت إليه مريم كما دعي إليه يسوع وتلاميذه في اليوم الثالث لهبوط الروح القدس؛ مثالا على ذلك: «وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل، وكانت أم يسوع هناك. ودعي أيضا يسوع وتلاميذه إلى العرس. ولما فرغت الخمر، قالت أم يسوع له: ليس لهم خمر. فقال يسوع: ما لي ولك يا امرأة، لم تأت ساعتي بعد.»
68
ولا يشذ إنجيل يوحنا عن الأناجيل الأخرى في طمس ملامح السيدة مريم، وذلك رغم أن يوحنا قد تعهد مريم بعد موت ابنها وضمها إلى بيته؛ تنفيذا لوصية يسوع وهو على الصليب: «فلما رأى يسوع أمه والتلميذ الذي كان يحبه واقفا، قال لأمه: يا امرأة، هو ذا ابنك. ثم قال للتلميذ: هو ذا أمك. ومن تلك الساعة أخذها التلميذ إلى خاصته.»
69
إلا أن تحولا جذريا أخذ يطرأ على صورة السيدة مريم فيما بين القرن الأول والقرن الرابع للميلاد، بتأثير العاطفة الشعبية التي تركزت لأجيال طويلة حول الأم الكبرى، وبتأثير بعض القديسين الأوائل ممن أسسوا بكتاباتهم المبكرة وأشعارهم وصلواتهم لعبادة السيدة العذراء. ومن هؤلاء القديسين يوحنا الفم الذهبي، ومار أفرام السرياني، وميتوديوس وغيرهم. نقرأ في ترتيلة للقديس ميتوديوس: «إن اسمك يا مريم، يا أم الله، ممتلئ نعمة وبركة إلهية. أنت أم المؤمنين. لقد أدركت ما لا يدرك، وحويت من لا يحده مكان. أنت أم الخالق، ومغذية مغذي الجميع. وقد حملت من بكلمته يحمل الجميع. لقد أقرضت الله الذي لا يعوزه شيء جسدا ليظهر به للبشر. القدير على كل شيء، قد رضي أن يصير إنسانا ويعرف الناس إليه. أي شيء أعظم من هذا الشرف، وهو أن المالئ السماوات والأرض، والمالك كل شيء قد رضي أن يصير فقيرا فيحتاج إليك. أنت أقرضت الله ثوبا وجسدا لم يكن له من قبل. ابتهجي يا أم الله وأمته، فإن دائن الخليقة كلها قد صار مدينا لك. نحن كلنا مدينون لله وهو صار مدينا لك. والذي قال: أكرم أباك وأمك، شاء أن يحفظ هذه الشريعة التي سنها. لهذا غمر أمه نعمة شرفا لأنها ولدته ميلادا جديدا.»
70
إلا أن أمومة مريم الإلهية قد بقيت موضوع خلاف بين المذاهب المسيحية الأولى، حتى انعقاد مجمع إفسوس الذي انتصر فيه التيار الغالب المؤمن بالأمومة. وقد رأس المجمع القديس كيرلس الإسكندري الذي أثرت تعاليمه على قرارات المجمع حول هذه النقطة. وكان من جملة أقواله التي ساقها في فترة التمهيد لعقد المجمع وخلاله: «إني أعجب من أولئك الذين يتساءلون: هل يجوز لهم أن يسموا القديسة العذراء أم الله أم لا؟ بما أن سيدنا يسوع المسيح هو الله، فكيف لا تكون التي ولدته أم الله؟ تلك هي العقيدة التي نقلها إلينا الرسل القديسون، ولو أنهم لم يستعملوا هذه العبارة.» وبعد انتهاء مداولات المجمع بحضور 150 أسقفا تمت الموافقة على عقيدة الأمومة الإلهية، وتم إطلاق اسم «أم الله» رسميا على السيدة مريم. وكان شعب مدينة إفسوس واقفا تحت نوافذ قاعة الاجتماعات يترقب تحديد العقيدة وإعلانها. وما إن تم ذلك، حتى خرج الشعب كله إلى الشوارع، وسار الجميع وعلى رأسهم الأساقفة يقطعون شوارع المدينة والمشاعل في أيديهم والنساء يحملن المباخر، والجميع ينادون بأن مريم والدة الإله وينادون: يا مريم يا أم الله.»
71
لقد فتح هذا اللقب الجديد الباب واسعا أمام العاطفة الشعبية لتكريس السيدة مريم أما كبرى. إن أمومة مريم الإلهية ليست أمومة للطبيعة الإلهية، ولا لكيان الابن القديم؛ لأنه الكلمة الذي كان عند الله بلا بداية، بل هي أمومة للإله الكلمة المتأنس يسوع. ومع ذلك فإن لقب أم الله قد وضعها في مصاف الأم الكبرى التي تدعى لدى كل الثقافات بأم الإله. وبدأ الخيال الشعبي يسبغ عليها ويستعير لها كل خصائص وصفات الأمهات اللواتي كن موضع عبادة في الديانات السابقة، واتخذت مقاما في العبادة يأتي مباشرة بعد الثالوث المقدس. وذلك يرجع في رأينا إلى نزوع نفسي متأصل في الطبيعة البشرية لعبادة القوى الإلهية في تجليها الأنثوي، إلى جانب عبادتها في تجليها الذكري. ولقد استعرضنا عبر فصول هذا الكتاب رحلة السيدة مريم من قديسة إلى أم كبرى، ولا نجد حاجة لتقديم ملخص شامل حول هذا الموضوع.
ولقد ساهمت الأعمال الفنية والتشكيلية في رسم هذه الصورة الجديدة للسيدة مريم، وقدمتها كأبهى ما تكون الأم الكونية الكبرى. من فيض هذه الأعمال نشير إلى عملين يقدمان في رأينا فكرة عما حاولت بقية الأعمال أن تقول. ففي تمثال خشبي بالحجم الطبيعي من فرنسا القرن الخامس عشر،
72
نجد السيدة العذراء في وضعية الجلوس تحمل في يدها اليسرى كرة الكون، وتضم بيدها اليمنى الوليد الإلهي الواقف على ركبتها. إلا أن سر التمثال يكمن في أنه مجوف من الداخل وله مصراعان قابلان للفتح، فللوهلة الأولى يبدو التمثال عملا عاديا من النوع المألوف، فإذا فتح المصراعان كشف التمثال عن معانيه السرانية، إذ نجد في داخله الإله الأب ممسكا بيديه الاثنتين الصليب، والإله الابن معلقا عليه، وكلاهما متضمنان في كون العذراء الرحيب. أما العمل الثاني فلوحة زيتية من روائع الفنان الإسباني فلاسكيز محفوظة في متحف مدريد تحت اسم تتويج السيدة. في هذه اللوحة نجد الثالوث المقدس مؤلفا من الأب والابن والعذراء التي تتوسط الاثنين، شاغلة مركز الصورة وأكبر مساحة فيها، ويمسك الأب والابن بتاج يضعانه على رأس السيدة.
هذا الدور الكبير للسيدة العذراء قد جعلها شريكة كاملة للإله الابن في سر الفداء والخلاص، فبدونها لم يكن ممكنا لملحمة الخلاص أن تتم وتستكمل شروطها. نقرأ في أناشيد الكنيسة الشرقية وصلواتها: «بما أنك كنز قيامتنا يا جديدة بكل تسبيح، انشلي الواثقين بك من قعر جب الزلات، فإنك أنت خلصت الحاملين تبعة الخطيئة بولادتك الخلاص. يا من هي قبل الولادة عذراء وبعد الولادة عذراء» ... «السلام عليك يا فرحنا وسترنا وخلاص نفوسنا. إن أجناس الأرضيين كافة يلتجئون إلى سر معونتك» ... «سهلي لي مناهج الخلاص يا والدة الإله؛ لأني دنست نفسي بخطايا سمجة، وأفنيت عمري كله بالتواني» ... «لما حياك جبرائيل أيتها البتول، تجسد مع صوته سيد الكل فيك، أيها التابوت المقدس، وظهرت أرحب من السماوات إذ حملت خالقك. فالمجد للذي سكن فيك، المجد للذي أتى منك، المجد للذي حررنا بولادته منك.»
73
وفي المجمع الفاتيكاني الثاني الذي أعلن الدستور العقائدي للكنيسة، ثم تناول شخصية السيدة مريم ودورها في تدبير الخلاص، وذلك في الفصل الثامن من الدستور الفقرة (60) حيث نقرأ: «عن العذراء الطوباوية التي أعدت منذ الأزل في تصميم تجسد الكلمة كي تكون أم الله، غدت إلى الأرض بتدبير العناية الإلهية أما حبيبة للمخلص الإلهي وشريكة سخية في عمله بصفة فريدة أبدا، وأما للرب وديعة. بالحبل بالمسيح وبوضعها إياه في العالم وبتغذيتها له، وبتقدمته في الهيكل إلى أبيه، وتألمها مع ابنها الذي مات على الصليب، ساهمت في عمل المخلص مساهمة لا مثيل لها.»
74
وفي الواقع، فإن مثل هذه الكلمات التي تصدر عن أعلى سلطة رسمية كاثوليكية، لا يمكن إلا أن تكون ذات صيغة توفيقية بعيدة عن التطرف، وذلك حفاظا على الروابط مع بعض الكنائس التي ليس لعبادة العذراء فيها المكانة نفسها، وتدعيما لسبل الوحدة المسيحية، ولعل في قول الكردينال الفرينك خلال مناقشات المجمع الفاتيكاني الثاني الآنف الذكر، ما يشير إلى الاختلاف بين الصيغة الرسمية للعقيدة والممارسة الشائعة؛ إذ قال: «إن التعبد للعذراء مريم شيء، والتعبير عن إيمان الكنيسة وتعاليمها شيء آخر.»
وبعد، لقد كانت السيدة مريم العذراء آخر تجل للألوهة المؤنثة في ضمير الإنسان، ويبدو أنها باقية معه على مر الأزمان.
رؤيا
ها هو الممر الضيق الوعر الذي يصعد بنا عبر الأحراش المتشابكة يوصلنا إلى القمة ... خطوات ونزيح آخر الأغصان التي تحجب بحيرة عشتار الصافية. هنا مسخت الإلهة الراعي الشاب أكيتون أيلا جزاء اقتحامه عزلتها ورؤيتها عارية تستحم، فطاردته كلابه ومزقته إربا.
أضع قدمي الأولى على العشب الأخضر وأسير بحذر؛ لكني لا أسمع وقعا لخطواتي، كل ما حولي ساكن سكون الوجود لحظة الخلق قبل أن تنبث فيه روح الخالق. الشمس والقمر ثابتان جنبا إلى جنب عند خط الأفق، والنجوم منتثرة بلا بريق. أمشي إلى حافة البحيرة وأستلقي. الصمت يدخل من مسام جلدي كدخول الهواء في إناء مفرغ، حتى امتلأت بالعدم. لا أدري هل مرت دقائق أم سنون وعيناي مفتوحتان على اتساعهما تحدقان في أعماق ليل سرمدي. ثم تحرك الزمن وأخذت أميز الأشياء ببطء. النجوم عادت إلى تألقها، وظلال الأشجار تتطاول وتتلاشى مع غروب الشمس، والقمر يصعد بدرا إلى خط السمت. نسمات تهب حاملة معها كل عبق المكان. انكفأت على وجهي أشم رائحة التراب والعشب، وصوت يتصاعد خافتا من أعماقي؛ ولكني أسمعه بوضوح، صوت المتصوف «النفري» يقول على لسان الحق: «أمر كان، وأمر يكون، وأمر لا يكون. فالأمر الذي كان: محبتي لك، وأمر يكون: تراني. وأمر لا يكون: لا تعرفني معرفة أبدا» - النفري: المواقف والمخاطبات.
مراجع البحث
Alexiou, Margaret. The Ritual Laments in Greek Tradition, Cambridge 1974.
Allegro, J., The Sacred Mushroom and the Cross, Abacus, London 1970.
Apuleius, The Golden Ass, translated by R. Graves, Penguin, London 1980.
Bachofen, J., Myth, Ritual and Mother Right, Princeton, New York 1973.
Braidwood. R., Prehistoric Man, Scott and Company, Illinois 1975.
Briffault, Robert. The Mothers, Athenaeum, New York 1977.
Budge, E. A. Wallis, Osiris, University Books, New York 1970.
Budge, E. A. Wallis. The Gods of the Egyptians, Dover, N. Y. 1969.
Campbell, Joseph. Primitive Mythology,
Campbell, Joseph Occidental Mythology,
Campbell, Joseph. Creative Mythology,
Campbell, Joseph. Creative Mythology,
Cauvin, Jacques. Les Premiers Villages de Syrie-Palestine, Maison de l’Orient, Lyon 1978.
Cauvin, Jacques. Religions Neolithiques, Centre de Recherches D’ecologie et de
Child, Gordon. The Most Ancient Near East, Norton library, New York 1969.
Frazer, James. The Golden Bough, MacMillan, New York 1971.
Colegrare, Sukie. The Spirit of the Valley.
Gordon, C. H. The Ancient Near East, Norton library, New York 1965.
Gordon, C. H., Ugarit and Minoan Crete Norton library, New York 1967.
Graves, Robert, Greek Myths, Pelican Book, London 1970.
Cuirand, F., Greek Mythology, Hamlyn, London 1963.
Cuirand, F., Roman Mytholog, in: Encyclopedia of Mythology, Hamlyn, London 1977.
Harding, M. Esther, Woman’s Mysteries, Harper and Row, New York 1976.
Harrison, Jane. Epilegomena to the study of Greek Religion, University Books, New York 1966.
Heidel, Alexander. The Babylonian Genesis, Chicago, 1969.
Heidel, Alexander. The Gilgamesh Epic,
Henderson, J. L., The Wisdom of the Serpent, Collier Books, New York 1971.
Hooke, S. H., Babylonian and Assyrian Religion, Hutchinson University. Library, London 1953.
I Ching. Book of Changes, Princeton, New York 1977.
Jung, C. G., Transformation Symbolism in the Mass. In: (The Mysteries) edited by J. Campbell, Princeton, New York 1978.
Kirk. G. S., Myth, Its Meaning and Functions, Cambirdge University, Cambridge 1983.
Kramer, S. N. Histoey Begins at Summer, Doubleday, New York 1959.
Kramer, S. N,. Sumerian Mythology, Harper and Row, New York 1961.
Kramer, S. N,. Mythology of the Ancient World (edited), Anchor Books, New York.
Kramer, S. N. The Sacred Marriage Rite, Indiana university Press 1969.
Loa Tzu, Tao Te Ching, translated by D. C. Lau, Penguin, London 1978.
Mellaart, James. Earliest Civilizations of the Near East, Thames and Hudson, London 1978.
Mellaart, James, The Neolithic of the Near East, Thames and Hudson, London 1981.
Mellart James, Catal Huyuk, Thames and Hudson, London 1967.
Moor, Andrew, North syria in Neolithic, in: Prehistoire de Levant, CNRS, paris 1981.
Nagel, George. The Mysteries of Osiris, in: the Mystereies, edited by J. Campbell,
Neuman, Erich. The Great Mother,
Neuman, Erich, The Origins and History of Consciousness, Princeton.
Otto, Walter, The Meaning of Eleusinian Mysteries, in: The Mysteries, edited by J. Campbell,
Ovid. Metamorphosis, penguin Books, London 1982.
Oursel and Morin. Indian Mythology, in: Larousse Encyclopedia of Mythology, Hamlyn, London 1977.
East, Princeton 1975.
to the Acts of John, in: The Mysteries, edited by J. Campbell. Princeton New York 1978.
Edman, Charles. The Rise of Civilization.
Shapiro and Hendricks. A Dicthionary of Mythology, Granada, London 1981.
Schmitt, Paul The Ancient Mysteries and their Transformation, in: The Mysteries, edited by J. Campbell, Princeton, New York 1978.
Viaud, J,. Egyptian Mythology, in: Larousse Encyclopedia of Mythology, Hamlyn, London 1977.
Watts, Allan. Myth and Ritual in Christianity, Thames and Hudson, London 1954.
Watts, Allan. The Two Hands of God, Rider and Company, New York 1968.
Willi, Walter. The Orphinc Mysteries. In: The Mysterieas, edited by J. Campbell,
Zimmer, Heinrich. Myth and Symbols in Indian Art, Princeton, New York 1974.
Zimmer, Heinrich, The Indian World Mother, in: The Mystic Vision, Princeton, New York 1968.
إنجلز، أصل العائلة والدولة والملكية الخاصة، دار التقدم، موسكو.
ابن الكلبي، كتاب الأصنام، تحقيق: أحمد زكي، الدار القومية للطباعة، القاهرة 1965.
الطبري، تفسير الطبري، المطبعة الميمنية، القاهرة.
الشيخ عبد الكريم الجيلي، الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل.
فراس السواح، مغامرة العقل الأولى، دار الكلمة، بيروت 1981.
فراح السواح، ملحمة جلجامش، دار الكلمة، بيروت 1981.
محيي الدين ابن عربي، الفتوحات المكية.
الأب لويس شيخو اليسوعي، النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية.
محمود سليم الحوت، الميثولوجيا عند العرب، دار النهار، بيروت 1979.
الأب الدكتور متري هاجي أثناسيو، الموسوعة المريمية، دمشق 1982.
النووي، رياض الصالحين، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي، القاهرة.
أرسطو، في السياسة، ترجمة: أوغسطينس بربارة البولسي، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، بيروت 1980.
Unknown page