بل الفرد الواحد قد يأمره ضميره بشىء في زمن ويأمره بعكس ذلك في زمن آخر، كالطالب يأمره ضميره أن ينهمك في القراءة والدرس من غير أن يراعي جسمه وصحته، فإذا درس قانون الصحة أو شعر بمرض فهم أن لجسمه عليه حقا ولعقله عليه حقا، وطالبه ضميره بأن يرعى صحته وعقله جميعا.
والسبب في اختلاف أوامره أن الضمير يتأثر بعاملين كبيرين:
أولا:
يتأثر بالحالة الإجتماعية للأمة وعرفها ودرجة رقيها، فالإنسان ينشأ في أسرة تستحسن أعمالا وتستقبح أخرى فيتبعها في استحسانها واستقباحها، ثم هو إذا خرج إلى الحياة العامة تبادل مع الناس الأخذ والعطاء فيلتقط آراءهم في الخير والشر، ويقلدهم في ذلك، ويسايرهم فيما يستحسنون وما يستقبحون، ويأمره ضميره أن يفعل كما يفعلون.
ثانيا:
يتأثر ضمير كل إنسان بدرجة عقله وعلمه، فكلما زاد علم الإنسان ونما عقله ارتقى ضميره، ذلك أن الخبرة والتجربة ومعرفته بنتائج الأشياء النافعة والضارة توسع عقله، فيتبع ذلك ارتقاء ضميره، حتى قد يأمره ضميره بعد هذه التجارب بما كان ينهاه عنه من قبل، وينهاه عما كان يأمره به، لأن عقله عرف من الحقائق ما كان يجهله، بل هو إذا وصل إلى درجة كبيرة من رقي العقل كان ضميره تابعا لعقله أكثر من تبعيته لتقاليد قومه، واستطاع - إذا هو رزق وسائل الزعامة - أن يغير ما يستنكره من عادات قومه. •••
ومع أن الضمير يختلف باختلاف الأمم واختلاف العصور وأنه قد يخطئ أحيانا في أمره ونهيه - كما رأيت - فإن كل إنسان ملزم باطاعة ضميره، لأنه مأمور بعمل ما يعتقد أنه الحق لا بعمل ما هو حق في الواقع، فالذي يعتقد شيئا حقا ويأمره ضميره بعمله ملزم أن يطيعه، وليس هناك مسئولية أخلاقية عليه إذا تبين خطأ ما أمره به ضميره، غاية الأمر أنه يجب عليه أن يضيء السبيل أمام ضميره بتوسيع عقله وتقوية فكره وتحريه الصواب، فإن هو فعل ذلك كان الضمير هاديا مرشدا، وكان له العذر إذا تبين خطأ ما أمر به ضميره. (3) الضمير والإرادة
لا قيمة للضمير يأمر وينهى إذا لم يدعم بإرادة تنفذ أمره ونهيه، فقد يشعر الإنسان بالواجب ويتأكد من أنه واجب ويأمره ضميره به ولكن يذهب كل ذلك هباء إذا لم يمنح إرادة قوية تخرج هذا الأمر إلى الوجود، فالإرادة هي القوة الفاعلة في الإنسان وبدونها تكون أوامر الضمير أحلاما وأماني لا قيمة لها، ولذلك يقول بعضهم: «إن جهنم مرصوفة بالأماني الطيبة» يريد بذلك أن الأماني الطيبة إذا لم تبرزها الإرادة إلى الوجود فأولى بها الجحيم لا الجنة، إنما يصلح للجنة الأماني الطيبة التي حولتها الإرادة إلى عمل ويقول الشاعر العربي:
من كان مرعى عزمه وهمومه
روض الأماني لم يزل مهزولا
Unknown page