110

فلانت نظرة عينيه ودرت حناياه حنانا دفاقا، وأخذ الصغير بين ذراعيه وأدناه من فمه حتى التصقت به شفتاه المشوقتان، وابتسم أمنحتب إلى أبيه وعابثه بيديه الصغيرتين.

ثم دخلت الأسرة الفرعونية الدار تشملها السعادة والطمأنينة، فخلصوا إلى أنفسهم يتسامرون ويتذاكرون أيامهم.

32

وحمل الجنود متاع الأسرة إلى السفينة الفرعونية، ثم انتقل الملك وآله إليها وخرج لوداعهم الحاكم رءوم وأعضاء حكومته وأهالي دابور جميعا، وقبل أن ترفع السفينة مراسيها، دعا أحمس رءوم وقال له على مسمع من رجاله: أيها الحاكم الأمين؛ أوصيك خيرا بالنوبة وأهل النوبة، فالنوبة كانت مهجرنا حين ضاقت بنا الدنيا، ووطننا إذ لا وطن لنا، ومأوانا حين عز النصير ومات الصديق، ومدخر عتادنا وجنودنا لما دعا الداعي إلى الكفاح، فلا تنس صنيعها، ولتكن منذ اليوم مصر الجنوب لا نحرمها شيئا نتمناه لنفسنا ونذود عنها ما نكره لها.

ثم أقلعت السفينة وأقلعت وراءها سفن الحراسة تشق طريقها نحو الشمال تحمل قوما تهفو نفوسهم إلى مصر وأهلها .. وبلغت السفينة حدود مصر بعد رحلة قصيرة، فاستقبلت استقبالا رائعا، وخرج إليها رجال الجنوب في سفينة الحاكم شاو، وأحاطت بها زوارق الأهالي يهتفون ويغنون، وصعد إلى سطحها شاو وكهنة بيجة وبلاق وسيين وعمد القرى وشيوخ البلاد فسجدوا للملك واستمعوا إلى نصائحه، ثم انحدرت السفينة نحو الشمال يستقبلها الأهلون على الشطآن وتطوف بها القوارب ويصعد إلى سطحها عند كل بلدة الحكام والقضاة والعمد والأعيان، وما زالت السفينة تجد في السير حتى انقشعت ظلمة الفجر ذات صباح في الأفق البعيد عن أسوار طيبة العالية وأبوابها الضخمة وجلالها الخالد، وهرعت الأسرة من المخادع إلى مقدم السفينة عالقة أبصارهم بالأفق، ويتجلى في نظراتهم الحنين والوجد، وتفيض أعينهم بدمع الشكران، وتغمغم شفاههم في صوت خافت: «طيبة .. طيبة»، وقالت الملكة أحوتبي بصوت متهدج: رباه .. ما كنت أتصور أن يقع بصري مرة أخرى على هذه الأسوار!

وجعلت السفينة تقترب من جنوب طيبة في ريح مؤاتية حتى استطاعوا أن يروا جموعا من الجنود وكبار القوم على الشاطئ ينتظرون، فعلم أحمس أن طيبة تزجي أولى تحياتها لمخلصها، فعاد إلى المقصورة تتبعه أسرته وجلس على العرش وجلسن حوله، وأدى الجنود التحية العسكرية للسفينة الفرعونية، وصعد إلى سطحها رجال طيبة؛ وعلى رأسهم رئيس الوزراء حور، والقائدان محب وأحمس إبانا، ورئيس الحرس الفرعوني ديب، وكبير الحجاب سنب، وحاكم طيبة توتي آمون، ثم كاهن طاعن في السن محترق الشعر شيبا يتوكأ على صولجانه ويسير بخطى وئيدة منحني القامة، وسجد الرجال جميعا لفرعون وقال له حور: مولاي محرر مصر ومخلص طيبة وقاهر الرعاة، فرعون مصر وسيد الجنوب والشمال، إن طيبة جميعا في الأسواق تنتظر على شوق ولهفة مقدم أحمس ابن كاموس بن سيكننرع وأسرته المجيدة لتقرئهم جميعا أحر ما جمعت عليه صدرها من التحية والسلام.

فابتسم أحمس وقال: حياكم الرب أيها الرجال المخلصون، وحيا طيبة المجيدة مبدئي وغايتي ..

وأومأ حور إلى الكاهن الجليل وقال: مولاي .. ائذن لي أن أقدم إلى جلالتك نوفر آمون الكاهن الأكبر لمعبد آمون.

فنظر إليه أحمس باهتمام، ومد له يده مبتسما وقال برقة: يسرني أن أراك أيها الكاهن الأكبر!

فلثم الكاهن يده وقال: مولاي فرعون مصر وابن آمون، مجدد حياة مصر ومحيي سير الأعظمين من ملوكها، لقد كنت يا مولاي آليت على نفسي ألا أبرح حجرتي ما دام في مصر رجل من الرعاة الأشائم الذين أذلوا طيبة وقتلوا سيدها المجيد، وأهملت نفسي فغزر شعر رأسي وجسدي، وقنعت من الدنيا بلقمات أتبلغ بها وجرعات من الماء القراح كي أشارك قومنا فيما ابتلوا به من القذارة والجوع، وما زلت حتى قيض الله لمصر ابنه أحمس، فحمل على عدونا حملة صادقة ومزق شمله وطرده من بلادنا، فعفوت عن نفسي وأطلقت سراحي، لأستقبل الملك المجيد وأدعو له.

Unknown page