Lamha Latifa
اللمحة اللطيفة في ذكر أحوال كسوة الكعبة الشريفة
Genres
فيما يلاحظ من وجوبها الآن وتوكيدها في هذا الزمان، وذلك أن قاعدة الشرع تعظيم هذا المحل بل طلب زيادة تعظيمه وتبجيله في النفوس، ومضاعفة مهابته ألا ترى أنه عليه السلام ندب لمن وقع بصره على الكعبة الشريفة أن يقول: اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة وتكريما، وزد من شرفه وعظمه إلى آخر الدعاء المشهور، وعلمنا أن إسدال ستوره على أجمل صورة من التجديد والجمال من باب التعظيم، وفي الحديث (الشريف) أن النبي صلى الله عليه وسلم أتته حلل فرقمها على أصحابه، فقال له عمر رضي الله عنه: اجعل هذه الحلة لك لتلبسها للوفود، فدل قول عمر رضي الله عنه ذلك على أن التجمل بالملابس للوفود مطلوب شرعا، معتبر عرفا، والعالم يفدون من سائر الأقطار إلى هذه البنية الشريفة، فيجب أن تكون على أكمل هيئات التعظيم، وتعظيم ظاهرها بهذا الإلباس وقد قال تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد}، وقال تعالى ممتنا على عباده: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى}، وقد نهى عليه السلام عن زخرفة المساجد، ومع ذلك فقد أباح تحلية هذا البيت الشريف بأنواع الذهب والفضة والتضميخ بأصناف الطيب والخلوق، وألبسة الحرير وتقبيل أركانه واستلام جدرانه، فعلمنا أن له حكما يخصه، وأن لكل ذات جمال يتعلق بها، وجماع ذلك كله التعظيم، وزمامه التبجيل، وأن ترك ذلك يفضي إلى الامتهان وعدم الاهتمام، ويباين المقصد الأول من التبجيل، وقد قال الشيخ ناصر الدين بن المنير -رحمه الله-: الكسوة في هذه الأزمنة أهم الأمور [إذ الأمور] المتقادمة تتأكد حرمتها في النفوس، وقد صار ترك الكسوة في هذا الزمان عضا في الإسلام وإضعافا لقلوب المسلمين، أقول: وفي الترك أيضا عدول عما لاحظه الشارع صلوات الله عليه من إظهار القوة والملكة والملاءة لأعداء الدين، فقد أباح الشرع لبس الحرير، وتحلية آلة الحرب، واستعمال الذهب والفضة المحظورة شرعا في الحروب للجمال، ووقوع المهابة في النفوس، فلو أهمل -والعياذ بالله- إلباس الكعبة كسوتها لأدى إلى ضد التعظيم، والتعظيم واجب، وما عطل الواجب فتركه واجب فينتج الإكرام، والإكرام واجب، وأيضا فإن صون هذه البنية المباركة مطلوبة شرعا وعرفا، وعدم إلباسها سترها وملاقات جدرانها الرياح والشمس، ولاسيما في ذلك القطر الحار مع تطاول الأزمنة وسرعة الانهدام وملاحظة بقا تلك العين واجب، والإلباس يتوصل به إلى ذلك، وما كان سببا للواجب فهو واجب؛ لاسيما وهذا مقدور حثا مطلوب شرعا، وأيضا قد يلاحظ بقا تلك البنية الأولى المصروف عليها من حلال الأموال قطعا، والحجاج وإن تعقب ابن الزبير بتنقص ما [كان] زاد فيها من حجر إسماعيل عليه السلام، وفتح الباب الذي سده الحجاج، وابن الزبير إنما فعل ذلك لرواية عائشة رضي الله عنها قوله عليه السلام: أن قريشا قصرت بهم النفقة ولولا حدثان عهد قومك بالإسلام لأدخلت الحجر، وفعلت كذا وكذا الحديث؛ ففعله ابن الزبير في خلافته، ونقضه الحجاج في زمن استيلائه، فالحجاج في هذه الحالة منقص لا مزيد وقد جاء أن هارون الرشيد يحج في خلافته، وكانت مدة خلافته يحج سنة ويغزو أخرى، فاتفق أن الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه وجده فقال: إني أريد أن أعيد البيت إلى ما كان فعله ابن الزبير، فقال له مالك رحمه الله: يا أمير المؤمنين لا تفعل ذلك حتى لا يتخذ الملوك هذا البيت ملعبة يتصرفون فيه بالهدم والبناء، وقد يكون الإمام رحمه الله لاحظ بقا البنية بذلك المال الأول، وأن لا يدخل فيه مال مشتبه، ومثل هذا ما يتطرق إليه الذهن، لاسيما مع ورع مالك وملاحظته سد باب الذرائع، وأيضا فإن عدم الستر قد يفضي إلى وصول نجاسة صورية تضاف لأحجار الكعبة الشريفة من زرق الطير ومثله، وإن كان الطير السليم لا يعلوها غالبا، وإنما يعلوها المستشفي، فقد يصيب الذرق جوانبها ويتحقق صوبها عن ذلك طريقة الستر، والستر واجب، وقد قال الله تعالى: {وطهر بيتي للطائفين} إلى آخر الآية والطهارة أتم من أن تكون صورية أو معنوية.
Page 140