ويكفينا في هذا المقام البحث في لغة الحجاز وحدها، وهي اللغة العربية التي وصلت إلينا. لقد كانت قبل تدوينها - أي قبل الإسلام - لغات عديدة تعرف بلغات القبائل، وبينها اختلاف في اللفظ والتركيب، كلغات تميم وربيعة ومضر وقيس وهذيل وقضاعة وغيرها كما هو مشهور. وأقرب هذه اللغات شبها باللغة السامية الأصلية أبعدها عن الاختلاط، وبعكس ذلك القبائل التي كانت تختلط بالأمم الأخرى كأهل الحجاز مما يلي الشام وخاصة أهل مكة، وبالأخص قريش فقد كانوا أهل تجارة وسفر شمالا إلى الشام والعراق ومصر، وجنوبا إلى بلاد اليمن، وشرقا إلى خليج فارس وما وراءه، وغربا إلى بلاد الحبشة.
فضلا عما كان يجتمع حول الكعبة من الأمم المختلفة، وفيهم الهنود والفرس والأنباط واليمنية والأحباش والمصريون، عدا الذين كانوا ينزحون إليها من جالية اليهود والنصارى. فدعا ذلك كله إلى ارتقاء اللغة بما تولد فيها أو دخلها من الاشتقاقات والتراكيب مما لا مثيل له في اللغات الأخرى.
وزاد ذلك الاقتباس خاصة على أثر النهضة التي حدثت في القرنين الأول والثاني قبل الإسلام بنزول الحبشة والفرس في اليمن والحجاز، على أثر استبداد ذي نواس ملك اليمن وكان يهوديا فاضطهد نصارى اليمن في القرن الخامس للميلاد وخاصة أهل نجران، فطلب إليهم اعتناق اليهودية فلما أبوا قتلهم حرقا وذبحا، فاستنجد بعضهم بالحبشة فحمل الأحباش على اليمن وفتحوها واستعمروها حينا وأذلوا ملوكها أعواما، ثم أنف أحد ملوكها ذو يزن فاستنجد بالفرس على عهد كسرى أنوشروان فأنجده طمعا في الفتح، فأخرج الأحباش من اليمن بعد أن ملكوها 72 عاما. وكانوا في أثناء ذلك يترددون إلى الحجاز وحاولوا فتحه في أواسط القرن السادس، فجاءوا مكة بأفيالهم ورجالهم ولم يفلحوا، واهتم أهل الحجاز بقدوم الحبشة إلى مكة حتى أرخوا منه وهو عام الفيل. ولما فتح الفرس اليمن أقاموا فيها واختلطوا بأهلها بالمبايعة والمزاوجة وتوطنوا، وكانوا يقدمون إلى الحجاز وأهل الحجاز يترددون إليهم.
الألفاظ الأعجمية
فكان لهذه النهضة تأثير كبير في اللغة العربية فتكاثرت ألفاظها ومشتقاتها، فلما جمعوا اللغة بلغت صيغ أبنية الأسماء فقط بضع مئات، ثم صارت بعد ذلك ببضعة قرون ألفا ومائتين وعشرة أمثلة، ناهيك بما دخلها من الألفاظ الغريبة وما اقتبسه من التراكيب الأجنبية، ولكن أكثره ضاع فيها وتنوع شكله ولم يعد يتميز أصله. على أننا نستدل على تكاثر الألفاظ الدخيلة في اللغة العربية بخلو أخواتها من أمثال تلك الألفاظ، فإذا رأينا لفظا في العربية لم نر له شبيها في العبرانية أو الكلدانية أو الحبشية ترجح عندنا أنه دخيل فيها. وأكثر ما يكون ذلك في أسماء العقاقير أو الأدوات أو المصنوعات أو المعادن أو نحوها، مما يحمل إلى بلاد العرب من بلاد الفرس أو الروم أو الهند أو غيرها ولم يكن للعرب معرفة به من قبل، أو في أسماء بعض المصطلحات الدينية أو الأدبية، وأكثر ذلك منقول عن العبرانية أو الحبشية لأن اليهود والأحباش من أهل الكتاب.
ويقال بالإجمال إن العرب اقتبسوا من لغة الفرس أكثر مما اقتبسوا من سواها، ولذلك رأينا أئمة اللغة إذا أشكل عليهم أصل بعض الألفاظ الأعجمية عدوها فارسية. ومن أمثلة ما ذكره صاحب «المزهر» من الألفاظ الفارسية: «الكوز، الجرة، الإبريق، الطشت، الخوان، الطبق، القصعة، السكرجة، السمور، السنجاب، القاقم، الفنك، الدلق، الخز، الديباج، التاختج، السندس، الياقوت، الفيروزج، البلور، الكعك، الدرمك، الجردق، السميذ، السكباج، الزيرباج، الإسفيذاج، الطباهج، الفالوذج، اللوزينج، الجوزينج، النفرينج، الجلاب، السكنجبين، الجلنجبين، الدارصيني، الفلفل، الكراويا، الزنجبيل، الخولنجان، القرفة، النرجس، البنفسج، النسرين، الخيري، السوسن، المرزنجوش، الياسمين، الجلنار، المسك، العنبر، الكافور، الصندل، القرنفل.» ا.ه. وعندنا أن بعض هذه الألفاظ غير فارسي كما سترى.
ومما اقتبسوه من اليونانية واللاتينية: الفردوس، والقسطاس، والبطاقة، والقرسطون، والقبان، والأصطرلاب، والقسطل، والقنطار، والبطريق، والترياق، والقنطرة، وغيرها كثير.
وأما ما نقلوه عن الحبشية فأكثره لا يدل على أصله لتغير شكله ولأن الحبشية والعربية أختان تتشابه الألفاظ فيهما، والمشهور عند علماء العربية من الألفاظ المقتبسة من الحبشية ثلاثة: كفلين، والمشكاة، والهرج. لكننا لا نشك في أنهم اقتبسوا كثيرا غيرها وخاصة ما يتعلق منها بالاصطلاحات الدينية، من ذلك قولهم «المنبر» وهو عند العرب «مكان مرتفع في الجامع أو الكنيسة يقف فيه الخطيب أو الواعظ»، وقد شقه صاحب «القاموس» من «نبر» أي ارتفع وفي ذلك الاشتقاق تكلف، وعندنا أنه معرب «ومبر» في الحبشية أي كرسي أو مجلس أو عرش.
ومن هذا القبيل لفظ «النفاق» وهو عند العرب «ستر الكفر في القلب وإظهار الإيمان»، وقد شقوه من «نفق» راج أو رغب فيه، وليس بين المعنيين تناسب ، واضطروا لتعليله إلى استعارة خروج اليربوع من نافقائه فقالوا: «ومنه اشتقاق المنافق في الدين.» وهو تكلف نحن في غنى عنه إذا عرفنا أن «نفاق» في الحبشية معناها الهرطقة أو البدعة أو الضلال في الدين، وهي من التعبيرات النصرانية التي شاعت في الحبشية بدخول النصرانية فيها.
وكذلك لفظ «الحواري»، شقه صاحب «القاموس» من «حار» بمعنى البياض، وقال في معنى الحواري إنه سمي بذلك لخلوص نية الحواريين ونقاء سريرتهم، أو لأنهم كانوا يلبسون الثياب البيض. والأظهر أن هذه اللفظة معرب «حواري» في الحبشية ومعناها فيها «الرسول»، وهو المعنى المراد بها في العربية تماما.
Unknown page