الصحابة والعلم
الصحابة كانوا ينظرون إلى العلم نظرة خاصة جدًا، نظرة معظّمة جدًا، نظرة تجل جدًا العلم وكل من حمل العلم، وهذه نماذج تبين لنا كيف كان الصحابة يقدرون قيمة هذا العلم؟ وما هو مفهومهم عن العلم؟ فهذا زيد بن ثابت ﵁ وأرضاه ذهب -وهو لم يتم الثالثة عشرة من عمره- للالتحاق بجيش المسلمين المشارك في بدر، ولكن الرسول ﷺ رده لصغر سنه، فرجع إلى أمه ﵁ يبكي من الحزن، ولكنه عند عودته فكّر في أن يخدم الإسلام بطريقة أخرى، فهل أستطيع أن أخدم الإسلام بطريقة غير طريقة الجهاد في سبيل الله ما دام الجهاد غير ميسّر لي في هذا الوقت؟ إن أحدنا حين يفشل في إحدى مجالات الدعوة، أو إحدى مجالات العمل للإسلام، أو يُغلق عليه باب من أبواب العمل للإسلام من غير إرادته، أي: أنه لو أراد الجهاد وليس هناك فرصة للجهاد، أو أراد أن ينفق وهو فقير، فهو عنده رغبة في العمل لله ﷿ لكن ليس له إمكانيات، ففي ذلك الوقت يحبط، ويعتقد أن هذا هو آخر الدنيا! وهذا خطأ، فنحن إمكانيات مختلفة ومواهب مختلفة، فكل فرد منا يستطيع أن يعمل في مجاله، وهذه هي حلاوة الإسلام وحلاوة التكامل والتكافل والتعاون في الإسلام، فإذا كان لم ينفع زيد في هذا الوقت في الجهاد فمن الممكن أن ينفع في شيء آخر.
فـ زيد بن ثابت ﵁ وأرضاه تذكر أنه يتميز بملكة الحفظ، وملكة القدرة على التعلم، وملكة القراءة، والقراءة كان شيء نادرًا في ذلك الزمان، فأخبر بذلك أمه وأقاربه، وطلب منهم أن يذهبوا به إلى رسول الله ﷺ يعرضون عليه أن يوظّف طاقته العلمية في خدمة رسول الله ﷺ وفي خدمة دين الإسلام، فذهبت به أمه النوار بنت مالك ﵂ وأرضاها إلى رسول الله ﷺ وقالت: (يا نبي الله هذا ابننا زيد بن ثابت يحفظ سبع عشرة سورة من كتاب الله، ويتلوها صحيحة كما أنزلت على قلبك، وهو فوق ذلك حاذق يجيد الكتابة والقراءة) وهذه فعلًا إمكانيات عالية جدًا، وبالذات في ذلك الزمن الذي كان فيه الكثير من الناس لا يستطيعون القراءة أو الكتابة، ثم تكمل السيدة النوار بنت مالك فتقول: (وهو يريد أن يتقرب بذلك إليك، وأن يلزمك، فاسمع منه إذا شئت)، وهذا الكلام أنا أريد أن أقوله لجميع شباب المسلمين: زيد بن ثابت ﵁ وأرضاه بدأ رحلته في خدمة الإسلام وعمره ثلاث عشرة سنة، وبعض المسلمين كان يسد ثغرة الجهاد والقتال، وزيد بن ثابت ذهب ليسد ثغرة أخرى مهمة جدًا، فكل بحسب إمكانياته، فالشباب عندهم طاقة عالية جدًا، فهناك شباب عندهم مهارة في الكمبيوتر، وهناك شباب عندهم مهارة في الخطابة، وهناك شباب عندهم مهارة في الرياضة المفيدة، وهناك شباب عندهم مهارة في الكتابة والبحث والدراسة، وهناك شباب عندهم مهارة في الترجمة، فكل واحد من المؤكد أن عنده مجالًا متفوقًا فيه، والمهم أن تكون رغبة خدمة الإسلام موجودة، وعند ذلك سوف تجد المجال الذي تستطيع أن تسد فيه إن شاء الله تعالى.
واستمع النبي ﷺ لـ زيد بن ثابت واختبره، وقدّر مواهبه وأُعجب به، ثم أراد أن يستفيد منه على نقاط أوسع، فعرض عليه فرعًا جديدًا من فروع العلم، ولم يقل له الرسول ﷺ: تعلم الفقه أو الحديث أو العقيدة، لا، ولكنه قال له: تعلم اللغات الأجنبية، وتخيل وفي هذا العمق في التاريخ الرسول الله ﷺ يهتم باللغات الأجنبية في تكوين الأمة المسلمة، لأنه علم في غاية الأهمية، ولأن المسلمين يحتاجون جدًا إلى هذه اللغة في ذلك الزمن، فأمره النبي ﷺ بأن يتعلم العبرية، حيث قال له: (يا زيد تعلم لي كتابة اليهود العبرية فإني لا آمنهم على ما أقول) ومن المؤكد أن كان الرسول ﷺ لو كان يعيش معنا في هذه الأيام لأمر بتعلم اللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية والصينية وغيرها، فكم ستكون مقدار الفائدة عندما يكون عند المسلمين شباب يتقنوا اللغات الأخرى غير اللغة العربية، وليس ذلك على حساب اللغة العربية، وكم مقدار الفائدة التي من الممكن أن يفيدوا الإسلام ويخدموا الأمة الإسلامية بكاملها، وكم سيكتشفون من حيل وألاعيب وخطط للأعداء، وكم من الممكن أن يكونوا دعاة إلى الله ﷿ ويردون على الشبهات، فهذا عمل كبير جدًا من الممكن أن يعمله الذين يفهمون لغة أخرى، وانظروا إلى زيد بن ثابت ﵁ بهذه الحمية وهذا الإخلاص لدين الله ﷿، وهذه الرغبة في خدمة هذا الدين، فيذهب ويتعلم اللغة العبرية، فهل تعلمها في سنة أو سنتين أو أربع؟ وفي أي كلية تعلمها؟ يقول زيد بن ثابت: فتعلمتها في سبع عشرة ليلة، فكنت أتكلمها كأهلها، فانظروا إلى هذه البركة عندما يكون عند الواحد ر
5 / 4