فقال وشبه ابتسامة تلوح في عينيه: إذا صح الافتقار إلى الله صح الغنى بالله! - إذا!
ثم بلهجة ساخرة: مولاي، ماذا كنت تفعل لو ابتليت بمثل زوجتي؟ ولو أنكرتك كما أنكرتني ابنتي؟
فلاحت في العينين الصافيتين نظرة رثاء، وقال: العبد لله لا يملكه مع الله سبب ...
اقطع لسانك قبل أن يخونك ويعترف، أنت تود أن تعترف له بكل شيء، ولعله ليس في حاجة إلى ذلك، لعله رآك وأنت تطلق النار، لعله يرى أكثر من ذلك، وارتفع صوت تحت الكوة ينادي بجريدة أبو الهول، فقام بسرعة إلى الكوة فناداه، ثم مد يده بالقرش، وعاد بالجريدة إلى مجلسه، وقد نسي الشيخ تماما، التصقت عيناه بعنوان ضخم أسود «جريمة شنيعة بالقلعة!» وجرت عيناه على الأسطر بسرعة جنونية، ولم يفهم شيئا، أهي جريمة أخرى ؟ لكن ها هي صورته، ها هي صورة نبوية، ها هي صورة عليش سدرة، فمن المضرج في دمه؟ قصته بارزة أمام عينيه، فضيحة مذاعة كالغبار الخماسيني، الرجل الذي خرج من السجن ليجد امرأته زوجة لأحد أتباعه، ولكن من المضرج في دمه؟! إنه لا يفهم شيئا، وينبغي أن يقرأ من جديد، ينبغي أن يعرف من المضرج في دمه، وكيف استقرت رصاصته في صدره، القتيل رجل آخر يرى صورته لأول مرة في حياته، اقرأ من جديد، لقد ترك عليش سدرة ونبوية بيتهما في نفس اليوم الذي زارهما فيه بحضور المخبر والأعوان، وحلت مكانهما في الشقة أسرة جديدة، ولعلها دفعت خلو رجل، الصوت الذي سمعه لم يكن صوت عليش سدرة، الصوات الذي سمعه لم يكن صوات نبوية، الجسم الذي سقط كان جسم شعبان حسين، العامل بمحل الخردوات بشارع محمد علي، سعيد مهران جاء ليقتل زوجته وصاحبه القديم، فقتل الساكن الجديد شعبان حسين. وشهد أحد جيران عليش بأنه رأى سعيد مهران وهو يغادر البيت عقب ارتكاب الجريمة، وأنه نادى الشرطي، ولكن صوته ضاع في الضجة التي شملت الطريق كله، أي هزيمة جنونية؟! أي جريمة بلا جدوى؟! وسيطارده حبل المشنقة وعليش آمن، هذه هي الحقيقة كأنها جوف قبر انكشف، وانتزع عينيه من الجريدة فرأى الشيخ على الجنيدي ينظر إلى السماء من خلال الكوة ويبتسم، ولسبب ما أخافته ابتسامته، ورغب في أن يقف أمام الكوة ليمد بصره في خط نظر الشيخ، لعله يرى في السماء ما جعله يبتسم، لكنه لم ينفذ رغبته، ليبتسم، وليطلع على مكنونه إذا شاء، ولكن سيجيء المريدون عما قريب، وربما تعرف عليه بعضهم ممن رأوا صورته في الجريدة، آلاف وآلاف يتأملون صورته الآن بغرابة وخوف ولذة بهيمية خفية، قضي عليه بلا جدوى، مطارد وسيظل مطاردا إلى آخر لحظة من حياته، وحيد عليه أن يحذر حتى صورته في المرآة، حي بلا حياة كجثة محنطة، سيجري من جحر إلى جحر كفأر يتهدده السم والقطط وهراوات المشمئزين، كل هذا وأعداؤه يمرحون، والتفت الشيخ نحوه وقال برقة : أنت متعب، قم فاغسل وجهك!
فقال بضيق وهو يطوي الجريدة: سأذهب وأريحك من منظري!
فقال في مزيد من الرقة: هذا مأواك. - نعم، ولكن لم لا يكون لي مأوى آخر؟
فقال وهو يطرق: لو كان لك آخر ما جئتني!
اذهب إلى الجبل حتى يهبط الظلام، لا تغادره حتى يهبط الظلام، تحاش الضوء، ولذ بالظلام. تعب بلا فائدة، ذلك أنك قتلت شعبان حسين، من أنت يا شعبان؟ أنا لا أعرفك وأنت لا تعرفني، هل لك أطفال؟ هل تصورت يوما أن يقتلك إنسان لا تعرفه ولا يعرفك؟ هل تصورت أن تقتل بلا سبب؟ أن تقتل لأن نبوية سليمان تزوجت من عليش سدرة؟ وأن تقتل خطأ ولا يقتل عليش أو نبوية أو رءوف صوابا؟ وأنا القاتل لا أفهم شيئا، ولا الشيخ على الجنيدي نفسه يستطيع أن يفهم، أردت أن أحل جانبا من اللغز، فكشفت عن لغز أغمض. وتنهد بصوت مسموع، وعاد الشيخ يقول: يا لك من متعب! - ودنياك هي المتعبة.
فقال الشيخ في رضى: نتغنى بهذا أحيانا.
ونهض، ثم قال وهو يهم بالذهاب: وداعا يا مولاي!
Unknown page