تقديم‏

خطبة الإدانة الطويلة أمام سور المدينة‏

فرناندو كراب أرسل إلي هذا الخطاب‏

تقديم‏

خطبة الإدانة الطويلة أمام سور المدينة‏

فرناندو كراب أرسل إلي هذا الخطاب‏

خطبة الإدانة الطويلة عند سور المدينة وفرناندو كراب أرسل إلي هذا الخطاب

خطبة الإدانة الطويلة عند سور المدينة وفرناندو كراب أرسل إلي هذا الخطاب

جمع وترجمة

عبد الغفار مكاوي

تقديم

«كان السؤال الذي شغلني وحركني في جميع مسرحياتي هو هذا السؤال: كيف ينبغي على الإنسان أن يعيش، وما الذي ينبغي عليه أن يفعله؟» .. ولأن السؤال قد طرحته أجيال من الأدباء والمفكرين والبشر العاديين منذ عصور لا تدركها الذاكرة، وسوف تواصل طرحه أجيال أخرى في عصور لا نستطيع أن نتنبأ بطبيعتها وأحوالها، فقد اهتدى السائل - وهو الكاتب المسرحي تانكريد دورست الذي نقدم في هذا الكتاب عملين من أجمل وأشهر أعماله - إلى الحقيقة البسيطة التي تلزمنا بالخضوع لها، دون التوقف في الوقت نفسه عن معاودة طرح السؤال بكل الصيغ والأشكال الممكنة، ألا وهي استحالة التوصل لإجابة نهائية وحيدة عليه، لأن كل الإجابات التي زعمت على مدى التاريخ أنها هي الأخيرة والقاطعة قد ثبت فشلها الذريع، وربما تسبب بعضها في كوارث ومآس لا أول لها ولا آخر .. لهذا لا يدهشنا أن نجد كاتبنا يقول عن مسرحه: إنه هو مسرح الحيرة والتساؤل المستمر الذي يكتفي بإثارة العقل والوجدان ولا يتورط في الزعم الأجوف بتقديم الحقيقة أو الحقائق النهائية، وكأن هذا المسرح يستظل بالعبارة الجدلية الساخرة الشهيرة التي أطلقها سقراط في القرن الخامس قبل الميلاد، وهي أنه لا يعرف سوى أنه لا يعرف، أو بالعبارة المفعمة بالشك والألم التي أطلقها «مونتني» في القرن السادس عشر الميلادي، وكانت - وما تزال - أوجع سخرية من عجز الإنسان وغروره الباطل: ماذا أعرف أو ماذا يمكنني أن أعرف؟

لا عجب إذن أن نجد هذا الكاتب يعترف في مقال مهم سبق تأليفه للمسرحيتين التاليتين وعبر فيه عن رؤيته التي استخلصها من تجاربه ومحاولاته المختلفة في التأليف لمسرح العرائس والسينما والإذاعة المسموعة والمرئية والعروض والألعاب الدرامية المتنوعة، وهو المقال الذي جعل عنوانه: خشبة المسرح هي المكان المطلق (1962): «المسرح في نظري نوع من التجربة؛ إنه المحاولة الدائبة لعرض الإنسان وإظهاره على خشبة المسرح، الإنسان الذي يحيا الآن بكل ما يحركه ويقلقه، وبكل ما يعمله وينتجه وما يقيده كذلك ويحدده. والأدوات التي أتوسل بها في سبيل ذلك قديمة قدم المسرح ذاته: فهي استخدام القناع، والخلط (الناتج عن سوء الفهم)، وإبراز المظاهر المنعكسة، وأسلوب المسرح في المسرح. وهي جميعا تستغل لإظهار وجود الممثل على خشبة المسرح في صورة رائعة ومثيرة للتساؤل في الوقت نفسه، وبذلك نتمكن من وضع أنفسنا - لأننا مشاركون كذلك في التجربة - ووضع أحكامنا وقيمنا ومعاييرنا الاجتماعية وأخلاقنا موضع التساؤل» .. هذه العبارات أو بالأحرى الاعترافات القصيرة تكشف لنا عن الموقف المبدئي لهذا الكاتب من الواقع الشامل، وهو في صميمه موقف يعبر عن علاقته الدرامية أو «التمثيلية» به، ويسري مسرى الدم في شرايين أعماله وأوردتها، ويؤكد نزعتها النقدية الساخرة من روح العصر، ومن البرجوازي الأوروبي أو إنسان الطبقة الوسطى المتزمت الضيق الأفق الذي لا يكاد يشغله شيء في حياته بقدر ما يشغله «الإنجاز» و«التملك»، كما يبين محاولاته المستمرة في تسليط الضوء على الحقيقة الإنسانية العارية البسيطة، حقيقة الإنسان العادي أو «الإنسان الصغير» الذي كان على الدوام هو المحرك الفاعل للتاريخ والضحية الأولى والأخيرة له وللطغاة والمستبدين الكبار والصغار الذين تحكموا وما زالوا يتحكمون فيه ... من هنا كان همه الدائم هو تقديم الدراما الإنسانية - لا التاريخية أو الوثائقية! - على خشبة مسرح إنساني أو عالمي شامل، في عرض أو استعراض تمثيلي يمتع المشاهد العادي، ويدهشه، وربما ينجح أيضا في تغييره أو على الأقل في البقاء في ذاكرته ووعيه مدى الحياة، لا سيما إذا نجح كما قلنا في الكشف عن الحقيقة البشرية العارية من كل غطاء أيديولوجي أو فلسفي أو أخلاقي زاعق، وفي دعوة هذا الإنسان إلى معرفة دوره والقيام به لإنقاذ الأرض التي تندحر وتنحدر إلى حضيض الهاوية دون أن ننتبه لذلك! وحثه على المشاركة في إيقاف الكارثة التي يندفع إليها التاريخ، وتهدد بتدمير الحياة وتخريب الإنسان بعد تجويعه وتعذيبه بفظاعة ووحشية دونها فظاعة الوحوش. •••

ولد تانكريد دورست - مؤلف المسرحيتين التاليتين اللتين ترجع إحداهما لفترة مبكرة من حياته (1961) والأخرى لما قبل سنوات قليلة (1992) - في اليوم التاسع عشر من شهر ديسمبر سنة 1925 في بلدة «أوبرلند» القريبة من مدينة «زونيبرج» بولاية تورنجن لأسرة يشتغل عائلها بالهندسة وصناعة الآلات. وقد توفي أبوه وهو في السادسة من عمره، ولم يكد يتم تعليمه الأولي والثانوي في موطنه الأصلي حتى استدعي في عام 1942 - وهو بعد في السادسة عشرة من عمره - للانخراط في الجيش، وعانى من أهوال الحرب العالمية الثانية التي كانت على أشدها في ذلك الحين، وتعلم الخشونة والصرامة والطاعة وروح العمل الجماعي، كما تعلم كيف ينظر إلى الواقع المحيط به نظرة المراقب الذي يشك في كل شيء ويسخر من كل طموح وهمي فاسد، حتى وصل إلى الاقتناع ببطلان كل المشروعات العالمية الكبرى وهشاشتها (على نحو ما يعبر بعض أبطاله في مسرحيته الفيلا - 1980 - وهينريش أو آلام المخيلة - 1985) وبعد أن تقلب في معسكرات الاعتقال في بلجيكا وإنجلترا والولايات الأمريكية المتحدة حتى سنة 1947، رجع إلى وطنه، وحاول أن يستأنف دراسته في بامبيرج ثم في ميونخ ابتداء من سنة 1951، حيث أقبل على سماع المحاضرات التي كانت تلقى هناك عن الأدب الألماني وتاريخ الفن وعلوم المسرح. لكن ظروف حياته القاسية حالت دون إتمام دراسته، فراح يبحث عن قوته في أعمال مختلفة ومهن متنوعة أتاحت له الاقتراب من بسطاء الناس والتعرف على حياتهم وهمومهم اليومية: «كانت أحوالي في السنوات الأولى بالغة السوء .. كنت أجلس في حجرتي الضيقة الصغيرة في حي شفابينج (وهو حي الفنانين المشهور في مدينة ميونخ) وأكتب مسرحيات للعرائس لم تدر علي أي إيراد يذكر. لم أستطع في ذلك الحين أن أتصور كيف يمكن أن يكسب الإنسان شيئا من المال. ثم حصلت في سنة 1959 على جائزة من مسرح مدينة مانهايم الوطني عن مشروع مسرحية كتبتها وهي «مجتمع في الخريف»؛ فبدأت أحوالي منذ ذلك الحين في التحسن.»

ولا بد من الانتباه إلى أهمية تلك الفترة التي قضاها دورست في ميونيخ مع أوائل الخمسينيات في التأليف لمسرح العرائس الذي كان يعرف باسم اللعبة الصغيرة، وتأثيرها البالغ على حياته وإنتاجه وأسلوب كتابته المسرحية بوجه عام. فلا شك أن عمله في ذلك المسرح الذي شارك في تأسيسه وإدارته وإخراج تمثيلياته فيه، قد كان له أعمق الأثر على اختياره لموضوعاته من الأساطير القديمة والحكايات الشعبية الشرقية والغربية، والقصص والأمثولات والخرافات والحواديت التي تثير أحلام الأطفال الذين يتوجه إليهم كثيرا بخطابه، كما يعلق عليهم أمله الوحيد في إنقاذ كوكبنا البائس الصغير من أيدي السادة الكبار أصحاب المشروعات الضخمة، وأمله في تحقيق «اليوتوبيا» (المدينة المثالية الفاضلة) التي ثبتت استحالتها وفشلها - كما سبق القول - ولم تعش حتى الآن وربما لن تعيش وتزدهر إلا في خيال الأطفال والفلاسفة والأدباء ... والمهم من كل ذلك أن المسرحيات التجريبية الصغيرة التي كتبها دورست في ذلك الحين مثل مسرحية «المنحنى» (1960) التي نقلها إلى العربية المرحوم الدكتور إبراهيم حمادة ونشرها مع مسرحيات أخرى في كتابه «أقنعة الملائكة» ومسرحية خطبة الإدانة - أو التشهير - الطويلة أمام سور المدينة (1961) التي تجدها في هذا الكتاب، ومسرحية القط ذي الحذاء أو كيف تلعب اللعبة (1963) أقول إن المهم من كل ذلك أن المسرحيات المذكورة قد تأثرت تأثرا مباشرا بكتابته لمسرح العرائس في تلك الحقبة القصيرة من حياته، كما تغلغل تأثيرها أيضا بصورة غير مباشرة في معظم ما كتبه حتى يومنا الحاضر .. وهذه المسرحيات التجريبية الساخرة التي ذكرناها تعبر عن تأثره بمسرح العبث أو اللامعقول من جهة، وبالمسرح الملحمي وأساليبه المختلفة عند بريشت وبعض الكتاب الذين جاءوا بعده - مثل دورنمات وماكس فريش - من جهة أخرى، كما أنها تستفيد من خبرته في التأليف لمسرح العرائس والكتابة عنه (سر مسرح العرائس 1957، ومحاولات عن مسرح العرائس 1959). والواقع أن الموضوعات التي طرقها فيها وعالجها بأشكال وتنويعات مختلفة ظلت تسيطر على بقية مسرحياته، إذ نحس منها أن رؤيته للوجود ذات طابع تمثيلي، كما نلمس محاولاته المستمرة لتقديم لعبة المسرح في المسرح، ونشاهد الكثير من الطقوس الخالية من أي معنى، ونشعر باستحالة التواصل بين البشر الذين يضعون على وجوههم أقنعة لا يلبثون مع مرور الزمن أن يندمجوا فيها ويتحدوا بها بحيث يتعذر عليهم تمييز الوجه من القناع، والدور الذي يؤدونه من الحياة الحقيقية التي يعيشونها.

وفي عقدي الستينيات والسبعينيات تمرس بالعمل في دور النشر والكتابة للسينما والإذاعة المسموعة والمرئية، وترجم عن الفرنسية بعض مسرحيات موليير والكاتب الأيرلندي سين أوكيزي ترجمة جديدة، كما ترجم وأعد للمسرح رواية مفكر عصر التنوير وأديبه المشهور ديدرو وهي ابن أخت رامو (التي سبق أن ترجمها لأول مرة شاعر الألمان الأكبر جوته) وقد قضى سنة 1970 كاتبا مقيما في كلية أوبرلين بولاية أوهيو بالولايات المتحدة الأمريكية، كما قام سنة 1973 بالتدريس في بعض الجامعات في أستراليا ونيوزيلاندا. وربما كانت هذه المرحلة من حياته وإنتاجه قد مهدت لاهتمامه بعد ذلك بالموضوعات التاريخية التي راح يعرضها من زاوية البحث الدائب عن الحقيقة، حيث تناول حياة عدد من كبار الأدباء الغربيين الذين توهموا أن الأدب يمكن أن يصنع ثورة، وأن الكلمة يمكن أن تكون فعلا أو تنوب عن الفعل، وكذلك بعض الأدباء الذين أدينوا بتهمة التعاون مع النازيين وتلويث أقلامهم وأيديهم بوضعها في الأيدي التي تلطخت بالدم والوحشية. ولم يكن هدفه من ذلك هو فضح تلك الشخصيات ولا الصراخ بآراء وأفكار صاخبة عن الحقيقة والحرية، بل اكتشاف أعماقهم الإنسانية، وإثبات فشل الأدب والفن كليهما عندما يتصوران في نفسهما القدرة على حل مشكلات الواقع أو السيطرة عليها. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك هي بعض مسرحياته التي جلبت له شهرة عالمية، كمسرحية «عصر الجليد» عن واحد من أكبر أدباء النرويج وهو كنوت هامسون (1859-1952) صاحب رواية «الجوع» الشهيرة، ويقدمه دورست من خلال أحد عشر مشهدا تدور في دار استشفاء أو مصحة للعجزة المصابين بالأمراض العقلية والعصبية، وتعرض علينا شخصية هذا العجوز العنيد الواثق بنفسه، والمستمسك بنزعته العدوانية الشرسة نحو المجتمع والناس والجيل الجديد الذي لعنه وأدان وقوفه مع أعداء بلاده من وحوش النازية (وقد ظهرت المسرحية في سلسلة المسرح العالمي الكويتية - العدد 188 - في ترجمة عربية ممتازة مع مقدمة جيدة ووافية). وتذكر في هذا الصدد كذلك مسرحيته «تولر» (1968) عن أديب الحركة التعبيرية الألمانية والثائر الخيالي المتحمس والمنفصم عن الواقع وهو إرنست تولر (1893-1939). الذي كتب مسرحيات مثيرة عن زحف جحافل الآلات والجماهير، وشارك في قيادة ثورة قصيرة العمر عرفت باسم «ثورة ميونيخ»، وأسست ما سمي باسم «جمهورية اللجان الاشتراكية» التي لم تبق على قيد الحياة سوى أسابيع قليلة.

وتتألف المسرحية من لوحات ولقطات استعراضية من الأحداث التي وقعت بين إعلان قيام جمهورية اللجان الاشتراكية وسقوطها في سنة 1919. ولم يكن هدف «دورست» من هذه المسرحية - كما قلنا - هو التوثيق التاريخي، بل كان هدفه هو عرض مشكلة الالتزام السياسي الذي ينخرط فيه المثقف والفنان المبدع في موقف زمني وتاريخي محدد، فيتصور أنه قادر على إبداع الثورة كما أبدع أعماله الفنية، وأن الثورة يمكن أن تصبح فعلا خلاقا كالفعل الإبداعي سواء بسواء .. والواقع أن حماس «تولر» واندفاعه الثوري ينسيانه ضرورة تنظيم الثورة أو إدارتها. ويصور المؤلف «تولر» في صورة ممثل «يلعب» الثورة، بحيث تصبح هذه الثورة نوعا من الأدب، ويحل الانفعال الأدبي محل التنظيم العملي، وتعجز الشعارات الأخلاقية والطموحات المثالية عن حماية الثورة من أعدائها الذين هزموها واعتقلوا وأعدموا أعضاء لجنتها الذين كان معظمهم من الأدباء الذين لا يكفون عن الثرثرة والمناقشات والمحاورات وكأنهم في مهزلة دموية! والمهم أننا نخرج من هذا العرض المسرحي بأن الثورة التي يصممها الأديب لا بد أن تنتهي بأن تكون هي الأخرى أدبا لا صلة له بالواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يحياه الناس.

وقد اشترك «دورست» في هذه الفترة من حياته مع المخرج المسرحي الشهير بيتر زاديك في إنتاج سيناريوهات أفلام ومسرحيات متنوعة تتناول الأزمات الاجتماعية وعجز المثقفين وتناقضاتهم في التعامل معها، مثل الاغتيال الأحمر أو كنت ألمانيا (1969)، ورمل (1971) وعصر الجليد (1973) وجونكورا وإلغاء الموت (1977)، وهو يعمد فيها جميعا إلى إثارة المتفرج بدلا من وعظه، وذلك مع افتراض نضج هذا المتفرج وقدرته على تحمل مسئولياته الأخلاقية. وقد تبعت ذلك سيناريوهات أفلام سينمائية وتليفزيونية متعددة منها دور وتيا ميرتس (1976)، وأم كلارا (1978) وموش (1980) بالإضافة إلى مسرحياته الألمانية التي يتناول فيها علاقته التمثيلية بالتاريخ المعاصر من خلال قصة حياته وحياة عائلته وموقفه النقدي من الواقع الاجتماعي في ألمانيا منذ عهد جمهورية فيمار في العشرينيات حتى أوائل السبعينيات من القرن العشرين، مثل فوق الشيباروزو (1974) والفيلا (1980) وهينريش أو آلام المخيلة (1980)، وأخيرا نذكر السيناريو الذي كتبه بعنوان «البستان المحرم» (1983) عن شاعر إيطاليا الكبير جابربيل دانوننزيو (1863-1938) الذي اتهم بوضع يده في أيدي الفاشيين، كما كان آخر دعاة البطولة والقوة والنشوة بالعنف والرعب سبيلا للانتصار المزعوم على الركود والضعف والموت، وتحقيق «الخلود» الوهمي عن طريق عبادة الشعر والجمال اللذين يضيفان - في نظر ذلك الشاعر الكبير المعتوه - غلالتهما السحرية المسمومة حول جسد الواقع والإنسان العادي والحقيقة العارية المباشرة والبسيطة .. وتذكر في هذا السياق أيضا مسرحيته الشعبية التي تلجأ لأسلوب العرض أو الاستعراض الغنائي والموسيقي في مناظر متتالية تشبه لقطات حية منتزعة من واقع الأحوال المعيشية البائسة خلال الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي اجتاحت أوروبا في الثلاثينيات وسبقت استيلاء النازيين على السلطة في سنة 1933. والمسرحية التي نقصدها وهي «أيها الإنسان الصغير، ما العمل الآن؟» مأخوذة مع عنوانها نفسه من رواية حققت شهرة واسعة في تلك السنوات العجاف للأديب الواقعي هانز فالادا (1893-1947) الذي كتبها في سنة 1932، وظلت هي تاج إنتاجه الروائي الذي يكاد يدور حول موضوع واحد هو هموم الرجل العادي ومتاعبه وسط عالم يسحقه ويحبطه كل يوم، ولكنه لا يستسلم أبدا لهذا الإحباط، بل يفتح لنفسه فتحة في جدار الواقع المظلم الصلب لينفذ منه ويرتفع فوقه ولو بأجنحة الحلم والخيال. وقد عرض فيها دورست - على طريقة الكباريه أو الجريدة الغنائية والموسيقية - مشاهد ولوحات شديدة التنوع عن ألوان العذاب والضياع والمهانة التي يلقاها زوجان شابان ربط بينهما الحب الحقيقي وحاول عبثا حراس الحصار المطبق عليهما من ذئاب المال والأعمال أن يستغلوا جمال الزوجة وفقر الزوج في تمريغهما في الوحل وتلطيخهما بالعار، ولكن الزوجين المحبين يفضلان في آخر المطاف أن ينهيا مأساة جحيمهما الأرضي بالموت الإرادي - وربما غير الإرادي بسبب الجوع والإرهاق! - فيرتفعان معا كحمامتين حزينتين وغاضبتين إلى رحاب فردوس سماوي يعوضهما عن ظلم الأرض وبشاعة أهلها وخراب ذممهم ونظامهم الاجتماعي والسياسي الذي لم يستطع أن يوفر لهما الكفاف من خبز العدل والرحمة.

والظاهر أن هذه الإعدادات السينمائية والاستعراضية المتنوعة لم تستطع أن تشبع طموحه لإنجاز عمل مسرحي كبير يضع فيه خبرته الطويلة وحنينه الدائم لأجواء الحكاية الشعبية وميله المستمر لمزج الماضي بالحاضر والخرافة بالواقع في لوحات متتالية تحمل انتقاداته للحياة الاجتماعية والنفسية التي يكابدها الناس على أرض الواقع. ولهذا تجده يتجه في سنة 1981 إلى كتابة عمل شامل استوحى مادته من الحكايات المشهورة في العصر الوسيط - القرن الثاني عشر الميلادي - عن الملك آرتوس وفرسان المائدة المستديرة، وهذا العمل الشامل هو مسرحيته الطويلة «ميرلين أو الأرض الخراب» - التي تتألف من سبعة وتسعين منظرا يستغرق عرضها ما يقرب من عشر ساعات في ليلتين متتاليتين! - تدور حول موضوع أثير لدى المثقفين الساخطين منذ أفلاطون على أقل تقدير على واقعهم المتردي، كما أثارته الأحداث الأخيرة بعد السقوط المدوي للتطبيق الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي السابق والدول التي كانت تدور في فلكه، وهو موضوع فشل اليوتوبيات (أو المدن المثالية الفاضلة) .. فالساحر ميرلين الذي كان مولده ثمرة الزواج العجيب لشيطان من عذراء، يكلفه أبوه بأن ينزع من قلوب البشر الخوف من الشر. ولكن ميرلين يرفض القيام بهذه المهمة، ويصمم على تجاربه مع الخير الكامن في نفوس البشر، وينجح في إقناع الملك أرتوس بجمع أبطال العصر وفرسانه حول مائدته ليقيموا النظام العادل في هذا العالم. غير أن صراعات الحقد والحسد القاتلة سرعان ما تدب بين فرسان المائدة المستديرة، ويكتشف ميرلين أنه يقف على أرض خراب (إيماء لقصيدة إليوت المشهورة) اختفى منها كل أمل في العدل والخير، وكل رجاء في تحقيق اليوتوبيا على هذه الأرض، كما يكتشف في النهاية أنه حقق رغبة أبيه دون أن يدري. ويودع ميرلين التاريخ البشري كله بعد أن تأكد من غباء أبطاله وفرسانه الجوف: لقد سئمت منهم جميعا! لا أريد أن أرى أي واحد منهم! لا الأخلاقي ولا الاشتراكي ولا الرأسمالي ولا البنيوي! وتساعده حورية الغاب فيفيانه على أن ينفي نفسه بنفسه في دغل شوكي كثيف يلوذ فيه بسكون الطبيعة وسكينتها الأبدية من فظائع التاريخ البشري، بينما يستمر الصراع خارج الدغل، وترجع الآلهة الوثنية إلى حلبة القتال بعد أن طردها السيد المسيح في بداية المسرحية.

وفي النهاية نذكر فيلمه السينمائي «هانز الحديدي» (1983) الذي يدور حول عجز الناس ويأسهم في إحدى المدن الصغيرة على الحدود مع ألمانيا الشرقية السابقة، وكذلك «أنا فوبرباخ» الذي يصور عجز الفنان وسقوطه ضحية تناقضاته الذاتية التي تصطدم مع تناقضات مجتمع يفترسه القلق والإحساس العام بالرعب والخراب وطغيان الشر عليه إلى حد اليأس من إمكان الخلاص. وفي هذا الخط أيضا تدور مسرحية كوربيس (1988) التي اعتمد فيها على إحدى الحكايات الشعبية القديمة .. بقي أن نقول إنه يعيش ويعمل منذ أوائل السبعينيات مع الكاتبة والمترجمة أورزولا إيلر التي شاركته في كتابة عدد كبير من أعماله، ومنها إحدى المسرحيتين التاليتين. •••

ونأتي الآن إلى المسرحيتين أو بالأحرى اللعبتين المسرحيتين اللتين نقدمهما في هذا الكتاب، راجين أن نتمكن من النظر فيهما على ضوء المعلومات السابقة عن حياة مؤلفهما وأعماله. ونبدأ بالمسرحية الأولى التي وضع لها عنوانا مثيرا وغير عادي في طوله: «خطبة الإدانة (أو التشهير) الطويلة أمام سور المدينة».

ما إن ترفع الستارة عن المنظر الوحيد الممتد إلى نهاية المسرحية حتى نرى ونسمع امرأة صينية شابة وجميلة وفقيرة تقف أمام سور المدينة وتطلق استغاثتها المستميتة بالقيصر: أيها القيصر. أيها القيصر. وربما تصورنا - بمعلوماتنا القليلة عن الصين الغامضة البعيدة! - أن السور الذي يواجه المرأة ويواجهنا يمثل جزءا من سور الصين العظيم الذي لم يبن من أحجار فحسب، بل من عادات وتقاليد وقيم وأخلاق تجمدت بمرور الزمن فصارت بدورها حجارة ثقيلة .. وقد نتخيل كذلك منذ البداية أن هذا السور يوحي بمعنى مجازي يدل على كل الأسوار التي تقف عقبة أمام الفقراء والمظلومين والمحرومين من أبسط حقوق الإنسان العادي في شيء من الحرية والعدل والأمن والسعادة. ويتكرر هتاف المرأة باسم القيصر وسخرية الجنود والضباط الذين يتولون حراسته. ونفهم بالتدريج أن هذه الشجرة البشرية الخضراء المنضرة بالفتنة والصحة والرغبة في الحياة الطبيعية البسيطة تجأر بالشكوى لأب العائلة الصينية الكبرى من الغربان التي تريد أن تعشش على فروعها، ومن الثعابين التي تحاول أن تتسلقها وتنهش لحمها الأخضر. لقد غاب زوجها عنها وطالت غيبته فتعرضت للوحوش الخبيثة المراوغة، وعلى القيصر الذي أخذه جنوده منها عنوة أن يرده إليها لتحمي نفسها من الفتنة والغواية، ولتحيا في الحلال - كما نقول في إطار ثقافتنا الدينية - مع زوجها الشرعي الذي نفهم أيضا أنه كان مجرد صياد سمك خامل وخائن وفاشل، ولم يكن أبدا هو الزوج المثالي لامرأة في مثل قوتها وفتنتها وحرصها على الحياة النظيفة الشريفة.

ونحس أيضا منذ البداية أن الزوجة «فان شين تنج» تشعر بنوع من اليقين الداخلي بأن زوجها «هسوي لي» قد مات في الحرب التي يخوضها القيصر الصيني جريا وراء أوهام المجد والبطولة والقوة والتوسع، وأنها قد صممت على أن تأخذ زوجا آخر يعوضها عن الزوج المفقود مهما كان الثمن، ومهما تعرضت للامتحان العسير لمدى صدقها في الزعم بأن الجندي الذي أشارت إليه من بين الجنود الذين يمرون أمامها من فوق السور هو نفسه زوجها الذي ذاقت معه من المر أكثر بكثير من الحلو .. وقد اشترط القيصر نفسه أن تدخل هذا الامتحان العسير قبل أن يسمح لها بالانصراف مع الزوج المزعوم، وأن تظل رماح الجنود مصوبة نحو زوجها إذا ثبت فشله في أداء دوره وعجز عن إثبات مصداقيته. أما الامتحان نفسه فيفرض عليها أن تدخل بكل قوة وحسم في لعبة المسرح في المسرح التي تجعلها تستعرض مشاهد مختلفة من حياتها وتجاربها مع ذلك الزوج البديل الذي اختارته وراحت تدفعه باستمرار لأداء الدور وتصحح أخطاءه الجسيمة التي يقع فيها بحكم غبائه وعجزه الشديد عن مجاراة تلك الأنثى الطاغية التي وقفت منه موقف الملقن من ممثل ضيق الأفق بطيء التفكير .. بالإضافة إلى جبنه وكذبه!

وتتوالى أمامنا عروض التمثيل لمشاهد من حياة هذه المرأة الشابة الوحيدة، زوجة الجندي السابق التي تكلم الجدران وتهتف في الريح، ومع ذلك تبحث عن الخروج من التمثيل بأي زوج؛ لأنها تعرف فضائل الأسرة وتحرص على القيام بواجبات الزوجة .. ويشارك في التمثيل، أو بالأحرى يستدرج إليه، اثنان من أصحاب السعادة وحضرات الضباط، فيؤدي أحدهما مرة دور قاضي القرية الذي تخونه زوجته من وراء ظهره مع زوج المرأة، ويؤدي الآخر دور تاجر الزيت الذي يطمع فيها ويستغل جوعها وفقرها وجمالها ووحدتها ليعرض عليها الزيت بسعر رخيص مقابل الانفراد بها في كوخها الصغير الخالي. بل إن القيصر نفسه يشارك من بعيد في اللعبة بإصدار أوامره وتسلية نفسه بالتفرج على لعبة هذه الفلاحة الفصيحة الداهية، والظهور من حين إلى حين من فوق السور متدثرا بالقشور الذهبية التي تغطيه من رأسه إلى كعب قدميه، وكأنه سمكة عظيمة تلمع في شمس الصباح.

ومع التدخل المستمر للضابط السمين والضابط النحيف في مجرى العرض وفي سياق الحوار بين الزوجة المحرومة والزوج البديل الخائب، ومع إدراك الضابطين اللذين يراقبانهما أن هذا الزوج مرتبك وبليد، وأن معظم الكلام والفعل يتدفق من الزوجة التي تحاول إصلاح ما يفسده وإكمال التمثيل بأي ثمن، تتابع المشاهد القصيرة من الحياة الماضية البائسة واحدا بعد الآخر: تعرف الزوجين على بعضهما عند النبع ومساعدة زوج المستقبل لها في حمل الجرة أثناء سيرهما معا إلى بيت القاضي الذي تعمل فيه خادمة، اكتشاف الزوجة أن زوج المستقبل على علاقة خفية بزوجة القاضي الذي غادر البلدة على حماره لكي يقيم العدل بين الناس بينما الظلم والشر يجوسان في بيته ويعبثان بشرفه وسمعته، رجوع القاضي إلى بيته مسرعا بعد أن سمع الإشاعات المريبة وكيف تدخلت لإنقاذ زوج المستقبل المخادع من الشنق وتسترت على الفضيحة رغم كل شيء، مشاهد من حياة الزوجين «الشرعيين» التي استمر شقاؤها أربع سنوات في كوخها الفقير على شاطئ النهر؛ حيث لا تطمع فان شين-تونج في أكثر من الحياة في سلام مع زوجها، بينما يحلم هو بالانطلاق إلى مدن العالم فرارا من عش الزوجية الضيق الخانق .. فشل الزوج المزيف في البقاء مع زوجته على سطح كوخهما وفي إبداء ذرة واحدة من الصبر على محنة الفيضان الذي أغرق كل شيء حولهما وتصميمه على الهرب منها، بل اعترافه المفاجئ بأنه لم يكن زوجها في يوم من الأيام، تدخل الزوجة مرة أخرى لإنقاذ العرض الذي أوشك على التوقف واعتذارها بقلق زوجها وبحرصها على المحافظة عليه رغم كل تصرفاته، نزول الرجال الذين يجمعون المتطوعين للحرب إلى القرية ونجاحهم في أخذه معهم برغم اختفائه في أحراش الغاب طوال الصيف وتصنته من موقعه على المحاولات الفاشلة لتاجر الزيت الأصلع الدنيء لاستغلال فقر زوجته بإقراضها بعض العملات النحاسية أو مساومتها على تأجيل سداد ثمن الزيت إكراما للطفها وفتنتها ونجاحها مع ذلك في المحافظة على شرفها وسمعتها وبيتها رغم غياب الزوج، مغالبتها لدموعها واستمرارها في تمثيل دورها برغم إحضار الجنود للتميمة المعدنية التي عثروا عليها مع جثة زوجها الحقيقي وإنكارها لمعرفة ذلك الميت حتى تخرج من اللعبة ومعها زوج يسترها، عودة الزوج المزيف للاعتراف بأنه كان مع الزوج الحقيقي عندما أرداه سهم نفذ في عينه ثم تراجعه عن اعترافه رعبا من المصير الذي ينتظره وانخراطه بعد ذلك في الدور الذي لم يتقن تمثيله، تهور الزوج الذي يطعن تاجر الزيت انتقاما لما تصور أنه شرفه المطعون، ثم هروبه من الجنود الذين جاءوا للقبض عليه وهروبه النهائي من خلف السور بعد اقتناعه بفشله في تمثيل دور الزوج الحقيقي واقتناع الضابطين أيضا بفشل الزوجة في مداراة غباء البديل برغم كل براعتها في تمثيل دورها والتدخل المتواصل لإنقاذ اللعبة اليائسة، وأخيرا تأتي محاولة الزوجة للاستغاثة بالقيصر الذي انصرف من ساحة الملعب بعد أن استمتع بالفرجة .. ولذلك لم يبق أمامها إلا أن تخمش السور الأخرس الكثيف - كالذئبة الجائعة الجريحة - بأظافر صرخاتها اليائسة من إمكان تحقيق العدالة على الأرض، ومن استحالة الحد الأدنى من السعادة والأمان للإنسان الصغير الذي تحوطه الأسوار من كل جانب .. وهكذا تتدافع لعناتها المحبطة الغاضبة على القيصر وزبانيته وطموحاته ومشروعاته، وعلى كل الأخلاق والأفكار والقيم والتقاليد التي شاركت في إقامتها وتدعيمها منذ أن كان سادة وعبيد، وحكام ومحكومون، وأغنياء وفقراء، ومضطهدون مظلومون مستغلون يقاسون الأمرين من كل مضطهد ومستغل وظالم، في خطبة طويلة يختتم بها العرض، وتنتهي معها اللعبة التي لم تزل مستمرة بأشكال أخرى أخبث وأدهى مما كانت عليه في زمن قديم في الصين القديمة.

وينزل الستار على لعبة المسرح في المسرح، بينما يتردد صراخ المرأة المسكينة التي جربت كل ذكائها الفطري في اقتناص نصيبها القليل من العدل والاستقرار ثم فشلت في التجربة .. وتتوغل صيحات المرأة المحتجة في ضمائرنا وتسري في دمائنا مسرى الرصاصات العنقودية التي تتفجر فيها وتفجر معها كل ما توهمناه من إمكان الراحة أو الطمأنينة في عالمنا المدني الذي تطوقه أسوار الظلم والوحشية وقسوة الإنسان على أخيه الإنسان .. وتتحول الخطبة إلى دعوى اتهام طويلة لكل المسئولين عن عذاب الإنسان العادي أو الإنسان الصغير عبر جميع العصور وفي ظل مختلف النظم والمدن والمجتمعات والحضارات، وداخل كل الأسوار المادية أو الأسوار العقلية والقانونية والأخلاقية والروحية: «أنتم يا من فوق السور! أيها المطرزون بالذهب - يا أصحاب القوانين الجميلة والأخلاق الجميلة - لم لا تفسرون لي السبب في انتشار العفن الفظيع في العالم كله؟ .. وأنت أيها السور! أيها السور السميك! ابتعد! ابتعد! أيها السور السميك العظيم القديم الغبي - أنا فان شين تينج أقف هنا تحتك .. سأظل ألطمك برأسي حتى تتهدم ... إنني أكرهك. أبصق عليك أضحك عليك. ألعنك، أنا .. أنا .. أنا .. أنا ...»

ويدخل أحد الجنود المكلفين بالحراسة ووجهه - كوجهي الضابطين اللذين انصرفا ضاحكين - مغطى بقناع. وتكتشف أنه هو نفسه ذلك الرجل الذي حاول أن ينتهز الفرصة ويستمتع بالهروب من قهر السلطة مع امرأة جميلة سعت إليه بقدميها، كما حاول عبثا أن يتقمص دور الزوج الغائب إلى الأبد، ثم لم يلبث أن رجع إلى جموده وبروده وانضم مرة أخرى إلى جماعة السور ليعود حجرا من أحجاره الغليظة، ويضع رقبته في النير الذي أعدته له وللجميع .. ذلك أن أخلاق بناة ذلك السور، وغيره من الأسوار عبر العصور، قد استلبته ووضعته في قوالب قيمها وتقاليدها «وأيديولوجياتها» الجاهزة على الدوام. وإذا كان قد خرج لفترة قصيرة من هذه القوالب في محاولة لاسترداد هويته الإنسانية، فقد فشل في أداء الدور، وتنكب الحقيقة البسيطة من طول ما تغذى على الكذب المصنوع، ووجد نفسه مضطرا للدخول من جديد في القالب أو التابوت الذي احتواه ولم يزل يحتوينا جميعا بدرجات وأشكال مختلفة. وفي النهاية يمد الرجل المقنع حربته ويلكز بها الشخصية الوحيدة التي لم تضع على وجهها أي قناع وهو ينهرها قائلا: «اذهبي! لن يسمعك أحد!» - وتقشعر المرأة فزعا وتحدق فيه صامتة، ونقشعر نحن أيضا من رعب الأسوار الظاهرية والخفية. وربما خرجنا من اللعبة المرة وبين جوانحنا شيء من العزم - أو حتى النية الطيبة! - على تحطيم الأسوار، كل الأسوار. •••

إذا كانت المسرحية السابقة - التي ترجع، كما قلت، لفترة مبكرة من إنتاج دورست (1961) - قد سلطت الضوء على الحقيقة العارية البسيطة للإنسان العادي أو «الإنسان الصغير» الذي يطالب بمكان آمن ونظيف تحت الشمس، فإن هذه المسرحية المتأخرة (1992) قد خاطرت بوضع هذا العنوان الفرعي تحت اسمها: «محاولة للكشف عن الحقيقة.» ويتبادر إلى أذهاننا السؤال المركب من أسئلة لا حصر لها: ما هو تصور المؤلف للحقيقة؟ وما الذي فهمه من أبعادها وزواياها الكثيرة كثرة حيرت الفلاسفة والمناطقة والعلماء والأدباء على مر العصور؟ وما نوع الحقيقة التي يبحث عنها، وما الفرق بينها وبين الواقع بالنسبة لكاتب يؤكد أنه واقعي؟

لنؤجل النظر في هذه الأسئلة العويصة - التي تفتح الأبواب لتفسيرات واحتمالات وافتراضات لا آخر لها! - حتى نفرغ من إلقاء نظرات أخرى سريعة على هذه اللعبة المسرحية الجديدة والشخصيات المشتركة فيها، سواء أكانوا ضحايا أم جلادين.

واللعبة التمثيلية تدور حول شخصية رجل مستبد بقوته وثروته يصمم على الزواج من امرأة فاتنة الجمال وينفذ بسطوته وجبروته ما قد صمم عليه. وتتم الزيجة وتتطور بصورة غريبة، فرجل الأعمال الموضوعي البارد لا يكترث كثيرا بزوجته، بل يضن عليها من أول المسرحية إلى آخرها بالعبارة الوحيدة التي كان من الممكن أن تجعل للزواج معنى، وهي أنه يحبها. وتميل الزوجة الحساسة إلى الدوق المثقف الحساس مثلها تجد عنده ما يستحيل أن تجده عند الزوج العملي الذي اشتراها بماله وتصور أنه ضمها إلى أملاكه وأشيائه التي يتحكم فيها كما يشاء. وتعترف الزوجة في لحظة كبرياء بأنها تعشق الدوق، وأنها فعلتها معه مرات عديدة لا مرة واحدة. ويجن جنون فرناندو كراب الواقعي العاقل فيدبر خطته الشيطانية التي تودي بجوليا إلى الجنون ثم إلى الموت البطيء أو الانتحار الصامت. لقد نجح الرجل في «استلاب» زوجته أو «تشييئها» كما يعبر فلاسفة الاغتراب، ولكنه انجرف دون أن يدري أو يقدر إلى داخل الدوامة المسرحية التي اصطنعها بنفسه وأحكم نسج خيوطها الأخطبوطية الشريرة. وفي المشهد الأخير نفاجأ بالجلاد وقد صار هو الضحية، إذ يتفجر شلال الاعتراف بحبه للزوجة المحتضرة مكتسحا كل السدود والأغلال التي حبسه وراءها، وتتدافع الدموع والصرخات بعد فوات الأوان لنكتشف من شظايا مراياها المهشمة كيف تجاهل وخان أقرب الحقائق إلى الإنسان، وهي حقيقة قلبه.

أما شخصية جوليا فهي أكثر تركيبا وتعقيدا وأبعد ما تكون عن شخصية زوجها ذي البعد الواحد .. إنها تقبل منذ البداية أن تكون سلعة تشترى وتباع في سوق الزواج رحمة بأبيها الذي هددها بأن يشنق نفسه إن لم توافق على العرض المغري. وبالرغم من ثورتها الغاضبة في البداية، ومن ثوراتها اللاحقة في وجه الغرور والخيانة والقسوة والجبروت والتهديد التي تبرز كالقسمات الواضحة المحفورة على وجه زوجها، فإنها تبقى حتى النهاية شيئا جميلا عاجزا عن إثبات ذاته أو حتى الانتقام لكرامته المهانة (إزاء فحش زوجها مع إحدى الخادمات في مزرعته وتباهيه بذلك وكأنه شيء عادي من الحياة العادية لرجل في مثل قوته وتسلطه وغناه.) وهي تتمنى أن يقول لها مرة واحدة إنه يحبها - كما في المشهدين الثاني والرابع عشر والأخير - كما تحاول سدى أن تعرفه أو تعرف شيئا عن طفولته وشبابه، بل تتمنى لو شعر مرة واحدة بالغيرة عليها فانفعل وانتقم بسببها (المشهد السادس): - المهم أنك ضربته بسببي. - بسببك؟ شيء مضحك.

وتحاول كذلك عبثا أن تعرف حقيقة مشاعره نحوها فتواجه بمخلوق فظ مجرد من كل عاطفة (المشهد السابع والمشهد الرابع عشر): - ولكن هل تعتقد أني أحبك؟ - ليست المسألة مسألة اعتقاد، هذا هو الواقع!

وحتى عندما تنفجر في اعتراف كاذب ومتعمد بأنها تعشق الدوق وتخون زوجها معه، فإن رده الوحيد عليها هو الانفجار في الضحك. وحين تؤكد له أنها خانته بالفعل وتسأله إن كان سينتقم لنفسه بقتلها أو خنقها - كما سبق له أن خنق زوجته المكسيكية الأولى - لا يكون رده إلا ببركان الضحك المخيف (المشهد السابع) وبعباراته القاطعة كحد السيف بأن ذلك ليس صحيحا كما أن إشاعة قتله للمليونيرة العجوز ليست صحيحة كذلك. وبعد قليل يؤكد أن بيته ليس مسرحا، وأنهما لا يمثلان مسرحية، وذلك في نفس الوقت الذي يدبر فيه مسرحيته الشيطانية التي يثبت بها جنون زوجته، ويشتري الدوق الحساس، ويفتعل لعبة الطبيبين المعالجين ثم يمعن في اللعبة الجهنمية كأنه ساحر أو منوم مغناطيسي يتحكم في الوسيط ويأمره فيستجيب حتى لما يستحيل فيه الأمر وتتعذر الاستجابة. لقد نجح السينارست أو المدبر لعملية «غسيل المخ» في أن يوقع في وهمها - إلى حد الاقتناع المؤكد! - بأنها تحبه، وبأن اعترافها السابق بحبها للدوق المسكين لم يكن إلا زلة لسان أو نوبة جنون محموم تستحق الاعتذار عنها وطلب الصفح من الحبيب الرومانسي الخائب .. وتتكشف النتيجة عن الذروة التي نلقاها في المشاهد الأخيرة: فالحب الكاذب المفروض عليها لا ينجح إلا في تدميرها خطوة فخطوة، والتنكر للذات أو للقلب أو للحقيقة لا يؤدي بالزهرة الناضرة المتلألئة إلا إلى الذبول والانطفاء. وعندما يحمل فرناندو كراب الجسد الواهن الخفيف خفة الرماد وهو يصرخ بحبه ويؤكد في الوقت نفسه أنه لن يسمح بالتنازل عما يملكه حتى للموت ذاته، عندها يكون الحكم العادل بالانتقام العادل قد سقط على رأسهما معا، فتلفظ الجميلة أنفاسها الأخيرة، ويكفر المستبد الفظ والنرجسي الصادي - الذي طالما ردد كلمة أنا الملعونة! - عن تنكره للحقيقة بقطع شريان يده وسقوطه جثة هامدة إلى جوارها. •••

ونعود للسؤال أو الأسئلة التي سقناها في بداية الحديث عن هذه اللعبة المسرحية الدامية: ما هي الحقيقة التي يحاول الكاتب أن يكشف عنها؟ وأي بعد من أبعادها الكثيرة يريد أن يسلط عليه الضوء؟ هل استطاع أن يقربنا من تلك الحقيقة العارية البسيطة - التي وصفناها بأنها هي حقيقة القلب الإنساني النابض بالحب الحقيقي - أم تملصت منه هذه الحقيقة فاحتجبت وتخفت مثل حقيقة الوجود التي زعم الفيلسوف هيدجر (1889-1976) أنها تتأبى علينا وتظل غائبة عنا، وكلما تصورنا أننا اهتدينا إليها ضاعت منا في الحقائق الجزئية للموجودات والمجالات الجزئية، ولم يتجل للعين البصيرة ولا للأذن المصغية إلا بصيص خافت من نورها الأصلي في كلمات الشعراء العظام وألحان الموسيقيين الكبار وأعمال المبدعين؟

أغلب ظني أن الكاتب لم يقصد إلى شيء من هذه المعاني الفلسفية ولم يكن في حاجة إلى ذلك (على الرغم من إمكان التسليم بوجود ظلال من هذه المعاني الكامنة في كتاباته من خلال قراءاته الواسعة.)

ولعله كذلك لم يقصد إلى أي تعميم نظري يمكن أن نقع فيه بسهولة حين نتصور أن فرناندو كراب هو نموذج للشخصية الأوروبية التي تحاول على مدى أربعة قرون منذ عصري النهضة والتنوير وحتى اليوم أن تهيمن على كل شيء في الطبيعة والإنسان وتغزوه وتتملكه. وحتى الدلالات الضمنية الممكنة لشخصية رجل الأعمال المتجبر على شخصية البرجوازي الأوروبي المتزمت والمتغطرس بقدرته على امتلاك كل شيء وإنجاز كل فعل وإخضاع أي حقيقة - بل الحقيقة نفسها! - لسيطرته، يمكن أن تكون مجرد تكهنات تفسيرية نلجأ إليها أو يلجأ سوانا إلى غيرها حسب ثقافته وذوقه وأسلوب قراءته للنصوص. على أن الشيء الذي يمكنني قوله وأستند فيه إلى الشعور قبل كل شيء هو أن هذه اللعبة المسرحية تريد - كما أرادت اللعبة السابقة! - أن تنبهنا إلى حقيقة غاية في البساطة، وهي أننا نحن البشر - سواء في الغرب المتقدم المغرور بعلمه وصناعته أو في الشرق اللاهث وراءه أو وراء التقدم والمستقبل المرسوم له سلفا! - أننا نحن البشر نتجاهل الحقيقة الإنسانية المباشرة، أي حقيقة الحياة البسيطة المباشرة المرادفة للحب والمستحيلة بغير الحب، وتجاهلنا لهذه الحقيقة القريبة البعيدة في آن واحد يجعلنا ننخرط - بدرجات وأشكال مختلفة - في لعبة خداع النفس والتدليس عليها التي انخرط فيها «فرناندو كراب» وحشد لها كل وسائله الخسيسة للوصول إلى الغاية التي لا تقل عنها خسة: وهي السيطرة والتسلط والقوة والتملك (لما لا سبيل للوصول إليه إلا بالحب والتفهم والتعاطف والمشاركة!) وحتى إذا بررنا الغاية بمنطق مكيافيللي، فلا بد أن نسأل وما الذي يبرر الوسائل المنحطة؟ - هل يمكن أن يكون الطريق إلى قلب المرأة الجميلة - أي إلى قلب الحياة - مفروشا بأشواك الكذب والتآمر وفرض الهيمنة والنرجسية والصادية .. إلخ؟

إن المصير الفاجع الذي لقيته «جوليا»، والمصير العادل الذي فاجأ «فرناندو كراب» لجديران بأن يحملانا على التفكير الجدي في حياتنا - ولعل كلامنا يسأل نفسه بعد قراءة هاتين المسرحيتين: هل اقتربت من حقيقتي كإنسان؟ وهل أسير على أقل تقدير على الطريق الصحيح المؤدي إليها؟

عبد الغفار مكاوي

خطبة الإدانة الطويلة أمام سور المدينة

الشخصيات

زوجة شابة.

جندي.

ضابط نحيف.

ضابط سمين. (المنظر: أمام سور المدينة.)

1 (امرأة شابة تقف أمام السور العظيم وتهتف ...)

المرأة :

أيها القيصر! أيها القيصر! أيها القيصر! أيها القيصر!

الضابط السمين (صوت من أعلى السور) :

امرأة تريد أن تكلم القيصر! (تسمع ضحكات في أعلى السور. سكون)

المرأة :

أيها القيصر! أيها القيصر! أيها القيصر! انظر إلي!

الضابط السمين (صوت) :

امرأة تريد أن تكلم القيصر.

الضابط النحيف (من أعلى السور) :

ماذا تريدين من القيصر؟

الضابط السمين (صوت) :

ماذا تريدين يا امرأة؟

المرأة :

أنا زوجة الجندي هسوي لي.

الضابط السمين (صوت) :

وأين هو؟

الضابط النحيف (صوت) :

ألا يحتمل أن يكون قد مات؟

المرأة :

لا تحاولوا إخفاءه. إني أعلم مكانه. فهو يشارك في حراسة البوابة الجنوبية.

الضابط النحيف (صوت) :

هل يعرف هنا أحد من الضباط الجندي هسوي لي؟

الضابط السمين (صوت) :

الذي تركع امرأته أسفل السور.

الضابط النحيف (صوت) :

امرأة جميلة حقا.

المرأة :

لاحظوا يا حضرات الضباط أنني ما زلت شابة. هل رأيتموني وأنا أجتاز الشارع جريا على قدمي وأعبر حقل الذرة فرارا من الفلاحين الذين كانوا يطاردونني؟ ومع ذلك لا أشعر بالتعب وأنا أقف أمام السور؟ انظروا إلى ذراعي. إنهما قادرتان على حمل دلوين، وقادرتان على القبض على رجل قوي. في استطاعتي أن أمسكه بإصبعين أو بثلاثة أصابع بحيث يتعذر عليه الإفلات مني. وإذا كنتم تستطيعون أن تطلوا علي بأبصاركم الحادة كالصقور التي ترقب الحملان، فلا بد أنكم، يا أصحاب السعادة ويا حضرات الضباط، لا بد أنكم تلاحظون أن وجهي خال من التجاعيد، وأن عيني سوداوان، تحت الحاجبين: ماكرة أنا، وشديدة الفتنة.

الضابط النحيف (صوت) :

ماذا تريد؟

الضابط السمين (صوت) :

ماذا تريدين أيتها المرأة؟ أترغبين أن أنزل إليك؟ يمكننا أن يستمتع كل منا بالآخر.

المرأة :

أريد أن أرى القيصر. عليه أن يعيد إلي زوجي. زوجي الذي يخدم مع الجنود.

الضابط النحيف :

يخدم مع الجنود؟ إذن فهو بخير.

الضابط السمين (صوت) :

أجل هو بخير يا امرأة. يجد الكساء الجيد والطعام الطيب. كما يحلو في أعين النساء.

المرأة :

لكنني لست بخير يا أصحاب السعادة، يا حضرات الضباط. آه لو عرفتم حالي. أنام الليالي الطويلة وحيدة في فراشي، أنا زوجة الجندي هسوي لي. أكلم الجدران، أهتف في الريح، هذا هو ما أفعله.

الضابط النحيف (صوت) :

يجب أن تتعودي على هذا يا امرأة ... ألا يشرفك أن يصبح زوجك أحد جنود القيصر؟

المرأة :

بالطبع يشرفني هذا يا أصحاب السعادة. لكن ماذا يجديني؟ سوف أخونه. وأنا امرأة تعرف فضائل الأسرة وواجبات الزوجة. ولكن إذا لم يرجع إلي فسوف أخونه.

الضابط النحيف (صوت) :

إذا كان قد تطوع بمحض إرادته، فما الذي يدعوه للرجوع؟

المرأة :

لقد أخذه القيصر. أعرف هذا تمام المعرفة. هذه هي الحقيقة. وعلى القيصر أن يسلمه لي. أيها القيصر! أيها القيصر! أيها القيصر!

الضابط السمين (صوت) :

ما زلت تنادين على القيصر!

الضابط النحيف (صوت) :

هل يعرف القيصر الجندي هسوي لي؟ (ضحكات.)

الضابط السمين (صوت) :

هل يعرف أحد منكم الجندي هسوي لي؟

الضابط النحيف (صوت) :

أليس من الممكن أن يكون قد مات؟ (سكون.)

المرأة :

أنا أعرفه. وسط ظلام الليل الدامس أعرفه . رائحة السمك تفوح منه، صوته معبأ بالدخان، فقد اعتاد أن يدخن أوراق السمسم وعيدان القنب، وهذا بطبيعة الحال شيء لا يروق أنوف حضراتكم الرقيقة. وإذا ضحك، استطاعت أذني أن تميز صوته من بين ثلاثين جنديا.

الضابط السمين (صوت) :

تقول إنها تعرف زوجها الجندي. (ضحكات.)

المرأة :

لا .. ليس واحدا من هؤلاء الذين أراهم فوق السور. أيها القيصر! أيها القيصر!

الضابط النحيف (صوت) :

سوف يسمع القيصر صراخها. هيا نقتلها!

الضابط السمين (صوت) :

صبوا الزيت المغلي.

المرأة :

أيها القيصر!

الضابط النحيف (صوت) :

إذا لم تسكتي فسوف نصب عليك برميلا من الزيت المغلي.

الضابط السمين (صوت) :

القيصر قادم!

المرأة (مفزوعة) :

إنني أرى القيصر، أراه بعيني. متدثرا بالقشور الذهبية من رأسه إلى كعوب قدميه. كأنه سمكة تلمع في شمس الصباح. لقد جاء من أجلي. وأنا أرتجف من الخوف. سألقي بنفسي في التراب.

الضابط السمين (صوت) :

القيصر يسألك إن كنت تستطيعين أن تعرفي زوجك من بين الجنود.

المرأة :

سأعرفه على الفور عندما تكون الشمس في ظهري.

الضابط السمين (صوت) :

القيصر يريد أن يختبرك. وقد أمر جنوده بأن يصطفوا فوق سور المدينة. انظري إليهم وحاولي أن تتعرفي على زوجك.

المرأة :

وإذا عرفته؟

الضابط السمين (صوت) :

سيسمح له بالذهاب معك.

المرأة :

هل تتعهدون بهذا؟

الضابط النحيف (صوت) :

ألا تثقين بنا؟

المرأة (مصممة) :

لا تترددوا! لا تضيعوا الوقت!

الضابط النحيف (صوت) :

أيتها المرأة! الآن تسير أمامك الفصيلة التي دافعت أمس عن البوابة الجنوبية. (يسمع صوت أقدام الجنود في سيرهم أعلى السور دون أن تتمكن المرأة من رؤيتهم.)

المرأة :

أربعة، خمسة، ستة، الدروع والخوذات تسطع في ضوء الشمس. لا أتبين وجها واحدا. الجميع يتحركون حركة واحدة. كيف يتسنى لي أن أعثر بينهم على زوجي؟

الضابط النحيف (صوت) :

تقدمي أيتها المرأة. ماذا تنتظرين؟

المرأة :

ما أشق هذه المهمة! ولكن هذا الذي أراه هناك يتبع الآخرين بصعوبة، يبدو عليه أنه يفكر أكثر منهم. إنه هو! (ضحكات.)

الضابط النحيف (صوت) :

وها هو لك! (تلقى عليها دمية من القش. الجنود يتضاحكون.)

المرأة (غاضبة) :

أيها الغشاشون! أيها القتلة السكارى المأجورون! إنكم تهزءون بي!

الضابط السمين (صوت) :

اهدئي يا امرأة!

المرأة (في خضوع) :

أسأل سعادتك العفو والمغفرة. لقد قصرت في تقديم الاحترام الواجب.

الضابط النحيف (صوت) :

لعل زوجك هسوي لي قد سقط في المعركة؟

المرأة :

أؤكد لسعادتك أنه كان قويا موفور الصحة.

الضابط النحيف (صوت) :

سقط عدد كبير من الجنود عند البوابة الجنوبية وكانوا كذلك أصحاء وأقوياء.

المرأة :

إنه يعلق حول رقبته سلسلة بها لوح معدني صغير يحميه.

الضابط النحيف (صوت) :

دعي خرافاتك للعجائز!

المرأة :

اسمى فان شين-تينج محفور على اللوح، وسوف يردونه إلي إذا كان زوجي قد سقط.

الضابط النحيف (صوت) :

الموتى الذين سقطوا أمس لم يجردوهم بعد من ملابسهم.

الضابط السمين (صوت) :

أظهر القيصر عطفه السامي عليك، فقد أصدر أوامره باستعراض الجنود الذين يحرسون جانبي البوابة الجنوبية. وإذا كان زوجك لم يسقط، فلا بد أن يكون بينهم.

المرأة :

أتقدم للقيصر بالشكر وأنحني أمامه في خشوع. (الجنود يزحفون أعلى السور دون أن تراهم المرأة.)

المرأة :

ثمانية، تسعة، عشرة، أحد عشر، ما أكثر عددهم! خمسة عشر. الجميع يلبسون الدروع الثقيلة والخوذات. كيف أميز زوجي من بينهم؟ هذا الذي هناك يرجع حافة خوذته للوراء، هسوي لي! لقد كنت تشعر دائما بأن الحر شديد حتى ولو لبست قميصا من الكتان، إنه هو!

الضابط السمين (صوت) :

أيهم؟

المرأة (تشير إلى أعلى بحركات عنيفة) :

إنه هو! هو!

الضابط النحيف (صوت) :

أأنت هسوي لي، زوج المرأة التي تقف هناك أسفل السور وتطالب بك؟

الجندي (صوت) :

نعم أنا!

المرأة :

انزل يا هسوي لي! اخلع خوذتك لنبيعها في المدينة. واملأ فمك بحفنة من الذرة، فأمامنا طريق طويل.

الجندي (صوت) :

أريد أن أنزل إليك. ولكني لا أستطيع.

المرأة (بقوة) :

قلت لك انزل! أتوسل إليك يا صاحب السعادة أن تصفح عني. إنني ألقي بنفسي في التراب أمام القيصر الجليل. لكنني امرأة شابة، وأنتم تدركون، يا أصحاب السعادة ويا حضرات الضباط المحترمين، أنني أريد زوجي. هيا انزل يا هسوي لي، ماذا تنتظر؟

الجندي (صوت) :

لا أستطيع.

المرأة :

جبان! عبد تعس! ألا تسبق غيرك في الجري عندما تخلع حذاءك؟ ألا تفهم كيف تنحني عندما يصوبون السهام نحوك؟

الجندي (صوت) :

لا أستطيع.

الضابط السمين (صوت) :

اسمعي أيتها المرأة! إن القيصر الذي يطل عليك من عليائه يبدي عطفه السامي عليك. وهو يقول: يجب على الجندي أن يذهب معك. ولكن يتحتم عليكما قبل ذلك أن تقنعانا بأنه هو زوجك الشرعي وأنك زوجته الشرعية.

الضابط النحيف (صوت) :

سوف نراقبكما مراقبة دقيقة. وإذا تبين أنكما خدعتما القيصر فسوف يقتل الجندي وتطاردين وراء النهر. فهمت؟

الضابط السمين (صوت) :

هل وافقت على هذا الشرط؟

المرأة :

انزل يا هسوي لي، يا زوجي الشرعي الذي قسم لي، نريد أن نبين للقيصر الجليل كيف عشنا معا أربع سنوات، أم أنك يا زوجي خائف؟

الجندي (صوت) :

أنا قادم.

الضابط النحيف (صوت) :

انتظر أيها الجندي. أين السلسلة ذات اللوح المعدني التي أعطتك إياها زوجتك عندما تطوعت في الحرب؟

الجندي (صوت بعد فترة صمت) :

ليست معي.

المرأة (تتدخل بسرعة في الحديث) :

باعها يا صاحب السعادة. إنني أعرفه، باعها في مقابل ثلاث صحاف حقيرة من الأرز. هذا هو طبعه.

الضابط النحيل (صوت) :

فكر في الأمر مليا يا جندي. لم يزل في إمكانك التراجع. وسنترك بوابة السور مفتوحة طالما استمر اللعب.

المرأة :

لن تأخذوه مني مرة ثانية يا صاحب السعادة. ما بقي حيا فلن تأخذوه مني.

الضابط السمين (صوت) :

لا تتعجلي يا امرأة. لننتظر وسنرى من يكسب في النهاية.

الضابط النحيل (صوت) :

والآن انتبهي يا امرأة! انتبه يا هسوي لي! إن القيصر يستمتع بالنظر إليكما من أعلى السور. ورماح الحراس مسددة إلى صدر هسوي لي. لن تستطيعا الفرار. سوف نرى إلى أين تنتهي الحكاية.

المرأة (لنفسها) :

آه! كم أخاف على نفسي من الرماح ومن نظرة القيصر. فأنا لا أعرف هذا الرجل الذي يهبط إلي من السور ولم أره أبدا. لكن ما دام زوجي الشرعي لم يظهر إلى الآن فلن يرجع مطلقا، ولهذا صممت أن آخذ هذا الرجل الآخر. لا بد أن أكون حريصة في الكلام معه حتى لا يهرف بالباطل. وما دام قد جاء إلي بإرادته، فعلي أن أتشجع وأخاطر بأداء هذه اللعبة الخطرة التي فرضها حضرات الضباط علي. أخذ القيصر مني رجلا، ولا بد أن يعيد إلي رجلا آخر.

الرجل (يدخل وهو يكلم نفسه) :

أنا خائف على نفسي، لأني لا أعرف المرأة التي تقف هناك. سوف يقتلونني إذا لاحظوا أنني لا أنتمي إليها ولا هي تنتمي إلي. إن بشاعة الخدمة فوق السور هي التي تشجعني على المغامرة باللعبة الخطرة.

الضابط النحيل (صوت) :

لماذا تقفان هكذا بعيدين كل عن الآخر؟

المرأة :

فرحة اللقاء العظيمة، يا صاحب السعادة، هي التي تحبس الكلمات وتشل الحركات.

الرجل :

زوجتي!

المرأة :

هسوي لي، زوجي! (يتبادلان التحية، يدخل الضابطان من فتحتين في السور، لابسين دروعا وخوذات على شكل أقنعة تظهرهما في صورة مهولة تبث الرعب في القلوب. يجلسان على منصة الدرج كأنهما قاضيان في محكمة.)

الضابط النحيف (صوت) :

انتبهي يا زوجة الجندي هسوي لي! كيف كان الحال عندما تعارفتما لأول مرة؟

المرأة (للرجل) :

كنت كسولا.

الرجل :

كسول؟

المرأة :

كسول مثل كيس محشو بقش الذرة، مثل غصن مقطوع فوق مياه النهر، كسول مثل القاضي في قريتنا (للضباط)

إذا أذنتم يا أصحاب السعادة بهذا التشبيه البعيد عن اللياقة، ألم تجلس هناك على شاطئ النهر وتبصق في الماء، بينما الأسماك تنظر إليك، وأتيت إلى البيت ومعك سلة فارغة وثرثرة مزعجة؟ مع أن يديك خفيفتان مثل سمكتين. أليس الأمر كذلك؟

الرجل :

أجل .. ولكن كانت لي وجهة نظري يا امرأة.

المرأة : «تعالوا انظروا! ها أنا ذا قد صرت سمكة بشوكة تقف في حلق وزير العدل.» هكذا رحت تصيح بهذه الكلمات الكافرة: «تعالوا انظروا! إذا فتحت جوف هذه السمكة فماذا أجد فيه؟ مرسوم تعييني وزيرا للمالية. انتظروا قليلا، وسوف أصدر أنا القوانين.» آه! هذا هو زوجي الذي يفغر فاه عن آخره. وكأن العالم يسمح بإصلاح كل شيء. والبنات الغبيات استمعن إليك عند النبع، أليس كذلك؟ وعندما استمعن إليك رحن يقلن: ولد يعصر الواحدة منا عصرا فوق العشب. يزرع حقل ذرة كاملا في يوم واحد. أما ما يفعله بالليل ...

الضابط السمين :

وماذا تفعل يا هسوي لي!

الرجل (متلعثما) :

أنا ...؟ أرجوك يا صاحب السعادة ...

المرأة :

نعم، لن يتكلم عن هذا .. لن يستطيع الكلام عنه. كانت زوجة القاضي تعرف، يا صاحب السعادة، ما يفعله بالليل، كانت تعرفه أكثر مني، أنا الخادمة المتواضعة في بيت القاضي.

الضابط النحيف :

والقاضي؟

المرأة :

لتحمني الآلهة من الإساءة إلى موظف مرموق من رجال العدالة. كان يغط في النوم.

الضابط السمين (للرجل) :

وزوجة القاضي، يا هسوي لي؟ كيف كانت؟

الرجل :

كانت .. الإنسان ينسى كل شيء، يا صاحب السعادة.

الضابط السمين (ضاحكا) :

يا لها من إجابة!

المرأة :

ولكنك قابلتني عند النبع، يا هسوي لي.

الرجل :

كنت أمر بالصدفة. لم أكن أعرفها.

المرأة :

قلت لي: جرتك ثقيلة، يا فان شين-تينج. وكنت قد سمعت اسمي عندما نادتني زوجة القاضي قائلة: «فان شين تينج».

الرجل :

فان شين-تينج، كان عليك أن تحملي جرتك مسافة طويلة.

المرأة (تبدأ في تمثيل المشهد) :

إلى بيت القاضي الذي ركب حماره وغادر البلدة يا هسوي لي.

الرجل :

هل تسمحين لي بمساعدتك على حملها؟

المرأة :

أنت بالطبع تعرف الطريق. ولكن طريقتك في الالتفاف حوله عبر الحقول وخلال البستان تجعله أطول بكثير.

الرجل :

الأفضل أن نمشي في خط مستقيم. هيا بنا!

المرأة :

لكنني فكرت بيني وبين نفسي: لا شك أنه طريق عسير وشاق على من يجلس طول النهار على ضفة النهر. خير له ألا يحمل الجرة ويكتفي بأن يسندها أثناء السير. وضحكت علي فتيات القرية وقلن لي: «حتى الجرة لم يحملها عنك هسوي لي إلى باب البيت، مع أنه قوي مثل الثور. كيف تتصورين أنه متعلق بك»؟

الضابط النحيل :

انتظري! أنت يا امرأة تكثرين من الكلام وحدك. وهذا يوحي إلينا بأن هسوي لي لا يعرف الكثير عما تحكينه. (يواصل الرجل والمرأة سيرهما. ويقوم الرجل بتمثيل دور حامل الجرة.)

الرجل :

أجل أجل. إنها ثرثارة. لم تتوقف عن الكلام طوال الطريق، بينما كنت أنا أتصبب عرقا. وتملكني الغضب لأنني حملت عنها الجرة.

المرأة :

هسوي لي. أنت تحمل الجرة كما يفعل الرجال الأشداء. يا لها من عضلات قوية! لكن ماذا تعنيني عضلاتك؟ أنا لا أوهم نفسي بأي شيء لمجرد أنك تسير معي. ولكن ربما تصورت أنني مشغوفة بك بحجة أنني تركتك تحمل الجرة؟ إنني لا أراك على الإطلاق، هل تأكل سمكة مطبوخة أم مقلية؟

الرجل :

مقلية.

المرأة :

أنا لم أتعلم القلي، إنني أسلقها وأضع معها سبعة أعشاب زكية الرائحة. أرأيت؟ لن نستطيع أن نأكل معا، هل تفهم في بيع السمك بالسعر الذي يستحقه في نظرك؟

الرجل :

هذا عمل التاجر، لا عمل الصياد.

المرأة :

أرأيت؟ سوف نجوع معا. لا يهمني، يا هسوي لي، أن توصل الجرة إلى بيت القاضي. يمكنك أن تضعها على الأرض إن كانت ثقيلة، هل تنام في العادة على جنبك الأيمن أم على جنبك الأيسر؟

الرجل :

على جنبي الأيسر.

المرأة :

أما أنا فعلى جنبي الأيمن. أرأيت؟ إذا رقد الزوج على جنبه الأيسر بجوار زوجته فمعنى هذا أننا سننام وظهورنا لبعضنا، ولن نتمكن من النظر في وجوه بعضنا ونحن ممددان على الحصيرة، قل لي: ما هو رأيك في السنوات القادمة؟ كيف تتصور أحوالها؟

الرجل :

إن الذين يتحكمون فينا هم الذين يصنعونها. ماذا أستطيع أن أفعله أنا؟

المرأة :

سيصنعونها بخيرها أو شرها يا هسوي لي، ولكن لا شك أنهم يصنعونها أفضل منك. فلهم أيد أكثر عددا من يديك. وهم وحوش، لكل منهم أربعون يدا. تنبت من كل مكان في أجسادهم، من البطن والكتفين، بل تنبت من آذانهم. وأنت ستقضي حياتك كلها في كيس من الكتان المملوء بالقمل. ولكن استمر في حمل الجرة عني، أيها الخامل الكسول، حتى بيت القاضي. لا تقف في مكانك. تقدم! هيا تعال! تعال! (للضباط)

باختصار يا صاحب السعادة أفصحت له عن حبي بقدر ما استطعت وبقدر ما أضمرت له من الحب.

الضابط السمين :

ما زلنا نسمعك أنت وحدك يا امرأة، ماذا قال؟

الرجل (يتوقف عن السير، ويتصرف كما لو كان يضع الجرة على الأرض) :

أخيرا وصلنا.

الضابط النحيف (بحدة) :

ماذا قلت؟

الرجل (ينطق العبارات التالية بغير إحساس، كأنه يحفظها عن ظهر قلب) :

فان شين تينج. الآن أراك على حقيقتك، لأنك حافية، أرى قدميك الجميلتين، لأنك فقيرة لا تملكين شراء أدوات الزينة، أرى ابتسامتك، لأنك ترتدين ثوبا باليا، أشعر بشهوة جسدك، فان شين تينج، لأجلك قطعت هذا الطريق.

الضابط السمين :

غلط! هل سمع أحد عاشقا يريد أن يعانق امرأة ومع ذلك يتكلم بهذه الطريقة؟ نغمة صوتك الكاذبة كشفت القناع عن وجهك.

الضابط النحيف (يقفز من مكانه ويقول بحدة) :

انكشفت يا هسوي لي! سيكلفك هذا رقبتك!

المرأة :

يا صاحب السعادة. اسمح لي أن أثني على أذنك الحادة السمع وعلى نظرتك التي لا تخيب. ولكنكم لم تلاحظوا سوى جزء من الحقيقة. أما ما حدث في الواقع، فسوف يظهر الآن في النور. هل تتكرم سعادتك بأن تساعدني على ذلك؟

الضابط النحيف :

هل تكلم معك هسوي لي بهذه الطريقة أم لم يتكلم؟

المرأة :

صحيح يا صاحب السعادة، ولكنه لم يفعل ذلك أثناء الطريق. أرجوك أن تتذرع بالصبر. كنا قد وصلنا إلى بيت القاضي. وكان القاضي قد غادر البلدة على ظهر حماره. دخل هسوي لي البيت واتجه إلى زوجة القاضي. (تعطي الرجل إشارة. يدخل الرجل البيت الذي يتوارى خلف أشجار كثيفة متشابكة.)

الضابط النحيف :

تريدين إبعاده لئلا يفضح نفسه أكثر مما فعل. كوني على حذر.

المرأة :

ذهب إلى زوجة القاضي، يا صاحب السعادة، ولم تكن هذه هي أول مرة، هل كان هذا عدلا؟

الضابط السمين (بحسن نية) :

لا بد أن زوجة القاضي كانت أجمل منك.

الضابط النحيف (بحدة) :

كان هذا ظلما وعدوانا. لأن سلطة القاضي قد أضيرت بسلوكه هذا بصورة مهينة.

المرأة (للضابط النحيف) :

ليت سعادتك تساعدني على عرض حكايتنا كما حدثت في الحقيقة والواقع. كان القاضي قد غادر القرية على ظهر حماره.

الضابط السمين :

استمري.

المرأة :

آه! السيد القاضي يزور قريتنا، يا له من سيد نبيل! كيف لامرأة مغمورة مثلي أن تجرؤ على قول شيء يسيء إلى هذا السيد؟ أليس من واجب موظف العدالة المرموق أن يهتم بإقرار العدل؟ أليس من واجبه أن يعاقب الظلم والشر، وأن يحيا في بيته الجميل حياة طاهرة بعيدة عن اقتراف الشر وعن تحمله؟ إن السيد القاضي يقيم العدل بسمعته الطيبة وحدها. فإذا ساءت سمعته فكيف يحترمه البسطاء الذين يعيشون في بيوتهم الصغيرة؟ وأين يجدون القدوة؟ أليس كذلك يا صاحب السعادة؟

أما أمثالنا فما أكثر ما يفعلون الشر ويتعرضون له. وما أكثر ما يمرغون وجوههم في التراب أمام العدالة. لكن القاضي الحكيم يقول كذلك يا صاحب السعادة: إن ما يفعله الصغار صغير مثلهم؛ فهو لا يسقط عصفورا من أعلى الشجرة. وأما ما يفعله السادة الكبار في بيوتهم الجميلة، فإن الناس تتناقله سرا وفي كل مكان، حتى يتحول فجأة إلى قانون. لهذا يتحتم، إن كان شرا، أن يعاقب عقابا أشد صرامة. ألا يتكلم القاضي النزيه بهذه الطريقة؟

الضابط النحيف :

القاضي الذي يحافظ على سمعته يبث الخوف في قلوب صغار الناس الذين لا يعرفون حدودهم.

المرأة :

أتمنى يا صاحب السعادة أن تقوم بدور القاضي في حكايتنا، لكى يتسنى لك أن تعرف حقيقة ما حدث.

الضابط النحيف :

دور القاضي المخدوع؟ الذي يضحك عليه الناس في القرية لأن صياد السمك النتن قد ذهب إلى زوجته؟

المرأة :

بل دور السيد موظف العدالة الذي يحرص كل الحرص على سمعته في سبيل إقرار العدل. يا له من سيد نبيل! وكم أتمنى ألا يسقط عليه ظل واحد من ظلال اللوم!

الضابط السمين (للضابط النحيف) :

مثل معنا. إن اللعبة تستحق أن نتسلى بها.

الضابط النحيف :

كن على حذر.

المرأة :

يا له من دور رائع لكما يا صاحبي السعادة. إن السيد موظف العدالة رجل مرموق، وكلامه دقيق صارم، مثل كلامكما تماما يا صاحبي السعادة، وتأثيره قوي على الفلاحين، أما عن نظرة عينيه فتكفي نظرة واحدة لكي يرتعش الأشرار خوفا، وما أكثر الشر الذي يعيش في الحظائر والبيوت ومخازن الغلال! سلالة من الفيران الكابية اللون الراجفة الأعين. آه! السيد القاضي يركب دابته عبر الحقول. يا له من دور بديع ومناسب لك يا صاحب السعادة.

الضابط النحيف (يخلع درعه ويهبط من فوق المنصة) :

وماذا ينبغي أن أفعل؟

المرأة :

لن تكلف نفسك حتى بالتمثيل يا صاحب السعادة. وما دمت قد نزلت من على المنصة يا صاحب السعادة فأنت القاضي بشحمه ولحمه. سوف تعرفون الحقيقة عن هسوي لي وعني، أنا خادمة زوجتكم المبجلة. لقد دخلت البلد على ظهر حمارك يا صاحب السعادة، فأسعدت قلوب الأخيار جميعا والأبرار، وقدموا لك اللحم المدخن، ونبيذ الأرز والخوخ، كما نشرت الرعب في قلوب الأشرار، فأخذوا يتنافسون كلهم في تكريمكم وأداء واجب الضيافة نحوكم. (يبدأ الضابط النحيف في أداء الدور الذي يتم شرحه له.)

ولكن ماذا يقول لكم الفلاح الأحدب العجوز يونج-هسين خلف حقل الذرة؟ لقد قال شيئا عن زوجتكم وعن صياد السمك هسوي لي. لا تصغوا إليه يا صاحب السعادة! وواصلوا السير! ولكن ما إن تواصلوا السير لمدة ساعتين في القيظ الشديد، ما إن تتوقفوا قليلا في المطعم الصغير في نهاية القرية، حتى تسمعوا الناس وهم يتهامسون على الموائد، عن هسوي لي صياد السمك يدور الهمس بينهم .. لا تنصتوا إليهم يا صاحب السعادة القاضي، لأنكم لن تسمعوا منهم إلا نصف الحقيقة. ولكن ماذا يقولون؟ أجل! لقد سمعتهم الآن! إنهم يقولون: هل يمكن أن يكون قاضيا عظيما من يتولى القضاء في القرية المجاورة، الواقعة على مسيرة ساعتين في الحر اللافح بين دار القضاء التي تستقر فيها المشنقة وبيته الجميل الذي يحدث فيه شيء يحسن السكوت عنه؟ إن السيد القاضي يرهف أذنيه لمثل هذا الحديث. ولهذا يسارع بالرجوع وينزل من على ظهر حماره خلف سور الحديقة. لا يصعد الشارع الرئيسي وإنما يشق طريقه خلال أشجار الدغل الكثيفة. إنه يريد أن يرى ما يجري في بيته الجميل. لكنني لمحته، أنا الخادمة فان شين تينج، أرجوكم الصفح يا صاحب السعادة عن خادمة مغمورة. (تنادي)

هسوي لي! ربما تكون غاضبا يا صاحب السعادة، لك ما تشاء.

الضابط النحيف (في دور القاضي) :

صياد نتن الرائحة يلطخ شرف بيتي. أنا القاضي وسأحرص على أن يعلق صباح الغد على أقرب وأفضل شجرة. لقد سمعت الناس بنفسي وهم يضحكون علي.

المرأة :

هسوي لي! اخرج بسرعة! تعال إلي! أسرع! أسرع قل كل شيء يمكنك أن تقوله لامرأة تحبك! (يخرج الرجل من البيت ويتجه نحو المرأة التي يغازلها بصورة رسمية متكلفة.)

الرجل :

لأنك حافية، فإنني ألاحظ قدميك الجميلتين، ولأنك فقيرة ولا تملكين ثمن الأصباغ، فإنني أرى ابتسامتك وحمرة وجهك، لأنك تلبسين ثوبا باليا فإني أشعر بالشهوة التي تحرك جسدك، لقد حضرت إلى هنا من أجلك يا فان شين-تينج.

المرأة :

اسكت! فقد رجع السيد القاضي فجأة. (للضابط النحيف)

يا صاحب السعادة! أتوسل إليكم أن تعفوا عن تقصيري وإهمالي! سأخبر زوجتكم المبجلة على الفور بحضوركم.

الضابط النحيف :

انتظري! لا تتحركي! لقد قال الناس إن زوجتي تلتقي بصياد السمك هسوي لي. هل هذه هي الحقيقة؟

المرأة :

صحيح أن صياد السمك هسوي لي قد دخل بيتكم يا صاحب السعادة. ولكنه لم يدخل حجرة زوجتكم المبجلة التي تنتظركم وعلى رأسها تاج الفضائل جميعا. وإذا كان الأهالي الذين يرصدون حركات الناس لم يشاهدوه وهو راجع إلى كوخه في المساء، فالسبب في ذلك أنه بقي معي حتى الصباح.

الرجل :

هذا هو الذي حدث يا صاحب السعادة.

الضابط النحيل :

إذن فلن أزعج نوم زوجتي.

المرأة :

يمكنكم أن تعودوا إلى مكانكم يا صاحب السعادة، لأن السيد موظف العدالة ركب حماره وانصرف على مرأى من الجميع. بهذه الطريقة يا صاحب السعادة، لم تفقد العدالة في قريتنا سمعتها الطيبة. هكذا توجهنا معا، هسوي لي وأنا، إلى كوخه الواقع على شاطئ النهر. (وهي تنحني)

هسوي لي! زوجي!

الرجل :

فان شين-تينج، زوجتي.

المرأة :

الرجل والمرأة مرتبطان ارتباط السماء والأرض.

الضابط السمين (ضاحكا) :

أجدت التمثيل يا امرأة!

المرأة :

شكرا لك يا صاحب السعادة على مروءتك. وأستأذن سعادتكم في السماح لي بالرجوع إلى قريتي مع زوجي الشرعي. (تحاول الانصراف مع الرجل.)

الضابط النحيف :

انتظري أيتها المرأة! لن تفلتي منا بهذه السهولة! إن الدور الذي قمت بعرضه لا يقنعنا، نريد الآن أن نعرف كيف عشتما معا.

الضابط السمين :

كم مضى على حياتكما معا؟

المرأة :

أربع سنوات يا صاحب السعادة.

الضابط النحيف :

وأين كان هذا؟

المرأة :

في الكوخ المطل على النهر.

الضابط النحيل :

وكيف عشتما؟

المرأة :

عشنا سعيدين يا صاحب السعادة.

الرجل :

من صيد السمك؟

المرأة :

تعلم ألا يلقي الأحجار في النهر كما كان يفعل. أصبح زوجي هسوي لي رجلا نشيطا.

الرجل :

كان النهر قد انتفخ من كثرة الأسماك يا صاحب السعادة.

الضابط النحيل (في سخرية بصوت حاد) :

يا لكما من محظوظين هناك! ألا تريدان أن تعرضا علينا هذا؟

المرأة :

السعيد لا يفكر في السعادة.

الرجل :

لو أذنتم لنا بالانصراف لكي نرجع للنهر. (يهمان بالانصراف.)

الضابط النحيل :

قفا! الحراب مصوبة إلى صدوركما! لا تتحركا خطوة واحدة! أرونا كيف عشتما أربع سنوات على شاطئ النهر؟

المرأة :

هذا أمر شاق.

الرجل :

دعونا نذهب!

الضابط السمين :

خائف؟ هل ضبطناكما متلبسين؟

الضابط النحيف :

ألا تذكران كيف كانت حياتكما معا؟ هل تعارفتما في وقت آخر؟

المرأة (تجر الرجل معها إلى التمثيل) :

ذهبنا معا إلى النهر وسكنا في الكوخ، وجلسنا على الحصيرة المجدولة من البوص وهكذا تذكر يا هسوي لي كيف كانت حياتنا في ذلك الحين. (يجلسان على الأرض متباعدين.)

الرجل :

الطريق الطويل خلال الغاب الكثيف، وحوض الماء العكر إلى الركبتين، ثم الأحجار التي حملتها بنفسي.

المرأة :

قلبك حنون يا هسوي لي.

الرجل :

حملتها حجرا بعد حجر، لأعلم بها الخليج الصغير، هناك لا ينفع الصيد بالسنارة.

المرأة :

لا يا هسوي لي.

الرجل :

ثم صنعت السلاسل لصيد السمك. واخترت المكان الملائم، لأن الاسماك تلوذ بالمخابئ التي تشعر فيها بالأمان. وهناك يتحتم صيدها.

المرأة :

لقد نجحت في الوصول إلى أماكنها يا هسوي لي.

الرجل :

وضفرت السلال بين أعواد الصفصاف الواسعة المستديرة التي يتخللها الماء ببطء مع حركة التيار.

المرأة :

وسرعان ما نصطاد السمك الذي يكفي طعامنا يا هسوي لي.

الرجل :

بالأمس كانت ثماني سمكات. واليوم إحدى عشرة. سوف أجدل سلة أخرى وأثبتها في النهر. وبعد الظهر أجلس على الصخور المستوية وأضع ساقا على ساق، وأظل أتطلع للماء حتى تغرب الشمس بين أعواد الغاب.

المرأة :

ثم تأتي إلى كوخنا. ولدينا ما يكفينا من الطعام.

الرجل :

وأقول لنفسي: إذا تجمع لدي ما يكفي من السمك، وضعته في قارب، الصياد العجوز وانج وعدني أن يترك لي قاربه يومين في الأسبوع. إنه مستغن عنه، وربما لا يحتاجه بعد ذلك أبدا. وأنحدر مع النهر يوما بأكمله، وأعود فأصعد بسهولة مع النهر بعد أن فرغ القارب من حمله وبعت السمك.

المرأة :

وترجع إلى كوخنا وتجدني في انتظارك.

الرجل :

ويوما من الأيام يصبح لي قارب خاص، أبحر به إلى المدينة، هناك عند منحنى النهر.

المرأة :

ما أسعدك بعملك يا هسوي لي!

الرجل :

وما الذي يمنعني من الانحدار مع النهر إلى أبعد من ذلك، وهناك أستأجر عربة يجرها حمار، وأنتقل بين القرى؛ حيث تباع الأسماك ببضع عملات نحاسية أزيد من سعرها في تلك المدينة الصغيرة البائسة عند منحنى النهر؟ ستطول الرحلة بضعة أيام، ولكن ما أهمية ذلك؟

المرأة :

وأنتظرك في صبر يا هسوي لي، لأني أعلم أنك سوف تعود، وأن بيتنا يحمينا.

الرجل :

ليتك رأيت السوق الذي يضج بالحياة يا فان شين-تينج. هناك تجدين كبار التجار الذين لا يحبون أن يخاطبهم أحد أثناء مرورهم، والطباخين الذين يعملون في بيوت العائلات الغنية، أنهم يقلبون الأسماك هنا وهناك، دون أن يرضيهم شيء، ولا بد في هذه الأحوال أن أظهر براعتي، وتجدين نساء العمال الحرفيين والسماسرة والصرافين الذين أتعامل معهم كما أتعامل مع أمثالي، والعلماء الفقراء كذلك، هاك يا صاحبي ذيل سمكة تطبخها مع شربة الكرنب. لا بد أن أكون ذكيا وأشطر من غيري، وإلا تلقيت اللطمات على أذني.

المرأة :

أنا واثقة من براعتك يا هسوي لي، ولا أشعر بأدنى خوف من كساد بضاعتك، فلدينا ما يكفي لكي نعيش في كوخنا.

الرجل :

الأشرار يدبرون الحيل كالشياطين. بالأمس كسروا إحدى عجلات عربتي لكي أتأخر عنهم في الذهاب إلى السوق. كان علي أن أنتبه حتى لا يفكوا السلسلة التي ربطت بها القارب بجوار الشاطئ. لا بد أن أكون أمكر منهم، فهم أعداؤنا.

المرأة :

نحن لا نريد أكثر من أن نعيش في كوخنا يا هسوي لي، فكيف يكون لنا أعداء؟

الرجل :

أنت لا تحسين بشيء، تعيشين طول اليوم في كوخك ولا تشعرين بما يجري في العالم. أما أنا .. أما أنا ...

المرأة :

نريد أن نبقى في كوخنا يا هسوي لي.

الرجل (نافذ الصبر) :

ألا تفهمين ما أقول؟ في الكوخ! في الكوخ! ليس لديك إلا في الكوخ! الكوخ! أربع خطوات للأمام وأربع للوراء. والنافذة مغلقة على الدوام. (بغضب)

أنت وكوخك!

الضابط السمين :

برافو! برافو! هكذا تكلم الرجل كما يليق برجل.

المرأة (في قلق) :

هل تأذن لنا الآن بالانصراف يا صاحب السعادة؟

الضابط النحيف :

انتظر. إن لم تخني الذاكرة فقد ارتفعت مياه النهر في العام الماضي.

لا بد أن هذا قد أصابكما أيضا.

المرأة :

ليتك يا صاحب السعادة لا تذكرنا بشيء فظيع كهذا!

الضابط النحيف :

أجيبا. أين كنتما عندما ارتفعت مياه الفيضان؟ أجب يا هسوي لي! (الرجل يلوذ بالصمت.)

المرأة :

على سطح كوخنا، إنه يرتكز على أعمدة متينة، بينما سال النهر وغمرت مياهه الضفاف المكتظة بأحراش الغاب.

الضابط السمين (ضاحكا) :

جلسا على السطح. ألم يكن منظرهما مضحكا؟

الضابط النحيف :

كم من الوقت مضى عليكما؟

المرأة :

كم من الوقت؟!

الرجل :

جرفت المياه القارب.

المرأة :

نادينا الجيران من كل ناحية، لكن المصاب بالمحنة مصاب بالصمم.

الضابط السمين (للمرأة) :

وكم لبثتما؟

المرأة :

أظلمت السماء ثم أشرقت.

الضابط النحيف (بحدة) :

وهكذا جلستما على السطح. فاجلسا الآن كما كنتما تفعلان، وكما أخذتما تنظران أحدكما للآخر، فاجلسا بحيث تنظران لبعضكما. (يجلس الرجل والمرأة بطريقة توحي بأنهما قاعدان فوق سطح ضيق مائل، مواجهين لبعضهما وناظرين كل منهما في وجه الآخر.)

المرأة :

طال علينا الليل. ولما طلع الصبح ...

الرجل (شاخصا ببصره إليها) :

لم أرك أبدا كما أراك الآن.

المرأة :

يجب أن نصبر يا هسوي لي - تشانج كو - تونج، تاجر الزيت في القرية، سوف يحضر بقاربه، إنه رجل طيب.

الرجل (يهب واقفا) :

الصبر!

المرأة :

الكارثة أصابت كل القاطنين على شط النهر، لأنهم جميعا عاشوا على خيره.

الرجل (يهم بالانصراف) :

لا أريد أن أجلس هنا أكثر من هذا.

الضابط السمين :

قف عندك يا هسوي لي! أتريد أن تغرق؟ حاذر أن يسقط سقفك إن قفزت من عليه كما يفعل الصبية!

المرأة :

هسوي لي، احش فمك بالبرقوق واشرب من الزجاجة. لم تزل في سلتي بعض صحاف الأرز والبازلاء، بل معي لحم جاف، أرأيت كيف فكرت في كل شيء! يمكننا أن نتحمل العيش بعض الوقت على السقف.

الضابط النحيف :

انظر إلى زوجتك! لا تحرك أطرافك حركات لا داعي لها!

المرأة :

ألم أفكر في كل شيء يا هسوي لي؟

الرجل (يحدق بجمود) :

علينا أن نتحمل العيش لبعض الوقت على السقف.

المرأة :

هل تشعر بالبرد؟ أحضرت معي غطاء في السلة، وفرشة من جلود الكلاب، وحصيرة جدلتها بنفسي.

الرجل :

لا.

المرأة :

هل تيبست أعضاؤك من جلوسك القرفصاء؟ أأدلكها لك لتعود طيعة كما كانت؟ لدي خبرة في هذا ...

الرجل :

لا.

المرأة :

هل تشعر بالخوف؟ أحكي لك عن ذلك الصيف الجميل الذي أتينا فيه إلى النهر؟

الرجل :

لا.

المرأة :

هل تحس بالملل؟ أتحب أن أغني لك أغنية؟

الرجل :

لا.

المرأة :

هسوي لي، يا زوجي الحبيب، إني أنتظر في خضوع أن تبدي أية رغبة. (الرجل يهم بالوقوف.)

الضابط النحيف :

انظر إليها يا هسوي لي! المكان ضيق على سطحكما. لا تتحرك.

الرجل :

إنني أنظر إليك.

المرأة :

غدا تنخفض المياه في النهر الأصفر. فيم تفكر؟

الرجل :

إنني أنظر إليك.

المرأة :

ليتني أجد وسيلة لأسري عنك، سأغني لك أغنية: (تبدأ في الغناء.)

في اليوم الأول

سقط المطر

فأخذ الأب قبعته،

قال لنفسه

المطر، المطر الرائع.

في اليوم الثالث

سال المطر

وفزع الأب والأم

تطلع كل في وجه الآخر

إذ سال المطر،

المطر الرائع.

في اليوم التاسع

زاد المطر هطولا

وحساؤهما ازداد نحولا

من هول المطر،

المطر الرائع،

جاء اليوم الثاني عشر

فرف جناح الشحرور

وحين يجيء اليوم الثالث عشر

سيغدو الجو جميلا

في المطر، المطر الرائع. (الرجل يحدق فيها بغير انفعال.)

الضابط النحيف :

لا تتحرك من مكانك يا هسوي لي! إن مياه الفيضان تتصاعد نحو السطح! انظر إلى زوجتك! انظر إليها!

الضابط السمين :

انظر إلى زوجتك، انظر إليها.

الضابط النحيف :

لأنك لا تستطيع الابتعاد عنها.

الضابط السمين :

ولا تستطيع أن تقفز من السطح في مياه الفيضان.

الضابط النحيف :

سيكون في ذلك موتك يا هسوي لي، انظر إلى زوجتك.

الرجل (يهب واقفا فجأة ويصرخ) :

لا.

المرأة (مفزوعة) :

هسوي لي! زوجي!

الرجل :

دعيني.

المرأة :

ماذا تنوي أن تفعل؟ ابق هنا! إنك تقتل نفسك! تقتلنا معا!

الرجل :

أريد الذهاب! لا أريد البقاء معك! إني لا أحتمل!

المرأة :

لا يمكن الذهاب يا هسوي لي، لا بد أن تبقى معي. أنت زوجي أمام القانون.

الرجل (يتنزع نفسه منها ويلقي بنفسه في الماء) :

لست زوجك، إنني لا أعرفك، لم أعرفك أبدا.

المرأة (ترتجف وتنكمش على نفسها، تخفي وجهها بيديها) :

هسوي لي!

الضابط النحيف (يهب واقفا على قدميه) :

ابق مكانك أيها الجندي! لا تخط خطوة واحدة وإلا سمرتك الحراب! (يثبت الرجل في مكانه.)

حاول الجندي هسوي لي أن يخدعنا ويخدع جلالة القيصر الذي كان رءوفا به، وذلك عندما ادعى أنه الزوج الشرعي للسيدة فان شين تينج. إنه متهرب من الخدمة.

المرأة :

أخطأت يا صاحب السعادة. أخطأتم يا حضرات الضباط. لقد قال ما قاله وهو منفعل. كما يتصرف رجل اضطر للجلوس مع زوجته على السطح.

الضابط السمين :

ولكنه مثل دوره بصدق أكثر منك يا امرأة. لقد خسرت!

المرأة :

يا صاحب السعادة، أنا امرأة فقيرة مسكينة، ولا بد أن أحافظ على زوجي.

الضابط النحيف :

أراد الرجل أن يهرب منك، حتى الفيضان لم يستطع أن يمنعه.

المرأة :

ولكن مياه النهر تراجعت بعد ثلاثة أيام.

الضابط السمين :

اعترفي بأنه ليس زوجك.

المرأة :

تراجعت المياه، وبدت الأرض كابية متورمة، كأنها جرذان ضخم ميت. واستمرت حياتنا معا، هسوي لي وأنا.

الضابط السمين :

ربما تريد أن تجرب ثانية؟ (للضابط النحيف)

أعطها فرصة أخرى، فقد استطاعت أن تسلينا ساعة كاملة، بعدها يمكن أن يتم هذا (إشارة تدل على الشنق)

بصورة أسرع.

المرأة :

يا صاحبي السعادة! أشفقا على الرجل المسكين الذي أحبه! كان كوخنا قد أصبح مجدبا. وجرفت المياه المائدة والكرسي والسرير. وكان لا بد من تعبيد الطريق الموصل من أحراش الغاب إلى القرية.

الضابط السمين :

هيا ابدئي، هل سيشارك زوجك؟

الضابط النحيف :

أم إن الرعب أخرسه؟

الضابط السمين :

لعله نادم على نزوله من فوق السور. في إمكانه أن يرجع، هذا الجندي.

المرأة :

كان الرجال الذين يجمعون المتطوعين قد وصلوا في ذلك الوقت إلى القرية. ولكن هسوي لي حشا أذنيه بالأعشاب ...

الضابط السمين :

اسمع يا هسوي لي! إن أحوالك كما تعلم سيئة. فمعك في الكوخ زوجة ثرثارة، وأهالي القرية الذين يعرفونكما يقولون إن من لا يملك شيئا لا يحصل على شيء ولا يعطي كذلك شيئا. ثم إن الأسماك تموت في النهر، والرائحة النتنة منتشرة فوق الضفاف!

المرأة :

هسوي لي، بماذا ترد عليهم؟

الرجل :

اذهبوا، اذهبوا.

الضابط النحيف (ساخرا) :

ألم تسمع الأغاني التي ينشدها الجنود؟ إنهم يتكلمون فيها عن الغزو، ناهيك عن الاحترام الذي يبديه الفلاحون الجائعون للمجند الذي يحصل كل يوم على ثلاثة صحون من الأرز. وأصحاب القوارب الذين يتنافسون على نقل الجنود عبر النهر.

المرأة (بضراعة) :

هسوي لي.

الرجل (للرجال الذين يجمعون المتطوعين) :

اذهبوا، اذهبوا. (الضباط يضحكون.)

المرأة :

ابق في الكوخ، يا هسوي لي، حتى يأتي الصيف ويذهب الرجال إلى الأرياف.

الضابط النحيف :

زوجك ذهب بالفعل مع الجنود، لقد شبع منك بما فيه الكفاية.

المرأة :

لم تكن لديه الرغبة في الذهاب يا صاحب السعادة، أقسم لك، هم الذين عثروا عليه وأخذوه معهم، لقد رفض الذهاب معهم، تكلم يا هسوي لي.

الرجل :

لم أستجب لطلب الرجال الذين يجمعون المتطوعين، لجأت إلى أحراش الغاب وجلست هناك، بعيدا عن الكوخ، حيث يثير الماء الآسن فقاعات كابية اللون، أنا هسوي لي الفقير المسكين.

ورحت أستمع إلى حديث فان شين-تينج مع تاجر الزيت الذي أخذت تتوسل إليه ليخفض أسعار حاجاتنا من التموين، كما أستمع إلى أصوات الجنود الذين تتتابع خطاهم على السد من فوقي واحد بعد الآخر، سمعتهم ينادون، فسددت أذني وانكفأت وسط الأحراش ووجهي إلى الماء. كيف يمكنني إذن أن أعيش، أنا هسوي لي؟ (يعود إلى الانخراط في دوره.)

المرأة (بعيدا عنه «في الكوخ») :

إنني أحبك يا هسوي لي.

الضابط النحيف :

ألم تذكري من قبل يا امرأة أن تاجر الزيت جاء لزيارتكم؟

المرأة :

نعم يا صاحب السعادة. تاجر الزيت شانج كو-تونج وهو رجل ودود أصلع الرأس. استجاب لتوسلاتي إليه فسمح لنا أن نستدين منه مبلغا يساوي ثلاثمائة عملة نحاسية نسددها له بعد شهر.

الضابط السمين :

ورجع تاجر الزيت مرة أخرى؟

المرأة :

وهو سيد لطيف يا صاحب السعادة ورقيق القلب، إن صوته يشبه صوتكم.

الضابط السمين :

وزوجك هسوي لي؟

المرأة :

بقي في أحراش الغاب يا صاحب السعادة طوال الصيف.

الضابط السمين :

أراد أن يقطع علاقته بك؟

المرأة :

وظل الجنود يعبرون السد المرتفع هناك واحد بعد الآخر. كان قد اختبأ منهم.

الضابط النحيف :

سمعت يا هسوي لي؟ أنت أيها الخامل الكسول، أيها الجبان المختبئ وسط أعواد الغاب، والمياه العكرة تصل إلى سرتك. هل سمعت أن تاجر الزيت قد جاء ليسترد المال الذي أقرضه لكم؟

الضابط السمين :

وهو رجل طيب، رجل رقيق القلب يا هسوي لي، لقد وافق على إمهالكم شهرا آخر، لأن فان شين-تينج عرفت ببراعتها كيف تتوسل إليه. (الضابطان يضحكان.)

الضابط النحيف :

ويواصل الجنود عبورهم للسد من فوقك يا هسوي لي.

المرأة :

لا يمكنني أن أذكر تاجر الزيت شانج كو-تونج إلا بالخير يا هسوي لي. (ضحكات.)

لقد كان يشبهكم في صوته، وحركاته، وإحساسه النبيل يا صاحب السعادة (تشير إلى الضابط السمين)

هل تسمحون لي يا صاحب السعادة بأن أدعوكم للنزول إلى هنا لكي تعرفوا بنفسكم حقيقة ما جرى.

الضابط النحيف :

أهذه حيلة أخرى من حيلك القذرة يا امرأة؟

المرأة :

إنه رجل رءوف وسيد نبيل، كم زارني في كوخي الفقير. وكم تكلمت معه.

الضابط السمين (ينزل من فوق المنصة إلى خشبة المسرح ويبدأ في تشخيص دور تاجر الزيت) :

عن أي شيء تكلمت معه يا امرأة؟ (ضحكات.)

الضابط النحيف :

أنصت يا هسوي لي، يا من تختبئ هناك في أحراش الغاب!

المرأة :

عن أسعار الزيت يا صاحب السعادة، تحدثنا عنها طويلا؛ لأن كلينا يفهم فيها بعض الشيء، صباح الخير يا سيد شانج كو-تونج.

الضابط السمين (في دور تاجر الزيت) :

صباح الخير يا سيدة شين-تينج.

المرأة :

تفضل بالدخول.

الضابط السمين :

أليس زوجك بالبيت؟

المرأة :

ما الداعي لسؤال سيادتكم عن زوجي؟ لقد استأذنته في الكلام معكم عن الأمور التي تهمنا.

الضابط النحيف :

أنصت يا هسوي لي، يا من تقبع هناك في أحراش الغاب!

الضابط السمين :

أنت في غاية اللطف يا سيدتي العزيزة.

المرأة :

لندخل البيت لكي أستطيع أن أقدم لكم ما يليق بضيف كريم مثلكم. (ضحكات الضابط النحيف.)

لماذا تضحك يا صاحب السعادة؟ ألا تعرف سعادتك آداب اللياقة البسيطة؟

الضابط النحيف :

استمري، استمري يا زوجة الجندي هسوي لي، ابذلي كل جهدك للحفاظ على كوخك وزوجك وكل ما هو عزيز عليك.

الضابط السمين :

مهما ساومتني على جرار الزيت فلن يمكنك أن تغبني حقي. فحتى لو كان الفيضان قد جرف جراري، فإن البقية منها قد ارتفع ثمنها بحيث لا تهمني الجرار الضائعة.

المرأة :

ليس في نيتي أن أغبنك حقك يا صاحب السعادة، لأن طيبتك وكرمك معروفان لدى الجميع.

الضابط السمين (يحاول الاقتراب منها، ولكنها تتحاشاه بلطف) :

من الأفضل إذن أن تخاطبي طيبتي بدلا من مخاطبة عقلي. سأصرف النظر عن الخسارة التي يسببها لي تأخرك في الدفع. ولنحاول بدلا من ذلك أن نتفق على ثمن طيبتي وكرمي.

المرأة (وهي تتخلص منه) :

أرجوك يا صاحب السعادة أن تمهلنا شهرا آخر لنتمكن من تسديد الدين، وذلك حتى يرجع زوجي إلى عقله.

الضابط السمين :

سوف يسعدني حتى ذلك الحين أن أتفاهم معك في كوخك على هذه الصفقة يا سيدتي العزيزة.

المرأة :

أنت إنسان طيب القلب يا سيد تشانج كو-تونج، لا بد أن أخبر زوجي عن المفاوضات التي دارت بيننا عن المبلغ المتأخر.

الضابط النحيف :

أنصت يا هسوي لي لتعرف إن كانت تقول الحقيقة! (يقف الرجل ويتقدم ببطء نحو الكوخ.)

المرأة :

أنا لا أتكلم معكم إلا لأنني أفهم أكثر منه في أمور الزيت والتموين.

الضابط السمين :

أنت امرأة ذكية يا فان شين-تينج.

المرأة :

لولا الذكاء لمات الإنسان كما يموت الحيوان في جحره يا صاحب السعادة. وكل شيء وله ظروفه، ولكل شيء أوانه.

الضابط النحيف (يتدخل في الحديث وينادي بصوت حاد) :

ولكن ربما لم تكوني ذكية بما فيه الكفاية؟

المرأة (في خضوع للضابط النحيف) :

أنا لا أجرؤ أن أقيس ذكائي بذكائكم يا صاحب السعادة، ولكن ذكائي قوي لمجرد أن الحقيقة في جانبه.

الضابط النحيف :

ألم تتلقي هدايا من تاجر الزيت شانج كو-تونج؟

المرأة :

لا أذكر يا صاحب السعادة.

الضابط النحيف :

فكري جيدا، فربما حرصت على أن يحضر معه بعض الهدايا التي لا تحبين أن تطلعي زوجك عليها.

المرأة :

بدأت أخاف من ذكائكم يا صاحب السعادة، ماذا تقصدون بسؤالكم هذا؟

الضابط النحيف :

إثبات إدانتك يا امرأة، يا من تركها زوجها وذهب مع الجنود، متى تركك إذن؟

المرأة :

قبل حلول الصيف يا صاحب السعادة.

الضابط النحيف :

تركك وذهب بعيدا، وها هو ذا يرجع إليك (يريها التميمة) .

المرأة (تصاب بالرعب، تتعرف على التميمة التي كان يحملها زوجها في اللوح المعدني، ولكنها تحاول أن تسيطر على نفسها) :

لا أفهم قصد سيادتكم.

الضابط النحيف :

هل تعرفين هذه التميمة؟

المرأة :

لا يا صاحب السعادة.

الضابط النحيف :

أنصت جيدا يا هسوي لي!

المرأة :

إذا كنت لم أفقدها، فكيف أتعرف عليها؟

الضابط النحيف :

أصدرنا الأوامر بتفتيش ملابس الجنود الذين ماتوا دفاعا عن البوابة الجنوبية. وقد عثر عليها أحد الجنود وأحضرها الآن.

المرأة :

لا شك أنه كان جنديا شجاعا وسقط في المعركة (منفجرة)

هسوي لي! لماذا ذهبت وتركتني!

الضابط النحيف :

ماذا قلت؟

المرأة :

ليرقد الموتى في سلام وهدوء.

الضابط النحيف :

ولكن واحدا منهم يمكنه أن يزعج هدوءك.

المرأة :

إنهم لا ينتقمون ممن يتمنون لهم الحياة.

الضابط النحيف :

اقرئي المكتوب على اللوح المعدني.

المرأة (متهربة منه) :

تصعب علي القراءة يا صاحب السعادة.

الضابط النحيف :

ولكنك قرأته من قبل، أليس كذلك؟

المرأة (متلعثمة) :

لا أذكر يا صاحب السعادة.

الضابط النحيف :

ما دمت لا تريدين قراءته فسوف أتلو عليك ما كتب عليه. (للرجل)

استمع يا زوج هذه المرأة التي تقف هنا أسفل السور. (يقرأ) «هذه التميمة هدية من فان شين-تينج لزوجها هسوي لي، رمز الوفاء يوم زفافها» لقد أخذناها من هسوي لي. (يلقي التميمة على الأرض فترفعها المرأة.)

المرأة (تتحكم في أعصابها) :

ليتك تترك الموتى في سلام يا صاحب السعادة.

الضابط النحيف (منحنيا للأمام) :

دموع يا امرأة؟

المرأة :

أنا لا أعرف الرجل المسكين الذي يرقد مع موتاكم. فلماذا أذرف الدموع؟

الضابط النحيف (للرجل) :

سمعت؟

الضابط السمين :

أبدعت في التمثيل يا امرأة، إذا كان الجندي الميت هو زوجك الشرعي، وهذا هو الزوج المزيف، فلا عجب أن يخاف المزيف على نفسه منك، لقد أبدعت حقا في التمثيل.

المرأة :

إنني أحب زوجي هسوي لي الذي يختبئ بين أحراش الغاب. أتوسل إليكما يا صاحبي السعادة أن تتركاه يرجع معي. فالمثل يقول: الرجل والمرأة كالسماء والأرض ... هسوي لي، تعال إلي!

الضابط النحيف (للرجل) :

هل سمعتها؟

الرجل (غاضبا) :

أجل. زوجك مات، أصابه سهم في عينه!

الضابط النحيف :

انتظر أيها الجندي! الآن فضحت نفسك! لقد عرفت زوج هذه المرأة، وكنت صديقه، وكنت بجانبه على السور عندما أصابه السهم، ثم تصورت أن في إمكانك أن تحل محله.

الرجل (مرعوبا) :

يا حضرات الضباط، نحن لم نخلع بعد خوذاتنا ودروعنا. وأنا لم أعرفه، الغضب وحده هو الذي جعلني أتهم زوجتي.

المرأة :

كان دائما غيورا علي يا صاحبي السعادة. أما السيد شانج كو-تونج فكان رجلا نبيلا، كما أكدت لكم هذا من قبل. اسمعوا ماذا قلت له. (يتقدم الضابط السمين لتمثيل دور تاجر الزيت.)

خيرا فعلتم برجوعكم إلى هنا يا سيد شانج كو-تونج، لأن أحوالنا سيئة. أنا مضطرة للتوسل إليك بألا تطالبنا بتسديد الدين قبل شهرين. وإلا عجزنا عن البقاء في كوخنا.

الضابط السمين :

السيدة فان شين-تينج تتفنن في تقديم توسلاتها بطريقة آسرة.

المرأة :

وأين نجد مأوى لنا؟ في الحقول تغرقنا أمطار الربيع، في القرية يهزأ بنا كل من له سقف يظله، وفي الشارع يجرنا الجنود معهم، ونحن لا نطلب إلا أن نبقى معا في كوخنا.

الضابط السمين :

أين زوجك يا فان شين تينج؟

المرأة :

هناك وسط أحراش الغاب، غير بعيد عن هنا.

الضابط السمين :

ألن يحضر الآن؟

المرأة :

لقد أخذ سكينا معه، ليقطع أعواد الغاب التي سيصنع منها الحصر.

الضابط النحيف :

ماذا تفعل يا رجل؟

الرجل :

في الوقت الذي أجلس فيه هنا ينمو الغاب من حولي ويتكاتف، لأنني غرست سكيني في فرع شجرة، إنني لا أفعل شيئا. كل ما هناك أنني أسمع من بعيد صوت تاجر الزيت شانج كو-تونج وهو صوت مهذب ودود، يعبر عن أدب عمره ثلاثة آلاف سنة، مستمد من كتب الحكمة القديمة. ولكن ماذا أفعل بهذا الأدب هنا وسط أحراش الغاب، إن ما يحدث وراء أذني يعذبني. فأنا أكره المعروف الذي يقيدني في الأغلال، وإذا وافق تاجر الزيت شانج كو-تونج أن يمهلنا كرمه شهرا فلا بد أن يفكر فيه كلانا لمدة شهر. وإذا شاء كرمه أن يمهلنا شهرين، فلن نستطيع أن نتحدث عن شيء غيره طوال شهرين. أما إذا أعفانا بفضل طيبته من ديننا كله إلى الأبد، فسيكون ذلك وقتا طويلا، وعندئذ ... عندئذ ...

الضابط السمين :

الواقع أنه يستحيل علي أن أطالب بالدين وأنا أرى أمامي كل هذه السعادة. (يريد أن يقترب منها.)

المرأة (مبتعدة عنه) :

أشكركم يا سيد شانج كو-تونج.

الضابط السمين :

متى يرجع زوجكم؟

المرأة :

في المساء.

الضابط النحيف (للرجل بلهجة حادة) :

هكذا تبدو سعادتك يا جندي! اقفز عليه. اقفز عليه! (يقفز الرجل مندفعا من مخبئه «ويطعن تاجر الزيت بالسكين فيرديه قتيلا» الضابط السمين ينهض واقفا على قدميه، بعد أن أرداه الرجل، ويرجع إلى مكانه وهو يضحك.)

المرأة :

ماذا فعلت يا رجل؟ قتلت السيد شانج كو -تونج الذي لم يقدم لنا إلا الخير، كيف سيكون مصيرنا؟ أطلت الجلوس وسط الأحراش وأدمنت التفكير حتى اختل عقلك. ها أنا ذا أسمع خطواتك وهم يلاحقونك، من يحميك؟ وإلى أين تهرب؟

الرجل :

لن أبقى هنا.

المرأة :

في الحقول سيطاردونك بكلابهم، وفي الشارع سيجرك الجنود معهم.

الرجل :

أريد أن أذهب، أن أفر.

المرأة :

أنصت، إنني أسمعهم قادمين، الشرطة في الطريق، سأقف أمام الباب وتختفي أنت وراءه، سأتكلم مع رجال الشرطة الذين جاءوا للقبض عليك. (للضابطين)

هذا هو الذي حدث بالضبط يا صاحبي السعادة، يا حضرات الضباط. (تشد الرجل إلى المخبأ وراء الباب الذي تقف أمامه.)

أنتم يا من هناك! لا تندفعوا بهذه السرعة! لا تسيئوا الأدب! أهكذا يدخل الإنسان بيتا غريبا؟ ثم ماذا تتشممون حولكم؟ لعلكم تريدون صحفة من لبن الماعز، أو نصف دجاجة؟ لن تجدوا شيئا. ابحثوا في بيوت الأغنياء! لا، لن أبتعد عن الباب، نحن فقراء يا حضرات السادة، لن تجدوا لدينا غير كيس محشو بقش الذرة والبراغيث إذا أردتم أن تستريحوا، وشربة الكرنب المملحة إذا شعرتم بالجوع، وهذا الباب لتخرجوا منه إذا تكرمتم بالانصراف، وعندئذ لن ألوح لكم مودعة، لا، لن أترككم تدخلون من هذ الباب الذي أقف أمامه. إنكم تفتشون عن زوجي، ماذا فعل لكم إذن؟ هل سرق شيئا؟ هل سكر وأثار الضجيج؟ أم تراه استهزأ بكم؟ لا أستبعد أن يكون قد فعل هذا. فلتعف الآلهة عنه! لا، قلت لن تدخلوا. وزوجي لن تأخذوه. لن أسمح لكم بهذا! (في هذه الأثناء يفتح رجال الشرطة المتخيلون الباب - المتخيل أيضا - بعنف شديد ويزيحون المرأة جانبا، تستدير المرأة وتبحث وراء الباب فتكتشف أن الرجل قد اختفى.

ضحكات عالية تصدر من الضباط والجنود الواقفين فوق السور.)

الضابط النحيف :

أين زوجك يا امرأة؟

الضابط السمين :

أرأيت كيف هرب بجلده؟

الضابط النحيف :

لقد اختفى وراء السور.

الضابط السمين :

ويعجبه الحال هناك أكثر من هنا.

الضابط السمين :

لن يرجع يا امرأة. انصرفي إلى بيتك!

الضابط النحيف :

ننصحك شفقة عليك، انصرفي إلى بيتك. لقد خسرت اللعبة.

الضابط السمين :

ألم يذهب زوجك الأول أيضا باختياره؟

الضابط النحيف :

ألم تستردي لوحك المعدني الجميل أيضا كما تقضي اللياقة؟ اذهبي إذن؟ اذهبي إلى قريتك وفرجي الغسالات عليه.

المرأة (يائسة) :

هسوي لي! هسوي لي! (الجنود الواقفون فوق السور يضحكون ضحكات عالية.)

أين القيصر؟

الضابط النحيف :

لقد استمتع القيصر بالتمثيل. ولكنه انصرف منذ قليل.

المرأة (في غضب يزداد توحشا) :

انصرف منذ قليل؟ دخل مخدعه لينام؟ وإذا صرخت، ألن يوقظه صراخي؟ أيها القيصر! أيها القيصر! استمع إلي أيها القيصر! تكلم! هل تألمت لسوء حالي؟ لقد رأيت كل شيء ثم ذهبت بغير كلمة واحدة. إنني أكرهك! ينبغي أن تسقط من على عرشك. وتسقط معك قشور السمك الذهبية التي تلتف بها. ما أنت إلا بعبع وهمي. وأنا أغرق في الضحك عندما تسيل نشارة الخشب من رأسك المكسور. وأنتم، يا حضرات الضباط جميعا، ما هذه الأماكن الفخمة التي حجزتموها لأنفسكم فوق السور؟ إلى أي مدى يمكنكم أن تمدوا أبصاركم إلى القرى والنجوع؟ يا لبراعتكم في الكلام! خذوا راحتكم في الكلام عني. بل توقفوا، إنني أهزأ بكم، لن أستمع إليكم! سأهتف في كل مكان: لا تستمعوا للأغبياء فوق السور. هنا على الأرض مكاني. أنا لا أنظر بعيدا. لا أسمع أكثر مما يقوله الجيران. ولست أكثر ذكاء من معلمي. ولكنني أعيش. أعيش! وإذا كنت قد فشلت في حياتي، فمن المسئول؟ (تستطرد بعد انصراف الضباط.)

هل تعرفونه؟ لا، لا أقصدكم؛ لأن مكانكم هناك في مهب الريح. إنني أضحك على نفختكم الكذابة. على أناقتكم وزينتكم. فخامتكم وسمتكم كالديوك المخصية. والطريقة التي تتكلمون بها؟ كلام معسول، وهباء. ماذا فعلت إذن؟ تعبت وشقيت لأكون امرأة صالحة خيرة. فلم تكن النتيجة إلا الشر والفساد. أليس كذلك؟ أردت أن أعيش مع زوجي في أمان. تعب وشقي بقدر طاقته، لكنه ذهب، لماذا؟ هل تعرف قوانينكم سبب ذلك؟ أتستطيع عدالتكم أو طيبتكم أن تخبرني؟ أيها النواطير! إنني أضحك كلما رأيتكم تفغرون أفواهكم. أين ذهب الرجل إذن؟ هسوي لي! اسمعني! اخرج من مخبئك! لن يأتي زوجي لن يأتي، لقد مات! حجرا صار، كومة تراب، زوجي مات، هسوي لي لن يأتي، لقد ذهب باختياره، وأنت ذهبت أيضا، أيها الجبان، أيها الخامل الكسول، أيها البهيم العقيم. اذهب إلى القتلة، فما أنت إلا واحد منهم. هل تصورت أنني سأبكي عليك؟ لا تستسلم للأوهام. سأعبئ الكوخ بالدخان لتخرج منه رائحتك النتنة. ليتحول العالم كله إلى دخان يفترس الأعين، حتى يتخلص من نتن هذا الرجل، أنتم يا من فوق السور! أيها المطرزون بالذهب، يا أصحاب القوانين الجميلة والحكمة الجميلة والأخلاق الجميلة، لم لا تفسرون لي السبب في انتشار العفن الفظيع في العالم كله؟ إنكم تشمخون بأنوفكم في الأعالي وتشمون ما لا أشمه، ولا بد أنكم تعرفون السبب، أف أيتها الجثة النتنة العفنة المخضرة التي يلتهمها الدود، إنني أسد أنفي وأبصق عليك. (تتجه إلى السور)

دعوني أدخل! أفسحوا لي الطريق! وأنت أيها السور، أيها السور السميك، ابتعد! ابتعد! أيها السور السميك العظيم القديم الغبي! أنا فان شين-تينج أقف هنا تحتك. لا أريد أن أبقى واقفة في مكاني، أريد أن أخترقك وأنفذ فيك. سأظل ألطمك برأسي حتى تتهدم يا من أكرهك أشد الكراهية. ما الذي يمنع أن أعيش مع الرجل أيها السور؟ ولماذا ذهب؟ لماذا لا يفهم بعضنا بعضا، ولماذا تقف هنا أيها السور؟ ولماذا أنا هنا بينما الرجل على الجانب الآخر؟ لماذا خلت جميع القوانين من كل قيمة؟ وتجردت كل النوايا الطيبة من أي قيمة؟ لماذا أصبح الأمل كله عدما، والحنان عدما، والذكاء عدما، والحب عدما، عدما، عدما؟ أجبني على سؤالي! لماذا تقف هنا أيها السور؟ لا تلذ بالصمت! لماذا تقف هنا؟ أجبني! أجبني! (تدق على السور بغضب جنوني)

إنني أكرهك! أبصق عليك! أضحك عليك! ألعنك! أنا .. أنا .. أنا .. أنا .. أنا .. أنا .. أنا ... (يدخل أحد الجنود المكلفين بالحراسة ووجهه مغطى بقناع، ولكننا نعرف من صوته أنه هو نفسه الرجل الذي أراد قبل ذلك أن يذهب معها. لقد عاد إلى جموده وبروده، وتجرد من السمات الشخصية ومن كل تعاطف أو انفعال. يلكز المرأة بحربته ويقول):

الجندي :

اذهبي! لن يسمعك أحد! (تقشعر المرأة فزعا وتحدق فيه.) (ستار)

فرناندو كراب أرسل إلي هذا الخطاب

(محاولة للكشف عن الحقيقة)

(عن قصة للفيلسوف والشاعر الإسباني)

ميجيل دي أونامونو (1864-1936) (بعنوان: رجل لا ينقصه إلا كمال الرجولة)

وكتبت المسرحية بالتعاون مع

أوزولا إيلر ***

الشخصيات

فرناندو كراب.

جوليا.

الأب.

الدوق.

طبيبان للأمراض العقلية والنفسية.

1 (جوليا - الأب)

جوليا :

فرناندو كراب أرسل إلي هذا الخطاب. (تمد يدها بالخطاب لأبيها.)

الأب (يتصنع الدهشة) :

هكذا؟

جوليا :

اقرأه.

الأب :

وما الذي قلته ردا عليه؟

جوليا (نافدة الصبر) :

قلت لك اقرأه.

الأب :

إنه رجل يتقرب منه الجميع، والجميع يتكلمون عنه في كل مكان منذ أن رجع من أمريكا ومعه هذه الثروة الضخمة. كم من فتاة في ربيع العمر سيسعدها أن تتلقى منه خطابا، كلهن بلا استثناء.

جوليا :

اقرأه.

الأب :

آه. الخطاب موجه لك أنت، يكفي أن تذكري لي ما جاء فيه، لقد قرأته بالفعل.

جوليا :

إنه خطاب قصير.

الأب :

وهو لا يلف ولا يدور، شخصية قوية حازمة. يمكنني أن ألاحظ هذا من خطه.

جوليا (تقرأ عليه) :

آنستي الكريمة ...

الأب : «آنستي الكريمة»، أهذا ما كتبه؟ بلا لف ولا دوران. لا ديباجة ولا عبارات طنانة!

جوليا (تواصل القراءة) : «سمعت أنك أجمل امرأة في المدينة التي استقر بي المقام فيها منذ فترة قصيرة، وقد رأيتك عندما كنت تتمشين مع أبيك في المنتزه.»

الأب :

آه. هل رآنا هناك؟

جوليا (مستمرة في القراءة) : «ما سمعته صحيح بالفعل؛ فأنت أجمل الجميلات. سوف أتزوجك، فرناندو كراب.»

الأب :

إنه ينطلق مباشرة إلى هدفه، شخصية حازمة.

جوليا :

كم لبثنا يوم السبت في المنتزه؟

الأب :

آه. لا أذكر.

جوليا :

أبديت رغبتي في الرجوع للبيت، لكنني اضطررت لقطع الطريق الواسع المحفوف بالأشجار مرتين. أنت الذي فرضت علي هذا.

الأب :

معلوم أن الهواء المنعش مفيد للصحة، إنك تلازمين البيت كثيرا، تقرئين وتسرحين مع خيالاتك.

جوليا :

اتفقت معه على كل شيء. (تقذف الخطاب في وجهه.)

الأب :

أرجوك يا جوليا، أرجوك يا حبيبتي، أخبريني ماذا قلت في ردك عليه ؟

جوليا :

ها؟!

الأب :

لا أعتقد أنك قلت له «ها»؛ فأنا أعرف أنك بارعة في كتابة الخطابات وخيالك خصب.

جوليا :

سأسمعك ما قلته لفرناندو كراب: «سيدي، فهمت من خطابك أنك اشتريتني من أبي. كم طلب منك مقابل كل رطل من لحمي؟ ما ثمن كل كيلو من وزني الحي؟ وهل وافقت على السعر المطلوب أم حاولت أن تساوم عليه؟ إنني أتصور الآن كيف تقلص وجه أبي من شدة القلق وكيف ارتعشت شفتاه، ألم تسقط كذلك دمعة على خده المزرق العروق، لمجرد أنك ترددت في دفع الثمن المطلوب؟ ولكنك تعلم أن الرجل المسكين في قبضتك، وأن الديون التي تثقل كتفيه تجبره على بيع السلعة بأي ثمن.»

الأب (متأوها) :

أنت تمزحين يا جوليا، أنت تمزحين.

جوليا : «أم تراك لمحت ابتسامة عارضة على وجهي عندما كنت تراقبني، فدفعك هذا لأن تضيف بمحض رغبتك بضعة آلاف أخرى إلى المبلغ المطلوب؟ أؤكد لك يا سيدي أن أسناني منتظمة وأن شحمتي أذني جميلتان، ناهيك عن أمور أخرى لا تسمح آداب اللياقة بالكشف عنها. ولكني أنصحك إذا حضرت إلى بيت البائع، وهو أبي، بأن تدقق في فحص السلعة قبل تسجيل المبلغ النهائي في عقد البيع.»

الأب (مفزوعا) :

جوليا!

جوليا :

ألا يعبر هذا عن رأيك يا أبي؟ لقد تصورت هذا.

الأب :

أنت قاسية القلب، تسخرين من خدي المنتفخين بالعروق الزرقاء ... أنا الذي أقترب من الموت، أجل من الموت، من شدة قلقي عليك.

جوليا :

لا تتأوه من فضلك وإلا انتابني الصداع واسودت الحلقات تحت عيني. ربما يبخس هذا من السعر المطلوب.

الأب :

يا طفلتي المسكينة ... من المفروض أن تدركي الخطر الذي يمكن أن تتعرضي له إذا لم أهتم بمستقبلك. صحيح أن جمالك يشبه جمال فكرة من أفكار الرب، أجل إلى هذا الحد وصل جمالك، ولكن رأسك مزدحم بالأفكار الغريبة التي تقلقني. إنك تصدمين الناس وتلطمين وجوههم بمثل هذه التهيؤات العجيبة.

جوليا :

التهيؤات؟

الأب :

هل يعقل أن ترد امرأة بمثل هذه الحماقات على طلب الزواج من رجل ثري ومرموق كهذا الرجل؟ لا بد أن أبذل غاية جهدي لإعادة الأمور إلى نصابها.

جوليا :

لست ملزما بهذا.

الأب :

تهيؤات عجيبة. طالب مسكين لا يحتكم على شيء وليس له أي قيمة، طالب لا تكادين تعرفينه ومع ذلك تطلبين منه ببساطة أن يخطفك. ألا يحق لي أن أصف هذا التصرف بأنه شيء عجيب؟ أما هو فيستولي عليه الفزع ويقول: نعم. أنا تحت أمرك، سأخطفك. ولكن من أين نعيش؟ وأنت؟ ماذا كان ردك عليه؟

جوليا :

وماذا كان ردي؟

الأب :

قلت له: لننتحر معا.

جوليا :

يستحيل عليك أن تعرف ما قلت.

الأب :

بل أعرف، وكل الناس تعرف، لقد حكى الحكاية لكل من هب ودب، هذا الشاب البائس المشوش العقل، المدينة كلها تعرف هذا، ثم إنه لم يرجع. لا بد أنه قال لنفسه: لا أريد أن أموت.

جوليا :

ثرثار غبي.

الأب :

اسمعيني يا حبيبتي، أين هو الإنسان الذي يريد الموت؟ لا أحد يريده، ولا أنا أيضا، فكل إنسان يبحث عن حظه في الحياة ويتلهف على نسمة من السعادة. انظري إلى أبيك العجوز، إنه يضحك، لا يتخلى عن التمسك بالأمل، رغم أنه، وهذا تعبير مخفف، لا يحتكم على شيء، على الأقل في الوقت الحاضر. (يطرقع بأصابعه ويضحك بمرارة.)

جوليا :

كف عن هذه الطرقعة!

الأب :

حقا، إنني أطرقع بأصابعي، إنها عادة سخيفة لو صرف فرناندو كراب نظره عن الموضوع، لو فعل هذا بسبب خطابك المخزي فسوف أشنق نفسي. (ينصرف.)

2 (جوليا - فرناندو كراب)

فرناندو كراب (يدخل) :

لقد أرسلت إلي خطابك، وأعجبت به إعجابا شديدا.

جوليا :

لم يكن هذا هو الهدف منه.

فرناندو كراب :

أرى من هذا الخطاب أننا سنتفاهم على أحسن وجه.

جوليا :

ولكن خطابك لم يعجبني.

فرناندو كراب :

من المعروف لدى الجميع أن فرناندو كراب يحصل على كل ما يريده. أنت أجمل امرأة في المدينة، وربما كنت أجمل امرأة في البلد كلها. أريد أن أتزوجك، وها أنا ذا. (تبقى جوليا صامتة لا تتحرك.)

فرناندو كراب (يبدو أن صمتها أثار القلق في نفسه، يتجه نحوها بعد فترة من الوقت يتفحصها بنظراته، ثم يقول بلهجة موضوعية جافة) :

ألست بخير؟

جوليا :

أجل بخير .. كل شيء على ما يرام.

فرناندو كراب :

ولكنك ترتجفين، يبدو لي هذا.

جوليا :

الدنيا برد .. الجو هنا يميل للبرودة.

فرناندو كراب :

أنت مخطئة، إنه دافئ.

جوليا :

حقا؟

فرناندو كراب :

أنت ترتجفين من القلق.

جوليا :

ومم القلق إذن؟

فرناندو كراب :

مني؟

جوليا :

ولماذا أقلق منك؟ لا، قطعا لا!

فرناندو كراب :

بل تشعرين بالقلق مني (تنفجر جوليا باكية. يتطلع فرناندو كراب إليها بهدوء ثم يقول)

هل تتصورين أنني وحش؟ أبعدي يديك عن وجهك! انظري إلي! إن أعدائي فقط هم الذين يخشونني.

جوليا :

إنني أعرض للبيع!

فرناندو كراب :

هكذا؟ ومن قال هذا؟

جوليا :

أنا التي أقوله! وماذا يملك أبي المسكين؟ إنه مفلس ولا بد أن يدخل السجن، ولكن قبل أن تقبض الشرطة عليه، قبل أن يسحبوه والقيود الحديدية في يديه أمام صفوف المتطفلين والشامتين، قبل أن يحدث له هذا سيشنق نفسه. أنا واثقة من هذا.

فرناندو كراب :

لا داعي لكل هذا.

جوليا :

أنت بأموالك الطائلة .. أموالك التي تعرضها في كل مكان! تفتح محفظتك، وتلوح بالأوراق النقدية وتقذف بها من الشرفة على رءوس الناس لكي يحنوا ظهورهم ويزحفوا على الأرض لالتقاط ورقة واحدة من الوحل.

فرناندو كراب :

أبوك كان منشرحا وفي أحسن حال. لقد رتبت كل شيء ودفعت كل شيء.

جوليا :

دفعت كل شيء؟

فرناندو كراب :

أجل، كم كان المبلغ؟ لقد نسيت.

جوليا :

معنى هذا أنك اشتريتنا بالفعل، معناه أننا نعيش الآن من مالك؟ أليس كذلك؟ (تنزع الشال من حول رقبتها.)

وهذا الشال الذي أحضره أبي أمس وأعطاه لي، ألم تشتره أيضا من مالك؟ والحذاء؟ حتى الحذاء أيضا! (تخلع حذاءها وتقذف به رأس فرناندو كراب.)

فرناندو كراب :

ألاحظ الآن يا جوليا أن قدميك جميلتان جدا!

جوليا :

لن تحصل علي أبدا .. أبدا .. أبدا! إلا إذا مت.

فرناندو كراب :

ولكنك تحبينني يا جوليا. أنت تحبينني الآن بالفعل! ولهذا ستتزوجيني.

جوليا :

باعني! واشتريتني!

فرناندو كراب :

تتصورين أنني أملك المال، وأنك أنت السلعة.

جوليا (صارخة) :

أجل! أجل!

فرناندو كراب :

أنا لم أعرض على أبيك أي شروط عندما سلمته المال. لم أطالب بأي شيء. أترفضين أن تحبيني؟ ولكن هذا مستحيل! مستحيل أن يرفض حبي أي إنسان. (صمت طويل. جوليا تبكي. صمت.)

جوليا (تهمس في صوت خافت) :

افعل معي ما تشاء.

فرناندو كراب :

ما الذي تقصدين بهذا؟ ماذا تعنين؟

جوليا :

لا أدري، لا أدري ماذا أقول؟!

فرناندو كراب :

وما معنى أن أفعل معك ما أريد؟

جوليا :

معناه ... لا أدري!

فرناندو كراب :

أنا لا أشتري عاهرة من الشارع، بيع وشراء! هراء! إنه زواج عن حب. أنت تحبينني، ولهذا تبكين! لقد بدأت تفهمين!

جوليا :

وقبلت الزواج منه ...

3 (جوليا - فرناندو كراب)

جوليا :

أي نوع من الرجال أنت؟

فرناندو كراب :

وماذا عسى أن أكون؟ أنا هو أنا، فرناندو كراب.

جوليا :

هذا ما تقوله دائما، لم أسمعك أبدا تتكلم عن طفولتك، ولا أعرف أي شيء عن والديك.

فرناندو كراب :

ليس لي والدان، فعائلتي تبدأ بي، وأنا الذي صنعت نفسي بنفسي.

جوليا :

انظر إلى يدي.

فرناندو كراب :

أصابع رقيقة ورشيقة.

جوليا :

لقد ورثتها عن أمي.

فرناندو كراب :

وأحيانا تتقلص فجأة وتتحول إلى قبضتين صغيرتين قاسيتين غاضبتين. هذا شيء يمتعني ويسليني.

جوليا :

صحيح، فعندما أفكر في شيء تنقبض يدي.

فرناندو كراب :

وقبل أن تدخلي حجرتي لا تطرقين الباب بعظمة إصبعك كما يفعل غيرك، وإنما تخبطين بأظافرك على الخشب.

جوليا :

مثل جدتي تماما. كانت هذه هي عادتها. والأنف الجميل ورثته عن أبي.

فرناندو كراب :

هذا شيء لا يهمني. إنه جميل، لا نظير له!

جوليا :

والخيال ورثته عن أمي، فالاستمتاع بالانطلاق مع الخيال شيء مألوف في عائلتها. يحكى عن إحدى خالاتي أنها لم تضع قدمها أبدا على عتبة بيتها. كانت تقول باستمرار: لماذا أغادر بيتي ما دمت أستطيع أن أتصور كل شيء في رأسي؟ إن هذا أمتع بكثير. وممن ورثت أنفك يا فرناندو، وهذا الذقن المشقوق الذي يعجبني؟

فرناندو كراب :

يعجبك؟

جوليا :

ألا تتذكر شيئا عن طفولتك؟

فرناندو كراب :

الطفولة لا تعنيني، أنا من أريد أن أكونه. (صمت.)

جوليا (بحذر ) :

أود أن أسألك عن شيء آخر يا فرناندو، ولكني لا أجد في نفسي الشجاعة.

فرناندو كراب :

وما الذي يمنعك من السؤال؟ أنا لن أفترسك، ولم أشعر أبدا من كلامك بأنك جرحتني مرة واحدة، أنت تعرفين هذا بالطبع.

جوليا :

أنا لا أشكو من شيء.

فرناندو كراب :

لم يبق إلا أن تشكي أيضا!

جوليا :

لا، أنا لا أشكو من أي شيء .. لكن ...

فرناندو كراب :

هيا اسألي وخلصيني!

جوليا :

الأفضل ألا أسال!

فرناندو كراب :

قلت لك اسألي، أنا أريد أن تسألي.

جوليا :

ما دمت مصرا فسوف أسأل: هل صحيح أنك كنت متزوجا؟

فرناندو كراب (يقطب جبينه) :

أجل.

جوليا :

وزوجتك الأولى؟

فرناندو كراب :

ماتت من سنوات طويلة، كنت أرملا عندما تزوجتك. (متشككا)

هل حكى لك أحد عن شيء؟

جوليا :

كلا، ولكن ... لا، لا شيء.

فرناندو كراب :

سمعت شيئا مما يحكونه، تكلمي إذن!

جوليا :

أجل سمعت شيئا محددا.

فرناندو كراب :

وصدقته؟

جوليا :

قطعا لا. لم أصدقه.

فرناندو كراب :

هذا أمر طبيعي! فلم يكن ذلك من حقك! لم يكن في إمكانك!

جوليا :

لا، بالطبع لا، لم أصدق أبدا.

فرناندو كراب :

قلت لك هذا أمر طبيعي، فمن يحبني كل هذا الحب ويكون لي أنا وحدي لا يمكنه أن يصدق هذه الكذبة الفظيعة.

جوليا :

نعم، إنني أحبك، لا أتمنى سوى شيء واحد.

فرناندو كراب :

تمني كل شيء.

جوليا :

آه ليتك قلتها لي مرة واحدة.

فرناندو كراب :

يا حبيبة قلبي، يا كنزي الصغير، يا حلوتي، يا أعز الناس عندي ... هل يفترض مني أن أقول شيئا كهذا؟ مثل هذه الكلمات الضحلة الحمقاء؟ إنها لا توجد إلا في الروايات، وأنا أعلم أنك كنت مغرمة بقراءة الكتب.

جوليا :

وما زلت أقرؤها بشغف ...

فرناندو كراب :

اقرئي كما تشائين! اقرئي ما يحلو لك! سوف أصدر أوامري ببناء كشك في طرف الحديقة بالقرب من شجيرات الورد، وسوف أحضر لك كل الكتب التي ألفت منذ عهد آدم وحواء!

جوليا :

ما أجمل هذا!

فرناندو كراب :

كلما قلل الناس من كلامهم عن الحب، كان ذلك أفضل بكثير.

جوليا :

آه يا فرناندو.

فرناندو كراب :

ما الذي حكوه لك؟ هل قالوا إنني في شبابي كنت متزوجا في المكسيك؟

جوليا :

وكيف كان منظرها يا ترى؟

فرناندو كراب :

من امرأة ثرية جدا وأكبر مني في السن، من مليونيرة عجوز، أهذا ما قالوه؟

جوليا :

أجل.

فرناندو كراب :

وقالوا لك أيضا إنني أجبرتها على كتابة وصيتها وعلى تعييني الوريث الوحيد لها، وإنني قتلتها بعد ذلك ... هل قالوا لك شيئا كهذا؟

جوليا :

زعموا أنك خنقتها في الفراش، بل ادعوا أنك خنقتها بقبعتك.

فرناندو كراب :

وصدقت ما قالوه؟

جوليا :

كلا! أبدا، أبدا!

فرناندو كراب :

بقبعتي! بقبعتي! (يهز قبعته وهو يلوح بها.)

جوليا :

لا أتصور أبدا أنك يمكن أن تقتل زوجتك.

فرناندو كراب :

أرى الآن أنك أذكى مما تخيلت. وما الذي يدعوني لقتل زوجتي، وهي شيء أملكه؟

جوليا (تكرر في جمود) : «وما الذي يدعوني لقتل زوجتي وهي شيء أملكه؟»

فرناندو كراب :

هل أنت ببغاء؟ لماذا تكررين ما أقول؟

جوليا :

لا أدري.

فرناندو كراب :

وما الذي يحملني على هذا؟ كانت ثروتها تحت يدي، ومناجم النحاس التي تملكها تحت تصرفي. فلماذا أقتل زوجتي أنا؟ لم يكن لهذا أي داع.

جوليا :

ومع ذلك تقتل كثير من النساء بأيدي أزواجهن.

فرناندو كراب :

ربما، ما شأني أنا بهذا؟

جوليا :

بسبب الغيرة مثلا، أو للانتقام من زوجة لها عشيق.

فرناندو كراب :

الأغبياء هم الذين يشعرون بالغيرة. إنهم بلهاء عاجزون، ولديهم ما يبرر ذلك أيضا! أما أنا .. فلا أعرف ما هي الغيرة، شعور ... لا بد أنه شعور من نوع غريب! لست أدري ما الذي يشعر به الناس عندما يحسون بالغيرة، زوجتي أنا لا يمكن أن تخدعني. زوجتي الأولى لم تستطع ذلك، وأنت أيضا لا تستطيعين، ولن تتمكن من ذلك أي امرأة!

جوليا :

لا تتكلم بهذه الطريقة، فلتتكلم عن شيء آخر.

فرناندو كراب :

ولم إذن؟

جوليا :

يؤلمني أن تتحدث معي بهذا الأسلوب. يخيل لي أنك تكاد تشك في. وهذا يحزنني.

فرناندو كراب :

ولكن الموضوع يسليني.

جوليا :

وكأنما خطر ببالي ولو في الحلم أن أخدعك!

فرناندو كراب :

ولكنني متأكد من هذا، وهو بالضبط ما أقوله!

جوليا :

لم أفكر في ذلك أبدا!

فرناندو كراب :

يستحيل عليك أن تفكري فيه، أعلم هذا تماما. لا يمكنك أن تخدعيني، لقد ماتت زوجتي الأولى. لم أكن في حاجة لقتلها. الآن عرفت كل شيء يا جوليا.

جوليا :

أجل. (صمت.)

فرناندو كراب :

تنتابك حالات عصبية.

جوليا :

أنا بخير.

فرناندو كراب :

أجفانك متورمة، أريني!

جوليا :

فرناندو ...

فرناندو كراب :

ألاحظ الآن وأنا أنظر إليك أنك أغمضت عينيك. أما زلت تفكرين في تلك القصة الغبية؟ لقد شرحت لك كل شيء، كما فهمت كل شيء.

جوليا :

أنا حامل.

فرناندو كراب :

أجل، توقعت هذا، الآن ضمنت أن يكون لي وريث. وسوف أجعل من ابني رجلا مثلي.

جوليا :

ولكننا لا نعلم إن كان ابنا أو بنتا.

فرناندو كراب :

ابن. أنا واثق من هذا.

جوليا :

وإذا جاءت بنتا؟

فرناندو كراب :

قلت لا. من المؤكد أنه ابن.

جوليا :

وحصلت على الطفل، كان ولدا.

فرناندو كراب :

يا للطفل الرائع الذي وهبته لي!

جوليا :

لماذا لا تقبل طفلك؟ لقد قدمت له الهدايا الثمينة عند ولادته، ووزعت المال على الناس، غمرتني أيضا بالهدايا مما جعلني أعتقد أنك في غاية السعادة بابنك، ومع ذلك لم تفكر مرة واحدة في أن تحمله على ذراعيك وتقبله.

فرناندو كراب :

التقبيل والحركات المفتعلة تضايق الأطفال، إنني أنتظر حتى يمكنه أن يفهمني عندما أتكلم معه، عندئذ سيكون لي كلام كثير.

جوليا :

وأنا أتكلم معه طول الوقت، أتكلم معه بيدي وقبلاتي.

4 (جوليا - فرناندو كراب)

فرناندو كراب :

هل عاد هذا الدوق إلى هنا؟

جوليا :

هذا الدوق؟ أي دوق تقصد؟

فرناندو كراب :

هذا الذي يأتي في هذه الأيام، واحد من أولئك الثرثارين المتسكعين، إنه لا يكف عن الثرثرة في كل مكان، ولكنه عاجز حتى عن ترميم القصر الذي ورثه عن عائلته. فالسقف آيل للسقوط، وشبابيك النوافذ مخلعة، والبوابة الفخمة مسورة بالأسلاك الشائكة، وهو مضطر أن يدخل ويخرج من الباب الخلفي، لقد تفرجت عليه، كما عرض علي أن أشتريه أنقاضا.

جوليا :

نعم، هذا الدوق كان هنا.

فرناندو كراب :

ليحضر كثيرا، إن هذا يسليك، على الأقل يمكنه أن ينفع في شيء. هذا الهزؤة.

جوليا (مستاءة) :

ولكنه مهذب جدا ولطيف.

فرناندو كراب :

مهذب، ولكن هزوءة.

جوليا :

وهو مثقف جدا، يكتب أيضا.

فرناندو كراب :

مثقف أو غير مثقف. ولكنه صعلوك يثير السخرية.

جوليا :

لقد كتب بعض القصائد.

فرناندو كراب :

القصائد، شيء يناسبه طبعا.

جوليا :

ويمكن التحدث معه حديثا رائعا، فهو واسع الاطلاع على الأدب وعلى أشياء أخرى.

فرناندو كراب :

وهذا أفضل، ما دام يسليك.

جوليا :

ليست التسلية هي الكلمة الصحيحة، إنه تعس جدا.

فرناندو كراب :

أخ! لا بد أنه يحاول إثارة الاهتمام، فهو يتعذب. يؤلف قصيدة عما يعانيه ويدسها لك خفية؟ تحت فنجان القهوة مثلا؟ إن الذين يحسون بآلامه قليلون جدا، ولا بد من مواساته، لا بد من التعاطف معه.

جوليا :

نعم، إنه حساس جدا.

فرناندو كراب :

جدا، حاولي أن تواسيه. تكلمي معه عن مشاكله النفسية.

جوليا :

إنك تسيء الظن به، فهو في الواقع إنسان من نوع فريد، والجرح الدفين الذي يعاني منه هو أن زوجته تخدعه.

فرناندو كراب :

الدفين؟ كل الناس تعرف هذا. وهي النمرة التي يتسول بها في كل مكان؛ لأنه يطمع من ورائها في التقرب من قلوب الهوانم.

جوليا :

لا أفهم كيف يمكن لامرأة أن تفعل بزوجها شيئا كهذا وتفضحه علنا.

فرناندو كراب :

أما أنا فأفهم ذلك تماما! لأنه صعلوك هزوءة! ربما لم تتزوجه إلا بسبب لقب الدوق الذي يطلقونه عليه، وهي الآن تشعر بالملل القاتل معه. لا توجد امرأة يمكنها أن تفعل هذا معي!

جوليا (بعد تردد) :

وإذا فعلت؟ كيف يمكن أن تسير الأمور في هذه الحالة؟

فرناندو كراب :

سخافات، فأنا لست رواية مسلسلة، سخافات! وحياتنا ليست وهما من صنع الخيال؛ يمكنك أن تتجاذبي عنه أطراف الحديث مع هذا الدوق، فهي حياة سوية جدا. وإذا تصورت أنك تثيرين غيرتي، فأنت مخطئة! يصعب تجربة هذه الألعاب معي! معي أنا! سلي نفسك كما تحبين مع هذا الهزؤة. فليس له أي قيمة عندي.

جوليا (تنتحي جانبا وتكلم نفسها) :

هل صحيح أنه لا يكترث على الإطلاق بأن الدوق يتردد علي، وأننا نجلس كثيرا في الكشك طوال العصر ونتبادل الأحاديث معا؟ هل يمكن أن يكون غير مبال إلى هذا الحد؟

هل يحبني؟ أم لا يحبني؟ إن السؤال يعذبني. (توجه الكلام لفرناندو كراب)

نحن مدعوان عنده غدا.

فرناندو كراب :

وماذا أفعل هناك؟

جوليا :

نحن مدعوان على الشاي. ألا تريد أن تحضر معي؟

فرناندو كراب :

على الشاي! لا، أنا لا أشرب الشاي إلا عندما أشعر بالمغص. اذهبي أنت وحدك، واسي الدوق. ربما تجدين الدوقة أيضا هناك، مع عشيقها الذي جاء عليه الدور. هذا هو الزواج الحديث! شيء لطيف! اذهبي على راحتك.

5 (جوليا - الدوق)

الدوق (مهموما) :

حياتي أشبه بتمثيلية هزلية سمجة، فالمدام تتهادى في مشيتها كأنها تحجل، بين غرفة النوم والصالون، وليس عليها سوى قميص النوم، قميص النوم فقط! وتظل تدندن أيضا. لماذا تدندنين دون توقف؟ أدندن لأنني أشعر بالوحدة، لأن ضوء الشمس يسطع خلال النافذة. طبقان وكوبان. لمن؟ لك. وبطيخة طازجة. ولكن هناك من سبقني وأكل منها شريحة. يا للسخرية! وفجأة أسمع عطسة مختنقة. هل جاءت من ناحية الدولاب؟ وأفتح الدولاب بحجة تغيير رباط العنق. لا أحد! هل أفتش تحت السرير؟ هل أهين نفسي إلى حد الاشتراك في هذه المهزلة؟ أم أشد الستائر عنوة لأواجه برجل غبي يبتسم بشماتة، رجل لا أعرفه، أو ربما يكون أعز أصدقائي، أو ساعي البريد، أو معلم التنس؟ من السهل علي أن أرمي العاشق من النافذة أو أطردها في الشارع. وهي نفسها تتمنى هذا، فهي تحب الفضائح، والإثارة، والصياح. ولكنني لا أفتح فمي بكلمة وأهرب بنفسي. فأنا لا أصلح لهذه المسخرة السخيفة.

جوليا :

كيف وقعت في هذه المصيبة؟!

الدوق :

تقصدين لماذا تزوجت هذه المرأة؟

جوليا :

أجل، لماذا؟

الدوق :

احكمي علي بما تشائين.

جوليا :

لا شك أنها كانت شديدة الفتنة؟

الدوق :

وما زالت! ولكن لم يكن هذا هو المهم. كانت ساذجة تماما، وهذا هو الذي أعجبني فيها. مخلوقة على الفطرة. كانت خالية الذهن من أي شيء ، وتخيلت أنني سأستطيع أن ألقنها كل شيء من البداية. اعتقدت أن في إمكاني أن أوقظ وعيها، وأثقف عقلها، وأغرس في روحها الرقة والحساسية. وتصورت أنني سأنفخ فيها - إذا جاز القول - أنفاس الحياة، وأجذب انتباهها لأمور لم يكن لديها أي فكرة عنها، وأدفئ قلبها بالحماس لمعجزات الموسيقى، وجمال اللغة، وروعة الفلسفة أيضا إذا استطعت. اعتقدت بالفعل أنني سأتمكن من تحقيق ذلك.

جوليا :

بيجماليون؟

الدوق :

حتى اكتشفت أن سذاجتها الجميلة لم تكن إلا تبلدا في الطبع، وأن مرحها لم يكن سوى خليط من الأغاني الشائعة في الأوبريتات.

جوليا :

يعز علي أن تقاسي هذا العذاب يا عزيزي الدوق.

الدوق :

أنا الذي طالما قاسيت من الفجاجة والابتذال!

جوليا :

خدعة بشعة.

الدوق :

إن روحي مرهقة حتى الموت، لكنني لا أشكو من شيء، وليس من حقي أن أشكو، كان علي أن أعرف أن هناك صنفا من البشر المصابين بتبلد الإحساس، ومع ذلك يحسون بأن تبلدهم يدل على نقصهم، كما يشعرون لهذا السبب بالحاجة التي تدفعهم لتعذيب الآخرين، بل ربما جعلتهم يستمتعون بتعذيبهم حتى يدفئوا قلوبهم الباردة بنيران الألم الذي يعانونه على أيديهم.

جوليا :

آه يا عزيزي الدوق! إن ذكاءك الحاد ينفذ في الأعماق.

الدوق :

الألم الذي نقاسيه في الحياة يهبنا من التبصر والمعرفة ما يعجز عنه السعداء الراضون عن أنفسهم. اقرئي ليوباردي، اقرئي الشعراء الذين يعيشون بيننا ويتعذبون. إن كل شعر عظيم ينهل من الشعور الأليم بالحياة، من الحزن الفاجع.

جوليا (فجأة) :

هل أنا تعيسة؟

الدوق :

أأنت التي تسألينني يا جوليا؟

جوليا :

آه! مجرد فكرة خطرت على بالي، أرجو أن تنسى ما قلت.

الدوق :

أنا لا أستطيع أن أحول أفكاري عنك.

جوليا :

وما هي الأفكار التي تدور في رأسك؟

الدوق :

أحيانا أتخيل أننا تعارفنا قبل ارتباطي بهذه الإنسانة السخيفة التي جعلت حياتي جحيما، وقبل أن ...

جوليا :

لا يمكنك المقارنة بيننا!

الدوق :

ومع ذلك فإني أعتقد ... ولكن من الأفضل أن أسكت!

جوليا :

أرجوك أن تتكلم، لقد نجحت في إثارة فضولي.

الدوق :

لو كنا التقينا في ذلك الحين وتحدث كل منا للآخر، إذن ل...

جوليا :

أتريد أن تقول: إذن لوقعت في حبك؟

الدوق :

بلا أدنى شك!

جوليا :

يا لغرور الرجال!

الدوق :

لست مغرورا.

جوليا :

إنهم جميعا يتصورون أن سحرهم لا يقاوم.

الدوق :

لا. ليس هذا صحيحا.

جوليا :

لقد قلتها بنفسك الآن.

الدوق :

وأقصد بها شيئا مختلفا كل الاختلاف.

جوليا :

وما وجه الاختلاف؟ تكلم من فضلك!

الدوق :

لم أقصد نفسي بذلك. حبي هو الذي كان من المستحيل مقاومته. حبي!

جوليا :

آه. هذا اعتراف صريح بالحب يا عزيزي الدوق، لقد نسيت أنني امرأة متزوجة، وأنني أحب زوجي!

الدوق :

أنت تقولينها بلسانك، ولكن ...

جوليا :

وهل تشك في ذلك؟ وأن هذه هي الحقيقة، فهو رجل رائع. مفعم بالطاقة والحيوية! عندما يفتح الباب وأراه واقفا أمامي أجدني أقول لنفسي: إنه هو الحياة ذاتها، ولا أملك إلا أن أندفع إليه وألقي بنفسي بين ذراعيه.

الدوق :

وهو؟

جوليا :

ما معنى «وهو»؟ إنه هو هذا!

الدوق :

ولكنني أعلم ... أعني أنني سمعت ...

جوليا :

أنه لا يحبني؟ ممن سمعت هذا؟

الدوق :

منك!

جوليا :

أنا لم أتكلم أبدا عن زوجي!

الدوق :

لقد تكلمت بعينيك، بإطراقة رأسك، بحركات يديك، بنبرة صوتك، وبصمتك أيضا ...

جوليا :

أتريد أن تقول إنني طلبت منك أن تعلن لي عن حبك؟ هذه هي المرة الأخيرة التي تدخل فيها بيتنا!

الدوق :

ناشدتك الله يا جوليا!

جوليا :

قلت لك هي المرة الأخيرة!

الدوق :

لو أذنت لي بالبقاء في الحجرة المجاورة، في الظلام الدامس إذا شئت، فأسمع صوت خطاك في الصالون، أو ربما أسمع صوتك، وأغمض عيني لأرى وجهك خلف جفني المغمضين، وجهك الذي يبتسم لي.

جوليا :

في الحجرة المجاورة وفي الظلام الدامس؟

الدوق :

المهم أن أكون بالقرب منك. وهو ما قلته الآن وربما أفزعك!

جوليا :

لا تقل ربما! لقد أفزعتني بالفعل!

الدوق :

وتصورت أن اعترافي غرور باطل!

جوليا :

بالفعل.

الدوق :

هذا خطأ فاحش! ومن أنا في النهاية؟ مجرد شخص حالم قليل الحيلة. اللقب القديم ... حسن! ولكن ما قيمته؟ النبالة والعائلة، ليس لي فضل في هذا. شيء من الثقافة ؟ ولكن من المفروض أن يكون هذا أمرا بديهيا، شأنه شأن اللياقة والسلوك الحميد. حساسية خاصة بالأعمال الفنية بحيث أكاد أحس بكمال الخط واللحن وظلال الألوان إحساسا شبه جسدي؟ أن بيتين من شعر لوركا كفيلان باستدرار الدموع من عيني رغما عني. ولكن هذا لا يبرر بطبيعة الحال أن أكون متعاليا، إنه طبع. وهو يجعلني أشعر بأني وحيد. انظري إلي يا جوليا، نظرة واحدة!

جوليا :

لا.

الدوق :

هل ترين أمامك شخصا لا مثيل لجماله؟ من المضحك أن يصدق أحد ذلك! إنني أنظر إلى نفسي في المرآة فأكتشف ظلال الاكتئاب وعلامات الدمار الخفي الذي يشوه الملامح القديمة المنسجمة. أنظر إليها فأتعرف على المرارة التي ترتسم خطوطها الصغيرة حول فمي وأتعمد إخفاءها عن عيون الآخرين. ابتسامتي مشبعة بالألم. لا شيء في يستحق منك أن تحبيه، ومن حقك أن تحولي عينيك عني كما تفعلين الآن، لو تصورت أن هذا هو الذي يمكن أن يقربك مني.

جوليا :

لا أدري عن أي شيء تتكلم!

الدوق :

أتكلم عن حبي، أتكلم عنه دون توقف، عن حبي المتهور المجنون لك، هذا الحب هو هديتي لك، وليس هو شخصي التافه الذي لا وزن له. (تضع يديها على أذنيها وتهمس)

سم ... سم!

إن أكثر الناس عاجزون عن الحب، إنهم يطالبون بالحب، إن من حقهم أن ينالوا الحب والوفاء بغير حدود، يستولي الواحد منهم على إحدى الفاتنات ويسوقها أمامه: انظروا إلى زوجتي الجميلة، تفرجوا على نمرتي! ويروح يشدها من قيدها. انظروا! إنها ملكي! انظروا كيف تطيعني! ولكن هذا لا يثبت أنه يحب النمرة، لأنه يزهو بامتلاكها فحسب!

جوليا :

لا أريد أن أسمع هذا الكلام.

الدوق :

بل أنت تسمعينني جيدا ... وتفتحين أبواب روحك على اتساعها! إنني أتغلغل في أعماقك، أنفذ في صميم روحك.

جوليا :

اتركني في حالي! إذا جاء الآن فجأة ودخل من الباب ...

الدوق :

لن يأتي! إنه لا يهتم بك! وهو يتركنا وحدنا لأنه لا يحبك.

جوليا :

إنه يثق بي ثقة كبيرة.

الدوق :

بل يثق بنفسه ثقة هائلة. إنه لا يعتقد، لمجرد أنه استولى على كل شيء، لأنه جمع من المال ما لا حصر له - ولست أريد أن أعرف كيف! - لا يعتقد أنه يمكن أن يضيع شيئا وضع يده عليه، إنه عاجز عن تخيل ما يدور في نفس امرأة، وربما كان يحتقرني ...

جوليا :

أجل ... إنه يحتقرك!

الدوق :

لقد عرفت هذا، ولكنه يحتقرك أيضا!

جوليا :

أتريد أن تقتلني بكلامك؟

الدوق :

إنه ... إنه هو الذي سيقتلك ... ولست أول امرأة قتلها!

جوليا :

عار عليك أن تقول هذا! أنت تكذب! بفظاعة! زوجي لم يقتل هذه المرأة. اذهب الآن ولا ترني وجهك!

الدوق :

إن الفكرة نفسها تؤلمك، لقد أفزعتك.

جوليا :

قلت اذهب!

الدوق :

أنا أفهم رغبتك في الانفراد بنفسك، وسوف تفكرين في الأمر طويلا ثم تستدعينني مرة أخرى، أؤكد لك أنني لن أتخلى عنك.

6 (جوليا - فرناندو كراب)

فرناندو كراب (يدخل) :

تصوري ما جرى اليوم!

جوليا :

أين إذن؟

فرناندو كراب :

يجب أن أحكي لك الحكاية لتتسلي معي.

جوليا (قلقة) :

أنا مصغية لك.

فرناندو كراب :

هل لديك فكرة عن المبارزة؟

جوليا :

شيء بديهي.

فرناندو كراب :

تصوري! مبارزة في هذه الأيام! حفنة أولاد مهووسين تجمعوا في الغابة في غبش الضباب وراحوا يتصايحون: «حدد السلاح الذي تريده!» إلى آخر الجعجعة الفارغة التي لا أطيقها.

جوليا (مفزوعة) :

هلا طلبت أحدا للمبارزة!

فرناندو كراب :

وهل خفت؟

جوليا :

بالطبع، تكلم أرجوك!

فرناندو كراب :

لا داعي أبدا للقلق! أنت تعرفينني تماما. أليس كذلك؟

جوليا :

لا أدري إن كنت أعرفك أو لا أعرفك.

فرناندو كراب :

آه! كلامك مثل نبوءات العرافين! قلت لا داعي للقلق، فلست أنا الذي يجرونه إلى هذا التخريف. مبارزة؟ هل يعقل أن أبارز؟ أنا فرناندو كراب؟ لقد طردت الأولاد بطبيعة الحال. «أرسلوا إلي الحساب وتنتهي المسألة»!

جوليا :

أي حساب؟

فرناندو كراب :

أجر الطبيب والتعويض عن الإصابة وكل طلباته.

جوليا :

طلبات من؟

فرناندو كراب :

وإذا أصر على المبارزة فعليه أن يشرف، سأبارزه باللطمات والركلات.

جوليا :

ولكنك لم تقل من هو؟

فرناندو كراب :

هو هذا ال... أخ! نسيت الآن اسمه، بل لم أكلف نفسي مرة واحدة بملاحقة اسم السيد المهذب!

جوليا :

وكيف نشب الخلاف الذي أدى للمشاجرة؟

فرناندو كراب :

بسبب نكتة!

جوليا :

مشاجرة بسبب نكتة؟ لا أتصور أن يصدر هذا عنك.

فرناندو كراب :

لم تكن مشاجرة بالمعنى الصحيح. لقد قال نكتته فضربته بالكأس على رأسه.

جوليا :

أجل، وهل جرح؟

فرناندو كراب :

سالت كمية من الدم تكفي لملء منديل.

جوليا :

أخ! يا للبشاعة! هل أهانك إلى هذا الحد؟

فرناندو كراب :

النكتة! النكتة! (يضحك.)

جوليا :

أرجوك أن توضح. أنا لا أفهم شيئا من كل هذه الحكاية.

فرناندو كراب :

قال نكتة ... نكتة عن زوج يرجع إلى البيت ويكتشف في غرفة النوم ... شيء من هذا القبيل ... المهم أن زوجته ترقد في الفراش مع رجل، والزوج نفسه لا يلاحظ ذلك ... ثم أفاجأ بمن يقول: مثل فرناندو كراب. لقد زعم أنك تخونينني.

جوليا :

أخ! لا بد أن هذا استفزك وأثار غضبك.

فرناندو كراب :

هل رأيتني مرة في حالة غضب؟ هل لاحظت مرة واحدة أنني خرجت عن طوري؟

جوليا :

كلا، لم أر منك هذا أبدا. ولكن من الطبيعي في هذه الحالة أن تنفعل.

فرناندو كراب :

آه، الناس يثرثرون كثيرا.

جوليا :

المهم أنك ضربته بسببي.

فرناندو كراب :

بسببك؟ شيء مضحك! تقولين بسببك؟! كل ما في الأمر أن ضحكته لم تعجبني، هذه الضحكة الخافتة التي لا تكشف حتى عن الأسنان.

جوليا :

يسعدني بطبيعة الحال أن تثق بي إلى هذا الحد.

فرناندو كراب :

طبعا، طبعا! لا تحملي هما!

جوليا :

ولكن ...

فرناندو كراب : «لكن» ممنوعة، فزوجة فرناندو كراب سعيدة بالتأكيد!

جوليا :

أجل!

فرناندو كراب :

الناس ينصحونني بمنع الدوق من دخول بيتي. هل رأيت أسخف من هذه النصيحة! ما دام الصعلوك الهزؤة يسليك، وما دام يقوم بقفزاته البهلوانية الرشيقة! أما عن رأيي فيه فليس له أي أهمية. المهم أنني مطمئن إلى أن زوجتي مستمتعة ولا تشعر بالملل أثناء انشغالي بتدبير أعمالي. كلب يوضع على الحجر! هل نرميه من الشباك؟! هل نضمن ألا يسقط على رأس أحد؟ ولكن بكل جدية: أنت بنفسك ستطردين الدوق بمجرد أن تشعري بأنه أصبح خطرا عليك، أي عندما تبدئين في الاهتمام به. أما أنك تعجبينه فهذا شيء بديهي، لأن الجميع معجبون بك.

جوليا :

لقد سبق أن منعته من دخول البيت يا فرناندو.

فرناندو كراب :

هكذا؟ (يباغت لحظة.)

جوليا :

أجل، ولكنه رجع مرة أخرى.

فرناندو كراب :

عظيم! هذه علامة طيبة!

جوليا :

ونحن نتقابل الآن كثيرا، عدة مرات كل أسبوع. (فجأة وبعنف)

يجب أن تطرد هذا الرجل يا فرناندو!

فرناندو كراب :

هذا الرجل؟ هل قلت «الرجل»؟

جوليا :

قلت لك يجب أن تمنعه من دخول بيتك. لأنني لو اهتممت به حسب تعبيرك ...

فرناندو كراب :

أخ يا جوليا! لا بد أنك تريدين إثارة غيرتي! تخيلت هذه الأفكار لأنك تعيشين في عالم رومانسي، وهذا هو الذي يشوش دماغك! أعتقد أنك محتاجة لقضاء بضعة أسابيع في الريف، بعيدا عن المدينة. الهواء المنعش سيفيد صحتك. وإذا شعرت بالملل، طلبنا من الهزؤة أن يحضر إلينا. ولم لا؟ سنسافر غدا.

الدوق :

وسافرا في اليوم التالي إلى الريف.

7 (جوليا - فرناندو كراب)

جوليا :

ماذا أفعل هنا طول اليوم؟ هل أحدق الساعات الطويلة في الأبقار التي تسرح هناك على العشب بين الأحجار المتناثرة؟ وفي الكلاب التي تزوم وتزمجر لتتخلص من سلاسلها؟ وأظل أسمع الصليل وأنا مؤرقة في الليل على فراشي بعيون مفتوحة. والخادمات يزعقن طول النهار سواء في البيت أو في الحظائر أو هناك حيث يشطفن الغسيل في الماء. يزعقن حين يمر واحد من الخدم. بأصواتهن المعدنية القبيحة! ويستولي علي الخوف حين يلاحقني ألفونسو الأبله ويظل يرفع قبعته وهو يضحك ضحكته الخبيثة ...

فرناندو كراب :

أعصابك متوترة جدا يا جوليا.

جوليا :

لو كان معي على الأقل بعض الكتب أو المجلات! تقول لي دائما عليك أن تهتمي بالواقع. ولكن كل ما أراه يثير في نفسي الملل والتقزز. لو كان عندي كتاب واحد على الأقل! ما الذي منعني من إحضار عدد منها!

فرناندو كراب :

وهل منعتك أنا من ذلك؟ لقد وافقت على اقتراحي بالاستجمام عدة أيام هنا في الريف.

جوليا :

لأنني فهمت أن هذه هي رغبتك.

فرناندو كراب :

ولكني لا أحظر شيئا عليك! هل حدث أن حرمت عليك أي شيء؟ لست مستبدا ولا طاغية، إنني لا أمنع عنك شيئا ولا أطلب منك أي شيء!

جوليا :

أجل، ولا تطلب حتى أن أحبك!

فرناندو كراب :

ولكن يا جوليا. الحب لا يطلب! هناك أزواج يطلبونه من زوجاتهم. والزوجات أيضا يستجبن لطلبهم. يمثلن أمامهم المسرحية الحمقاء المألوفة التي ينتظرها الرجل من الزوجة المحبة: نبرة حلوة في الصوت، نظرة حالمة، اعترافات عاطفية مكرورة وبلا نهاية - أحيانا تبدو ضعيفة وباهتة - وإن لم تختف تماما، وأحيانا تتفجر فجأة فتتصاعد التنهدات والهمسات، غش ونصب! والأزواج يصدقون أيضا! نصب واحتيال! الحب لا يطلب من أحد!

جوليا :

ولكن هل تعتقد أنني أحبك؟

فرناندو كراب :

ليست المسألة مسألة اعتقاد، هذا هو الواقع!

جوليا :

الواقع! الواقع!

فرناندو كراب :

لقد رأيتني عندما التقينا لأول مرة. وعرضت نفسي عليك بكل أمانة منذ البداية، أنت الآن تعرفين حقيقتي وتعلمين من أنا، ولهذا السبب تحبينني. لا يمكن أن يكون الأمر غير ذلك. أما السفسطة عن هذا الموضوع فالأفضل أن تجتريها مع حبيب الروح ولكن ليس معي. يمكنك أن تستدعيه إلى هنا إذا شئت. (صمت.)

جوليا :

هل تصورت أنني لم ألاحظ؟! (تتردد.)

فرناندو كراب :

ماذا؟

جوليا :

أنك تذهب إلى إحدى الخادمات التي تعتني بالأبقار، الخادمة السمينة! واسمها سيمونا! لقد بدأت تكون علاقة معها. أعلم هذا تماما.

فرناندو كراب :

وأنا لم أكلف نفسي بإخفاء هذا الموضوع التافه.

جوليا :

في حظيرة الخيول، خلف باب غرفة الطعام، في مخزن المكانس والمقشات.

فرناندو كراب :

رائع!

جوليا :

سلوك بدائي بشع!

فرناندو كراب :

بدائي، أجل! أنا نفسي تربيت فوق أكوام الروث. لا تنسي هذا أبدا. وعندي ضعف لهذا. حيوان حسي بسيط، قذر إذا شئت، أجل قذر، ولكنه يعجبني! ألقيها في الجدول، بكامل ثيابها، وأكحت الأوساخ من عليها وتطوقني بذراعيها المبللتين السمينتين وتسحبني إلى الماء، وتظل تصرخ وتصيح من شدة الفرح، حتى تكاد تمزق طبلة أذني.

جوليا :

وهذا يعجبك؟

فرناندو كراب :

نعم. ولكن لماذا تعبسين بوجهك؟ ما شأنك أنت بهذا؟ أفصحي.

جوليا :

ربما كان شيئا جميلا. إنني أحاول أن أتخيله. وربما حاولت أيضا أن أتشبه بحيوانك الوحشي.

فرناندو كراب :

أنت يا جوليا؟ لا، لا، إلا أنت! يجب أن تبقي كما أنت جميلة، رقيقة، أنت كاملة!

جوليا :

وأنت كذاب! كلامك يبدو وكأنه اعتراف بالحب، ولكنه في الواقع إهانة.

فرناندو كراب :

آه من حساسيتك وأعصابك المتوترة! لقد تصورت أن حالتك النفسية تحسنت.

جوليا :

أتعتقد أن الرجل يستطيع أن يفعل كل شيء؟ يستطيع أن يغش ويخون؟!

فرناندو كراب :

ومن الذي يخون إذن؟

جوليا (صارخة) :

أنت!

فرناندو كراب :

جوليا! أنت تتصورين كل شيء كأنك تقرئين رواية غرامية. ولكنها الحياة العادية البسيطة. أنا لا أهتم أدنى اهتمام بالسمينة، وحتى لو كانت تعجبني اليوم، وربما غدا، فلن تعجبني بعد غد.

جوليا :

أهذا هو رأيك إذن؟

فرناندو كراب :

ورأيها بالضبط من رأيي. فهي تريد أن تتسلى معي. لكنني ما زلت زوجك يا جوليا.

جوليا :

ومعنى هذا أنني ما زلت زوجتك.

فرناندو كراب :

أخيرا رجعت لعقلك.

جوليا :

عقلك يعذبني يا فرناندو.

فرناندو كراب :

تأكدي أن سيمونا هي المستفيدة مني. فأنا أدفع ثمن كل شيء. وبالمهر الذي أعطيه لها ستحصل على زوج طيب. وعندما تزف إليه ومعها طفل مني، فسوف يفرح بغير شك لأني أنا أبوه، لأنه من صلب رجل مثلي!

جوليا :

اسكت! اسكت!

فرناندو كراب :

خسارة، الإرهاق العصبي ليس من السهل شفاؤه. يجب أن نبذل كل ما في وسعنا لكيلا يزداد سوءا.

جوليا :

لست رجلا يا فرناندو! لست رجلا!

فرناندو كراب (بتهكم) :

هذا كثير. كيف خطر هذا على بالك؟

جوليا :

لا. لست رجلا.

فرناندو كراب :

ما أغرب الأفكار التي تدور في رأسك! وما الذي يمنعني من أن أكون رجلا؟

جوليا :

سأخبرك فيما بعد.

فرناندو كراب :

حسن. أخبريني فيما بعد أو لا تخبريني على الإطلاق. احتفظي بالسر في دماغك الرومانسي.

جوليا :

سأسكت. (صمت.)

فرناندو كراب :

أفضل أن تصارحيني.

جوليا :

أعلم أنك لا تحبني.

فرناندو كراب :

آه! رجعنا للنغمة القديمة! أحب ولا أحب، هذا اللغو الفارغ! هذا كلام تقولينه لحبيب الروح. أريحيني أنا منه.

جوليا :

لست في حاجة للكلام. أنا أعرف أيضا بنفسي من تصرفاتك أعرف حقيقتك.

فرناندو كراب (ساخرا) :

هل أحضر لك وردا؟

جوليا :

آه. ورد! إنه يملأ الحديقة! أنت لا تمانع في دخول الدوق وخروجه من عندنا في أي وقت.

فرناندو كراب :

المهم أن هذا يتم برضاك.

جوليا :

أجل برضاي! أجل! أجل! أجل!

فرناندو كراب :

رجعت للانفعال!

جوليا :

ولماذا لا أرضى؟ إنه عشيقي! سمعت؟ لقد فهمت تماما ما أعنيه، نعم هو عشيقي. أنا أفعلها معه. فهمت. لا بطريقتك البدائية مع سيمونا. ويجب أن تعلم أنه عاشق متمرس جدا! (فرناندو كراب يلزم الصمت.)

جوليا :

فرناندو!

فرناندو كراب :

نعم.

جوليا :

لقد أقمت لي ذلك الكشك بنفسك.

فرناندو كراب :

نعم.

جوليا :

والأريكة المغطاة بملاءة من الحرير الهندي موجودة هناك! كنا ننزل الشيش بطبيعة الحال. (فرناندو كراب يواصل الصمت.)

جوليا :

فرناندو!

فرناندو كراب :

نعم.

جوليا :

نعم! نعم! نعم! نعم! أهذا كل ما عندك؟ ألن تقتلني؟ ألن تخنقني بقبعتك كما فعلت مع الأخرى؟ مع زوجتك المكسيكية؟ (صمت. فرناندو كراب ينفجر فجأة في ضحك مخيف.)

جوليا (صارخة) :

كف عن هذا!

فرناندو كراب (يكف على الفور عن الضحك، ثم يقول بهدوء) :

ليس صحيحا أنني قتلت زوجتي الأولى، وليس صحيحا كذلك أن الهزؤة هو عشيقك، أو أنه تجرأ ولمسك مرة واحدة بطرف إصبعه. أنت تكذبين علي لكي تثيري غضبي. تريدين أن تجعلي مني عطيل آخر. ولكنني لست عطيل ولن أكونه أبدا. إذا استمر بك الحال على هذا الهذيان وعجزت قواك بالتدريج عن مقاومته، فسوف يشتد قلقي عليك. وربما تحتم حبسك في مصحة مجانين.

جوليا :

أنت جبان!

فرناندو كراب :

ليس بيتي مسرحا! نحن لا نمثل مسرحية!

جوليا (صارخة) :

جبان! جبان! (تبكي. فرناندو كراب ينصرف.) (الدوق بعد مرور أسبوع على الحوار السابق طلب فرناندو كراب من زوجته الحضور إلى حجرة مكتبه، كان هناك سيدان في الانتظار. كذلك تمكن بطريقة شيطانية من استدعاء الدوق بوردا فيلا للحضور.)

8 (جوليا - فرناندو كراب - الدوق - طبيبان للأمراض العقلية والعصبية)

فرناندو كراب :

أقدم لك هذين السيدين اللذين لا تعرفينهما يا جوليا. إنهما البروفيسور أنريك ألفاريز والبروفسور الدكتور هرمان شتيتتر، كلاهما طبيبان للأمراض العصبية ... وللمجانين، جهابذة في تخصصهما. البروفيسور ألفاريز هو رئيس قسم الأمراض العصبية والنفسية في إحدى المصحتين اللتين تمولهما مؤسسة فرناندو كراب. إنني فخور بأنهما أحدث المصحات العلاجية في البلاد وأكثرهما تقدما من الناحية العلمية.

جوليا (للدوق) :

وماذا تفعل هنا يا خوان؟

الدوق :

طلب مني الحضور إلى هنا.

فرناندو كراب :

سيفحصك هذان السيدان ويقومان بعلاجك. رأسك ليس على ما يرام، لذلك اضطررت لترتيب هذه الزيارة. سوف تدركين هذا عندما تستردين صحتك وعافيتك.

جوليا (للدوق) :

كنا نتقابل دائما في أماكن أخرى يا خوان، هذا المكان لا يلائم المواعيد الغرامية.

الدوق :

إنني أشعر بالخجل! (ينظر للأرض.)

جوليا :

لماذا تحول بصرك عني؟ انظر إلي يا خوان! أنا جوليا!

الدوق :

أنا أعرفك تماما يا سيدتي الفاضلة.

جوليا :

لم تتعود الكلام معي بهذه الطريقة الرسمية!

فرناندو كراب (للطبيبين) :

لعلكما تلاحظان، يا سادتي، أن رأسها ما يزال يتشبث بهذه الفكرة الثابتة. بدأ الأمر بشكل غير ملحوظ إطلاقا، لكن حالتها ساءت بالتدريج حتى أصبح الكلام معها متعذرا. وتعذر علي أنا نفسي أن أتكلم معها كلاما معقولا، مع أني أنا زوجها. إنها تزعم، بل تصر باستمرار، على أن هذا السيد الموجود هنا، ولكن ماذا أقول؟

جوليا :

أجل، هو عشيقي! هذا صحيح، وأنا أعترف بهذا. إذا كنت مخطئة فليتكلم!

فرناندو كراب :

سمعت، أيها الدوق، ما تؤكده زوجتي. ساعد المسكينة بأن تقول الحقيقة. يجب أن يكون للطبيبين المختصين فكرة عن الحالة. وأنا مضطر أن أسألك بصراحة كاملة: هل كانت لك أي علاقة حميمة مع زوجتي؟

الدوق :

طبعا لا! لا! أعوذ بالله!

فرناندو كراب :

أرأيتم يا سادتي!

جوليا :

ما هذا الذي تقوله؟ هل تنكر كل شيء؟

الدوق :

أنا لا أذكر أبدا أنني ...

جوليا :

هل تنكر ما كان يجري بعد الظهر في الكشك؟ ساعات العصر الطويلة حتى الغسق ... عندما كنا ننام على الأريكة متعانقين. عاريين. وكيف رجعت في إحدى الليالي لأنك لم تصبر على البعد عني، ولا أنا أيضا صبرت، ثم بقيت حتى طلوع الصبح، حتى اللحظة الأخيرة عندما عاد فرناندو من سفره وأخذ ينادي علي من بئر السلم، بينما هربت أنت وقفزت من الشرفة. وسقط زرار منك لأنك كنت متعجلا! سقط من سروالك!

الدوق :

سيدتي الفاضلة ...

جوليا :

وعثر فرناندو عليه!

فرناندو كراب :

أنا عثرت على زرار؟ أرأيتم يا سادة ...

الدوق :

تمسكي بالعقل يا سيدتي الفاضلة! عودي إلى نفسك! أتوسل إليك!

جوليا :

أنت تنظر إلي بفزع شديد، وكأنك لا تعلم شيئا على الإطلاق عن الموضوع الذي أتكلم عنه!

الدوق :

أرجوك أن تهدئي نفسك! أرجوك!

جوليا :

وهل أكذب؟

الدوق :

الكذب ... ليس هو الكلمة الصحيحة.

فرناندو كراب :

حالتك للأسف ...

الدوق :

أجل، كما تقول!

فرناندو كراب : ... حالتك للأسف لا تسمح لك بالتفرقة بين الواقع والوهم. ألم تقصد هذا يا دوق؟

الدوق :

أنا في غاية الأسف للحالة التي وصلت إليها زوجتك، يا للمصيبة! ليتني أستطيع مساعدتها!

فرناندو كراب :

كف عن هذا النواح! سيقوم الطبيبان بمساعدتها، لقد استدعيتهما لهذا الغرض، ويمكن الاعتماد عليهما ...

جوليا :

نهارك سعيد يا بروفيسور ألفاريز، نهارك سعيد يا سيدي الدكتور هيرما نشتتر. الغريب أنني لم ألاحظ وجودكما إلا الآن! ما أجمل أن تكون لديكما النية في مساعدتي!

فرناندو كراب (يصفق بيديه) :

برافو!

جوليا :

ولكنكما لا تستطيعان مساعدتي. (للدوق) : سؤال أخير يا خوان! أظن أنني لا أتوهم أنك كنت تتردد على بيتنا ثم أكثرت من زيارتنا في الفترة الأخيرة؟

الدوق :

لا، أنت لا تتوهمين ذلك يا سيدتي الفاضلة.

جوليا :

وما الذي كنا نتحدث عنه باستمرار؟ دعني أتذكر. رأينا قطة تقفز على الجدار فأخذنا نتناقش عن الحيوانات وعن القطط بوجه خاص: هل لها روح؟ وإذا كان لها روح فهل هي خالدة مثل روح الإنسان؟ تناقشنا حول هذا الموضوع ثم رجعنا لبعض الفلاسفة وقلبنا في أعمالهم المصفوفة على رفوف المكتبة ... لم نصل فيما أعتقد إلى أي نتيجة، أم تراني نسيت هذا أيضا؟

فرناندو كراب :

تناقشتما عن قطة ... نعم، نعم! هذا شيء يمكن تصديقه!

جوليا :

كما تناقشنا عن الحياة بعد الموت ... ألم أقل لك إنني أشعر أحيانا بأنني مت بالفعل؟

فرناندو كراب :

ما هذا الكلام؟ أنت معنا هنا بدمك ولحمك - جوليا الممتلئة بالحياة. زوجة فرناندو كراب.

جوليا (مشيرة إلى الدوق) :

وهذا؟

فرناندو كراب :

قل لها يا دوق لماذا كنت تأتي إلى بيتنا بانتظام؟

الدوق :

طبعا بدافع صداقتي لك يا سيد كراب.

جوليا :

ماذا؟ أأنتما صديقان؟

فرناندو كراب :

لقد أنقذت قصره من الانهيار، أعني ذلك الصندوق العفن القديم. هذا هو الذي يقصده، أليس كذلك؟

الدوق :

أجل.

فرناندو كراب :

زوجتي هي التي طلبت مني ذلك، ولولا هذا ما فعلت.

الدوق :

وكنت بطبيعة الحال أتردد أيضا على بيتكم بسبب إعجابي بالسيدة الفاضلة التي تسمح لي أحيانا بالتحدث معها. لا يعقل أبدا أن يسيء بوردا فيلا استغلال الثقة التي وضعها فيه صديق أو أن يفكر في خيانة مثل هذا الصديق الشهم.

فرناندو كراب :

صديق مثلي؟ أليس هذا هو الذي تقصده؟

الدوق :

أجل مثلك.

فرناندو كراب :

ماذا؟ هل تصورت أنني عملت لأمانتك أي حساب؟ أو أنني وضعت لها أي اعتبار؟ إن أخلاقك لا تعنيني على الإطلاق! وهي غير موجودة بالنسبة لي. إنك توجهها كما تشاء، مرة هنا ومرة هناك، حسب الاتجاه الذي تهب منه الريح، هكذا أنت! أعرف هذا تماما، وأعرف أيضا أن الكل مثلك. كل الذين لا يعيشون إلا على رءوسهم ويدعون أنهم يملكون حكمة العالم. لتكن إذا شئت أبرع النصابين أو أفتك الفاتكين، لا المخلوق البائس الذي أراه الآن أمامي، مع ذلك لن تستطيع أن تغشني. لم يخلق ذلك الذي يستطيع أن يخدع فرناندو كراب. هل فهمتني؟ هل هذا هو الذي أردت أن تقوله؟

الدوق :

أجل ... أردت أن أقول شيئا يشبهه.

فرناندو كراب :

يشبهه أم هو بالضبط؟

الدوق :

أجل، بالضبط.

جوليا (تنفجر صارخة) :

وأنا المجنونة؟ أنا؟ يحبسونني في مصحة المجانين لأنك خائف من قول الحقيقة، أنت أيها الجبان! لقد اشتراك بماله. وها أنت أمامي تزحف على الأرض. لسانك يتدلى من فمك ولعابك يسيل منه لسان ضخم شره! ازحف على بطنك إليه، فلسانك يشتهي أن يلعق قدميه ، كم يرتجف من النهم إليها. سيخلع على الفور حذاءه ويمد إليك قدميه القذرتين، قدميه اللتين وقف بهما فوق أكوام الروث في الحظيرة. هيا العقهما! هيا العقهما!

فرناندو كراب (للطبيبين) :

سادتي. لا بد أنكما قد شخصتما الحالة. ساعداها من فضلكما، ابدآ العلاج، افعلا كل ما تستطيعان.

9 (جوليا - طبيبا الأمراض العقلية)

الطبيب الأول :

مأساة فظيعة! كيف نتصرف يا بروفيسور ألفاريز؟

الطبيب الثاني :

طاطا! يا دكتور هيرمانشتتر!

الطبيب الأول :

أظن أن «طاطا» لن تساعدنا للأسف كثيرا يا بروفيسور ألفاريز.

الطبيب الثاني :

ما العلاج الذي تقترحه؟

الطبيب الأول :

وأنت؟

الطبيب الثاني :

هل الصدمة الكهربائية في رأيك مناسبة لهذه الحالة؟

الطبيب الأول (بتهكم) :

طاطا!

الطبيب الثاني :

ولكن الحذر واجب، ورأيي ألا نبدأ مباشرة. ما رأيك في اللجوء للأدوية؟

الطبيب الأول :

المهم أن نبدأ بتهدئة أعصابها، هذا هو اقتراحي.

الطبيب الثاني :

لا داعي لهذا؛ فالمريضة هادئة جدا! (لجوليا)

سيدتي الكريمة الفاضلة. (جوليا لا تتحرك.)

الطبيب الأول :

إنها لا تسمعنا.

الطبيب الثاني :

طبيعي أن تحس بالإرهاق بعد الانفعال الشديد، وهو في الواقع أمر عادي.

الطبيب الأول :

عادي جدا!

الطبيب الثاني (لجوليا) :

سيدتي الفاضلة! (جوليا لا تستجيب.)

الطبيب الأول :

لدي انطباع، يا بروفيسور ألفاريز، بأن رأينا واحد في هذه الحالة.

الطبيب الثاني :

وما هو؟

الطبيب الأول :

لست مضطرا للإفصاح عنه.

الطبيب الثاني :

أجل، لست مضطرا لذلك. إنني أقدر موقفك تماما. ولكن إذا لم تكن الحالة مرضية، فهل من حقنا أن نضعها تحت المراقبة؟

الطبيب الأول (ساخرا) :

طاطا!

الطبيب الثاني :

لا بد أن أصارحك بنفوري من هذا الموضوع، أشعر في دخيلة نفسي بأنني غير مستريح!

الطبيب الأول :

ولكننا مضطرون لهذا.

الطبيب الثاني :

لا تعذبني بهذا الاضطرار!

الطبيب الأول :

أنا أعذبك؟ كيف خطر هذا على بالك؟ أنا؟

الطبيب الثاني :

شيء فظيع!

الطبيب الأول :

ولكن إذا أخرجناها من المصحة، إذا قلنا إنها ليست مريضة على الإطلاق؟

الطبيب الثاني :

فظيع.

الطبيب الأول :

سيقتلها زوجها ويقتل معها هذا المدعو بوردا فيلا.

الطبيب الثاني :

أجل، ومن جهة أخرى: لدي ضميري المهني!

الطبيب الأول :

أنت تدرك بغير شك أننا نمنع في هذه الحالة وقوع جريمة أسوأ!

جوليا :

لست طبيبا!

الطبيب الأول :

رائع! هل سمعت يا بروفيسور ألفاريز؟ أنا لست طبيبا!

الطبيب الثاني :

رائع! هذا يعفينا من المسئولية!

جوليا :

أنت عطيل!

الطبيب الأول :

أنا عطيل؟

جوليا :

سأهمس في أذنك بأغنية (تغني) : «البنت البنت الشغالة جلست في الصبح الباكر

جلست تحت الصفصافة وانطلقت تشدو بغناء ساحر.»

لا بد أنك تعرفها؟ فهي ليست من اختراعي!

الطبيب الأول (للطبيب الثاني) :

اسمع! حاول أن تسمع!

جوليا :

معذرة لقد أخطأت! الواقع أن دماغي مشوش. الدليل على هذا أنني حسبتك زنجيا! آه يا جوليا! يا جوليا! افتحي عينيك! (الطبيب الأول يستدير نحو جوليا ... إنه هو فرناندو كراب، ثم لا يلبث أن يرجع لوضعه الأول.)

الطبيب الثاني :

يتحتم علينا في الواقع أن نقرر بأن فرناندو كراب هو المجنون الحقيقي. يجب علينا أن نؤكد هذا بصوت مرتفع وبكل حزم.

جوليا :

أعترض على هذا! إنه أخبث بكثير من عطيل! عطيل مجرد حيوان بليد، والمشهد الحاسم (في المسرحية)

يوضح هذا تماما، أليس كذلك يا خوان؟ أنت الآن تلزم الصمت. تنكرني. ألم نتجاذب أطراف الحديث باستمرار في الكشك؟ نتكلم عن المشكلات النفسية باستخدام الجمل الشرطية؟ لقد انتقم فرناندو كراب لنفسه بطريقة مختلفة كل الاختلاف عن عطيل. هل أنا الآن ميتة؟ إنه لم يخنقني؛ لأنه لا يمس بأذى أي شيء يملكه. وهو لم يقتلك أنت أيضا يا خوان؛ فأنا أراك الآن أمامي. عفوا يا بروفيسور ألفاريز، أم تراني أخطئ مرة أخرى. اكشف نفسك يا جبان! يا جبان! يا جبان! (الطبيب الثاني يستدير نحوها. يتبين أنه هو الدوق.)

الطبيب الثاني (الدوق) :

جوليا! أنا يائس يأسا فظيعا يا جوليا! حاولت أن أعبر عن يأسي، وأن أعطيه شكلا ... شكلا يمكن أن أسميه مرثية ... لكن الألم الذي يوحي إلي بالصور السوداء الثقيلة، يمنعني في نفس الوقت من تقييدها في حروف على الورق ... فاض بي الحزن حتى تعذر علي التعبير عنه بالكلمات - كل شيء ينضح بالألم - أخشى على نفسي أن أتجمد! أنت تعرفين استعدادي التعس للإصابة بنوبات الإغماء، جوليا ... حبيبتي جوليا، من الذي سيفهمني لو فقدتك؟ أنت وحدك!

جوليا :

وأنت أيها الخائن! لقد تخليت عني! أنت المسئول عن حبسي هنا (صارخة)

في مصحة المجانين!

الطبيب الثاني (الدوق) :

آه يا جوليا المسكينة! يا روحي المسكينة!

الطبيب الأول :

لو أبقيناها هنا مدة أطول، فربما تمرض بالفعل يا بروفيسور ألفاريز.

جوليا :

سيدي البروفيسور ألفاريز. لقد توصلت لحقيقة لا بد أن أخبرك بها: هذه الزوجة المكسيكية.

الطبيب الأول :

من تقصدين؟

جوليا :

لا تدع الجهل بالموضوع! لقد جمعت بنفسك كل التقارير وقرأتها علي! أقصد زوجة زوجي الأولى في المكسيك، لقد تبين لي الآن بوضوح أنه لم يلجأ إلى القوة لقتلها، إذ لم يكن في حاجة لاستخدام القوة في قتلها! لقد صحوت من غيبوبتي وفتحت عيني. إنه هو الذي أوصلها إلى الحالة التي دفعتها للموت من تلقاء نفسها.

الطبيب الأول :

آها!

جوليا :

هل تحبني، يا سيادة البروفيسور ألفاريز؟

الطبيب الأول :

عفوا؟

جوليا :

الجميع يحبونني لجمالي. سأقول لك الآن لماذا أحب زوجي، لماذا أحب فرناندو كراب، لا تهرب أرجوك! (الطبيبان يلوذان بالفرار.)

جوليا :

يا للدهاء الذي قهر به هذا الدوق بوردا فيلا وجعله يكشف أمامي عن تعاسته المزرية! كنت عمياء، حكمت على نفسي بالعمى! أما هو! أما هو فقد أنقذني، لقد عرف كل شيء ورأى كل شيء ودبر خطته الشيطانية. هل قلت «الشيطانية» يا جوليا؟ أجل، هذا هو الذي قلته، ولم تزل الكلمة معلقة فوق رأسي في الهواء! لقد أنقذني ملاك شيطاني من السقوط في الهاوية؛ لهذا أحبه! أحبه.

10 (جوليا - فرناندو كراب) (يدخل فرناندو.)

جوليا :

فرناندو، سامحني! (تسقط منهارة على الأرض.)

فرناندو كراب :

وعلام أسامحك؟

جوليا :

سقطت على الأرض فجأة، أشعر بضعف شديد، لقد قاسيت طويلا من المرض.

فرناندو كراب :

لا، لا، يجب أن تنهضي، كل شيء على ما يرام. (يرفعها من على الأرض.)

جوليا :

سامحني!

فرناندو كراب :

علمت من أطباء المصحة أنك عوفيت تماما من حالة الذهان التي أصابتك.

جوليا :

كنت مجنونة! مجنونة جنونا فظيعا! وكم كذبت في أثناء جنوني! وكل هذا لأثير غيرتك! لهذا السبب وحده! هل تصدقني؟

فرناندو كراب (في غاية البرود) :

لقد سألتني مرة إن كنت حقا قد قتلت زوجتي الأولى. وسألتك هل يمكنك أن تصدقي هذا، هل تذكرين ردك علي؟

جوليا :

قلت لك: لا، لا أصدق، ولن أصدق ذلك أبدا.

فرناندو كراب :

كذلك أقول لك اليوم: كما لم تصدقي أنني ارتكبت هذه الجريمة، كذلك لم أصدق أبدا تلك الحكاية مع الدوق.

11 (الدوق)

الدوق (يقرأ خطابا) : «لعلك قد عرفت، يا عزيزي الدوق بوردا فيلا، أن زوجتي قد غادرت مصحة الأمراض العقلية وهي في أتم صحة وعافية، وهي تريد أن تتحدث معك، تعال لزيارتنا بعد غد الخميس لكي نسوي المسألة، زوجتي ترجوك رجاء حارا، وأنا أصر على حضورك، أنا واثق من أنك ستحضر، يمكنك أن تتصور العواقب الوخيمة التي قد تترتب على عدم حضورك، فأنت تعرفني جيدا، فرناندو كراب.»

12 (جوليا - فرناندو كراب - الدوق)

فرناندو كراب :

من فضلك أحضري الشاي بنفسك يا جوليا! واصرفي الخادمة ورئيس الخدم أيضا، يمكنهما أن يأخذا اليوم إجازة، والمساء كله.

الدوق :

شاي؟

فرناندو كراب :

لا، لا، لا داعي للقلق! أنا في أتم صحة ولا أشكو من أي تعب في المعدة، أنت بالطبع تحب اللقاء على الشاي، لهذا قررت أن تشرب الشاي، هل أنت مستريح في مكانك؟ يمكنك بكل سرور أن تجلس على الأريكة، جوليا لن تعترض بكل تأكيد إذا رأتك على ملاءتها الهندية الجميلة.

جوليا :

أبدا، أبدا، ليس لدي أي اعتراض.

الدوق :

أنا مستريح هنا تماما، شكرا لكما. (صمت.)

فرناندو كراب :

يا للهدوء البديع! لولا هذا الصوت الغريب الخافت، أخ ... إنه فنجانك الذي يحتك بالطبق! (الدوق يعدل بسرعة وضع الفنجان.)

فرناندو كراب :

معذرة فأذني شديدة الحساسية، لم أقصد أن أسبب لك أي حرج.

الدوق :

وما وجه الحرج إذن؟ لا، لا!

فرناندو كراب :

بل سببته لك! فأنت إنسان مثقف، ورأيك في أنني مخلوق فظ، ولكن لا بأس. جوليا، لقد صببت الشاي لضيفنا الدوق وحده، لماذا لم تصبي لي أيضا؟ أريد أن أتناول جرعة قبله ، حتى يطمئن السيد الدوق إلى أن الضيوف يمكنهم أن يستمتعوا في بيتي بكل ما يقدم لهم دون أي خوف أو قلق.

جوليا :

أعلم أنك تشربه بالسكر! (تضع السكر في فنجان الدوق.)

فرناندو كراب :

أنا في العادة لا أقرأ الروايات والكتب الأدبية وما أشبه، بل أكتفي أحيانا بقراءة الجرائد اليومية وأخبار الحوادث. بهذا يعرف الإنسان ما يدور في الدنيا. أليس كذلك؟

الدوق :

لا أدري! لا أستطيع أن أحكم.

فرناندو كراب (لجوليا بلهجة مرحة) :

هل رأيت كيف تقلص وجهه! إنه لا يطيق كلامي، هذا المثقف الحساس! في هذه الأخبار نقرأ أحيانا عن بعض الجرائم التي لا تصدق ونتعجب من أحوال البشر، أنا نفسي أتعجب منها مع أني أعتقد أنني أعرفهم بحكم أنني من رجال الأعمال، ولكن لا يستطيع أحد يا سيادة الدوق أن يخدعني.

الدوق :

لا، بالتأكيد لا.

فرناندو كراب :

ثم إنك تعتبرني كذلك إنسانا قادرا على كل شيء!

الدوق :

هناك حدود، هناك حدود معينة!

فرناندو كراب :

الناس كلهم يمكن أن يباعوا ويشتروا، أم لك رأي آخر؟

الدوق :

الحقيقة .. أرجو ألا يكون هذا صحيحا!

فرناندو كراب :

بعضهم يملك العقل، والبعض يملك المال.

جوليا :

يجب التسامح مع الفنانين في بعض تصرفاتهم.

فرناندو كراب :

ومن الذي يتكلم هنا عن الفنانين؟ تذكرت! سمعت أنك تنظم الشعر للتسلية.

الدوق :

إنني أحاول في بعض الأحيان .. أن أعبر عن نفسي.

فرناندو كراب :

وهذا هو الذي أفعله أنا أيضا! إنني أقول ما أريد.

الدوق :

أعني أنني أقوله شعرا .. في إيقاعات حرة.

فرناندو كراب :

استمر في ذلك على راحتك! وإذا جمعت القدر الكافي، فسوف أطبعه على نفقتي.

الدوق :

سيشرفني هذا .. شرفا عظيما.

فرناندو كراب :

شرف ... شرف! كلام فارغ، أنت بالطبع لا تجد أحدا يطبع ما تقوله!

الدوق :

أبدى البعض قدرا من الاهتمام .. وإحدى دور النشر!

فرناندو كراب :

وهذا أفضل! بهذا أشتري الكمية كلها وتخزنها، كم نسخة هي إذن؟ في كشك جوليا، عظيم جدا! هل يسعدك هذا؟

الدوق :

أشكركم على اهتمامكم.

فرناندو كراب :

ولكن ينبغي عليك أن تفكر في كتابة روايات بوليسية! قصص عن جرائم القتل! سيكون الإقبال عليها أشد!

الدوق :

ليس هذا للأسف هو الجنس الأدبي الذي أحبه.

فرناندو كراب :

تصور أنني قرأت مؤخرا عن زوج ذبح عشيق زوجته، ثم فصل رأسه الذي ينز بالعقل والحكمة فصلا تاما عن جسده.

الدوق :

من الواضح أنه مصاب بمرض عقلي!

فرناندو كراب :

ليكن الأمر كذلك، المهم أنه قام بعد ذلك بتقطيع الجسد قطعا صغيرة وعلف بها الدجاج. لم يعثر رجال الشرطة إلا على الرأس.

الدوق :

شيء فظيع!

فرناندو كراب :

الحقيقة أنه كان يملك مزرعة للدواجن ... وقصة أخرى لا أريد أن أضايقك بها.

الدوق :

أبدا، أبدا! تفضل.

فرناندو كراب :

الواقع أن جوليا تأثرت تأثرا شديدا؛ فهي في العادة لا تهتم بقراءة التقارير التي تنشر في صحف الحوادث والفضائح .. وهذا بالطبع شيء لا بأس به، فهي تفضل أن تشغل نفسها بما هو أجمل. إنها محاولة لقتل الزوج، وهذا هو الذي كشف عنه التحقيق. ولكن الزوجين تصالحا بعد ذلك وتمكنا من إرسال العاشق، وهو بالمناسبة حلاق الزوجة، إلى الشيطان، مغزى القصة: شنق الحلاق نفسه.

الدوق :

يا سيد كراب .. أرجو ...

فرناندو كراب :

لا بد أنني أثقلت عليك! أم بدأت تشعر بالقلق لأنك لم تعرف حتى الآن لماذا رجوناك أن تشرفنا؟ جوليا!

جوليا :

طلبت من زوجي أن يدعوك للحضور لأنني وجدت من واجبي أن أعتذر لك عن الإهانة الشديدة التي وجهتها إليك.

الدوق :

ولكني لا أعرف ماذا تقصدين بكلامك هذا يا جوليا! فأنت لم تسيئي إلي أبدا!

فرناندو كراب :

يستحيل على إنسان مثقف مثلك، يا سيادة الدوق بوردا فيلا، ألا يدرك حقيقة الموقف على الوجه الصحيح!

جوليا :

أعترف بأنني وضعتك في موقف شديد الحرج. أنا آسفة غاية الأسف.

الدوق :

إنكما تسببان لي الارتباك الفظيع .. وأنا لا أعرف في الواقع ...

فرناندو كراب (يقاطعه) :

حذار! (الدوق يصاب بالرعب ولا يدري ماذا يقول.)

جوليا :

أنت إنسان في غاية الأدب والذوق ولا تريد أن تسبب لي أي حرج.

فرناندو كراب :

لا بد أنك تقدر أن الإنسان الذي يلحق أذى بإنسان آخر ويشعر نتيجة ذلك بالإحساس بالذنب تجاهه، لا بد أن يطلب منه أن يسامحه ويصفح عنه.

الدوق :

طبعا يا سيد كراب، ولكن أي أذى تقصد؟ وما هو الظلم الذي وقع علي؟

جوليا :

لقد كنت في غاية المرض، مرض المخ! لهذا أطمع في أن تعفو عني.

الدوق :

أرجوك يا جوليا ألا تعذبي نفسك.

جوليا :

بل أريد أن أتكلم، أن أستجمع كل شجاعتي وأنطق بكل شيء ولا أحاول أن أجمل أي شيء، حتى إذا صفحت عني، شعرت شعورا حقيقيا بأنني أصبحت حرة.

فرناندو كراب (بفظاظة) :

كف عن مقاطعتها!

جوليا :

لقد وقعت تحت تأثير نوبة الجنون التي أصابتني فادعيت أنك لاحقتني وغازلتني وهمست في أذني بالاعترافات الحارة بحبك لي، كما زعمت أنك نجحت في إذكاء لهيب عواطفي نحوك.

الدوق :

أنت قلت هذا يا جوليا؟

فرناندو كراب :

أجل قالته لي! والآن يبدو عليك الرعب!

جوليا :

وادعيت أخيرا أنني استسلمت لك في النهاية. آه من تلك الحالة التي وصلت إليها! كانت حالة جنون كامل! كيف أمكنني أن أقول شيئا كهذا؟

الدوق :

آه! يؤسفني هذا غاية الأسف.

فرناندو كراب :

أجل، لقد تعرضت لموقف مؤلم غاية الألم.

جوليا :

وقلت أيضا ما هو أكثر من هذا! قلت إننا ارتكبنا أفعالا فاضحة جدا، فوق هذه الأريكة نفسها! لا مرة واحدة، بل مرات عديدة، وبصورة متكررة. وقلت إنك كنت تحضر أحيانا بالليل، عندما يكون زوجي على سفر. إنني أعترف الآن ببشاعة كل ما صدر عني، وبأنني وضعتك في موقف مؤلم ومحرج غاية الحرج! كانت فكرة ثابتة تسلطت على رأسي، يؤسفني أنك تحملت الأسئلة التي وجهت إليك في حضرة الأطباء عن العلاقة المزعومة بيننا. لا بد أنها كانت لحظة مريعة بالنسبة لك، ومع ذلك أرجوك أن تسامحني إذا استطعت، أتوسل إليك. (صمت.)

فرناندو كراب :

هل تقبل هذا الاعتذار؟

الدوق :

يجب أن أعترف ...

فرناندو كراب :

نعم أو لا؟

الدوق :

نعم، إنني أسامحها، أسامحكما معا.

فرناندو كراب (في غلظة) :

انتبه لما تقول! أنت لم تسئ إلي حتى أسامحك.

الدوق :

لا لم أفعل، هذا صحيح.

فرناندو كراب :

ألاحظ أن أعصابك منفعلة، هدئ نفسك من فضلك. لقد سويت المسألة تماما، أرأيت يا جوليا، كان هذا هو عين الصواب. (للدوق)

ليس مما يلائم طبعي وخلقي أن أداري على الأشياء الكريهة.

جوليا :

وأنا في غاية السعادة يا فرناندو.

فرناندو كراب :

لو سولت لك نفسك أن تصور المسألة بشكل آخر يا سيادة الدوق ...

الدوق :

لن أفعل قطعا!

فرناندو كراب :

من يدري؟ إنك تتسكع في كل مكان وتثرثر .. ربما في «إيقاعات حرة» .. أنصحك بأن تكف عن هذا. إنك تعرفني.

جوليا :

آه! هذه النافذة المفتوحة، أسمع من خلالها زقزقة العصافير بين الأشجار!

الدوق :

أعتقد أن وجودي لم يعد مرغوبا فيه! (يريد أن ينصرف.)

فرناندو كراب :

انتظر! لي رجاء آخر عندك يا سيادة الدوق بوردا فيلا. تعال لزيارتنا كما تشاء! حتى لو كنت غائبا عن البيت، فلا يصح أن يزعجك هذا. لو قطعنا العلاقة التي بيننا فجأة لأساء هذا إلى سمعتنا وأعطى الفرصة لمروجي الإشاعات. أليس كذلك يا جوليا؟

جوليا :

أجل يا فرناندو.

فرناندو كراب :

ربما لديكما أسرار تقولانها لبعضكما .. بعيدا عن الأنظار .. ولا تحبان أن تفصحا عنها في حضوري .. لهذا أترككما الآن! (ينصرف.)

13 (جوليا - الدوق) (جوليا والدوق يجلسان صامتين. الدوق ينظر في قلق إلى الباب.)

جوليا :

لا تتلفت دائما إلى الباب!

الدوق (هامسا) :

هل يمكن أن يتنصت علينا؟

جوليا :

لا داعي للهمس!

الدوق :

أحس أن صوتي هرب مني.

جوليا :

ليس من طبع فرناندو كراب أن يسترق السمع وراء الأبواب ويتنصت على ما نقول!

الدوق :

بعد كل ما جرى ...

جوليا :

صدقني يا خوان، لا داعي للقلق.

الدوق :

تقولين لي لا داعي للقلق؟ أنت يا جوليا! إنني الآن لا أعرف من أنا! لو لم تكوني جالسة أمامي، ولولا أنك تنادينني يا خوان، بهذا الاسم الذي أعرفه والذي أربطه بشخص معين يلقب بخوان دوق بوردا فيلا، شخص كنت أعتقد أنني أعرفه، لولا هذا ما عرفت ... (جوليا تبتسم.)

الدوق :

إنني أحمل في نفسي ذكرى هذا الشخص، ليس معنى هذا أنني أعجبت به إعجابا خاصا أو أنني قدرت جميع خصاله، لا، ليس هذا ما أعنيه! لكنه على أية حال لم يكن في نظري شخصا مثيرا للتقزز. أما الآن يا جوليا - أما الآن فإنني أتقزز من نفسي، وأشعر أن نفسي تتقزز مني! (يبكي)

ها أنت ترين بنفسك المصير الذي انتهيت إليه، المصير الذي آل إليه هذا الإنسان الذي سبق أن أحببته (جوليا صامتة.)

الدوق :

الحزن الفاجع يقهرني.

جوليا :

لا يا خوان.

الدوق :

هل بقي لديك أي أمل؟ هل يمكنك بعد هذه التمثيلية المشحونة بالقبح والكذب والافتراء أن تتصوري بريق أمل في أن نرجع مرة أخرى لأنفسنا، وأن تبعث في مشاعرنا الصافية أنفاس الحياة من جديد؟ بعد هذا المنظر البشع!

جوليا :

أي منظر يا خوان؟

الدوق :

ما زلت أراني وأنا أقف هناك، تعسا مدحورا أعزل من كل سلاح، وأرى الطبيبين يؤديان دور الشاهدين اللذين فهما التمثيلية الملعوبة تمام الفهم، وأدركا كيف أكرهت على التنكر لك؛ هذا المنظر البشع الفظيع الذي أهنت فيه أحط إهانة، كما أهنت أنت أيضا معي.

جوليا :

مسكين يا خوان!

الدوق :

تصورت بعدها أن عيوننا لن تتلاقى أبدا.

جوليا :

هل تصورت هذا؟

الدوق :

يا لقوتك الخارقة، يا لقوتك!

جوليا :

أجل، لأنها مستمدة من حبي.

الدوق :

إنك ... إنك تهدين لي الحياة من جديد! تهبينني الأمل! تمنحينني كل شيء.

جوليا :

كم كنت غبية! وها أنا ذا أفهم أخيرا كل شيء، بعد أن سقطت عني الأخطاء وزال التشوش والاضطراب.

الدوق :

أخشى أن يكون واقفا وراء الباب يتنصت علينا! كيف أصدق يا جوليا أن يجبرك أحد على طلب الصفح مني؟

جوليا :

أنا نفسي وجدت أن هذا شيء بديهي.

الدوق :

جوليا، أنا الآن عاجز عن فهمك.

جوليا :

أظن أن كل ما حدث كان يوافق رغبتك، لقد سبق أن أكدت بأن حكاية الحب كلها لم تكن إلا وهما من جانبي، كما أنني اعتذرت لك أخيرا عن خطئي. كنت على حق، وليس هناك ما يدعوك للقلق.

الدوق :

ولكن يا جوليا! أتريدين الآن أيضا ونحن وحدنا تماما ولا أحد يجبرنا على الكذب، أتريدين أن تنكري أنك عرفت حقيقة مشاعري نحوك، وأنك استجبت لها وكنت حبيبتي؟

جوليا :

كف عن هذا الكلام أرجوك.

الدوق :

لكنني متأكد منه! متأكد منه!

جوليا :

هذا هو الذي تتصوره يا عزيزي خوان. وهو الذي أدى بك للجنون. (تضحك. الدوق يفر مذعورا.)

فرناندو كراب :

أثبت فرناندو كراب أنه هو المنتصر، وهذا أمر بديهي. فقد أحبته بكل ما في قلبها من قوة، ثم جاء الموت وأخذها، أخذ جمالها أولا، ثم أخذ شجاعتها، وأخيرا أخذ أنفاسها.

14 (جوليا - فرناندو كراب)

فرناندو كراب :

لقد أسقطت المشط من يدك.

جوليا (هامسة) :

أخ! لم ألاحظ هذا على الإطلاق.

فرناندو كراب :

هو على كل حال مجرد شيء خفيف الوزن، وهو يلتوي في يدي بمجرد أن أقبض عليه.

جوليا (هامسة) :

أعطني إياه.

فرناندو كراب :

وهذا شيء يوافق طبعي. في إمكاني أن أسوي به قصتي.

جوليا (هامسة) :

أجل.

فرناندو كراب :

لم تضحكي لما قلت، في إمكاني أيضا أن أتحكم في تقاطيع وجهي وأرسم وجوها مختلفة! انظري: هذا مثلا قرد عجوز ... وهذا أسد مزمجر! الحيوانات فقط هي التي تخطر على بالي. مع أن هناك ما يكفي من الوجوه البشرية المفتعلة! يكفي أن تتذكري ضحكة ألفونسو الذي كنت دائما تخافين منه! لقد حكى لي الدكتور هرما نشتتر عن مجنون كان من عادته أن يجوب الشوارع ويراقب ملامح الناس وكل تعبيرات الوجوه ويطبعها على ذاكرته، نوع من القهر أو الحصر! ثم يختبئ في دهليز مظلم ويحاكيها جميعا في الخفاء لكي يستطيع أن يتحرر منها، مثله مثل شخص يتقيأ طعاما فاسدا، حاولي أن تتصوري هذا! ها هو مشطك.

جوليا (هامسة) :

لا أطيق أن يسقط الشعر على وجهي.

فرناندو كراب :

أنت تستحقين مشطا آخر، مشطا مطعما بالألماس.

جوليا (هامسة) :

إنني أموت يا فرناندو.

فرناندو كراب :

لا، لا، لا! كفي عن هذا الهراء! تعلمين أنني لا أطيق هذا.

جوليا (هامسة) :

انظر فقط إلى وجهي.

فرناندو كراب (صارخا) :

لن تموتي! هذا مستحيل! أنت ملكي! وأنا لا أتنازل عنك! لا أتنازل عنك لأي مخلوق! ولا للموت نفسه، هذا الوغد الملعون!

جوليا (هامسة) :

آه كم تحبني! قلها! قلها!

فرناندو كراب :

أنت تعلمين هذا جيدا.

جوليا (هامسة) :

لكنك لم تنطق بها أبدا. لم تقلها مرة واحدة! ربما ترد إلي القدرة على الحياة.

فرناندو كراب :

عندها سقطت كل الأغلال التي كانت تقيد قلبه، وتكلم لأول مرة عن حبه لجوليا، تكلم كثيرا ولم يستطيع أن يتوقف، وأخذ ينشج بالبكاء ويصرخ وينوح. أطبق على جسدها الواهن المنطفئ وضغطه على صدره، استلقى بجانبها على السرير وراح يهتف بغير انقطاع: خذي حياتي! خذي حياتي! خذي دمي! لن أتركك للموت!

جوليا (هامسة) :

إنك تبكي، ولكنني سعيدة.

فرناندو كراب :

هكذا ماتت، وبعد أيام فتح الباب ووجدوا فرناندو مع جوليا. ولا بد أنه رفع الزوجة الميتة من الفراش وحملها حتى كاد يصل إلى الباب. هناك خر معها ساقطا على الأرض، وعندئذ قطع شرايين يده. هكذا مات وهو لا يزال يضمها بين ذراعيه.

Unknown page