لم يجد شيئا يفعله إلا أنه يتابع أصدقائه الثلاثة، وقد اندس كل منهم في ناحية من نواحي التجمع، وراح يرى على وجه كل منهم معالم دهشة ثم سخرية لم يختلف واحد منهم عن الآخر في هذين الانفعالين. ولم يعد أحد منهم إلى مكانه من الدكة، ولكن لم يشترك أحد من الثلاثة في التصفيق إلا شلبي المبوع، وقد انفرجت شفتاه عن ضحكة عريضة فيها كل الشماتة والسخرية، ولم يكن غريبا ألا يشعر نحو شلبي بشعور يختلف عما يحس به نحو التلاميذ جميعا، ولم يحاول طبعا أن يعجب من نفسه أنها أخذت في موقف شلبي مأخذا طبيعيا وكأنها لا تنتظر غيره.
وضرب جرس البدء لليوم الدراسي، وصاح التلاميذ مرة واحدة في اتفاق وعلى غير اتفاق: هييييه.
وأخيرا تمكن فرغلي أن يخلو إلى فرحات: ماذا يقصدون؟ - ألا تعرف؟ - أبدا. - كيف؟ - لا أعرف. لقد حصل مثل هذا تقريبا حين ذهبت إلى مدرسة القرية ولهذا جئت إليكم في المدرسة الإلزامية. - تريد أن تقول إنك لا تعرف. - مطلقا! - لا تعرف ماذا تعمل أمك؟ - أعرف. - ماذا؟ - تعمل أمي وزوجة أبي أحيانا. - لا ... لا ... قبل أن تكون أمك، وقبل أن تكون زوجة أبيك. - كانت بنتا مثل كل البنات. - فأنت إذن لا تعرف شيئا عن أمك. - كيف؟ - البلد كلها عندكم تعرف. - كانت تمنعني أن ألعب مع أحد. - معذورة. - لماذا؟ - حتى لا تعرف الحقيقة. - وما هي الحقيقة؟ - أمك كانت غزية يا أستاذ. - ماذا؟ - كانت راقصة في الموالد.
وتجمد فرغلي يعجز كيانه عن التحرك. لقد جاءت إليه الحقيقة التي تفسر سنوات عمره الماضي جميعا ... كان يمكن أن تكون الحقيقة أي شيء إلا هذا ... وصاح به فرحات: هيا.
ولم يلتفت إلى نداء فرحات. وعاد فرحات يصيح: ألم تكن تعرف، أم لم تكن تريدنا أن نعرف؟
وفى وجوم شبه أبله هز فرغلي رأسه يمنة ويسرة ولم ينطق. - لا يهم.
ونظر إليه فرغلي في دهشة ولم يقل شيئا. - لا يهم فكل حقيقة ستعرف في يوم من الأيام، لا يغير من الأمر شيئا أنك كنت تعرف أو لم تكن تعرف المهم أنك عرفت، وعليك أن تدبر مستقبلك على أنك تعرف، وعلى أن كثيرا من الناس سيعرفون صدفة أو يبحثون حتى يعرفوا. وجذبه فتحرك معه لأنه لم يكن يملك أن يقود نفسه أو يتحكم في تصرفاته.
سار ذاهلا ولم يسمع شيئا من الأسماء التي يلقيها المدرس ليحدد لكل تلميذ الفصل الذي سيكون فيه، وحتى حين سمع اسمه لم يعن بأن يعرف فصله، وجره فرحات وذهب به إلى الفصل فهو زميله فيه، واختار فرحات المكتب وجلس إليه وأجلسه معه. وأحس فرغلي أخيرا أنه يستطيع أن يخلو إلى نفسه وأن يفكر.
إن الأم والأب من الأمور التي لا يختارها الأبناء؛ ما ذنبه؟ بل وما ذنب أمه؟! الذنب كله ذنب أبيه. ولكن أكان يتصور هذا الذي يحدث لفرغلي الآن؟
كل هذا لا يهم، لا يهم الآن إلا شيء واحد؛ كيف سأظل في هذه المدرسة أربع سنوات؟ كيف سأواجه الطلبة؟ وكيف أعيش بينهم؟ غزية ... راقصة موالد !
Unknown page