لذكراك
لذكراك
لذكراك
لذكراك
تأليف
خليل السكاكيني
لذكراك
الزوجة.
وإني لتعروني لذكراك هزة (1) الليلة الأخيرة (الثلاثاء 3 / 10 / 1939)
قضينا ليلتنا البارحة قياما خاشعين خافتين، وأيدينا على قلوبنا، وأبصارنا شاخصة، فقد اشتدت وطأة المرض على سيدتي أم سري، وساءت حالها جدا.
دخلت في غيبة من أول الليل ... علت الزرقة شفتيها ... بردت أطرافها ... جعل جسمها يرشح بعرق بارد لزج ...
سمعتها تقول تارة: إلى متى ...؟ وتارة: يكفي ... وتارة: يا خليل! ... وفي صباح اليوم - الثلاثاء - جاء الطبيب، ففحصها فحصا يسيرا، وعلى وجهه علائم اليأس، فقالت له: «لماذا تركتني؟» وهي آخر كلمة قالها المسيح وهو على الصليب يخاطب أباه في السماء!
وبعد أن خرج الطبيب من غرفتها سألت: ماذا قال؟ كأنها أحست، أو قرأت على وجهه ووجوهنا أنها في خطر. فسألت ماذا قال؟ لعلها تطمئن أنها عائدة إلى الحياة. ثم رجعت إلى الغيبة. وفي الساعة العاشرة والربع فارقت الحياة.
شاع الخبر، فأسرع الأهل والأصدقاء يشاركوننا في الحزن. •••
كنت أخاف أن تثقل وطأة هذه المصيبة على أولادنا: سري ودمية وهالة، ولكنهم تلقوها بشجاعة ورزانة، وكانت دمية وهالة تقولان لي: انظر يا أبي كأنها نائمة! انظر ما أجمل ضجعتها! انظر كيف تبتسم!
وفي صباح الغد - الأربعاء - وضعناها في تابوتها، وغمرناها بالزهور، فلم يظهر غير وجهها الجميل الذي زاده الموت جمالا.
ولما حانت الساعة التاسعة، وكانت موعد الجنازة، جاء الأهل والأصدقاء ليحملوها إلى عربة الموتى، فأبيت عليهم إلا أن نحملها: أنا وولدي سري وأخواها يوسف ونجيب؛ فهذا واجب نحن أحق الناس بالقيام به.
مشينا إلى كنيسة القطمون، لأن سريا وأختيه قالوا إن أمهم قالت إذا ماتت فلتكن الجنازة في كنيسة القطمون، فلم يسعني إلا أن أحترم إرادتها المقدسة، ثم خرجنا من الكنيسة، وسرنا إلى مقبرة صهيون حيث أنزلناها في مقرها الأخير، في قبر أبي.
لقد كنت يا سيدتي أم سري ربة الدار في دنياك، فأصبحت ربة الدار في أخراك. فأنت ربة الدارين!
قفا نبك
قفا نبك من ذكرى أذابت حشاشتي
ولا تبخلا بالدمع، فالدمع حاجتي
قفا أسعفاني في مصابي، فإنني
أراه مصابا قد تجاوز طاقتي
لقد كنت قبل اليوم أحسب أنني
صبور على الأرزاء يقرعن ساحتي
وأني كبير القلب، لا تستخفه
حوادث هذا الدهر إما توالت
وأني على حظ من العلم صالح
على قدر ما قد زودتني ثقافتي
فلما دهاني ما دهاني، وجدتني
ضعيفا جزوعا ذا شجى وكآبة
رجعت إلى قلبي، وأين اصطباره؟!
وراجعت ما أدري، وأين درايتي؟! •••
وقلت: لعل الشعر ينفع في الأسى
لعلي أرى فيه قضاء لبانتي
تلفت علي أن أراها فجاءة
وأصغيت علي أن أفوز بنامة
وقلت: هنا عاشت، وهذا مكانها
وكدت أناديها على مثل عادتي
فلم ألق إلا خدعة بعد خدعة
ولم ألق إلا ما يشق مرارتي •••
تذكرت أيام السعادة علها
تخفف من حزني وتشفي حزازتي
وقلت لقد كنا وكنا، فزادني
أسى والتياعا ذكر تلك السعادة •••
فحاولت أن أنسى، فلم تجد حيلتي
ولم يكن النسيان طوع إرادتي
تجلدت، لكن لم يفدني تجلدي
شكوت، ولكن لم تفدني شكايتي •••
تعللت بالآمال أرقب وقتها
فلم تكن الآمال غير علالة
وأصبح عمري بعد ذلك فضلة
أروح وأغدو فيه من غير غاية
وعادت ليالي الملاح مناحة
تقام بها الأتراح إثر مناحة
وبدل عيشي بعد صفوي غصة
أرددها في الصدر دون إساغة
ولم يبق لي من سلوة غير قبرها
إليه أوالي ما حييت زيارتي •••
يقولان: إنا قد عهدناك قبل ذا
شجاعا، ولكن أين أين شجاعتي؟!
ألا! لا عزاء يا خليلي بعدها
ألا! لا عزاء فاتركاني وحالتي!
الفتاة. (2) لست أحسد أحدا ولكن أندب سوء حظي
لنفرض أن ذلك الورم اليسير جدا الذي خرج بصدرك تحت الجلد كان من النوع الخطر، فقد بادرنا من فورنا إلى استئصاله وهو لا يزال في مكانه قبل أن تتسرب خلاياه إلى الغدد أو مكان آخر من جسمك. ثم عالجنا مكانه بالراديوم والأشعة الكهربائية كما فعلت كثيرات، فسلمن، وعشن العمر الطويل كأنهن لم يصبن بشيء.
فلماذا لم يكن حظك مثل حظهن؟!
ثم لنفرض أننا تأخرنا قليلا أو كثيرا، ولكن يقول الطب إن نحو التسعين في المائة من اللواتي يصبن بمثل هذا الورم، فيتأخرن قليلا أو كثيرا في استئصاله، يعشن بعد استئصاله عشر سنوات على الأقل.
فلماذا لم يكن لك حظ في هذه التسعين في المائة، وهي ليست قليلة؟!
يقول الطب إن هذه الأورام قد تقف عن النمو من تلقاء نفسها، ولو في الدرجة الأخيرة.
فلماذا حرمت هذا الحظ؟!
يقولون إن الراديوم والأشعة الكهربائية تفعل العجائب، فلماذا بطلت عجائبها معنا دون الناس؟!
أعرف كثيرات قد بلغن أقصى العمر، ومنهن من رأين أولادهن وأحفادهن إلى الجيل الرابع.
فلماذا لم يكن حظك مثل حظهن؟!
أعرف كثيرين وكثيرات يتأففون من الحياة، ويئنون من أعبائها وآلامها، ولا يملكون من أسبابها شيئا، فلو سألناهم لفضلوا أن يموتوا فيستريحوا، ولم يكن يؤلمنا ويكدر صفونا مثل أن نرى بؤس هؤلاء الناس. وكم وددنا لو نستطيع أن ندفع عنهم البؤس، وأما نحن فقد كانت حياتنا مستوفية الشروط: لم يرث كثيرون أجساما سليمة لا عيب فيها كما ورثنا، ولم يعن أحد بالنظافة والرياضة والغذاء عنايتنا بها، ولم تطبق حياة على الأصول الصحية كما طبقنا حياتنا عليها، ولم يسد في بيت من السرور والفكاهة والانبساط ما ساد في بيتنا، ولم يطوف أحد في طول البلاد وعرضها كما طوفنا. فأي ماء لم نرده، وأي جبل لم نتسلقه، وأي مدينة أو قرية لم نزرها، توالت زياراتنا.
في زي القرية.
لربوع لبنان، عشنا في مصر، كأن حياتنا كلها كانت شهر عسل، لقد كنا على قلة وسائلنا من أسعد خلق الله، وكم قلت لك: تعالي نجرب معيشة المقت، حتى إذا مات الواحد منا كان الخطب على الآخر هينا، فلماذا قدر لك أن تكون حياتك قصيرة؟
لست أحسد أحدا، ولكنني أندب سوء حظي. (3) لن أنسى
لن أنسى يوم فحصك الطبيب لأول مرة، فأحس بذلك الورم اليسير الذي خرج بصدرك تحت الجلد، فاهتم به، وأشار عليك بلزوم المبادرة إلى استئصاله قبل فوات الوقت، فوجمت، وإن تكلفت الشجاعة تكلفا؛ لأنك تعرفين كثيرات في مثل حالتك لم ينفعهن علاج. والتفت إلي كأنك أردت أن تعرفي رأيي، فشجعتك، وقلبي يكاد يذوب حنانا عليك، وقلت لك: إن كثيرات استأصلن هذه الأورام، فعشن ولا يزلن عائشات، وأما أولئك اللواتي لم تنفعهن العمليات فلأنهن تأخرن أو تهاون؛ فلا بأس عليك.
وقبل أن نذهب إلى المستشفى، وكان موعد ذهاب دمية وهالة إلى المدرسة قريبا، أخذتهما إلى جانب فودعتهما وداع من تخاف أن تموت تحت العملية. ولما خرجتا، وقفت على شرفة المنزل تتبعينهما نظراتك، وتلوحين لهما بيدك.
لن أنسى يوم أخذناك إلى المستشفى للمرة الثانية، فقعدنا في غرفة الانتظار، فبكيت بكاء مرا.
لن أنسى، وقد لزمت الفراش الشهور الطوال، أنك كنت من وقت إلى آخر تتضاءلين، فتنخرطين في البكاء.
نعم، حاولنا جهدنا أن ننفي مخاوفك، وأن ندخل على نفسك الأمل، ولكن ذلك كله لم يمنع أن تحسي بالخطر، فتبكي على شبابك!
زورت كتب الطب، فكنت أقرأ لك من أدوار المرض أيسرها، فأقرأ على وجهك علائم الاطمئنان، وإن كنت في دخيلة نفسي في خوف مستمر.
كان مرضك شيئا، فأقرأ شيئا آخر، والأعراض تتشابه، لأقيم لك الدليل على أنك ناجية.
بل كنت أفزع إلى تفاؤل الساذجين والساذجات، فأقول لك: إن وقعاتنا كبيرة، ولكننا ننجو منها، أتذكرين مرضة سري الأولى بالحمى التيفويدية، ومرضته الثانية بالحمى القرمزية، وكانت الحميان من أخبث أنواعهما، فمن كان يصدق أنه يعيش؟
انظري هذه الليمونة التي غرسناها أمام الدار، فلم تلبث أن ذوت، وقال لنا العارفون: إنها ماتت، وهممنا أن نقتلعها، ثم عادت إليها الحياة.
انظري إلى هذه الزيتونة التي غرسناها خلف الدار، فمرت السنة الأولى والثانية وهي عود من الحطب، وقال لنا العارفون: إنها ماتت، وقد هممنا أن نقتلعها، ثم عادت إليها الحياة.
يظهر لنا يا أم سري أننا من أهل الحياة، وليس مرضك إلا عرضا زائلا، إن شاء الله.
ولكن ذلك كله لم يمنع أن تنتبهي للخطر فتبكي على شبابك!
لن أنسى قولك حين كان يستولي عليك الضجر: أحب أن أتنفس تنفسا عميقا، أحب أن أجلس في فراشي، أحب أن أقوم على رجلي، أحب أن أرى الحديقة، أحب أن أشرب شربة ماء من البئر على نفس واحد.
تضيق نفسك وأنت مضطجعة فتقولين: أجلسوني، تضجرين من غرفتك فتقولين: أخرجوني إلى الإيوان، إلى شرفة المنزل، افتحوا الأبواب، روحوا لي، اسقوني جرعة ماء.
لن أنسى ما حييت يوم أخذت بيدك لأساعدك على المشي، وقد ازرق وجهك، واتسعت حدقتاك من الإعياء وعسر التنفس، فقلت: «أنت تموه علي، انظر إلى حالتي.» فأحسست أن روحي تكاد تخرج من صدري. وقلت لك: بخير أنت، إن شاء الله.
المعلمة.
لن أنسى ما حييت قولك لي: يا خليل، اعمل معروفا أعطني كذا، يا خليل اعمل معروفا ارفعني عن مخدتي، فأعاتبك وأقول: ألي تقولين اعمل معروفا؟! أنا خادمك يا أم سري.
لن أنسى ذلك اليوم الذي أخذناك فيه، فدرجت بنا السيارة من مكان إلى آخر؛ لأنك كنت مشتاقة أن تتركي فراشك الذي طالت ملازمتك له، وأن تري الدنيا التي كنت وكنا نحبها، كأننا أخذناك لتودعي الدنيا، لتلقي عليها النظرة الأخيرة!
لن أنسى يوم أقامت مدرسة دمية وهالة حفلتها الأخيرة، تلك الحفلة التي كنت تحبين أن تشهديها لأنها حفلة الشهادة، فكان وجهك في ذلك اليوم أشبه بوجوه الملائكة، حتى إن إحدى السيدات الأجنبيات راحت تقول: إنك كنت أجمل من في الحفلة، وقد كان ذلك اليوم آخر يوم خرجت فيه من البيت.
لو كانت تلك الحفلة معرض جمال، لأخذت الجائزة الأولى، ولأقاموا لك عرشا، وأعلنوا أنك سلطانة الجمال، وقالوا بلسان الشاعر:
أنيري مكان البدر إن أفل البدر
أو بلسان صديقنا الشاعر الكبير معروف الرصافي:
أأم سري، أنت سلطانة البها
أطاعك منه ما عصى الناس أجمعا
ولم ير نقصا في محياك ناظري
سوى أن كل الحسن فيه تجمعا
لقد كنت، يا أم سري، سلطانة الجمال في كل عمرك، لم يزدحم الفتيان على طلب يد فتاة كما ازدحموا على طلب يدك، وكاد ازدحامهم يؤدي إلى القتال.
لو عشت، يا أم سري، لذكرنا كل ذلك بالخير، أما وقد فارقتنا فكل الذكريات، حتى ذكريات أيام السعادة تمزق القلوب، وتستوكف الدموع! (4) إني لمن المعترضين
مات أبي، وقد أثقلته السنون، فحزنت عليه، وبكيته دهرا طويلا، ثم قلت وقال الناس: لا اعتراض على حكم القدر.
ثم ماتت أمي، وقد أثقلتها السنون، فحزنت عليها، وبكيتها دهرا طويلا، ثم قلت وقال الناس: لا اعتراض على حكم القدر.
أما الآن، وقد عدت الأقدار على سيدتي، أم سري، وهي في أجمل أدوار الحياة، وهي كالوردة في أكمامها، وهي كلؤلؤة الغواص ميزت من جوهر مكنون، وهي أصح الناس جسما، وأنعمهم بالا، وهي راضية مطمئنة، وهي محبوبة محترمة عند جميع الناس.
أما الآن فإني من المعترضين، ولو كان هناك مجلس أعلى لقاضيت الأقدار إليه.
ليس شيء أعجب من أمر هؤلاء الناس: يضرسون بأنياب ويوطأون بمنسم، يتألمون ويحزنون ويبكون، ومع ذلك يرضون ويستسلمون، وكأن ما قد كان لم يك كان.
لا يكفي أنهم يتلقون المصائب إثر المصائب، والضربات إثر الضربات، حتى يكلفوا الرضى والاستسلام، فمثلهم مع الأقدار مثل المحكوم عليهم بالموت في مجالس القضاء في الزمان القديم؛ فقد كانت هذه المجالس إذا حكمت على أحد بالموت تقول له: حكمنا عليك بالموت فادع للسلطان بالنصر!
أيتها الأقدار احكمي بما شئت، وأما أن تكلفينا الدعاء لك والرضى بحكمك. فهذا لن يكون! (5) أسعفاني بالبكاء
أسعفاني بالبكاء،
ودعا كل عزاء
لا تقولا: الصبر يجدي
حين يشتد البلاء
ليس يجدي الصبر، إن لم
يك في الصبر رجاء
لا تقولا: «إنما الدن
يا - ما قيل - فناء»
إن يجل الخطب لا تج
د عظات الحكماء •••
آه! واشوقي إلى
سلطانتي، زين النساء!
آه! واشوقي إلى
طلعتها ذات البهاء
آه! واشوقي إلى
أيامنا الغر الوضاء!
يوم كنا نغنم الأن
س صباحا ومساء
يوم كنا نتعاطى
أكؤس الصفو ملاء
يوم كنا لا نرى من
دهرنا إلا الولاء
يوم كنا سعداء
يوم كنا سعداء! •••
حين كان البيت نا
دي الأصفياء الأوفياء،
كنت للنادي ضياء
تبهجين كل راء •••
سحب الدهر على أيا
منا ذيل العفاء!
قوض النادي الجميل
وخبا ذاك الضياء! •••
كنت، يا أم سري،
نجمتي ذات السناء
كنت إن أظلمت الدن
يا، وعز الاهتداء
ترسلين النور يهدي
ني إلى سبل العلاء
كنت لي كل سروري،
كنت لي كل الغناء
كيف تجفين وما عو
دتني هذا الجفاء؟!
كم أناديك، ولكن
لا تجيبين النداء؟! •••
آه! لو أن المنايا
قبلت عنك الفداء،
كنت أفديك بروحي،
أنت أولى بالبقاء (6) هنا وهناك
سيدتي أم سري!
نحن نبكي هنا حزنا عليك وشوقا إليك، ولست أشك أنك واقفة على شرفة الآخرة تبكين حزنا علينا، وشوقا إلينا.
يخيل إلي أنك تقولين لأمك وأبيك وسائر الأهل الذين رحبوا بك، وأحلوك بينهم في المكان العالي: أحب أن أرجع إلى زوجي وأولادي وأهلي، ردوني إليهم.
يخيل إلي أنك لست راضية هناك، كما أننا لسنا راضين هنا، إنك مقهورة هناك، كما أننا مقهورون هنا.
يخيل إلي أنك تقولين لهم: إن داركم هذه لا تملأ عيني، إن بيتي المتواضع على الأرض أجمل منها، إن حياتنا هناك أجمل من حياتكم هنا، ردوني إلى الأرض.
يخيل إلي أنك لا تنقطعين عن البكاء وهم مقبلون عليك يدارونك، ويحاولون تخفيف حزنك، وإغراءك بنعيمهم، فتعرضين عنهم، ولا تقبلين عزاء.
أما نحن فكم نود لو نستطيع أن نحمل على الآخرة حملة شعواء، ونقتحم الأبواب ولو حمتها سيوف من نار لنردك إلينا، أو نموت على عتبة الآخرة فنعذر. (7) أتجلد
يهتاجني الشوق، فأتجلد، ولا أنبس بكلمة.
يثور بي الحزن فأتجلد، ولا أنبس بكلمة.
أراجع أيامنا الماضية من أولها إلى آخرها، فأتجلد، ولا أنبس بكلمة.
أذكر أيام مرضك في ليلك ونهارك، فأتجلد، ولا أنبس بكلمة.
يجف ريقي، وتتردد الغصة في صدري، فأتجلد، ولا أنبس بكلمة.
آرق في ليلي، وتمر الساعة تلو الساعة وأنا أتململ على فراشي، فأتجلد، ولا أنبس بكلمة.
أزور قبرك كل يوم فأقف عند قدميك مطرق الرأس، فأتجلد ولا أنبس بكلمة.
إذا كان التجلد السكوت فإني أعظم من تجلد.
بلى، أعقد كل يوم مناحة: ألطم وجهي ولكن دون أن أرفع يدي، أضرب رأسي بالجدران ولكن دون أن أتحرك من مكاني، أغني أغاني الفراق فأقول: «سافر المحبوب» ولكن دون أن يرتفع لي صوت.
أعقد كل يوم هذه المناحة الصامتة ولكنها لا تشفي غليلي.
أحب أن أبكي جهرة في بيتي، في طريقي، في عملي، في رواحي ومجيئي.
أحب أن يكون إلى جانبي خليل أو خليلان من أخلاء الشعراء، فأقول:
أسعفاني بالبكاء
ودعا كل عزاء
أحب أن أقف على قبرك، وأستوقف، وأبكي، وأستبكي، فأقول:
قفا نبك من ذكرى أذابت حشاشتي
ولا تبخلا بالدمع، فالدمع حاجتي
إن هذا الحزن الباطن يتطلب الخروج فإذا لم يخرج بكاء خرج غضبا أو جنونا.
إن هذا التجلد لا يزيل الحزن ولكن يكبته إلى أن يجد منفذا فيخرج، مما يدل أن الطبيعة لا تطيق الكبت، وأن التجلد غير طبيعي. وليس شيء في ملتي واعتقادي أضر من مخالفة سنن الطبيعة، وقد سنت الطبيعة للحزن البكاء، فمن علمنا هذا التجلد؟!
لقد أفسدنا طبائعنا ونحن لا ندري، ولعل القدماء كانوا أعرف بطبائعهم وأطوع لها منا، فقد كانوا يعقدون المناحات للتنفيس عن صدورهم، وكانوا إذا لم يكف البكاء يعقدون حلقات رقص حول القبور يهتزون فيها ألما، بل قد يلطمون وجوههم، ويشقون جيوبهم، ويضربون رءوسهم بالجدران، يفعلون كل ذلك ليجد الحزن منفذا يخرج منه. (8) لما عشنا متنا!
ما كادت سيدتي أم سري تصل إلى أجمل أدوار الحياة.
وما كاد أولادنا يستوفون ثقافتهم العالية، ويلمون ببعض الفنون الجميلة إلمامة كافية.
وما كدنا نستقر في بيتنا المتواضع.
وما كدنا نعيش كما شاء اقتراحنا على المنى نقول مع البحتري:
أيها الدهر حبذا أنت دهرا
قف حميدا ولا تول حميدا
كل يوم تزداد حسنا، فما تب
عث يوما إلا حسبناه عيدا
ما كدنا نصل إلى هذا الدور الجميل الذي كنا ننظر إليه من أمد بعيد، حتى جاء الموت، فهدم ما بنينا فأعلينا.
إذا كان هناك من يصدق عليه القول: «لما عشنا متنا» فنحن. (9) القبور والدور
شاءت الأقدار أن تقضي الشتاء الماضي في المستشفى بين أيدي الأطباء والجراحين، ثم يجيء هذا الشتاء وأنت تحت الثرى في تلك المقبرة البعيدة الموحشة التي يمر بها الشجاع فيفزع.
لماذا لا يدفن الناس موتاهم في دورهم فيختلط الأحياء والأموات معا؟!
كيف يطاق العيش إذا كان الحي في دار والميت في دار؟!
رحم الله ذلك الدور الذي كان الناس فيه يهتمون بقبورهم أكثر مما يهتمون بدورهم.
لست أدري ما الذي أوحى إلى الناس أن يقولوا: «الحي أفضل من الميت» ... لا، لا، ليس الحي أفضل من الميت، بل الميت أفضل من الأحياء كلهم لو يعلمون.
رحم الله ذلك الزمان الذي كان الميت فيه أفضل من الحي، ذلك الزمان الذي كانت فيه القبور أجمل من الدور، ذلك الزمان الذي كانت فيه القبور أهراما وهياكل رست أصولها تحت الثرى، وسمت فروعها إلى السماء تعانق قطع السحاب الممطر، على حين كانت الدور أكواخا، ذلك الزمان الذي كانت فيه القبور تبنى بالرخام، وتزين بأجمل النقوش والرسوم، وتؤثث بأفخر الرياش.
رحم الله الفراعنة أصحاب الأهرام! ورحم الله شاه جهان، صاحب «تاج محل»! فقد كانوا ألصق بموتاهم وأعرف بأقدارهم منا.
ليتني استطعت أن أعمل قبرك بيتا جميلا ذا نوافذ، أفرشه بالسجاد، وأضع فيه آلة الراديو تسمعك الأناشيد التي تحبينها!
ليتني استطعت أن أعمل بوصية صديقنا الطيب الكريم الرقيق القلب الدكتور منصور فهمي، فقد كتب إلي يقول:
إذا استطعت أن تجعل حجارة قبرها ذهبا فافعل.
آه! لو كنت أستطيع! (10) سنتي الماضية 1939
لك الويل يا سنتي الماضيه!
لك الويل من سنة جانيه!
لقد كنت، مذ كنت بين السنين،
على بيتي الضربة القاضيه
مشيت إليه على غرة
وليتك ما كنت بالماشيه!
مشيت إليه ففجعتني
بربته الدرة الغاليه
بمهوى فؤادي، بعنوان فخري،
بموضع أنسي، بآماليه
كأنك غاظك ما نحن فيه
من الصفو والعيشة الراضيه
نبث السرور هنا وهناك
ونحسو كئوس الهنا صافيه
فزعزعت أركانه الراسيه
وضعضعت جدرانه العاليه
وأطفأت أنواره الساطعات
وصوحت أزهاره الزاهيه
وهذي القلوب غدت داميه
وهذي العيون غدت باكيه •••
ألا! إن ذا لم يكن في حسابي
ولم يك يخطر في باليه
فيا ليتني كنت في الذاهبين!
ويا ليتها كانت الباقيه! (11) كيف كنت وكيف صرت
كيف قدر لي أنا الذي كنت أوزع السرور توزيعا ذات اليمين وذات اليسار، فلم يكن أحد يلقاني إلا وأنا هاش باش.
أنا الذي كنت أجدد شبابي كل يوم: أستحم بالماء البارد، وأمارس ألعابي الرياضية، وأراعي كل الشرائط الصحية، فكنت أزداد كل يوم قوة ونشاطا وسرورا.
أنا الذي كنت لا أمشي إلا مرحا، ورأسي يكاد يمس السماء سرورا لا خيلاء.
أنا الذي كنت من أسعد خلق الله أينما كنت، وعلى كل حال، حتى في أيام الحرب الكبرى، حين كان الواحد منا لا يخرج من بيته ومن أمله الرجوع، ولا يمسي ومن أمله أن يصبح، في تلك الأيام السوداء التي زرت فيها السجون، محكوما علي بالموت بجريرة غيري، كنت أبث السرور، وأطمئن الخواطر القلقة، وأعزي النفوس المحزونة، وأشجع القلوب المروعة.
كيف قدر لي أن أتلقى هذه الضربة القاضية فيتحول سروري إلى نواح مستمر؟!
ألا! من شاء أن يتعلم الحزن والنواح فليأت إلي. (12) الحزن قديم
يظهر أن الحزن قديم، فما من لغة إلا فيها من ألفاظ الحزن والبكاء شيء كثير. ولعل اللغة العربية أغنى اللغات في هذا الباب. وليس الحزن والبكاء ضعفا، بل أعتقد أن الأمة التي لها قلوب ولا تتأثر لهي أمة ضعيفة قليلة الحيوية، وليس هذا التجلد الذي نتكلفه تكلفا إلا وسيلة إلى قتل الحيوية هذه، وإذا فقدت الأمة حيويتها فأي فرق بينها وبين الجماد؟
أعيذك يا أم سري وأعيذ نفسي أن أكون أمام مصيبتي فيك جمادا!
المعلمة. (13) أرغمت يا موت أنوف القنا
تحاول الدنيا أن ترغمني على التسليم، أن أقول كما يقول الناس: هذه حالة الدنيا، أن أتعزى بما يتعزون به، أن أقابل مصيبتي بمصائب غيري، أن أقنع بالخيال والرسوم والرموز، بل تحاول الدنيا أن تعيدني طفلا أتعلق بكل حديث خرافة، فأتمرد عليها.
مثلي مثل أسد يؤتى به من عرينه، ويوضع في قفص، فيمد إليه رائضه هراوة، فينقض عليها، ويحطمها بأنيابه، فيمد إليه أخرى فأخرى إلى أن يكل الأسد ويمل من تحطيم الهراوات؛ فإذا مد إليه هراوة بعد ذلك انكفأ إلى جانب في قفصه ذليلا!
هذا حالي مع الدنيا، فإذا سكت فسكوت ذل وانكسار.
لقد كان بيتي عريني، فجاء الموت، فحزنت، وبكيت، ثم انكسرت، فإذا عشت، وليتني لم أعش، عشت ذليلا منكسرا، وقلت مع الشاعر:
أرغمت يا موت أنوف القنا
ودست أعناق السيوف الحداد (14) المنايا العشواء، والموت النقاد
أعرف الناس بالموت هم الشعراء، وأصدق أقوالهم فيه قول زهير بن أبي سلمى:
رأيت المنايا خبط عشواء
وقول ابن النبيه:
والموت نقاد على كفه
جواهر يختار منها الجياد
رأى الأول أن الناس يموتون جزافا فوصف الموت بالناقة العشواء.
ورأى الثاني أن الموت يتخير الناس تخيرا الجواد منهم فالجواد، فوصف الموت بالبصير النقاد.
لو سلمت يا أم سري من المنايا العشواء، لم تسلمي من الموت البصير النقاد! (15) الغصة التي لا تساغ
أروح وأجيء والغصة في صدري.
أذهب إلى المدرسة، وألقي دروسي والغصة في صدري.
آوي إلى فراشي، وأقوم منه، والغصة في صدري.
أستقبل الزائرين، وأجالسهم، وأبادلهم الحديث، وأقابل الابتسام بالابتسام، وأودعهم والغصة في صدري.
أقرأ وأكتب والغصة في صدري.
لا أحاول أن أسيغ هذه الغصة إلا نشبت في حلقي.
أشبه نفسي بالمعلق من عنقه بحبل مغار الفتل في سارية، أو جذع نخلة، يحاول من حلاوة الروح، كما يقولون، أن يفلت من الحبل، على غير جدوى، وكل حركة منه تشدد عليه الخناق، إلى أن يموت. (16) لغة الموت
إذا أردت أن تعرف رأي أمة في الموت فانظر في لغتها، وإذا نظرت في ألفاظ اللغة العربية ذات العلاقة بالموت رأيت عجبا.
يقولون توفى الله فلانا، أي أخذ حقه، على اعتبار أن الإنسان حق من حقوق الله، فإذا مات فقد توفى الله حقه.
يقولون قضى فلان نحبه، والنحب هو النذر، واستعملوا النذر للموت؛ لأنه لازم في رقبة كل حيوان.
يقولون قضى فلان أجله، ومن معاني الأجل حلول وقت الدين، ولذلك استعملوا له لفظة قضى، فإذا قلنا قضى فلان أجله فكأننا قلنا قضى دينه.
يقولون غلق رهن فلان، يقال غلق الرهن إذا استحقه المرتهن فامتنع فكاكه.
وهناك عبارات أخرى لا يتسع لها هذا المقام. وأنت ترى من أكثر هذه العبارات أن الموت حق، ولست أشك أنه مر على الناس دهر طويل وهم ينكرون الموت، ولم يقولوا إنه حق إلا مرغمين. (17) علاج الحزن
كيف تعالج الطبيعة الحزن؟
يخيل إلي أن الطبيعة تمس المحزون بشيء من الجنون على قدر حزنه، ولا يعود إلى عقله إلا شيئا فشيئا، وقد لا يعود إليه، كما تعالج الألم الشديد بالإغماء.
ألا ترى المحزون كيف يقلب كفيه، أو يدق يدا بيد، أو يلطم وجهه، أو يضرب رأسه بالجدران، أو يمزق ثيابه، أو يتلفت يمينا وشمالا، أو ينتبذ مكانا قصيا فلا يكلم إنسيا، أو يهيم على وجهه؟
ألا ترى كيف يحدث نفسه، كيف يناجي الأرواح، كيف يخاطب الديار والأشجار، والليل والنهار، والرسوم والآثار، يسألها فتجيب. من ذلك قول الشاعر:
فيا شجر الخابور ما لك مورقا
كأنك لم تجزع على ابن طريف!
أنا نفسي لا أذكر كيف كنت يوم وقعت المصيبة، لا أذكر من أسرع إلينا من الأهل والأصدقاء، لا أذكر ماذا قلت، وماذا عملت، والأرجح أني لم أقل شيئا، ولم أعمل شيئا، فلو دخل غريب علينا في تلك الساعة الرهيبة لم يصدق أني أنا المصاب.
وقد أشار الشمردل بن شريك أحد شعراء الحماسة إلى هذه الحالة في قوله:
بنفسي خليلاي اللذان تبرضا
دموعي، حتى أسرع الحزن في عقلي
تبرضا دموعي: أفنياها شيئا فشيئا؛ أي: بكيت عليهما حتى قل دمعي فكأنهما قللاه، فلما قل أسرع الحزن في عقلي.
إذا صح ذلك فلا دواء للحزن في المصائب الجسام إلا الجنون. ولكن؛ لأن الناس أفسدوا طبائعهم بالكبث والتجلد والتكلف فعادت لا تسعفهم بهذا الجنون دفعا للألم أو تخفيفا له، جعلوا حين تلم بهم المصائب يفتشون عن الجنون تفتيشا، من ذلك أنهم يلجأون إلى الشراب، حتى على القبور. وقد جاء في الأدب القديم أن رجلين من بني أسد خرجا إلى أصبهان، فآخيا دهقانا بها في موضع يقال له «راوند» فمات أحدهما، وغبر الآخر والدهقان ينادمان قبره، يشربان كأسين، ويصبان على قبره كأسا، فمات الدهقان، فكان الأسدي ينادم قبريهما، ويترنم بشعر، منه هذا البيت:
أصب على قبريكما من مدامة
فإلا تنالاها ترو جثاكما
بل إن بعض المسيحيين لا يزالون إلى يومنا هذا، في هذه الصلاة التي يقيمونها على القبور، يضعون آنية الخمر عند رأس الميت، وبعد الصلاة يشرب الكاهن، ويسقي، ثم ينضح ثرى الميت بما بقي في آنيته.
مهما يكن الأمر فليس شرب الخمر على القبور ومنادمتها إلا من أمارات الجنون الذي تمس به الطبيعة المحزون. (18) أين العزاء
مهما كانت الحياة فقد ألفناها، ورضينا بها، بل إن كثيرين من الناس يقطعون الأيام تلو الأيام، بل السنين تلو السنين، وهم لا يفكرون في الحياة: أجميلة هي أم غير جميلة، أعالية هي أم غير عالية، أيسيرة هي أم غير يسيرة. لا يفكرون في تجميلها إذا كانت غير جميلة. ولا في إعلائها إذا كانت غير عالية، ولا في تيسيرها إذا كانت غير يسيرة، وما ذلك إلا لأنهم ألفوها، وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن، كما قال الشاعر.
وإذا كان هناك من لا تعجبه الحياة فإنه يتعلق بالأمل، ويحاول أن يقنع نفسه أن دوام الحال من المحال، وأن السعادة تنتظره، وأن المسألة مسألة وقت ... وإذا أبى دهره إسعافه في نفسه رضي منه أن يسعفه في من يحب ويكرم ... وإذا جهد دهره في عناده وعدائه لجأ إلى خياله يستعين به على تغيير طبائع الأشياء، وتلوين الحياة بغير ألوانها. خلاصة القول أننا ألفنا الحياة، ورضينا بها على علاتها، وأما الموت فلم نألفه، ولم نرض به، فإذا وقع فكيف العزاء؟
لقد فتشت عن العزاء في كل مظنة تفتيشا، فلم أجده. •••
لا يعزيني، وأستغفر الله، أن يكون هناك عالم آخر لا هم فيه ولا غم ولا وجع ولا تنهد يقوم إليه الناس، فتستقر بهم النوى، ويتمتعون مع أعزائهم بالخلود الجميل.
أم سري.
ما أجمل القيامة! وإذا آمن الناس بها فلا لأنهم رأوا الأموات يقومون، ولكن لأنهم يتمنون أن يقوموا، فهم يؤمنون بما يتمنون لا بما يعتقدون، كأنهم تمنوا، فكان الدين، أو كان الدين فكان ما يتمنون، وإذا فتشت وجدت أن الأديان كلها أماني، وإذا خلت الأديان من هذه الأماني فلا يؤمن بها أحد.
لا يهم الناس ما في هذا الدين أو ذاك من أصول وعقائد، بل إن أكثرهم لا يفهمون هذه الأصول، ولا يفهمون هذه العقائد، وإنما يهمهم ما في الدين من أماني، وإذا تمنوا القيامة فلا ليتمتعوا بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لا ليلبسوا تيجانا من الذهب، لا ليروا سماء من عقيق أو ياقوت أو زبرجد، ولكن ليلقوا أعزاءهم، هذه أمنية الأماني، ولكن متى تكون هذه القيامة؟! متى تكون؟ ... هذه هي المسألة التي حيرت الأفكار قاطبة ...
لقد مات المؤمنون منذ كانوا وكان الدين، ولا يزالون يموتون على رجاء هذه القيامة، ولكن طال الانتظار جدا، وأي رجاء يعيش مع هذا الإبطاء.
ثم ألم يكن أقرب إلى رحمة الله أن يجعل عالمنا هذا مثل ذلك العالم الآخر لا غم فيه ولا هم ولا وجع ولا تنهد ولا موت، فنكفي هذا الشقاء؟!
ومع ذلك فقد كان من المنتظر أن يهون الدين الموت على الناس، على الراحلين والمقيمين منهم، ولكن الذي نراه أن أشد الناس تدينا وتشوقا إلى ملكوت الله لا يزالون يؤثرون هذه الدنيا التي يصفونها بأنها وادي البكاء على تلك الجنة التي وعد بها المتقون، يؤثر الأب أن يكون ولده معه على أن يكون في صفوف الملائكة، ويؤثر الزوج أن تكون امرأته معه على أن تكون في جوار ربه.
بل إن المسيح الذي قال إن مملكته ليست من هذا العالم، والذي ازدرى الدنيا، وعاش فيها معيشة الزاهدين، والذي أعلن أنه ابن الله، وأنه إذا ارتفع إلى السماء جلس عن يمين أبيه، إن المسيح نفسه في ساعاته الأخيرة دهش، واكتأب، وقال:
يا أبا الآب كل شيء مستطاع لك فأجز عني هذه الكأس.
لا يعزيني قول الفلاسفة إن الموت ليس فناء، ولكنه استحالة وتغير، وأن الجوهر لا يفنى وإنما تبطل الأعراض والنسب والإضافات.
وأن الموت تمام حد الإنسان لأنه حسب تعريفهم «حي ناطق مائت» فالموت تمامه، والواجب على العاقل أن يستوحش من النقصان، ويأنس بالتمام.
وأن كل كائن فاسد لا محالة، فمن أحب أن لا يفسد فقد أحب أن لا يكون، ومن أحب أن لا يكون فقد أحب فساد ذاته، فكأنه يحب أن يفسد، ويحب أن لا يفسد، ويحب أن يكون، ويحب أن لا يكون، وهذا محال.
لا يعزيني قولهم إن هذا العدم الذي نخاف أن نصير إليه هو مثل العدم الذي كنا فيه، فإذا كنا لا نخاف من الأول، فلماذا نخاف من الثاني.
لا يعزيني قولهم إن الموت ليس برديء، وإنما الرديء هو الخوف منه.
لا يعزيني قولهم إن الحزن غير طبيعي ولا ضروري.
لا يعزيني قولهم إن ألم الموت لا يزيد عن ألم الأمراض التي تتقدمه، وتؤدي إليه، وأن الحي إذا حل به الموت بطل حسه وألمه، نعم ولكن أهله يحسون ويتألمون، فإذا أبطلتم حس الميت فأبطلوا حس الحي لو كنتم تقدرون.
ومع هذا لم نر، ولم نسمع أن هذه الفلسفة هونت الموت على أحد، حتى الفلاسفة أنفسهم، وإذا كانت تهونه فهل كل الناس فلاسفة؟ •••
لا يعزيني أن ألجأ إلى خيال الشعراء: أن أنظر إلى مكانك، فأتخيل أني أراك.
أن أروح وأجيء، فأتخيل أنك معي.
أن أتمثلك في ندى الصباح، في زهر الحديقة، في نجوم السماء، في كل معنى لطيف رائق، في كل شكل أو لون جميل رائع.
أن أسمعك في زقزقة العصافير، وبغام الظباء، وسجع الحمام، وهينمة النسيم.
أن أتناول التلفون فأتخيل أني أخاطبك، وأني أسمعك وأنك تسمعينني.
ما أحرى هذا الخيال أن يجدد الحزن، ويزيده! وإلا فما بالنا نرى أن الشعراء أنفسهم أشد الناس حزنا وبكاء؟ يسلو الناس وهم لا يسلون، ويصبر الناس وهم لا يصبرون! •••
لا يعزيني أن أتذكر أيام السعادة، أيام كان الزمان غلامنا، أيام كنا نطوف بأكناف السحاب المخيم. أيام كنا نوزع السرور توزيعا.
أيام كنا نتساقى أكؤس الصفو ملاء، أيام كنا نبني علالي وقصورا في الهواء، أيام كنا سعداء! أيام كنا سعداء!
لا أذكر تلك الأيام إلا ثارت أشجاني وأحزاني. •••
ولكن الناس يتعزون ويعزون، فبم يتعزون ويعزون؟
يقولون لقد استراحت، ومن قال لكم إنها كانت تشتاق إلى هذه الراحة؟
يقولون إن الحزن يكون شديدا في أوله، ثم يخف شيئا فشيئا.
أيها الناس!
إن الحزن هو أثر المصيبة لا المصيبة نفسها، فإذا خف أو زال، فهل تخف المصيبة أو تزول؟ الحزن هو الألم لا المرض، فهل يزول المرض إذا عالجنا الألم بالمكمدات؟ ألا تكون المصيبة في عرفكم مصيبة إلا إذا كانت بنت ساعتها، فإذا مر عليها زمان قصير أو طويل بطل كونها مصيبة؟ أإذا عميت فلا أكون أعمى إلا في اليوم الأول، ثم أعود بصيرا؟!
يقولون كل شيء يكون في أول أمره صغيرا، ثم يكبر، إلا المصائب فإنها تكون في أول أمرها كبيرة، ثم تصغر.
وهذا الكلام لا أفهمه أيضا. لنأخذ مصيبتنا، لقد كانت كبيرة تجاوز طاقتنا لأننا فقدنا أم سري، فهل يظهر لنا بعد حين أننا كنا واهمين، أن أم سري لم تكن ربة الدار، وموضع الأنس، وذات العقل الراجح، والقلب الكبير، والخلق العذب، والجمال النادر، وأنها لم تكن الزوجة الفاضلة، والأم الرؤوم، والصديقة البارة؟!
هل يظهر لنا أنها لم تكن على شيء من هذا، فتصغر المصيبة فيها شيئا فشيئا إلى أن تزول؟!
لا لا، بل الواقع أن الأمر على خلاف ذلك. تقع المصيبة، فيصاحبها شيء من الذهول أو الجنون، فيظن أنها صغيرة. ولكن إذا ذهب الذهول، أو الجنون ظهرت بمظهرها الصحيح، فكأنها تتجدد كل يوم؛ كما تصيب المرء ضربة شديدة، فلا يحس بها في أول أمره، ولكنه لا يلبث أن يحس بالألم، ولا يلبث الألم أن يزداد.
يقولون من رأى مصيبة غيره هانت عليه مصيبته، كأنه لا يكفي أن يصاب الإنسان حتى يكلف أن يستصغر مصيبته.
أيها الناس!
لا دخل لمصيبة الواحد في مصيبة الآخر؛ فكل واحد مصيبته على قده.
يقولون مهما عظمت المصيبة فما أحرانا أن نكون شاكرين لأنها لم تكن أعظم. كأنه لا يكفي أن نصاب، ولكن يجب أن نقبل اليد التي ضربتنا لأن ضربتها لم تكن أشد!
إذا ضربني أحد على عيني ففقأها يجب أن أقبل يده لأنه لم يفقأ عيني الاثنتين.
إذا ضربني أحد فكسر يدي يجب أن أقبل يده لأنه لم يكسر يدي الاثنتين.
إن هذا هو الذل الذي ليس بعده ذل، إنه لأهون علي أن تنصب علي المصائب انصبابا من أن أقف موقف الذل هذا.
ألا! أنا لا أختار تقبيل اليد التي تضربني ولو كانت يد زفس! (19) الصبر الصبر
يقولون: الصبر الصبر.
مرت بي شدائد كثيرة كانت مستحكمة الحلقات، فصبرت عليها إلى أن فرجت، وكنت أظنها لا تفرج.
حين كنت في أميركا صبرت على ما لا يطاق، وقد كنت حريا أن أرجع من اليوم الأول، وأكفي نفسي مؤونة الفراق، ومع شدة ما كنت أعاني من الأشجان والأشواق رددت النفس على مكروهها، وصبرت إلى أن جاء الفرج.
وحين أخذت من بيتي في أثناء الحرب الكبرى إلى السجن بجريرة غيري، ولم أشك أنني محكوم بالموت، ثم أخذت إلى درعا مكبلا ماشيا، ثم في القطار إلى دمشق حيث أودعت السجن لمدة غير قليلة أنتظر تنفيذ الحكم، ثم خرجت من السجن، فقضيت نحو السنة في دمشق لا أعرف عن ذوي، ولا يعرفون عني شيئا، في تلك الأيام العصيبة الرهيبة صبرت إلى أن جاء الفرج.
وأما الآن فما معنى الصبر، وأي فرج أرجو منه؟!
نعم، لا يكون الصبر صبرا إلا إذا كان هناك شوق أو ألم، ولكن من الجهة الأخرى لا يكون الصبر صبرا إلا إذا كان هناك رجاء، وإلا فلا معنى للصبر، ولا فائدة منه.
ربة الدار.
ولقد أراك كسيت أجمل منظر
ومع الجمال سكينة ووقار
جرير
لعلكم تعنون بالصبر أن أشتاق، فأمتنع عن الاشتياق، وأن أتألم، فأمتنع عن الألم، وبعبارة أخرى، أن لا أشتاق، ولا أتألم. إذا كان هذا الصبر الذي تعنون فليس إليه من سبيل.
أتريدون مني أن أنسى أم سري؟!
والله لو كان عندي طير فمات لبكيته، فكيف لا أبكي سيدتي؟
والله إني لأخجل من نفسي أن أكتفي في مصيبتي هذه بالبكاء، كان يجب أن ألطم وجهي ، وأضرب رأسي بجدران غرفتي، وأعقد المناحة إثر المناحة، بل كان يجب أن أنسحب من الدنيا، وأهيم على وجهي إلى أن ألقى حتفي.
ألا! لست في حاجة أن يوصيني أحد بالصبر، وإنما أنا في حاجة إلى من يشاركني في البكاء، فإذا لم تشاركوني في البكاء، وأم سري أحق من مات بالبكاء، وإذا قبح بكاء ميت رأيت بكاءها الحسن الجميل، كما قالت الخنساء في بكاء أخيها صخر، إذا لم تشاركوني في البكاء، فدعوني وشأني.
أجل سلطانة، وأجل نفسي أن أستكثر عليها هذا الألم، وهذا البكاء، وفي أول فرصة أكف عن الشعور بالألم، وأكف عن البكاء، أعد نفسي خائنا دنيئا، فأقول مع الشاعر:
وحق هواك خنتك في هواك.
أي صبر أعظم من الصبر على الألم والبكاء؟!
إذا أردتم أن تتعلموا الصبر فمني.
وأما الصبر الذي تتكلمون عنه فما أقل حظي منه!
إني لأستغرب، وقد خسرت سيدتي أم سري، وهي الجوهرة النفيسة المضنون بها، أن توصوني بالصبر القبيح.
جهلتم وقد يستصغر الأمر جاهله! (20) كأنك خلقت من المسك والذهب المصفى
لم أخترك يا أم سري لأنك أول من لقيت في طريقي، فقد عشت منذ خرجت من المدرسة في جو بهيج كانت أجمل فتيات ذلك العصر وأرقاهن كواكب لامعة فيه.
لم أخترك وأنا غرير لا أفهم الجمال، ولا أدري ما هو، فقد أنفقت أوقاتي على البحث عنه: قرأت الكتب، زرت المتاحف والمعارض وهياكل إلاهات الجمال حيث رأيت الجمال ممثلا: مصورا، أو مسبوكا، أو منحوتا، ولو كانت هناك جامعة، وكان فيها كرسي لإلقاء دروس في الجمال لكنت أجدر من يتبوأ ذلك الكرسي.
لم أخترك وأنا صغير النفس أرضى من الدنيا بالنصيب الأخس، فقد خلقت كبير النفس عزيزها، بل كدت أجاوز الحد في إكبار نفسي وإعزازها.
فإذا اخترتك بعد أن رأيت وسمعت وعرفت ورويت فلأنك كنت فوق ما تحدثني به نفسي، وتتمثله أماني.
الجمال عندي نوعان: جمال شائع وجمال نادر. وقد كنت من ذوات الجمال النادر جملة وتفصيلا، ولو كنت في زمان اليونان القدماء لجعلوك في مكان «أفروديت »، وكأني عملت حين اخترتك بوصية «نيتشه» الفيلسوف الألماني، وهي «تزوج أجمل فتاة».
على أن جمالك لم يكن الشيء الوحيد الذي راعيته في اختياري لك، وإنما هناك جمال نفسك من أخلاق عالية، وآداب رائعة، وثقافة واسعة، وسكينة، ووقار، فكأنك خلقت من المسك والذهب المصفى.
لقد كنت موضع إعجابي واحترامي، وموضع إعجاب كل من عرفك واحترامه. •••
ولعلك لم ترضي بي، يا أم سري؛ لأني كنت أول من طلبك، فقد تقدمني كثيرون، وكلهم من الطراز الجديد المثقف، ولكن لأني كنت أعرفهم بقدرك، وأشدهم إعجابا بك، وحبا لك، وكأن ابن الفارض يخاطبك بلساني حين قال:
ما رأت مثلك عيني حسنا
وكمثلي بك صبا لم تري
نسب أقرب في شرع الهوى
بيننا من نسب من أبوي
ولقد كانت حياتنا الزوجية على ما كان يعترضها من فترات فراق وقلق، رواية جميلة، بل أوبرا مستمرة، بل عيدا سعيدا، بل مثلا أعلى في السعادة. ولولا أني أجل نفسي عن السخف لقلت: إن الناس حسدونا يا سلطانة، ودعوا بأن نغص فقال الدهر: آمين. (21) كلمات
1
كل ما ندعيه من حب على اختلاف أنواعه ودرجاته ليس صحيحا. يموت أعز الناس على الناس، فلا يعدو ما يجدونه من الحزن لموتهم ما يجدونه من الحزن لضياع أداة من أدوات ترفهم، أو لخسارة ضئيلة تحل بتجارتهم؛ بل قد تجد من الناس من إذا خسرت تجارته، أو أضاع منصبا عاليا كان يشغله، جن، أو انتحر، أو مات كمدا.
إذا كانت هذه قيمة الناس عند الناس، فيا موت زر!
2
كنت أظن أني أحب الحياة، فإذا بي أحبك أنت لا الحياة، فلما غبت عني أصبحت الحياة في نظري شيئا تافها لا قيمة له، وما هذه الحياة؟
نسير فيها من الطفولة إلى الشيخوخة، من الصحة إلى المرض، من الازدهار إلى الذبول، من النشاط إلى الكلال، من الأمل إلى اليأس، من السرور إلى الكآبة، من الحياة إلى الموت.
أول يوم في الحياة هو أول خطوة إلى الموت. فإذا كنا نخاف من الموت فالأولى أن نخاف من الحياة؛ لأنها مجلبة الموت، وإذا بكينا لفراق الأحباء فالأولى أن نبكي من اليوم الأول لأن هذا الفراق واقع لا محالة.
3
كنت سروري، وكنت عزائي.
كان سروري مزدوجا: سروري بك، وسروري لك.
أما سروري بك فلأنك كنت لي غاية بغيتي من هذه الدنيا.
وأما سروري لك فكان حين أوفق فأدخل شيئا من السرور على نفسك.
كان عزائي بك عظيما.
إذا سعيت فأخفقت، إذا اقتنيت فخسرت، إذا نظرت إلى الدنيا فلم تعجبني، إذا توالت علي المصائب عن يميني وعن شمالي، كنت ألجأ إليك، فأتعزى.
أما الآن فلا سرور ولا عزاء.
4
خرجت من المقبرة، وإذا بجنازة وراءها جمهور كبير من المشيعين، وقد أخذت بعض النساء بيدي امرأة قد تكون أما، أو أختا، أو زوجة، وهي تبكي بكاء مرا يفتت الأكباد، فخنقتني العبرة، وانضممت إلى المشيعين وأنا أحسب نفسي ماشيا في جنازتك.
لا أرى جنازة يا أم سري إلا حسبتها جنازتك، ولا أرى قبرا إلا حسبته قبرك، كأني ذلك الشاعر الذي قال:
فقلت له: إن الأسى يبعث الأسى
فدعني فهذا كله قبر مالك
5
ليت أنا نستطيع أن نحتكم في ما نذكر، وفي ما ننسى، فلا نذكر إلا ما يسرنا، ولا ننسى إلا ما يؤلمنا، فتكون لنا ذاكرة نوعية تذكر شيئا ولا تذكر شيئا آخر، ويكون لنا نسيان نوعي ننسى نوعا من الحوادث ولا ننسى نوعا آخر، كما يصاب بعض الناس بالعمى اللوني، فيرون لونا ولا يرون لونا آخر، أما ونحن لا نستطيع أن نحتكم في ما نذكر وفي ما ننسى فحياتنا آلام في آلام.
في قمة الحياة.
6
إذا كانت الأدوار التي مر بها البشر ثلاثة: دور المعدة، ودور القلب، ودور العقل. فيا ليت البشر يرجعون إلى دور القلب، بل إلى دور المعدة! ذلك خير لهم من أن يصلوا إلى دور العقل الجاف القاسي، بل يا ليت البشر، وقد وصلوا إلى دور العقل، يخلصون من دور القلب فهو موضع الإحساس، وأما أن تكون لنا قلوب تحس، وعقول تهزأ بهذا الحس فما أشقانا!
7
تختم الصلاة على الميت في الكنيسة الأرثوذكسية بنشيد يترنم به قسيس أو غيره بالتحزين باسم الميت يودع به الناس والدنيا، فتنهمل الدموع، وترتفع الزفرات، ويقبل الناس على النعش يمرون من أمامه يتزودون من الميت النظرة الأخيرة، مما تنقلب به الصلاة إلى مناحة.
لا تجد مثل هذا إلا في الكنيسة الأرثوذكسية، بل يترنم أصحاب المذاهب المسيحية الأخرى بترانيم مختلفة، ولكنها أقرب إلى الصلاة منها إلى المناحة، وإذا فكرت وجدت أن الناس في مثل هذه المواقف أحوج إلى المناحة.
لا شك أن الذين وضعوا شعائر المذهب الأرثوذكسي واحتفالاته كانوا أعرف من غيرهم بطبائع البشر، بل كانوا شعراء وموسيقين كبارا، فإن ترانيم الكنيسة الأرثوذكسية لكل حفلة من أبلغ الترانيم وأرقاها، على حين تجد أن ترانيم بعض الكنائس الأخرى بسيطة، وحجتهم أنهم يربأون بصلواتهم أن تكون حفلات موسيقية.
8
لماذا نعيش؟
رأى الناس أن الحياة عبث، فضلا عما يصاحبها من الألم من المهد إلى اللحد، فحاولوا أن يجعلوا لها قيمة ليسلوا نفوسهم، ويهونوا ما يعانون من ألم، فماذا قالوا؟
قالوا: إننا نعيش لنعمر الدنيا.
ما أسخف هذا الرأي! لا عمرت الدنيا إذا كنا نعيش فنتألم فنموت.
قالوا: إننا نعيش لنتمتع بالحياة.
ما أسخف هذا الرأي! كيف يطيب لنا العيش وشبح الموت ماثل أمام العيون. ثم ما هذه المسرات واللذائذ التي نتمتع بها؟! وكم هم الذين يتمتعون بها؟!
لماذا نعيش؟! لماذا نعيش؟!
9
لا أزال أذكر أننا اختلفنا مرة في الزهور، فكنت أنت تحبينها، وحرصت على زراعتها في حديقتنا؛ لأنها تمثل بازدهارها الحياة، وكنت أنا أمقتها لأنها تمثل بذبولها الموت، فكنت تعجبين من غرابة عقلي وذوقي، وتقولين لم أر أحدا يمقت الزهور الجميلة الطيبة الرائحة غيرك.
ما الذي أوحى إلينا أن نتكلم في هذا الموضوع؟ لا فرق بيننا إلا أنك كنت تحبين الحياة وأني كنت أكره الموت.
10
ما أصدق ما قاله ابن الرومي في أمه علي فيك. فقد قال:
نبا ناظري يا أم عن كل منظر
وسمعي عن الأصوات بعدك والنغم
وصارمت خلاني وهم يصلونني
وقد كنت وصال الخليل، وإن صرم
وآنسني فقد الجليس، وأوحشت
مشاهده نفسي، ولم أدر ما اجترم
نعم، يا سلطانة، لقد نبا ناظري عن كل منظر، ونبا سمعي عن كل صوت، ولولا الحياء لصارمت خلاني وأهلي، وانزويت في غرفتي أناجيك، وأبكيك.
11
ليلة عيد الميلاد.
في مثل هذه الليلة من كل سنة كنا نقيم شجرة عيد الميلاد: نقف حولها، ونوزع الهدايا، ونغني أغاني العيد، ونلبس التيجان من الورق الملون الجميل، ونعقد حلقات الرقص، وكان كثيرون من الأهل والأصدقاء يشاركوننا في ليالينا هذه؛ ولعلنا كنا أول من مارس إقامة شجرة عيد الميلاد من الشرقيين في هذه البلاد.
كنا في بعض السنين نقضي عطلة العيد متنقلين إما في فلسطين، وإما في لبنان، وإما في مصر، فنروح ونجيء والدنيا باسمة لنا، وكأننا أمنا فجاءات الليالي.
ما كان أسعدنا، وأجمل حياتنا، لقد علمنا الناس كيف يكون الحب، وكيف يكون الوئام، وكيف تطيب الحياة!
ولكن ما أصدق قول الشاعر فينا:
وسالمتك الليالي، فاغتررت بها
وعند صفو الليالي يحدث الكدر
12
كان زواجنا رواية من أوله إلى آخره، كان حبنا حديث الناس، لم يرونا نروح ونجيء، في النهار أو الليل إلا قالوا: يحبها وتحبه، لم يروني أسير في الطريق وحدي إلا عرفوا أني ذاهب إليك، أو آت من عندك. ولم يروك تسيرين في الطريق وحدك إلا تساءلوا: أين خليل؟
وعهد الناس بالحب أن يكون في أوله حارا ثم لا يلبث أن يفتر، أن يكون قبل الزواج قويا ثم لا يلبث بعده أن يضعف، أن يكون في عهد الصبى في أعلى درجاته ثم لا يلبث إذا ذهب الصبى أن تدنو درجاته شيئا فشيئا إلى أن يزول، أن يزهو والدهر مقبل، وأن يذوي إذا اكتنفته الهموم.
أما حبنا فهو هو أمس واليوم وغدا.
13
لقد كنت يا سلطانة جوهرة نفيسة هيهات أن يجود الزمان بمثلها: أما في جمالك فكأنك باكرك النعيم فصاغك بلباقة، وأما في خصالك فكأنك خلقت كما شاء العلي لا كما تشاء الوراثة أو البيئة، فكنت في جمالك وخصالك غريبة عن الناس أجمعين.
إذا لم أكن مغترا بنفسي قلت: إني كنت أشبهك في بعض ذاك، فقد نشأت في أسرة مثل أسرتك، وفي بيئة مثل بيئتك، ولكنني كنت في أخلاقي ونزعاتي غريبا عن الناس أجمعين.
إذا لم أكن مغترا بنفسي فقد كنت أشبه الناس بك، لقد كنت غريبا في زماني كما كنت غريبة في زمانك، وإذا كان هناك من الفتيات من لم تكن تصلح إلا لي فأنت، وإذا كان هناك من الفتيان من لم يكن يصلح إلا لك فأنا.
ولكن لابد لي أن أعلن هنا أنك كنت فوق قدري.
14
لقد ملأت يا أم سري حياتي كلها.
كنت أظن إذا مات الواحد خلا مكانه فإذا أنت ملء الوجود: لا أروح ولا أجيء، لا أقيم ولا أسافر إلا رأيتك، فكأنك موجودة في كل مكان.
كنت أظن أن للحياة أولا وآخرا، فإذا أنت ملء الزمان: إذا رجعت في الزمان إلى الوراء، أو ذهبت فيه إلى الأمام فأنت معي.
لا يحتويك مكان دون آخر، ولا زمان دون آخر.
أنت ملء المكان والزمان.
خليل السكاكيني
القدس 3 / 4 /1940
Unknown page