بل قد تجلى للباحثين في الأيام الأخيرة أن الناس كلهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم ودينهم جسم عضوى واحد، فكل أمة تؤثر في الأمم الأخرى وتتأثر بها في صنائعها وعلومها وأخلاقها، فليست أمة من الأمم غنية بمعادنها وصنائعها وعلومها عما حولها، بل ترى أن الله قد قسم الخيرات على العالم، فأمة غنية بالحبوب ولكنها في حاجة إلى المعادن، وأخرى على العكس منها وهكذا، وكل ينفع وينتفع.
الناس للناس من بدو وحاضرة
بعض لبعض - وإن لم يشعروا - خدم
اعتبر ذلك في أيام الحرب العظمى تر أن كل أمة - محايدة كانت أو محاربة - قد أصابها الضنك بسبب حاجتها إلى أشياء كانت تجلبها من الأمم الأخرى، فأصبح نيلها عسيرا.
وقد جرت هذه الحقيقة - أعني اعتبار الجنس البشري جميعه جسما واحدا وكل أمة عضوا من أعضائه - بعض الباحثين إلى النظر في الحروب التي تقع بين الأمم، وذهبوا إلى أنها ليست بسائغة، كما لا يسوغ أن يعمل عضو في جسم على إضعاف عضو آخر، وتمنوا أن لو زال مثار الخلاف بين الأمم حتى لا يكون مساغ للحرب، واقترحوا لذلك إنشاء محكمة تحكم بين الأمم، كما تحكم المحاكم بين الأفراد المتنازعين، وهذه هي المسماة «بعصبة الأمم» وقال هؤلاء: إن الخلاف الطبيعي بين الأمم في الأخلاق والعادات لا يحيل إمكان التآلف بينها، كما أن الاختلاف بين أفراد الأسرة بالذكورة والأنوثة والشدة واللين، لم يمنع من توحدها واعتبارها جسما واحدا، ولكنهم مع هذا دعوا إلى «الوطنية» والمحافظة على «القومية» ما دامت الأمم الأخرى تدعو إليها، لأن انعدام «الوطنية» في أمة مع بقائها في الأمم الأخرى مؤذنة بزوال تلك الأمة.
وقد تقدم الناس في فهم هذه «الأخوية العامة» فاشتدت الرابطة بين الأمم، وكثر انتفاع بعضها ببعض، فامتدت السكك الحديدية بين أمة وأخرى، وكثر انتفاع بعضها ببعض، فامتدت السكك الحديدية بين أمة وأخرى، وعبرت البواخر البحار، فارتبطت الأمم برا وبحرا، وعقدت محالفات كثيرة بين الأمم المختلفة لمصلحة الناس، كالإتفاق العام على البريد والتلغراف والسكك الحديدية، ومن الأدلة على ذلك ما نراه من ميل كثير من الناس إلى توحيد المقاييس والموازين في العالم جميعه، وعقد مؤتمرات عامة تمثل فيها الأمم المختلفة للبحث في شؤون شتى علمية وصحية، إلى كثير من أمثال ذلك.
هذا هو شأن المجتمعات والأفراد، وكل فرد فيها عضو من أعضائها، ولا يخلو إنسان من ارتباطه بمجتمعات كثيرة، فكل إنسان عضو في أسرة، وفي مدينة، أو قرية، وفي أمة، وفي العالم بأسره.
ومن المجتمع يستمد الفرد كل شيء من مأكل وملبس ومسكن وعلم وخلق، ولو جرد الإنسان من كل شيء ناله من المجتمع ما بقي له شيء، فجسمه وعقله وخلقه منحة من منح المجتمع.
وكما أن العضو إذا انفصل من الجسم مات ولم تعد له حياة كاليد تفارق الجسم، والورقة تفارق الشجرة، فكذلك الإنسان إذا انفصل من مجتمعه أدركه الفناء، ولم تكن له قيمة، لأن أعمال الإنسان وأغراضه وعاداته لا تقوم إلا بالنظر إلى المجتمع، فليس الصدق خيرا ولا الكذب شرا إلا لإنسان يعيش في مجتمع، ولولا ذلك لم يكن أحدهما خيرا والآخر شرا.
الفصل السابع
Unknown page