Lessons by Sheikh Al-Albani
دروس للشيخ الألباني
Genres
الابتداع في دين الله [١]
في هذه المادة تحدث الشيخ عن لفظة: (خلاف فقهي) فبين معناها، مع ذكر ضوابطها، ثم بعد ذلك تكلم عن الابتداع في الدين رادًا على من قال: بأن في الدين بدعة حسنة، مع ذكر أدلتهم والرد عليها.
1 / 1
ضوابط الخلاف الفقهي
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
السؤال
ما رأيكم في هذه العبارة التي قررها كاتب إسلامي كبير، قال هذا الكاتب: والبدعة الإضافية والتّركية، والالتزام بها في العبادات المطلقة خلاف فقهي، لكل فيه رأيه، ولا بأس بتمحيص الحقيقة بالدليل؟
1 / 2
الضابط الأول: عدم الإنكار على المخالف في الفروع الفقهية
الجواب
جوابًا على هذه العبارة أقول: لا شك أن المسائل الخلافية ينبغي ألا يشتد الخلاف فيها، بحيث أن المختلفين يتخاصمون من أجل الخلاف؛ ذلك لأن الخلاف أمر طبيعي، أي: من السُنن الكونية التي فرضها الله ﷿ على الناس فرضًا، ولو استطاعوا أن يكونوا كلهم على فكرة واحدة ورأي واحد لاستحال ذلك عليهم، لكن ليس مستحيلًا أبدًا أنهم حينما يختلفون فيما لابد من الاختلاف فيه، ألا يحملهم هذا الاختلاف على التباغض والتباعد والخصام والتعادي، فهذا بالإمكان ألا يقعوا فيه، وأسوتهم في ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهم كما سمعتم في الحديث السابق: (خير الناس قرني) فهم خير الناس من بعد الرسول ﵊، وإخوانه من الأنبياء المتقدمين.
فأقول: إن هؤلاء الصحابة اختلفوا في مسائل كثيرة، ولكن نلاحظ أن هذا الاختلاف لم يتعد الخلافات التي يسمونها بالفروع الفقهية، ولم يتعد إلى الاختلافات الاعتقادية الفكرية، وهذا من فضل الصحابة.
فهؤلاء لما اختلفوا في بعض المسائل الفقهية لم يعاد بعضهم بعضًا، مثلًا: منهم من تمسك بقول الإمام أبي حنيفة، فقال: خروج الدم ينقض الوضوء.
وفيهم من تمسك بقول الإمام الشافعي فقال: مس المرأة ينقض الوضوء.
ونحو ذلك من الاختلافات، ولكن هل وصل الأمر بذاك الصحابي الذي يرى بأن خروج الدم ينقض الوضوء باجتهاد منه، ألا يصلي وراء أخيه الصحابي الذي يراه توضأ ثم خرج منه دم ولم يعد الوضوء كما نفعل نحن اليوم؟ الجواب: لا والله، لم يؤدِ بهم الاختلاف إلى هذا الشقاق وهذا التنازع والتنافر.
إذًا: إذا كان لابد من الاختلاف؛ لأن الله فرض ذلك على الناس، بسبب أنه جعل لكل منهم طاقة فكرية وعلمية خاصة به، تختلف عن طاقات الآخرين.
نقول: هذا الخلاف أمر طبيعي وفطري لابد منه، ولكن ينبغي ألا يكون هذا الاختلاف سببًا للنزاع والشقاق، ومنه هذا الذي نهى عنه ربنا ﷿ في قوله: ﴿وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الروم:٣١-٣٢] هذا الذي نهى عنه ربنا ﷿، لكن لم ينه أن الإنسان لاجتهاده إذا وصل إلى رأي خالف فيه رأي الآخر، ولم يصدم برأيه نصًا، كما يفعل المتأخرون المقلدون اليوم.
هذه ضابطة لابد منها قبل الدخول للإجابة عن السؤال مباشرة.
1 / 3
الضابط الثاني: حقيقة المخالف ودرجته العلمية
ضابطة أخرى: الذين قد يختلفون من هم؟ هذه نقطة مهمة جدًا لنفهم الجواب عن هذا السؤال.
إن الكاتب المشار إليه يقول: البدعة الإضافية والتركية والالتزام بها في العبادات المطلقة خلافٌ فقهي.
الخلاف الفقهي هل هو إذا كان هناك مجتهد بل مجتهدون لهم رأي متفقون عليه، ثم جاء بعض المقلدين فبنوا رأيًا لهم، ثم جاء بعض المتأخرين فقالوا: الخلاف فقهي.
وهذا تعبير غير علمي صحيح، فالخلاف الفقهي هو الذي يكون مداره بين الأئمة المجتهدين، الذين هم في أنفسهم -قبل أن يشهد لهم الناس- يشعرون بأنهم قد بلغوا من المنزلة في العلم تمكنهم بأن يقول أحدهم: أنا أرى كذا، أنا أفهم كذا.
ثم شهد الناس -فيما بعد- لهم بأنهم قد وصلوا هذه المرتبة، وهذه الشهادة ليست هي التي بررت لهم ذلك، وإنما هذه الشهادة تكشف عن حقيقة ما وصلوا إليه من المرتبة في العلم.
أما إذا كان الذين اختلفوا أو خالفوا ليسوا من المجتهدين في واقع أنفسهم، بل هم يصرحون للناس بأنهم ليسوا كذلك، بل وأكثر من ذلك يفخرون بأنهم ليسوا مجتهدين، وإن كانوا لا يفصحون هذا الإفصاح، لكننا إذا فسرنا قول بعضهم حينما يفخرون بأنهم مقلدون، فتفسير ذلك أنهم يفخرون بأنهم غير مجتهدين، ولا فرق حين ذلك في التعبير إلا فرقًا لفظيًا، كذلك الفرق على مذهب الحنفية، أو عند الحنفية.
المعنى واحد، فهؤلاء الذين يفخرون بأنهم مقلدون، ذلك يساوي أنهم يفخرون بأنهم غير مجتهدين، وهذا يساوي في نهاية المطاف أنهم يفخرون بأنهم غير علماء، وهذا يساوي أنهم جهال.
1 / 4
مدى صحة القول بأن هناك بدعة حسنة ومن قال به
إذا عرفنا هذه الحقيقة، ولا مجال لأحدٍ أبدًا إلى إنكارها، حينئذٍ أين هذا الخلاف الفقهي؟ من هم الأئمة المجتهدون الذين قالوا بأن هناك في الدين بدعة حسنة؟ أما أن هناك مِن المقلدين من استدل على ما ذهب إليه من استحسان البدعة في الدين واحتج برأي إمام، فأبدًا لا يوجد لديهم أثر واحد عن إمام من الأئمة المجتهدين، لا سيما حينما يحصرون الأئمة الأربعة فقط.
إذًا: غرضي من هذا لفت النظر إلى أن هذا الكاتب لم يكن تعبيره تعبيرًا علميًا دقيقًا؛ لأنه حشر في جملة العلماء هؤلاء المقلدين الذين هم يتبرءون من أن يكونوا من العلماء، هذا لازمهم شاءوا أم أبوا، وما دام أنهم يعترفون بأنهم مقلدون فهم ليسوا بعلماء، وهم يقولون ذلك.
ما هي وظيفة المقلد؟ هذه حقائق نستطيع أن نجابه بها أكبر مقلد، إذا كان هناك مقلد -كبير أو صغير- فنقول حينذاك: الذي يزعم بأن في مسألة الابتداع خلافًا فقهيًا، فمن هم العلماء والفقهاء حقيقة الذين قالوا: إن البدعة في الدين تنقسم إلى بدعة حسنة، وإلى بدعة سيئة؟ هذه واحدة.
والأخرى نطالبهم بالإتيان ببعض الأمثلة مما استحسنها وابتدعها أولئك الأئمة الذين يزعمون أنهم يتمسكون بأقوالهم، لو سألنا اليوم مشايخ التقليد: هاتوا مثالًا من البدعة الحسنة، لملئوا كتبًا ومجلدات لإحصائها، كثيرة وكثيرة جدًا، فهاتوا عشر بدع فقط عن إمام من أئمة المسلمين الذين تنتمون إليهم قال: هذه بدعة حسنة، وليس عليها دليل من الكتاب والسنة؛ لأن هنا تفصيلًا ذكرناه مرارًا، ليس كل شيء حدث مجرد حدوث ووقوع بعد الرسول يكون بدعة، وإنما هذا بشرط: ألا يكون عليه دليل من الكتاب والسنة، ومن هنا يخطئ المتأخرون الذين يذهبون إلى تقسيم البدعة إلى خمسة أقسام، فيقولون: بدعة فرض: ومثالها: جمع القرآن -عياذًا بالله- جمع القرآن بدعة؟! لماذا يقولون هكذا؟ لأن الجمع وقع بعد الرسول ﷺ، الجمع الصوري بكيفية معينة وقع بعد الرسول، مثل: الطباعة الآن، الطباعة ما كانت في زمن الرسول، فما نسميها بدعة، وهذه لها فصل وباب خاص في علم الأصول هو باب: المصالح المرسلة، فهذا من المصالح المرسلة، فيقولون: جمع القرآن بدعة، ويقولون: جمع عمر بن الخطاب الصحابة على التراويح بدعة، وقد يقولون -أقول هذا بتحفظ- إخراج عمر بن الخطاب اليهود من خيبر بدعة، مع أن هذه الأشياء عليها نصوص صريحة، التراويح تكلمنا عليها مرارًا وتكرارًا، فقد سنها الرسول بفعله، وحض عليها بقوله، وقال للذي يصلي صلاة القيام في رمضان مع الإمام وصلاة الفجر مع الإمام فكأنما قام الليل كله، مع ذلك يقال: إن جمع الناس على التراويح بدعة! فهذا أحد شيئين: إما أنهم يجهلون هذه السنن فيسمونها بغير اسمها، وهذا موضوع ينزع من البعيدين عن التفقه بالكتاب والسنة، أو إنهم -وهذا خير الظنين بهم- يسمونها بذلك مجازًا كما وقع من بعض السلف، فـ عمر بن الخطاب -مثلًا- سمى التراويح بدعة حين قال: [نعمت البدعة هذه]، وهو لا يعني البدعة التي أطلقها المتأخرون: بدعة في الدين، وهو إحداث عبادة على غير مثال سابق، لا من فعله ﵊ ولا من قوله.
إذًا: في هذه الجملة: خلاف فقهي، تسامح في التعبير؛ لأن هذا الخلاف ليس قائمًا بين المجتهدين، وإنما هو قائم بين المجتهدين والمقلدين، والمقلد لا رأي له بشهادتهم أنفسهم، فلا قيمة لقول أحدهم في رأيه واجتهاده أبدًا.
1 / 5
الأدلة على تحريم الابتداع في الدين
بعد تحرير الكلام على هذه الجملة: (خلاف فقهي) وأنه لا يسع أن يقال في مسألة الابتداع في الدين: اختلاف فقهي؛ لأن هذا خلاف حادث، ولا قيمة لخلاف حادث مخالف لاتفاق سابق، فالصحابة كلهم متفقون على أن البدعة في الدين ضلالة.
1 / 6
أولًا: قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم)
ونحن نبدأ الآن وبشيء من الإيجاز الممكن: نحن نعتقد أن الابتداع في الدين -وليس في الدنيا- ينافي نصوصًا من الكتاب والسنة، وقوله ﵎ في الآية المعروفة: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة:٣] لا يحتاج إلى بيان وتفسير، إلا أن الآية تعني أن الإسلام تام لا يحتاج إلى استدراك، لا سيما فيما يتعلق بالعبادات المحدودة النطاق، العبادات التي يريد الإنسان أن يتقرب بها إلى الله ﷿؛ أقول هذا لأن المعاملات واسعة جدًا، ففي اليوم الواحد تحدث حوادث تحتاج إلى أحكام، وهذا الأحكام لا يعرفها إلا أهل الاجتهاد في كل زمان، فهذه ليست محدودة، أما العبادات التي كانت في زمن الرسول ﵊ وتوفي عنها فلا تقبل الزيادة إطلاقًا؛ لأن الرسول قال: (ما تركت شيئًا يقربكم إلى الله إلا وأمرتكم به)، فما أخفى عنا شيئًا، لذلك الآية السابقة: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» [المائدة:٣] هي نص قاطع في موضوع الابتداع في الدين.
من هنا يظهر لكم علم أحد الأئمة الأربعة الذين ينتمي إليهم جماهيرنا اليوم حين قال: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا ﵌ خان الرسالة، اقرءوا قول الله ﵎: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة:٣] قال: فما لم يكن يومئذٍ دينًا لا يكون اليوم دينًا.
نحن نقول هكذا، فإذا أراد أحد المقلدين أن يجادلنا فبالله عليكم بماذا يجادلنا؟ فإن جاءنا بنقل عن إمام كما يقولون: إن أبا حنيفة قال بالاستحسان، والاستحسان لا يعني الاستحسان بمعنى الابتداع في الدين أبدًا، وإنما هو ترجيح دليل على دليل، لوجود نصها أو ما شابه ذلك كما هو مذكور في أصولهم، فالغرض إن جاءنا مقلد بقول إمام فضلًا عن قول مقلد من مشايخهم، فنقول له: إمام من أئمة السنة وإمام دار الهجرة يقول: فما لم يكن يومئذٍ دينًا لا يكون اليوم دينًا، نحن نقول: يومئذٍ لم يكن من الدين أن يصعد المؤذن المنبر وينشد ويتكلم بكلام غير جائز قبل الأذان، ما كان هذا باعترافهم، لذلك يسمونها بدعة، أي: حدثت لكنها حسنة، ولا أيضًا ما أضافوه بعد الأذان من الصلاة على الرسول ﵇، ومن أشياء أخرى أيضًا يضيفونها، كل هذا وهذا لم يكن.
فـ مالك يقول: فما لم يكن يومئذٍ دينًا لا يكون اليوم دينًا، إذًا: أذن كأذان بلال وغيره من مؤذني الرسول ﷺ.
سوف يقول: أنا مذهبي هكذا دعك أنت ومذهبك، فلماذا تجادل بالباطل وبالجهل؟ تريد أن تبحث على ضوء الكتاب والسنة تعال إلى الكتاب والسنة، هذه أول آية، وهذا تفسيرها ل إمام دار الهجرة، الذي بينه وبين الصحابي واسطة واحدة، مالك عن نافع عن ابن عمر، وعاش في عقر دار السنة المدينة المنورة، يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا ﷺ خان الرسالة، اقرءوا قول الله ﵎: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة:٣] فما لم يكن يومئذٍ دينًا لا يكون اليوم دينًا.
لكن مالك ﵀ جاء بخاتمة قاسمة في الجملة، التي تستحق أن تُكتب بماء الذهب -كما يقولون- ونحن نعتبر هذه الجملة من منهجنا في الدعوة، بينما الذي يقول هذا الكلام وغيره لا يرفعون لهذه الجملة وزنًا، يقول مالك: ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
فهل صلاح هذه الأمة بأن تتقرب إلى الله بمئات بل ألوف من البدع؟! يستحيل هذا! وهو من باب:
وداوني بالتي هي داء
العبادات التي شرعها الله هي معالجة لأمراض نفسية، قد يشفى بها بعض الناس وقد لا يشفى جمهورهم، فتأتي هذه التشاريع الإلهية الحكيمة كمرهم وعلاج لهذه الأمراض النفسية.
وعلى العكس من ذلك؛ حينما نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ونقيم البدعة مقام السنة، زدنا مرضًا على مرض، بحيث أننا نصل إلى اليأس من الشفاء، لذلك فمن منهجنا نحن الدعاة إلى الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح: -الذي يدل على هذا المنهج- كلمة الإمام مالك هذه: ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وتأكيدًا لما نقول؛ فهناك جماعات إسلامية كثيرة وكثيرة جدًا، فهل هناك جماعة تسعى لتنوير بصائر المسلمين، لكي يهتدوا بهذا المنهج السليم، وهو أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها؟
الجواب
لا يوجد -مع الأسف- جماعات إسلامية، لا اسمها ولا وزنها في العالم الإسلامي يدندن حول موضوع الاتباع للكتاب والسنة، ليس اتباعًا لفظيًا، قلنا لكم مرارًا وتكرارًا: كل الطوائف الإسلامية التي بلغت ثلاثًا وسبعين فرقة أو زادت، كلها تقول: الكتاب والسنة، لكن المهم في الكتاب والسنة: أولًا: تطبيق عملي.
وثانيًا: فهم سليم لما كان عليه السلف الصالح.
فهنا يقول: إن في هذه المسألة خلافًا فقهيًا، وكل واحد وما ذهب إليه دليله.
إذًا: هذه الآية من أدلة العلماء من السلف الصالح من الصحابة والتابعين، الذين ذهبوا إلى أنه لا بدعة في الإسلام.
1 / 7
ثانيًا: حديث: (خير الكلام كلام الله وكل بدعة ضلالة)
ومما يؤكد لكم ذلك الأحاديث المشهورة التي منها ما نبتدئ بها دروسنا: (خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) .
من عجائب الأمور التي نلاحظها، والتي تؤكد لنا صحة منهجنا وخطأ منهج غيرنا: أنك لا تجد خطيبًا من الخطباء يحافظ في خطبته على هذه الخطبة، التي هي من خطبة الحاجة التي كان نبينا ﵊ يحافظ عليها دائمًا وأبدًا، لماذا؟ لأن أبسط إنسان سيقول له: من صعود الخطيب إلى خروجه من الصلاة كلها بدع وخلاف هدي الرسول، وهذا الذي أنت تدعو إليه، ولذلك الشيطان أوحى إليهم: كونوا متجاوبين، لا تكونوا متنافرين في أنفسكم، تصعد إلى المنبر تخطب: خير الكلام كلام الله، وتختمها: وكل ضلالة في النار، وأنت تقول: لا.
هناك بدعة حسنة، ورسولك يقول، وأنت تنقل عنه: (وكل ضلالة في النار) هذا تناقض، لذلك زين لهم سوء عملهم، ونشأ من شريعتهم هذه السنة التي واظب عليها الرسول ﵊.
لذلك فأنا صار عندي مبدأ: بمجرد ما أسمع خطيبًا يفتتح الخطبة بهذه الخطبة أقول: هذا لا بد، وأنا ما أقول سلفي، لكن عنده سلفية، وإلا فليس من الممكن أن يكون عنده بدعة حسنة ويأتي يخطب في الناس ويقول: وكل ضلالة في النار.
فهذا من الأحاديث الدالة على خلاف ما يراه المتأخرون المقلدة -وليسوا مجتهدين أبدًا باعترافهم- من أن هناك بدعة حسنة، ثم يتجرءون لجهلهم بل لغباوتهم ويقولون: يا أخي! هذا نص عام لكنه مخصص.
كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يقولون: ذلك مخصص.
أولًا: لا نعلم في ألفاظ الرسول ﷺ التي هي من جوامع الكلم مثل هذا التعميم ثم يدخله تخصيص، ولفظة (كل) من أصرح ألفاظ العموم والشمول: (كل بدعة ضلالة)، أقول دائمًا وأبدًا بهذه المناسبة على وزن قوله ﵊: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام) هل من الممكن أن يقول قائل: ليس كل مسكر خمر، وليس كل خمر حرام؟ مستحيل هذا الكلام! وهناك كليات كثيرة: (كل بني آدم من تراب، ويتوب الله على من تاب)، لا يمكن أن إنسانًا يقول: ليس من تراب، فأصله من تراب وكذلك قوله ﷺ: (كلكم يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى) .
إذًا: كل من أطاع الرسول ﵇ دخل الجنة.
هذه الكليات لا تقبل التخصيص، وهذه الكلية جاءوا إليها فحطموها، وقالوا: ليس الحديث على عمومه، مع أن الرسول ﵊ كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية العارف بالله حقًا، ولا أدري هل نثني عليه خيرًا حينما نصفه بما يصف غيرنا بعض كبارهم، حينما نصف ابن تيمية بأنه العارف بالله حقًا، ما ندري أنذمه أم نثني عليه! لكن إنما الأعمال بالنيات؛ لأنه حقيقة هو عارف بكتاب الله وبحديث رسول الله، يقول: رسول الله في كل خطبة جمعة فضلًا عن خطب أخرى يقول فيها: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)، تأكيدًا وتقريرًا لهذه القاعدة، ثم يأتي هؤلاء في أبسط حماقة ويقولون: لا.
هذه ليست عامة، ولا مرة يقول الرسول ﵊ ما كل ضلالة بدعة، فهو دائمًا يؤكد، وتكرار الجملة العامة على اختلاف الملابسات والمناسبات من حيث الأسلوب العربي، تأكيد أن هذا الكلام -كما أنكم تسمعون- لا يقبل تأويلًا ولا تقييدًا ولا تخصيصًا إطلاقًا.
فهنا يقول: (كل بدعة) هذه كلية، وهناك يقول: (من أحدث)، أيضًا: (من): مِن صيغ العموم والشمول، ومعنى: من أحدث أي: كل من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد، والبحث في هذا طويل، ولكن أذكّر أيضًا بأثر عن صحابي جليل، كان بارزًا من بين الصحابة بحبه للرسول ﷺ وحبه لاتباعه واتباع سنته، فسر لنا الجملة الأولى: (كل بدعة ضلالة) تفسيرًا سد الطريق على هؤلاء المبتدعة، فهم يقولون: كل بدعة ضلالة، وهذا يأتي فيرد عليهم، وكأنما الله ﷿ قد كشفها عن بصيرته، ولو كنا نؤمن بالكشف الذي يقول به الصوفية وأتباعهم لقلنا: انكشف له؛ لأنه سيأتي أناس من بعدهم يقولون: هذه بدعة حسنة، وأن قول الرسول: (كل بدعة ضلالة) من العام المخصوص، كشف له ذلك فأجابهم سلفًا، فقال: [كل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنة]، فأين تذهبون يا مقلدون؟ وعلى فرض أنه أخطأ هذا الرجل وهو من كبار الصحابة، فنحن نقبل ولا نقول بالعصمة، لكن لا نرد كلام الصحابي الواحد -فضلًا إذا كانوا أكثر- بمجرد أن يرد عليه مقلد، بل ولو كان مجتهدًا إلا بالدليل، فكيف ذلك وهناك من الصحابة من يقول وهو حذيفة بن اليمان: [كل عبادة لم يتعبدها أصحاب الرسول ﷺ فلا تعبدوها]، عدوا العبادات التي يفعلها الناس اليوم، واطلبوها من كتب التقليد وليس كتب السنة، سوف لا تجدون لها ذكرًا، لماذا؟ لأن المقلدين -أنفهسم- الذين هم علماء بأقوال أئمتهم من قبل ما سطروا هذه البدع، وكل يوم تأتي بدعة جديدة، لماذا؟ لأن خرج البدع لا يكاد يمتلئ أبدًا، فهو واسع جدًا، والشيطان للناس بالمرصاد، كما قال ﵊ في الحديث الصحيح لما خط خطًا مستقيمًا وقرأ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام:١٥٣] خط الخط المستقيم وخط على طرفيه خطوطًا كثيرة، وقال: (هذه الخطوط للشيطان طرق، وعلى رأس كل طريق منها شيطان يدعو الناس إليه)، فشياطين الجن فضلًا عن شياطين الإنس لا يزالون أحياء يقومون بوظيفتهم، ولذلك فالسعيد من يستعصم ويستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها.
ما هي العروة الوثقى؟ الكتاب والسنة.
ولعل في هذا الخبر الكفاية، وإن كنت أشعر -كما قلت لكم في مبتدأ الكلام- أن موضوع البدعة في الإسلام يحتاج إلى محاضرات عديدة، فعساني في درس آتٍ -إن شاء الله- أتبع البحث هذا ببحث متمم أو مكمل بعضه على الأقل بأدلة أخرى نذكر بها الإخوان، ونعالج شبهات المتأخرين التي يتمسكون بها لرد هذه الأساطين من الأدلة في أنه ليس في الدين بدعة حسنة.
وقد ذكرنا لكم بعض الأحاديث والآثار التي تنهى المسلم عن الابتداع في الدين، ولا أدري إن كنت ذكرت لكم شعور وانتباه ذلك الرجل الذي كان من أحبار اليهود، الذي تنبه لهذه النعمة وعظمتها على المسلمين، حين جاء إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵁، فقال ذلك الحبر اليهودي: يا أمير المؤمنين! آية لو أنها علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا يوم نزولها عيدًا، قال: ما هي؟ قال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة:٣]، فقال عمر ﵁: [لقد نزلت يوم عيدنا، نزلت يوم الجمعة، ورسول الله ﷺ في عرفات] .
ومعنى هذا الكلام من هذا الحبر اليهودي أنه عرف بالغ أهمية هذه النعمة التي امتنَّ الله بها على عباده المؤمنين، حيث أكمل لهم الدين؛ ذلك لأنه سيفرغهم لأن يعملوا لشئون حياتهم، وأن يتفرغوا لها بعد قيامهم بواجبات ربهم، فأغناهم بهذا التشريع الكامل أن يتوجهوا إلى التشريع والتقنين الذي ليس من اختصاصهم وإمكانياتهم؛ ذلك لأن الإنسان كما وصفه ربنا في القرآن: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء:٨٥]، فالإنسان لا ينظر بالنسبة لما يتعلق بمصالحه المستقبلة إلى أبعد من أرنبة أنفه -كما يقول المثل العربي- فلذلك نجد كل الذين يسمونهم بالمشرعين والمقلدين في كل بلاد الدنيا، كل يوم يأتوننا بدستور، وكل يوم يأتوننا بقانون؛ وذلك لأنه يتبين لهم بالتجربة العملية أن هذه القوانين بل الدساتير لا تقوم بمصالح العباد.
ذلك الحبر اليهودي فعلًا كان من العلماء حينما عرف هذه النعمة وقدرها، فجاء ليقول لـ عمر بن الخطاب: لو علينا نحن اليهود نزلت هذه الآية لاتخذنا يوم نزولها عيدًا، فأخبره عمر بأنها فعلًا نزلت في يوم عيد، ألم يكن المسلمون أحق وأولى بأن يعرفوا فضل هذه النعمة من ذاك اليهودي؟ لقد كان الأمر كذلك، وكان كذلك بالنسبة للسلف الأول، فقد كانوا أبعد الناس عن الإحداث في الدين ما ليس منه، ومن هنا تبين المرتبة التي وصل إليها اهتمام السلف في إنكار البدعة.
فماذا يقول هؤلاء لو بعثوا في زمننا هذا، ونظروا إلى هذه البدع التي لا يمكن إحصاؤها؛ لأنها بالألوف المؤلفة؟ لا شك أن إنكارهم سيكون بالغًا جدًا جدًا على هؤلاء المحدثين لهذه البدع، وأنهم سيذكرونهم بأن هذا الإحداث في الدين هو تشريع، والتشريع إنما هو من حقوق رب العالمين ﵎.
1 / 8
أدلة القائلين بالبدعة الحسنة والرد عليها
لا بد أنه سيقول القائل أو يسأل السائل: إن جماهير المشايخ اليوم يذهبون إلى أن البدعة فيها حسنة وفيها سيئة، ولا بد أن لهم بعض الأدلة، فما هي هذه الأدلة، وما جوابنا عنها؟ الأمر ليس حديثًا، فالحق والباطل دائمًا في صراع مستمر؛ لأن الله ﷿ يقول: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ [هود:١١٨] ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾ [هود:١١٩]، فهذا الاختلاف مستمر، ولذلك فحينما يأتي الإنسان بشبهة اليوم يتوهمها دليلًا فهو في الواقع لم يأت بشيء جديد، ونحن حينما نرد هذه الشبهة أيضًا لم نأت بشيء جديد؛ لأننا مسبوقين بهذا الحق الذي ندعو الناس إليه، وهذا من فضل الله علينا وعلى الناس: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف:١٨٧] .
1 / 9
الدليل الأول: حديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة)
من أشهر ما يستدل به الجماهير اليوم في استحسانهم الابتداع في الدين الحديث المشهور وهو في صحيح مسلم: (من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، دون أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، دون أن ينقص من أوزارهم شيء)، يستدلون بهذا الحديث على أن في الإسلام بدعة حسنة وبدعة سيئة.
وكشف الخطأ في هذا الاستدلال يمكن أن يقوم على أمرين اثنين: الأمر الأول: أن نستحضر سبب ورود الحديث، فإن معرفتنا بسبب ورود الحديث سيكشف لنا مباشرة خطأ الاستدلال بالحديث على أن في الإسلام بدعة حسنة لم يأت بها الرسول ﵊ ولا أمر بها، وإنما يستحسنها المسلمون.
سبب هذا الحديث كما هو أيضًا مذكور مع الحديث في صحيح مسلم وغيره، يقول جرير بن عبد الله البجلي: (كنا جلوسًا مع النبي ﵌، فجاءه أعراب مجتابو النمار، متقلدو السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فلما رآهم رسول الله ﷺ تمعر وجهه -أي: ظهرت عليه ملامح الحزن والأسى لما رأى في هؤلاء المُضريين من فقر مدقع- فخطب ﵊ في الناس ووعظهم وذكرهم، وكان من جملة ذلك أن قال لهم: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [المنافقون:١٠])، قرأ ﷺ هذه الآية يحض فيها الصحابة على الصدقة على هؤلاء- وزاد في ذلك أن قال ﵊ مفسرًا الآية: (تصدق رجل بدرهمه، بديناره، بصاع بره، بصاع شعيره، فكان أن قام رجل منهم لينطلق إلى داره ويعود ومعه ما تيسر له من صدقه، ووضعها أمام الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فلما رآه سائر الصحابة قام كل منهم أيضًا وجاء بما تيسر له من صدقة، فاجتمع أمام الرسول صلوات الله وسلامه عليه كأمثال الجبال من الطعام والدراهم، فلما رأى ذلك رسول الله ﷺ صار وجهه كأنه مذهبة -تهلل وجهه كأنه مذهبة، كالفضة المكسية بالذهب، تبرق أسارير وجهه ﵇ فرحًا باستجابة أصحابه لموعظته - فقال: من سن في الإسلام سنة حسنة ...) إلى آخر الحديث.
فالآن هم يفسرون (من سن) بمعنى: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، وهنا في الشطر الثاني: (ومن سن في الإسلام سنة سيئة) أي: ابتدع في الإسلام بدعة سيئة، يفسرون (من سن) بمعنى: من ابتدع، في كل من الموضعين.
فالآن نعود إلى الشطر الأول من هذا الحديث الذي فيه: (من سن في الإسلام سنة حسنة ...) وهم يفسرونها بقولهم: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، أين البدعة في هذه القصة حتى يصح تفسير الحديث لما يذهبون إليه؟ لم نجد في هذه القصة سوى الصدقة، والصدقة مشروعة بنص القرآن قبل هذه الحادثة، فرسول الله ﷺ ذكرهم بالآية السابقة فقال: ﴿أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة:٢٥٤]، فإذًا: هذه الصدقة ليست بدعة، وأكد لهم الرسول ﵇ فحضهم أن يتصدق أحدهم ولو بدرهم، فإذًا: ليس في هذه الحادثة بدعة حسنة حتى يقال: إن الرسول قال في هذه المناسبة: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، ولا يتجاوب أبدًا، فلو حرفنا لفظ الحديث إلى هذا اللفظ: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، لا يتجاوب هذا اللفظ مع الحادثة مطلقًا؛ لأن الحادثة ليست فيها بدعة مطلقًا، فهذا يبين خطأ هذا التفسير.
وأنا كما أقول في مثل هذه المناسبة: إن تفسير هذا الحديث بهذا التفسير المتأخر: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة.
لا يقوله رجل أعجمي -ليس عربيًا- إذا كان عنده شيء من الفقه الإسلامي والمعرفة باللغة العربية؛ لأنه ليس هناك تتطابق ولا أي موافقة بين الواقعة وبين قول من قد يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، في مثل هذه المناسبة، وهذا يدل على خطإ هذا التفسير.
والتفسير الصحيح واضح جدًا إذا تأملنا تأملًا قليلًا في الحادثة، إذا عدنا إلى لفظ الحديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة ...) نسأل الآن: الصدقة حسنة أم سيئة؟ لا شك أنها حسنة؛ فقد شرعها الله بنص الآية السابقة، ورسول الله ﷺ بحديثه.
إذًا: هذا المتصدق الأول لم يأتِ ببدعة حسنة، لم يأت بشيء جديد لم يكن معروفًا من قبل، بل الصدقة من فضائل الأعمال، وجاء فيها أحاديث كثيرة.
إذًا: ما معنى قول الرسول ﵊ في هذا الحديث بالذات: (من سن في الإسلام سنة حسنة ...)؟ واضح جدًا من الحادثة: أن الرجل الأول كان أول من استجاب لموعظة الرسول ﷺ، وأول من انطلق إلى داره ليأتي بما تيسر له من الصدقة، فاتبعه الصحابة في ذلك، فكان هو بانطلاقه أول إنسان سنَّ لهؤلاء هذه السنة الحسنة.
فهو إذًا: كأناسٍ يكونون غافلين عن مشروع خيري، فيُلْهِم الله ﷿ أحدهم فيقوم بهذا المشروع، وهذا المشروع مذكور الأمر به في الكتاب والسنة، ولو فرضنا: جمع أموال لأيتام لمساكين لبناء مسجد لأي عمل خيري، لا يمكن لإنسان عنده ذرة من فقه أن يقول: هذا العمل الخيري بدعة في الدين أبدًا، لكن كان هذا الإنسان أول من تحرك لهذا المشروع الخيري، فأعان الناس على ذلك، فهذا الإنسان الأول يطلق عليه أنه سنَّ في الإسلام سنة حسنة، لكن التحسين ليس من عنده، التحسين ممن له التحسين والتقبيح وهو الله ﵎، لكن هو كان أول من تحرك لفتح باب هذا المشروع الحسن بنص الكتاب والسنة.
إذًا: (من سن) بمعنى: من فتح طريقًا إلى سنة حسنة بالنص لا بالعقل والهوى، كما يفسره جماهير الناس اليوم: (كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة) .
كذلك تمام الحديث إذا ما قام به إنسان ينطبق عليه: (من سن في الإسلام سنة سيئة) ما هي السنة السيئة؟ أمر منكر شرعًا، معروف نكارته وضلالته بنص الشرع، يقوم الإنسان فيفتح بابًا لهذا الشر، فيكون عليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة، مثلًا: التبرج رفع القبور والتفاخر ببنائها بناء المساجد على القبور، كل هذه محرمات في الإسلام، فأول واحد فتح هذه السنة المنكرة عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، هو لم يأتِ بمنكر غير معروف شرعًا، معروف أنه منكر في الشرع، لكن الناس كانوا في عافية من هذا المنكر، فجاء رجل من الناس ففتح الباب لهذا المنكر، فهو ما سنَّ سنة سيئة بمعنى: ابتدع وأحدث شيئًا لم ينبه الشرع على نكارته وضلاله، لا.
وإنما هو فتح الطريق لهذا المنكر أمام الناس فكان عليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة.
هذا هو الأمر الأول الذي يمكن أن نفهم به هذا الحديث فهمًا صحيحًا، ونرد به التفسير الخاطئ الذي ذاع في الأزمنة المتأخرة بأن معنى الحديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة ...) أي: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، فهذا التفسير خطأ، والتفسير الصحيح قد تبين لكم.
الأمر الثاني: أن نقول: في هذا الحديث ذكر السنة الحسنة والسنة السيئة، فما هو المعيار للتمييز بين السنة الحسنة والسنة السيئة، ولنقل معهم الآن -مجاراة لهم على ألفاظهم-: ما المعيار وما الميزان للتفريق بين البدعة الحسنة والبدعة السيئة؟ إنه القرآن أو السنة، ليس عندنا سوى ذلك.
إذًا: كل من يقول: هذه بدعة حسنة، أو يقول: هذه بدعة سيئة، فلا بد أن يأتي على ما يقول بالدليل الذي يشهد بما يقول من الكتاب أو السنة، أما مجرد القول كما نسمع دائمًا وأبدًا حينما يقول أنصار السنة: إن هذه يا أخي بدعة، يكون
الجواب
انظر يا أخي! كيف الإسلام؟ لا بد أن يأتي هذا الذي يستحسن هذه البدعة بالدليل المحسن، والذي ينكر البدعة أو يسميها بدعة سيئة لا بد أيضًا أن يأتي بالدليل على أنها بدعة سيئة.
وهنا لا بد من التذكير بخطإٍ يقع فيه أولئك الناس حينما يقال: هذه بدعة، فيأتيك الجواب: أنت كلك بدعة! هكذا يبادءوننا، بدعة لماذا؟ يقولون: أنتم دائمًا تقولون: هذا ليس من السنة، وهذا ليس من السنة والكرسي والعباءة والطاقية.
وإلى آخره، كل هذا لم يكن في عهد السلف الصالح، هذه غفلة منهم عن الشعور بمنة الله وفضله على الناس في الآية السابقة، هو قال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة:٣]، ما قال: أتممت عليكم دنياكم، فهذه من أمور الدنيا ليس لها علاقة بالدين أبدًا، كل إنسان له أن يأكل ويشرب ويلبس ما يشاء، لكن في حدود الشرع، فالرسول ﷺ صرح من أجل هذا وقال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، فيخلط هؤلاء الناس بين البدعة الدينية والبدعة الدنيوية، فأول ما تنكر عليهم بدعة من بدع الدين رأسًا يحاججك ببدعة من بدع الدنيا.
يا أخي: ما جاء رسول الله ليعلمنا المهن والاختراع والابتكار في أمور الدنيا، وإنما قال ﵇: (ما تركت شيئًا يقربكم إلى الله إلا وأمرتكم به)، أما وسائل الدنيا والتوسع بها فهذه ليس لها علاقة بالبدعة في الدين.
إذًا: من فسر الحديث بمن ابتدع بدعة حسنة عليه أن يأتي بالدليل من الكتاب والسنة أن هذه بدعة حسنة، وحينذاك نحن نسلم لهم تسليمًا، فإذا جاءوا بحديث يؤيد أن هذا الذي يسمونه بدعة في الدين لكنها بدعة حسنة، جاءوا بالدليل على أنها حسنة فيبقى بعد ذلك الخلاف بيننا وبينهم كما يقول الفقهاء: خلافًا لفظيًا، نحن لا نوافقهم على تسمية ما قام الدليل الشرعي على حسنه، لا نوافقهم على تسميته بدعة، وهم يسمونها بدعة، لا بأس، لكن المهم أن يكون هناك دليل يؤيد ما وصفوا به البدعة من أنها حسنة.
وآتيكم بمثال، وهذا نستنكره أشد الاستنكار: لما يقسمون البدعة إلى خمسة أقسام، أول هذه الأقسام: بدعة فرض: واجبة، فريضة، وأول مثال: جمع القرآن الكريم بدعة في الدين، الله أكبر! إذا كان الرسول ﵊
1 / 10
حكم التشهير بصاحب البدعة
السؤال
هل يجوز التشهير بصاحب بدعة، أو الكلام عليه وذمه؟
الجواب
صاحب البدعة له حالتان: - إما أن يكون منطويًا على نفسه.
- أو أن يكون مشهورًا بين الناس.
ففي الحالة الأولى لا داعي لتشهيره؛ لأن ضلاله محصور في ذاته.
أما في الحالة الأخرى فلا بد من تشهيره والتحذير منه؛ حتى لا يغتر الناس الذين يعيش بينهم به، وليس ذلك من الغيبة في شيء كما قد يتوهم بعض المتنطعين، وحديث: (الغيبة ذكرك أخاك بما يكره) هو من العام المخصوص، وقد ذكرت لكم قول بعض الفقهاء في بيتين من الشعر جمعوا فيهما الغيبة المستثناة من الحرمة، فقال قائلهم:
القدح ليس بغيبةٍ في ستةٍ متظلم ومعرِّفٍ ومحذرٍ
ومجاهر فسقًا ومستفتٍ ومن طلب الإعانة في إزالة منكر
فهنا المبتدع والتشهير به يدخل في التعريف ويدخل في التحذير، ولذلك اتفق علماء الحديث جزاهم الله خيرًا على وصف كثير من رواة الحديث بما كانوا عليه من الابتداع في الدين، وهذا كله من قيامهم بواجب البيان للناس؛ حتى يعرفوا الراوي الصارف يؤخذ بعقيدته، والراوي المبتدع، ويترك هو وعقيدته المنحرفة عن الكتاب والسنة.
1 / 11
أحكام الحج والعمرة [٢]
أجاب الشيخ ﵀ عن أسئلة تتعلق بالحج، كمسألة أفضل أنواع الحج، وكذلك أركانه التي لا يصح إلا بها، متطرقًا إلى حكم التلبية: مكانها ووقتها، وحكم التلفظ بنية الحج، وكذلك ما يجوز فعله أو لبسه، وما لا يجوز في حال الإحرام.
2 / 1
أفضل أنواع الحج
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
السؤال
ما هو الأفضل في الحج: التمتع أم القران أم الإفراد؟
الجواب
هذا السؤال قد اختلف الفقهاء في إجابتهم عليه منذ القدم.
فمن قائل: إن الأفضل هو القران، وحجتهم في ذلك: (أن النبي ﵌ حج حجة الوداع قارنًا)، وهذا هو الصحيح الثابت الراجح من الروايات المختلفة التي وردت عن النبي ﵌ في حجته.
وهناك من يقول: إنه ﵇ حج متمتعًا.
ومنهم من يقول: إنه حج حجًا مفردًا، وحجتهم ما جاء في بعض الروايات أن النبي ﵌ لبى بالحج، لكن هذا لا ينافي أنه ضم إلى الحج العمرة، وهذا ما جاء صريحًا عن بعض الصحابة، منهم أنس بن مالك حيث قال: (إنه كان آخذًا بخطام ناقة النبي ﵇ حينما أحرم بالحج من ذي الحليفة، قال: فسمعته يقول: لبيك اللهم بعمرة وحجة) .
فلا نشك -أقصد جماهير علماء الحديث- أن حجة النبي ﵌ كانت قرانًا، ولذلك فلا مجال للمفاضلة بين حج القران وبين حج الإفراد؛ لأن حج الإفراد ليس له وجه من التفضيل؛ لأنه لم يثبت أن الرسول ﵇ حج حجًا مفردًا من جهة، ولم يثبت أنه حج على حج الإفراد من جهة أخرى، ولذلك فلم يبق مجال للمفاضلة إلا بين القران وبين التمتع.
ولا نشك -أيضًا- أن التمتع بالعمرة إلى الحج هو الأفضل، بل هو الواجب؛ ذلك لأن النبي ﵌ -وإن كانت حجته قرانًا- كانت هناك ضميمة اقترنت بحجة النبي ﵌ تتعرى عن حجات الحاجين في أغلب الأزمان والعصور، وهي أنه ﵊ ساق الهدي معه من ذي الحليفة، أي: أنه ﵇ لما أحرم بالقران كان قد ساق الهدي، ولذلك فيختلف حكم من حج قارنًا وقد ساق الهدي، عن حكم من حج قارنًا ولم يسق الهدي.
هذا الاختلاف أخذناه من حجة الرسول ﵊ في حجة الوداع، ذلك أنه ثبت من حديث السيدة عائشة ﵂: (أن النبي ﵌ لما حج وحج الناس معه -وكانوا ألوفًا مؤلفة- كان منهم القارن، ومنهم المفرد، ومنهم المتمتع) فمن كان قارنًا مع الرسول ﵇ ومفردًا كانوا على قسمين: جمهورهم لم يسوقوا الهدي وإنما نحروا في منى، والقليل منهم ساقوا الهدي من ذي الحليفة.
وعلى هذا فيمكن أن نقول: إن الذين حجوا مع الرسول ﵇ منهم من ساق الهدي ومنهم من لم يسق الهدي، فالذين لم يسوقوا الهدي، أي: من كان قد قرن أو أفرد ولم يسق الهدي، فقد قال لهم ﵊ في أول الأمر وهم ينطلقون من المدينة إلى مكة: (من كان منكم لم يسق الهدي وأحب أن يجعلها عمرة فليفعل)، فنجد هنا أن الرسول ﵇ رغبهم ولم يعزم عليهم.
ثم في مرحلة أخرى لما جاء مكة وطاف حول الكعبة وسعى، قال لهم: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة)، من قبل قال: (من أحب أن يجعلها عمرة فليفعل) وفي الأخير استقر حكم الله على لسان نبيه ﵊: (من لم يسق الهدي فليجعها عمرة)، فبادر بعضهم فتحلل.
ومعنى قول الرسول ﷺ: (فليجعلها عمرة) أي: فليفسخ نيته السابقة، سواء كان حج مفردًا أو حج قرانًا، وليحولها إلى نية جديدة، هي العمرة، ولازم ذلك أنه مجرد أن ينتهي من السعي بين الصفا والمروة يحلق شعره أو يقصه، وبذلك تنتهي العمرة، فيتحلل منها ويبقى حلالًا إلى اليوم الثامن من شهر ذي الحجة، وهو اليوم الذي يسمى بالتروية.
فبعض أصحاب الرسول ﵇ بادروا إلى التحلل، إلى فسخ الحج إلى العمرة، لكن بعضهم ضلوا في إحرامهم، فلما بلغ الخبر إلى الرسول ﵇ غضب، ورأته السيدة عائشة فقالت: (من أغضبك يا رسول الله؟ فقال: ما لي لا أغضب وأنا آمر الناس بأمر الفسخ ثم لا يفعلون) فخطب فيهم الرسول ﵇ مرة أخرى، فقال: (أيها الناس من لم يسق الهدي فليتحلل، ولولا أني سقت الهدي لأحللت معكم، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة)، حينذاك بادر أصحاب الرسول ﵊ فتحللوا جميعًا، وكما يقول جابر وغيره: [فسطعت المجامر وأتين النساء]، أي: تحللوا.
من هنا نأخذ أن حج التمتع هو الواجب على كل حاج، إلا من ساق الهدي من الحل فله أسوة برسول الله ﵌، حيث كانت حجته كذلك، وإن كان في قوله الأخير: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة) ما يشعر بأن الأفضل بالنسبة إلينا بعد حجة الرسول ﵇ ألا نسوق الهدي أيضًا، هذا هو الأفضل، لكن فإن فعل ذلك فاعل فليس لنا عليه سبيل من الإنكار؛ لأن الرسول ﵇ فعل ذلك وما أنكره، بخلاف حج الإفراد، وبخلاف القران الذي لم يسق معه الهدي.
ونحن نؤكد إفادة وخطابة أن كل من أراد الحج فليجعل حجته متعة، ثم عليه بعد ذلك شكر الله ﷿، وأن يقدم هديًا إن وجد إلى ذلك سبيلًا، وإلا صام سبعة أيام حسبما فصل الله ﷿ ذلك بالقرآن، فقال: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ [البقرة:١٩٦] .
وكثير من الناس الذين يصدق فيهم قول ربنا ﵎: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ [النساء:١٢٨] لما كانوا يعلمون أن التمتع يجب عليه الهدي أو صيام عشرة أيام إذا لم يتيسر له الهدي، يفرون من هذا الحكم بحيلة شرعية، ومن تلك الحيل الشرعية: أنهم يفردون الحج ثم يقرنون العمرة إلى الحج، فبدل أن يتبعوا صريح القرآن وأمر الرسول ﵇ بأن يأتوا بالعمرة بين يدي الحج، فهم يأتون بالعمرة بعد الفراغ من مناسك الحج، ويتخلصوا مما أوجب الله عليهم من الهدي أو سواه، ثم يأتي من يحتج لهم بحديث السيدة عائشة ﵂: (أنها جاءت بالعمرة بعد الحج وهي مع النبي ﷺ، فأخذوا ذلك حجة لهم أن يعتمروا بعد الحج، وكأنهم يظنون أنهم بذلك يحسنون صنعًا، مع أن الرسول ﵇ ثم الصحابة الذين كانوا معه، ثم السلف الذين جاءوا من بعدهم، كانوا كلهم يأتون بالعمرة بين يدي الحج، ثم يقدمون الهدي أو الصيام، أما هؤلاء الناس المحتالون الذين يأتون بالعمرة بعد الحج، فيتخلصون بذلك من هذا الواجب من الهدي أو الصيام، ويجب أن نعلم أن النبي ﵌ كان معه من الحجاج عشرات الألوف من الصحابة لم يأت أحد منهم بالعمرة بعد الحج، إلا السيدة عائشة ﵂، وهذا حكم خاص بها؛ لا لأنها عائشة وإنما لأنها كانت حائضًا.
2 / 2
أركان الحج
السؤال
ما هي أركان الحج التي لا يصح الحج بدونها؟
الجواب
الركن الأول: الإحرام بالحج، مثل الإحرام بالصلاة، وهو نية الصلاة، وهو أن تقول: لبيك اللهم بحجة وعمرة، ولا بد من التنبيه أن نية الحج اليوم يجب أن تكون مبتدأة بعمرة بين يدي الحج، فتقول: لبيك اللهم بعمرة، لا تقل: لبيك اللهم بحجة؛ لأنه لا بد من تقديم العمرة بين يدي الحج؛ لأن الرسول ﵇ قال: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، وشبك بين أصابعه)، وهذا معناه أن العمرة أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الحج.
فالذي يريد أن يحج اليوم يبدأ بالعمرة، لكن نية الحج بالنسبة للتمتع تكون وأنت في مكة، أما إذا خرجت من بلدك ومررت بميقات من المواقيت المعروفة، فهناك تلبي بعمرة الحج، ثم وأنت في مكة تلبي بالحج في اليوم الثامن من ذي الحجة، وتقول: لبيك اللهم بحجة، وعند الميقات: لبيك اللهم بعمرة، أما في مكة حيث كنت نازلًا: لبيك اللهم بحجة.
ثم الطواف حول الكعبة، ثم الوقوف في عرفة، هذه هي الأركان التي لا بد منها، مع المبيت في مزدلفة، بحيث تصلي ثمة صلاة الفجر، فهذا أيضًا ركن على أصح قولي العلماء في طواف الإفاضة، هذه أركان الحج التي لا بد منها، وما سوى ذلك فهي شروط.
2 / 3
التلبية مكانها ووقتها
السؤال
إلى متى لزم الرسول من التلبية؟ وفي أي مكان كان يلبي؟
الجواب
التلبية هي من مناسك الحج والعمرة، ويبدأ الملبي في الحج أو العمرة من ساعة الإحرام بهما أو بأحدهما من الميقات، ويختلف هذا المكان باختلاف البلاد، فمثلًا: الشام ميقاتهم ذو الحليفة، وتسمى الآن أبيار علي، والعراق ذات عرق، واليمن يلملم وهكذا، ومن هذا المكان الذي يحرم منه الحاج أو المعتمر تبدأ التلبية ثم تنتهي عند استلام الحجر الأسود، فإذا لمسَ الحجر الأسود انتهت التلبية، ثم تستأنف التلبية، حينما يبدأ الإنسان بالحج بعد أن قضى عمرة الحج، فيلبي بالحج في اليوم الثامن، ثم يستمر في التلبية ما بين آونة وأخرى إلى أن يرمي يوم العيد جمرة العقبة، فهناك تنتهي التلبية حيث أعمال الحج لم تنته، فإذا رمى جمرة العقبة انتهت التلبية.
2 / 4
حكم الجمع بين التلبية والتكبير
السؤال
هل هناك تلبية مع التكبير حسب الحديث؟
الجواب
عن الفضل أنه قال: (أفضت مع رسول الله ﵌ من عرفات، فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة ويكبر مع كل حصاة، ثم قطع التلبية مع آخر حصاة) حديث صحيح.
لا يشترط الجمع بين التكبير وبين التلبية، وإنما هو مخير بين التكبير وبين التلبية، ولعل الأحسن التنويع، فتارة يلبي وتارة يكبر، والتكبير ليس خاصًا عند رمي الجمرة، وإنما جاء في الرجوع من عرفات، وجاء في بعض الأحاديث: (كان منا من يكبر ومنا من يلبي، فلا يعترض المكبر على الملبي ولا الملبي على المكبر) .
ولكن الذي يريد أن يرمي جمرة العقبة هناك لا بد من التكبير مع كل حصاة، أما التكبير قبل ذلك فهو بدل التلبية، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كما قال ﵇: (أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله) أو يقول: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله إلى آخره، أما التكبير عند رمي الجمرة، فهو: الله أكبر، مع كل حصاة.
2 / 5
الجهر بالتلبية لا يعد تلفظًا بالنية
السؤال
بما أنه لا يجوز التلفظ بالنية، فكيف يصرخون بها كما في الحديث التالي: عن أنس ﵁ قال: (كنت رديف أبي طلحة وإنهم ليصرخون بها جميعًا، الحج والعمرة) رواه البخاري؟
الجواب
الحديث إن كانت روايته هكذا فهي مختصرة، إذا كان كاتب الحديث أولًا: نقله كما وجده، وثانيًا: هم كانوا يقولون في التلبية: لبيك اللهم بحج، أو لبيك اللهم بعمرة، وحينئذٍ لا يرد السؤال؛ لأن هذه تلبية.
2 / 6
حكم امتشاط المحرم
السؤال
هل يجوز للمحرم الامتشاط حسب الحديث التالي: (أمر النبي ﵌ عائشة فقال: انقضي رأسك وامتشطي)؟
الجواب
في الوقت الذي لا يوجد ما يمنع المحرم بالحج أو بالعمرة من أن يمتشط، فهذا الحديث يؤكد البراءة الأصلية، فيجيز للمحرم أن يمتشط؛ لأن الفكرة بالنسبة للحاج ليس كما يتوهمها الكثيرون، فهذا الحديث وهو قوله ﵇ للسيدة عائشة: (انقضي رأسك وامتشطي) يؤيد البراءة الأصلية وهو جواز امتشاط المحرم، وليس المقصود بأن المحرم إذا تلبس بمناسك الحج أنه حرم عليه كل شيء، ليس الأمر بهذه التوسعة التي يتوسع فيها الكثير من المؤلفين والمقلدين، ولكن الواجب أن نقف عند حدود الشرع.
فمثلًا: الشارع الحكيم حرم على المحرم مطلقًا -ذكرًا أو أنثى- أن يتطيب أثناء إحرامه، ولكن من السنة أن يتطيب الذي يريد الإحرام بين يدي الإحرام، يتطيب بالطيب الذي يفوح رائحته، فإذا أحرم بالحج أو العمرة شممت منه الرائحة الطيبة، فأجاز له الطيب بين يدي الحج، وحرم عليه الطيب أثناء الحج، إذًا: القضية ليس فيها هذا التضييق في أبعد معانيه كما يظن البعض.
مثال آخر: وهو ما يظن البعض أن الصائم لا يجوز له أن يتطيب، ماذا تلاحظون؟ تلاحظون أن الصائم حبس نفسه عن الطيبات، فمن الطيبات أن يشم الرائحة الطيبة، إذًا: لا يجوز شم الرائحة الطيبة، فهذا كلام ضعيف، لا يجوز الأكل والشرب ونحو ذلك مما هو منصوص عليه، أما أن تتطيب وأنت صائم فلا يوجد مانع، وأن تتسوك وأنت صائم لا يوجد مانع.
كذلك المحرم بالحج حرم عليه أشياء محدودة فنقف عندها، ولا نشدد على الناس أكثر مما جاء به النص، فالنص منع الرجل من أن يقص أظافره، ومن أن يأخذ من شعره ومن لحيته، كذلك المرأة لا يجوز لها أن تأخذ من شعرها إلا بعد أن تتحلل، لكن هذا المحرّم شيء وكونه مشط لحيته، أو قصر من شعره، فأخذ بعض الشعرات، فهذا ليس فيه ما يمنع شرعًا أبدًا، وحديث عائشة يؤيد هذا الأصل، والذي أحرم بالحج لا يجوز له أن يتطيب، ولكن بين يدي الإحرام، قبل أن يقول: لبيك الله بعمرة، يجوز له أن يتطيب.
2 / 7
التبان تعريفه وحكم لبسه للمحرم
السؤال
روى البخاري وسعيد بن منصور عن عائشة: [أنها كانت لا ترى بالتبان؟ بأسًا للمقرن]، فماذا تقصد عائشة بالتبان، وهل يجوز ذلك للمحرم؟
الجواب
التبان في اللغة العربية هو ما يسمى اليوم بالبنطلون (الشورت) وهو البنطلون الذي ليس له أكمام، فالسيدة عائشة لا ترى بأسًا للحاج أن يلبس التبان، علمًا بأن التبان سروال أو نوع من السروال، وقد جاء في صحيح البخاري وصحيح مسلم: (أن المحرم لا يجوز له أن يلبس السراويل ولا العمامة ولا القميص) أي: لا يجوز له أن يلبس أي ثوب يفصل على بدنه، وهذا حكم خاص بالرجال دون النساء؛ لأن إحرام المرأة إنما هو في وجهها وفي كفيها فقط، أي أن المرأة المحرمة لا يجوز لها أن تشد البرقع على وجهها، ولا يجوز أن تلبس القفازين (الكفوف) هذا إحرامها، وهو تيسير الله ﷿ على النساء، أما الرجل فلا يجوز له لبس السراويل، أما قول السيدة عائشة أنها أباحت لبس التبان، فقد فسره العلماء بأن المقصود: أنها لا ترى بأسًا للمحرم أن يلبس هذا اللباس القصير سترًا لعورته إذا كان معرضًاُ للكشف عنها.
فأجازت السيدة عائشة لمثل هذا النوع من المحرمين أن يلبس التبان، من باب درء المفسدة الكبرى بالصغرى ليس إلا، فلا يؤخذ من كلام السيدة عائشة جواز لبس التبان من المحرم مطلقًا، وإنما للحاجة.
2 / 8
كيفية تغطية الوجه بالنسبة للمحرمة
السؤال
ذكرت في كتابك حجة النبي ﵌، أن الإحرام لا يمنع من التغطية، وإنما يمنع من النقاب والبرقع ونحوه، فكيف تكون التغطية؟ وكيف يكون برقع النقاب؟
الجواب
آنفًا قلت: لا يجوز للمحرمة أن تشد البرقع على وجهها، أما كيف تحصل التغطية الجائزة؟ فذلك بسدل الحجاب على وجهها، وهذه تغطية جائزة؛ لقول السيدة عائشة ﵂: (كنا ونحن محرمات إذا مر بنا ركب من الرجال أسدلنا جلابيبنا على وجوهنا)، فالممنوع هو ما يشبه اللباس، كالبرقع الذي على الجبهة كما هي عادتنا في هذه البلاد، أو النقاب كما هي عادة البدو كما في كثير من البلاد.
وللجهل نجد في الحج نساء بالعشرات إن لم نقل بالمئات حاجات هكذا، ولا يوجد من يعلمهن ويذكرهن، فشد البرقع أو النقاب هذا الذي لا يجوز للمرأة، أما أن تأخذ خمارًا وتسدله على وجهها فلا مانع، إذ الغرض ألا تلبس رأسها برقعًا أو نقابًا.
2 / 9