Khulasat Tarikh Ciraq
خلاصة تاريخ العراق: منذ نشوئه إلى يومنا هذا
Genres
أما النقش - أي التصوير بالألوان - فإن العرب كانوا يعرفونه أيضا قبل الإسلام على ما أورده ابن الكلبي في تاريخ مكة، واصفا ما كان في الكعبة من النقوش المختلفة. وأما بعد الإسلام فقد حرم كما حرم كل تصوير وتمثيل،
4
وقد ذكر العلامة مرادجا دصون أنه كان منقوشا على أبواب جامع عبد الملك في القدس صورة النبي القرشي، وكان داخل ذلك الجامع مزينا بنقوش تمثل الجنة والنار، ولا جرم أن ناقشي تلك الصور كانوا الروم، إلا أنه اشتهر بين العرب أيضا نقاشون عديدون صوروا الأنبياء والخلفاء وكبار القواد ومشاهير الرجال والشعراء النوابغ، حتى إن معامل القلمون بجوار دمشق، ومعامل دابق بجوار حلب، ومعامل البهنسى في الصعيد الأدنى، كانت تصور تلك النقوش على الثياب التي كانت تنسج فيها، ومن جملة ما كانوا يصورونه على تلك الثياب: الحفلات، والأعياد والتصيد.
وقد نبغ في القرن العاشر للمسيح (أي القرن الرابع للهجرة) نقاشون تعقد عليهم الخناصر، من جملتهم: عبد العزير البصري، وقيصر العراقي، وأبو بكر محمد بن حسن، ومحمد بن المبارك الصوري، ومحمد، وغيرهم كثيرون. وفي ذلك العهد أيضا كان فريق من العرب يزوقون ويحلون نفائس الكتب بنقوش زاهية الألوان، لا تقل حسنا عما كان ينقشه الغربيون من الدمى ويزينون بها أسفارهم الثمينة. وقد ذكر التاريخ دار تصوير ونقش في سمرقند، أنشأها تيمورلنك نفسه، وأحسن ما كان من تلك الصور كانت من قلم عبد علي الشيعي البغدادي. ويحفظ اليوم العلماء وأهل الفن المغرمون بالنفائس الشرقية تصاوير ونقوشا عديدة، وقد وضعوا كتبا جليلة في وصفها وذكر محاسنها ومساوئها، وقد نقلوها بالتصوير الشمسي، وهذه الكتب هي أشهر من أن تذكر، وهي تباع في أسواق وديار الإفرنج، فليس أدنى شبهة في أن كثيرين من المسلمين أولعوا بالنقش والتصوير، وأبقوا لهم فيهما ذكرا لا يمحى. (7-3) الريازة
الريازة العربية - ويسميها بعضهم الريازة الإسلامية، ويسميها الأندلسيون الريازة المغربية - هي فن البناية العربية الحادثة بعد الهجرة، وقد ظهرت ميزتها في العهد العباسي ثم زادت رونقا في زمن عبد الرحمن الأموي الأندلسي في الأبنية التي رفعها في قرطبة؛ فإنه جلب من القسطنطينية رازة مهرة، وأرسل قسطنطين - قيصر الروم يومئذ - إلى الخليفة المذكور بمائة وخمسين عمودا من الرخام النادر لقصر الزهراء، والزهراء كانت حظية الخليفة، وقد لاحظ أحد علماء الفرنسويين، وهو المسيو جيرو دي برانجي، أنه كان ببلاد الأندلس ثلاثة أعصر متعاقبة: عصر يبتدئ من القرن الثامن وينتهي في القرن العاشر، ومزيته تقليد الأبنية الرومانية تقليدا حذو القذة بالقذة، وكان رازته البناءون الذين كانوا في ديار الشام ومصر والعراق الذين بقوا على حب الخلافة الأموية، فغادروا من أجلها بلاد الشرق إلى بلاد الأندلس، وكان الروح العربي قد تجلى في أصحابه كل التجلي، «وكان أعظم فرحهم - على ما قاله المسيو رينو - أن يكثروا من الأشياء التي كانت قد أثرت على أنظارهم في وطنهم الذي نشئوا فيه.» وأراد الخليفة عبد الرحمن الذي خط بيده رسم جامع قرطبة أن يكون جامعه شبيها بالجامع الذي شيده أهل بيته في دمشق الفيحاء، وأن يفوق زخرفه وبهاؤه زخرف وبهاء الجامع الذي كان يقيمه العباسيون آنئذ في بغداد دار السلام.
وقد وصف أوسابيوس القيصري في كتابه «ترجمة قسطنطين» الأبنية التي شادها هذا القيصر، وكان فيها أفنية واسعة وأروقة عالية، وشاذروانات تقذف مياهها إلى بعد شاسع، ومقاصير حسنة الهندام معدة لإيواء القسوس وخدم الدين. فلا جرم أن هذه المصانع كانت أمثلة لما بني من الجوامع في ديار الشام وفلسطين ومصر، على ما لاحظه رازة العصر النوابغ من أهل الغرب بعد أن قابلوا أبنية بأبنية، ولا سيما لأنهم يعلمون أعمار تلك الأبنية وما سبق أحدها الآخر؛ ففي الجوامع التي عمرت في تلك الأزمان تكثر الفسافس
5
البوزنطية. وفي سنة 965م كانت الزخارف اليونانية الفنية بنقوشها وأنواع زينها لا ترضي أصحاب الفن؛ لميل أنفسهم إلى ما هو أرقى منها وأوقع في النفس، فأخذوا يبحثون عن زخارف زاهية، وشرعوا يكثرون من دقائقها، فأصبح شكل العقود غزير التخاريم والمنعرجات المختلفة، كما يشاهد هذا الأمر في قرطبة في مسجد «كابلة» فلافشيوسا الذي أنشئ في خلافة الحاكم (سنة 965م)، وهذا هو العصر الثاني من عصور الريازة العربية. أما عصرها الثالث فهو الذي حدث بعد سقوط خلافة قرطبة؛ وذلك أن عرب الأندلس دانوا للمسلمين الإفريقيين، فانحط شيئا فشيئا الروح العربي، فنشأ في الصنائع والفنون الراقية مزية جديدة، سماها أحد المحدثين من أصحاب الفن - وهو العلامة جيرو دي برانجي - «الريازة الإسلامية المغربية، أو الأفريقية»؛ إذ ترى في تلك البناية قيام العقد اليوناني الثقيل الساذج بجنب عقد بيضي الشكل كثير الرشاقة أو قليلها، على ما يبدو لك ذلك في مختلف الأبنية، ويتلو التزين البوزنطي المنتظم التخريمات والتزويقات الغريبة الأشكال التي سماها العلماء «الزخارف العربية»، كما أسلفنا الكلام عنها، وأبدلت فسافس الزجاج والرخام بفسافس الكاشاني (أو الكاشي) الزاهية الألوان على أشكال صور بديعة أدخلها الفن الجديد طبقا لأوضاع هندسية متقنة كل الإتقان. ويشاهد أيضا على جدران الأبنية تزيينات من الستوق مفرغة إفراغا حسنا، وهي إذا جاورت بقية أجزاء التزويقات والتحسينات تفعل فعلا عجبا في الرائي. وزمن هذا العصر الذي هو أزهى عصور الريازة الإسلامية هو المائة الثانية عشرة، في عهد دولة الموحدين الذين كان يمتد صولجان ملكهم من بلاد الأندلس إلى القسم الشمالي الشرقي من أفريقية، وأجمل أمثلة هذه البناية ترى في إشبيلية، وكانت يومئذ حاضرة دولة الموحدين؛ فمن هذه الأبنية: «الجيرلدة»، وبقايا الجامع الذي حول كنيسة، وهي قائمة إلى يومنا هذا، وبعض جهات من القصر؛ فهذه الأبنية على اختلافها شيدت في خلافة المنصور. ومما ميز هذا العصر عن أخويه المذكورين: الكتابات، والمقام الرفيع الذي صار لها في ذلك الأوان؛ إذ اتخذت بمنزلة زينة زينت بها العمارات على اختلاف غاياتها فرارا من اتخاذ الصور عليها. إلا أن الكتابات في نظر رازة الإفرنج ليست إلا بمنزلة الأمور الثانوية لا غير.
ثم انتقلت هذه الحالة إلى حالة أخرى أرقى منها، إلا أنها كانت آخر رمق تلك الدولة، وكانت غرناطة مباءة هذا الرقي. وأغلب الأمثلة التي يشار إليها بالبنان أنشئت في «الحمراء». قال المسيو رينو الذي استشهدنا بكلامه غير مرة: «إذا كانت الأبنية هي لسان حال الأمم وينطق بأخلاقهم وعاداتهم وعمرانهم، فليس من بناء ينطق بتلك الأمور كلها مثل «الحمراء»؛ فإنك ترى فيها عنوان أمة تحب الفراغ، وتعشق اللهو، وتغرم بالأنس، وتتفرغ للملاهي على ما كانت عليها في ذلك الزمن.»
هذا؛ وخارج الأبنية الإسلامية ساذج، يكاد يكون عاريا من الزينة، وليس فيه من النوافذ إلا الشيء اليسير، وهذه النوافذ مسدودة بالمشربيات التي يسميها العراقيون المشبكات، وهي تنم عن أن من يجلس وراءها يحب التطلع على الناس بدون أن يشرف عليه أحد، وهو أمر معروف في المتحضرين من العرب، وقد اشتهر بذلك نساؤهم، خاصة لوجود دار خاصة بهن تسمى الحرم؛ ولهذا لم يكن يومئذ في غرناطة من المباني العمومية سوى المساجد والمدارس والحمامات، وفي هذه المصانع نفسها لا ترى في ظاهرها الزينة والبهرجة والزخارف، بل تراها في داخلها فقط، بخلاف ما يشاهد في الأبنية اليونانية والرومانية، فإن الزينة كانت ترى على الخارج وفي الداخل منها، ولكن العرب اعتبروا ظاهر البناء بمنزلة القشرة للثمرة، فلا اعتداد بقشرة إذا كانت الثمرة حسنة.
Unknown page