77

Durūs lil-Shaykh Abī Isḥāq al-Ḥuwaynī

دروس للشيخ أبي إسحاق الحويني

Genres

الموقف الثاني ليوسف ﵇ في التمكين
المرأة اتهمته، ودخل السجن مع ظهور براءته، فهو ظلم أولًا من المرأة، ثم ظلم بالقرار الجائر أن يدخل السجن بعد ظهور الآيات ببراءته، فدخل السجن، ودخل معه فتيان، وبدأ الموقف الثاني الذي يدلك على محبة يوسف ﵇ لدعوته.
﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف:٣٦].
والإحسان ينطبع على الوجه، لا تتصور أن صاحب الغل ينجو، بل يظهر غله على وجهه، وصاحب الإحسان ينطق الإحسان على وجهه، ولذلك يقول الرسول ﵊: (الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف).
أحيانًا قد تنظر إلى الرجل الذي تراه لأول مرة فتشعر أنك تحبه، وتريد أن تقترب منه، وأنت مستريح له، ورجل آخر أيضًا لا تعرفه، وما دار بينك وبينه حوار، ولا أساء إليك، ومع ذلك تبغضه، وتشعر بهذا البغض في قلبك، وتود أنه لو لم يتكلم، ولم يكن بينكما حوار، إذًا: ما هو الضابط بين هذا وذاك؟ إنها أسارير الوجه التي تعبر عما يكنه القلب، لذلك قال الرجلان ليوسف ﵇: ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف:٣٦] نطق الإحسان على وجهه ﵇.
لم يبدأ يوسف ﵇ البداية التي قد يجهلها من يدعو إلى الله ﷿، بأن يلبي لهم حاجاتهم؛ لأن المرء إذا حصل حاجته ذهب، ولذلك لما تنازع العلماء في أيهما أفضل: الغني الشاكر أم الفقير الصابر؟ رجح كثير من المحققين أن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر؛ لأن الغنى داعية الطغيان وداعية الاستغناء، كما قال ﷿: ﴿كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ [العلق:٦ - ٧]، ما طغى إلا بعد أن استغني.
انظر إلى حياتنا ترى هذا الشيء موجودًا، فإذا ما الابن ينفق عليه أبوه أو أخوه الكبير فهو لا يكاد يخالفه، وينفذ أحيانًا بعض ما يكره إذا أمره أبوه أو أخوه، فإذا استقل براتبه بدأ يستقل بقراره، وبدأ يكون له رأي، وبدأ يعارض.
ولذلك نهى الإسلام المرأة عن العمل، وقال علماء المسلمين: إن الأصل في المرأة أنها لا تعمل، لأن الله ﷿ جعل قوامة الرجل على المرأة بشيئين: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ [النساء:٣٤]؛ فإذا عملت المرأة وصار لها راتب، كأنما انتزعت نصف القوامة من الرجل؛ لأنها تنفق على نفسها.
وكثيرًا من النساء اللواتي يعشن في ذل الرجل العنيف الذي يضرب والذي يسب، لماذا يعشن؟ ولماذا يقبلن الذل؟ لأنهن يخفن على أنفسهن من التشريد، كثير من النساء يقبلن الذل لأجل لقمة العيش، أول ما يكون للمرأة راتب وتستقل براتبها، فكأنها انتزعت نصف القوامة من الرجل؛ لأن الله ﷿ يقول: ﴿وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ [النساء:٣٤]، إذًا: بداية استغناء المرأة عن الرجل كان سببه الحصول على الراتب، إذًا: طبيعة الاستغناء أنه يوصل إلى الطغيان.
فهذا الغني الصحيح الذي يجد الأموال الطائلة أمامه، فلا يتعرض لضائقة مالية ولا يتعرض لأزمات، فلذلك يخف ذكر الله من لسانه، قلما يقول: يا رب، قلما ينام وهو يؤمل في الله خيرًا؛ لأن دفتر الشيكات موجود، والأموال موجودة في البنوك، وهذه المسألة لا يكاد أحد منا يحتاج إلى كبير بحث فيها.
فالشكر مع هذا الغنى الذي هو داعية الطغيان نادر جدًا، أما الصبر فكثيرًا ما يلازم الفقر؛ لأن الإنسان إذا افتقر فإنه يوازن بين أن يسخط وبين أن يصبر، فيجد أن الصبر أجود وأفضل، وقد يصبر صبر المضطر؛ لذلك تجد الصبر كثيرًا ما يلازم الفقر، ولا تجد الغنى يلازم الشكر إلا نادرًا.
لذلك ذهب كثير من العلماء على أن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر؛ لعدم وجود باعث الشكر عند الغني.
فيوسف ﵇ يعرف هذه الحقيقة من نفوس بني آدم، لذلك لم يبدأ بتعبير الرؤيا لهم، وقال: ﴿لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾ [يوسف:٣٧]، وياء الإضافة في (ربي) تكررت كثيرًا في سورة يوسف، وهي تشعر بالاعتزاز وصحة الانتماء إلى الله ﷿، قال: ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ [يوسف:٢٣]، ﴿ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾ [يوسف:٣٧]، ﴿إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ [يوسف:٥٠]، ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ﴾ [يوسف:١٠١].
﴿ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾ [يوسف:٣٧]، فبدأ يعرفهم بإلهه الذي يعبده وبدأ يعرفهم بأنه ينتمي إلى آباء كرام ورثوا النبوة: ﴿ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف:٣٧ - ٤٠].

8 / 4