قبل أن تنطلق الثورة الكبرى في فرنسا كان الشيفاليه بيير ده لامرتين، والد الشاعر، يتظاهر بميل شديد للفكرة الجديدة التي انبعثت منها جذوة المبدأ الثوري، وكان كمعظم أشراف المقاطعات ميالا إلى التفكير الحر، على أنه لم يفقد من صدره إيمانه بالملك والمبدأ الملكي. وهذا الإيمان بالملكية كان راسخا في نفسه، ففي شهر نوار من العام 1792، اتصل به أن العرش في خطر يتهدده، فأسرع إلى باريس ووضع سيفه تحت تصرف الملك، وما لبث أن راح يدافع عن قصر التويلري، فأصيب بجرح وكاد يقع في قبضة الثوار لو لم يخلع عليه بستاني القصر ثوبه ليحجبه عن الأنظار.
على أن سوء الطالع ما لبث أن هدى إليه الثوار في مدينة ماكون، فقبضوا عليه في 5 تشرين الأول 1793، وبقي يعاني آلام السجن إلى 30 تشرين الأول 1794.
من هذا الفارس ولد شاعرنا الكبير ألفونس ده لامرتين، في العاشر من تشرين الأول 1790. قال الكاتب جورج ليكونت، أحد أعضاء المجمع العلمي الفرنسي، في محاضرة عن لامرتين ألقاها مؤخرا في جامعة الأنال: «إن الشاعر ده لامرتين لم يولد في قصبة ميللي كما شاء هو نفسه أن يقول في إحدى قصائده الجميلة، بل في مدينة ماكون. وقد يكون الشاعر أبى أن يعترف بالحقيقة إيثارا لقصبة ميللي التي كان يحبها ويلقبها «بعش الحمام»، والتي كان يرى فيها إطارا جميلا لشواعره.»
وكانت أمه من النساء التقيات المتعبدات، فعلمته عبادة الخالق من خلال الجمال الذي يمزجه الله بالطبيعة، وكانت ميالة إلى الأدب، وتؤثر من رجاله فنيلون وراسين، ومن روائعه أسفار التوراة، وكثيرا ما كانت تقرأ هذه الأسفار على مسمع أبنائها، ومن هؤلاء ألفونس الذي ما عتم أن أشرب في قلبه الميل إلى الأدب وإلى الشعر بنوع خاص.
فلما بلغ الشاعر الثامنة من عمره، كانت الثورة قد سمحت لبعض الكهنة الذين خضعوا للدستور بأن ينشئوا مدارس في القرى، فدخل ألفونس إلى مدرسة بوسيير التي أنشأها الكاهنان فرنسوى أنطوان ديتر وأنطوان فرنسوى ديمون، وبقي ثلاث سنوات يتردد على هذه المدرسة مع أولاد الفلاحين، فيجتاز كل يوم الطريق المنحدرة من ميللي إلى بوسيير والمغمورة بالثلج طوال أشهر الشتاء. وكأن الأب ديمون شعر بميل خاص إلى الفتى لامرتين، فكان يختصه بعناية كبيرة، فيعلمه الفرنسية واللاتينية بغيرة وإخلاص، ويصحبه معه في نزهاته، حتى أصبح الفتى شديد التعلق بأستاذه الكاهن الشاب، وقد يكون لهذا الأخير على بجوسلين، أو قد يكون هو نفسه جوسلين الذي صوره الشاعر فيما بعد في روايته الشعرية المعروفة بهذا الاسم. قال جورج ليكونت: «لا مشاحة في أن الكاهن ديمون أثر على حداثة لامرتين تأثيرا شديدا، حتى إن سكان ماكون لا يذكرون ذلك الكاهن إلا مرفوقا باسم الشاعر، وحتى إن العابرين في طريق بوسيير إذا سألوا أحد الفتيان عن الطريق المؤدية إلى قبر الأب ديمون في النادر ما لا يجيبهم بسذاجة طبيعية: ضريح جوسلين؟ ...»
وكان ألفونس ده لامرتين كلما كبر تصعب طبعه ومال إلى الاستقلال، حتى لم يجد أهله بدا من إقصائه عن البيت الوالدي وعن أمه التي كانت تغرق في تدليلها إياه؛ ففي شهر آذار من العام 1801 جيء به إلى مأوى لاكاي الذي كان يديره الأستاذ بوبيه وشقيقتاه، إلا أنه لم يستفد كثيرا من تلك المدرسة التي كان يؤمها أبناء الأسر الكبيرة والغنية في ليون، والتي كانت تتقاضى 420 فرنكا كل ثلاثة أشهر، وهو مبلغ كبير إذا قيس بمرتبات المدارس في ذلك العهد. وما هو وقت قصير حتى بدأ لامرتين يشعر بالحنين إلى الطبيعة التي تعشقها في ميللي، ولكنه لم يجد مفيضا من الامتثال لمشيئة أهله، وبقي سنتين متواليتين في ذلك المأوى الموحش، حتى اقتنع أهله أخيرا بأن طريقة الضغط لن تنجح في ولدهم الذي كان ينطوي على أخلاق وطباع مستقلة حرة، فنقلوه إلى مدرسة بيللي. وإنا لننقل هذه الفقرة من مذكرات والدة الشاعر، قالت: «... وضعت هذا الابن العزيز بين أيدي «آباء الإيمان»، فالدير جميل والبلد جميل أيضا. ولقد زرت المدرسة هذا الصباح، واجتمعت بألفونس، فقال لي إنه مسرور جدا ...»
بقي لامرتين في مدرسة بيللي التي يديرها آباء الإيمان من العام 1803 إلى العام 1808، ولقد درس في هذه المدرسة البيان والفلسفة ومبادئ في الحقوق والرياضيات. ويلاحظ من يقرأ لامرتين أن الشاعر يذكر دائما أنه كان تلميذ اليسوعيين، سوى أن أمه كانت أدق منه عندما كتبت في مذكراتها أن بيللي لم تكن مدرسة يسوعية؛ فآباء الإيمان كانوا جمعية مستقلة تأسست أولا في النمسا عام 1799، ثم انتقلت إلى فرنسا في العام 1802 بمساعدة الكردينال فيش، خال نابوليون الأول، فأسست بضعة معاهد علمية سارت فيها على منهاج اليسوعيين.
وفي مدرسة بيللي تعرف لامرتين إلى الكاتب العظيم شاتوبريان الذي استطاع أن يملك الشاعر من جميع أطرافه، ويغرس في نفسه الميل إلى الأدب الرومانطيقي، وهو المذهب الأدبي الجديد الذي اعتنقه أدباء فرنسا في مطلع القرن التاسع عشر. فقد قرأ «روح النصرانية» وروايتي «أتالا» و«رينه»، وهي مؤلفات شعرية من الطراز العالي أسكرت الشاعر بجمالها الجذاب، وأيقظت فيه جذوة الشاعرية، ولقد أبقى لامرتين من القصائد التي نظمها في المدرسة تحت تأثير شاتوبريان ثلاثا هي: البلبل، الوداع، ونشيد.
البلبل
نشر لامرتين هذه القصيدة في كتابه «مذكرات أدبية»، وقدمها بهذه الكلمة: «وجدت صدفة في حقيبة قديمة ملأى بأوراق قضمتها الجراذين أبياتا في البلبل، لا أذكر أني نظمتها في الماضي البعيد، على أن الخط والورقة الصفراء أكدا لي أن هذه الأبيات إنما هي إحدى لعب مخيلتي الأولى، فأرجو صفحا عن القوافي والوزن.»
Unknown page