وتنتفض أمه قائلة: أستغفر الله العظيم، إذا لم يكن للباشا هذه الأرض أين كان أبوك يعمل ومن أين يجد قوته؟ فيقول شهاب في إصرار: ولماذا لم يكن الباشا مكان أبي ويكون أبي مكان الباشا؟! - أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، حينئذ كان أولاد الباشا سيقولون هذا الكفر الذي تقول، أتريد أن تعدل حكمة ربك؟! - أنا فقط أسأل، لا عليك، ماذا؟ هل تنوين أن تحرميني من العشاء؟
وهكذا أراد أن ينهي الحديث لا عن اقتناع ولكن خشية أن تبلغ به أباه الشيخ فتكون العواقب وخيمة عليه وعلى أمه في وقت معا.
ولكن أمه ترفض أن تنهي الحديث: يا بني، رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا.» أو كما قال، فالسعادة ليست بالغنى، دائما بالرضى، هل تعرف إن كان الباشا سعيدا أم غير سعيد؟ لا يعرف النفوس إلا خالقها يا شهاب يا بني. - كلام نردده لنحتمل الذل الذي نعيش فيه، أين العشاء؟ - والله ما دمت كذلك فلن يبارك الله لك ولا في اللقمة التي تأكلها، حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل.
ولم يكن شهاب على استعداد لمناقشة حقده على جميع من هم أكثر من أبيه ثروة أو مكانة؛ فقد ترسب الحقد في كيانه كله منذ هو طفل صغير حتى يومه هذا، وهو يوشك أن يتخرج في كلية الزراعة التي اختارها له أبوه، ولما كان غير متعلق بكلية أخرى فقد رضي اختيار أبيه بعد نقاش هين حين قال له أبوه: والآن أي كلية تريد أن تدخلها؟ - والله يا أبي لا أفكر في كلية بذاتها؛ فكل الكليات تحتاج إلى مذاكرة ووجع قلب، وإن كان علي أنا فأنا أريد أن اكتفي بالتوجيهية وأرجو الباشا أن يعينني بإحدى مصالح الحكومة. - لاحول ولا قوة إلا بالله، إنه لا يرفض النعمة إلا لئيم، الباشا ينفق عليك ولا يكلفنا تعليمك قرشا واحدا، ومع ذلك تريد ألا تكمل دراستك؟! - والله إن الباشا لم يفعل هذا إلا ليتظاهر بالكرم. - لعنة الله عليك، وهل كان أحد سيقول عنه إنه بخيل إذا لم يقدم هذه المكرمة لابن الخولي الذي يعمل في أرضه، إن الذي لا يشكر المعروف جاحد لا يستحق ما يقدمه إليه الآخرون من أفضال. - دعك من هذا، ويكفي الباشا شكرك أنت له، هل تريد أن تختار لي كلية بعينها؟ - ألا تفكر أنت في أي كلية؟ - ليس هناك كلية في ذهني. - إذن تتوكل على الله وتدخل كلية الزراعة. - لماذا الزراعة؟ - أنت فلاح ابن فلاح وستجد العلوم سهلة، ثم إنك عندما تتخرج سيكون من السهل تعيينك، فإذا لم تعين في الحكومة فغالبا يعينك الباشا للإشراف على الموالح في أرضه. - ألا نتخلص من الباشا أبدا؟ - لا حول ولا قوة إلا بالله، ألا نأكل لقمتنا من يده؟ - الأمر لله زراعة زراعة.
وهكذا دخل شهاب كلية الزراعة، وظل يتنقل بين سنواتها بدرجة مقبول حتى وصل السنة النهائية.
الفصل الثالث
حصل شهاب على بكالوريوس الزراعة، وامتلأ أبوه زهوا وفخارا؛ فقد حقق ابنه حلمه العريض وأصبح أحد خمسة نالوا الشهادات العليا قبله في البلدة كلها.
وبعد أن هدأت الفرحة قال الشيخ متولي لابنه بمشهد من زوجته تفيدة: والآن ماذا تريد؟ - والله هذه المسألة الباشا هو الذي يبت فيها، إن كان الأمر بإرادتي فأنا أفضل التوظف في الحكومة.
Unknown page