Lahn Hurriyya Wa Samt
لحن الحرية والصمت: الشعر الألماني في القرن العشرين
Genres
لحن الحرية والصمت
لحن الحرية والصمت
لحن الحرية والصمت
لحن الحرية والصمت
الشعر الألماني في القرن العشرين
تأليف
عبد الغفار مكاوي
لحن الحرية والصمت
الشعر الألماني في القرن العشرين (1) تمهيد الأرض
تتميز الحياة الأدبية في مرحلة زمنية معينة وفي ظل الظروف السوية، بأن إنتاج الجيل السابق يبلغ ذروته الناضجة، فلا يكون على الجيل اللاحق إلا أن يواصل السير على طريقه، أو يرفع في وجهه راية العصيان، ولكن الأوقات التي تشتعل فيها الأزمات قد تؤدي بالصراع الطبيعي بين الأجيال إلى القطيعة والحرب المهلكة، والأدب الألماني بعد الحرب العالمية الأولى شاهد على هذا؛ إذ اندفع أصحاب الحركات التعبيرية - التي ازدهرت وانطفأت في حوالي عشر سنين
Unknown page
1 - في هجومهم على الأجيال السابقة، وأصبح أدبهم بأجمعه صرخة حارة في سبيل أدب جديد يعبر عن إنسان جديد وقيم جديدة تحقق العدل والحرية والكرامة والإخاء البشري.
أما بعد الحرب العالمية الثانية، فإن الموقف مختلف تمام الاختلاف، لقد انشق الجيل السابق على نفسه بسبب الطغيان النازي الذي اضطر أنبل الأصوات إلى الهجرة أو النفي أو الصمت، كان هناك الأدب الذي أنتجه المهاجرون، ولا يزال قسم كبير منه مجهولا، وما عرف منه لم يتغلل بعد في وعي القراء والأدباء، وكان هناك أدب الكتاب الذين فضلوا البقاء في بلادهم أو اضطروا إليه، ونشروا كتبهم في ظل الطغيان (ولا يعني هذا بطبيعة الحال أنهم انضووا تحت لوائه القذر).
تسبب هذا الصدع في تشويه الصراع الطبيعي بين الأجيال على أنحاء مختلفة، وجاءت الأجيال الشابة فبدأت الحساب الشامل مع الأجيال السابقة على سنة الكارثة (1945م)، ثم أخذت تتطلع لحوار آخر مع أدب المهاجرين الذي بدأ يعود بالتدرج إلى وطنه الأصلي، وتبين للأجيال الشابة أن جيل المهاجرين جيل مختلف عنهم، وأن أصحابه الذين قاوموا الطغيان وتنبئوا بسقوطه ليسوا رفاقهم في السلاح، وتعذر على الشباب أن يجدوا نقطة الالتقاء مع الجيل الذي سبق الكارثة، فكان عليهم أن يبدءوا من نقطة الصفر المخيفة،
2
ولكنهم من ناحية أخرى لم يعدموا فرصة اللقاء مع أدب عظيم آخر كانت بلادهم قد فقدت الصلة به تماما؛ ألا وهو الأدب الأوروبي والأمريكي، ونشطت حركة الترجمة عن الإنجليزية والفرنسية بوجه خاص، وشارك فيها أدباء ما بعد الحرب بنصيب موفور، وتعرف القراء على أسماء كبيرة ولامعة في الرواية، مثل: جويس وبروست، وهنري جيمز وفرجينيا وولف، وهمنجواي وشتينبك وتوماس وولف فوكنر، بالإضافة إلى كافكا الذي كان مجهولا لهم حتى كتب عنه توماس مان ونشر أعماله ماكس برود، كما عرفوا أشعار باوند وإليوت وأودن وديلان توماس، وإنجاريتي ومونتاله وخيمينث ولوركا وجين وألبرتي ونيرودا، وبريتون وميشو وإلوار ورينيه شار وغيرهم وغيرهم من الشعراء والكتاب الذين استوعبتهم القارة، وبقي على الأديب الألماني أن يقرأهم ويتأثر بهم ويتحاور معهم، ولقد أقبل الأديب الألماني على هذا الزاد الوافد بشهية مفتوحة أوشكت أن تفسد معدته! ولم يستطع في البداية أن يتمثلهم ويبرأ من تأثيرهم، فكاد أن يفقد شخصيته ويضيع فرديته، وجدير بالذكر أن بعض الشباب ترجموا للشعراء الأوروبيين أو الأمريكيين، نذكر منهم على سبيل المثال: إنجبورج باخمان التي ترجمت إنجاريتي، وباول رسلان الذي ترجم رامبو وكوكتو ورينيه شار وإلكسندر بلوك وسرجي إيزينين وأوسيب باندلستام، واريش فريد الذي ترجم ديلان توماس وكارل كرولوف الذي ترجم عن الشعر الفرنسي والإسباني، إلى جانب عدد من النقاد والدارسين الذين أسهموا في هذه الحركة النشيطة.
وهنا نجد ملمحا يسري على الشعر كما يسري على الرواية، على اختلاف الأسلوب والموضوع والرؤية، وهو محاكمة الماضي، وتعرية أوهام الأجيال السابقة وآمالها الكاذبة في المستقبل، ومواجهة قيم الواقع والحضارة والمدنية والتقدم ... إلخ، على ضوء الكارثة البشعة والمستقبل الضائع والماضي الذاهب بلا عودة، تلاشى الأمل الساذج في مستقبل إنساني ومثالي، واختفى الإيمان الطيب بماض يرجى إحياؤه وبعثه، وبقي على الأديب أن يحدق في هوة واقع خرب بغيض لا يحتمل!
وليس معنى هذا أن الأدب صار محدودا بالواقع، بل معناه أنه اكتشف آفاقه اللامتناهية التي يحقق فيها إمكانياته المحدودة، بعد أن أغلق باب المستقبل في وجهه، ونفض يديه من ماض ثبت خداعه، صحيح أنه عزف عن رسم صورة الإنسان في المستقبل أو استلهام صورته من الماضي، ولكنه - وهذا هو سر اتصال التراث الذي لا يستطيع أحد أن ينكره مهما تنصل منه - قد استأنف التجربة العظيمة التي يتميز بها الأدب الألماني منذ أجيال: كيف يربى الإنسان؟ أو بالأحرى: كيف يستطيع الإنسان أن يحقق نفسه في هذا العالم؟ وسواء أجاب عليه - كما فعل بعد الحرب - باتهام المجتمع والبيئة أو القول بأن الإنسان حصيلة ظروفه ووضعه، فإنه لم يستطع في الحالين أن يكف عن إلقاء هذا السؤال الذي شغل به أدبه على مر العصور، ولم يستطع أن يعفي نفسه من مسئولية هذه الأمانة التي تقتضي منه الوعي بواقعه، والشهادة على عصره الذي يحاصره من كل ناحية، وليس عجيبا بعد هذا أن يغلب الطابع الأخلاقي بوجه عام على أدب ما بعد الحرب، وأن يذهب الشعر والقصة والمسرحية والمقال والتمثيلية الإذاعية في حساب الضمير كل مذهب، وهذا يؤكد صدق عبارة الفيلسوف الإسباني أورتيجا جاسيت، حين قال: «إن الإنسان يضطر إلى الفعل بوحي من ضميره وشعوره بالمسئولية، حين يعجزه الوهم والخيال عن التحليق ...»
لعل الدهشة أن تكون هي الدليل المقنع على جودة عدد كبير من القصائد التي كتبت بعد الحرب، الدهشة من قدرة الأديب الألماني على الكتابة والإبداع على الرغم من كل شيء ... على الرغم من كل ما كابده وكابدته بلاده - في ساعة الصفر المخيفة - من جوع وشقاء وذل وخراب، ولن تكفينا الصفحات الطوال للحديث عن كل ما تنطوي عليه عبارة «على الرغم من ...» وقد يكون أول ما يرد على الخاطر أن الشعر استطاع أن يعري الواقع من أقنعته الزائفة، وأن يصمد له ويتحداه وجها لوجه، ويطرح كلمات وتعبيرات كانت عزيزة على المعجم الشعري الموروث، فأصبحت أكاذيب تثير الضحك والسخرية! ومن الصعب أن نؤلف بين أشعار ما بعد الحرب في نسق معين؛ لأن معنى هذا أن نتسرع بفرض النظام على واقع متفجر مضطرب لم يعرف النظام.
وقد تساعدنا النظرة العاجلة إلى المجموعات التي توالت في الظهور على تبين بعض الخصائص التي يمكن - مع الحذر الواجب! - أن تهدينا إلى خيط أو خيوط مشتركة بينها، ففي سنة 1948م ظهرت مجموعة شعرية لجنتر آيش
3 (1907-1972م) بعنوان «أحواش نائية»
Unknown page
Abgelegene Gehöfet ، وظهرت معها بعض «العلامات» الدالة على طابع الشعر المعاصر: الصور التي لم تأت من الأفكار، بل ألفت بينها مجموعة من التركيبات اللفظية والصوتية، الاقتصار على «الهنا» و«الآن»، «تعقيل» اللغة إلى الحد الذي أصبحت معه قادرة على استيعاب الواقع الجديد بلا صيغ مسبقة أو كليشهات محفوظة، التشكك في العواطف والمشاعر التقليدية المتجانسة إزاء واقع قاس مجرد من كل عاطفة وتجانس، تجريد الشعر من عاداته القديمة وكأنه مريض يعالجه الطبيب من أدوائه المزمنة، واحتفاظه مع ذلك بنبض الشعر وعصبه الحي، على الرغم من مبضع الجراح وأدواته الحادة! ولا نبالغ إذا قلنا: إن عذاب الأسر والاعتقال والجوع والحيرة المطلقة أمام الأسئلة المصيرية «من أين؟ وإلى أين؟» التي أصبحت تغرز في جلد البشر بعد أن كانت من نوع القلق الفلسفي والميتافيزيقي الذي علاه الصدأ - كل هذا جعل الشعر ضرورة ملحة كالخبز والماء والعلب المحفوظة، التي كان يعيش عليها الشعراء بعد المحنة!
وبدأ الحوار النقدي مع الأسلاف، وسؤال النفس وحسابها، وبحث الشاعر عن اتجاهه وطريقه في ديوان لاحق لنفس الشاعر هو «رسائل المطر
Botschaften des Regens »، أو في قصائد كارل كرولوف
Karl Krolow (1915م-...)، تحولت القصيدة إلى أداة لا غنى عنها، سكين أو فتاحة علب محفوظة، إنها تستخدم في غرض حيوي أو يومي، دون أن يكترث الشاعر في كثير أو قليل بقيمة ما ينتجه، بل دون أن يسأل نفسه إن كانت له قيمة على الإطلاق، فالشاعر الذي تألم وجاع وأهين في معسكرات الأسر والاعتقال والسخرة، وراح يلتقط أعواد القش أو أدوات التعذيب والعصي التي ضرب بها ليصنع منها آلة موسيقية يعزف عليها، أو زخرفة تعزيه عن الجمال الذي حرم منه؛ هذا الشاعر لن يبالي بقيمة ما يكتب، لقد تخلى عن طموح سلفه القديم ودعاواه العريضة وأحلامه الضخمة، ورد الشعر إلى وظيفته البدائية عندما كان مرتبطا بضرورات الحياة الأولية ارتباط الأخ بإخوته، وعندما كان ينشر رموزه وعلاماته السحرية في حقل التجربة البشرية الضيق المحدود، إنه لا يحلم بإنشاء أسطورة أو سرد حكاية؛ لأنه يعي الأخطار المحدقة به من كل ناحية، أقصى ما يتطلع إليه أن يتمتم لنفسه بتعاويذه السحرية؛ ليحميها من الخطر المباشر الذي يتهدده، إنها ليست حكايات أو أساطير يرويها الآخرين، ولا هو يضني نفسه بالتماس الكلمة العذبة الرنين أو اللحن الموسيقي الصافي - كما كان يفعل آباؤه من الرومانتيكيين الجدد أو الرمزيين مثل: رلكه وجورجه وهسه ... إلخ - وليست القصيدة التي يفزع إليها من قبيل السحر؛ لأنه لا يبالي إن خرجت تعاويذه وتمتماته لنفسه، كما تخرج همهماته الآلات الصاخبة أو نشيج الأطفال الجياع، أو أصوات الأطلال المتداعية في المدينة المحتضرة ...
ومع هذا، فإن الشاعر إذا كان لا «يسحر» ولا «يطرب»، فهو لا يحرم نفسه من حرية اللعب، ها هو ذا واحد من أشعر أبناء الجيل القديم - وهو كرستيان مورجنشتيرن (1871-1914م)
Christian Morgenstern
يستنكر على بني وطنه ما اتهمهم به نيتشه من «الجد الوحشي»، فيبعث بنماذجه العجيبة في «أغاني المشنقة» (1905م)
Galgenlieder
عبثه البريء العميق الساخر، وها هو ذا يواخيم رنجلنتز (1883-1934م)
Joachim Ringelnatz
Unknown page
يستسلم لخواطره العذبة الضاحكة التي تنبعث من حياته الشريدة البائسة، فإذا بالجدد على لسان جنتر جراس (1927م-...)
Gunther Grass
وفولفجانج فايراوخ (1907م-...)
Wolfgang Weyrauch
وهانز ماجنوس إنسنز برجر (1929م-...)
Hans Magnus Enzensberger ، وفالتر هولرر (1922م-...)
Walter Hollerer ، وغيرهم يصلون بالمغامرة إلى مداها، ويلجئون للصور والمعاني القديمة لإبراز تفاهتها وعدم جدواها، ويلعبون أو بالأحرى يعبثون بالحيل والأساليب الفنية الموروثة؛ ليزيدوا التأثير حدة والوعي يقظة وتوترا.
ولعل أهم ألوان هذه المخاطرة أو هذا العبث أو هذا التجريب، أن يكون هو اكتشاف «الدادية» التي تأسست أثناء الحرب الأولى وبعدها بقليل، أو بالأحرى إعادة اكتشافها من جديد، مع التخلي عما كان فيها من تهويلات وبهلوانيات وفرقعات لفظية، والحرص على ما يمكن أن تقدمه من طاقات تجريبية هائلة، والتفتت الأنظار إلى الشاعر والرسام والنحات هانز آرب
Hans Arp . (1887م-...)، الذي كان من أوائل مؤسسي الحركة، وبدأ الشباب يتأثرون به في قصائدهم التجريبية وبزميله كورت شفيترز
Kurt Schwitters (1887- 1948م)، وما زالت هذه التجارب تجري اليوم على قدم وساق، وتهدد بكسر رقبة الشعر وإلغاء الشاعر نفسه من القصيدة؛ ولهذا فسوف نقف عندها بعد قليل وقفة قصيرة.
Unknown page
ولا يمكننا أن نتحدث عن الشاعر الألماني بعد الحرب الثانية، بغير أن نلفت نظر القارئ إلى جوهر هذا الشعر نفسه وطبيعته في هذا القرن، وما بقي منه بعد الحرب أو بعد ساعة الصفر، إن الشعر الألماني - كما يقول الشاعر الكبير كارل كرولوف
4 - كان دائما من وحي الساعة، وعكس على طريقته الجانب الموقوت المحدود بالظروف السياسية والاجتماعية، فبدا بدوره موقوتا ومرهونا بظروفه - ولم يكن الاتصال من طابع القصيدة الألمانية فيما مضى من تاريخها، ولا أظن أنه كان طابعها في أي أدب من الآداب، لقد كان دائما شعرا يتسم بالجهد والعناء، ولا يطفر طفرة حتى تستهلك، ولا يتصل بالتراث حتى يعلن عليه القطيعة - أي إنه كان مرهونا بظروف بلده ومبدعه في أغلب الأحوال؛ لهذا فقد الهدوء والاستقرار اللازمين لتطوره في مرحلة معينة من تاريخه - ولهذا أيضا يتحتم علينا أن نرصد موقفه وردود فعله على الأزمات التي هزت وطنه في سنوات 1914 و1918 و1933م.
كانت القصيدة تهرب من مواجهة الأزمة، أو تنقل رد الفعل إلى عالم جمالي منعزل، ربما لأنها تعودت على أنماط معينة من ردود الفعل، لم تستطع أن تخرج عليها أو تتخلص منها، فلم تلبث في كل أزمة واجهتها أن عادت إلى نفسها ولاذت بوحدتها، يؤكد هذا أنها عندما حاولت أن تخرج من عزلتها التقليدية - كما حدث مثلا في بداية الحرب العالمية الأولى - تفجرت لفترة محدودة، فبدت محمومة، مسرفة في الشطط والجموح، وشوهت نفسها بنفسها، وشعر التعبيريين الذين أشرنا إليهم إشارة عابرة فيما سبق، مثل واضح على هذه الهزة المفاجئة التي استنفدت إمكانياتها، وكشفت عن عجزها، فانطفأت شعلتها المشبوبة في فترة قصيرة كعمر الزهور، لقد عبرت قصيدتهم عن صرخة نبيلة متأججة بالعاطفة الصادقة - ولكن لم يلبث الشلل أو الموت أن ران عليها وأخمد أنفاسها، وكأن نجاحها السريع كان السبب في إخفاقها السريع.
ولعل هنا سببا آخر لهذا التوقف المفاجئ الذي يعتري الشعر الألماني في معظم مراحل تطوره، ذلك أنه - شأن الشعر في كل الآداب - يصدر عن أناس متوحدين مع أنفسهم، عن طاقات متفرقة تميل إلى التصادم والتصارع أكثر مما تميل إلى الانضواء تحت لواء حركة أو مدرسة متجانسة (وما أكثر الحركات والمدارس في تاريخ الأدب الألماني بوجه عام، وما أكثر ما كانت تلتئم لتفترق، وتتحد لتنفصم!)؛ ولهذا فقد يكون من الأنسب أن نتحدث مثلا - في سياق الكلام عن تطور هذا الشعر حتى أواخر الثلاثينيات - عن شعراء تعبيريين مثل: تراكل وهايم وبن
5
وبرشت في المرحلة الأولى من تطورهم، بدلا من الحديث عن حركة تعبيرية عامة تنكر لها معظمهم أو فقد الصلة بها، أو لجأ إلى أحضان القصيدة السياسية مثل: يوهانيس بيشر (1891-1958م)
Johannes Becher ، أو مات أو لاذ بالصمت أو آثر الانتحار.
ولكن إصابة القصيدة بالشلل بعد انطفاء الحركة التعبيرية لا يعني أنها توقفت، لقد ظلت باقية، وإن كان البقاء لا يعني الحياة، أخذت تجتر أيامها أو تحملها على ظهرها، ولم تجد القدرة أو الشجاعة على التجربة والمغامرة، وسقط معظم أصحابها الذين لم يهاجروا من وطنهم ضحية الفاشية، والتيار الوحيد الذي نجا من هذا المصير وتشبث بالراية بعد احتضار التعبيرية هو شعر الطبيعة - (وقد كان التغني بالطبيعة الجليلة الغامضة من أبرز ملامح الشعر الألماني فتاريخه يرجع إلى أكثر من مائتي عام، منذ أيام البرشت فون هالر (1708-1777م)، بل منذ أيام بروكيس (1680-1747م)، حتى أيام جوته (1749-1832م) وهلدرلين (1778-1842م) وأيشندورف (1788-1857م)، والشاعرة العظيمة أنيته دروسته - هيلز هوف (1797-1848م))، هرب الشاعر إذن من جبروت السلطة أو تعاسة الواقع إلى معبد الطبيعة، وراح يداوي جراحه أو يلتمس النجاة من الرعب والوحشية، أو يتزود منها بالإيمان والعزاء، ولا شك أن شعر الطبيعة هو الشعر الوحيد الذي استطاع أن ينقذ نفسه من الكارثة الشاملة، فبقي وحده في الميدان، وتلقفه المحافظون العظام فنوعوا فيه ووسعوا آفاقه.
والمحافظون يتمتعون دائما بطول العمر، ويجيدون «المحافظة» على أنفسهم في أسوأ الأحوال، لقد لجئوا إلى عزلتهم أمام الضرورة القاسية، وعكفوا على شعر الطبيعة الذي لم تفكر يد الإرهاب في مصادرته أو إحراقه، وبذلوا جهدهم في الإبقاء على قصيدة الطبيعة فلم يطمحوا إلى تغييرها وتجديدها، واعتصموا بسطح الماء، بينما كان طوفان التجديدات الثورية يزحف على الأبواب !
والعجيب أن الذين بدءوا بعد سنة 1945م في إرساء القصيدة الألمانية على أساس جديد كانوا من الأسماء المعروفة التي تتمتع بالاحترام والتقدير، وقد حظيت مجموعاتهم التي صدرت بعد الحرب بنجاح كبير، وأقبل عليها القراء أيما إقبال، نذكر من بينها «يوم الغضب»
Unknown page
Dies Trae
للكاتب القدير المتدين فيرنر برجنجرين (1892-1964م)
Werner Bergengruen ، و«عقيدة البندقية»
Venezianisches Credot
لرودلف فون هاجلشتنجه
Rudolf Hagelstange (1912م-...)، وكان في ذلك الحين موهبة شابة تسعى على الدرب المحافظ، وإن قدمت شهادة نادرة على قدرة الشعر على المقاومة، (وقد صدرت المجموعتان الأخيرتان في سنة 1945م).
وبينما كان شعر الطبيعة عند المحافظين والمجددين يمضي في طريقه إلى التطور، وكان شعر «المحنة والأطلال» - وهو رد فعل عاطفي مباشر للحيرة واليأس والفوضى والذهول الذي جاء في أعقاب الحرب - قد خبأ وانطفأ في حوالي سنة 1948م، طرأت على القصيدة الألمانية بعد سنة 1950م تغيرات شاملة، كانت في مجموعها أقرب إلى روح المغامرة الجسورة، كان بعض هذه التغيرات من وحي الساعة، وكان بعضه الآخر تأثرا ومحاكاة للشعر الأوروبي الزاحف، سواء منه الشعر الأبوللي أو العقلي المحض، أو الشعر الديونيزي
6
الذي يغترف من ينابيع الخيال وغياهب العقل الباطن والأحلام والكوابيس، أو الشعر السياسي الملتزم.
ولعل أول من يخطر على البال في هذا المقام شاعران كبيران، كان لهما تأثير ضخم على مجموعة من الشعراء الذين يمارسون نشاطهم في هذه الأيام، وهما: جوتفريد بن (1886-1956م)
Unknown page
Gottfried Benn ، وبرتولد برشت (1898-1956م)
Berthold Brecht ، أما جوتفريد بن - الذي ولد ومات في برلين، وكان طبيبا للأمراض الجلدية والتناسلية - فقد سطع نجمه وتوهج في سماء الشعر الألماني المعاصر حتى أوشك أن يطفئ كل من عداه، وأثر بقصائده ومحاضراته ومقالاته تأثير السحر، أو تأثير المخدر على الأجيال الشابة والمخضرمة جميعا، وبدا لفترة طويلة وكأنه قد احتل مكان الشاعر العظيم رلكه، كان بن قد رحب بالنظام النازي في بدايته، وتوهم أنه سيخلص بلاده من الجمود والعقم والعدمية، فلما تبين خطأه الرهيب لزم الصمت اثنتي عشرة سنة، بعد صدور «قصائده المختارة»
Ausgewählte Gedichte
سنة 1936م، ثم ظهرت «قصائد الساكنة»
Statische Gedichte
في سويسرا سنة 1948م، معلنة عن عودته إلى الأدب بعد غيبة طويلة.
واختتم بن نشيده أو بالأحرى نشيجه الشعري العظيم في الفترة الواقعة بين سنة 1949م - حين أصدر ديوانه الطوفان النشوان -
Trunkene Flut ، وسنة 1954م عندما ظهرت مجموعته «لحن ختامي»
Apreslude
قبل موته بسنتين، وقصائده «الأيام الأولى»
Unknown page
Tage
التي ظهرت سنة 1958م بعد وفاته.
ولعل المجد الذي حظي به «بن» في هذه السنوات المتأخرة التي وصفها بالمرحلة التعبيرية الثانية في حياته كان نتيجة نوع من سوء الفهم ... فقد خلت قصائده الأخيرة من ذلك الوهج الشاذ، الذي تميزت به أشعار رجل كتب قبل ذلك بثلاثين أو أربعين سنة، أدق وأغرب شعر عرفه ذلك العصر.
كانت قصائده التي ظهرت بعد الحرب قد فقدت كثيرا من العنف والتحدي الذي تميز به؛ الكلمات ذات المعاني المتعددة الطبقات والمستويات، والاصطلاحات العلمية والحضارية المختارة من بحر ثقافي فياض، والأساطير والرموز المستمدة من روح البحر الأبيض المتوسط.
سحر «بن» القراءة فترة طويلة، ولكن السحر عمره قصير، فلم تلبث الأجيال الشابة أن تحررت من موهبته الخطرة، وطغت عليه أسماء أخرى أخذت تقدم للقارئ صدق التعبير وشجاعته، ولا تبهره بسحر الألفاظ الغريبة المخدرة، ولعلها أيضا أن تكون قد انصرفت عن كثير من القيم الفنية والروحية التي تنتمي للقرن التاسع عشر، والتي كانت لا تزال باقية في أعمال «بن».
أما برشت
7
فكانت شهرته أكثر إصرارا وأشد عنادا من «بن»، الذي مات قبله بأسابيع قليلة في برلين، ولم تأت هذه الشهرة وحسب من أعماله المسرحية التي غزت مسارح العالم في الشرق والغرب، ولا من نظريته عن المسرح الملحمي التي دعمها بكتاباته النقدية العديدة، بل جاءت كذلك من قصائده التي كتب لها طول العمر؛ لأنها ارتبطت بموقف فكري وأخلاقي صلب لا يلين، وهذا هو الذي يجعله الشاعر الوحيد بين شعراء وطنه، الذي لم يضعف إنتاجه ولم يتغير أو ينقطع منذ أن هاجر منه سنة 1933، وراح على حد قوله: «يغير بلدا ببلد كما يغير حذاء بحذاء» ... كان قبل هجرته قد بلغ مكانة مرموقة في الأدب، ثم أنضجته سنوات التجوال والعذاب، وصارت لغته أكثر اقتصادا وإيجازا، وتوارت لهجته التعليمية أو كادت، واكتسب وجهه الأدبي قناع الحكيم الشرقي الماكر الحزين، وشغلت الحياة الأدبية بمسرحه كما شغلت بقصائده الملتزمة الهادئة، ولعلها ستظل مشغولة به بعد أن تضاءل تأثير «بن»، وخبت هالة السحر التي شعت من صنعته الفنية الباهرة.
وشعر «برشت» يخلو من الكلمات الضخمة، حتى ليوشك أن يحذرنا من الشعر نفسه بمعناه التقليدي (أو بالأحرى بكل أمراضه البرجوازية!)، ونحن نظلم برشت إن قلنا أن شعره سياسي، وقد ننصفه لو قلنا أنه في مجموعة شعر نقدي أو موضوعي أو عقلاني، نضرب لهذا مثالا بإحدى قصائده التي يتحدث فيها أحد سكان الغرف المؤجرة في المدينة الكبيرة، إلى إحدى الأشجار التي تنمو في فناء البيت الذي يسكن فيه، إنه يخاطبها كما لو كانت تمثل نظاما يستبعده وينبذه وينفيه، فالشجرة هنا «ملك» صاحب البيت، والشاعر يكلمها ويتذكر أسلافه الذين عاشوا مع الطبيعة في مودة وألفة، واستطاعوا أن يتحدثوا عنها أو معها حديث الحبيب للحبيب، أما هو فتفصله عنها مسافة البعد - ولا بد أن يخاطبها باحترام! ومعنى هذا أن الواقع الذي يحيا فيه الشاعر يحدث فيه شيء أهم، شيء يعنيه أكثر مما تعنيه كل العواطف التقليدية التي نسميها شعرا، إن مجرد اعتبار صاحب البيت أن الشجرة ملك له، وإثبات حقه المطلق في التصرف فيها يغضبه ويستفزه للهجوم عليه، وموقفه هو موقف من يرفض أن يغمض عينيه على الفظائع التي ترتكب أمامه، ويأبى السكوت على نظام فاسد أو الهرب منه إلى نظام آخر لا يقل عنه فسادا وزيفا، فليواجه إذن هذا النظام ويمسك الثور من قرونه، بدلا من الفرار إلى نظام لغوي أو فني متضخم بالكلمات الطنانة والعواطف الكاذبة، وليكن شعره أداة النظر الموضوعي والعقلي البارد المصقول كالسيف، وليجتث به أدغال المبالغة والعذوبة المسمومة والزيف!
و«برشت» في الحقيقة يمثل مشكلة بالنسبة للنقد الحديث، فالحكم الموضوعي عليه في هذه المرحلة التاريخية يكاد يكون مستحيلا؛ لأن أعماله التي تركها بعد وفاته لم تنشر كلها بعد؛ ولأن موجة التحمس له أو السخط عليه لم تنحسر إلى اليوم، كما أن موقفه من التطبيق العملي للاشتراكية في النظام الذي عاش سنواته الأخيرة في ظله وموقف هذا النظام منه لم يتضحا كل الوضوح، هذا إلى أن الموضوعية التامة المطلقة (وهي فيما أظن تكاد تكون مستحيلة في الأدب أو في غيره من الفنون والعلوم) تتنافى مع صميم إنتاجه والغاية منه، فنحن إن اعتبرنا الشقاق بين مذهبه النظري وبين الممارسة العملية، وحاولنا أن نحسب له أو عليه ظلمناه في الحالين؛ لأنه سيكون في الحالة الأولى مثاليا أو «يوتوبيا» بغير نزاع، وسيكون في الحالة الثانية مروجا أو داعية لمذهب أو نظرية، تجمدت في مرحلة معينة من مراحل تطورها، واعترفت هي نفسها بضرورة تجددها وإذابة ثلوجها، ونحن مضطرون في الوقت الحاضر على كل حال إلى التفرقة بين القيمة الفنية التي تنطوي عليها أعماله، وهي قيمة لا شك فيها، وبين النظرية أو المذهب الذي دافع عنه، وليس من حقنا على أية حال أن نتشكك في إخلاصه الدائم للاشتراكية، وجموع الكادحين والفقراء والمضطهدين في كل مكان وزمان.
Unknown page
كان من الطبيعي أن يؤثر شعر «برشت» الملتزم على المواهب الشابة، أصبحت القصيدة عنده دعوة سياسية تهم الرأي العام، سلاحا للكفاح في سبيل العدل والتقدم والسلام، أداة للفعل والثورة والتغيير، واستقبل الناس في الشرق والغرب نموذجه المستفز المتحدي بالغضب أو الترحيب، وتلقف الشباب منه الكرة فساروا في موكبه، وإن تحرر معظمهم من «أيديولوجيته»، وجددوا مصطلحه ومقصده إلى حد كبير، ولكنه ظل في نظرهم قدوة رفيعة للفعل والكفاح، نذكر من بين الذين تأثروا به فولفجانج فايراوخ (ولد سنة 1907م) الذي سبقت الإشارة إليه، وهو شاعر وكاتب تمثيليات إذاعية، اتسم كل إنتاجه بالالتزام الواعي والنقد العنيف للعصر، والنظر للقصيدة كسكين تقطع وتحسم وتغير!
8
تلمس هذا في كل مجموعاته الشعرية ابتداء من «رحمة الحظ» (1946م) و«قبرة وصقر» (1948م)، و«نهاية وبداية» (1949م) إلى «مكتوب على الحائط» (1950م )، و«غناء لكي لا نموت» (1956م)،
9
ولنذكر له على سبيل المثال إحدى قصائده التي تعبر عن تيار القصيدة الملتزمة، وعنوان القصيدة هو «شكوى»:
لأني أشعر بالخوف، أريد يا سادة هذه الأرض،
أن أقدم إليكم هذه الشكوى:
أنا رجل صغير، وأنا غبي ،
لهذا أرجوكم، آه، ألا تسيئوا بي الظن،
لأني أسألكم، ماذا تفعلون بنا؟
Unknown page
هل فكرتم في سعادتنا جميعا؟
السعادة، أيها السادة، شيء ضئيل،
إنها صيحة ديك، إنها فراشة.
السعادة هي الليل بأغانيه،
عندما يردد الرجل والمرأة صرخته.
إنها النهار، عندما يلعب أطفالنا،
وهي الصبي، والعجوز التي يضنيها العمل إلى حد الموت.
السعادة هي الذهاب إلى المدرسة، هي التجوال،
هي شذى العسل، وعفونة السماد.
أيها السادة، السعادة هي مرور الأعوام،
Unknown page
هي دخان الغليون وصيد الأسماك.
السعادة يا أيها السادة فوق العروش البعيدة،
هي كذلك عذابنا نحن الملايين،
عندما تلد نساؤنا المساكين الأطفال،
وعندما نرقد على الفراش ساعة الاحتضار،
ويرسلنا الموت الناعم للشيطان.
السعادة أيها السادة هي العالم كله
والعالم، أيها السادة، رائع الجمال،
أتوسل إليكم أن تتسلقوا إحدى القمم،
وتهبطوا إلى أعمق الوديان،
Unknown page
تطلعوا للسماء في شهر مارس وهي في شدة الشحوب،
للسماء في شهر مايو وهي صافية خضراء،
انظروا النحلة والدب، إلى آخر ما هناك،
فكل ما ترونه، وإن يكن هو التراب،
فهو، إن أذنتم، ترابنا، يا أيها السادة العظام.
10
وكل ما كتبه الشاعر النابه هانز ماجنوس إنسنز برجر (1929م-...)، وتأثر فيه تأثرا واضحا ببرشت ينبع من نفس الإحساس برسالة الشعر الذي يجب أن يكون عونا على الفعل، كما تقول عبارة الوار، صحيح إنه لا يلتزم بنظام فكري (أو أيديولوجية) معينة، أو حزب سياسي محدد، ولكنه لا يزال يتحدى المجتمع - والبرجوازي البليد العنيد بنوع خاص! - ويثيره ويستفزه ويحركه، ولا تزال القصيدة في أغلب الأحوال أشبه بمنشور ثوري، أو خطاب مهرب من غياهب السجون، أو كتابة على الحائط (لنذكر قصيدة لبرشت بهذا العنوان: هم يطلبون الحرب، والذي كتبها، قد سقط صريعا!)، وقد شاع هذا النوع من القصائد من منتصف الستينيات عند شعراء مثل: فولفديتريش شنوره (1920-...)
Wolfdietrich Schnurre ، الذي عرف كذلك بقصصه القصيرة الناجحة، والشاعرة كريستا راينج، والشاعر النمسوي أريش فريد (1921-...)
Erich Fried (الذي ترجم اليوت وديلان توماس)، والشاعر ستيفان هرملين (1915-...)
Stephan Hermlin ، الذي تأثر بالتيار السياسي في الحركة السيريالية الفرنسية، وبخاصة الوار، كما عني بترجمة شعر الزنوج الأمريكيين، وجورج ماورر
Unknown page
Georg Maurer (1907-1971) وفرانز فيمان (1922-...)
Franz Fuhmann ، وغيرهم من الشعراء الذين يعيشون في ألمانيا الديمقراطية.
ولنقف وقفة قصيرة عند الشاعر أريش فريد، بقدر ما تسمح المادة الشحيحة التي بين يدي عنه، وهو يعبر عن الشعراء الذين يواصلون تراث برشت، ويجندون فنهم من أجل الحرية والسلام، وأحد دواوينه المتأخرة الذي سمعت عنه، ولم يتح لي الاطلاع عليه عنوانه «وفيتنام و...» ويتميز بلغة جريئة تعتمد على تداعي الكلمات والإيقاعات والتلاعب بها، كما تتميز بالإيجاز الشديد الذي يجعل البيت الواحد أقرب إلى الإشارة الموحية أو المثل المركز، وقد وقع في يدي بمحض الصدفة منذ سنوات قليلة أحد أعداد مجلة اشتراكية،
11
يحررها الأدباء التقدميون الساخطون، الذين يجمعون بين الالتزام السياسي والتجريب المستمر في لغة القصيدة، وسأنقل إليك قصيدتين تعرفنا إحداهما بهذا الاتجاه العام، وتقدم لنا الثانية شهادة حق وإنصاف من شاعر لم «تمنعه الدعاية المغرضة» من إدانة الوحشية الإسرائيلية، وإليك القصيدة الأولى بعنوان «نادي الصحافة»، وستلاحظ اللهجة التعليمية الواضحة، والفكرة المنطقية التي تتحول إلى شعر رقيق، والسخرية المرة التي تؤثر بالهمس أكثر من الضجيج:
ابحث عن الأصدقاء
يشاركونك
رأيك
إن الأمر يستحق هذا
ولو وجدت
Unknown page
أنهم ليسوا
من رأيك تماما
وأن الأمر يستحق
أن تضحي بشيء
من رأيك
لكي تتفق معهم
ستكون الصداقة
أمتن وأوثق
عن طريق
هذا التقارب
Unknown page
إن التسلط بالرأي
أضعف
وأقل نفعا
من الاتحاد
هل كان لك
رأي
في يوم من الأيام؟
أما القصيدة الثانية، فعنوانها «اسمعي يا إسرائيل»،
12
ويبدو أن الشاعر تابع أخبار العدوان وشاهد بعض صوره، ورأى كيف تباهى أعداؤنا من اللصوص المسلحين «بشجاعتهم»، فتحرك ضميره الأدبي والإنساني، وكتب هذه الأبيات:
Unknown page
عندما كنا مضطهدين،
كنت واحدا منكم،
كيف أظل كذلك،
بعد أن اضطهدتم غيركم؟
كانت أمنيتكم،
أن تصبحوا شعبا بين الشعوب ،
واليوم أصبحتم،
كالشعب الذي سفك دماءكم،
ذهب الذين قسوا عليكم،
وبقيتم،
Unknown page
أو ما زالت قسوتهم،
تعيش اليوم فيكم؟
صحتم بالمهزومين: «اخلعوا أحذيتكم.»
كمثل كبش الفداء،
طاردتموهم في الصحراء،
في جامع الموت الكبير،
كانت صنادلهم رمالا،
لكنهم لم ينحنوا،
لم يركعوا مثل الضحايا ،
أثر الأقدام العارية،
Unknown page
على رمال الصحاري،
سيبقى بعد أن تمحى،
آثار قنابكم ودباباتكم.
ولعل من الأفضل الآن أن ننتقل من هذا الحديث الذي لا يخلو من التعميم إلى القصائد نفسها، إن الشعر في حركة دائمة وتحول لا يعرف الراحة ولا الاستقرار، والكلام عن المدارس والحركات والاتجاهات أمر نضطر إليه من باب التبسيط والتنسيق، ومن أصعب الأمور أن نفرض على الشعر في عصر أو مرحلة معينة شكلا ثابتا أو قالبا جامدا؛ ولذلك يحسن أن نتحدث عن «القصيدة» بدلا من الحديث عن «الشعر»، وأن نعرض في أثناء ذلك لبعض الشعراء البارزين بشيء من التفصيل؛ ولهذا سنتناول قصيدة الطبيعة والحب، والقصيدة التي تميل إلى التجريب أو اللعب؛ لكي نتأمل في النهاية ظلال الصمت التي خيمت عليها ... (2) الطبيعة
كان أوسكار ليركه (1884-1941م)
Oskar Loerke
هو النبع النقي الذي تدفق منه شعر الطبيعة الذي بلغ ذروته في منتصف هذا القرن، ولقد صدر ديوانه الأول «تجوال»
Wanderschaft
في سنة 1911م، ثم ظهر ديوانه الثاني «موسيقى بان»
13
Unknown page
إبان الحرب العالمية الأولى سنة 1916م (وقد صدر أولا بعنوان «قصائد»، ثم ظهر بالعنوان المذكور سنة 1929م)، ولم يلبث النقاد أن احتفوا به وقدروا رعايته لتراث شعري عريق، بل لقد قال أحدهم: إن الطبيعة تثبت وجودها في شعره، وهو قول يصدق عليه وعلى كثيرين ممن ساروا على دربه - ومن أهمهم صديقه المقرب فيلهلم ليمان
Wilhelm Lehmann (1882م-...)، الذي وصفه بأنه «طبيعة عظيمة ...»
وأخص ما يميز شعر الطبيعة عند «ليركه» أنه أبعد عنه شخصيته الفردية، وأراح الوجود من تدخل ذاتية الشاعر ومثله وأحزانه وأفراحه، وترك هذا الوجود يتحدث مع نفسه ويحاور نفسه، وقد كان أبعاد الفردية عن الشعر شيئا جديدا في ذلك الحين، وبخاصة بعد التعبيرية التي جعلت العالم يبدأ من الفرد (كما قال أحد أقطابها وهو فرانز فيرفل
Franz Werfel )، وهذا ما عبر عنه «ليركه» نفسه، عندما قال: إنه يهتم بالاستماع إلى «غناء الأشياء» أكثر مما يهتم بسماع صوته.
هكذا أصبحت «التجربة» طبيعية، وتحررت الذات من المبالغات التي كانت تخنق أنفاسها، وعكفت الطبيعة على نفسها، وأصبح الإنسان جزءا يستمد الحياة منها، واتجهت الأبعاد المكانية والزمانية نحو مركز حسي واحد، تحاول القصيدة أن تثبته وتكثفه.
صار للطبيعة وجود سحري، وأصبح هم الشاعر أن يجمع المكان والزمان والأشياء في لحظة الحضور الأزلي، وأن يضم الإنسان في نسيج المخلوقات الطبيعية؛ ولهذا سميت هذه الحركة الشعرية باسم «الطبيعة السحرية»، وتميزت كما قلت بتجردها من الفردية والذاتية، بحيث أصبح واجب الإنسان أن يصمت «لكي يترك الكون يخلق نفسه»، ولعل هذه الأبيات التي كتبها «ليمان» أن تعبر عما نريده بالطبيعة السحرية:
كلمني كما تكلم الشجرة النحيلة،
غن أنت عني يا سرب الزرازير!
القدم والذراع ترف رفيف الأوراق،
وتحلم بها أحلام العصافير.
Unknown page
ولنضرب مثلا لشعر الطبيعة السحرية من قصائد «ليركه» نفسه، لنلمس بأنفسنا كيف حاول بكل جهده أن يتخلص من عبث «العواطف الغبية»، وكيف ازدحمت قصائده بالتفاصيل النباتية والحيوانية والمعدنية المرهقة، وران عليها هدوء وصمت واتزان يوشك ألا يجعل فيه مكانا للإنسان - يقول في قصيدته «الجبال تنمو» من ديوانه «نفس الأرض»
Atem der Erde (1930م):
لكن غير بعيد ترف الغابة بأجنحتها الكثيرة،
كأنها موكب الملائكة، وقد حجبتها غابة أقدم عمرا،
ومن تحت أجنحتها السفلى،
تحرك غابة الغد جناحيها.
ما أعجب الأزمنة هنا، طبقة فوق طبقة،
آهلة بالنبات والحيوان، وهي تتحصن في الحيوان والنبات!
وتعرف نفسها في، وأنا لا أسأل.
مملكة الحيوان والنبات.
Unknown page