ولا يخطرن ببالكم أنني أقول هذا القول المحزن جزافا وأرمي حبل الكلام على غاربه، إنما أنا أقول ما أعتقد وأقرر ما أيد صدقه لدي الاختبار، وقد ولد ذلك الاختبار في نفسي أدلة وبراهين يستحيل نقضها ويصعب دحضها.
رأيت أن في الأمم الراقية أربع علامات لا تخلو منها أمة، وإن خلت من بعضها لا تخلو من معظمها، ويكون فيها جراثيم بعض تلك العلامات إن كان ذلك البعض خفيا.
العلامة الأولى: التضامن الجنسي، والثانية: ظهور أفراد لدى الشدائد والأزمات ينيرون ظلمة الشك ويقضون على عوامل الضعف وينهضون بالأمة نهضة ممدوحة تستجد بها ما فقدته في كبوتها، والعلامة الثالثة: تفاني قواد الرأي في المنفعة العامة وتلاشيهم في خدمة الأمة؛ وبعبارة أخرى موت عاطفة الأثرة من نفوسهم، والعلامة الرابعة: ظهور آثار النشوء والارتقاء في أفراد الأمة. تلك العلامات الأربع ما خلت منها أمة إلا كان ذلك إيذانا بموتها ودليلا واضحا على دنو أجلها ودمارها.
أما العلامة الأولى، وهي التضامن الجنسي، فرابطة لا يجهل نفعها؛ لأنني إذا لم تربطني بجاري رابطة غير الجوار كصحبة متينة أو نفع مشترك دائم لا يسوءني ما يسوءه ولا يسرني ما يسره إلا تظاهرا ومجاملة، كذلك إذا لم تربطني بأبي رابطة سوى أنه أنفق علي في طفولتي وسهر علي في فتوتي؛ فلا يأتي يوم زوال تلك المنفعة إلا وهو لي كغيره من الرجال؛ إذن لا بد من رابطة دم ومبدأ وفكر، أو بعبارة أوضح رابطة تشبه ما يربط أفراد الأسرة أو أسرات القبيلة، فإذا لم تكن هذه الرابطة في الأمة فلا يمكن أن يوفق بين أفرادها إلا ريثما تهدأ العاصفة.
وهذا مجموعنا، انظروا فيه حيثما شئتم، وافحصوه كيفما أردتم، لا ترون به أثرا لتلك الرابطة الجنسية، وقد قال لي أجنبي عاقل: لقد حاولت أن أعد الشعوب والأمم التي تألف منها مجموع سكان الجمهورية البانجلوسية الكبرى، فأفلحت في ذلك، وحاولت مثل ذلك العمل في بلدكم فلم أفلح. وقد صدق هذا القائل؛ فإن فينا من كل معنى طربا، بل توجد في الشخص الواحد آثار مائة أمة، وهذا راجع إلى أجداده وآبائه ومولده والوسط الذي عاش فيه والتربية التي نشأ عليها وطباعه الغريزية وأخلاقه التي اكتسبها، فإذا كان في الفرد كل تلك العجائب فما بالك بالمجموع؟!
هذه أمة هوز لا يوجد فيها اثنان يتفقان على رأي واحد في أهم ما لديهم من المسائل، وإن اتفقا في الفروع اختلفا في الأصول، وليس هذا الاختلاف عجيبا أو مستغربا، إنما هو نتيجة الاضطراب، وهيهات أن ينتج التعدد وحدة أو تلد الفوضى نظاما!
هذه الجمهورية البنجالوسية العظيمة مؤلفة من عنصرين عظيمين؛ الأول: عنصر معروف يربط أفراده الدين واللسان والطبع والمنفعة، وهو العنصر الغيصوني. والعنصر الثاني: خليط من أمم أخرى آوى إلى رحاب العنصر الأول وألف على ممر الزمن وتعاقب السنين عنصرا جديدا هو عنصر الدخلاء. ولما كان من نواميس الطبيعة الثابتة أن الكل يجتذب الجزء، كذلك تمكن العنصر الغيصوني بقوته من اجتذاب عنصر الدخلاء، فالتحما ووقف في حروب تلك الجمهورية الغيصوني إلى جانب الدرعي والإيطالي إلى جانب الإسباني واليوناني إلى جانب الزنجي، كلهم تحت لواء واحد وإمرة واحدة يدفعون عدوا واحدا ويدافعون عن غرض واحد، أما نحن في هوز فهيهات أن يجمعنا ما هو أشد من الموت.
أما العلامة الثانية وهي ظهور أفراد أشداء لدى الأزمات والشدائد، فمثلها في الأمم كمثل السم في الأفعى والقرن في الثور والأظفار في الأسد، فهذه قوى كامنة لا تظهرها إلا الأخطار ولا تخرجها من حيز السكون إلى حيز الحركة إلا الأهوال والمصائب، اصدع أفعى تلذعك، وهج غضب ثور ينطحك، وغظ أسدا يفترسك، كذلك الأمم الحية إذا اغتصبت حقوقها حاربتك، وإذا آلمتها آلمتك، وإذا كان بينها وبينك ثأر لا تنساه وتثأر لنفسها، وإذا أردنا ضرب الأمثال قلبنا صحف التاريخ رأينا ثمستوكل وديموستين في أثينا، وهنيبال في قرطاجنة، وقيصر وتراجان في رومة، ومحمد في بلاد العرب، وشارل مارتيل ونابليون في فرنسا، وكرومويل في إنكلترا، ووشنجتون في أمريكا، وبطرس الأكبر في روسيا، ومتسوهيتو في اليابان، وبيسمارك في ألمانيا، وغاريبلدى في إيطاليا، وكوشوت في النمسا؛ هؤلاء الأشخاص وغيرهم ممن أنهضوا الأمم ولموا شعثها وأحيوا أمواتها وأعادوا لها قوتها، هم أسلحة الأمم، هم قرن تلك الشعوب وبراثنها، هم خلاصتها وزبدتها، فردهم بأمة، وواحدهم بألوف مؤلفة. خذ واحدا من هؤلاء الأبطال وأمعن النظر في تاريخ نشأته تر أن فيه صفات شتى وقوى مختلفة وغرائز كثيرة لم تجتمع لغيره، وكلها مجتمعة في أمته، هؤلاء هم روح جسم الأمة، وقد يظهر ذلك بأجلى وأعظم مظاهره إذا التقى اثنان منهم في ميدان، فقد التقت أمتان، فهما إذا تشابها فقد تشابه شعبان، وإذا اقتتلا وفاز واحد فقد فاز عنصر على عنصر وانتصر عضو من جسم الإنسانية على عضو آخر. ظهر كل بطل من هؤلاء الأبطال في وقت بلغ فيه الضنك والضيق من الأمم مبلغها، فما هي إلا طرفة عين إلا انفرجت أزمتها وزالت مصيبتها وحسن طالعها وعلا نجمها، كلهم قاسوا أهوالا شدادا وعاكسهم الزمان وقاومتهم أحوال لا عدد لها، ولكن كلهم خرج من ميدان الوغى منصورا ظافرا، وكلهم خط على جبين الدهر اسمه بأحرف لا تزول. إن موسى نبي بني إسرائيل وواحدهم لما أن عجز عن هديهم وفشل في إصلاح شئونهم أتى بمعجزة أعجب عندي مما يقال عن قلب نظام الطبيعة باختراق البحر وإغراق فرعون وجنوده؛ هي أنه أطلق هؤلاء الضالين في وادي التيه وهو بينهم أربعين عاما حتى مات شيوخهم ونشأ منهم جيل بعد جيل وشعب جديد لا يشبه الشعب القديم، ومات موسى كغيره وقد أثمر عمله بعد موته، موسى بطل نفع قومه بموته كما نفع محمد قومه بحياته.
انظر إلى بلادنا واستعد تاريخها منذ أخنى الدهر على دورها الأول، دور المجد الباذخ والعز الشامخ، فهل ترى فيها واحدا من هؤلاء الأبطال؟ عجبا أيخلق ثور بلا قرن، ويولد أسد بلا براثن؟! كلا، لا غرابة في الأمر ولا عجب، إنما هوز حيوان عجيب ليس له نوع يعرف ولا جنس يوصف، وقد يكون من فلتات الطبيعة، وإذا نسينا ذلك الماضي ونظرنا إلى الحاضر فأين سلاحنا؟ إن أجنبيا أقامنا وأجنبيا أقعدنا وأجنبيا أحيانا وآخر يميتنا.
لقد ظهر فينا رجال في أشد أزماتنا، فكان مثلهم كمثل شبح والد همليت، ينذر بالويلات ويشحذ الهمم إلى حين، ثم يعود فيصير أول المخذولين من قومه، وهم قوم يبوحون بالأسرار، ولا يطلبون بالثأر، ولا يفرون إذا لاح ضوء النهار. إننا اليوم وغدا في أزمة من أشد الأزمات، وقد وقعت بنا نكبة من أفظع النكبات، فأين السم الذي نقاوم به؟ وأين القرن الذي نهاجم به؛ قرننا؟ بل أين الذيل الذي نذب به الحشراب والهوام؟
Unknown page