Limadha Taakhkhara Muslimun
لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟
Genres
ولم تقتصر هذه الفئة على القول بأن حالة المسلمين الحاضرة هي متردية متدنية لا تقاس بحالة الإفرنج في قليل ولا كثير بل زعمت أن التعب في مجاراة المسلمين للإفرنج في علم أو صناعة أو كسب أو تجارة أو زراعة أو حرب أو سلم أو أي منحى من مناحي العمران هو ضرب من المحال، وشغل بالعبث لا يليق بالعاقل إتيانه، وكأن المسلمين من طينة، والإفرنج من طينة أخرى، فعلو الإفرنج على المسلمين أمر لا بد منه؛ وكأنه كتب في اللوح المحفوظ وجف به القلم، ولم يبق أمام المسلمين إلا أن يعلموا كونهم طبقة منحطة عن طبقة الإفرنجة ويعملوا بمقتضى هذه العقيدة.
وكثيرا ما وقعت لي مجادلات مع هؤلاء المفلسفين بالفارغ صغار النفوس، ولم يكن يدخل في عقولهم المنطق، ولا يعظهم التاريخ، ولا ينفع في إقناعهم علم الطبيعة ولا التشريح، ولا يحيك بهم استنتاج ولا قياس؛ وذلك لما غلب عليهم من آفة الذل، ومرض الاستخذاء، وقد أحس الأوروبيون بما عند المسلمين من هذه الحالة الروحية الموافقة لمصالحهم الاستعمارية، فصاروا يروجونها فيهم، ويقووون عندهم هذه العقيدة، فانطبق على هؤلاء الناعقين بالبين الآية الشريفة:
في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا .
1
ولم يكن الإفرنجة وسعاتهم ودعاتهم بملومين على ترويج هذه النظريات التاعسة بين المسلمين؛ لأنها مما يسهل الاستعمار ويمهد طرقه ويكفيهم المقاتلات والمنازلات ويوفر عليهم المزاحمات والسابقات، ويجعل لهم التفوق بلا نزاع، والتسلط دون جدال ولكن العجب كل العجب من هؤلاء المسلمين الذين أمرهم الله ليتصفوا بالعزة ويتسموا بالأنفة ويستوفوا تمام الرجولة كيف كانوا ينقادون لهذه الأضاليل التي مآلها عبوديتهم للأجانب، لقد صدق فيهم كلام الله - تعالى:
وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين .
2
وأكثر ما كانوا يؤكدونه للناس من عدم قابلية المسلمين هو استحالة قيامهم بالمشروعات العمرانية والأعمال المادية وكل ما يتعلق به حساب ورقم أو مساحة وقياس؛ فإذا قلت لهم: إن كان المسلمون لا يحسنون هذه العلوم كما تزعمون فكيف استطاعوا أن يؤثروا هذه الآثار الباهرة التي يؤمها السياح من أقاصي الدنيا وكيف ملئوا مصر والشام والعراق والمغرب وإيران والهند والقسطنطينية وغيرها مباني ومؤسسات تبهر الأبصار وتحير الأفكار وكانت لهم معامل ومناسج ودور صناعات متنوعة وغير ذلك مما يعد في الصناعة من الطراز الأول؟ أجابوك: قد كان هذا قبل أن يرقى الإفرنج هذا الرقي الحديث، وقبل أن يكشفوا أسرار الكون التي كشفوها وغير ذلك مما ليس بجواب عن هذا الخطاب والموضوع، هو في واد، وهذا في واد.
فنحن نريد أن نقول: إن كل من سار على الدرب وصل، وإن المسلمين إذا تعلموا العلوم العصرية استطاعوا أن يعملوا الأعمال العمرانية التي يقوم بها الإفرنج، وإنه ليس هناك فرق في القابلية البشرية؛ ولكن على شرط أن ينفض المسلمون عن أنفسهم غبار الخمول، ويلغوا هذه القاعدة التي قد كانت من أسباب شقائهم زمنا طويلا؛ وهي أن كل عمل عمراني في الشرق لا بد من أن يستعار له شركة أوروبية لتقوم به وإلا فلا يستطاع عمله، ولقد أتت التجارب بعد ذلك بما يثبت فساد هذه النظرية بتمامها، وتمكن المسلمون في كثير من البلاد من إنشاء شركات صناعية وتجارية وتأسيس معامل ومناسج ودور صناعة نجحت نجاحا باهرا كذب مزاعم تلك الفئة المثبطة وصيرها موضوعا للهزء.
ولما عزم السلطان عبد الحميد الثاني العثماني على مد سكة حديدية من دمشق إلى الحرمين الشريفين قوبل هذا المشروع أوانئذ بمزيد الاستغراب تبعا للعادة، ومن الناس من ضحكوا به وقالوا: نحن نرى أنفسنا عاجزين عن إنشاء طريق عجلات، فكيف نستطيع أن ننشئ سكة حديدية طولها يزيد عن ألفي كيلو متر وأنى لنا المال والعلم اللازمان لمشروع عظيم كهذا؟! وأغرب من تشاؤم المسلمين وشعورهم بالعجز عن القيام بهذا العمل أن المهندس الألماني الكبير مايستر باشا الذي انتدبه السلطان لرئاسة مهندسي هذا الخط هو نفسه كان لا يعتقد إمكان إنشاء هذا الخط، وكان هذا الرجل صديقي فسألته مرة عن رأيه فيه فقال: لي إنه يرجو إيصاله إلى معان وهي مسافة أربع مئة كيلو متر من دمشق، فأما مده من معان إلى المدينة فيكاد يكون من المستحيل. فسألته: هل ذلك من عدم وجود المال؟
Unknown page