فقالت بامتعاض: أنت لم تقابلني إلا صدفة، ولعلك كنت نسيتني تماما!
فقطب عمدا وهو يتساءل: أتظنين أني لا أستطيع أن أجد مكانا آخر؟
فأشفقت من غضبه، وأقبلت عليه، فأحاطت خديه براحتيها وهي تقول معتذرة: نسيت أن العسكري يمنع زوار الحديقة من معاكسة الأسد، آسفة، ولكن ما أسخن وجهك! وذقنك خشنة جدا، ما رأيك في دش بارد؟
فأعرب عن ترحيبه بابتسامة. - إلى الحمام، وعندما تخرج ستجد المائدة معدة، سنأكل في حجرة النوم؛ فهي أجمل من هذه الحجرة، وتطل مثلها على القرافة ...
الفصل العاشر
يا للعدد العديد من المقابر، الأرض تمتد بها حتى الأفق، رافعة أيديها في تسليم، وإن يكن شيء لا يمكن أن يهددها. مدينة الصمت والحقيقة، ملتقى النجاح والفشل، والقاتل والقتيل، مجمع اللصوص والشرطة، حيث يرقدون جنبا إلى جنب في سلام لأول ولآخر مرة، وشخير نور يبدو أنه لن ينقطع إلا حين تستيقظ عند الأصيل، وستبقى أنت في هذا السجن حتى ينساك البوليس، ولكن هل ينساك البوليس حقا؟ وبقدر ما يخون الموت الأحياء فستذكر بالقبور الخيانة، ثم تذكر بالخيانة نبوية وعليش ورءوف، وأنت نفسك ميت منذ انطلقت الرصاصة العمياء، ولكن عليك أن تطلق مزيدا من الرصاص.
وسمع تثاؤبا كالتأوه، فتراجع عن شيش النافذة ملتفتا نحو الفراش، فرأى نور جالسة، شبه عارية، منكوشة الشعر تعيسة القسمات، نظرت إليه بارتياح وهي تقول: حلمت أنك بعيد، وأنني أنتظرك كالمجنونة!
فقال في كآبة: هذا في الحلم، أما في الحقيقة فأنت التي ستذهبين بعيدا، وأنا الذي سأنتظر!
وذهبت إلى الحمام، ثم عادت وهي تجفف رأسها ووجهها، وتابع يديها وهما تصوران وجهها في صورة جديدة، بهيجة شابة، هي - مثله - في الثلاثين، ولكنها تكذب علنا لتبدو أصغر، وسخافات ورذائل لا حصر لها تمارس علنا، وليست السرقة كذلك ويا للأسف، وأوصلها حتى الباب وهو يقول: لا تنسي الجرائد!
ومضى إلى حجرة الجلوس، فاستلقى على كنبة، وحيد بكل معنى الكلمة، حتى كتبه منسية عند الشيخ علي الجنيدي، وتسلى بالنظر إلى السقف الأبيض الباهت المعروق، وكأنه مرآة تعكس بساط الحجرة المنجرد، ومن خلال النافذة بدت سماء المغيب كدرة يدور بها سرب من الحمام من آن لآن، وجفولك يا سناء مؤلم حقا، كمنظر القبر، ولا أدري إن كنا سنلتقي مرة أخرى، أين ومتى؟ ولن يخفق قلبك بحبي في هذه الحياة المليئة بالرصاصات الطائشة، وكالرصاص تطيش رغائب كثيرة في الدنيا، مخلفة وراءها سلسلة من الحلقات المحزنة، ابتداء من الحلقة الأولى عند بيت الطلبة في طريق مديرية الجيزة، لم يكن عليش سدرة إلا شخصا عابرا لا قيمة له، أما نبوية فقد هزت القلب حتى اقتلعته من جذوره، ولو أن الخيانة الكامنة ظهرت في صفحة الوجه كما تظهر آثار الحميات الخبيثة لما تجلى جمال في غير موضعه، ولأعفيت قلوب كثيرة من عبث المكائد، والبقال يقع دكانه أمام بيت الطلبة، وتجيء نبوية حاملة السلطانية لتشتري ما تشاء في ثياب مهندمة، بل تعد زينة وسط أمثالها من الخادمات، لذلك عرفت بخادمة الست التركية، نسبة إلى تركية عجوز، كانت تقيم بمفردها في بيت محاط بحديقة كبيرة في آخر الطريق، وكانت غنية ومتكبرة، وتفرض على كل من يمت إليها بسبب أن يكون جميلا وأنيقا ونظيفا، فتبدت نبوية دائما ممشطة الشعر، منسابة الضفيرة حتى العجز، منتعلة شبشبا، يطوق جلبابها حيوية جسد ثائر، وحتى الأعين غير المسحورة، أي أعين الآخرين وصفت جمالها بأنه جمال فلاحي لذيذ الطعم؛ باستدارة الوجه الخمري، والعينين العسليتين والأنف القصير الممتلئ، والفم المتشرب بماء الحياة، والدقة الخضراء في الذقن كالخال، وكان يقف عند باب بيت الطلبة عند الانتهاء من الخدمة، ينظر نحو آخر الطريق الذي تجيء منه، حتى تلوح لعينيه القامة البديعة، والمشية الحبيبة، وتقترب وتقترب، باعثة باقترابها أجمل مشاعر الحياة، كأنها موسيقى عذبة، تستقبل بها حيث حلت، وتتبعها عيناك في نشوة الخمر، وتندس معها بين عشرات الواقفات أمام البقال، وتغيب حينا وتظهر حينا، وأنت تزداد غراما وسؤالا ورغبة في عمل شيء، أي شيء، ولو كلمة، أو إشارة، أو تعويذة، وتمضي هي أخيرا في طريق العودة، منذرة بالاختفاء بقية نهار وليلة كاملة، فتصعد منك تنهيدة مريرة، وتبوخ النشوة رويدا، وتخرس العصافير فوق أشجار الطريق، وينتشر جو الخريف فجأة، ثم مرة تلحظ أن عودها يميس تحت نظراتك، وأنها تتيه دلالا فلا تقف أنت عند حد، وباندفاعك الطبيعي تسبقها في الطريق، ثم تعترض سبيلها عند النخلة الوحيدة القائمة في نهاية الحقول، بجرأة غريبة تعترض سبيلها، حتى ذهلت، أو تظاهرت بالذهول، وسألتك محتجة: من أنت؟ فأجبت بدهشة: من أنا؟ أنت تسألين من أنا؟ ألا تعرفين من أنا؟ أنا صاحب العين التي يعرفها كل شبر في كائنك، فقالت بحدة: أنا لا أحب قلة الأدب، فقلت: ولا أنا، أنا مثلك لا أحب قلة الأدب، وعلى العكس أحب الأدب والجمال والرقة، وكل أولئك هو أنت أنت ألا تعرفين الآن من أنا؟ ولا بد أن أحمل عنك هذه السلة وأوصلك حتى باب البيت، فقالت: لست في حاجة إلى مساعدتك، ولا تقف في طريقي مرة أخرى، وسارت، فسرت إلى جانبها متشجعا بابتسامة خفية ضاعت في الاكفهرار المصطنع، أحسست بها كما تحس بأول نسمة رقيقة متسللة في ليلة زامتة، فقالت: ارجع، يجب أن ترجع، ستي تجلس في النافذة، وستراك إذا تقدمت أكثر من هذا خطوة واحدة، قلت: أنا عنيد وإذا أردت أن أرجع فلنرجع معا بضع خطوات ليس إلا، عند نخلتنا الوحيدة، إذ لا بد أن أتكلم، ولماذا لا أتكلم؟ هل أنا لا أملأ العين؟ وهزت رأسها في عنف، ولكنها أبطأت في السير، وغمغمت في احتجاج وغضب، ولكنها أبطأت في السير، وتقوس عنقها كالقطة المتنمرة، ولكنها أبطأت في السير، فلم أعد أشك في أني وصلت، وأن نبوية لا تخلو من بعض مشاعري، وأنها مطلعة تماما على تاريخ وقفاتي التنهدية عند بيت الطلبة، وأن نظرات الطريق ستتحول إلى أمور لها خطرها في حياتي وحياتها، وحياة الدنيا جميعا التي ستزداد بها عدا، فقلت: إلى غد، وتوقفت خشية عليها من لذع لسان تركي عجوز يقيم في شارع مديريتنا كاللغز، ثم تراجعت إلى النخلة، ومن فرحتي تسلقتها بسرعة قرد، وقفزت من علو ثلاثة أمتار إلى أرض مزروعة جرجيرا، ثم رجعت إلى بيت الطلبة، وأنا أغني بصوتي الغليظ، كأني ثور هزه الطرب، وعندما دفعتك ظروف قهرية إلى العمل في سيرك الزيات، مضت بك الحياة من حي إلى حي، ومن بلدة إلى بلدة، وخفت أن يصدق عليك المثل القائل: إن البعيد عن العين بعيد عن القلب، فقلت لها: لنتزوج على سنة الله ورسوله، وأنتما تقفان عند مشارف الجامعة التي لم تدخلها ظلما، ودخلها كثير من الأغنياء، ولم يكن في الطريق ضوء ولا في السماء إلا هلال غليظ استقر فوق الأفق، وابتهجت ونظرت إلى الأرض حتى لمع جبينها الضيق تحت شعاع الهلال، فقلت إن عملي مربح ومستقبلي هائل، ومسكني في الدراسة دور أرضي نظيف بطريق الجبل على مقربة من مسكن الشيخ علي الجنيدي، وستعرفين الشيخ المبارك عندما نتزوج، ويجب أن نتزوج في أقرب وقت إكراما لحبنا طويل العمر، وآن لك أن تتركي ستك العجوز، فقالت: أنا يتيمة ليس لي إلا عمة بسيدي الأربعين، فقلت: على بركة الله، وقبلتها أمام الهلال، والفرح من جماله عاش أحدوثة على كل لسان، والزيات نقطني بعشرة جنيهات، وعليش سدرة من سروره بدا كأنه صاحب الفرح، ولعب دور الصديق الأمين، ولكن لم يكن صديقا على الإطلاق، وأعجب شيء أني خدعت به، وأنا الذكي الذي يخافه الجن الأحمر، كنت البطل، وكان عابد البطل يحبني ويتملقني ويتجنب غضبي، ويلتقط فتات العيش من كدي وشطارتي، وآمنت بأنني لو أرسلته مع نبوية إلى الصحراء التي تاه فيها سيدنا موسى لظل يراني قائما بينه وبين نبوية، فلا يحيد عن الأدب، وهي كيف تميل إلى الكلب وتعرض عن الأسد؟ ولكن القذارة مركبة في طبعها؛ قذارة تستحق القتل في الدنيا وفي الآخرة، وعلى شرط ألا يطيش الرصاص الأعمى فيصيب الأبرياء، ويعمى عن الأوغاد والسفلة، ويترك قلوبا يمزقها الألم ويحرقها الغضب، ويعبث بها الجنون، فتنسى كل شيء طيب في الحياة، حتى ليلة الدخلة، ولعب الصبيان في الحارة، والحب قبل الفساد، ومولد سناء، ورؤية وجه سناء لأول مرة، وسماع بكائها لأول مرة، وحملها على الساعدين لأول مرة، وابتساماتها التي لم أحصها، وليتني أحصيتها أو صورتها، وليتني أنسى فيما نسيت جفولها وصراخها الذي رددته أركان الأرض، وجفت بسببه الينابيع والنسائم وكافة المشاعر الطيبة في الوجود، وانتشر الظلام، نعم انتشر الظلام في الحجرة وخارج النافذة، وزاد صمت القبور صمتا، ولا يمكن أن تضيء المصباح كي تبقى الشقة كما تبقى عادة في أثناء غياب نور، وستألف عيناك الظلام كما ألفت السجن، وكما ألفت الوجوه الكريهة، ولن تجد فرصة للسكر، خشية أن تحدث حركة عنيفة، أو ترفع صوتا منكرا، إذ يجب أن تبقى الشقة صامتة كالقبر، وحتى الأموات أنفسهم لن يفطنوا لوجودك هنا، والله وحده يعلم كيف تصبر على هذا السجن، وإلى متى؟ كما كان يعلم وحده أنك ستقتل شعبان حسين، لا عليش سدرة، ولا بد أن تخرج عاجلا أو آجلا للتجول في الليل ولو في الأماكن الآمنة، ولكن فلنؤجل ذلك إلى حين حتى يقتل البوليس تعبا في البحث عن لا شيء، ولنسأل الله ألا يدفن شعبان حسين في قبر من هذه القبور، فإن هذه المنطقة القديمة لا تتحمل ثقل المفارقات القاسية واصبر، اصبر حتى تعود نور، ولا تسأل متى تعود نور؟ وعليك أن تكابد الظلمة والصمت والوحدة ما دامت الدنيا لا تريد أن تغير من عاداتها السيئة، ونور المسكينة كذلك، فحبها القديم لك ما هو إلا عادة سيئة وهو يرتطم بقلب قتله الألم والغضب، وينفر من إقبالها كما ينفر من ذبولها، ولا يدري حقا ماذا هو فاعل بها؟ إلا أن يشاربها نخب الضياع والأسى، ويرثى لمحاولاتها الطيبة اليائسة ولن ينسى في النهاية أنها امرأة، كما أن نبوية امرأة؛ الخائنة الجبانة، سيقتلها الخوف على حياتها حتى يلتف الحبل حول عنقك، أو تستقر في قلبك رصاصة مجرمة، ويشوه البوليس سيرتك، فينقطع ما بينك وبين سناء إلى الأبد، حتى حبك لن تدري عن صدقه شيئا، كأنه رصاصة طائشة، وكذلك ...
Unknown page