وكان طبيعيا أن يكون عند أبيه أغلى من الحياة. وكم كان عجيبا، أم لعله لم يكن عجيبا، أن كتب عبد الهادي لابنه ماله جميعا وإبراهيم بعد في المدرسة الابتدائية! ولم يعبأ بقول الناصحين أن يتريث ربما رزق بعد ذلك بابن آخر أو بابنة. لم يتصور أنه وقد ظل كل هذه السنوات بغير إنجاب أن ينجب بعد إبراهيم أخا أو أختا.
وكم كان عجيبا، أم لعله لم يكن عجيبا، أن قال عبد الهادي لابنه: أريد منك شيئا ولا تعارضني ... - أنا لم أعارضك في حياتي. - أعرف ذلك. - أنا لن أخرج عن أمر لك أبدا. - مهما يكن غريبا؟ - لقد أسميتني إبراهيم تيمنا بأبي الأنبياء، فاعتبرني بالنسبة إليك إسماعيل الذي امتحن الله فيه أباه وحين قال لابنه إني أرى كأني أذبحك ...
قال يا أبت افعل ما تؤمر، وأنا أقول لك يا أبت أنا فاعل ما تأمر. - تزوج. - أتزوج، أمرك نفاذ، ولكن ماذا يقول الناس عن تلميذ في المدرسة الثانوية يتزوج؟! - يقول رأى أبوه نقاءه وطهره وأراد أن يعصمه. - هل اخترت لي العروس؟ - إذا لم تخترها أنت فسأختارها أنا لك. - أحتاج إلى مهلة. - هل تطول؟ - لا، ما أظنها ستطول يا أبي. - أرأيت أني على حق؟ إذن فإن قلبك كان له نبضة بذاتها نحو فتاة بعينها. - كنت أكتم النبضة لا تذيع ... وهل كنت أتصور أنك ستأمرني بهذا الأمر؟ - وها أنا ذا أمرت، ففيم المهلة؟ - لا بد للنبضة من نبضة تقابلها، أريد أن أسمعها، فإذا سمعتها من بعيد أجبتك. - وكيف لك أن تسمعها وأنت بعيد؟ - للشباب نظرة يسمع بها، ولنا عند اللقاءات غير المدبرة ملامح نعرفها، تنبئ ولا تفصح، تقول ولا تنطق. - كنت شابا أنا أيضا. - ربما تكون قد نسيت. - هذه الخلجات لا تنسى، وتريد مهلة. - ولن تطول. - وأنا أنتظرها في لهفة. - أرجو الله يا أبي أن يجعلني لك دائما مصدر سعادة لا يشوبها شائبة. - إذن عجل. - قبل أن تشعر بالضيق سيكون جوابي عندك. - موافق يا ولدي إن شاء الله. - ببركة دعائك يا خير أب. •••
شاب هو، له خفقات الشباب وأحلامه وآماله ورؤاه، وله أيضا الصديق الذي يشعر نحوه بوشائج ألفة وتربطه به أخلاق متجانسة متقاربة، يسعد إذا جلس إليه، ولهما بينهما همس وآراء وأفكار حتى كأنهما يصدران في آرائهما عن مصدر واحد توحد معينه وتمازجت الأمواء فيه صادرة وواردة.
وقد كانت هذه هي الصداقة التي تجمع إبراهيم بعبد الواحد الزيادي ابن الشيخ مأمون الزيادي، رجل الدين الذي اختاره أبوه ليكون إمام الجامع الذي بناه، وعبد الواحد زميل إبراهيم في المدرسة منذ اليوم الأول لبدء دراستهما، وتعود الأصدقاء أن يروا الصديقين متلازمين.
ولعبد الواحد أخت تصغر أخاها بعام واحد، هي روحية، يحس إبراهيم نحوها وجيبا، وكان يعذبه عذابا يعرفه الشباب الذي يحب، والذي يعلم أن حبه لن يصل به إلى الأمل المنشود، إلا أن عذاب إبراهيم كان يزيد عن ذلك؛ فقد كان يضاعف ألمه شعوره أنه يخون صديق عمره، ونجي نفسه بهذا الحب. وكان يلوم نفسه أشد اللوم: كيف تحبين أخت صديقك، وأنت تعلمين أنه ليس إلى زواج من سبيل؟ وكيف تحتملين، أيتها النفس الخاطئة، أن يكون هناك لك سر لا تجرئين على الإفضاء به إلى عبد الواحد؟ لولا علمك أنه سر لا يقال ما حبسته عنه ولأبحته له مثل كل ما فيك من أسرار وأفكار وآراء.
ويل للناس من أنفسهم! كان كل من يرى إبراهيم يحسب أنه المثل الأعلى للسعادة، والناس لا ترى إلا ظاهر الأمور، أو هي، في الحق، لا تحب أن ترى إلا ظاهر الأمور. وليس لها شأن بخفايا النفوس وحنايا الحياة وما يستره كيان الإنسان المغلق كأنه جدران سميكة ترد العيون أن تتلصص إلى الداخل. وكان إبراهيم يزلزل بين السعادة والشقاء وهو يرى في عيون روحية تحية لعيونه التي تشع بما يكنه قلبه لها وما يدري أخير ذاك أم شر.
مسكين إبراهيم؛ فقد كانت صداقته بعبد الواحد تكاد تدمره، حتى لقد كان خليقا أن ينزع حب روحية من فؤاده لو أن للإنسان على فؤاده سيطرة أو سلطانا.
ولكن هيهات!
هذا قدري وهذا عذابي أن شاء الله أن يكون من حبي وهو طهور، وكان حريا أن يكون سعادتي، ومن صداقتي وهي أمينة صادقة.
Unknown page