130

Durūs lil-Shaykh Abī Isḥāq al-Ḥuwaynī

دروس للشيخ أبي إسحاق الحويني

Genres

المرأة الصالحة وأثرها في إعداد جيل التمكين
جيل التمكين له ثلاثة ركائز: الأب، والأم، والولد -الذي هو الثمرة-.
أي زرع لا يمكن أن يقوم إلا بثلاثة أشياء: خصوبة الأرض، وعذوبة الماء، ومهارة الأيدي العاملة.
وبقدر الخلل في واحد منها يكون الخلل في الزرع، ولا خلاف بين الناس جميعًا أن أجل غراس يغرس هو الإنسان، قال الله ﷿: ﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا﴾ [نوح:١٧]، وأجل ما يغرسه المرء منا هو الإنسان.
إن الأرض البور لا قيمة ولا سعر لها في الواقع، ومع ذلك فأكثر المسلمين تزوج من تلك الأرض، والأرض الخصبة أغلى ثمنًا، وأعلى قيمة، فهل لهذه الأرض من مواصفات؟ نعم، قال النبي ﷺ في الحديث الذي رواه أبو هريرة ﵁: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولجمالها، ولحسبها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) هذا حديث معروف مشهور، لكنه خرج مخرج الخبر: أي أن الناس إذا أرادوا اختيار المرأة فإنهم يراعون المال والجمال والحسب، والنبي ﷺ في الحديث لم يحض إلا على ذات الدين، وترك الباقي، لم يقل فاظفر بها على أي صفة من هذه المواصفات لا، فالمواصفات الواردة في الحديث خرجت مخرج الخبر، أي: من الناس من ينشد جمال المرأة، ومنهم من ينشد مالها، ومنهم من ينشد حسبها، فحض على ذات الدين وحدها، ولكن لم ينكر عليك بعد اختيار ذات الدين أن تأخذ صفة من هذه الصفات الثلاث، فذات دين جميلة أفضل من ذات دين قبيحة، وذات دين جميلة وغنية أفضل من ذات دين جميلة فقيرة، وذات دين جميلة غنية ذات حسب أفضل من ذات دين جميلة وغنية وليس لها حسب، لكنه حض على ذات الدين فقط.
وقوله: (تربت يداك) يعني: تعلقت يداك بالتراب، والتراب هو مصدر الخير والبركة والنماء، وليس المقصود تعلقت يداك بالبركة إذا اخترت ذات الدين، فأول صفة يجب على المرء أن يبحث عنها المرأة ذات الدين.
انظر إلى خديجة ﵂ الكاملة الودود الولود، كيف ثبتت زوجها ﷺ، وكيف استدلت بكمال عقلها على أن من كان فيه هذه الصفات لا يخزيه الله أبدًا، مع أنه لم يكن نزل دين آنذاك، ولذلك قال النبي ﷺ فيها: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع) يعني: لم يكمل من النساء إلى أن تقوم الساعة إلا أربع فقط، منهن خديجة وابنتها فاطمة، فقد أخذتا نصف الكمال في النساء.
لما رجع النبي ﵊ يرجف فؤاده قال لـ خديجة: (لقد خشيت على نفسي، قالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) فاستدلت بكمال عقلها أن مثل هذا لا يخزى، لم تقل له: كلا، لا يبتليك الله أبدًا؛ لأنه قد يبتلى الأخيار، ولكن لا يخزون (كلا لا يخزيك الله أبدًا) فشدت من أزره.
إن أعظم ما يبتلى به الداعية إلى الله أن يتزوج بامرأة غايتها غير غايته؛ غايته الآخرة وغايتها الدنيا.
قالت خديجة للنبي ﷺ هذه الكلمات التي تكتب بالذهب، ولذلك كان النبي ﷺ يكثر من ذكرها كأنها نشيد ينشده، وكان يكثر من الثناء عليها وفاءً لها، حتى قالت عائشة ﵂: (ما غرت على امرأة قط غيرتي من خديجة) لكثرة ثناء النبي ﷺ عليها، يقول الذهبي ﵀: وهذا أعجب شيء، أن تغار من امرأة ميتة، ولا تغار من عدة نسوة يشركنها في رسول الله ﷺ، وهذا هو العجب!! ولقد كان رسول الله يذبح فيرسل اللحم إلى صديقات خديجة، ويقول: (إن حسن العهد من الإيمان) تعلموا الوفاء.
فلما أكثر من الثناء عليها قالت له مرة: (وما يعجبك من امرأة حمراء الشدقين، هلكت في الدهر، أبدلك الله خيرًا منها؟).
(حمراء الشدقين) كناية عن سقوط أسنانها، فالمرء الذي ليس في فمه أسنان إذا ضحك فإنه لا يظهر إلا حمرة اللثة، تقول امرأة سقطت أسنانها، ذهب شطر الجمال، مثل العين، والشعر، فالمرء الذي ليس له أسنان يذهب بهاء وجهه.
(ما يعجبك منها؟) أي ما يعجبك من امرأة عجوز، قد سقطت أسنانها، ليس لها جمال، وهلكت في الدهر، (وأبدلك الله خيرًا منها) تعني نفسها، شباب وجمال، فيرد عليها قائلًا: (ما أبدلني الله ﷿ خيرًا منها) امرأة ذات دين تعين زوجها على نوائب الحق، والمؤمن مبتلى؛ قد يسجن الزوج؛ فتقوم الزوجة الصالحة بدور الأب في غيابه، وهي لا تتضجر من المعيشة ولا ترسل رسالة تطلب الطلاق هذا هو الوفاء! طالما الرجل صاحب دين، صاحب منهج مستقيم؛ فتصبر المرأة معه، هذا هو مقتضى الوفاء، فهذه المرأة هي ذات الدين، فلا يقوم بهذه الخلال إلا ذات الدين.
ثم عدد النبي ﷺ الأسباب التي جعلته يكثر من الثناء عليها، وعلى النساء اللواتي يردن الحظوة عند أزواجهن بلا تضحية ولا ثمن أن يتعلمن من هذا الحديث، قال النبي ﷺ: (ما أبدلني الله خيرًا منها) قال: (آمنت بي إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد إذ حرمته من باقي النساء)، كيف لا أحبها، وكيف لا أجلها، وكل شيء يذكرني بها.
في صحيح البخاري ومسلم: (أن هالة بنت خويلد أخت خديجة استأذنت على النبي ﷺ -كان استئذانها كاستئذان خديجة - فلما استأذنت ارتاع لذلك النبي ﷺ -شخص يذكرك بحبيبك، نفس الصوت، نفس الاستئذان، فأول ما سمع صوتها ارتاع لذلك، وفي الروايات الأخرى: فارتاح لذلك- وقال: اللهم هالة -يعني: اللهم اجعل المستأذن هالة - قالت عائشة: فغرت -حتى هؤلاء يذكرنه بها، فغارت، وقالت له هذه المقالة-: ما يعجبك من امرأة حمراء الشدقين، هلكت في الدهر، أبدلك الله خيرًا منها؟) فهي ذات الدين، ولا تجمل الحياة إلا بها، فكيف قصرت وكيف فرطت في اختيار الأرض التي ستضع فيها بذرتك، ويخرج منها ولدك.
أول شيء في الطريق لإعداد جيل التمكين: المرأة ذات الدين، قال ﷺ: (تزوجوا الودود الولود)، فربط بين هاتين الصفتين (الودود الولود)، ولذلك المرأة إذا لم تنجب تشعر في قرارة نفسها أنها ليست امرأة، وتكاد تجن أحيانًا سعيًا وراء الولد؛ لأن الولد يقوي الود والروابط بين الرجل والمرأة ويمتنها، فإذا أحب الرجل امرأته أحب أولاده منها، وإذا كره امرأته قد يكره أولاده منها.
القصص التي نسمعها كل يوم والد لديه مال وفير، وأولاده من أفقر الناس في البلد -فأغنى الناس وأفقرهم في ذات الوقت هو البخيل- ويذهب الولد يستجدي أباه قائلًا له: لا أجد مسكنًا، وعندك بيت، وعندك مال، ابن لي مسكنًا.
فيقول الأب: أنا رجل عصامي، وبدأت ثروتي من الصفر، لم لا تبدأ أنت الآخر كذلك؟ هل هناك أب يخاطب ابنه بهذه اللهجة، وبهذه الطريقة؟! فلما بدأت تشتكي وتسرد تاريخها مع زوجها، مشاكل من أول يوم، فكرهها وكره أولاده منها، ومن ثم يولي الدفء من البيوت بسبب عدم الانسجام بين الرجل والمرأة، وبالتالي لا يفرز لنا جيل أبدًا.
فـ خديجة ﵂ مثال للمرأة الوفية، فهي صاحبة الدين المتين، فقد وقفت جوار زوجها لما كان وحده، في وقت عز فيه النصير، كان وحده وهي امرأة، وهي التي قوت من عزمه، واعترف لها بالفضل والجميل، ولذلك تنازع العلماء: أيهما أفضل خديجة أم عائشة؛ لأن النبي ﵊ بعد أن قال كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع أردف هذا بقوله: (وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) إنما ذيل بهذا حتى لا يضيع فضل عائشة.
خديجة لها الكمال، وعائشة بالنسبة لسائر النساء ما عدا هؤلاء الأربع الكمّل كفضل الثريد على سائر الطعام، فقطعًا هذا أنزل درجة من الكمال، والتحقيق: أن خديجة ﵂ أفضل للنبي ﷺ، وعائشة أفضل لأمته، فقد نقلت الكثير من الأحكام عائشة ﵂! وكم نقلت من الحديث والعلم! عاشت بعد النبي ﷺ أربعين سنة تفتي وتنقل العلم، وتعلم وتهذب وتربي، والذي ينفع النبي ﷺ أفضل.
ولذلك استدل شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ وهو يناقش الرافضي ابن المطهر الحلي، حينما قال: إن عليًا أفضل من أبي بكر ﵄، واستدل على ذلك بحديث منكر، وهو: (أن النبي ﵊ لما أراد أن يكسر صنمًا فوق الكعبة انطلق هو وعلي بن أبي طالب، فصعد النبي ﷺ فوق أكتاف علي، فعجز علي عن حمله، فصعد علي على أكتاف النبي ﷺ وتناول الصنم فكسره، فاستدل الرافضي على فضل علي أنه صعد على منكبي النبي ﵊، وقال: ولا يوجد أحد صعد على منكبيه إلا هو).
رد شيخ الإسلام ﵀ قائلًا: كلا، بل الذي ينفع النبي ﷺ أفضل من الذي ينفعه النبي، ولذلك قال النبي ﷺ في أبي بكر: (ما منكم من أحد له عليَّ يد إلا جزيته بها إلا أبا بكر، فله عليَّ يد يجزيه الله بها) كأنه قال: أنا لا أستطيع أن أجزيه، فالله يتولى جزاءه، فـ أبو بكر نفع النبي ﷺ، لذلك كان شرفًا له أنه الذي ينفع لا الذي ينتفع.
فـ خديجة ﵂ نفعت النبي ﵊، ولذلك نال

13 / 4