122

Khulasa Yawmiyya Wa Shudhur

خلاصة اليومية والشذور

Genres

فسردت له أسماء الأصناف التي في الدكان وأريته كل صنف منها في علبته، ولم آله تفصيلا لفوائدها وترغيبا فيها وبسطت له أسماء الإرادة المانعة، وخواصها منع الناس عن مقارفة العادات الضارة؛ من التدخين إلى المقامرة ومن الكذب إلى الوقيعة، وتختلف المقادير والأثمان باختلاف الإدمان والأزمان.

وأصناف الإرادة العاملة وخواصها إيلاء الناس عزيمة وصبرا على تذليل مصاعب الأعمال وتحقيق همامات الأنفس ، وأرخصها قضاء المرء واجبه، وأنفسها قضاؤه واجب أمته ونوعه، وهي أغلى من الإرادة المانعة؛ لأن القدرة على أداء الواجب أندر من القدرة على اجتناب المحظور، وأعلى هجرك ما تؤاخذ به فعلك ما تحمد عليه، وعددت له أسماء نفر من عظماء الرجال الذين دفعتهم قوة الإرادة ودفعت بهم أممهم إلى ذروة من الشرف تتقاصر عنها الذرى، وأطنبت في الوصف والتحسين وهو يصغي إلي بما بقي في حواسه من الانتباه؛ فأطمعني إصغاؤه في أن يكون أول تجربة ناجعة وأصدق إعلان عن الدكان، ورأيته يطرق مليا ثم قال: ولكن من يضمن لي جودة الأصناف ويكفل نقاوتها من الأخلاط والأوشاب؟

فقلت في نفسي: سبحان الله! هذا الذي يذهب كل ليلة إلى الخمار لا يسأله أيسقيه سما أم خمرا، ويغشى موائد القمار يخسر كل ليلة صحته وماله ثم ينساق إليها بغير سائق لا يريد أن يشتري قوة الإرادة إلا بضامن! ولكنني جاريته وقلت له: لا خوف عليك من هذه الجهة، فسأعطيك علبة نموذجا فجربها وسل من شئت من التجار، ولك بعد ذلك الخيار. •••

انصرف السكران بالعلبة ذلك اليوم وعاد إلي في اليوم الثاني مفيقا صاحيا فجلس بتؤدة وأدب وقال لي: لقد تعاطيت أمس علبتك ولم أعاقر ولم أقامر، ولا أدري أبفضل العلبة ذلك أم لنفاذ المال مني، وكنت إذا نفد المال مني اقترضت، فلم أقترض أمس، فلا أدري أيضا أكان ذلك قوة في الإرادة أم حياء من الرفض، وكنت لا أستحي فلا أدري والله أكان حيائي خلقا جديدا اكتسبته منذ تعاطيت قوة الإرادة أم هو لتكرار الطلب واليأس من الإجابة.

سألنا فأعطيتم وعدنا فعدتم

ومن أكثر التسآل يوما سيحرم

على أنني سألت التجار تاجرا تاجرا، فاستغربوا اسم الصنف ولونه ورائحته ومعدنه، واتفقوا على أنهم لم يسمعوا به لا في الشرق ولا في الغرب، ما عدا التاجر فلانا فقد عرفه وفحصه قليلا فرده إلي مشمئزا وهو يقول: خذ يا شيخ! فقد سئمنا هذا السخف والتدجيل! وهل فرغ الناس من سلطان الهموم فيسلطون عليهم قوة الإرادة أيضا ؟! وإذا كانت عوائق الدهر تحرمك شطرا من ملذات الحياة وأنت تحرم نفسك الشطر الباقي فأنت لا شك الذي يقال فيه: إنه عدو نفسه ... فخل عنك هذه الأضاليل ولا يغرنك ما تقرأ من العناوين وما تسمع من المواعيد، فلو كان في هذه التجارة خير لما غفل عنها الناس إلى اليوم، ولم ينسها دهاقين التجار الأزمان المتطاولة لتكون بدعة من بدع هذا الزمان المنكود.

فأسكت هذا المهذار، وندمت على التفريط في العلبة، وكان أعجب ما عجبت له كلام ذلك التاجر لعلمي بأنه ممن يميزون من أمثال هذه الأصناف ويحسون بنقص السوق فيها، ولم يكن بيننا مجاورة أو مشاركة، فخفي عني غرضه من تبغيض الناس في بضاعة ليس بيني وبينه منافسة عليها، ولكني وقفت فيما بعد على سبب ذلك، وهاك بيان ما وقفت عليه. •••

رأى فلان المذكور هذه التجارة المستحدثة فقدر لها الربح الطائل والرواج السريع، ورأى أنه ليس أيسر عليه من تقليدها، شأن الأعلاق النادرة، تزييفها كثير والغش فيها جائز؛ وذاك لأن عارفيها معدودون، ولأن جاهليها يحكمون عليها باللون والرونق وليس بالثمرة والجوهر، فقرر بينه وبين شيطانه أن يستفيد من هذه الفرصة ويختص بذلك الربح فما وني دون أن فتح له دكانا تجاه دكاني وتأنق في تزويقه وتنظيمه، وكتب عليه «هذا دكان قوة الإرادة الصحيحة، يعطيك سلطانا لا حد له على ملذات الحياة».

فتح الدكان واستأجر له دلالا سليطا يفتأ سحابة النهار يصرخ بصوت كقصف الرعود أو قرع الطبول: يا طالب الإرادة الصادقة، حي على الغنيمة قبل فواتها! يا عشاق العزيمة الماضية هلموا إلى أعظم معمل للعزيمة الماضية، هيا إلى أرخص سلعة سعرا وأسرعها فعلا وأصمدها على الطوارئ أثرا، إرادة لا تتكاءدها عقبة ولا تصدها عن غايتها طلبة، فمن اشتهى السكر فصدته عنه مرارة الراح فليشتر من هذا الدكان؛ فيستعذب تلك المرارة ويعاف عندها كل حلاوة، ومن صبا إلى الشهوات فأشفق من عقابيلها مغباتها زودناه بقوة إرادتنا فأصبح لا يحفل بالعذل والملام، ولا يبالي بالضيم والسقام، ومن تورط في القمار ثم تهيب خشية الإملاق والدمار، ومخافة الفضيحة والعار، فعندنا ما ينزع منه تلك المخافة، ويضحكه من هواجس تلك الخرافة، وعندنا لكل مريد إرادة، ولكل إرادة شهادة، فالبدار البدار! قبل غلاء الأسعار، فاليوم بدرهم وغدا بدينار.

Unknown page