213

Lughz Cishtar

لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة

Genres

ويحي يا ولدي ... ويحي يا نور العالم ...

كيف تراك مقلتي معلقا على الصليب،

كل الأشياء تبكي معي ...

يا فتى يا حسين.

أخيرا، بقيت ذكرى أعياد الربيع الأدونيسية - التموزية - الأوزيرية، حية في أعياد ربيعية فولكلورية قائمة إلى يومنا هذا في الشرق الأدنى الحديث؛ وذلك كعيد النيروز، وعيد شم النسيم، وأعياد محلية صغيرة في سوريا، كيوم خميس المشايخ الذي بقي سكان المناطق الوسطى يحتفلون به إلى أوائل الستينات. ولا أزال أذكر شخصيا ركضنا الفرح ونحن أطفال وراء موكب المشايخ المهيب، الذي ينطلق في العشرين من نيسان من قرية «بابا عمرو» التي تبعد خمسة كيلومترات عن مدينة حمص غربا، ثم يخترق المدينة طائفا شوارعها الرئيسية. كان الموكب يتألف من رجال دين توارثوا مهمة إحياء العيد جيلا عن جيل. بعضهم يسير في الموكب فارسا وآخر راجلا، عليهم عمائم وعباءات لا تلبس إلا في تلك المناسبة، وبعضهم يضع على وجهه لثاما. يتقدم كل فارس (سنجق) خاص تتوارثه العائلة ويخرج به الابن في الموكب بعد وفاة أبيه، فوق رءوسهم رايات كبيرة ملونة كتبت عليها آيات قرآنية، وخيولهم مجللة بالأقمشة ومزينة غررها بالأرياش. وفي مقدمة الموكب يسير الموسيقيون الذين يضربون الطبول والصنوج في إيقاع جليل يسمع من مسافات بعيدة، ولا يمكن لمن سمعه قط أن ينساه ... حتى إذا وصلوا إلى نقطة معينة، ألقى الناس بأنفسهم تحت سنابك الخيل التي تدوسهم دون أن يمسهم أذى، وهذه من كرامات بعض المشايخ المباركين في ذلك اليوم، يضاف إليها كرامات أخرى يظهرها بعض المشايخ السيارة؛ إذ يطعنون أنفسهم بالشيش (سيف مسنون الرأس لا حد له) فيدخل البطن نافذا من الظهر دون أن يمسهم أذى.

وهكذا بقي موكب الربيع يسير متعرجا في سهول حمص منذ ألوف السنين، إلا أن تابوت الإله قد انزلق من أيدي المشيعين مع وصول الإسلام، وسقط في ثنايا التاريخ.

عناة وبعل

سادت عبادة الإله الابن في كنعان تحت اسم بعل خلال الألف الثاني قبل الميلاد، وتحت اسم حدد (أو هدد ) في آرام خلال الألف الأول قبل الميلاد. تحت هذين الاسمين يخطو الإله الابن خطا أبعد نحو الاستقلال عن الأم الكبرى، وبناء شخصيته الخاصة المستقلة ذات الطابع المسيطر القوي. هنا ترك الإله الابن شخصيته القديمة كروح للإنبات، وأسير لدورة القمح والزراعة، وارتفع فوق الظواهر الطبيعية مقلدا آلهة الثقافة الذكرية الصاعدة، دون أن يقطع تماما حبل السرة الذي يربطه بحركة الطبيعة ودورة الزراعة. إنه الآن سيد لعوامل الخصب الفاعلة. فهو راكب السحاب الذي يرسل الأمطار من أعالي السماء، وسيد البرق والصاعقة. صوته كالرعد المجلجل وسلاحه العاصفة والطوفان. يروض المياه البدئية الأولى كالإله مردوخ البابلي، ويقتل التنين ذا الرءوس السبعة ويصارع الوحوش الخرافية العجيبة. صورة سوف تبلغ شكلها الأكمل في شخصية زيوس كبير آلهة الأوليمب الذي قطع، فيما بعد، كل الجسور التي كانت تصله بأصوله القديمة في كريت كإله ابن قتيل. وفي علاقته بالأم الكبرى، يلعب بعل-حدد دور الشريك الند المكافئ، لا دور التابع الخاضع، وترجح في شخصيته خصائص الذكورة في مقابل خصائص الأنوثة التي ميزت أدونيس. إلا أن العنصر الأساسي في دراما الإله الميت يبقى هنا ثابتا، وهو استسلام الإله الابن للموت استسلاما إراديا، وقيام الأم الكبرى، من ثم بانتشاله من العالم الأسفل وإعادته للحياة.

إن مصدرنا الأساسي عن أساطير الإله بعل هو ألواح مدينة أوغاريت، التي يعود تاريخها إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، والتي تقدم لنا أكمل النصوص الأدبية الكنعانية؛ ففي الألواح التي اصطلح على تسميتها بألواح بعل وعناة، نجد الإله بعل وقد بدأ بتوطيد مملكته وبسط سلطانه، على طريقة الآلهة البطريركية التي تثبت جدارتها في مستهل حياتها بالتغلب على قوى إلهية كونية خارقة، تنتمي لعالم الديانات الأمومية الأسبق. فكانت أولى معارك بعل معركته ضد المياه الأولى ممثلة الإله «يم» أو «نهر» الذي صرعه بعل دون صعوبة. وبعده ينتصر على التنين «لوتان» ذي الرءوس السبعة. ثم يجنح إلى الراحة، فيبني بيتا له يستقر فيه إسوة ببقية آلهة البانثيون الكنعاني، تساعده في ذلك حبيبته الإلهة عناة، التي تستخدم دالتها على كبير الآلهة «إيل» ليسمح ببناء ذلك البيت. غير أن الوضع الجديد لبعل لا يدوم طويلا؛ لأن إله العالم الأسفل «موت» (بالكنعانية مت) ينبري له ويتقدم إلى مجمع الآلهة طالبا تسليمه بعل. وهنا لا يبدأ بعل استعداده لمعركة، كما فعل عندما تصدى له الإله يم، بل نراه ينزل من عليائه مختارا دونما عراك، ومعه غيومه وأمطاره، وعواصفه وبقية رموز سلطته، ويستسلم طائعا لإله الموت، الذي يفتح فمه الفاغر لابتلاعه، فشفته الواحدة في الأرض والأخرى تطال السماء ولسانه بين النجوم (على حد تعبير النص). وعندما يهبط بعل إلى جوفه، تجف لغيابه أشجار الزيتون ومنتجات الأرض وثمارها. أما عناة فتهيم على وجهها نادبة حبيبها الغائب في صرخات تردد صداها الجبال والوديان، حتى هدها التعب والإعياء، ثم تمضي إلى الإله موت طالبة منه إعادة بعل إليها، فيردها خائبة متفاخرا أمامها بما فعل. ولكن عناة لا تيئس وتعود إليه مرارا وتكرارا بنفس الطلب لتلقى منه نفس الموقف المتعنت. فتقرر مجابهته واسترداد بعل بالقوة، تدخل معه في معركة فاصلة تنتهي بانتصارها المؤزر؛ إذ تمسك بالإله موت فتقطعه بالسيف وتذريه بالمذراة، وتشويه بالنار وتطحنه بالطاحون وتدفنه في الحقل، ثم تسترد إليها بعل، الذي تعود معه الحياة إلى شتى مظاهر الطبيعة، فيورق الشجر وينضج الثمر وتنتعش سويقات القمح. غير أن الإله موت يسترد قوته بعد سبع سنين فينبري مجددا للإله بعل:

وهكذا من أيام إلى شهور،

Unknown page