Durūs lil-Shaykh Abī Isḥāq al-Ḥuwaynī
دروس للشيخ أبي إسحاق الحويني
Genres
حكمة النبي ﷺ في معاملة الناس
لقد سلك الرسول ﵊ هذا المسلك، فأنت إذا قرأت أن بعض الصحابة أراد أن يقتل عبد الله بن أبي ابن سلول فقال النبي ﵊: (معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه)،لم يقل: صاحبه مع أنه رجل واحد؛ لكن قال: (معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه) هكذا بالجمع، لماذا؟ لأن الناس لا يتحرون النقد، فعندما يصل الخبر إلى آخر رجل واحد في جزيرة العرب يكون الرسول عنده قد قتل مائتين، مع أنه قتل رجلًا واحدًا، فإذا نقل الناس فإنهم لا يتحرون النقل.
ولذلك صدق شعبة بن الحجاج لما قيل له: لم لا تحدثون القصاص؟ القصاص هم أصحاب الموالد الذين يخترعون قصصًا كاذبة ليأخذوا ما في جيوب العوام، فمثلًا: كان أحدهم يقول للناس: هل تعرفون لماذا الشفة العليا للجمل مشقوقة؟ قالوا: لا، فقال: سبب ذلك أنه كان هناك جمل حزين في زمان رسول الله ﷺ، لأن أصحابه يحملونه ما لا يطيق، فذهب إلى النبي ﵊ يشتكي أصحابه، فقال له: خذ، ووضع يده على شفته فانقطعت نصفين، فالعوام يعجبهم مثل هذا.
فـ شعبة بن الحجاج سئل: لماذا لا تحدثون أمثال هؤلاء؟ قال: لأنهم يأخذون الحديث منا شبرًا فيجعلونه ذراعًا.
أي: يعمل له سيناريو، فيكون الحدث الحقيقي قد ذهب؛ لأن العوام تستهويهم القصص والحكايات الغريبة الخيالية، فهذه طبيعة الناس.
أحدهم يقول: قُتل عشرون وتصل إلى الثاني يضيف صفرًا فتصبح مائتين، والثالث يضيف صفرًا فتصبح ألفين، فالرجل الذي هو في آخر الجزيرة، والذي كان يفكر أن يرحل إلى الرسول ﵊، ويقول: نحن أسلمنا، ونريد أن نرحل لننال شرف الصحبة ونتعلم العلم، فيقوم يسرج اللجام ويستعد بالبعير للسفر، فيأتيه أحد أصحابه ويقول له: إلى أين أنت ذاهب؟ فيقول له: أنا ذاهب إلى رسول الله ﷺ، فيقول له صاحبه: لقد قتل يوم أمس أكثر من خمسمائة من أصحابه، فيقول: الحمد لله أنني لم أذهب.
فالرسول ﵊ يعرف أن الناس لا يتحرون النقل، فما هي المفسدة أن يبقى رجل واحد حي ونحن نعرفه، لذلك قال: (معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه)، وقال في هذا المنافق المعلوم النفاق: (صاحب).
وروى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة أن عبد الله بن أبي ابن سلول خرج من أكمة، فقال: لقد غبر علينا ابن أبي كبشة.
وأبو كبشة هذا جد أم الرسول ﵊، هل منكم أحد يعرف أبا كبشة؟ لا يعرفه أحد، لكن كلنا نعرف عبد المطلب، وكانت العرب إذا انتقصت إنسانًا نسبته إلى جد غير مشهور، لذلك قال عبد الله بن أبي ابن سلول: لقد غبر علينا ابن أبي كبشة، لأن النسبة إلى الجد المشهور شرف.
قال النبي ﵊ في الرجز: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) ولم يقل: أنا ابن عبد الله؛ لأن عبد المطلب كان أنبل وأشرف وأظهر عند العرب من عبد الله.
وجاء في صحيح البخاري: (أن أعرابيًا جاء يسأل عن النبي ﷺ، وهو جالس بين أصحابه -لا يميز دونهم قبل أن يتخذ منبرًا- فقال: أين ابن عبد المطلب؟ فقالوا: ها هو الرجل الأبيض، قال: أنت ابن عبد المطلب؟ قال: قد أجبتك) فنسبه إلى جده.
وجرى انتقاص الرسول ﵊ أكثر من مرة بهذا اللقب، فروى البيهقي في دلائل النبوة أن النبي ﵊ لما قص على المشركين أنه أسري به إلى بيت المقدس، فقال بعضهم لبعض: انظروا إلى ابن أبي كبشة ماذا يقول!
8 / 7