طريقة أخرى
القول بصحة تمانعهما قولا بتغاير مقدوراتهما وقدمهما قاض بتماثلهما، فتماثلهما قاض بتماثل مقدورهما، وذلك قضاء بإمكان شيء واستحالته، وذلك محال. واعلم أن الشبه الواردة في هذا الباب كثيرة، ومن جملتها أن يثبتوهما حكيمين، فيقولوا: حكمتهما تمنع من حصول تمانعهما، لأن فعل كل واحد منهما حكمة، والحكم لا تمانع الحكيم في فعل ما هو حكمة. واعلم أنا لم نقل شيئا مما ينم فيه، وذلك أنا لم نمنع ذلك، وإنما كلامنا مبني على صحة التمانع لا وقوعه، لأن كل اثنين جائز تمانعهما، جائز أن لا يتمانعا، هذا صحيح إلا أنا كشفنا عن حال الاثنين بصحة أن يتمانعا، فهم في الذي أوردوه استعملوا PageBegV00P026b مغالطة ظاهرة. فأما القائلون بالنور والظلمة، فقولهم ظاهر الفساد لظهور كونهما جسمين، وما ثبت من حدوث الأجسام يفسد ما قالوه. وقولهم أن امتزاج الأجسام جميعها من النور والظلمة وقولهم بقدمها وحدوث تركيبها وتأليفها، فخباط لا يعقل. ومن قولهم أنهما حيان لنفسهما من دون الحاجة إلى من أحياهما، فيجب إذا في الجمادات كونها أحياء تلتذ وتنفر، لأن مماثلتها للأحياء في الأمزاج تقضي بذلك، إذ لا وجه آخر يتميز به الأحياء عن الجمادات في هذا الباب لكون المقتضي واحدا، وهو الأمزاج. وقولهم: كل فاعل خير وشر بالطبع لا باختيار، يفسد ما يعلم ضرورة من وجوب مدح المحسن وذم المسيء، حتى لو قدرنا اثنين ملتزقين التزاقا، يعسر معه فكهما، أساء أحدهما وأحسن الآخر، لحمدنا المحسن وذممنا المسيء بعد حصول التميز لأفعالهما. وكذلك الأمر في آحاد جملة الحي من حيث ظهرت الإساءة من اللسان، فيذم
VI
المدركات لكونه حيا سالم الحاسة من الموانع والآفات لا غير، وبذلك يتطرق إلى إثبات نفي الرؤية عنه تعالى. فنقول: الدليل على صحة ما قدمنا هو وجوب إدراكنا المدرك عند تكامل وجوب هذه الشروط فينا، فلزم من ذلك وجوب إدراكنا لتكاملها. أما وجوب إدراكنا عند تكامل هذه الشروط، فيعلم بعد الاختبار ضرورة لما يعلمه كل عاقل سالم الحاسة من نفسه أنه، إذا باشر براحته أو ببطن قدمه أو بصفحة خده جمرة متقدة، استحال أن يكون غير مدرك لحرارتها وشدة لدغها، وأن تدق بحضرته مع سلامته الأبواق والطبول أو ركض الخيول واضطرام الحروب، فلا يسمعها ولا يراها، أو يرفع رأسه إلى السماء، فلا يراها. ولو شكك العاقل في شيء من هذا، لم يتشكك، ومن نازع في ذلك أو تشكك، لا أعرف من جوابه إلا ترك جوابه لاختلالصوابه.
وبذلك تبين أن العقلاء قاطعون على وجوب كونهم مدركين عند تكامل ما ذكرناه وامتناع كونهم مدركين عند امتناع تكامله، وذلك وضوحا أن العقلاء يستشهدون حواسهم عند نفوسهم بمعرفة ما يريدونمعرفته من وجود المدركات ومن كونها غير موجودة. ويعتمدون على القطع بامتناع وجود الجسم بحضرتهم لكونهم لم يدركوه، وسبب ذلك قطعهم على أنه لو كان بحضرتهم لوجب أن يدركوه، ولولا ذلك لزم من فتش دار زيد ولم يره فيها أن يكون على غير ثقة من كونه ليس في الدار. ويتشكك في الجبل الكبير عند رؤيته لتجويزه صغره وأنه ليس على ما يشاهده من الكبر. ويجوز في نيل مصر أن يكون سرابا والمتحرك ساكنا والساكن متحركا، وفي علمنا بعدم تشكك العقلاء في جميع ذلك، ولو نصب لهم من الشبه ما عساه
VII
ولو بزمان واحد لتحرس وجوب تقدم الفاعل على فعله لا ينجي من ذلك، لما يلزم من ذلك من وجوب انحصار زمان وجود القديم وفي انحصار زمانه الحاصل بينه وبين الفعل الحادث من جهته تعالى حدوثه، تعالى عن ذلك، وفي القول أيضا بقدم شهوته القول بمماثلتها له في أخص أوصافه، وقد تقدم بطلان ذلك. وإن كان مشتهيا بشهوة محدثة لزم أيضا ما لزم مما تقدم من تقديم الشهوة والمشتهى لما علم من انتفاعه بما يشتهيه فتمكنه من فعله ولا ضرر يلحقه من ذلك. ويلزم أن يفعل من المشتهيات ما لا حد له. والشهوة المعدومة لا تتعلق به لامتناع تعلق المعدوم. واعلم أن ما ذكرناه من هذه الأدلة عامة لمن كان موحدا وغير موحد، ولنا أدلة أيضا تختص الموحدين، منها ارتفاع وجوب مدحه على فعله ما فعل لتعلق فعله إياه بحاجته إليه. ولا يعلم حكما لصحة عدوله PageBegV00P028b عن الكامل إلى الناقص، ولا يستحق الشكر لوقوع فعله للحاجة لا للإحسان، ولا يعلم صدقه ولا عدالته لجواز انتفاعه بخروجه عنهما واستضراره بهما، فثبت بما ذكرناه وجوب اختصاصه تعالى بالغنى المطلق واستحالة الحاجة عليه محقق.
باب في نفي الرؤية عنه تعالى
انقسمالقائلون بذلك، فمنهم من قال باستحالة رؤيته تعالى قولا مطلقا، ومنهم من قال: يرى في الآخرة. ومن هذه الطائفة من يرى برؤياه في جهة، ومنهم من قال: يرى لا في جهة، ومنهم من قال: يدرك بجميع الحواس، ومنهم من قال: يرى على خلاف الرؤية المعقولة في الشاهد، ومنهم من قال: يرى بحاسة لكنها سادسة، والذي ينبغي أن يقدم على الكلام في استحالة رؤياه الكلام في أن الواحد منا يدرك
VIII
Unknown page