Linguistic Benefits - Part of 'Athar al-Mu'allimi'
الفوائد اللغوية - ضمن «آثار المعلمي»
Investigator
علي بن محمد العمران - نبيل بن نصار السندي
Publisher
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
Edition Number
الأولى
Publication Year
١٤٣٤ هـ
Genres
الفوائد اللغوية
24 / 319
الحمد لله.
أصلُ اللُّغةِ الإشارةُ
اختلف الباحثون في أصل اللغة، وظهر لي في ذلك شيء هو في نظري أصحُّ ما يُقال في هذا الباب، ولعلّي أكون أوَّلَ مَنْ تنبَّه له. المعذرةُ أيها القارئ! فلعلّي أكون مخطئًا في اعتقادي هذا. وقد كان يجب عليَّ أن أستوعب ما قيل في هذا الموضوع قبل أن أُبدي ما عندي، ولكن لم يتيسَّر لي ذلك في الحال، وعلمت أنَّ للمخلّفاتِ ــ كما قيل ــ آفاتٍ.
وقبل بيان ما ظهر لي، أذكرُ ما وقفتُ عليه من آراء الناس في هذا الباب.
الرأي الأول: أنَّ اللغة من وضع الخالق ﷿.
ثم اختلف أصحاب هذا الرأي. فقال بعضهم: علَّمها الله ﷿ آدمَ محتجِّين بقوله ﷿: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة: ٣١]، مع ما في الحديث الصحيح أنَّ الناس يوم القيامة يأتون يقولون لآدم: «وعلَّمك أسماء كلّ شيء» (^١)، ثمَّ علَّمها آدمُ بنيه فتوارثوها.
وقال آخرون: بل بالوحي إلى الأنبياء. وقال غيرهم: بل بالإلهام.
الرأي الثاني: أنَّ الواضع لها هم البشر، ثم اختلف هؤلاء.
فقال فريق منهم: إنَّ بين الألفاظ والمعاني مناسَباتٍ طَبْعيَّة تفطَّن لها الواضع. ومنهم مَنْ فسَّر هذا بأن المراد بالمناسبة أنَّ للحروف صفاتٍ
_________
(^١) البخاري (٤٤٧٦) من حديث أنس ﵁.
24 / 321
محسوسةً من الجهر والشدة وغيرهما، وكذا للفتح والكسر والضم والسكون، وللمسميات صفاتٌ مشابهة لذلك، فرُوعِيَتِ المناسبة بذلك، وقد ذكر ابن جني في «خصائصه» (^١) أمثلة لذلك.
وقال فريق آخر: بل بمجرَّد الاصطلاح بمعونة الإشارة، كأن يحضر الشيءُ أمام المُصطَلِحِين فيتَّفِقُون على لفظٍ يضعونه له.
وقال آخرون: بل الأصل في هذا حكاية أصوات الحيوانات وغيرها، وقد حكاه ابنُ جنِّي في «الخصائص» (^٢) وحسَّنه، ولفظُه: «وذهب بعضُهم إلى أنَّ أصل اللغات كلِّها إنما هو من الأصوات المسموعات كدوِيِّ الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيج الحمار، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الظبْي، ونحو ذلك، ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد. وهذا عندي وَجْهٌ صالح ومذهبٌ مُتَقَبَّلٌ». خصائص (ج ١ ص ٤٤).
الرأي الثالث: الوَقْف.
أمَّا أنا فإني أرى أنَّ أصل اللغة الإشارةُ على تصرُّفٍ في معنى الإشارة لما ستراه إن شاء الله تعالى. ثم أقول: إمّا أن يكون الخالق ﷿ وضعها موافقةً لذلك مراعاةً للحكمة وليَسهل تعلُّمُها على الناس، ويكون أظهر في الدلالة على المعاني، كما يدلك على ذلك كثرة استعمال العرب كلمة (البَوْس) بمعنى التقبيل، حتى لا تكاد العامة تعرف له لفظًا غير (البَوْس) مع
_________
(^١) وذلك في باب: «في إمساس الألفاظ أشباه المعاني»: (١/ ١٥٢ - ١٦٨) ت. محمد علي النجار.
(^٢) (١/ ٤٦ - ٤٧).
24 / 322
أنه من غير لغة العرب، إلَّا أنه ظاهر الموافقة للإشارة بخلاف (التقبيل) ونحوه، كما ستراه إن شاء الله تعالى.
وإمَّا أن يكون الخلق هم الذين ولَّدوها من الإشارة.
ولا أجزم بأحدهما، ولكنّي سأبني كلامي على الثاني.
الدليل الإجمالي
أصحُّ أساسٍ نبني عليه البحث في هذا الموضوع أن نعتبر حال الإنسان قبل اللغة بحال الأبكم، وكلّنا يعلم أنَّ الأبكم يعتمد في تفهيم ما يريده على أمورٍ منها: الإشارة ببعض أعضائه الظاهرة، ومنها أصوات طبعية تدل على أغراض معروفة، كالأنين على الألم. وهذا القسم يظهر أنه كان كثيرًا في الإنسان لأننا نرى العجماوات تستفيد من أصواتها الطبعية كثيرًا في تفهيمها، ولا شك أن الإنسان قبل اللغة كان أرقى منها.
ومنها حكاية أصوات الأشياء التي يريد [أن] يخبر عنها سواءً من أصوات الإنسان نفسه كالأنين والحنين والنخير والشخير أو أصوات الحيوانات أو غيرها. ومنها حكاية المعاني بأصوات تناسبها، وهذا هو الذي دندن عليه ابن جنّي.
أنا أرى أنَّ الأقسام الثلاثة يصحّ أن تكون كلها من باب الإشارة، فالأول إشارة مرئية، والآخران إشارة مسموعة، وإن كان معنى الإشارة في أصل اللغة لا يتحمَّل هذا فلنحمِّلْه إيَّاه على سبيل الاصطلاح. ويرجّح هذا أنَّ الإشارة بالأعضاء أوسع تصرُّفًا من الأصوات الطبعية والحكاية كما لا يخفى.
24 / 323
وقريب من الأبكم: الناطق الذي يحاول تفهيم مَنْ لا يعرف لسانه. بل إن الناطق الذي يريد تفهيم مَنْ يعرف لسانه كثيرًا ما يستغني بالإشارة والأصوات الطبعية والحكاية.
وإذن فقد كان الناس قبل الكلام يتفاهمون بذلك. والمنطق يدلّ أنّ أقرب ما يمكن أن تَولَّد منه أداة الشيء هو أداة أخرى لذلك الشيء كانت قبلها.
وإذن فاللغة مولَّدة من الإشارة والحكاية.
التحليل
الإشارة بالأعضاء هي عبارة عن تحريك بعض الأعضاء حركةً مخصوصةً، وقد يكون غير الأعضاء كعُودٍ باليد، ولكن مبنى الإشارة على الأعضاء كما لا يخفى.
من الأعضاء: أعضاء الفم من الشفتين واللسان وغيرها.
الإشارة بأعضاء الفم قد تكون بالتحريك الظاهر كإبراز اللسان، وقد تكون بتحريك لا يظهر للبصر، وإنّما يُستدلّ عليه بصوتٍ كدلالة «هع» على تحريك بعض أعضاء الحلق حركةً مخصوصةً للدلالة على القيء.
قد يقال: الأَولى أن يُجعل نفس الصوت ــ «هع» مثلًا ــ هو الدالّ على المعنى ــ وهو القيء هنا ــ مع قطع النظر عن تحريك أجزاء الحلق، فيكون هذا من الحكاية لا من الإشارة العضوية. وهذا ــ وإن صحّ في المثال ــ لا يصحّ في نحو (بَلَع) كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.
24 / 324
قدَّمنا الإشارة العضوية التي يمكن توليد الكلام منها هي ما كان بأعضاء الفم، والظاهر أن أول ما ولد من الكلام هو ما جرت العادة بأن يشار إليه بشيء من أعضاء الفم. ثم إن الواضعين ألحقوا بذلك ما جرت العادة أن يشار إليه بغير ذلك بأن كلّفوا أنفسهم أولًا الاقتصار في الإشارات على أعضاء الفم ثم فعلوا بها كما فعلوا بالأولى.
الكلمات المولدة من الإشارة العضوية والأصوات الطبعية والحكاية هي أصول المواد، وكذا أصول الصِيَغ فيما يظهر، ثم جُعِلت تلك الأصول أمهات، وولدت منها كلمات أخرى بمقتضى المناسبة، وقد تكون المناسبة إشارية وقد تكون غيرها، وقد تكون مركبة.
طريق البحث في هذا الموضوع أن ... (^١).
* من لطائف الإشارة كلمة: «حِرْح» فإنها إشارة إلى شيء فيه دفع وبلع. ثمَّ أسقطوا منه ما يدل على البلع على عادتهم في إضمار ذلك والتحاشي من التصريح به (^٢).
* * * *
_________
(^١) بياض في الأصل.
(^٢) مجموع [٤٧١٦].
24 / 325
اشتقاق الكلمات
ذكروا أنّ اشتقاق الكلمات بحسب الأصل قد يكون من طبائع الحروف، كالشدة والجهر وضديهما. ومثَّل له ابن جني في «الخصائص» بما مثّل. وذكروا أنّه قد يكون من أصوات الحيوانات ونحوها، ومثّلوه بنحو الصّرير، والأزيز.
وقال قائل: كيف يحتاج الإنسان إلى أن يَستمدَّ كلامه من أصوات الحيوانات ونحوها، في حين أنّ الحيوانات لا تستمدُّ كلامها الذي تتفاهم به إلا من أصواتها أنفسها، مع أنّ الإنسان أشرف من الحيوان؟!
وأقول أنا: إنّ كثيرًا من الكلام ــ ولاسيّما ألفاظ الأصوات الإنسانية ــ مشتق من الأصوات نفسها، كالنخير، والشخير، والتنحنح، والنفخ، والقهقهة، والأنين، والحنين، والرنين.
ولكن بعض ذلك مما يُفهم بسهولة، وبعضه يحتاج إلى إمعان نظر واستقراء لأنواع الصوت، كالضحك والبكاء.
وأقول أيضًا: إنّ كثيرًا من الكلام مأخوذ من الإشارة، وهذا باب واسع جدًّا؛ فإن الإنسان الذي لا يعلم الكلام كالأبكم يستطيع أن يُفهِم صاحبه كثيرًا من أغراضه بمجرد الإشارة. ولكن الإشارة قد تكون باليدين، وبغيرهما من الأعضاء.
واستمدادُ الكلام منها إنّما يمكن من الإشارة بأعضاء الفم، كاللسان والشفتين، فإنّها هي التي يكون بها الكلام.
24 / 326
ومن أمثلة هذا: اسم الإشارة وهو (ذا). فالإنسان إذا أشار إلى حاضر يُبرز عضوًا منه موجِّهًا إلى ذلك الشيء، وقد يصوِّت معه بصوت خالٍ عن معنى ليوجِّه نظر السامع إلى الإشارة فالمشارِ إليه.
ومن جملة الأعضاء التي تُبرَز للإشارة: اللسان، وهو الذي يمكن منه استمداد اللفظ.
فرأى الواضعُ أنّه ينبغي وضع كلمة الإشارة استمدادًا من إخراج اللسان والنطقِ ببعض الحروف التي يتيسّر النطق بها حينئذ. فوجد ثلاثة أحرف: الذال، والثاء، والظاء. والثاء خفيّة، والظاء لا تخلو من خفاء، فتعيَّن الذال. وزاد معها الألف ليَبِين الصوتُ، ثم تصرّف فيها في أسماء الإشارة، والموصول، وبعض الظروف كإذ، وإذا، ومُذ، ومنذ؛ لوجوهٍ يطول بيانها، والأصل فيها ما تقدم.
ومن ذلك: أنّ إشارة الإنسان إلى نفسه تكون بعطف عضوٍ منه إلى جسمه، فتعيَّن هاهنا اللسان.
وأنت إذا عطفت لسانك إليك محرِّكًا له كما يفعل المشير، ثم التمست حرفًا تنطق به حينئذٍ، تعيَّنَ النون. فجُعلت النون أصلًا لضمير المتكلم، وتُصرِّف فيها في غيره.
ومن ذلك: أنّ إشارة الإنسان إلى الوقت الحاضر تكون بتحريك يديه حركة معترضة، ثم الإشارة إلى نفسه، يريد وقتنا الحاضر، مع تصويتٍ يصحب الإشارة.
24 / 327
فرأوا أنّ الصوت الذي يؤدّي معنى الصوت (^١) ويمثِّل الإشارة، هو المَدَّة، والذي يؤدي معنى الإشارة إلى النفس هو النون كما مرّ، فقالوا: «ءان»، ثم تصرّفوا في ءان، ومن جملة تصرّفهم فيه (^٢): قلبُهم لبعضه ليدلّ على تغيير في معناه، فقالوا: «أنَى» لساعةٍ غير معيَّنة.
ثم تصرفوا في هذه أيضًا، فقالوا: أنَى الشيءُ يأني، أي: حضر إناهُ، أي وقته. ومن ذلك: «أنَى الطعام» أي بلغ وقته، أي المطلوب منه، وهو النضج.
ثم قالوا للوعاء: «إناء»؛ لأن الطعام إذا بلغ إناه جُعِل فيه.
وقال تعالى: ﴿حَمِيمٍ آنٍ﴾ [الرحمن: ٤٤] أي بلغ وقته المطلوب منه، وهو شدة الحرارة.
وقالوا: «أنيت الشيءَ» أي أخَّرته إلى إناه، أي إلى وقته المناسب، ومنه «الأناة» و«التأنِّي»، [و] هو تأخير الشيء إلى إناه، أي إلى وقته المناسب.
ومن هنا كان التأني ممدوحًا مطلقًا. ولو كان معناه: تأخير الشيء عن إناه، أي عن وقته، كما زعم الراغب (^٣) = لكان مذمومًا أو على الأقلّ لا يدلّ على مدح ولا ذمّ. وقد قال النبي ﵌ لأشج عبد القيس: «إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة» (^٤).
_________
(^١) كذا في الأصل.
(^٢) في الأصل: فيهم، سبق قلم.
(^٣) «المفردات» (ص ٩٦).
(^٤) أخرجه مسلم (١٧/ ٢٥).
24 / 328
ومن ذلك: الابتسام. لمَّا كان آلته الشفتان، وغايته أن تبدو معه الأسنان العليا؛ جعلوا له حرفين شفويّة، وهما: الباء والميم، وحرفًا من الثنايا العليا، وهو السين.
وقريب من الابتسام: البَوس. وإن لم يكن بعربي (^١).
* * * *
[بحث في أصل صيغ الفعل واشتقاقها منه، وإتيان بعضها مكان بعض]
الحمد لله.
«أمالي ابن الشجري» المجلس (٣٨).
«قال أبو الفتح عثمان بن جني: قال لي أبوعلي: سألت يومًا أبا بكر ــ يعني ابن السراج ــ عن الأفعال يقع بعضها موقع بعض، فقال: كان ينبغي للأفعال كلها أن تكون مثالًا واحدًا لأنها لمعنى واحد، ولكن خولف بين صيغها لاختلاف أحوال الزمان، فإذا اقترن بالفعل ما يدل عليه من لفظ أو حال جاز وقوع بعضها في موقع بعض.
قال أبو الفتح: وهذا كلامٌ من أبي بكر بحال شديد (^٢)».
أقول: وقد سبق لي جواب لعله أوضح من هذا وأقعد.
وذلك أني سُئلت عن فعلَي التعجب: لِمَ جُعلا فعلين ماضيين أبدًا، مع أنّ التعجب قد يكون ماضيًا وحالًا وآتيًا؟
_________
(^١) مجموع [٤٧١٩].
(^٢) علَّق عليه الشيخ بقوله: «كذا، وذكره في موضع آخر: عالٍ سديد».
24 / 329
فأجبتُ بأن الفعل بحسب الأصل صيغة واحدة تدل على وقوع ذلك الفعل، فكأنه في الأصل اختير أن يكون من الضرب: «ضَرَبَ»، بدليل خِفَّتها وعدم الزيادة فيها.
ثم رأوا أنّ مجرّد الإخبار بالوقوع لا يكفي؛ لأنّ الوقوع قد يكون في الحال، وقد يكون قبل ساعة فأكثر، إلى ما لا نهاية له، وقد يكون بعد ساعة إلى ما لا نهاية له.
ولمّا كان لا يمكن تعدّد الصيغ بتعدد الأزمنة، فلا أقل من اعتبار الجهات، وهي المضي والحال والاستقبال.
فنظروا أيّها أَلْيَق بالأصل، فإذا هو الماضي، لأنّه الأصل والغالب فيما يحتاج فيه إلى الإخبار بالوقوع، فجعلوا له الصيغة الأصلية، وهي «ضَرَبَ» مثلًا.
ثم رأوا أن يغيّروا الصيغة تغييرًا ما، ويجعلوها للذي يلي الماضي وهو الحال، فزادوا الهمزة التي هي الأصل في الزيادات، فجعلوها للأصل في الإخبار بالوقوع، وهو التكلُّم؛ لأنّ الغالب أنّ الإنسان إنما يخبر عن شيء وقع منه.
ثم جعلوا أُختيها: الواو والياء لبقية وجوه الإخبار، إذا الإخبار إما أن يكون عن المتكلم، أو عن مخاطب، أو غائب.
ولكنهم قلبوا الواو تاء، لأن التاء أليق بالخطاب؛ لأن الناطق بها كالمشير إلى ما أمامه، ولذلك جعلوا التاء ضمير الخطاب.
24 / 330
وقلبُ الواو تاءً في أوائل الكلمات معروف عندهم، مثل: تترى، وتراث، وتقوى، وتُجاه، وتَبال، وتُكَلة، وتُهَمة.
ثم رأوا الاحتياج إلى زيادة صيغةٍ رابعة لأجل المتكلم ومعه غيره، فاختاروا النون، لأنها أشبه الحروف بحروف العلة، كما هو مبيّن في محلِّه.
وأمّا المستقبل، فرأوا أن لا يجعلوا له صيغة مستقلة، بل يكتفون بالصيغة التي جعلوها للحال، ويكتفون بدلالة القرائن على أنه لم يُرَد بها الحال وإنما أريد بها الاستقبال.
وجعلوا حرفًا خاصًّا لهذا المعنى، حتى يُفْزَع إليه إذا لم يوجد في الكلام قرينة أخرى، وهو (السين)، ثم زادوا مع (السين) حرفين فقالوا: (سوف)، لتكون (السين) وحدها دالةً على المستقبل القريب، و(سوف) دالةً على البعيد.
وأما الأمر، فهو مشتق من المضارع، كما عليه الكوفيون، وهو الصحيح.
ثم إنهم كثيرًا ما يجدون القرائن مُغْنِية عن الصيغة، فيرجعون إلى الأصل، وهو صيغة (ضَرَب) مثلًا.
ومن هنا كان الغالب مع أدوات الشرط مجيء صيغة الماضي؛ وذلك لأن أدوات الشرط تدل على أن الفعل مستقبل، فاستغنوا بها عن الصيغة ورجعوا إلى الأصل.
ومن هنا تعلم أن المستقبل إذا جاء بلفظ الماضي لا يجب أن يكون ذلك لنكتة معنوية، وإن كان كثيرًا ما يَرِد كذلك، إلا أنه ليس بلازم.
24 / 331
وهذا في كلِّ شيء يجيء على أصله. قد يكون لمجيئه على أصله نكتة معنوية أو أكثر، ولكن ليس ذلك بلازم، فقد يجيء على الأصل لغير نكتة، بل لمجرد أنه الأصل.
فأمّا مجيء المعنى الماضي بصيغة المضارع فلا بدّ له من نكتة.
هذا معنى ما أجبت به قبل اطلاعي على ما قاله ابن السراج، وهو بحمد الله تعالى من التحقيق بحيث ترى، بخلاف كلام ابن السراج ففيه إجمال لا يخفى.
فأمّا خصوص صيغتَي التعجب، فإنها خُصَّت بصيغة الماضي لما تقدم أنه الأصل، مع أن الغالب في التعجب الواقع أنه إنما يكون من شيء واقع فأما ما لم يقع، فإن التعجب منه إنما يقع عند وقوعه.
فإن تُجُوِّز في المجيء بالصيغة للدلالة على تعجبٍ سيقع، فذلك عزيز، فليُجَأْ معه بقرينة دالة على المطلوب.
والتزامُ ذلك أخف وأيسر من تعديد صيغ التعجب. والله أعلم (^١).
* * * *
_________
(^١) مجموع [٤٧١٩].
24 / 332
[المناسبة بين رسم كلمتَي الصدق والكذب وبين معانيهما]
الحمد لله.
الصدق والكذب
إن الصدق والكذب ليترائَيان للأبصار ضئيلين جدًّا بالنسبة إلى مقدارهما الحقيقي، فإذا أُنعِم النظر فيهما أَخذَا في الاتِّساع إلى أن يَلْتَهِما جميع الأخلاق.
وقد دعاني هذا من حالهما إلى أن أكتب شيئًا في شأنهما، ما بين رسمهما وتسميتهما من المناسبة الغريبة.
[الصدق:]
الصاد: حرفٌ مهموس رخو مُستَعْلٍ.
فكأنه أشيرَ به إلى أن الصدق أول ما يُفاه به، يهمس به صاحبُه خوفًا، ويكون معناه كالكلام المهموس، أي خفيًّا غير ظاهر، ويكون ضعيفًا لكراهية الناس له وميلهم إلى الكذب. وهو مع ذلك مستعلٍ في جوهره، ولكن أُشيرَ بجعل حركته كسرةً إلى أنه سافل في صورة حاله.
والدال والقاف مجهوران شديدان مُقَلْقلان.
وكل ذلك إشارة إلى أن الصدق في أوسط أحواله وآخرها يشتهر ويقوى ويظهر.
وزادَ القافُ بكونه مستعليًا، وهو بحسب الصورة قابل للفتح والرفع
24 / 333
والخفض. ففيه إشارة إلى أن الصدق في آخره هو مستعلٍ في حقيقته، وقد يكون مستعليًا في الصورة، وربما خُفِض.
الكذب:
الكاف: مهموس شديد منخفض، كأن ذلك إشارة إلى (^١) أن الكذب في أوله يهمس به صاحبُه خوفًا من التكذيب، أو لأن ضميره يلومه إن كان بقي فيه شيء من الحياة.
وقد قيل: إن الكاف مجهور. ويظهر من ذلك نكتة أخرى، وهي أن الكاذب يموِّه كذبه بحيث يشبه المجهور.
والشّدّة فيه إشارةٌ إلى أن الكذب في أوله شديد التأثير.
والانخفاض إشارةٌ إلى انخفاضه في ذاته، ولكنه حُرِّك بالفتح إشارةً إلى أن صاحبه يصوّره بصورة الظاهر المستعلي، وإن كان في نفسه بخلاف ذلك.
الذال: مجهورٌ رخوٌ منخفض.
فكأن ذلك إشارة إلى أن الكذب في أوسط أحواله يشتهر، ويضعف ويكون سافلًا حقيقة وكذا صورةً؛ لتحريكه بالكسرة.
وقد قيل: إن الذال مهموس. وتظهر من ذلك نكتة أخرى، وهي أن صاحبه يجهد حينئذ في أن يغفل عنه الناس وينسوه.
الباء: مجهور شديد مُقَلْقَل منخفض.
_________
(^١) تكررت «إلى» في الأصل.
24 / 334
الجهر إشارة إلى ظهوره واشتهاره، والشدة إشارة إلى أنه كثيرًا ما يشتد الكذب ويقوى بوجود أناسٍ يتعصبون له بجهلٍ أو هوى. وهذا مُشاهَد بكثرة.
والانخفاض: إلى أنه منخفض في ذاته، مُهْمَلٌ في صورته؛ فقد يُعْلِيهِ التعصُّب، وقد يخفضه الإنصاف (^١).
* * * *
[تعليقات على مواضع من «مختصر المعاني شرح تلخيص المفتاح» و«حاشيته» للبنَّاني]
الحمد لله.
* قول «المختصر» (^٢): «وتقديم الحمد باعتبار أنه أهم [نظرًا إلى كون المقام مقام الحمد]» إلخ.
اعتُرض عليه بأن النكتة إنما تذكر للمُزال عن محله الأصلي لا القارِّ فيه. وحكى المحشِّي جوابين غير واضحين.
والجواب الصحيح أنه إنما يعتبر الأصل حيث لا مقتضى لخلافه، فإذا ورد شيء على أصله ولا مقتضى لخلافه لم يُسأل عنه. وأما إذا وجد ما يقتضي خلافه فإنه يُسأل، لأن كونه أصلًا مُعارَض بما هو أرجح منه، وهو ذلك المقتضي.
_________
(^١) مجموع [٤٧٢٩].
(^٢) «مختصر المعاني ــ مع حاشيته التجريد» لمصطفى بن محمد البنَّاني: (١/ ٢٥ - ٢٦).
24 / 335
مثاله في النحو: أن يسأل سائل عن «ذو» بمعنى صاحب، لماذا أُعربَ مع كونه على حرفين؟ فلا يكفي في الجواب أن يقال: الأصل في الاسم الإعراب فلا يُسأل عنه؛ لأنه يقال: هذا إنما هو فيما ليس فيه مقتضٍ لخلافه، وهو هاهنا معارَض بما هو أرجح منه، وهو أن ما كان من الاسم على حرفين ما فيهما حرف علَّة واجبُ البناء.
فيتعين في الجواب أن يُقال: إن لفظ «ذو» ليس على حرفين، بل هو على ثلاثة؛ لأن أصله «ذوي»، وقاعدة بناء الاسم إذا كان على حرفين إنما هي فيما كان على حرفين من أصل الوضع، وليس «ذو» كذلك.
إذا تقرر ذلك، فكون تقديم الحمد هو الأصل لكونه مبتدأً قد عارضه ما هو أرجح منه، وهو أن تقديم لفظ الجلالة أحق لأنه الأهم، فلا يكفي في الجواب أن يقال: «هو الأصل»، لأن الأصل قد عارضه ما هو أرجح منه. وعليه فلابد من نكتة أخرى للعدول عمّا كان هو الظاهر في البلاغة، وهو تقديم الأهم. والله أعلم.
* * * *
* قول المختصر (^١): «والتعليل بأن البلاغة إنما هي باعتبار المطابقة لمقتضى الحال، وهي لا تتحقق للمفرد= وهمٌ ...» إلخ.
أقول: وتعليل السعد بأنه «لم يُسمع: كلمة بليغة» تقصير لأنه قد يقال: ولماذا لم يستعمل العرب ذلك؟ فكان الأولى أن يعلل بأن البلاغة مُشتقة من البلاغ، ففي «القاموس وشرحه»: بَلُغ الرجل بلاغةً إذا كان يبلغ بعبارته كُنْهَ
_________
(^١) «مختصر المعاني ــ مع التجريد»: (١/ ٥٩ - ٦٠).
24 / 336
مراده ... إلخ، وهذا إنما يناسب المتكلم لكونه هو الذي يبلغ، فيقال: بليغ فعيل بمعنى فاعل؛ والكلامَ لأنه به يبلغ صاحبه مراده، فيكون فعيل بمعنى مُفعَل أي مبلَغ.
وأما المفرد، فلا مناسبة لذلك فيه، فلذلك لم تطلق العرب: «كلمة بليغة». ولعل المعلل الأول قصد هذا ولكن قصرت عبارته عنه. والله أعلم.
* * * *
* البنَّاني ([ج ١] ص ٩١) (^١):
«مع أنه لا يحسن في نظر العقل طلب التصويت عند سماع صوت المحبوب» إلخ.
فيه نظر، أولًا: أن هذا إذا كان هو أيضًا بذلك المرأى والمسمع، كالحمامة، ولا دليل عليه، بل ربما كان بينه وبين ذلك المحلّ مراحل.
وقد يكون إنما قال ذلك للحمامة غبطةً لها. ومع ذلك، فليس المراد من كونها بمسمع منها كونها تسمع صوتها بالفعل. بل المراد أنها بحيث لو تكلمت لسمعتها.
ويظهر لي معنى آخر غير ما تقدم، وهو أنه أراد تنبيه الحمامة على جمال المحبوبة، يُقال لها: ينبغي لكِ إذا كنتِ بحيث ترينها وتسمعين كلامها أن تنشطي وتفرحي وتطربي.
_________
(^١) تعليقًا على الشاهد التالي:
حمامةَ جرعا حومةِ الجندل اسْجَعي ... فأنتِ بمرأى من سُعادَ ومسمع
24 / 337
ومعنى آخر: وهو أنه سمع الحمامة تسجع، فأمرُه لها بمعنى: دومي على السجع غير ملومة، فإنك بحيث ترين المحبوبة وتسمعين كلامها، فلا غرو إذا طربْتِ وطرَّبتِ! فيحق لمن كان بذلك المحلّ أن يطرَبَ ويُطرِّبَ.
* * * *
* «(وبينهما) أي بين الطرفين (مراتب كثيرة) متفاوتة، بعضها أعلى من بعض بحسب تفاوت المقامات ورعاية الاعتبارات، والبُعد من أسباب الإخلال بالفصاحة. هـ مختصر.
قوله: «متفاوتة» لمَّا كان يُشكل التفاوت بأنه إن حصلت المطابقة حصلت البلاغة، وإن انتفت انتفت البلاغة = بيّنه بقوله: «بحسب تفاوت المقامات» أي كما في مقام يقتضي تأكيدًا شديدًا، ومقام يقتضي مطلق التأكيد، «ورعاية الاعتبارات» كما لو روعي اعتبار واحد، وروعي أكثر، «والبعد من أسباب ...» إلخ كما لو انتفى الثقل بالكلية في موضع وبقي منه شيء يسير لا يخرجه عن الفصاحة في موضع آخر. اهـ «سم» ببعض تغيير.
ولا تغفل عمَّا قدمناه من أنه لا يشترط في أصل البلاغة المطابقة لجميع مقتضيات الحال، بل المطابقة في الجملة». هـ (^١).
أقول: قوله: «كما في مقام يقتضي تأكيدًا شديدًا ومقام يقتضي مطلق التأكيد»، يعني فالإتيان بالتأكيد الشديد في الأول وبالتأكيد غير الشديد في الثاني أبلغ من العكس، فإن مَن جاء بالتأكيد الشديد في المقام الذي يقتضي
_________
(^١) «التجريد» للبنَّاني: (١/ ١١٢ - ١١٣).
24 / 338
التوكيد الشديد قد وَفَى بتمام المقصود، ومَن جاء بالتأكيد الخفيف في المقام الذي يقتضي التأكيد الشديد قد جاء بأصل المقصود، وهو مطلق التأكيد، ولكنه أخطأ في نوعه. وهكذا مَن جاء بالتأكيد الخفيف في المقام الذي فيه التأكيد الخفيف فقد جاء بتمام المقصود، ومَن جاء بالتأكيد الشديد في المقام الذي يقتضي التأكيد الخفيف قد جاء بأصل المقصود وهو مطلق التوكيد، ولكنه أخطأ في نوعه، وبما ذكر تبين اقتضاء ما ذكر لتفاوت البلاغة.
ومن اختلاف المقامات أيضًا أن يكون مقام يقتضي نكتةً مخالفة للأصل، أي زائدة على أصل المراد، ومقام آخر لا يقتضيها، أو مقام يقتضي واحدة فقط، ومقام يقتضي اثنتين، وهكذا. فالكلام الوارد في المقام المقتضي للنكتة الزائدة على أصل المراد مطابقًا لها= أبلغ من الكلام الوارد في المقام الذي لا يقتضي ذلك، والكلام الوارد في المقام الذي يقتضي نِكاتًا متعددة مطابقًا أبلغ من الكلام الوارد في المقام الذي يقتضي أقل منها. والله أعلم.
ويدل على ما ذكرنا ما نقله عن الفَنَري (^١) في الكلام على قوله: «عطف على قوله: هو» قال: «فإن قلت: لا يمكن إنكار تفاوت الآيات في البلاغة، قلت: التفاوت الحاصل فيها بالنظر إلى أن الأحوال المقتضية للاعتبارات في بعضها أكثر، فالمقتضيات المرعية فيها أوفر من المقتضيات المرعية في الأخرى، وذلك لا يقدح في أن يكون كل منها في الطرف الأعلى، أي في مرتبة من البلاغة لا بلاغة فوقها بالنسبة لتلك الآية لوجوب اشتمال كل آية على جميع مقتضيات الأحوال التي في نفس الأمر بناء على إحاطة علم الله
_________
(^١) «التجريد»: (١/ ١١٠).
24 / 339