الفصل الرابع عشر
رجع إلى البيت ثم غادره ضابطا برتبة صاغ والساعة تدور في الواحدة، اتجه إلى شارع العباسية متجنبا أضواء المصابيح، متخذا مشية طبيعية جدا بفضل قوة أعصابه. واستقل تاكسيا إلى جسر الجلاء، ومر في طريقه بأفراد من الشرطة، فلم يرتح لمنظرهم بطبيعة الحال، وذهب إلى مرسى القوارب القريب من الجسر، فاكترى قاربا صغيرا لمدة ساعتين، ومضى يجدف جنوبا صوب قصر رءوف علوان في هواء رطيب، وتحت سماء صافية مرصعة بالنجوم وتربيع القمر معلق فوق أشجار الشاطئ، وكان يشعر بفورة نشاط عجيب وبأن حدثا متفجرا سينطلق عما قريب من صدره، أقنع نفسه بأن نجاة عليش سدرة ليست هزيمة له ما دام سينزل عقابه برءوف علوان، إذ إن رءوف هو رمز الخيانة التي ينضوي تحتها عليش ونبوية وجميع الخونة في الأرض، وقال لرءوف علوان وهو يجدف بقوة: جاء وقت الحساب، ولو كان الحكم بيننا غير الشرطة لضمنت تأديبك أمام الناس جميعا، الناس معي عدا اللصوص الحقيقيين، وذلك ما يعزيني عن الضياع الأبدي، أنا روحك التي ضحيت بها، ولكن ينقصني التنظيم على حد تعبيرك، وأنا أفهم اليوم كثيرا مما أغلق علي فهمه من كلماتك القديمة، ومأساتي الحقيقية أنني رغم تأييد الملايين أجدني ملقى في وحدة مظلمة بلا نصير، ضياع غير معقول ولن تزيل رصاصة عنه عدم معقوليته، ولكنها ستكون احتجاجا داميا مناسبا على أي حال، كي يطمئن الأحياء والأموات ولا يفقدون آخر أمل، ومال بالقارب نحو الشاطئ في نقطة تواجه القصر على وجه التقريب، وهبط منه إلى الأرض، ثم جذبه بقوة حتى صار مقدمه فوق السفح، ثم ارتقى المنحدر إلى الكورنيش مكتسبا من بدلته الرسمية ثقة وطمأنينة، لاح الطريق خاليا ولا أثر لمخبر حول القصر، فانبعث الارتياح في نفسه، ولم يخل في الوقت نفسه من حنق. واكتنف الظلام القصر عدا مصباح الباب، فتأكد لديه أن صاحب القصر لم يرجع بعد، وأن ذلك سيعفيه من اقتحام البيت، ويذلل له أكثر من عقبة، وفي مشية طبيعية مضى إلى الشارع إلى يسار القصر، قطعه حتى آخره، ثم مال مع شارع الجيزة نحو الشارع الآخر إلى يمين القصر عائدا منه إلى الكورنيش وهو يتفحص المكان كله ببصر من حديد، ومضى نحو شجرة فلبد فيما يليها من رقعة محجوبة عن مصباح الطريق وراح ينتظر، واستقرت عيناه على القصر طيلة الوقت عدا لحظات كان يريحهما بالنظر إلى سطح الماء المعتم، ودارت أفكاره أثناء ذلك حول خيانة رءوف، والخدعة التي حطمت حياته، والضياع الذي يحدق به، والموت الذي يسد طريقه، وكيف أن كل أولئك جعل من موت رءوف أمرا لا بد منه، وكان يتابع كل سيارة قادمة وهو يتوثب، وأخيرا توقفت سيارة أمام باب القصر وراح البواب يفتح الباب على مصراعيه، وأسرع سعيد نحو الشارع إلى يسار القصر، سار ملاصقا للسور، ثم توقف عند نقطة محاذية للسلاملك، حيث سيغادر الرجل سيارته، وتهادت السيارة في ممشى الحديقة حتى وقفت أمام السلاملك، وأضيء المصباح فغمر النور المدخل كله، أخرج سعيد مسدسه وصوبه نحو الهدف، وفتح باب السيارة، نزل رءوف علوان، وصاح سعيد: رءوف!
انتبه الرجل إلى مصدر الصوت في دهشة فصاح سعيد: أنا سعيد مهران ... خذ ...
غير أنه في نفس الوقت انطلقت نحوه من الحديقة رصاصة أصاب أزيزها صميم أذنه، حدث ذلك قبيل أن يطلق مسدسه فاضطرب اضطرابا مفاجئا وهو يطلق النار، وانحنى بسرعة ليتفادى من الرصاص المتتابع، ولكنه رفع رأسه في تصميم يائس وحذر، وسدد مسدسه مرة أخرى وأطلق رصاصة وأخرى في عجلة ولهوجة، وقع ذلك كله في ثوان، ثم انطلق يعدو بأقصى سرعة نحو شاطئ النيل، فوثب نحو القارب، ودفعه إلى الماء وفي الثانية التالية كان يجدف بكل قوته نحو الشاطئ الآخر، دار شعوره حول نفسه كالدوامة، وانطلقت قواه من أعمق مكامنها مباشرة وبلا أدنى وعي، وخيل إليه أن رصاصا ينطلق، وأصواتا تتجمع، وأن بعض جسمه يذوب، وكانت المسافة بين الشاطئين في منطقة عبوره ضيقة، فسرعان ما بلغ الشاطئ، ووثب إليه تاركا القارب للموج يفعل به ما يشاء، وصعد إلى أرض الشارع بيد قابضة على المسدس في جيبه، ورغم ما شعر به من تشتت فقد سار على مهل، وفي هدوء، لا يلتفت يمنة أو يسرة، وتأكد لديه أن أقداما تتدافع نحو الشاطئ، وأن أصواتا تحتدم وتعلو فوق الجسر، واخترقت الجو الخامل صفارة مجنونة، وتوقع في كل لحظة أن يلحق به مطارد، وتأهب للتمثيل بكافة احتمالاته أو لدخول المعركة الأخيرة، ومر به تاكسي قبل أن يقع حادث فناداه، واستقله، وما كاد يتخذ مجلسه حتى شعر بألم حاد ولكنه رغم ذلك شعر بنعمة النجاة، وتسلل إلى المسكن في ظلام حالك، واستلقى على الكنبة ببدلته الرسمية، وعاوده الألم كاشفا هذه المرة عن مكانه فوق الركبة، فامتدت يده إليه فاستشعر سائلا لزجا، أووه .. هل ارتطم بشيء؟ رصاصة؟ وراء السور أم وهو يجري؟ وتحسس موضعه فرجح لديه أنه مجرد جرح سطحي، ولو كانت رصاصة فقد احتكت به ولم تنفذ فيه، وقام فخلع البدلة في الظلام، وفتش عن جلبابه فوق الكنبة فارتداه، وذرع الحجرة ليطمئن على رجله، قديما أنت قطعت شارع محمد علي جريا برصاصة مستقرة لساعتها في ساقك، أنت قادر على فعل العجائب، وقد تفوز بالهرب أيضا، أما الجرح فقليل من البن يضمده، ولكن هل قتل رءوف علوان؟ ومن الذي أطلق النار من الحديقة؟ حذار أن تكون أصبت ضعيفا بريئا آخر، ولكن لا بد أن رءوف علوان قد قتل، فيدك لا تخطئ، كما شهدت بذلك الصحراء وراء الهضبة، وسوف ترسل خطابا إلى الصحف بعنوان: «لماذا قتلت رءوف علوان؟» عند ذاك تسترد الحياة معناها المفقود، فالرصاصة التي تقتل رءوف علوان تقتل في الوقت نفسه العبث، والدنيا بلا أخلاق ككون بلا جاذبية، ولست أطمع في أكثر من أن أموت موتا له معنى.
وأقبلت نور في غاية من الإعياء محملة بالطيبات، وقبلته كعادتها، وانبسطت أساريرها لتلقي بتحية لقاء، ولكن بصرها جمد فجأة على البنطلون، فنحت اللفة على الكنبة وتناولته هاتفة: دم!
ولحظ ذلك لأول مرة، فكشف عن رجله قائلا: جرح بسيط نتيجة ارتطام بباب التاكسي.
فصاحت: أنت خرجت مرتديا البدلة لسبب، أنت لن تقف عند حد، وسوف أموت كمدا! - قليل من البن يشفي هذا الجرح قبل طلوع الصبح! - طلوع الروح! أنت تقتلني قتلا، آه .. متى يزول الكابوس؟!
ونشطت في نرفزة، فكبست الجرح بالبن، وعصبته بقصاصة من بقايا الفستان الذي كانت تخيطه، وظلت طيلة الوقت تندب حظها، وقال لها: خذي دشا فهذا أنفع لك.
فذهبت وهي تقول: أنت لا تدري النافع من الضار !
ولما رجعت إلى مجلس حجرة النوم كان قد شرب ثلث الزجاجة فعاوده شيء من الاستقرار المريح، واستقبلها قائلا: اشربي، أنا هنا في مكان آمن مطمئن، لن تمتد إليه عين البوليس.
Unknown page