فحنى رأسه أن نعم، فأعطاه سيفا، ثم خلع إسفينيس عباءته عن سترته وسرواله فبدا جسمه الطويل القوي يجذب الأبصار برشاقته واعتدال قامته وجمال وجهه، وأعطي ترسا، فقبض على السيف بيمناه، ووضع الترس على يسراه، ووقف على بعد ذراع من القائد كأحد التماثيل التي أغلقت عليها أبواب المعابد.
وأذن الملك بالقتال، فشهر كل منهما سيفه، وبدأ القائد الغاضب الهجوم فسدد نحو خصمه ضربة قاتلة ظنها القاضية، ولكن الشاب تفادى منها بخفة عجيبة فضاعت في الهواء، ولم يمهله القائد فوجه إلى رأسه ضربة أشد من الأولى بسرعة البرق، فتلقاها الشاب بترسه بحركة خاطفة، فتعالت أصوات الإعجاب من أنحاء البهو جميعا، وأدرك القائد أنه يقاتل رجلا يجيد الطعان، فأخذ حذره، وعاود القتال متبعا خطة جديدة، فتصاولا، واشتبكا وانفصلا، وكرا وفرا، القائد في غضب وعنف، والشاب في هدوء عجيب، وكان يصد هجمات عدوه بسهولة ويسر وثقة، وكان كلما أطاش ضربة بمهارته الرائعة زاد غضب عدوه اهتياجا وجنونا، وأدرك الجميع أن إسفينيس يكتفي بالدفاع ولا يكاد يهجم إلا إذا أراد بهجومه إفساد خطة أو تفويت ضربة، فتجلى فنه، وبرع على خصمه في الخفة والمهارة بدرجة أشعلت حماسة القوم الذين تنسيهم لذة القتال فوارق الأجناس، فجن جنون رخ، ووالى هجماته عليه بشدة وعنف لا يني ولا يتوانى، وصوب نحوه الضربة تلو الضربة، فصد بترسه ما صد، وتفادى بفنه ما تفادى منه، ولبث سليما مطمئنا ذا ثقة لا حد لها، لا يغضب ولا يؤخد، وكأنه حصن منيع، فأخذ اليأس يستولي على القائد الحانق، وشعر بدقة موقفه وشدة حرجه، وحدثه اليأس على المغامرة، فرفع ذراعه بالسيف، وجمع كل ما أعطي من قوة وعزم ليضرب ضربة الموت الزؤام، وكان مطمئنا إلى خطة عدوه المقصورة على الدفاع، فما هو إلا أن وجه إلى قبضة سيفه ضربة رائعة فجرح سنان السيف كفه، وارتجفت يده، فضرب الشاب السيف ضربة أخرى أطاحت به بعيدا، فسقط قريبا من عرش فرعون، ولبث رخ أعزل والدم يقطر من يده، لا يكف عن حنقه، فضج القوم مسرورين متعجبين من بسالة التاجر وجميل عفوه، ثم صاح به القائد: لماذا تبطئ في الإجهاز علي أيها الفلاح؟
فقال إسفينيس بهدوء: ليس لدي من الأسباب ما يحملني على ذلك!
فصر القائد بنواجذه وانحنى للملك تحية، ثم دار على عقبيه وبرح البهو، وعلت ضحكة الملك طويلا حتى اضطرب لها جسمه، ثم أشار إلى إسفينيس فأعطى الشاب سيفه وترسه إلى أحد الحجاب، واقترب من العرش وانحنى للملك، فقال له: إن قتالك لا يقل غرابة عن أقزامك .. كيف تعلمت القتال؟ - أيها الملك المعبود، في بلاد النوبة لا يأمن التاجر على قافلته إذا لم يعرف كيف يدافع عن نفسه ورفاقه.
فقال الملك: يا لها من بلاد .. وقد كنا مقاتلين أشداء رجالا ونساء حين كنا نجوب أطراف الصحراء الشمالية الباردة، فلما أن احتوتنا القصور وتقلبنا في ظلال الترف والنعيم، وشربنا بدل الماء الخمور، طاب لنا السلام، ورأيت واحدا من قواد جيشي ينهزم في قتاله مع تاجر من الفلاحين!
وكان الملك يتكلم متهلل الوجه ضاحك الفم، فدنا من عرشه الحاكم خنزر وانحنى له تحية وقال: مولاي هذا الشاب باسل وحقيق بالأمان.
فهز فرعون رأسه الثمل وقال: صدقت يا خنزر، كان القتال عادلا شريفا، وإني أمنحه الأمان.
فوجد الحاكم الفرصة سانحة فقال: مولاي .. إن هذا الشاب لعلى استعداد أن يؤدي للعرش أجل الخدمات، بأن يحمل إليه الثمين المعجب من كنوز النوبة لقاء ما يعود به من حبوب مصر.
فنظر الملك إلى الحاكم مليا، وذكر التاج الذي يتوج رأسه، فقال بلا تردد: قد أذنا له في ذلك.
فانحنى خنزر شاكرا، وسجد إسفينيس بين يدي فرعون، ومد يده فلثم حاشية ثوبه الملكي، ثم وقف في خشوع وهو يقاوم رغبة في النظر إلى شمال العرش، ورجع القهقرى حتى غيبه باب البهو الكبير، وكان مسرورا مبتهجا، ولكنه كان يسائل نفسه: «ترى ماذا يقول لاتو إذا علم بقصة المبارزة؟»
Unknown page